البناء السردي
وصفعتُ ابني الصغير. كان غضبي قويًّا كالعدالة، ثم اكتشفتُ أنني لا أشعر بأن شيئًا في يدي؛ قلت: «اسمع، أريد أن أشرحَ لك التعقيدات التي ينطوي عليها هذا الأمر». تكلمتُ بكل جديَّة وحذر، كما يفعل عادة الآباء، وسأل حين انتهيتُ من كلامي إذا كنت أريد أن يغفرَ لي. قلت أجل. فقال لا. كما يحدث في لعبة الورق.
قالت: «لا تهمني التنويعات. ولكني أشعر أن هذا خطأ.» قلتُ: «إنه يبدو لي على ما يُرام.» قالت: «إنك ترى الخطأ صوابًا.» قلت: «لم أَقُل إنه صواب، بل قلت على ما يُرام.» قالت: «يا لَه من فرق كبير!» قلت: «أجل، إنني أنتقد كثيرًا. وذهني لا يتوقف لحظة. إني أرى الخطأ في كل شيء. ومعياري هو المتعة، فبالنسبة لي، إنه شيء على ما يُرام.» قالت: «إنه شيءٌ كريهٌ بالنسبة لي.» قلت: «ماذا تحبين إذن؟» قالت: «لا أحب أن أحب، لا يهمني أن أتفوقَ على أحاسيسي، لن أعيشَ بالقدر الذي يكون فيه كلُّ شيء على ما يُرام.»
قلت: «ماما، أتعرفين ما حدث؟» قالت: «آه، يا إلهي!»
يُشبه بناءُ القصة إطارَ العوارض التي تُمسك المباني الحديثة الشاهقة الارتفاع، فأنت لا تراها، ولكنها تُحدِّد شكلَ المبنى وطابعَه. ومع ذلك، فإن أثرَ البناء الروائي يبين، لا في المكان بل عبر الزمان، وعادةً ما يكون زمانًا طويلًا؛ فرواية فيلدنج «توم جونز»، مثلًا، التي قال عنها كولردج إن حبكتَها أحدُ أعظم ثلاث حبكات في عالم الأدب (والاثنتان الأخريان هما من الفن المسرحي، أوديب ملكًا، والكيميائي لبن جونسون)، يبلغ عددُ صفحاتها ٩٠٠ صفحة في طبعة بنجوين، وكما ذكرتُ سابقًا (الفصل السادس والثلاثون)، يبلغ عددُ فصولها ١٩٨ فصلًا موزَّعة على ١٨ كتابًا، السنة الأولى منها تقع أحداثُها في الريف، والسنة التالية على الطريق، والسنة الأخيرة في لندن. وفي منتصف الرواية بالضبط، ينزل معظمُ شخصيات الرواية الرئيسيِّين في الخان نفسه، وإنما دون أن يلتقوا في مجموعاتٍ معيَّنة كان يمكن أن تعجلَ بإنهاء الرواية، والرواية مشحونة بالمفاجآت والألغاز والتشويق، وتنتهي النهاية الكلاسيكية، من انعكاس الأوضاع والاكتشافات.
ومن المستحيل تصويرُ عملِ مثل هذه الحبكة المعقدة باقتباس قصير، بَيْد أن عملَ الكاتب الأمريكي «ليونارد مايكلز»، الذي يكتب بعضًا من أقصر القصص القصيرة التي عرفتُها، يسمح لنا أن ندرسَ العملية في منظورها الأصغر، ولقد احتلتُ بعضَ الشيء على اختيار القِطَع الواردة هنا؛ لأنه لم يكن يُقصد بها أن تَرِد هكذا وحدها، وإنما في مجموعة من قصار القصص، يجمع بينها عنوان «الأكل خارج المنزل»، ويربط بين بعضها البعض الارتباط بنفس الشخصية أو الشخصيات. ﻓ «ماما»، مثلًا، هي واحدة من سلسلة من القصص الحوارية، تدور حول الراوي وأمِّه. والسلسلة بكاملها شيءٌ أكثر من تلخيص أجزائها؛ ومع ذلك، فكلُّ جزء منها قصة قائمة بذاتها، ولها عنوانها. ومغزى قصة «ماما»، حتى خارج سياقها، واضحٌ تمامًا: الأم اليهودية تتوقع أسوأ الأمور دائمًا. وربما كان ذلك النصُّ يتأرجح بين القصة والنكتة، بَيْد أنه ليس هناك غموضٌ في نوعية قصة «اليد»، التي تتفق مع الفكرة الكلاسيكية للوحدة القصصية، فهي تتضمن بدايةً ووسطًا ونهاية، كما حددها أرسطو: البداية هي التي لا تتطلب شيئًا سابقًا لها، والنهاية التي لا تتطلب شيئًا يتبعها، والوسط الذي يحتاج إلى شيء قبله وشيء بعده على السواء.
