الميتاقصة (القصة عن القصة)
مُحْدَودبون، نساء سمينات، حمقى — كان من الصعب احتمالُ ألَّا يستطيعَ المرء أن يختار ما يكون عليه، في الأفلام، كان يمكنه أن يتعرف على فتاة جميلة في مدينة الملاهي، ويهربان من أخطار حقيقية بفارق ثانية واحدة، وكان قال وفعل ما يجب قولُه وفعلُه، وهي أيضًا في النهاية يُصبحان عاشقَين؛ وما سيتبادلانه من حديث سيُصبح حوارًا مثاليًّا؛ كان على راحته تمامًا، فهي لم تكن تحبُّه فحسب، بل كانت تُؤمن أنه رائع؛ وهي تبقى ساهرةً على سريرها تفكر فيه، بدلًا من العكس — تفكر في الطريقة التي يتغيَّر بها وجهُه حسب ما يسمح به النور الواقع عليه، وكيف كان يقف وماذا قال بالضبط — ومع ذلك فكلُّ هذا لن يُشكِّل إلَّا حدثًا واحدًا في حياته الرائعة من بين أحداث أخرى، ليست «نقطة تحول» على الإطلاق، ما حدث في سقيفة الأدوات ليس بشيء. إنه يكره أبوَيه، بل يزدريهما! وأحد أسباب عدم كتابة قصة عن المفقود في مدينة الملاهي هو أنه إما أن الجميعَ يشعرون بنفس ما يشعر به أمبروز، وفي هذه الحالة لا يستحق الأمر الكتابة عنه، أو أن الشخص الطبيعي لا يشعر بمثل هذا الشعور، وفي هذه الحالة يكون أمبروز شخصًا غيرَ طبيعي «هل هناك شيء أكثر إرهاقًا، في القصص، من مشاكل مراهق حساس؟» وكل شيء طويل جدًّا ويتشتَّت في كلِّ الأنحاء، كأنما هو المؤلف، فكما يعرف المرء منذ القراءة الأولى، يمكن للنهاية أن تكون على مرمى حجر، وربما «لم يكن مستحيلًا» أن تكون قريبة مرات عديدة، ومن ناحية أخرى، من الجائز أنه لم يكن قد تعدَّى مجرد البداية، وما زال أمامه كلُّ شيء، وهو ما كان فكرة يصعب احتمالها.
الميتاقصة هي قصة عن القصة: روايات وقصص تلفتُ الانتباهَ إلى وضْعها الخيالي وإلى وقائع تأليفها، والنموذج الأعلى لكل الروايات الميتاقصصية، هو كتاب «تريسترام شاندي»، الذي تمثِّل فيه الحواراتُ التي يُجريها الراوي مع قرَّائه المتخيلين، واحدة من الطرق العديدة التي يُبرِز فيها المؤلف لورانس ستيرن، الهُوَّةَ التي تفصل الفنَّ عن الحياة، تلك الهُوَّة التي تسعى الواقعيةُ التقليدية إلى إخفائها. فالميتاقصة إذن، ليست اختراعًا حديثًا، بل هي أسلوب يجده الكثيرُ من الكتَّاب المعاصرين جذابًا بصفة خاصة، وهم الذين يثقل عليهم إحساسهم بمَن سبقهم من الأدباء، ويجثم عليهم الخوف من أن يكون أيُّ شيء يقولونه قد قيل من قبل، وتحكم عليهم أجواءُ الثقافة الحديثة بالقلق وعدم الراحة.
ويظهر خطاب الميتاقصة أكثر ما يظهر في أعمال الروائيِّين الإنجليز، في صورة «تعليقات جانبية» في روايات تركِّز أساسًا على المهمة الروائية التقليدية لوصف الشخصية والحدث، وتلك القطع الجانبية تسلِّم بزيف تقاليد الواقعية، حتى وهي تستخدم تلك التقاليد ذاتها؛ وهي تُجرد المنتقدين من سلاحهم باستباق الانتقاد؛ وهي تتملَّق القارئ بمعاملته كنظير على المستوى الفكري، وله من الدراية والخبرة، ما لا يجعله يتهيَّب الاعتراف بأن العمل القصصي بناءٌ لفظي، أكثر منه شريحة من الحياة. وفيما يلي، مثلًا، بداية الفصل الثالث من رواية مارجريت درابل «ممالك الذهب»، بعد وصفٍ طويل، واقعي ودقيق، لحفل عشاء في الضواحي تُقيمه إحدى بطلتَيها الأكثر شعورًا بالكبت:
ويكفي هذا الآن بالنسبة لجانيت بيرد. ويمكنك أن تقول بحق:
إن ذلك أكثر من الكفاية، فحياتها بطيئة، أكثر بطئًا من الطريق التي أصفها بها، وحفلتها بدَت لها أطول مما يجب، كما بدَت لك تمامًا، أما حياة «فرانسس ونجيت» فهي تتحرك بسرعة أكبر (رغم أنها بدأَت بطيئةً نوعًا ما، في هذه الصفحات، خطأ تكتيكي، ربما، وقد خطرَت لي مرارًا فكرةُ تصويرها في القصة أكثر انطلاقًا وجنونًا، بَيْد أن الأسباب التي تقف ضد مثل تلك البداية كانت في النهاية أقوى من الأسباب التي تُحبذها).
