التردد (Aporia)
أين الآن؟ مَن الآن؟ متى الآن؟ دوِّن سؤالي عن ذلك. أقول أنا. دون أن أصدق. أسئلة، افتراضات سمِّها كذلك، تقدَّم إلى الأمام، أتدعو ذلك تقدُّمًا، أتدعو ذلك إلى الأمام؟ هل يكون الأمر أنني يومًا ما قد بدأت أول خطوة فبقيتُ في الداخل، في الداخل أين؟ بدلًا من الخروج كما تعودت في الماضي لقضاء نهار وليلة في أبعد مكان ممكن، ولم يكن رغم ذلك بعيدًا، ربما يكون الأمر قد بدأ هكذا، لن أطرحَ على نفسي أسئلةً أخرى، تظنُّ أنك تستريح فحسب، حتى يكون بوسعك أن تتصرفَ على أفضل وجه في الوقت المناسب، أو لغير سبب على الإطلاق، وسرعان ما تجد أنك قد أصبحتَ عاجزًا عن القيام بأي شيء مرة أخرى. لا يهمُّ كيف حدث ذلك. ذلك، تقول ذلك، دون أن تعرف عمَّا تتكلم. ربما أكون قد أذعنتُ آخر الأمر لشيء مما مضى. ولكني لم أفعل شيئًا. يبدو أنني أتكلم، ولكنه ليس أنا، عن نفسي، ولكن ليس عن نفسي، هذه الملاحظات القليلة مجرد بداية. ماذا أفعل، ماذا سأفعل، ماذا يجب أن أفعل، في موقفي، كيف أواصل الطريق؟ عن طريق التردد الخالص المجرد؟ أم عن طريق عبارات إثبات وعبارات نفي تنقض معناها حين النطق بها، أو إن عاجلًا أو آجلًا؟ هذا كلام عام. لا بُدَّ أن يكون هناك طرقٌ أخرى. وإلَّا كان الأمر ميئوسًا منه تمامًا، ولكن الأمر ميئوس منه تمامًا، ويجب أن أقول قبل أن أمضيَ قُدُمًا أبعد من ذلك، إنني أذكر التردد دون أن أعرف ماذا تعنيه تلك الكلمة.
«يبدو أنني أحاول أن أقصَّ عليك حلمًا من الأحلام، وهي محاولة فاشلة؛ لأنه ما من رواية للحلم يمكن لها أن تنقلَ الإحساسَ الحلمي، ذلك المزيج من اللامعقول والمفاجأة والحيرة في رعشة من رعشات النضال والتمرد، ذلك الإحساس بأن المرء قد تملَّكَته تلك اللامعقولية التي تُشكِّل جوهر الأحلام …»
وتوقف فترة عن الكلام.
«… كلا، إن ذلك مستحيل؛ مستحيل نَقْل إحساس الحياة الذي يشعر به امرؤ في حقبة معينة من حقبات وجوده — ذلك الذي يُشكل حقيقته، معناه — جوهره الرهيف النافذ. مستحيل. إننا نعيش. كما نحلم، وحيدين …»
وفي القصص الميتاقصصية، مثل «تائه في بيت المتعة» أو «عشيقة الضابط الفرنسي»، يصبح الترددُ مبدأً من مبادئ البنية القصصية؛ إذ إن الراوي المؤلف يُصارع مشاكلَ لا حلول لها، لتصوير الحياة في الفن تصويرًا مناسبًا، أو يعترف بتردده في الطريقة التي يتصرف بها مع شخصياته القصصية. فمثلًا، في الفصل ٥٥ من رواية عشيقة الضابط الفرنسي، بعد أن يكتشفَ تشارلز أن سارة قد اختفَت من الفندق بمدينة أكستر، ويسافر عائدًا إلى لندن ليبدأ البحث عنها، يتدخل الراوي المؤلف في القصة، على هيئة أحد الغرباء ذوي النظرات الفظَّة في مقصورة قطار تشارلز:
«والآن فإن السؤال الذي أسأله وأنا أُحدِّق في تشارلز هو … ماذا سأفعل بحق الشيطان معك؟ لقد فكرتُ بالفعل أن أُنهيَ عمله هنا والآن، وأتركه إلى الأبد متجهًا إلى لندن. بَيْد أن تقاليد الرواية الفيكتورية لم تكن لتسمح بالنهايات المفتوحة غير المحددة؛ كما أنني قد ساندتُ سابقًا الحريةَ التي يجب أن تُعطى للشخصيات، ومشكلتي بسيطة، فإن ما يريده تشارلز واضح. إن الأمر كذلك بالفعل. ولكن ما تريده البطلة ليس بمثل ذلك الوضوح؛ وأنا لستُ متأكدًا بالمرة أين هي الآن.»
وفي روايات صمويل بيكيت، خاصة أواخر أعماله، يكثر التردد. ورواية «ما لا اسم له» (التي نُشرت أصلًا بالفرنسية عام ١٩٥٢)، وهي من روايات تيار الوعي، بَيْد أنها ليست كروايةِ جيمس جويس «عوليس»، حيث تنبعث لنا مناظرُ دبلن وأصواتها، روائحها وصخبها البشري، في تحديد نشيط، عن طريق الانطباعات الشعورية للشخصيات الرئيسية وأفكارها وذكرياتها. فكلُّ ما نجده في رواية بيكيت، صوتُ راوٍ يتحدث إلى نفسه، أو يستنسخ أفكاره الداخلية حين تمر على ذهنه، تَوَّاقًا للعدم والصمت، ولكنه مُسَاق للمضيِّ قُدمًا في سرده، على الرغم من أنه لا يحتوي على قصة تستحق الرواية؛ وهو غير متأكد من أي شيء، ولا حتى من موضعه في المكان والزمان.
