الراوي غير الموثوق به
«إنه من مسز جونسون زميلة عمتي، وهي تقول إن عمتي تُوفِّيَت أول أمس».
وصمتَت برهة ثم قالت: «الجنازة غدًا، وإني لأسأل هل يمكنني أن آخذَ ذلك اليوم إجازة.»
«إني واثق أنه يمكن، أنه يمكن ترتيب ذلك يا آنسة كنتون.»
«شكرًا لك يا مستر ستيفنز. أرجو عفوك، ولكن ربما يكون بوسعي أن أكون وحدي الآن.»
«بالطبع يا آنسة كنتون.»
وخرجتُ، ولم يخطر على بالي بعد ذلك أنني لم أقدِّم تعازيَّ، بوسعي تمامًا أن أتخيَّل الصدمة التي أحدثها الخبرُ لها؛ فعمَّتُها كانت في كل الصور والمعاني بمثابة الأم لها، وتوقَّفتُ في الردهة أتساءل عمَّا إذا كان يجب أن أعود فأطرق الباب وأُصلح هفوتي، ولكن خطر لي عند ذاك أنني إذا فعلت ذلك، أكون بمنتهى البساطة، قد تعدَّيت على وقت حزنها الخصوصي، وبالفعل، لم يكن من المستحيل أن تكون الآنسة كنتون في تلك اللحظة بالذات، على بُعد خطوات مني، منخرطةً في البكاء، وأثارَت هذه الفكرة شعورًا غريبًا انبعث في داخلي وتسبَّب في بقائي واقفًا معلَّقًا في الردهة لبعض الوقت. ولكن، في نهاية الأمر، قدَّرتُ أنه من الأفضل الانتظار إلى فرصة أخرى للتعبير عن تعازيَّ، وذهبتُ لشأني.
الراوي غير الموثوق به هو دائمًا ما يكون شخصيةً مختلفة تكون جزءًا من القصة التي يرويها. والراوي «العالِم بكل شيء» غير الموثوق به، هو تعبيرٌ يكاد يكون متناقضًا، ولا يمكن أن يوجد إلَّا في النصوص المغرقة في الخروج على المألوف والتجريب، بل إن الشخصية الراوية للقصة، لا يمكن أن تكون غيرَ موثوق بها مائة في المائة؛ فلو أن كلَّ ما ترويه تلك الشخصية واضحُ الزيف، فهذا ينقل لنا ما نعرفه بالفعل، وهو أن الرواية هي موضوع من مواضيع الخيال، وحتى تنجح الرواية في إثارة اهتمامنا، لا بد أن تتضمن إمكانية للتمييز بين الحقيقي والزائف في داخل العالم الخيالي الذي تُصوره، كما هو الحال في العالم الواقعي.
والحقيقة هو أن استخدام الراوي غير الموثوق به هو بمثابة الكشف بطريقة شائقة عن الفجوة التي تفصل الأمورَ الظاهرة عن الأمور الواقعية، وإبداء كيف يشوِّه الإنسانُ الواقعَ أو حتى يُخفيَه تمامًا، حتى وإن كان ذلك لا يتمُّ عن رغبة واعية أو شريرة من جانبه، والراوي في رواية «كازو» ليس رجلًا شريرًا، ولكن حياته قامت على إخفاء الحقيقة والهرب منها، فيما يتعلق به هو نفسه وبالآخرين، وقصته هي بمثابة اعتراف، بَيْد أنها تغصُّ بالتبريرات المشوهة عن سلوكه، وادعاءات يُثيرها دفاعًا عن نفسه، وهو لا يفهم حقيقته إلَّا في النهاية، حين يكون الوقت قد فات كيما ينتفع بذلك الفهم.
