الفصول … وما يتصل بها
الفصل الثاني
فترة نموي – كراهية أقربائي لي – إرسالي إلى المدرسة – إهمال جدِّي لي – مدرِّسي يُسيء معاملتي – المصائب تزيد من صلابتي – أدبِّر المؤامرات ضد المتنطعين – يمنعونني من الاتصال بجدِّي – وريثه يطاردني – أكسر أسنان مُربِّي الوريث.
الفصل العاشر
أليس من العار إفرادُ فصلَين لما حدث عند الهبوط درجتين فحسب من السلَّم؟ ذلك أننا لم نكن قد وصلنا إلَّا إلى أول بسطة ولا يزال أمامنا خمس عشرة درجة نهبطها وعلى حدِّ علمي فما دامت شهيةُ أبي وعمي «طوبي» مفتوحة للكلام فأمامنا عددٌ كبير من الفصول قدر كثرة درجات السلم، وما زال بوسعي أن أفعل يا سيدي هذا هو قدري، أنزل الستار يا شاندي؛ فأقوم بإنزاله، اشطب الصفحة كلها يا تريسترام؛ فأشطبها وأتوجَّه إلى فصل جديد.
لم يكن أمامي أيُّ قاعدة أخرى أسترشد بها في ذلك الأمر! وحتى إذا كان عندي واحدة — فأنا لا أتبع أية قواعد في حياتي — لكنتُ كرمشتها ومزَّقتها قطعًا ولألقيتُ بها إلى النيران بعد أن أستعملها، هل هذا يملؤني بالدفء؟ أي نعم والأمر يستحق ذلك — قصة لطيفة! فهل على الإنسان أن يتبع القواعد أم هل على القواعد أن تتبع الإنسان؟
الفصل الثامن
إننا ننحو إلى النظر إلى تقسيم الرواية إلى فصول بوصف ذلك شيئًا طبيعيًّا، كما لو أنه يماثل في حتميته انقسامَ الكلم إلى جُمَل وفقرات، ولكن الأمر ليس كذلك بالطبع؛ فروايات «دانييل ديفو»، على سبيل المثال، وهي من أوائل الأمثلة الروائية في الإنجليزي، تمضي على شكل تيارات مستمرة لا تنقطع من الكلام. وكما هو الأمر دائمًا مع ديفو، من الصعب معرفةُ إن كان ذلك مظهرًا من مظاهر افتقاره إلى التكثيف الأدبي، أم هو تقليد ماكر للرواة البسطاء من غير المحترفين، الذي يُهرقون تاريخ حياتهم على الورق دون خطة أو بناء مسبقَين، ومهما كان السبب، فإن قراءة رواياته تمثِّل تجربةً متعبة، وتُخلف انطباعًا مشوشًا عن القصة المروية (فمن الصعب، مثلًا، متابعةُ خطِّ سير «مول فلاندرز» في العديد من رحلاتها، والإحاطة علمًا بشركائها وأبنائها، ومن الصعب أيضًا العودة إلى الوراء في النص للكشف عن ذلك).
وهناك نتائج محتملة عديدة لقسمةِ نصٍّ طويل إلى وحدات أصغر، فهو يعطي القصة، والقارئ، وقتًا لالتقاط الأنفاس خلال الفواصل التي بين جزء وآخر؛ ولهذا السبب كان تقسيم الرواية إلى فصول، يُفيد المؤلف لتميُّز الانتقالات بين مختلف الأزمنة أو الأمكنة في الحدث، وقد ذكرتُ سابقًا كيف يستخدم ثاكري السطرَ الأخير في فصل من الفصول، كالسطر الذي يسبق إنزالَ الستار في المسرحية، من أجل تكثيف أثر المفاجأة والتشويق (انظر الفصل ١٥). ويفعل إ. م. فورستر شيئًا مشابهًا في الفقرة المقتبسة من رواية «هواردز إند» (انظر الفصل الثاني)، ويمكن أن يكون بدءُ فصل جديد ذا أثر تعبيري أو بلاغي، خاصة إذا كان يسبقه نصٌّ تقديمي في شكل عنوان أو اقتباس أو ملخص للمحتويات؛ فعناوين الفصول عند «صموليت» مثلًا تُشبه مقدمةَ الأفلام، فهي تُغري القارئ بوجود حدثٍ مثير، وهي «تُفشي» إلى حدٍّ ما، تطورَ أحداث القصة مسبقًا، ولكن دون إعطاء تفاصيل تكفي لقتلِ اهتمامنا بها، ولا شك أن مقدمات الفصول هذه تنقل مذاقَ قصته، سريعة ومهتزة وعنيفة.
