مقدمة المترجم
قد يبدو أن كتابًا عن الفلسفة الإنجليزية، من تأليف كاتبٍ ألماني، ليس أفضل الكتب
التي
يمكن أن تترجم في هذا الموضوع، غير أن هذا الازدواج ذاته من أهم ميزات هذا الكتاب؛
ذلك لأن
مجرد كون مؤلف الكتاب ينتمي إلى بلدٍ غير ذلك الذي كتب عنه، يتيح له النظر إلى الأمور
بطريقةٍ نقديةٍ موضوعية يصعب أن تتوافر فيمن يكتب عن فلسفة بلاده هو؛ وذلك لأسباب
واضحة؛
فالمؤلف هنا محايد لا ينتمي إلى أي مذهب من المذاهب التي يعرض لها، أو إلى أية مدرسة
يؤرِّخ
لها، فضلًا عن أن السمات العامة للتفكير الإنجليزي تظهر له بوضوحٍ أكثر مما يمكن أن
تظهر به
لواحد من ممثلي هذا التفكير ذاته، هذا من الناحية العامة، أما من الناحية الخاصة فإن
للمؤلف
علمًا غزيرًا بموضوع الفلسفة الإنجليزية على التخصيص، بل إنَّا نستطيع أن نقول إنه
كرَّس
حياته كلها للتأريخ لها، فله أيضًا كتاب بالألمانية عن حياة باركلي وتعاليمه G-Berkeley, Leben Und Lehre (شتوتجارت،
مكتبة Frommann في سنة ١٩٢٥) وآخر عن ديفد هيوم، حياته وفلسفته D. Hume, Leben Und Philosophie (بنفس
المكتبة، سنة ١٩٢٥) وله قائمة بمراجع الفلسفة الإنجليزية بعنوان الفلسفة الإنجليزية
الحالية Englische Philosophy der Gegenwart في
سلسلة أبحاث في ميدان
الفلسفة Berichte aus dem Gebiele Der Philosophie العدد ٢٣، ومقال بالفرنسية بعنوان أصدقاء هيوم الفرنسيون
وحركة الأفكار Les amitiés françaises de Humeetle Mouvement des Idèes في «مجلة
الأدب المقارن Revue de Littérature comparée ١٩٢٩» ص٦٤٤–٧١٣، ومقال بالإنجليزية عن الاتجاهات الأخيرة في التفكير
الأخلاقي Recent Trends in Ethical thought في مجلة Philosophy ١٩٣٩، العدد
١٤، ص٢٩٩–٣١٢، ومن هذا الإنتاج الهام، المتخصص، يتضح لنا أن المؤلف أصلح من يكتب في
هذا
الموضوع.
وفضلًا عن ذلك فإن الكتاب — كما يقول المؤلف في مقدمته — يمثل محاولة للتفاهم بين
الألمان
والإنجليز في وقت كان البَلَدان فيه أحوج ما يكونان إليه، ومن المؤكد أن حدس المؤلف
في هذا
الصدد كان صادقًا، ولكن المحاولة — شأنها شأن محاولاتٍ أضخمَ بكثير في مجالاتٍ أخرى
أهم —
قد أخفقت، ونشبت الحرب العالمية الثانية في العام التالي لنشر الترجمة الإنجليزية
لكتابه،
وضيعت جزءًا كبيرًا من مجهوده؛ إذ إن إعادة التفاهم الثقافي بين البلدَين قد استغرق
وقتًا
طويلًا، وعندما بدأت مظاهر هذا التفاهم تعود ثانية إلى الأفق كان الجو الفلسفي في
إنجلترا
قد تغيَّر إلى حدٍّ بعيد، بحيث لم يعد الكتاب يعبر عن آخر الاتجاهات المعاصرة في التفكير
الإنجليزي تعبيرًا كاملًا.
