السرد الشفاهي في سن المراهقة
لم تتكلم العزيزة سالي كثيرًا إلَّا كيما تَهْرفَ بحديث عن الزوجين «لنت»؛ لأنها كانت مشغولة بإظهار سحرها وفتنتها، ثم رأت فجأة أحدهم تعرفه في الجانب الآخر من البهو، أحدهم ممن يرتدون بِذْلات من قماش الفانلة الرمادية وتحتها الصديري ذو المربعات، ينطبق عليه تمامًا طراز «جماعة أيْفي». شيء هائل! كان يقف إلى جوار الحائط، يدخن بشراهة، ويبدو عليه الزهق القاتل، وظلت العزيزة سالي تقول: «لقد قابلت ذلك الفتى في مكان ما»، كانت دائمًا قد قابلت شخصًا ما من قبل، في أي مكان تصحبها إليه، أو هي تظن ذلك، وظلَّت تُردد قولها حتى بلغ بي الضيقُ أشدَّه فقلت لها: «ولماذا لا تذهبين إليه وتُعطينه قبلة ساخنة إذا كنتِ تعرفينه؟ سيسرُّه ذلك.» وغضبت من كلماتي، ومع ذلك فقد انتبه المغفل إليها آخرَ الأمر، وتوجَّه نحونا وحيَّانا، ولا بدَّ لك أن ترى كيف حيَّا أحدهما الآخر، لا بدَّ أن تظنَّ أنه لم يرَ أحدهما الآخر منذ عشرين سنة. ولظننتَ أنهما تعودَا أن يستحمَّا في البانيو نفسه في طفولتهما، أو شيئًا من هذا القبيل، معرفة قديمة، كان الأمر مقززًا، والطريف في الموضوع أنهما ربما لم يتقابلا إلَّا مرة واحدة فحسب، في إحدى الحفلات «الفالصو»، وأخيرًا حين انتهيا من الاستعراض، قدَّمَتني سالي العزيزة إليه. كان اسمه جورج شيئًا ما — فأنا حتى لا أتذكَّر لقبَه — وكان يدرس في «أندوفر»، شيء هائل! ويجب أن ترى ما فعل حين سألَته سالي العزيزة عن رأيه في المسرحية التي نشاهدها، كان من ذلك النوع من الناس «الفالصو»، الذين يتعين عليهم أن يتبحبحوا حين يُجيبون عن سؤال يُوجَّه إليهم، فقد تراجع إلى الخلف، وداس عندها على قدم السيدة التي كانت تقف وراءه، وبدا كما لو أنه قد كسر لها كلَّ طرف في جسدها، قال إن المسرحية نفسها ليست من الروائع، ولكن الزوجين «لنت»، بالطبع كانا كالملائكة تمامًا. ملائكة؟ يا إله السماوات لقد «نقطني» ذلك، ثم طفق هو وسالي العزيزة يتحدثان عن أناس كثيرين يعرفانهم، كان أكثر حديث «فالصو» يمكن أن تسمعه في حياتك.
وبالنسبة للروائيِّين الأمريكيِّين، كان السرد الشفاهي في سنِّ المراهقة طريقةً واضحة يُحررون بها أنفسهم من التقاليد الأدبية التي وَرِثوها عن إنجلترا وأوروبا، وقد خلق «مارك توين» العملَ الذي يُعدُّ الدافعَ الحاسم في هذا الشأن، يقول همنجواي: «إن الأدب الأمريكي الحديث قد خرج كلُّه من كتاب واحد ﻟ «مارك توين» يُسمَّى، هكلبري فِن.» ولا شك أن هذه الجملة تنطوي على مبالغة، ولكنها مبالغةٌ تُنير الأذهان، وكانت «ضربة المعلم» التي قام بها توين هي أنه وحَّد ما بين الأسلوب العامي الدارج وبين قاصٍّ غِرٍّ لم ينضج بعدُ، ولدٌ في سن المراهقة هو أكثر حكمة مما يظن، وتحمل رؤياه عن عالَم الكبار جِدةً وصدقًا قاهرَين. وفيما يلي، على سبيل المثال، ردُّ فِعل «هكلبري فِن» إزاء اختلاف أنماط العقيدة المسيحية:
«وأحيانًا كانت الأرملة تنتحي بي جانبًا وتكلمني عن الحكمة الإلهية على نحو يجعل الفم يتلمظ بالريق، ولكن تجيء مس واطسون في اليوم التالي، فتمسك بالزمام وتهدم كلَّ ما بُنيَ. وقد خرجْتُ من هذا بأن هناك حكمتَين إلهيَّتَين، وأن أيَّ ولد مسكين أمامه فرصة كبيرة إذا كان مع الأرملة، ولكن إذا تولَّت مس واطسون أمورَه فقُل عليه السلام.»
