المستغرب
جلس ويلسون في شرفة فندق بدفورد وقد دفع ركبتَيه الملساوَين المتورِّدتَين على سورها الحديدي، كان يوم الأحد، وناقوس الكاتدرائية يقرع لقدَّاس الصباح، وفي الجانب المقابل لشارع بوند، في نوافذ المدرسة الثانوية، جلسَت الزنجيات الشابات مشتملات على أردية الرياضة الزرقاء الداكنة وقد انهمكنَ في عملٍ لا ينتهي لتصفيفِ شعرهن الحاد المدبَّب، ولَعِب ويلسون بشاربه الحديث النمو وهو يحلم في انتظارِ كوب منقوع الجين.
وكان في جلسته تلك يُواجه شارع بوند، وأدار وجهَه جانبًا ليرى البحر، وكان شحوبُه يدل على قِصَر المدة التي انقضَت منذ تركِه المحيطَ والوصول إلى هذه المدينة، ودل على ذلك أيضًا عدمُ اهتمامه بفتيات المدرسة المقابلة له، كان كإصبع البارومتر المتأخر، ما يزال يُشير إلى الجو الحسن بينما رفيقه قد انتقل بالفعل للإشارة إلى الجو العاصف، ومن تحته كان الكتبة السود يسيرون في اتجاه الكنيسة، ولكن منظر زوجاتهم وهنَّ يرتدينَ ثيابَ الأصيل البرَّاقة الزرقاء والحمراء لم يُثِر أيَّ اهتمام في ويلسون، كان وحده في الشرفة عدا أحد الهنود الملتحين يرتدي عمامةً فوق رأسه وقد حاول بالفعل أن يقرأ طالِعَه: ذلك أن تلك الساعة لم تكن ساعةَ البيض، الذين كانوا الآن على الشاطئ الذي يبعد خمسة أميال من هنا، ولكن ويلسون لم يكن يمتلك سيارةً وشَعر بوحدة لا يكاد يتحملها أحد. وعلى جانبَي المدرسة كانت الأسطح الصفيحية تنحدر تجاه البحر، بينما الصاج المضلع يَئزُّ ويُجلجِل كلما حطَّ عليه نسرٌ من النسور.
تسبَّبت الحركةُ الإمبريالية وما تلاها، في بدءِ موجةٍ لا مثيلَ لها من الترحال والاستكشاف والهجرة في أنحاء العالمِ كلِّه، وطالَت من بين ما طالَته الكُتَّاب ومَن سار على دربهم، وكان من بين نتائج ذلك أن الكثير من الروايات في الأعوام المائة والخمسين الأخيرة، خاصة البريطانية منها، كانت تدور في أماكن مستغربة، وأعني بكلمة «مستغرب»، الأجنبي، وإن لم يكن بالتبعية مجيدًا أو جذابًا، وقد تخصص «جراهام جرين» بالفعل في اختيار الأماكن الأجنبية غير الجذابة أو الرثَّة، إذا استخدمنا إحدى صفاته المحببة، لرواياته. ولقد قيل على سبيل الدعابة إنها كلَّها تدور في بلد من نتاج خياله هو «جرينلاند»، ورواياته والحق يُقال، تتشابه في أجوائها (فالنسور، مثلًا، تَعمُر سماواتِه أكثر من الحمائم أو حتى العصافير). بَيْد أن ذلك الاسمَ لا يَفِيه حقَّه في تصوير الصفات المحددة لبيئة رواياته.
والمستغرب في الفن القصصي، هو توصيل شيء «أجنبي»، إلى جمهور يُفترض أنه في بلاده، جوزيف كونراد، الذي يرتبط عملُه ارتباطًا وثيقًا بعصر الإمبريالية (كان مهاجرًا بولنديًّا، التحق بالبحرية التجارية البريطانية، وشاهد عن قربٍ أعمالَ الإمبراطورية البريطانية، ومنافسيها في أصقاع العالم البعيدة). قد فَهِم ذلك جيدًا.
