غير المألوف
كان الصراع قصيرًا، كنت محمومًا تنتابني كلُّ أنواع الهياج الضاري، وشعرتُ بأن ذراعًا واحدةً مني فيها من الحيوية والقوة ما لدى الجمهور الغفير، وما هي إلَّا عدَّة ثوانٍ حتى دفعتُه بمحض قوتي إلى الجدار، وبهذا وضعتُه تحت رحمتي، فدفعتُ سيفي بضراوةٍ وحشية مراتٍ ومرات في صدره.
وفي تلك اللحظة، كان أحدهم يحاول فتحَ الباب، فاندفعتُ على وجه السرعة لأمنع أيَّ أحد من الدخول، ثم عدتُ من فوري إلى عدوي المحتضَر. ولكن، أي لغة إنسانية يمكن أن تُصور تصويرًا مناسبًا تلك الدهشة، ذلك الرعب الذي تملَّكني إزاء المشهد الذي كنت أراه؟ لقد كانت اللحظة الخاطفة التي أشَحْتُ بها عيني كافية لأن تُحدث، على ما يبدو، تغييرًا ماديًّا في الأوضاع السائدة في الطرف الأقصى من الحجرة؛ ذلك أن ثَمة مرآة كبيرة — فذلك ما بدا لي أولًا في غمرة اضطرابي — كانت منصوبةً هناك حيث لم تكن قبل ذلك؛ وحين اتجهَت إليها في غاية من الرعب، تقدَّمَت لملاقاتي صورتي أنا، ولكن بملامح شاحبة ومغطَّاة بالدماء، وهي تترنَّح وتتمايل.
أقول، هذا ما كان يبدو، ولكنه ليس صحيحًا. كان ذلك عدوي، كان «ويلسون»، الذي وقف آنذاك أمامي في غمرة آلامه، وكان قناعُه ووشاحه هناك حيث ألقى بهما، على الأرض، ولم يكن هناك خيطٌ واحد من ملابسه، ولا خطٌّ واحدٌ من سيماء وجهه الملحوظ المتفرد، حتى في أوصافه الذاتية المطلقة، يختلف عن ملابسي وعن سماتي.
اقترح الناقد البنيوي الفرنسي (ذو الأصل البلغاري) تسفيتان تودوروف، تقسيمَ القصص ذات المواضيع الخارقة للطبيعة إلى ثلاث فئات: المذهل؛ حيث لا يمكن تفسير الظاهرة الخارقة للطبيعة تفسيرًا عقلانيًّا؛ وغير المألوف، حيث في الإمكان تفسيرها؛ والغريب، حيث تتردد القصة دون حسم، بين تفسير طبيعي وآخر خارق للطبيعة.
ويمكن أن نجدَ مثالَ القصة الغريبة بذلك المعنى، في رواية الأشباح الشهيرة «دورة اللولب» لهنري جيمس. وهي تحكي عن شابة تُعيَّن مربِّية لطفلَين يتيمَين في منزل ريفي منعزل، وترى شبحَين يُشبهان فيما يبدو، مربية سابقة للطفلين والخادم الشرير الذي أغواها، وهما الآن ميِّتان، وهي مقتنعة أن تلكما الروحَين الشريرَين، يؤثِّران في الطفلَين اللذين ترعاهما، فتسعى إلى تخليصهما منهما. وفي ذروة القصة، تُصارع المربية شبحَ الرجل للاستحواذ على روح «مايلز»، ويموت الصبي: «لقد توقَّف قلبُه الصغير غير الممسوس»، ويمكن قراءة القصة (التي تَسْردها المربية)، وقد جرى ذلك بالفعل، بطريقتَين مختلفتَين، تتمشيان مع وصفي تودوروف «المذهل» و«غير المألوف»؛ فإما أن يكون الشبحان «حقيقيَّين»، والمربية تُباشر صراعًا بطوليًّا ضد شرٍّ خارق للطبيعة، أو أنهما إسقاط لاضطراباتها العصبية وإحباطاتها الجنسية، تُخيف بهما الصبي الصغير الذي تُشرف عليه، حتى تدفعَ به إلى الموت. وقد حاول النقَّاد عبثًا إثباتَ صحة أحد هذين التفسيرين. وأهم صفة في تلك القصة هي أنَّ أيَّ شيء فيها قابلٌ لأحد التفسيرين، وبهذا يجعلها مستغلقة أمام القرَّاء المستريبين.
