تيار الوعي
قالت «مسز دالواي» إنها ستشتري الزهور بنفسها؛ لأن لوسي لديها ما يكفيها من أعمال، سيتعين خلعُ الأبواب من مفصلاتها؛ رجال شركة «ربتلمبر» سيحضرون. والآن جال في ذهن «كلاريسا دالواي» يا لَه من صباح مشرق كأنه قد خُلق للأطفال على الشاطئ!
يا لَها من نشوة! يا لَه من انطلاق! لأن هذا هو ما بدَا لها دائمًا حين قامت في «بورتون» بفتح نافذة الشرفة على مصراعَيها، واندفعَت إلى الهواء الطلق، محدثةً صريرًا خافتًا من المفصلات يمكنها سماعه الآن، كم كان الهواء في الصباح الباكر منعشًا، كم كان هادئًا، أكثر هدوءًا مما هو عليه الآن بالطبع، مثل رفيف الأمواج، مثل قبلة الأمواج صافيًا ومنعشًا، وإن كان في نفس الوقت (بالنسبة لفتاة في الثامنة عشرة هو عمرها في ذلك الوقت) جليلًا؛ وهي تقف أمام النافذة المفتوحة، وتشعر أن شيئًا مروعًا على وشك أن يقع؛ تنظر إلى الزهور، والأشجار، والدخان ينحرف عنها، والغربان ترتفع وتهبط، تقف وتتطلع حتى هتف بها بيتر وولش «تحلمين وسط الخضراوات؟» — أكان هذا ما قال؟ أو «إني أفضِّل صحبة الناس على صحبة القرنبيط» — أكان هذا ما قال؟ لا بدَّ أنه قال تلك العبارة عند الإفطار ذات صباح حين خرجَت إلى الشرفة — بيتر وولش. سيعود من الهند يومًا ما، في يونيو أو يوليو، نسيت أي شهر منهما؛ ذلك أن خطاباته كانت مثيرةً للملل. يذكر المرء أقواله: عينَيه، مطواته، ابتسامته، تكشيرته؛ وحين تختفي ملايين الأشياء من الذاكرة — يا لَلغربة — تقفز عبارات مثل هذه عن الكرنب.
«تيار الوعي» عبارةٌ صكَّها «ويليام جيمس»، عالِم النفس شقيق الروائي «هنري جيمس» ليميز بها الانسياب المتواصل للفكر والإحساس في العقل البشري، ثم استعارها بعد ذلك نقَّادُ الأدب لوصف نوعٍ معيَّن من القصص الحديث حاول تقليد هذه العملية، قام به كُتَّاب منهم جيمس جويس ودوروثي ريتشاردسون وفيرجينيا وولف.
وقد اتصفَت الرواية بطبيعة الحال بطريقتها الداخلية في عرض التجربة، ويمكن لعبارة «أنا أفكر إذن فأنا موجود» أن تكون شعارًا لها، على الرغم من أن تفكير الروائي لا يشمل منطقَ العقل فحسب، بل يتعدَّاه إلى انفعالاته وأحاسيسه وذكرياته وخيالاته؛ ولذلك فإن مَن قدَّموا قصَّة حياتهم في روايات «دانييل ديفو»، وحرَّروا خطاباتِهم في روايات صمويل ريتشاردسون — حين كانت الرواية في فجرها بوصفها شكلًا أدبيًّا — كانت قد تسلَّطت عليهم فكرةُ الغوص في أغوار النفس، وقد جمعت رواية القرن التاسع عشر الكلاسيكية — من «جين أوستن» إلى «جورج إليوت» — بين تصوير شخصياتها بوصفهم كائنات اجتماعية، وتحليل دقيق ومرهف لحياتهم الداخلية، الأخلاقية منها والعاطفية. بَيْد أنه مع مطلع القرن العشرين (وبوسعك أن ترى هذا عند هنري جيمس)، زاد البحث عن الواقعية في الوعي الذاتي الخاص للنفوس المفردة، العاجزة عن توصيل جماع تجربتها للآخرين، ولقد قيل إن رواية تيار الوعي هي التعبير الأدبي للأحادية الفردية، وهي العقيدة الفلسفية القائلة بأنه ما من شيء حقيقي مقطوع به سوى وجود الفرد الذاتي؛ ولكن بوسعنا على المنوال نفسه، أن ندفع بأنها تقدِّم لنا بعض التخفُّف من تلك الفرضية المثبطة، حين تقدِّم لنا مدخلًا إبداعيًّا للحيوات الداخلية لأشخاص آخرين، حتى ولو كان هؤلاء الأشخاص من نسج الخيال.
