اللغز
«على مستر فيكري الذهاب إلى صعيد البلاد هذا المساء نفسه، لاستلام بعض الذخائر البحرية من مخلفات الحرب، في قلعة «بلومفونتاين». ولم تكن هناك أية تفاصيل عن أحد يصحب السيد فيكري، لقد جاءه الأمر بصيغة المخاطَب المفرَد — كأنه كتيبة «وحده».»
وصدر عن البحَّار صفير ثاقب.
وقال «بايكروفت»: «هذا ما أعتقد، لقد ذهبت إلى الشاطئ معه، وطلب مني أن أصطحبَه إلى المحطة، كان «يتكتك» بأسنانه بصوتٍ عالٍ، ولكنه عدا ذلك كان يبدو سعيدًا.»
وقال لي: «قد تحبُّ أن تعرف أن سيرك فيليس سيقدِّم عرضًا مساءَ غدٍ في مدينة ورسستر، وبهذا سوف أراها مرة أخرى، لقد كنتَ صبورًا جدًّا معي.»
فقلت له: «اسمع يا فيكري تلك الحكاية، لقد بدأت أشعر بالملل منها. فلتتركني في حالي؛ فلا أريد أن أسمع أيَّ مزيد منها.»
فقال: «حتى أنت! ماذا هناك تشكو منه؟ ليس عليك سوى النظر، أما أنا، فإنها حياتي.» وقال: «ولكن هذا لا يهمُّ بالمرَّة، لديَّ شيء واحد أقوله قبل أن أودِّعَك. تذكَّر — وكنَّا قد وصلنا عند ذاك إلى بوابة حديقة الأدميرال — تذكَّر أنني لست قاتلًا؛ لأن زوجتي الشرعية قد ماتت وهي تضع حملها، بعد خروجي بستة أسابيع. وأنا بريء من هذا على الأقل.»
فقلت: «إذن، فأي شيء فعلتَ لتصبح مسئولًا عنه؟ ما هي بقية الحكاية؟»
قال: البقية هي الصمت؛ وشدَّ على يدي مودعًا، ثم انطلق «متكتكًا» نحو محطة «سيمنزتاون».
فسألت: «وهل توقف كيما يزورَ مسز «باتهيرست» في «ورسستر»؟»
«هذا ما لا يعرفه أحد؛ فقد قدَّم نفسه في بلومفونتاين، وعَمِل على نقل الذخيرة إلى الشاحنات، ثم اختفى. رحل — أو إذا شئت، هرب من الخدمة — ولم يكن باقيًا أمامه للحصول على معاش سوى ثمانية عشر شهرًا، وإذا كان ما ذكره عن زوجته هو الحقيقة فلقد كان حرًّا آنذاك، بماذا تخرج من كلِّ هذا؟»
حين ناقشتُ قبل ذلك حادثةَ «المعلَّق» على شفا جرف هار في رواية «توماس هاردي» «عينان زرقاوان»، كشفتُ أن البطلة قد أنقذَت البطل في خاتمة المطاف، ولكن لم أُعطِ سوى لمحة عن الطريقة التي نجحتُ بها في القيام بذلك. وهكذا قمت، بالنسبة للقُرَّاء الذين لا يعرفون تلك الرواية، بتحويلِ أثرٍ من آثار التشويق (ماذا سيحدث؟) إلى أثر من آثار اللغز (كيف فعلت ذلك؟) ويكمن في هذين السؤالين القوى الدافعة وراء الاهتمام الذي نُبديه في القصة، ويعودان زمنيًّا إلى بدء حكاية القصص.
ولقد كان أحد المكونات الثابتة في الرومانس التقليدية، مثلًا، هو اللغز المتعلق بأصول الشخصيات وأسرتها، الذي كان يُحلُّ دائمًا لصالح البطل أو البطلة أو كليهما؛ وهي حبكةٌ استمرَّت في أعماق القصة في القرن التاسع عشر، كما أنها لا تزال شائعة في القصص الشعبي اليوم (وتنحو القصة الأدبية إلى استخدامها استخدامَ المحاكاة التهكمية، كما في رواية أنتوني بيرجيس «م/ف»، أو روايتي «عالم صغير»)، وقد استغل الروائيون الفيكتوريون مثل «تشارلز ديكنز» و«ويلكي كولنز» اللغزَ فيما يتصل بالجرائم وانتهاك القانون، مما أدَّى إلى خلق نوع أدبي فرعي مستقل: الرواية البوليسية الكلاسيكية عند «آرثر كونان دويل» ومَن تبعه.
