وجهة النظر
يجب ألَّا يُفترضَ أن تغيبَ السيدة عن زيارة المدرسة، لم يكن يُعوَّض بأعمال أخرى ذات طابع مختلف — مثل دخولها دخولَ الظافرين وصمْتها صمتَ المبهورين، كانت تبدو خلالها أنها تقوم بعمليةِ مسحٍ متعددِ الأغراض لكل شيء في الحجرة، من حالة السقف إلى حالة أطراف حذاء ابنتها، وكانت أحيانًا تظل جالسة، وأحيانًا أخرى تتنقل في أرجاء الحجرة؛ وفي كلتا الحالتين، كان مظهرُها يتسم دائمًا بالجديَّة والعمليَّة، ووجدت الكثير مما تشكو منه، حتى إنها تركَت انطباعًا بترقُّبِ الكثير مما ستفعله، وتدجَّجت بالمشاريع حتى بدَت كأنما تنثر الأدواء والوعود، كانت زياراتُها فخيمةً فخامةَ جهاز العروس، وتصرفاتها، كما قالت مسز «ويكس» ذات مرة، جميلة جمال زوج من الستائر الجديدة، بَيْد أنها كانت شخصية أدمنَت التطرُّفَ — فأحيانًا لا تكاد تقول شيئًا لابنتِها، وأحيانًا تضمُّ هذه النبتة الغضة إلى صدرها الذي استبان من فتحة الرداء الشديدة الانحسار، كما لاحظت مسز ويكس أيضًا، وكانت دائمًا في عجلة شديدة من أمرها، وكلما كانت فتحةُ صدر ردائها أكبر، أمكن استنتاج أنها على موعد عاجل في مكان آخر. وكانت تأتي غالبًا وحدَها، ولكنها كانت تأتي أحيانًا بصحبة سير كلود؛ وفي الأيام الخوالي، حين يظهران معًا، لم يكن هناك أمتع من ملاحظة الطريقة التي تعيش بها السيدة الجليلة، كما دعَتها مسز ويكس، مسحورة به. ولكن، أليست هي حقًّا مسحورة به؟ كانت «ميزي» تُردد دائمًا هذا التساؤل بنبرة متفكرة وإن كانت أليفة، بعد أن يكون سير كلود قد طار بأمِّها إلى الخارج، في موجة من الضحك الصافي، ولم تكن، حتى في عهود السيدات اللواتي كُنَّ يَمِلن إلى البهجة والحبور، قد سمعَت أمَّها تضحك بهذه الحرية التي تُمليها الدَّعة الزوجية؛ فحتى فتاة صغيرة مثلها، بوسعها أن تُدرك أن لها الحق كل الحق في هذا المزاج الرائق، ومن ثَم، فقد اصطبغَت أفكارُ هذه الفتاة بالتأملات السعيدة الذاتية، المليئة بالفأل الطيب والمستقبل السعيد.
قد يمرُّ أكثرُ من شخص، وهذا يحدث غالبًا بواقعية حقيقية واحدة، في الوقت نفسه، وتستطيع الرواية أن تقدِّم منظوراتٍ مختلفةً عن الواقعة نفسها، وإن كان بتقديم منظور واحد في المرة الواحدة، وحتى لو اتبعَت الروايةُ أسلوبَ سرْدِ «العالِم بكل شيء»، ويقدِّم الحدَث مِن علٍ، فإن ذلك سوف يميز واحدةً أو اثنتين فحسب من «وجهات النظر» المحتملة، التي يمكن سردُ القصة عن طريقها، والتركيز على طريقةِ تأثيرِ سردِ الوقائع في الشخصيات، والموضوعية التامة، والسرد المحايد تمامًا يمكن أن يكون هدفًا يُعتدُّ به في مجال الصحافة أو في التدوين التاريخي، ولكن من غير المرجَّح أن تجذبَ القصةُ الخيالية اهتمامَنا، إلَّا إذا عرفنا عمَّن تتحدث.
ويمكن التسليم بأن اختيارَ وجهةٍ أو وجهاتِ النظر التي ستُقدَّم القصةُ من خلالها، هو أهم قرار مُفرد يتعين على الروائي اتخاذُه؛ ذلك أنه يؤثر تأثيرًا جوهريًّا في الطريقة التي سيستجيب لها القرَّاء، عاطفيًّا وأخلاقيًّا، للشخصيات القصصية وللأعمال التي يقومون بها؛ فقصةُ خيانةٍ زوجية، مثلًا، أيِّ خيانة زوجية، ستؤثر فينا بطريقة مختلفة، وفقًا لوجهة النظر التي يتمُّ تقديمُها، منها: وجهة نظر الشخص الخائن، أو الزوج المخدوع، أو العشيق، أو طرف رابع يرقب ما يحدث؛ فرواية «مدام بوفاري» ستُطبع رواية مختلفة تمامًا عن الكتاب الذي نعرفه، إذا سُردَت من وجهة نظر الزوج شارل بوفاري.
