رواية الرسائل
إن ما لا أستطيع تحمُّلَه هو أنها، في لحظة معينة، سلَّمَت بمطالبي، واعترفَت بحقوقي، إن ما يجعلني أودُّ أن أدقَّ بقبضتي على المائدة هو … التليفون يدق … انتظر.
كلا. مجرد إحدى الطالبات تمرُّ بأزمة. نعم، إن ما يجعلني أودُّ أن أصرخَ عاليًا في الليل، هو تفكيري أنها الآن في لندن، تخطُّ ما شاءت من الصفحات، كأنما لم يحدث شيء، إنني أودُّ أن أعرف أنها قد رفعَت رأسها عن عالمها الخيالي لحظة واحدة وقالت: هناك فكرة أخرى خطرَت على بالي. ربما لم تكن تخطُّ ما شاءت من الصفحات كأنما لم يحدث شيء، ربما كانت تكتب صورة من الأحداث التي وقعَت في غرفة الزوَّار، ربما كانت إحدى بطلات رواياتها، ممن بوسعهن أن يُحيلوا الرجل مجنونًا، هي واحدة من أولئك النسوة الغريبات الأطوار، اللواتي يتلهفن على أي شيء، ويتحركنَ كأبي جلمبو، ممن يدبِّرن مناوراتٍ كبرى عند مرأى الملابس الداخلية ذات اللون الباذنجاني، لأستاذٍ أكاديميٍّ شابٍّ معجب بنفسه، لا حاجة بك أن تنظر لي هكذا، شكرًا جزيلًا: ففيَّ من الفهم ما يمكنني أن أُدركَ المفارقة فيما أكتب لك، ومع ذلك فالأمر مختلف، فهي لا تكتب ما تكتبه لإحدى صديقاتها في بلد بعيد، إنها تكتب لأصدقائي، ولأعدائي، ولزملائي، ولطلابي …
ماذا؟ هل ملابسي الداخلية باذنجانية اللون؟ كلَّا بالطبع! ألَا تعرف أيَّ شيء عن ذوقي على الإطلاق؟ ولكنها قد تذكر أنها في لون الباذنجان! هذا هو ما يفعلون، هؤلاء الناس، إنهم يُوَشُّون الأشياء، يُدخلون تحسينات على الواقع، إنهم يحكون أكاذيب.
كانت الروايات المكتوبة في شكل رسائل رائجة رواجًا كبيرًا في القرن الثامن عشر، وقد شكَّلَت روايتَا سمويل ريتشاردسون الطويلتان الأخلاقيتان ذواتا النبرة النفسية «باميلا» (١٧٤١م) و«كلاريسا» (١٧٤٧م)، وهما من روايات الإغراء المكتوبة في صورة رسائل، علامتَين مهمَّتَين في تاريخ القصص الأوروبي، وألهمتا كثيرًا من المقلدين مثل روسو (هلويز الجديد) ولاكلو (العلاقات الخطرة)، وكانت المسودة الأولى لرواية جين أوستن «العقل والهوى» في شكل رسائل، ولكن المؤلِّفة أعادَت النظر في ذلك، وتكهنَت بما حدث لرواية الرسائل من تدهور في القرن التاسع عشر، ولقد أصبح ذلك النوع من أنواع الرواية، والحق يُقال، في عصر التليفون، من الأنواع الشديدة الندرة، رغم أنها لم تنقرض بالمرَّة، ومن المفيد الإبقاء عليها، كما برهنَت على ذلك مؤخَّرًا رواية مايكل فرين «فن الصنعة».
وقد يؤدي اختراعُ آلة الفاكس إلى إحياء ذلك الشكل (وربما كانت قصة العنوان في مجموعة أندرو ديفيز «فاكسات قذرة»، ١٩٩٠م، علامة على ذلك)، بَيْد أن الروائي الحديث الذي يستخدم شكل الرسائل مضطرٌّ، بصفة عامة، أن يفصل بين متراسليه بمسافات بعيدة، حتى يخلعَ على تلك الوسيلة نوعًا من التصديق؛ فبطل رواية فرين، أو بطله الضد، أكاديمي بريطاني في الثلاثينيات، لا اسم له، متخصص في أعمال إحدى الروائيات المعاصرات ممن تكبره في السن، ويُشار إليها في النص بحرفَي اسمها: ج.ل. وهو يدعوها لإلقاء محاضرة في الجامعة التي يعمل فيها، فتدعوه بعد ذلك، لدهشته الشديدة، إلى مشاركته فراشَ حجرة الزوَّار ببيتها. وهو يصف ذلك الحدث وما تلاه في سلسلة من الرسائل إلى صديق أكاديمي مقيم في أستراليا.