وحين يتمُّ في النهاية حلُّ اللغز، فإن ذلك يُعيد الطمأنينة إلى القُرَّاء؛ إذ يؤكد انتصارَ العقل على الفطرة؛ النظام على الفوضى، سواء كان ذلك في قصص «شرلوك هولمز»، أو في دراسة الحالات التي يقدِّمها «سيجموند فرويد»، والتي تحمل شَبهًا غريبًا ومريبًا بالقصص البوليسية؛ هذا هو السبب في أن اللغز هو أحد المكونات الدائمة في القصص الجماهيرية، مهما كان الشكل الذي تُقدَّم فيه، قصص نثري أو أفلام أو مسلسلات تليفزيونية. وعلى النقيض من ذلك، فإن الروائيِّين الأدبيِّين المحدَثين، إذ لم يرضوا عن الحلول المنمَّقة والنهايات السعيدة، فقد نحَوا إلى تطعيم ألغازهم بهالة من الغموض، ثم تركها بغير حل، فنحن لا نكشف على وجه اليقين، ما عرفَته ديزي عن مغامرات أقاربها الكبار الجنسية، أو ما إذا كان «كيرتز»، الشخصية التي ابتدعها كونراد في روايته «قلب الظلمات»، هو بطل تراجيدي أم شيطان في هيئة إنسان، أو أي من النهايتَين البديلتَين لرواية جون فولز «عشيقة الضابط الفرنسي» هي النهاية «الحقيقية».
وقصة كبلنج «مسز باتهيرست» مثالٌ شهير على مثل ذلك النص، وهي مهمة بصفة خاصة لكونها من نتاجِ كاتبٍ له جمهورُه العريض من القُرَّاء، ولا بدَّ أن الكثيرين منهم قد شعروا بالحيرة والضيق من معمَّياتها المسهبة غير المحلولة، وهي تُظهر بنفس الطريقة، أن مؤلِّفَها كاتبٌ يتميز بالحساسية الذاتية والبراعة الفنية والتجريب، أكثر مما يعتقد الآخرون.
والقصة تحدث في جنوب أفريقيا بعد قليل من نهاية حرب البوير، وتتعلق بالاختفاء الملغز لبحَّار بريطاني يُدعَى «فيكري»، وكُنيته «كليك» نسبةً إلى صوت «التكتكة» الذي يصدر عن طاقم أسنانه غير المناسب لفكِّه، وتظهر الوقائع القليلة المعروفة عن الموضوع تدريجيًّا في سياق حديث بين أربعة رجال، يلتقون مصادفةً في محطة للسكك الحديدية بالقرب من شاطئ «كيب تاون». وهم: «بايكروفت» زميل فيكري في السفينة، ورقيب بحري يُدعى «بريتشارد»، ومفتش قطارات يُدعى هوبر، وراوٍ باسم «أنا» مجهول الهوية (وهو كبلنج نفسه، ضمنًا) يقوم بصياغة القصة بأن يصفَ ظروف لقائهم ويُدلي بحديثهم، ويصف بايكروفت كيف أصرَّ فيكري، في الأيام التي سبقَت اختفاءَه مباشرة، على اصطحابه بكثرة ملحَّة، لمشاهدة شريط سينمائي إخباري، وهو جزء من برنامج ترفيهي متنقل يحمل اسمَ «سيرك فيليس»؛ لأن ذلك الشريط يتضمن لمحة عابرة لامرأة تهبط من قطار في محطة بادنجتون. وهذه المرأة هي أرملة اسمها مسز باتهيرست، يعرفها أيضًا بايكروفت وبريتشارد بوصفها صاحبة مشرب ودود في نيوزيلندا، وكان فيكري فيما يبدو، قد أجرم في حقِّها على نحوٍ ما على الرغم من أن شخصيتها، كما يشهد بريتشارد، «لا شية فيها»، والوصف الممتاز الذي يُورده بايكروفت (أي كبلنج) لتلك الشذرة السينمائية — وهي أول فيلم يراه في حياته — هو من أول الشروح الأدبية للسينما، ويوجز الطابع المراوغ للبِّ القصة: «ثم فُتحت الأبواب وخرج الركَّاب وحمل الشيالون الحقائب — تمامًا كما يحدث في واقع الحياة، ما عدا — ما عدا حين يأتي أحدُهم ماشيًا ويقترب منَّا نحن الذين نشاهده؛ إذ إنه كان يخرج من فوره من الإطار. وتبرز مسز باتهيرست ببطء من وراء اثنين من الشيالين، حاملةً حقيبةَ يد صغيرة وتتلفَّت من جانب لآخر، لا يمكن أن تُخطئَ العين مشيتَها من بين ألفٍ من النساء، وهي تتقدم إلى الأمام، وتنظر إلينا تلك النظرة المغمضة التي أشار إليها «بريتشارد». وواصلَت المشيَ قُدُمًا حتى ذابَت خارج الصورة — مثل — مثل ظلٍّ يقفز فوق شمعة …»
وفيكري، الذي يجزم بأن مسز باتهيرست «تبحث عنه»، ينتابه الاضطرابُ من هذا المنظر المتكرر لدرجةٍ تُصيب رئيسه بالقلق، فيُرسله وحده إلى مهمة على البر، فلا يعود منها أبدًا، وفي القطعة المقتبسة، يصف بايكروفت آخرَ مرة رأى فيها فيكري، حين اصطحبه إلى البر، ويعرض لغزَ اختفائه.