ولا شك أن هذا النوع من الرواية ينحو إلى توليد التعاطف مع الشخصيات التي تعرض داخليات نفسها للأنظار، مهما بدَت أفكارهم أحيانًا جوفاء أو أنانية أو دنيئة، وبعبارة أخرى، إن الانغمار المستمر في ذهن شخصية غير جذابة بالمرة، هو أمر لا يحتمله لا المؤلف ولا القارئ، ورواية مسز دالواي حالة مثيرة للاهتمام بوجه خاص في هذا السياق؛ لأن بطلتَها قد ظهرَت أيضًا كشخصية ثانوية في أول رواية كتبَتها فرجينيا وولف، وعنوانها «الرحلة إلى الخارج» (١٩١٥م)، وفيها تستخدم الكاتبة سردًا تقليديًّا بلسان المؤلف، كيما تعطيَ صورة غاية في السخرية والتحيز «كلاريسا دالواي» وزوجها بوصفهما من أعضاء الطبقة العليا البريطانية المتعالين والرجعيِّين. فهاك مثلًا، مسز دالواي في صورتها الأولى تُعِد نفسها للتعرُّف على أستاذٍ يُدعى أمبروز وزوجته: وجاهدت مسز دالواي ورأسها مائلٌ قليلًا لتتذكر أمبروز؛ هل هذا لقبه؟ ولكنها فشلَت، كان ما سمعَته قد أقلقها بعضَ الشيء، كانت تعرف أن الأساتذة يتزوجون أي فتاة/فتيات قد التقَوا بهن في الضَّيعات أثناء حفلات المطالعة، أو نسوة صغيرات من سكان الضواحي يقُلنَ بلهجة خشنة: «أعرف طبعًا أنك تريد زوجي وليس أنا.» ولكن هيلين جاءت في تلك اللحظة، وارتاحت «مسز دالواي» أن رأَتها، وأنها كانت، رغم بعض الغرابة في مظهرها، لا تفتقر إلى الهندام، وحسنة التصرفات، وفي صوتها شيءٌ من التحفظ، وهذا كلُّه علامة على أنها سيدة بمعنى الكلمة.
فنحن نرى ما تفكر فيه مسز دالواي، بَيْد أن الأسلوب الذي ينقل أفكارها يضعها موضعَ التهكم، ويُصدر حكمًا صامتًا عليها، وهناك دلائل على أن فيرجينيا وولف، حين بدأَت تكتب مرة أخرى عن هذه الشخصية، كان غرضها من وراء ذلك في أول الأمر نقْلَ الصيغة نفسها شبه التهكمية؛ ولكنها كانت قد التزمَت في ذلك الوقت برواية تيار الوعي، وقادَتها هذه الصيغة لزامًا إلى تصوير مسز دالواي في صورة أكثر تعاطفًا بكثير. وهناك طريقتان فنيَّتان ثابتتان لتقديم الوعي في القصص النثري، أُولاهما المونولوج الداخلي، وفيه يصبح الموضوع النحوي للخطاب هو «أنا»، أما نحن فنسترق السمع على الشخصية وهي تنطق بأفكارها حين تَرِد هذه الأفكار على ذهنها، ولسوف أبحث تلك المسألة في الفصل التالي. أما الطريقة الثانية، التي تُسمَّى الأسلوبَ الحر غير المباشر، فهي ترجع على الأقل إلى أيام «جين أوستن»، ولكنَّ الروائيين المحدَثين أمثال وولف، استخدموها ببراعة متزايدة وعلى نطاق يتزايد اتساعًا. وهذه الطريقة تقدِّم الأفكار على هيئة حديث يُسرد (في صيغة الغائب وفي الزمن الماضي)، ولكنها تلتزم بالكلمات التي تناسب كل شخصية، وتحذف عبارات تقليدية، مثل «جال في فكرها»، أو «تساءلت» أو «سألت نفسها»، وغيرها من العبارات التي يتطلبها أسلوبٌ سردي أكثر مراعاة للأصول، وهذا يخلع على النص وهْمَ الاقتراب اقترابًا أكثر حميمية من ذهن الشخصية، ولكن دون حذف المؤلف في الخطاب حذفًا كاملًا.