وتتألف بداية «اليد» من الثلاث جمل الأولى منها، التي تَصِف عقابَ الراوي لابنه، ونحن لسنا بحاجة إلى أن نعرف السبب الذي أدَّى إلى ذلك العقاب. والجملة الأولى: «صفعتُ ابني الصغير» تُصور سياقًا منزليًّا مألوفًا، ويتم التركيزُ كلُّه على عواطف الراوي: «كان غضبي قويًّا كالعدالة». وهذه العبارة الأخيرة الخالية من الأفعال تبدو نوعًا من الخاطرة اللاحقة، تُبرر تفريجَ التوتر، ممارسة السلطة.
ويَصِف وسطُ القصة وَهَنَ ثقةِ الراوي في أحقيَّته فيما فعل، ومحاولته تبريرَ سلوكِه لابنه، وهناك أولَ الأمر نوعٌ من أعراض أسباب نفسية خفية: «ثم اكتشفتُ أنني لا أشعر بأيِّ شيء في يدي». واليدُ هي مجازٌ مرسل واستعارة على السواء، تُشير إلى الأب «عديم الإحساس». قلت: «اسمع، أريد أن أشرحَ لك التعقيداتِ التي ينطوي عليها هذا الأمر.» ومن الناحية البنائية، تدور القصةُ كلُّها حول محور هذا السطر، وهو الكلام المباشر الوحيد فيها. وهذا، من ناحية الشكل، في صالح الراوي؛ لأن الكلام المباشر ينقل دائمًا إحساسًا أقوى بحضور المتكلم، أكثر من الكلام غير المباشر. ولكن استخدام كلمة «التعقيدات»، التي تَرِد عادةً في محادثات الكبار لمخاطبةِ صبيٍّ صغير، تفضح حقيقةَ شعورِ الراوي. فرغم قلقِه البادي للتواصل مع ابنِه («تكلمتُ بكلِّ جديَّة وحذر، كما يفعل الآباء عادةً»)، فهو يُصارع ضميرَه الذاتي.
وتتضمن النهايةُ مثالًا طيِّبًا لانعكاسٍ مضاعف للأوضاع. فأولًا، يُثبت الصبي الصغير أن له بصيرةً نافذة عن حالة أبيه الذهنية، «وسأل حين انتهيتُ من كلامي إذا كنت أريد أن يغفر لي.» وثانيًا، تنعكس علاقاتُ القوة بين الأب والابن: «قلت أجل، فقال لا.» ويُحاكي اتساقُ هاتين العبارتَين اتساقَ الحبكة. وتعليق الراوي «كما يحدث في لعبة الورق» اعترافٌ أسيف بالهزيمة.
وقد عرَّف الحبكةَ تلميذٌ حديث لأرسطو (ر. س. كرين) بأنها «عمليةُ تغيير حتى نهايتها». ومع ذلك، فقد تجنَّب عددٌ كبير من القصص الحديث ذلك النوعَ من الانتهاء الذي تُوحي به عبارة «حتى نهايتها»، وركَّز على حالات الوجود التي يطرأ عليها أقلُّ قدر من التغيير. وقصة «على ما يُرام» مثال على ذلك؛ فبناؤها القصصي أكثرُ إبهامًا من «اليد» – أقل وضوحًا، أصعب في متابعته، والفروق بين البداية والوسط والنهاية، أقل تأكيدًا. وهي تستخدم صورًا من التكنيك، سبق أن ناقشتُها في فصلي «البقاء على السطح» و«التضمين»، وتتألف كلُّها تقريبًا من حوار، وتَحْجب أيَّ معلومات عن الأفكار والدوافع الخاصة للشخصيات، ونحن نستنتج أن البطلَين يمارسان نوعًا غير تقليدي من مطارحة الغرام، بَيْد أنه من المستحيل بل ومن غير الضروري أن نعرف ما هو بالضبط. وربما تتألف البداية من تعبير المرأة عن عدم ارتياحها؛ والوسط، من تبرير الراوي لذاته، وتكرار إعراب المرأة عن استيائها (إنها شيء كريه بالنسبة لي)؛ والنهاية، من رفضها أن تقوم بلعبة الاستكشاف الجنسي. بَيْد أن القصة تفتقر إلى التحرك الواثق تجاه اكتشاف لحظة الصدق للراوي، التي في قصة «اليد»، فليس واضحًا لماذا يسرد لنا الراوي قصتَه هذه، فهو يُنبئنا بتوبيخ المرأة القاسي له دون تعليق. وفي حين أن قصة «اليد» مفهومة، يتعيَّن علينا أن نُعيد قراءة «على ما يُرام» عدة مرات، وأن نُردد الحوارَ مرارًا في أذهاننا، حتى نخرجَ منها بمعنى. (قالت: «لا أحب أن أحب … لن أعيش بالقدر الذي يكون فيه كلُّ شيء على ما يُرام»). والنص يدور فيما يبدو حول عدمِ وجودِ حلٍّ، أكثر منه عن اكتشاف، وترجع وحدتُه إلى أصدائه اللفظية الداخلية، خاصة عبارة «على ما يُرام» التي يُبرزها العنوان، أكثر منه إلى بنائه القصصي، وفي هذا الشأن، يعرض النص نفسه كنوعٍ من القصيدة النثرية، إما هذا، أو كشذرة مغرية من قصة أطول.