وكان «هنري جيمس» أشبهَ ما يكون بالخبير في التلاعب بوجهة النظر، وفي روايته «ما عرفته ميزي» يقدِّم قصةً عن خيانات زوجية متعددة — أو هي خيانات زوجية يُضفَى عليها ستارٌ من الشرعية عن طريق الطلاق والزواج من جديد — تقتصر حكايتُها على طفلة تتأثر بتلك الأحداث، وإن كانت لا تُدرك معناها إلى حدٍّ كبير؛ ذلك أن والدَي «ميزي» ينفصلان بالطلاق حين يُقيم الأبُ علاقةً مع مربِّيةِ ابنتِه، ثم يتزوجها بعد ذلك. وتتزوج أم ميزي «إدا» معجبًا شابًّا هو السير كلود، وتجلب لميزي مربِّية أخرى هي مسز ويكس، ولا يمرُّ وقتٌ طويل حتى يُصبحَ زوجُ الأم وزوجةُ الأب عاشقَين، وتُصبح ميزي عرضةً لاستغلال هؤلاء الكبار الأنانيِّين المعدومي الضمير في شجاراتهم، كما أنهم يجعلون منها واسطةً لهم في أحابيلهم الغرامية، وفي الوقت الذي ينغمسون فيه في مسراتهم الأنانية، يلقون بها في مدرسة موحِشة مع «مسز ويكس» السليطة اللسان، التي هي مفتونة بالسير كلود، وليس لها من النضج غيرُ عمرِها المتقدم.
وتَرِد القطعةُ المقتبسة في أوائل الرواية، وتتعرَّض لوعود «إدا» الجوفاء، إبَّان شهر عسلها مع زوجها الثاني، بتحسين نوعية حياة ميزي، وهي مسرودة من وجهة نظر «ميزي»، ولكن ليس بصوتها، ولا بأسلوبٍ يحاول أدنى محاولة تقليدَ كلام الأطفال، وقد شرح جيمس الأسبابَ التي دعَته إلى ذلك في المقدِّمة التي كتبها لطبعة نيويورك من الرواية بقوله: «للأطفال بصائر أكثر بكثير من الوسائل المتاحة لهم للتعبير عنها؛ فرؤى هؤلاء الأطفال في أيِّ لحظة من اللحظات أكثرُ ثراء، وإدراكُهم أكثرُ قوة من الكلمات التي بوسعهم استخدامها، أو التي تحت تصرُّفِهم.» وعلى ذلك فإن رواية «ما عرفته ميزي» تقف على نقيض رواية «الحارس في الحقول» ﻟ «سالنجر»؛ ففي الأولى، تبين وجهة نظر ساذجة عن أسلوب ناضج، راقٍ مركَّب دقيق.
وليس هناك من وصفٍ لا يكون بوسع ميزي إدراكُه، وفهمُه بطريقتها الطفولية الخاصة، وتعرض أمُّها اقتراحاتٍ مثيرةً نشطة، لإعادة طلاء حجرة الدرس، وشراء ملابس جديدة ﻟ «ميزي». وزيارات «إدا» مفاجئة وقصيرة، وسلوكها متقلب ولا يمكن التنبؤ به، وهي عادة ما ترتدي ملابسَ فخيمة، وتكون في طريقها لحضور موعد أو حفلة، وهي تبدو شديدةَ الولَهِ بزوجها الجديد، ورائقة المزاج، وتلاحظ «ميزي» كلَّ هذه الأشياء بدقة، ولكن على نحوٍ بريء، وهي لا تزال تثقُ في أمِّها، وتتطلَّع بأمل في «المستقبل السعيد». ومع ذلك، فالقارئ لا يشعر بذلك الوهم؛ لأن اللغة الشديدة التأنق التي عبَّرت عن هذه الملاحظات، تحمل سخرية مدمرة للأم.
وأول جملة في تلك الفقرة، تتضمن معظم الصفات التي تضع أسلوبها في الطرف المناقض للغة الأطفال؛ فهي تبدأ بتركيب فعلي مبني للمجهول (يجب ألَّا يُفترض)، ثم نفي مُضاعَف (لم يكن يُعوَّض)، وتُفضل استخدام الأسماء المجردة، ذات المقاطع المتعددة عن الكلمات المحددة أو العامية، وتميل إلى العبارات المتناظرة (دخول الظافرين وصمت المبهورين و«من حالة السقف إلى حالة أطراف حذاء ابنتها»)، وبناء الجملة لحالها هو ما يُطلِق عليه النحويون الجملةَ الاعتراضية، وبمعنى آخر أنه يتعين عليك الانتظار إلى النهاية، حاملًا المعلومات المتراكمة في ذهنك، حتى تصل إلى العبارة الحاسمة، التي تُعطي المعنى الرئيسي (وهي أن اهتمام «إدا» الظاهر ما هو إلَّا تمثيل)، وهذا ما يجعل من قراءة روايات «هنري جيمس» تجربةً مضنية وإن كانت مجزية. فإذا نعس القارئ في وسط جملة، فقد ضاع.