ونستطيع القول بصفة عامة، إنه كلما حاول الروائي أن يكون واقعيًّا، قلَّت إمكانياتُه لجذب انتباه القارئ إلى هذا الجانب من جوانب التنظيم النصِّي لروايته، وبالعكس، ينحو الروائيون الواعون جيدًا بالأساليب الأدبية المختلفة، إلى استعراض معرفتهم لها، ومجرد ذكر كلمة «فصل»، يلفت الانتباهَ إلى عمليات التكوين الروائي، ولقد سبق أن رأينا كيف يستخدم «لورانس» هذا البيان لتقديم فكرة المروي له، ويجعل «تريسترام شاندي» يوبِّخ السيدة التي تقرؤه، لأنها كانت غافلةً عند قراءتها الفصل الأخير (انظر الفصل السابع عشر). والقطعة المقتبسة هنا، هي من المجلد الرابع من رواية تريسترام شاندي، وفيها يصف الراوي محادثةً بين والده وعمِّه «طوبي»، دارَت يوم مولده؛ ففي روايةٍ أكثر تقليديةً من هذه، لا يغطي مثل هذا الحوار عدةَ فصول، ولكن «ستيرن» — كعادته — يجعل من فصاحة شخصيته عذرًا يتحدَّى به قواعد التأليف العادية، ويبدأ فصلًا جديدًا لمجرد أنه يرغب في ذلك، وفي الواقع يصبح ذلك الفصل هو «الفصل الذي أفضِّله على كل الفصول، والذي وعدتُ أن أكتبه قبل أن أخلد إلى النوم»، وهو يقوم بتلخيص الأفكار العامة بخصوص ذلك الموضوع؛ «إن الفصول تُنعش الذهن، وهي تساعد الخيال أو تترك آثارها فيه، وهي — في عمل درامي مثل هذه الرواية — ضروريةٌ ضرورةَ تغيير المشاهد»، «ثم يعود إلى مهاجمة هذه الأفكار نفسها بوصفها خيالاتٍ واهمةً»، وهو يُوصي القارئ بدراسة لونجينوس، «فأنت إذا لم تزدَد حكمة بعد قراءته أول مرة فلا تيأس، بل أعد قراءته»، والفصل المخصص للفصول في «تريسترام شاندي» مثلُه مثلُ معظم الرواية، تهكُّمٌ سافرٌ وإن كان تهكُّمًا بارعًا وبنَّاءً.
والسير «والتر سكوت»، هو الذي بدأ بدعة استخدام اقتباسات كمقدمة للفصول؛ وهو نوع من التناصِّ الصريح، وكانت هذه الاقتباسات مأخوذةً عادةً من المواويل الشعرية القديمة التي كان يهتمُّ بتجميعها، وكانت الاقتباسات تخدم أغراضًا عديدة، منها ما هو خاصٌّ بالموضوع؛ فالسطور المأخوذة من «أغنية قديمة» في بداية الفصل الثامن من رواية «قلب مدلوثيان»، مثلًا، تتصل اتصالًا وثيقًا بأحد العناصر الأساسية للحبكة: ﻓ «إيفي دنيز» أخت البطلة «جاني دنيز» تُتهم بقتل الوليد الذي حملَت به، خارج نطاق الزواج، والشر المقتبس من أغنية قديمة، يَصِل ما بين محنتِها وبين التقليد القصصي المتأصل للمرأة الشابة، التي يُغويها حبيبها ثم يهجرها، والإشارة إلى «آرثر سيت» (وهو اسمُ تلٍّ يُطل على مدينة أدنبرة)، وبئر سان أنطوان، تربط بين هذه التيمة وبين مكان إقليمي معين، كان ابتعاثُه يمثل أحدَ شواغل سكوت الأساسية، وكذلك أحد المصادر الرئيسية للقبول الذي لاقاه لدى معاصريه من القرَّاء، ويقوم الأثر التراكمي الذي تخلقه تلك الاقتباساتُ من الأغاني والمواويل القديمة، بتقديم ما يُشبه وثائق التفويض التي يحملها الراوي المؤلف، بوصفه مرشدًا مطَّلعًا وموثوقًا به، بالنسبة لتاريخ اسكتلندا وثقافتها وطبوغرافيتها.