والراوي المجهول يجلس في مكان غامض معتم، لا يستطيع أن يرى حدوده أو أن يلمسَها بيده، في حين هناك شخوص لا تكاد تبين، بعضها فيما يبدو شخصيات من روايات بيكيت السابقة، تتحرك حواليه، أو هل هو الذي يتحرك حولها؟ وهو يعرف أن عينَيه مفتوحتان «بسبب الدموع التي تتساقط منهما دون توقف». أين هو؟ يمكن أن يكون في الجحيم. ويمكن أن يكون في مرحلة خرَف الشيخوخة، ويمكن أن يكون الموضوع هو ذهن الكاتب، الذي يتعيَّن عليه الاستمرار في الكتابة، على الرغم من أنه لم يَعُد لديه شيءٌ يقوله، لأنه لم يَعُد هناك شيءٌ جدير بالقول عن الوضع الإنساني، أم هل أن كلَّ هذه الأحوال واحدة في جوهرها وتُشكِّل الشيء نفسه؟ وتنطبق رواية ما لا اسم له، فيما يبدو، على تعبير رولان بارت «درجة الصفر في الكتابة»؛ حيث «ينهزم الأدب، وتتعرَّى إشكاليات البشر وتُقدَّم دونما زخرف، ويُصبح الكاتب أمينًا بصورة لا رجعة فيها».
والخطاب، بدلًا من أن يتقدَّم، يتراجع عن طريق التراكم، عن طريق نوع من الإلغاء الذاتي، خطوة إلى الأمام، وخطوة إلى الخلف، تتابع إثباتات متناقضة لا يفصل بينها سوى علامة الفاصلة، وليس العبارات المألوفة مثل «ولكن» أو «بالرغم من». ويحاور المتكلم نفسه قائلًا: «تقدَّم إلى الأمام»؛ ثم يُضيف على الفور مُتهكمًا: «أتدعو هذا تقدمًا، أتدعو ذلك إلى الأمام؟» كيف وصل إلى المكان الذي هو فيه: «هل يكون الأمر أنني يومًا ما قد بدأت أول خطوة فبقيتُ في الداخل؟» وللتوِّ يقفز سؤال آخر: «في الداخل أين؟» ثم يترك السؤال الأول: «لا يهمُّ كيف حدث ذلك». ولكن حتى هذه الحركة السلبية تفترض الكثير: «ذلك، تقول ذلك، دون أن تعرف عمَّا تتكلم».
كان بيكيت من أتباع مذهب التفكيكية قبل أن تتشكل: «يبدو أنني أتكلم، ولكنه ليس أنا، عن نفسي، ولكن ليس عن نفسي». فهذه الجملة تُهاجم أسسَ التقاليد الهيومانية الراسخة عن قصص السيرة الذاتية، والسيرة الذاتية القصصية، من «روبنسون كروزو»، مرورًا ﺑ «آمال كبار»، حتى «البحث عن الزمن الضائع»، بما تَعِد به من التوصل إلى معرفة الذات. وقد استبق بيكيت فكرة «دريدا» عن «الاختلاف والإرجاء» المحتومَين للخطاب اللفظي: اﻟ «أنا» التي تتحدث وتختلف دائمًا عن اﻟ «أنا» التي يجري الحديث عنها؛ بينما يتمُّ دائمًا إرجاء الانطباق التام للغة على الواقع. «نبدأ بهذا القليل من الملاحظات العامة». وهذه الصيغة، التي لا تعني عادةً الكثيرَ، تكتسب سِمَة الكوميديا السوداء في إطار ذلك الفراغ المعرفي. كيف يواصل الراوي سردَه، «عن طريق عباراتِ إثباتٍ وعباراتِ نفيٍ تنقض معناها حين النطق بها» (أي التناقض الذاتي) أم «عن طريق التردد الخالص المجرد؟» والتردد هو الوسيلة المجازية المفضلة لدى النقَّاد التفكيكيِّين، لأنه يمثِّل الطريقةَ التي تعمل بها كلُّ النصوص على تقويض ادِّعاءاتها هي ذاتها، بأنها تقدِّم معنًى محدودًا. بَيْد أن اعتراف الراوي لاحقًا، بأنه يذكر التردد دون أن يعرف ماذا تعنيه تلك الكلمة، هو إلغاء للتردد.
«لا بد أن يكون هناك طرق أخرى. وإلَّا كان الأمر ميئوسًا منه تمامًا، ولكن الأمر ميئوس منه تمامًا»، والأمر العجيب أن قراءة هذا النص المتشائم المظلم، الذي يشيع الشك في كل كلماته، لا تولِّد اكتئابًا عميقًا، بل على العكس، فهو يخلق انطباعًا فَكِهًا مؤثرًا، بل وإيجابيًّا على نحوٍ يُثير الدهشة، لصمود الروح الإنسانية في وجه الشدائد، وكلماته الأخيرة المشهورة هي: «لا بد أن تمضيَ قُدُمًا، لا أستطيع أن أمضيَ قُدُمًا، لسوف أمضي قُدُمًا.»