على الرغم من أن رواية مارجريت درابل، تختلف كليةً في نغمتها وموضوعها عن رواية تريسترام شاندي؛ فنحن نجد هنا أصداء منها في الخطاب الاعتذاري الكوميدي إلى القارئ، وإبراز مشاكل البناء القصصي، خاصة فيما يتعلق بموضوع «المدة الزمنية» (انظر الفصل الحادي والأربعين)، بَيْد أن هذه الاعترافات، لا تحدث بالكثرة التي تُشيع بها الاضطراب في مشروع الرواية بصورة جوهرية، وهو دراسة وضع المرأة المتعلمة في المجتمع الحديث، في قصة خيالية تكون تفصيلية ومقنعة ومرضية حسب النسق التقليدي.
وبالنسبة لعدد من الكتَّاب الحديثين الآخرين، ومعظمهم غير بريطانيِّين — ويخطر على البال الأرجنتيني بورخيس، والإيطالي كالفينو، والأمريكي جون بارث، رغم أن جون فاولز ينتمي أيضًا لهذه المجموعة، لا يمثِّل الخطاب الميتاقصصي مجالًا للهرب أو التخفِّي يمكن عن طريقه للكاتب أن يفرَّ من قيود الواقعية التقليدية؛ بل بالأحرى مجالًا أساسيًّا للتفكير ومصدرًا للإلهام. وقد كتب جون بارث ذات مرة مقالًا مهمًّا عنوانه «أدب الاستنزاف»، أشار إلى الميتاقصة، دون أن يذكر الكلمة بالفعل، بوصفها الوسيلة التي يقوم الفنان عن طريقها «بتحويل ما يعتبره الحقائق الأسمى لعصرنا إلى مادة وأساليب لعمله» وهناك بالطبع أصواتٌ منشقَّة على ذلك الاتجاه، مثل توم وولف (انظر الفصل السابق)، الذي يرى أن تلك الكتابة علامة على ثقافة أدبية نرجسية متدهورة. «قصة أخرى عن كاتب يكتب قصة! انتكاس آخر بلا حدود! مَن ذا الذي لا يفضِّل الفنَّ الذي يقلد على الأقل شيئًا غير عمليته ذاتها؟» بَيْد أن تلك الشكوى جاءت من لدن بارث نفسه في قصة «قصة حياة»، إحدى قِطَع مجموعته «ضائع في مدينة الملاهي». وكُتَّاب الميتاقصة لديهم عادةً خفيَّة تتمثل في إدراج النقد المحتمل في نصوصهم ويعملون بذلك على تحويله إلى خيال قصصي، وهم يحبُّون أيضًا أن يقوِّضوا مصداقيةَ القصص الأكثر تقليدية، عن طريق المحاكاة التهكمية.
والقصة التي أعطَت عنوان «ضائع في مدينة الملاهي» تُصوِّر محاولةَ بارث كتابةَ قصة عن أسرة تزور مدينة «أتلانتك سيتي» في الأربعينيات، والشخصية الرئيسية فيها هو المراهق أمبروز، الذي يُرافق أبوَيه وأخاه بيتر وعمَّه كارل، وماجدة، رفيقة طفولته التي وصلَت الآن إلى سنِّ المراهقة مثله، وأصبحت بذلك موضعَ اهتمام جنسي. (ويتذكر أمبروز بحنين لعبةً كانا يلعبانها قبل البلوغ هي لعبة السادة والعبيد، قادَته خلالها ماجدة إلى سقيفة الأدوات ثم «اشترت منه العفو مقابل ثمن مثير للدهشة حدَّدَته هي بنفسها»)، وهي بصفة أساسية قصة عن حنين المراهقين إلى الحرية وتحقيق الذات، حاشية «مستنزفة» للتقليد العظيم لرواية السيرة الذاتية عن الصبي الذي سينمو ليُصبح كاتبًا، مثل رواية «صورة الفنان في شبابه» ورواية «أبناء وعشاق». وتعمل القصة على الوصول إلى ذروتها في البيت السحري في مدينة الملاهي، حيث يتوه أمبروز فيه، في ظروف ونتائج لا يستطيع المؤلف أن يحسمها أبدًا.