وشخصية «هولدن كاوفيلد» التي ابتدعها ج. د. سالينجر، هو من السلالة الأدبية ﻟ «هكلبري فِن»، وهو قد تلقَّى قدرًا أكبر من التعليم، وأقل سذاجة، وأبواه من أثرياء نيويورك، ولكنه — مثله مثل «هك فِن» — شابٌّ يفرُّ من عالم الكبار المليء بالنفاق والفساد، وهو عالم — إذا استخدمنا إحدى كلماته المحببة — «فالصو» أي قائم على الزَّيف، وما يُفزع هولدن على وجه الخصوص، هو حرص أقرانه من الشباب على أن يقلِّدوا سلوك الكبار المعيب. وفي سياق الرواية، يصطحب هولدن صديقةً له إلى حفلة الماتينيه في مسرح ببرودواي، ليشهدَا مسرحية يقوم ببطولتها زوجٌ من الممثلين المشهورين، ألفرد ولين لنت. وفي القطعة المقتبسة، يجري تقديم «سالي العزيزة» والفتى الذي يعرفها والذي تلتقي به في بهوِ المسرح خلال الاستراحة، بوصفهما يتصرفان على نمط السلوك الاجتماعي للكبار بصورة غير طبيعية بالمرة.
وبساطة حديث «هولدن» هي ضمان عفويته وأصالته، وهذه الطريقة في الكلام تزداد بروزًا بمقابلتها بكلام جورج، حسن التركيب وإن كان منمَّقًا: «قال إن المسرحية نفسها ليست من الروائع، ولكن الزوجَين «لنت»، بالطبع كانا كالملائكة.» وقد زاد من السخرية في تلك العبارة، وجعلها تبدو مفرطة في التصنع، أنها قد سُردت بطريقة الإخبار التقريري غير المباشر، على عكس ثورة هولدن ضد سالي، حين جاء حديثُه لها مباشرًا: «ولماذا لا تذهبين إليه وتُعطينه قبلة ساخنة؟ …»
أقول إنه من السهل تمامًا وصفُ أسلوب «هولدن» في السرد، بَيْد أن الصعوبة تكمُن في تفسير الطريقة التي يجذب بها انتباهنا، ويملؤنا بالبهجة طوال الرواية، ذلك أنه لا شكَّ هناك أن الأسلوب هو ما يجعل الرواية شائقة، وحكاية الرواية تتكشف عن طريق أحداث متعاقبة، وهي لا بداية لها ولا نهاية، وتتكون من وقائع تافهة، ومع ذلك، فلغة الرواية إذا قسناها بالمعايير الأدبية العادية، جدُّ فقيرة. فسالينجر، ذلك المتحدث الداخلي الذي يخاطبنا عن طريق «هولدن»، يتعين عليه أن يقول ما يقوله عن الحياة والموت والقِيَم العليا، في نطاق الحدود التي تفرضها عليه اللغةُ الدارجة لفتى من نيويورك ذي سبعة عشر عامًا، فيتفادى استخدام الاستعارات الشاعرية والإيقاعات العرضية والكتابة الراقية من أي نوع.
ومن المؤكد أن جزءًا من الردِّ على السؤال السابق، يكمن طرحُه في الفكاهة الساخرة التي تتولد من تطبيق لغة هولدن «الهابطة» على مظاهر الحياة الاجتماعية والثقافية التي يستعرضها جورج وسالي، وثَمة مصدرٌ آخر للفكاهة في عدم سلامة لغة «هولدن» الإنجليزية؛ فأشد سطر مضحك في القطعة المقتبسة هو «وبدا كما لو أنه قد كسر لها كل طرف في جسدها.» وهو تحريف لعبارة «كل عظمة من عظام جسدها»، وتكمن فيه مبالغة أخرى، وسبب ثالث هو أن لغة «هولدن» تدل ضمنًا على أكثر مما تقول؛ ففي هذه القطعة مثلًا، من الواضح أن هناك شيئًا من الغيرة التي لا يعترف هولدن بها تجاه غريمه جورج، رغم كلِّ ما يتظاهر به هولدن، من احتقار لملابسه التي تُضفي عليه مكانة، وسلوكه الدمث، والرثاء الذي يُثيره موقف هولدن كاوفيلد في كل الرواية، يزداد فاعليةً عن طريق عدم التصريح به في الكلام، ومع ذلك، فنحن نلمس في نهاية الأمر شيئًا شاعريًّا في هذا النثر، ومعالجة ماهرة لإيقاعات الكلام الدارج، مما يجعل من قراءة الرواية وإعادة قراءتها متعة مسلِّية، أو كما يقول عازفو موسيقى الجاز، إنه يجعلها ترقص!