المدة الزمنية
أهدى هيوبرت تشارلز وإيرين طفلًا جميلًا بمناسبة الكريسماس، كان ولدًا اسمه بول، وابتهج تشارلز وإيرين، اللذان لم يُنجبا طيلة سنوات كثيرة، ووقفَا حول المهد وتطلَّعا إلى بول، لم يكونا يشبعان منه. كان طفلًا وسيمًا ذا شعر أسود وعينَين سوداوين، وسأل تشارلز وإيرين من أين جئت به يا هيوبرت؟ وقال هيوبرت من البنك … كان ردًّا ملغزًا، وشعر تشارلز وإيرين بالحيرة منه. وشرب الجميع نبيذًا ساخنًا متبَّلًا. ونظر بول إليهم من المهد. وكان هيوبرت مسرورًا أن جلب السعادة لتشارلز وإيرين.
ووُلِد إريك. وأقام هيوبرت وإيرين علاقة غير مشروعة بينهما. وشعرا أنه من المهم ألَّا يدريَ تشارلز بها، ولذلك الغرض، ابتاعَا سريرًا وضعاه في منزل آخر، منزل على مبعدة من المنزل الذي يقيم فيه تشارلز وإيرين وبول، وكان السرير الجديد صغيرًا ولكنه مريح تمامًا، وتطلَّع بول إلى هيوبرت وإيرين متأملًا، واستمرت العلاقة اثني عشر عامًا وكانت تعتبر ناجحة جدًّا.
وراقب تشارلز هيلدا وهي تنمو من نافذته. في البداية، كانت طفلة، ثم بلغَت عامها الرابع، ثم مرَّت اثنتا عشرة سنة وبلغَت سنَّ بول، السادسة عشرة. وطاف ببال تشارلز، يا لَها من فتاة شابة جميلة! ووافق بول تشارلز؛ فهو قد عضَّ بالفعل نهدَي هيلدا الجميلين بأسنانه.
ناقشتُ في الفصل «السادس عشر» الترتيبَ الزمني وإمكانية إعادة ترتيبه في القصة، وجانبًا آخر من الزمن القصصي، هو المدة الزمنية التي يجري قياسُها عن طريق المقارنة بين الزمن الذي يمكن أن تستغرقَه الأحداث في الواقع، بالوقت الذي تتطلَّبه قراءةُ هذه الأحداث، وهذا العامل يؤثر في سرعة إيقاع الرد، الإحساس الذي يتولد فينا بأن الرواية سريعة الحركة أو بطيئتها؛ فرواية المغامرات تتحرك بسرعة من أزمة إلى أخرى، على الرغم من أنه يمكن إطالة تقديم المواقف الحرجة، إطالة اصطناعية لزيادة التشويق، أما رواية تيار الوعي، فهي تتمهَّل عند كل لحظة، مهما كانت عادية. ورواية مثل «مدل مارش» لجورج إليوت، تبدو وكأنها مقاربة لإيقاع الحياة نفسها، نظرًا لأن معظمها يتكون من مشاهد طويلة، تتكلم فيها الشخصيات وتتفاعل كما تفعل تمامًا في الحياة الواقعية؛ وبالنسبة للقرَّاء الأوائل لتلك الرواية، التي كانوا يشترونها على دفعات نصف شهرية طوال عام كامل، يُصبح التماثل في سرعة الإيقاع بين الحياة والفن أقرب كثيرًا، وأحد المعالم المحيرة في قصة «دونالد بارتلم»، هو أنها تمسُّ — سريعًا — سطح العلاقات العاطفية والجنسية، التي تعوَّدنا على أن نرى القصص تتناولها بتبصُّر وتفصيل كبيرَين.