وفي بداية قلب الظلمات، وهي دراسة كلاسيكية للآثار المرعبة للاستعمار البلجيكي للكونغو الأفريقي، على السكان الأصليِّين، وعلى الأوروبيِّين الذين قاموا به، على السواء، يضع «كونراد» إطارَ قصته بأن يجعل الراوي، «مارلو»، يحكيها لمجموعةٍ من رفاقه على السفينة الراسية في مصبِّ نهر التيمز، قال «مارلو» فجأةً: «وهذا أيضًا كان أحدَ أشد الأماكن ظلمة على الأرض». ويمضي «مارلو» فيتخيَّل كيف كانت تبدو ضفافُ التيمز في عينَي رومانيٍّ منذ ألفَي سنة — «شطآن رملية مستنقعات غابات متوحشة — دون أية أغذية مناسبة لإنسان متمدين … وهنا وهناك معسكر حربي تائه في البرية كإبرة في كومة من القش — برد، ضباب، عواصف، أمراض، منفى، موت، موت ماثل في الهواء، في المياه، في الشجيرات»، وهذا عكس للقصة الأساسية، التي يخرج فيها رجلٌ إنجليزي من أوروبا النشيطة الحديثة التقدمية، لكي يواجهَ الأخطار والحرمان في أفريقيا الحالكة، وهي تُهيِّئنا للشك الجذري الذي تبثُّه تلك الرواية القصيرة، تجاه النماذج النمطية لمعانٍ مثل «متوحش» و«متمدين» في قصة رحلة مارلو عبر نهر الكونغو.
ولقد سجل «جراهام جرين» كثيرًا من إعجابه الشديد لكونراد، واعترف بأنه اضطرَّ إلى ترك قراءة كُتُبه، خوفًا من أن يتأثر رغمًا عنه بأسلوبه، ولا أدري إذا كان العنوان «لب المسألة» (وترجمته الحرفية هي «قلب المسألة») وهي رواية مستمدَّة من الفترة التي أمضاها جراهام جرين في خدمة المخابرات البريطانية أيام الحرب في سيراليون، تحتوي على إشارة أو إيماءة أو اعتراف بالفضل لقصة كونراد الأفريقية، بَيْد أن افتتاحية جرين، مثلها مثل افتتاحية كونراد، تتصف بالبراعة الفنية في الطريقة التي تتناول بها معانيَ الوطن والخارج، وتُقابل بينهما وتُظهر ما فيها من تناقضات، وويلسون، الذي وصل حديثًا من إنجلترا، هو شخصية ثانوية، يخدم، بصفة خاصة، غرضَ تقديم القارئ إلى المشهد المستغرب، (وحالما يتم ذلك الغرض تنتقل وجهة النظر السردية إلى البطل «سكوبي»، وهو ضابط شرطة يعيش في البلد منذ مدة طويلة). ويحجم في مكرٍ عن الكشف بسرعة عن المكان الذي يوجد فيه «فريتاون». ولكنه يدَعُنا نستنبطه، ويجعل المهمةَ معقدةً بوضع الإشارات المضطربة هنا وهناك. ذلك أن فندق بدفورد والمدرسة الثانوية، وجرس الكاتدرائية الذي يُقرَع داعيًا للصلاة الصباحية، كل ذلك يبدو ملامح مدينة إنجليزية، في الفقرة الأولى، تعمل الإشارةُ إلى ركبتَي ويلسون العاريتَين (مما يعني أنه يرتدي «شورتًا») وإلى الزنجيات الصغيرات، فحسب، على الإلماح بأن المكان هو على الأرجح أفريقيا الاستوائية، وكوننا نتأخر في إدراك ذلك، يُبرهن على الدرجة التي يَعْمِد بها الاستعمار إلى فرضِ ثقافته الخاصة على الثقافة المحلية، كي يسيطرَ عليها فكريًّا من ناحية، وكيما يخففَ من حنينه إلى الوطن من ناحية أخرى. وثَمة ما يدعو إلى السخرية والرثاء في قابلية المستعمرين التعاونَ في تلك العملية، الفتيات الأفريقيات في سراويل الجمنازيوم ذات الطراز البريطاني، يحاولنَ عبثًا تمويجَ شعرهن، الكُتَّاب السود وزوجاتهم يحضرون في خشوعٍ القدَّاس الأنجليكاني. ونحن ننحو إلى اعتبار رواية «لب المسألة»، قبل كلِّ شيء، روايةً عن الاستعمار.
ومع أن المشهد يجري وصفُه من موقف ويلسون في المكان والزمان، فإن السرد لا يقدِّم وجهةَ نظرِه الذاتية، إلى أن نَصِل إلى عبارة «وشَعر بوحدة لا يكاد يتحملها أحد»، وقبل ذلك كان ويلسون نفسه أحدَ موضوعات المشهد، الذي يُروى بواسطةِ راوٍ عالمٍ بكل شيء، وإن كان لا شخصانيًّا، الذي يعرف أشياءَ لا يعرفها ويلسون، ويرى أشياء لا يلاحظها ويلسون، ويُقيم صِلاتٍ تهكميةً بين تلك الأشياء بعضها البعض، لا يقدر ويلسون وهو ينتظر كأسَ منقوع الجين ويحلم، على إدراكها.