وفي القطعة المقتبسة هنا، يُوضع السرد القصصي التقليدي موضعَ الشك على نحوٍ بارع مرتين؛ فأولًا، يتم تقديمُ حنين أمبروز الرومانسي عن طريق محاكاة تهكمية لفانتازيات هوليوود في تحقيق الأحلام: «في الأفلام، وكان يمكنه أن يتعرف على فتاة جميلة في مدينة الملاهي، ويهربان من أخطار حقيقية بفارق ثانية واحدة، كان قال وفعل ما يجب قوله وفِعله؛ وهي أيضًا؛ وفي النهاية يُصبحان عاشقَين؛ وما سيتبادلانه من حديث سيُصبح حوارًا مثاليًّا». ومن الواضح أن هذا فنٌّ رديء، في حين يبدو تصويرُ وجودِ أمبروز الواقعي بشعوره بالغربة والقيود والإحباط، تصويرًا أصيلًا حقيقيًّا يقف على طرفَي نقيض من التصوير السابق. ولكن، بعد كلِّ ذلك، يتزعزع ذلك التصويرُ بحركة ميتاقصصية أصيلة، ما دعاه «إرفنج جوفمان» «تحطيم الإطار»، وهو أثر تُصوره أيضًا المقطوعة المقتبسة من رواية «مارجريت درابل»؛ إذ يتدخل صوتُ المؤلف فجأةً ليُعلِّق قائلًا إن وضع أمبروز هو إمَّا مألوف جدًّا أو منحرف جدًّا إلى حدٍّ لا يستحق معه وصفه، وهو ما يعادل أن يلتفت ممثلٌ في أحد الأفلام إلى الكاميرا فجأةً ويقول: «إن هذا سيناريو رديء»، وعلى مثال ما يحدث في رواية «تريسترام شاندي»، يُسمع صوت ناقد يتصيَّد الأخطاء، يهاجم العمل كلَّه قائلًا: «هل هناك شيء أكثر إرهاقًا، في القصص، من مشاكل مراهق حساس؟» فالمؤلف يبدو وكأنه يفقد إيمانه فجأةً بقصته ذاتها، ولا يستطيع حتى أن يستجمعَ طاقته ليُنهيَ الجملة التي يعترف بأنها أطول من اللازم ومُشتَّتة في كل الأنحاء.
وبالطبع، كثيرًا ما يفقد الكتَّاب إيمانَهم بما يكتبون، ولكنهم عادةً لا يعترفون بذلك في النص؛ إذ إن القيام بذلك هو تسليم بالفشل، ولكنه ينطوي أيضًا على بيان بأن هذا الفشل هو أكثر أهمية وأكثر صدقًا من «النجاح» التقليدي؛ فكورت فونجيت، يبدأ روايته «المذبح رقم خمسة»، وهي رواية بارزة من الروايات التي تبيِّن الآثارَ الباهرة لعملية تحطيم الإطار، وكذلك لاستخدامها المبتكر للانتقال الزمني (انظر الفصل السادس عشر)، باعتراف: «لكَم أكره أن أُخبرَك كم كلَّفني هذا الكتابُ اللعين من نقود وقلق ووقت». وهو يَصِف في الفصل الأول صعوبةَ الكتابة عن حدث مثل تدمير درسدن، ويقول، مخاطبًا الرجل الذي أمر بذلك التدمير، «إن الأمر قصير ومتشابك ومضطرب يا سام، لأنه ليس هناك من شيء ذكي يُقال عن مذبحة»؛ ذلك أن العودة إلى تذكُّر التجربة الشخصية التي بُنيت عليها، كانت من الفظاعة والألم إلى درجة أن فوينجت كان يُقارنها بمصير زوجة لوط في العهد القديم، التي غلبَت عليها طبيعتُها البشرية، فالتفتَت إلى الوراء عند تدمير سدوم وعمُّورة، فعُوقبَت بأن تحوَّلَت إلى عمود من الملح:
«لقد أنهيتُ كتابي عن الحرب الآن. وكتابي القادم سيكون فكاهيًّا.
هذا الكتاب فاشل، وكان لا بد أن يكون فاشلًا؛ فقد كتبَه عمود من الملح».
وفي الواقع، بدلًا من أن تكون رواية «المذبح رقم خمسة» فاشلة، فهي رائعة فوينجت، وإحدى الروايات الخالدات في الإنجليزية في فترة ما بعد الحرب.