وقد كان ذلك أسلوبًا اتبعه الكثيرُ من روائيِّي القرن التاسع عشر، من بينهم جورج إليوت التي تأتي اقتباساتُها في غالبيتها، من شخصيات أدبية محترمة، وإن كانت أحيانًا ثانوية، مثل الكاتبين المسرحيِّين من العصر الإليزابيثي، بومنت وفلتشر، اللذَين تقتبس منهما سطرين قبل تقديم شخصية «دورثيا بروك» في رواية «ميدل مارش»، ويُبرز الاقتباسُ الإحباطَ الذي يُصيب أفكار «دورثيا» المثالية عن بنات جنسها، وهو يعمل كذلك على توطيد الانطباع الذي أرادت «جورج إليوت» أن تُعطيَه عن المؤلفة العليمة القارئة، التي تُضارع أيَّ رجل من الناحية الفكرية.
وحين تستشهد «جورج إليوت» بأشعار مجهولة المؤلف، فهي عادةً تكون قد كتبَتها بنفسها. وقد بلغ «رديارد كبلنج» بهذه الممارسة المتمثلة في انتحال مصادر لمقطوعات هو مؤلفها، إلى حدها الأقصى. ففي قصة «مسز باتهيرست» التي ناقشتها قبل ذلك، تصدير مقتبس من «مسرحية قديمة» كتبها كبلنج نفسه، بأخلاط من نثر القرن السابع عشر الدرامي، يصفُ موتَ خادمٍ أو مهرج في البلاط الملكي، ورغم أن التصدير صعبٌ صعوبةً جهنمية في فهمه، فهو يحتوي على مفاتيح كثيرة لمعنى القصة؛ فعبارةٌ مثل «إن من لعنته حتى الموت، لم تعرف أنها فعلت ذلك، وإلَّا لكانت قد ماتت قبل أن تفعله؛ فهي كانت تحبُّه تنفي — فيما يبدو — النظرياتِ التي تقول إن الجثة الثانية التي وُجدت إلى جوار فيكي هي جثة مسز باتهيرست» (انظر الفصل السابع).
وهناك طرقٌ مختلفة لتقسيمِ نصٍّ قصصي وتمييزِ كلِّ قسم عن غيره: «كتب» أو «أقسام» فصول مرقمة، فروع مرقمة أو غير مرقمة، ومن الواضح أن بعض المؤلفين قد أولى هذا الموضوعَ عنايةً وتفكيرًا كبيرَين، وسعى جاهدًا للوصول بالشكل إلى نسق معين؛ فرواية «هنري فلدينج» «توم جونز» مثلًا، تحتوي مائةً وثمانية وتسعين فصلًا، مقسمة إلى ثمانية عشر كتابًا؛ الستة الأولى منها تقع في الريف، والستة التالية على الطريق، والستة الأخيرة في مدينة لندن، وتؤثِّر طريقةُ نشر الروايات وتوزيعها في أي زمن من الأزمنة، في معالم وضع الفصول في الرواية؛ فمثلًا، في خلال معظم القرن التاسع عشر، كانت الروايات تنشر عادةً في ثلاثة مجلدات، كيما تتلاءمَ مع مقتضيات المكتبات المتنقلة التي كان بوسعها والحال هكذا، أن تُعِير الروايةَ الواحدة إلى ثلاثة قرَّاء في نفس الوقت، ولكن ربما كانت هذه الممارسة قد شجَّعت المؤلفين أيضًا على تصوُّر روايتهم على هيئةِ بناءٍ من ثلاثة فصول (ومن الممكن تقسيم الحدث في رواية جين أوستن «إيمَّا» بهذه الطريقة)، وقد نُشر الكثير نفسه، من روايات العصر الفيكتوري أولًا على شكل أجزاء أو سلاسل؛ إما بوصفها منشوراتٍ شعبيةً مستقلة أو في المجلات، وقد أثر ذلك أيضًا على الشكل النهائي للرواية؛ فالروايات التي كتبها «تشارلز ديكنز» كيما تُنشرَ مسلسلةً كلَّ أسبوع، مثل «أوقات عصيبة» و«آمال كبار» فصولُها أقصرُ بكثير من فصول روايات مثل «دومبي وولده» أو «منزل قفر»، اللتين نُشِرتا أصلًا في أجزاء شهرية، وكان يجب على الحلقات المنشورة في المجلات أن تفيَ بمتطلبات محددة للغاية وموحدة بالنسبة لطولها.