وهو موزَّع بين الافتتان والريبة؛ فهو يزدهي من جهة، بعلاقته الحميمة بالمرأة التي كرَّس لها حياتَه الوظيفية، ولكنه يخشى من الجهة الأخرى، أن تستغلَّ هي هذه العلاقة بأن تحولها إلى روايات جديدة، مما يُذيعها على الناس، ويغير من وقائعها، وهو يحترم مقدرتها الأدبية، ولكن يحسدها عليها أيضًا، بل ويصل به التناقض إلى حد الضيق بها، وهو مستاءٌ لأنه رغم امتلاكه لجسدها (وقد تزوجها في النهاية)، فهو لا يسيطر على خيالها الروائي، وينتهي به الأمر إلى أن يحاول عبثًا أن يكتسب «فن الصنعة» (أي كتابة الروايات)، وهذا موضوع ساخر مألوف — التضاد بين الملَكة النقدية والملَكة الإبداعية — قد عُرض على نحوٍ جديدٍ ومسلٍّ عن طريق براعة المؤلف في قصة.
ورواية الرسائل هي نوع من القصص السردية على لسان الشخصية الأولى، ولكنها تحظى ببعض الصفات الخاصة التي لا توجد في نمط السيرة الذاتية المألوفة. ففي حين تكون قصة السيرة الذاتية معروفة للراوي قبل أن يبدأ، فإن الرسائل تؤرِّخ لعملية جارية! أو كما قال ريتشاردسون: «إن أسلوب الذين يكتبون في غمرة محنة «حاضرة»؛ إذ العقل يتعذب بلواعج الشكوك … لا بدَّ أن يكون أكثر حيوية وأشد تأثيرًا … من الأسلوب الجاف السردي الجامد لشخص يحكي عن مصاعب قد انجلت، وأخطار أمكن التغلب عليها …»
ويمكن بالطبع الوصول إلى التأثير نفسه باستخدام شكل اليوميات، بَيْد أن رواية الرسائل تختص بميزتَين إضافيَّتَين. الأولى، أنه يمكنك استخدام أكثر من مراسل، وبهذا تستطيع أن تعرض الحدث ذاته من وجهات نظر مختلفة، بتفسيرات مختلفة تمام الاختلاف، كما برهن «ريتشاردسون» على ذلك ببراعة في «كلاريسا». (فمثلًا، تكتب كلاريسا إلى صديقتها مس «هاو» عن مقابلة لها مع «لفليس» بدَا فيها أنه على استعداد حقيقي لنبذ ماضيه الماجن؛ بينما ينقل «لفليس» الحديثَ نفسه إلى صديقه «بلفورد» على أنه مرحلة من خطته الماكرة لإغواء كلاريسا)، والثانية، أنك حتى إذا حصرت نفسك في مراسل واحد، كما يفعل «فراين»، فالرسالة، على عكس اليوميات، توجَّه دائمًا إلى متلقٍّ محدَّد، يكيِّف استجابته المتوقَّعة للخطاب، ويجعله أكثر تعقيدًا وتشويقًا من الناحية البلاغية، ويزيد من شفافيته غير المباشرة.