ومن المستحيل تصويرُ أثرِ اللغز باقتباس واحد قصير؛ لأنه يتغذَّى في الواقع بتيار منتظم من الإشارات والدلائل والمعلومات المحيرة. وفي حالة رواية «مسز باتهيرست»، هناك تعمية إضافية عن «ماهية» اللغز الرئيسي؛ فالإطار القصصي للِقاء الرجال الأربعة، ومزاحهم ومناقشاتهم وذكرياتهم المليئة بالنوادر المطولة، تحتلُّ فيما يبدو حيزًا نصيًّا أكبر من قصة فيكري. أما القطعة المقتبسة؛ حيث يجري شرحُ لغز اختفائه في صورة جليلة، والتي كان يجب أن تأتيَ قريبة من البدء، لو كان الأمر يتعلق بإحدى قصص «شرلوك هولمز»، فهي تَرِد في الواقع قريبة جدًّا من النهاية في رواية «كبلنج».
وكما أن «فيكري» يذكر جريمة القتل كيما يُعلن براءتَه منها فحسب، فإن «كبلنج» يذكر الروايةَ البوليسية كيما يُقصي نفسَه عنها فحسب. ويمتلك «المفتش» هوبر (ويمكن أن يختلط اللقبُ بلقبِ رجل شرطة) في جيب صديريته طاقمًا من الأسنان الصناعية، عُثر عليه في إحدى جثتَين اكتُشفتَا محترقتَين عقب حريق في غابة أشجار في صعيد البلاد، ويبدو هذا دليلًا من أدلة الطب الشرعي على موت فيكري. ويقول هوبر: «الأسنان الصناعية أشياء تبقى على الدوام، ونحن نقرأ عنها في جميع محاكمات جرائم القتل.» ولكن الراوي يذكر في نهاية القصة أن «هوبر» قد «أخرج يده من جيب صديريته فارغة»، ورغم أن ذلك قد عُلل بأنه يرجع إلى لياقة «هوبر»، فإن اليد الفارغة ترمز أيضًا إلى الإحباط الذي يشعر به القارئ نتيجة عدم معرفته لحل اللغز، وحتى لو أننا قَبِلنا التحقق من هوية «فيكري»، وقصة النهاية التي لاقاها، فإننا لا نعرف العمل الذي دفعه إلى هذه النهاية، أو هوية الجثة الثانية التي وُجدت إلى جواره (وقد ناقش الكثيرُ من الأساتذة تلك الأسئلة، وقدَّموا إجابات مبتكرة، وأحيانًا غريبة، ودائمًا غير قطعية، لها)؛ ذلك أن فيكري، مثله مثل مسز باتهيرست في الشريط السينمائي الإخباري، قد ذاب من الصورة، قفز خارجًا من إطار القصة، ولا يمكن التوصل إلى الحقيقة النهائية بشأنه.
ولماذا يداعب كبلنج قُرَّاءَه على هذا النحو؟ أعتقد أن السبب هو أن رواية «مسز باتهيرست» هي في جوهرها ليست روايةَ ألغاز على الإطلاق، بالمعنى المعروف عن هذه الروايات، بل هي مأساة؛ فالاستشهاد الذي يقتبسه فيكري من مسرحية «هملت» وكان آخرَ ما تنطق به شفتاه في القصة «والبقية هي الصمت»، وصدى مسرحية الدكتور فاوست لكريستوفر مارلو (لأن هذه هي جهنم وأنا لست خارجها) في عبارته التي وردت من قبل «أما أنا، فإنها حياتي»، هما مثالان من بين إشارات عديدة للمأساة الخالصة في القصة، ويقوم «كبلنج» هنا، كما في غيرها من المواضع ببيان أن الناس البسطاء، الذين لا يُحسنون الكلام المنمَّق، ويلبسون طاقم أسنان لا يلائم فكَّهم، يمرون هم أيضًا بانفعالات حادة وعواطف عنيفة وشعور بالإثم يُقعد المرءَ عن التصرف، وأن أعظم لغز على الإطلاق هو الطبيعة الإنسانية.