ويبدو هناك بُعدان لهذا الموضوع: الأول، هو توزيع وتقسيم النص، من حيث الحيز الصرف، إلى وحدات أصغر، وهذا ما يُشكل عادةً على البناء أو المعمار السردي ككل، ويؤثر بعضَ الشيء على إيقاع القراءة. والفصول تُماثل المقطوعاتِ في الشعر فيما يتعلق بإبدائها قدرًا معيَّنًا من الاتساق، والبعد الثاني، هو دلالة الألفاظ: إضافة مستويات للمعنى والتضمين والإلماح، عن طريق عناوين الفصول ومقدمتها، وغير ذلك. وحين أستعرض عملي في هذا المجال، أرى فيه تنوعًا كبيرًا، بحسب الرواية موضوع البحث، وكنت قد نسيتُ أن روايتي الأولى «رواد السينما» ليست مقسَّمة إلى فصول، إلى أن رجعتُ إليها لذلك الغرض. فهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام مرقمة، كلُّ قسم منها يختصُّ بأحداث عطلة أسبوعية، وفي كل قسم، هناك فروع لا يميِّزها عن بعضها إلَّا مسافة، أو، لزيادة التأكيد، نجمة فاصلة. وإني أفترض أن هذا الشكل قد أوحَت به طبيعةُ السرد، الذي ينتقل مرارًا من مشهد لآخر ومن شخصية لأخرى، في أماكن مختلفة في الوقت نفسه. والفواصل بين الفروع تعمل في الواقع عملَ «القطع» في السينما، وأول رواية لي تحتوي على فصول مرقمة هي «المتحف البريطاني ينهار»، وهي رواية أدبية كوميدية عن قصد، وتحتوي على كثيرٍ من المحاكاة التهكمية، وقد قدمتُ قبل كلِّ فصل اقتباسًا يبعث على التسلية «كما أتعشَّم»، من مصدر مطبوع عن قاعة المطالعة بالمتحف البريطاني، تُحاكي إجراءاتِ الأكاديمية الأدبية وتتهكم عليها. أما رواية تغيير الأمكنة، فهي تنقسم إلى أجزاء مرقمة، عناوينها «الطيران»، «الاستقرار»، «التراسل»، «القراءة»، «التغيير»، «النهاية»، ورواية «ما هي إمكانياتك» تنقسم بالمثل إلى فصول يبدأ كلٌّ منها بكلمة كيف؛ كيف كان الأمر، «كيف فقدوا براءتهم»، «كيف فقدوا خشيةَ جهنم» وهكذا، وأرى أن الأصداء اللفظية، كانت تتوخَّى تقديمَ عنصر من التناسق في مستوى دلالة الألفاظ المتصدرة للفصول، ربما للتعويض عن عدم تماثل الفصول من حيث الطول، وإني أرى أن مؤلفي الروايات يهتمون بالتناسق اهتمامًا أكبر مما يعيه القُرَّاء.