وهُيام «هنري جيمس» بالموازنات والنقائض يبدو واضحًا في هذه القطعة ومؤثرًا بصفة خاصة، «وكانت أحيانًا تظل جالسة، وأحيانًا أخرى تتنقل في أرجاء الحجرة»، «ووجدت الكثير مما تشكو منه، حتى إنها تركَت انطباعًا بترقُّب الكثير مما ستفعله»، «كانت زياراتها فخيمة فخامة جهاز العروس، وتصرفاتها، كما قالت السيدة «ويكس» ذات مرة، جميلة جمال زوج من الستائر الجديدة»، وهذه التركيبات بارعة التوازن، تُبرز التناقضات بين وعود «إدا» وسلوكها، بين ادعاءاتها الكرمَ وأنانيتها في واقع الأمر.
وإحدى العلامات الشائعة على كسل كاتب روائي أو افتقاره للخبرة، هي عدم الاتساق في تناول وجهة النظر؛ فقصةٌ ما، ودَعْنا نقول إنها قصةُ شاب يُسمى «جون»، يترك منزله لأول مرة للذهاب إلى الجامعة، ستكون، كما ينظر إليها جون، كما يلي: جون يجهز حقيبته، ويُلقي نظرةً «أخيرة» على حجرة نومه، ويودِّع والدَيه. وفجأة في جملتين، يدسُّ المؤلف شعورَ والدة جون عن ذلك الحدث، لمجرد أنه قد بدا له أن ذلك يمثِّل معلوماتٍ مهمة، لا بدَّ أن يضعها عند تلك النقطة؛ وبعدها تستمر القصة من وجهة نظر «جون». وليس هناك بطبيعة الحال، قاعدة أو نظام يقضي بألَّا تنقلَ روايةٌ ما وجهةَ النظر كيفما شاء المؤلف؛ بَيْد أنه إذا لم يتمَّ ذلك الأمرُ وفقًا لشيء من خطة أو مبدأ جمالي، فإن مشاركة القارئ «إنتاج» القارئ لمعنى النص، سوف يُصابان بالخلل. فنحن قد نتساءل، عن وعي أو على نحوٍ لا شعوري، أنه ما دمنا قد عرفنا ما كانت والدة «جون» تفكر فيه عند حدٍّ معين من المشهد، لماذا لا نعرف ما تفكر فيه في أوقات أخرى؟ فالأم التي كانت حتى تلك اللحظة مجردَ موضع لإدراك جون، قد استحالَت فجأة موضوعًا قائمًا بذاته، بَيْد أنه موضوع غير كامل التحقيق، ونحن إذا عرفنا وجهةَ نظر الأم، فلماذا لا نعرف وجهةَ نظر الأب كذلك؟
والواقع أن قَصْر القصة على وِجهة نظر واحدة، يزيد من كثافتها وفوريتها، أو هكذا كان «هنري جيمس» يرى. ولكنه يستخدم ببراعة «مسز ويكس» للتعبير عن أحكام على «إدا»، من وجهة نظر الكبار، أحكام لم يكن بوسع «ميزي» أن تُطلقها دون أن تنحرفَ عن منظورها، وتقبل «ميزي» تشبيهَ تصرفات «إدا» بأنها جميلة جمال زوج من الستائر الجديدة، كنوع من الإطراء، بينما يُفسِّره القارئ على أنه نقدٌ لاذع، وعلى النمط نفسه، كانت ملاحظة مسز ويكس على فتحة صدر رداء «إدا»، ناتجةً عن الغيرة والاستهجان الأخلاقي؛ في حين أن ميزي، إذ لا ترى في إظهار الصدر الأنثوي أي دلالة إيروسية، لا يلفت نظرَها سوى النسبة بين فتحة الصدر والفترة التي تستغرقها الزيارة.
وحين تمضي الروايةُ قُدُمًا، وتنتقل ميزي من مرحلة الطفولة إلى المراهقة، يحلُّ محلَّ براءتها إدراكٌ أوليٌّ لما يقوم به الكبار الذين يحوطون بها؛ بَيْد أن الفجوة ما بين اللغة ووجهة النظر لا تُسَد أبدًا، وتبقى مسألةُ «ما عرفته ميزي» بلا حلٍّ حاسم. ولقد قال كيتس: «الجمال هو الحقيقة». ويقول السيميائي الروسي العظيم «جوري لوتمان»: «الجمال هو المعلومات»، وهي صيغة تتفق أكثر مع الفكر الحديث، ولم يكن «هنري جيمس»، وهو أول روائي حديث حقيقي في اللغة الإنجليزية، يعتقد أنه يمكن إرساء دعائم الحقيقة الأسمى عن التجربة الإنسانية، ولكنه وضع تكنيكًا روائيًّا سدَّ فيه كلَّ الفجوات بمعدن المعلومات النفيس.