وإطار القصة يتحدد في عام ١٩٥٦، والراوي هو «ستيفنز» رئيس الخدم العجوز في أحد البيوتات الإنجليزية العريقة، «دارلنجتون هول»، الذي كان يومًا مقرَّ اللورد دارلنجتون، ويمتلكه الآن أحدُ الأمريكيِّين الأثرياء. ويقوم «ستيفنز»، بتشجيع من مخدومه، بإجازة قصيرة في غربي البلاد. وكان دافعه الخاص لذلك هو الاتصال بالآنسة كنتون، التي عملَت مدبرةَ منزل في «دارلنجتون هول» إبَّان عزِّه فيما بين الحربَين العالميَّتَين، حين استضاف لورد دارلنجتون عددًا من كبار الساسة، في اجتماعات غير رسمية من أجل مناقشة الأزمة في أوروبا. ويأمل ستيفنز أن يُقنع الآنسة كنتون (وهو يُصر على مواصلة تسميتها الآنسة رغم أنها متزوجة) أن تُنهيَ تقاعدها، وتأتي لحلِّ مشكلة نقص العاملين في «دارلنجتون هول»، وهو يستعيد الماضي بينما يقوم بتلك الرحلة.
ويتحدث ستيفنز، أو هو يكتب، بأسلوبٍ رسمي جامد، محدد على نحوٍ متعمَّد، وباختصار، أسلوب رؤساء الخدم في الكلام، وإذا نظرنا إلى الأسلوب بصورة موضوعية لوجدنا أنه لا يحظى بأيِّ قيمة أدبية على الإطلاق، فهو يفتقر تمامًا إلى الذكاء والحسيَّة والأصالة، وتكمن فعاليته كوسيط فني لهذه الرواية، في إدراكنا المتزايد لعدم تناسبه مع ما يصفه، ونحن نستنتج تدريجيًّا أن اللورد دارلنجتون كان دبلوماسيًّا هاويًا، ممن كانوا يؤمنون بإرضاء هتلر، ويُعضدون الفاشية ومناهضة السامية، ولم يعترف ستيفنز أبدًا لنفسه أو للآخرين، أن الأحداث التاريخية اللاحقة قد أثبتَت خطأ مخدومه الكامل، وهو يشعر بالفخر للخدمة الناصعة التي قام بها لسيده، الذي يراه الآخرون ضعيفًا شكسًا، والهيبة المرتبطة بصورة الخادم الكامل هي نفسها التي جعلَته غيرَ قادر على التعرف على الحب الذي كانت الآنسة كنتون مستعدةً أن تُقدِّمه له، حين كانا يعملان سويًّا، أو أن يستجيبَ لذلك الحب، بَيْد أن ثَمة ذكرى معتمة، فيها الكثير من الحذف، لمعاملته لها تطفو على السطح تدريجيًّا في سياق قصته — ونرى أن الدافع الحقيقي وراء سعيه إليها مرة ثانية هو أمل باطل في إصلاح الماضي.
ويُعطي ستيفنز مرارًا صورةً طيبة عن نفسه، يكتشف القارئ أنها خاطئة أو خادعة. فبعد أن سلَّم الآنسةَ كنتون خطابًا يُنبِئُها بموتِ عمَّتها، يُدرك أنه لم يَقُم «بالفعل» بتقديم تعازيه، ويؤدي تردُّدُه فيما إذا كان يجب عليه العودة، على إلهاء القارئ عن إغفال ستيفنز البالغ القسوة التعبيرَ عن أيِّ نوع من الأسف في الحوار المذكور في الفقرة المقتبسة، والقلق الذي يشعر به على ألَّا يتطفَّلَ عليها في حزنها يبدو دلالة على شخصيته الحساسة؛ ولكن الواقع هو أنه حالما يجد فرصةً أخرى «للتعبير عن تعازيه» لا يقوم أبدًا بذلك الأمر، بل يعمد بدلًا من ذلك إلى انتقاد طريقتها في الإشراف على خادمتَين جديدتَين، ينطوي على ضغينة. وبنفس النمط، لا يجدُ أيَّ كلمة أكثرَ تعبيرًا من كلمة «غريب» لوصفِ الشعور الذي انتابه حين يجول في خاطره أن الآنسة كنتون قد تكون منخرطةً في البكاء في الجانب الآخر من الباب الذي يقف هو أمامه، ويجوز لنا أن نشعرَ بالدهشة لتفكيره ذاك، بعد أن لاحظ بارتياحٍ، تلقِّيَها الأنباءَ السيئة في هدوء، وهو يعترف في الواقع، بعد صفحات كثيرة، أنه قد ربط تلك الذكرى بالواقعة الخطأ:
إنني غيرُ واثق الآن بالمرة من الظروف الحقيقية التي دفعَتني إلى الوقوف هكذا في الردهة الخلفية. ويحدث لي في سياق آخر، حين أُحاول أن أجمعَ شتات ذكرياتي، أنني يمكن أن أكون قد أكَّدتُ أن هذه الذكرى مستمدةٌ من الدقائق التي تلَت تلقِّي الآنسة كنتون أنباءَ وفاة عمتها … ولكن الآن، بعد مزيد من التفكير، أعتقد أنني قد أكون مخطئًا نوعًا ما بالنسبة لذلك الأمر، وأن هذه الشذرة من الذكريات مستمدَّة في الواقع من أحداث وقعَت في أمسية تبعد عدة أشهر على الأقل من وفاة عمة الآنسة كنتون.