ويُتمُّ ويلسون دراستَه الثانوية ويلتحق بكلية إيتون، ثم بجامعة أكسفورد، وينغمس أكثرَ فأكثر في فساده الأخلاقي، وكلما ارتكب عملًا شائنًا بصورة خاصة، يخرج له دائمًا رجلٌ يرتدي ملابسه ويغطِّي وجهه، ويهمس باسم «وليام ويلسون» نبرة لا تُخطئها أُذُن، ويفرُّ ويلسون إلى خارج البلاد، بعد أن يكشف قرينُه قيامَه بالغش في لعب الورق، ولكن القرين يتبعه أينما ذهب. «ومرة وراء أخرى، أتواصل سرًّا مع روحي فأسألها: مَن هو؟ من أين أتى؟ وما غرضه؟» وكان ويلسون في فينيسيا على وشك الذهاب إلى موعد غرامي مع سيدة متزوجة، حين شعر «بيدٍ خفيفة تلمس كتفَه، وسَمِع في أُذُنه ذلك الهمس اللعين الخفيض الذي يعرفه تمامَ المعرفة».
وتثور ثائرةُ ويلسون فيهاجم مَن يعذِّبه بسيفه.
ومن الواضح أنه يمكن تفسير القرين بأنه من هلوسات ويلسون، وأنه يجسِّد ضميرَه أو الجانب الحسن فيه، وهناك إشارات عديدة في النص تشجِّع ذلك التفسير؛ فمثلًا، يقول ويلسون، إن قرينه التلميذ في المدرسة يتمتع «بحسٍّ أخلاقي … أشد رهافةً من حسِّه هو»؛ وليس من أحد سوى ويلسون يُدرك مدى التشابه الجسماني بينه وبين قرينه، بَيْد أن القصة لم تكن لتحوزَ قوتها الاستحواذية والإلماحية، لو لم تخلع على هذه الظاهرة غير المألوفة، جوانبَ محددة تبعث على التصديق، وذروة القصة بالذات تدل على براعة فنية في إشارتها المبهمة للمرآة. ففي وسعنا، من ناحية عقلانية، أن نفترضَ أن ويلسون، في هذيان الذنب وكراهية النفس، قد خلط بين صورته في المرآة وبين قرينه، فهاجم الصورة وبترَ أعضاء جسده بذلك، ولكن، من وجهة نظر ويلسون، يبدو أن ما حدث هو عكس هذا، وأن ما ظنه في البداية صورته في المرآة، يصبح شخصية قرينه الذي يُحتضَر وتنزف الدماء منه.
وتستخدم حكايات غير المألوف الكلاسيكية الراوي بصيغة «أنا»، وتُقلد خطاب الأشكال الوثائقية، كالاعترافات والرسائل والشهادات القضائية، كيما تخلعَ على الأحداث مصداقيةً أكبر (قارن رواية ماري شللي «فرانكنشتاين» ورواية روبرت لويس ستيفنسون «دكتور جيكل ومستر هايد»). ويعمد الراوي إلى الكتابة بأسلوب «أدبي» تقليدي يمكن أن يبدوَ، في سياق آخر، مكتظًّا بالكليشيهات على نحوٍ مزعج: ومثال ذلك عبارات «الهياج الضاري» و«ما لدى الجمهور الغفير» و«بمحض قوتي» و«بضراوة وحشية»، وكلُّها في الفقرة الأولى من القطعة المقتبسة. وكل تقاليد روايات «الرعب القوطي» الذي ينتمي إليها إدجار آلان بو، والتي أضاف إليها زخمًا قويًّا بأعماله، مليئة بالكتابات السيئة-الحسنة من هذا النوع. وتضمن البلاغة المتوقعة، وافتقارها للأصالة، صدق الراوي، وتجعل تجربتَه غير المألوفة أكثرَ مدعاة للتصديق.