ويستغل فرين هذه الإمكانية الأخيرة بنجاح باهر على وجه خاص؛ فأستاذه الأكاديمي شخصيةٌ ذات مساوئ كوميدية، فهو ممتلئ غرورًا وقلقًا وشعورًا بجنون الاضطهاد، ويُبدي ذلك كلَّه باستمرار، عن طريق استباق أو تخيُّل ردود فعل صديقه الأسترالي («لا حاجة بك أن تنظر لي هكذا، شكرًا جزيلًا …») وأحيانًا تبدو الرسائل عند قراءتها كالمنولوجات الدرامية، نستمع فيها إلى طرف واحد فقط من الحوار، ونستنتج الباقي: «ماذا؟ هل ملابسي الداخلية باذنجانية اللون؟ كلَّا بالطبع! ألَا تعرف أيَّ شيء عن ذوقي على الإطلاق؟» وهنا، يقترب الأسلوب من أسلوب تقليد السرد الشفاهي، الذي ناقشتُه في الفصل السابق، بَيْد أنه يمكنه أيضًا أن يتسع للكتابة الأدبية الواعية، مثل: «إحدى بطلات رواياتها، ممن بوسعهن أن يُحيلوا الرجلَ مجنونًا، هي واحدة من أولئك النسوة الغريبات الأطوار، اللواتي يتلهفنَ على أيِّ شيء ويتحركنَ كأبي جلمبو، ممن يدبِّرنَ مناوراتٍ كبرى عند مرأى الملابس الداخلية ذات اللون الباذنجاني، لأستاذٍ أكاديميٍّ شابٍّ معجبٍ بنفسه.» وإذا بدَت تلك الجملة على شيء من التصنع، مثقلة بالعديد من الصفات والأحوال، فهذا يشكِّل جزءًا مما أراد «فرين» تصويره؛ فالراوي عليه أن ينقل بصورةٍ حيَّة، فكاهةَ محنتِه، ولكن لا يُسمح له باستخدام أي بلاغة صادقة، فإن ذلك سيتناقض مع قدرته على إتقان «فن الصنعة».
والكتابة بمعناها الدقيق، لا يمكنها إلَّا أن تقلِّد تقليدًا أمينًا كتابةً أخرى، وتصويرها للكلام، وغيره من الأحداث غير اللفظية، هو تصوير اصطناعيٌّ للغاية. ولكن الرسالة في القصة لا تفترق عن الرسالة في الواقع. وأي إشارة إلى الظروف التي تجري كتابةُ الرواية في ظلِّها، ستلفت — عادة — الانتباه إلى وجود المؤلف «الحقيقي» وراء النص، وتكسر بذلك الإيهام القصصي بالواقع؛ بَيْد أن مثل هذه الإشارة في رواية الرسائل تُسهم في ذلك الإيهام، وأنا، مثلًا، لا أدرج المكالمات التليفونية التي أتلقَّاها من وكيل أعمالي في الرواية التي أقوم بكتابتها ساعتها، بَيْد أن مكالمة الطالبة التي تقطع أستاذ فراين في وسط جملة يكتبها، هي واقعية وكاشفة للشخصية على السواء (أنه محصور في ذاته ويتجاهل مسئولياته في رعاية الطلبة والطالبات).
ولقد منحَت الواقعيةُ شبهُ الوثائقية لأسلوب الرسائل، الروائيِّين الأوائل سلطةً لم يسبق لها مثيلٌ على قرَّائهم، لا يُضارعها إلَّا الجذبُ الذي تقوم به بعضُ المسلسلات التليفزيونية الحالية للجمهور؛ فبينما كان يجري نشرُ الرواية البالغة الطول «كلاريسا»، مجلدًا وراء مجلد، كان القرَّاء كثيرًا ما يضرعون إلى «ريتشاردسون» ألَّا يسمح لبطلته أن تموت؛ كما أن الكثير من القرَّاء الأوائل لرواية «باميلا» اعتقدوا أن الرسائلَ التي تحويها حقيقيةٌ، وأن ريتشاردسون لم يكن إلَّا منقِّحًا لها. ولن ينخدعَ قرَّاء الروايات الأدبية المحدَثون على هذا النحو بطبيعة الحال؛ ولكن «فرين» قام بحيلة بارعة حين جعل المدرس الأكاديمي في روايته، يشكو من الطريقة التي يقوم بها الروائيون بتحويل الواقع إلى قصص («هذا هو ما يفعلون. هؤلاء الناس، إنهم يُوَشُّون الأشياء، يُدخلون تحسيناتٍ على الواقع — إنهم يحكون أكاذيب») في رواية من النوع المقصود به أصلًا أن يجعل القصص تبدو مثل الواقع.