على أن محاولة المؤلف أن يكون موضوعيًّا تمامًا في بحثه للفلسفة الإنجليزية لم تكن
في
رأينا ناجحة كل النجاح، وما أظن أن أي مؤلف غيره كان قادرًا على أن يُحرز في هذا المضمار
نجاحًا أكبر مما أحرز؛ فرغم حرصه الشديد على النزاهة والموضوعية، يستطيع القارئ المدقِّق
أن
يلمس مَظهرَين للتحيُّز، يُعبِّران دون شك عن ميولٍ شخصية لا يستطيع أي كاتب أن يخفيها
تمامًا مهما بذل في ذلك من جهد؛ الأول هو حرصه على إظهار أهمية تأثير الفلسفة الألمانية
في
الفكر الإنجليزي، والثاني هو ميله إلى الطريقة التأملية الخالصة في التفكير الفلسفي،
وإلى
تشييد المذاهب الفكرية الشاملة، في مقابل الطريقة الجزئية الواقعية في التفكير، والْتماس
الحلول الجزئية المدققة مع تجنب الإفراط في التعميم.
أما المظهر الأول — وهو حرصه على إظهار أهمية المفكرين الألمان — فيظهر أوضح ما يكون
—
بطبيعة الحال — في الفصل الخاص بالتفكير المثالي، ففي هذا الفصل حرص على تفنيد قضية
«مويرهيد» وغيره، القائلة: إن بذور المثالية كانت موجودة في التفكير الإنجليزي على
الدوام،
واتَّجه همه إلى إثبات أن الحركة المثالية الجديدة كانت مستوردة تمامًا من ألمانيا،
مع
تكييفها بما يلائم الظروف المحلية بالطبع (انظر بوجهٍ خاص صفحتَي ٥٣٠ و٥٣١ من الطبعة
الإنجليزية). وقد يكون لرأيه هذا ما يبرره من الوجهة التاريخية، غير أن المرء عندما
يلاحظ
تمجيده لشخص مثل «سترلنج» وتسميته إياه «رائدًا» في الوقت الذي قَضَى فيه سترلنج الجزء
الأكبر من حياته يحاول فهم فيلسوفٍ ألماني هو هيجل، فإنه لا يملك إلا أن يشعر بتأثير
اعتزاز
المؤلف بفلسفته القومية الألمانية من جهة، وبوجود نوع (قد يكون لا شعوريًّا) من الحطِّ
من
شأن الفلسفة الإنجليزية، حين يصبح أحد «روادها» مجرد شارحٍ غير كامل لهيجل!
وأما الموضوع الثاني — وهو تمجيد الفكر التأملي على حساب الفكر التحليلي — فهو واضح
في كل
أجزاء الكتاب؛ إذ إن تحمس المؤلف كله إنما ينصبُّ على من تميزوا «بالجرأة» من المفكرين
الإنجليز، فتعالت شطحاتهم على التجربة، وأصدروا على الكون كله أحكامًا عامةً قطعية،
دون أن
يعْبَئوا على الإطلاق بتحقيق هذه الأحكام، ولقد قدَّم لنا المؤلف وصفًا رائعًا لرأيه
في
الفلاسفة التحليليين، الذين يهتمون بمشاكلَ جزئية ويدققون النظر فيها حتى تغيب عنهم
الأمور
الكلية تمامًا، في كلامه عن الفيلسوف، «برود G. D. Broad»
الذي اتخذه ممثلًا لهذا «النمط» التحليلي في التفكير؛ ففي ص٦٦٣ و٦٦٤ (من الأصل الإنجليزي)
وصفٌ بديع، حافل بالسخرية الخفية، من هذا النمط من المفكرين، الذي ينافس الآلات في
موضوعيته
ودقته و«بروده»، وهو وصفٌ يستحيل أن يصدر عن مفكرٍ إنجليزي، بل يعبر بوضوح عن رأي
العقلية
الألمانية الصوفية في النزعة التحليلية الأنجلوسكسونية المعاصرة.