وعبارة «قالت مسز دالواي إنها ستشتري الزهور بنفسها» هي أول جملة في الرواية؛ بيان مؤلف يسرد، بَيْد أنه بيان غير شخصاني ومبهم؛ فهو لا يشرح مَن هي مسز دالواي أو لماذا هي في حاجة إلى الزهور، وهذا الزجُّ المفاجئ للقارئ في وسط حياة قائمة (فنحن نضع تدريجيًّا القِطَع المتناثرة هنا وهناك لمعرفة سيرة حياة البطلة عن طريق الاستنتاج) يتميز بتقديم الوعي بوصفه «تيارًا». أما الجملة التالية «لأن لوسي لديها ما يكفيها من أعمال» فهي تنقل بؤرة القصة إلى ذهن البطلة باستعمال الأسلوب الحر غير المباشر، بحذف علامة من علامات تدخُّل المؤلف المتطفل، مثل عبارة «خطر على بال مسز دالواي». أما الإشارة إلى الخادمة باسمها الأول دون كلفة، كما لا بدَّ أن تفعل مسز دالواي، بدلًا من ذكْر وظيفتها، واستخدام تعبير دارج عرضي مثل «لديها ما يكفيها»، فإن ذلك يعود إلى الأسلوب الذي تتَّبعه مسز دالواي عادةً في كلامها، والجملة الثالثة تنتمي إلى الشكل نفسه، أما الرابعة فهي تعود قليلًا إلى طريقة سرد المؤلف كيما تُخبرَنا بالاسم بالكامل للبطلة، وبسرورها من الصباح الصيفي الجميل، «والآن، جال في ذهن كلاريسا دالواي، يا لَه من صباح مشرق كأنه قد خُلق للأطفال على الشاطئ». والصيحتان التاليتان: «يا لَها من نشوة! يا لَه من انطلاق!» تبدوان في الظاهر مونولوجًا داخليًّا، بَيْد أنهما ليستا استجابةَ البطلة وقد نضجَت في السن لذلك الصباح في وستمنستر حيث خرجت لشراء الزهور، إنها تتذكَّر نفسها في سنِّ الثامنة عشرة وهي تتذكَّر نفسها حينما كانت طفلة. أو بمعنى آخر، فإن صورة «مشرق كأنه قد خُلق للأطفال على الشاطئ» التي أثارها صباح وسنستمر، تُعيد إلى ذاكرتها كيف أن استعاراتٍ مماثلة عن الأطفال الذين يلهون في البحر، سوف تَرِد على الذهن حينما «اندفعت» في الهواء المنعش الهادئ للصباح الصيفي، «مثل رفيف الأمواج؛ مثل قبلة الأمواج»، في بورتون (وهو على ما نظن بيت في الريف)، حيث تقابل شخصًا يُدعى بيتر وولش (وهي أول بادرة تُنبئ بتكوين قصة). ويختلط الحقيقي بالمجازي، والحاضر بالماضي على نحوٍ لا فِكاكَ منه، ويؤثر الواحد منهما في الآخر في العبارات الطويلة الملتوية، وكل فكرة أو ذكرى تبعث أخرى وراءها، وعلى مستوى الواقع، لا تستطيع كلاريسا دالواي أن تثقَ في ذاكرتها: «تحلمين وسط الخضراوات؟» أكان هذا ما قال؟ أو «إني أفضل صحبة الناس على صحبة القرنبيط.» أكان هذا ما قال؟
وقد تكون العبارات ملتوية حقًّا، بَيْد أنها — باستثناء رخصة الأسلوب الحر غير المباشر — حسنةُ التكوين وذات إيقاع جميل. فلقد سرَّبت فرجينيا وولف بعضًا من بلاغتها الغنائية في تيار وعي «مسز دالواي» دون أن يكون ذلك واضحًا، قم بتحويل العبارات التالية إلى ضمير المتحدث تجد أنها قد أصبحَت مغرقة في الصفة الأدبية، وستُعتبر تفريغًا على الورق للأفكار العابرة لإحدى الشخصيات، ستُصبح بالفعل «كتابة» حقة، في أسلوب منمَّق نوعًا ما، عن ذكريات بصورة السيرة الذاتية:
يا لَها من نشوة! يا لَه من انطلاق! لأن هذا هو ما بدا لها دائمًا حين قامَت في «بورتون» بفتح نافذة الشرفة على مصراعَيها واندفعَت إلى الهواء الطلق، محدثةً صريرًا خافتًا من المفصَّلات يمكنها سماعُه الآن، كم كان الهواء في الصباح الباكر منعشًا، كما الأمواج مثل قبلة الموجة صافيًا ومنعشًا، وإن كان في الوقت نفسه (بالنسبة لفتاة في الثامنة عشرة وهو عمرها في ذلك الوقت) جليلًا؛ وهي تقف أمام النافذة المفتوحة، وتشعر أن شيئًا مروعًا على وشك أن يقع.
وأنا أعتقد أن المونولوج الداخلي في رواية «فرجينيا وولف» اللاحقة «الأمواج» يعاني من هذه الصنعة الزائفة، ولقد قام «جيمس جويس» بتقديم عرض أكثر تنويعًا لتلك الطريقة في تصوير تيار الوعي.