وفي الواقع، كانت أمسيةً أذلَّها فيها بأن رفض ببرودٍ عرضَ الحب الذي قدَّمَته له في خجل، وإن كان على نحوٍ واضح لا لبس فيه، وكان هذا هو «سبب» انخراطها في البكاء خلف الباب المغلق، ولكن ستيفنز كعادته، لا يربط هذه المناسبة بتلك الواقعة الخاصة الحميمة، ولكن بواقعة اجتماعات لورد دارلنجتون المهمة، ويرتبط موضوع النوايا السياسية السيئة بموضوع العقم العاطفي ارتباطًا مرهفًا في القصة الحزينة لحياة ستيفنز المضيعة.
وإنه لمن الشيِّق مقارنةُ رواية «إيشيجورو» ومقابلتها بعملٍ فذٍّ آخر يستخدم الراوي غير الموثوق به، وهي رواية فلاديمير نابوكوف «نيران ذابلة». وتلك الروايةُ تتخذ شكلًا غيرَ مألوف، هو قصيدة طويلة يكتبها شاعرٌ أمريكي من نسج الخيال يُدعى «جون شيد»، ومعها تعليقٌ مفصَّل عليها لأستاذ أوروبي مهاجر من جيران شيد يُدعَى «تشارلز كينبوت»، والقصيدة سيرة ذاتية، تركِّز على الانتحار المأسوي لابنة الشاعر. ونفهم أن شيد نفسَه كان قد قُتل لتوِّه حين وقع مخطوطُ القصيدة في يد كينبوت، وسرعان ما نُدرك أن كينبوت مجنونٌ يعتقد أنه الملك المنفي لإحدى البلدان الزراعية التي تُشبه روسيا ما قبل الثورة البلشفية، وهو قد أقنع نفسَه بأن شيد كان يكتب قصيدةً عن حياة كينبوت، وأن شيد قد قُتل عن طريق الخطأ، بواسطة قاتل أُرسل لاغتيال كينبوت نفسه، والغرض من تعليقه على القصيدة، هو إثبات تفسير كينبوت الغريب للوقائع، ومن مباهج قراءة تلك الرواية، هو تمييز درجة الهلوسة الذاتية التي سقط فيها كينبوت، بالإحالة إلى القصة «الموثوق بها» في قصيدة شيد، وتعتبر «نيران ذابلة»، مقارنةً برواية «بقايا النهار»، كوميديا ساخرة على حساب الراوي غير الموثوق به، بَيْد أن الأثر الذي تُخلفه ليس سلبيًّا تمامًا؛ فابتعاث كينبوت لمملكته الحبيبة «زمبلا» ابتعاثٌ حيٌّ وساحرٌ ولا ينمحي من الذاكرة، ولقد خلع نابوكوف بعضًا من بلاغته الذاتية على شخصية روايته، وكذلك الكثيرُ من حنينه الحاد إلى الوطن وهو في منفاه، وبالمقابل، تَعْمد رواية إيشيجورو إلى قبول أوجه القصور التي يفرضها الراوي، الذي لا يمتلك أيَّ بلاغة. فإذا كان ذلك الراوي موثوقًا به، كانت النتيجة بالطبع شيئًا مثيرًا للضجر إلى أقصى حد.