وعلى أساس هذا الميل الطبيعي لدى المؤلف، اتخذت نبوءاته عن مستقبل الفلسفة الإنجليزية
وِجهةً خاصة كانت في واقع الأمر تعبيرًا عما يريده هو أن يكون، ولكنها جاءت مخالفة
تمامًا
للواقع، فبعد مُضِي ربع قرن على نشر الطبعة الإنجليزية لهذا الكتاب، نستطيع أن نقول
إن
نبوءته لم تتحقق على الإطلاق، فهو يأمل — في هامش ص٥٣٦ (من الطبعة الإنجليزية) — أن
يكون
الاتجاه التحليلي الذي بدأ يظهر بقوة في ذلك الحين وعْكَة طارئة a passing distemper، ويرى في المذاهب التأملية عند «مورجان» وألكسندر دليلًا
على أن الفلسفة الإنجليزية بدأت تعود إلى مجال التحليق التأملي، وتتخلى عن اللاأدرية
وعن
النزعة التحليلية المفرطة التي كانت تبدو شائعة في ذلك الحين (انظر ص٦٦٢ من الأصل
الإنجليزي)، ومع ذلك فإن عكس هذه النبوءة هو الذي تحقق؛ إذ إن المفكرين التأمليين
من أصحاب
المذاهب، مثل ألكسندر وهويتهد، كانوا هم «الوعكة العارضة»، إذا تأملنا تاريخ الفلسفة
الإنجليزية في مجموعه، واشتدت النزعة التحليلية قوة حتى أصبحت تسيطر على الدراسات
الفلسفية
في إنجلترا وأمريكا سيطرةً شبه تامة، وأصبح كثير من الكتب الفلسفية يبدو — على حد
التعبير
الساخط للمؤلف — أشبه بكتبٍ مدرسية في الرياضة، وهي كلها أمور كان المؤلف يتمنى في
قرارة
نفسه ألَّا تحدث.
وأخيرًا، ينبغي أن نُنبِّه القارئ إلى بعض العيوب التي يبدو أنه لم يكن من ظهورها
في
الكتاب بُد، سواء في طبعته الإنجليزية وفي ترجمته العربية، فالكتاب يتوقف عند سنة
١٩٢٨ على
الأكثر، ومعنى ذلك أنه لا يُقدِّم أي بيان عن اتجاهاتٍ هامةٍ متعددة ظهرت بعد ذلك
الحين،
والأهم من ذلك أنه يتوقف بالفلاسفة أنفسهم عند سنة ١٩٣٨، بحيث تجاهل الإنتاج اللاحق
لأولئك
الذين ظلوا منهم أحياءً بعد ذلك، ولم يكن في وسعنا، ونحن نقوم بالترجمة العربية، أن
نكمل
هذا النقص إلا إذا تصرَّفنا في الكتاب على نحو يُخلُّ بطابعه الأصلي؛ لذلك تركنا كل
شيء على
ما هو عليه، فيما عدا بعض الملاحظات الهامشية البسيطة، ولا سيما ذكر تواريخ وفاة المؤلفين
الذين توفوا فيما بين ١٩٣٨ ووقتنا الحالي، حتى لا يظن القارئ أنهم ما زالوا أحياء،
كذلك
أضفنا بعض الشروح الموجزة لبعض المسائل التي افترض المؤلف في القارئ العلم بها مقدمًا،
وقد
لا تكون مألوفة لدى القارئ باللغة العربية، فضلًا عن بعض الترجمات الموجزة لشخصيات
ليست
كبيرة حتى يعرفها كل قارئ في ميدان الفلسفة، ولم يَرد لها شرح في النص أو في السياق،
ولكن
لا يفوتني هنا أن أوجِّه انتقادًا عابرًا إلى الناشرين الإنجليز الذين أعادوا طبع
الكتاب
سنة ١٩٥٠؛ فصحيح أن من المستحسن في بعض الأحيان نشر الكتب الهامة دون إدخال تعديل
عليها حتى
رغم اقتضاء الظروف إدخال هذا التعديل، غير أن إضافة ملحق أو بعض الهوامش — وذلك على
الأقل
لإيضاح من بقي حيًّا أو من توفِّي من الفلاسفة الذين تناولهم الكِتاب — لم يكن ليضيف
الكثير
إلى نفقات الطباعة، ولكنه كان على الأقل كفيلًا بتجنيب القارئ صورةً مشوهة لأحوال
الفلسفة
الإنجليزية سنة ١٩٥٠، ومن المظاهر الغريبة أن هامش ص٤١ من الأصل الإنجليزي تضمن إشارة
إلى
كتاب «سيظهر قريبًا» عن الفلسفة الاسكتلندية، ثم ظهر اسم الكتاب في ص٧٧٩ على أنه صدر
فعلًا
(سنة ١٩٣٨)، ويزداد العجب إذا أدركنا أن هذا الكتاب الذي تحدث عنه الهامشان من تأليف
أحد
المترجمين الإنجليز الثلاثة للكتاب الأصلي، أي إن هذا المُترجِم كان يستطيع على الأقل
التنبيه إلى هذا التضارب في الإشارة إلى كتابه، أو يُنبِّه الناشر إلى تصحيحها في
الطبعة
التالية على الأقل.