وكان بارتلم، الذي تُوفِّي في عام (١٩٨٩)، أحدَ أعلام قصص ما بعد الحداثة الأمريكي الرئيسيِّين، الذي عملَت قصصُه القصيرة باستمرار على اختبار حدود الشكل القصصي، وليست المدَّة الزمنية وحدها، بالطبع، هي التي تم تناولها بشكل غير تقليدي نوعًا ما في أول هذه القصة؛ ذلك أن السببية والاستمرارية والتلاحم والثبات في وجهة النظر، وهي كلُّها من الصفات التي تجمع مكوناتِ القصة الواقعية، في شكل خطاب سلس يسهل استيعابه، قد تم الاستغناء عنها أو تشويهها، ولا مجال هنا لأيِّ دوافع من النوع الذي ضربنا المثل عليه في قطعة «مدل مارش» التي ناقشناها في الفصل السابق؛ فبارتلم يقول ضمنًا إن الناس لا تتصرف بوحيٍ من دوافع عقلانية، بل استجابة لنزوة ونزعات عابرة ولا واعية، وأن الحياة، في عبارة موجزة، «لا معقولة». وفي هذه القصة، يُورِد المؤلف سلوكًا غريبًا بل مفزعًا، في أسلوب واقعي ساذج سذاجة زائفة، يُشبه بعضَ الشيء أسلوبَ كتب قراءة المرحلة الأولية، مواضيع إنشاء الأطفال (وهو أثرٌ يتولَّد من الجُمل التصريحية البسيطة، وعدم وجود توابع للجمل، وتكرار الكلمات قريبة من بعضها البعض، وحذف علامات التنصيص). ولا تكاد الشخصيات تتحدد بأكثر من اسمها الأول وبيان العلاقة بينها كما يحدث في كتب الأطفال، وأحيانًا يكونون على قدر الأطفال نفسه من الذكاء.
والفقرة الأولى تمثِّل من الناحية التكنيكية «مشهدًا»؛ بَيْد أن طريقةَ سرده تجعل منه مشهدًا غايةً في الاقتضاب، ولا تبدو فكرةُ تلقِّي طفلٍ كهدية الكريسماس خارجةً عن المألوف بالنسبة للمتلقِّين، وبيان المعطي أنه قد حصل عليه «من البنك»، يبدو محيرًا فحسب لهما، وهما يأخذان في شرب النبيذ الساخن المتبَّل، دون أن يفكِّرَا مزيدًا في الأمر.
وفي الفقرة التالية التي هي سطر واحد، يذكر بإيجاز أن إريك قد وُلِد، ونحن لا نعرف لمن أو متى كان ذلك بالمقارنة لوصول بول.
وتصف الفقرة الثالثة علاقة بين هيوبرت وإيرين، وهناك معلوماتٌ كثيرة عن سرير العاشقين، أكثر بالفعل مما نحتاج، ولكن لا يذكر إلَّا القليل عن عواطفهما، وما يدور بينهما من جنس، ووسائلهما لخداع تشارلز، وكل ما هنالك من تفاصيل أخرى، نتوقَّع وجودها في قصة للخيانة الزوجية، ونحن لا نعرف ما إذا كانت هدية هيوبرت، الطفل بول، قد سبقَت اهتمامه الغرامي بإيرين أم أن ذلك جاء بعدها، ونحن نستنتج أنها أخذَت الطفل معها إلى مقابلاتها الغرامية مع هيوبرت، لأن بول «تطلع إلى هيوبرت وإيرين متأملًا»، ثم نعلم أن العلاقة «استمرت اثنَي عشر عامًا، وكانت تعتبر ناجحة جدًّا» — وهو حكمٌ عادةً ما يُقال عن زواج وليس عن علاقة غرامية، وتتابع جملة تصف لحظة زمنية معينة، تأتي بعدها مباشرة جملةٌ تُلخص تجربة اثني عشر عامًا، هو شيء مربكٌ تمامًا.
ويتم تقديم شخصية أخرى «هيلدا» في فقرة من كلمة واحدة. ومن الفقرة التي تتلوها نستنتج أنها طفلة تعيش في منزل مجاور لمنزل تشارلز وإيرين، ويُلخَّص نموها من الطفولة إلى سن المراهقة في جملة واحدة في صراحة غريبة، وإذا كان الكبار يتصرَّفون كالأطفال، فالأطفال يبدون مبكري النضج بطريقة مزعجة: فبينما يسجل تشارلز بتفاهة أن هيلدا فتاة جميلة، يكون بول «قد عضَّ بالفعل نهدَي هيلدا الجميلين بأسنانه»، وقد غطَّينا في حوالي عشرين سطرًا ما يكفي من الأحداث لملء رواية بحالها على يد كاتب آخر، وهذا النوع من الكتابة يعتمد في الواقع، على معرفة القارئ بالخطاب القصصي الأكثر تقليدية وواقعية، كي يُخلَّف فيه الأثر المطلوب، فلا يمكن تمييزُ أيِّ انحراف إلَّا بالقياس إلى النمط.