ويشعر المرء بحاجة الكتاب إلى الاكتمال في حالة المفكرين المعاصرين، بوجهٍ خاص (ومن
هنا
كان الأحكم دائمًا — في رأيي — ألا تؤلَّف كتب التواريخ الجامعة هذه إلا بعد وفاة
الشخصيات
التي تتحدث عنها، وبعدها بوقتٍ كافٍ أيضًا، حتى تكون كل المؤلفات المخلَّفة ذاتها
قد
نُشِرَت)، ولنأخذ على سبيل المثال شخصية برتراند رسل. فمن المعروف أن كتابات رسل قد
تضاعفت
منذ سنة ١٩٣٨، وصحيح أنه يُكرِّر نفسه كثيرًا، ولكن له أبحاثًا هامة تظهر من حين لآخر،
ولست
أظن أن المرء يستطيع أن ينصف رسل إذا توقف في الحديث عنه عند سنة ١٩٣٨، ويكفي أن يتصفح
المرء قائمة مؤلفاته في سلسلة الفلاسفة
الأحياء Library of Living Philosophers التي يشرف على نشرها «شيلب A. Schilpp»، (وهى القائمة التي تجاوزها رسل بدورها) ليدرك مدى غزارة إنتاجه
بعد هذا التاريخ. والأهم من ذلك أن وقائع حياته ذاتها قد طرأ عليها تغيرٌ حاسم، فموقف
رسل
الأخير من مشكلة نزع السلاح، وتكوينه «لجنة المائة»، وحرصه الدائم على محاربة أي نوع
من
الظلم يقع في أي طرف من أطراف الأرض، وسعيه الإيجابي في سبيل تحقيق هذا الهدف، كل
هذا كفيل
بأن يضيف إلى حياة رسل صفحةً جديدة كل الجدة، تُشرِّف الإنسانية بوجهٍ عام، وتشرف
الفلسفة
على الأخص، وتحقق لها أملًا كانت تحلم به منذ قرونٍ عديدة؛ أمل الاشتراك إيجابيًّا
في حل
المشكلات السياسية والاجتماعية للإنسان، ففي رأيي أن كفاح رسل من أجل السلام ونزع
السلاح،
وكفاح «سارتر» من أجل نفس هذه الأهداف — فضلًا عن قضية استقلال الجزائر — يمثل محاولةً
جدية
لتحقيق حُلمٍ أعرب عنه أفلاطون منذ ما يقرب من خمسة وعشرين قرنًا، وحاول أن يحققه
حينئذٍ
ولكن بطريقةٍ ساذجة أدَّت إلى عكس النتائج المقصودة منه، وما هذا إلا مَثلٌ واحد —
ولكنه
مثل يستحق إشارةً خاصة في هذه المقدمة — لحالة فيلسوف يستحيل إصدار حكم عليه من خلال
ما
أنجزه في أواسط حياته فقط.
وأخيرًا، فقد بقيت كلمةٌ موجزة عن المنهج الذي اتبعتُه في الترجمة العربية؛ ففي هذه
الترجمة حاولت أن أوفِّق بقدر الإمكان بين مطلبَين أساسيَّين: تسلسل لغة الترجمة،
والاقتراب
من النص (وتلك في الواقع هي المشكلة الكبرى في كل ترجمة!) وقد اقتضى الأمر إضافة ترجمات
لمصطلحاتٍ متعددة ليست موجودة على صورةٍ ثابتة في اللغة العربية، أو تغيير ترجماتٍ
شائعة
أعتقد أنها غير سليمة، أو ترك بعض المصطلحات مع كتابتها بالحروف العربية في الحالات
التي
وجدتُ فيها ذلك أمرًا لا مفرَّ منه، وسيجد القارئ خلال النص ذاته ما يقدم لهذه التصرفات
مبرراتٍ كافية.
فؤاد زكريا
القاهرة في سبتمبر ١٩٦٣