تذييل للفصل الثالث
عن الوضعية الإنجليزية التواريخ والكتابات الرئيسية
-
١٨٤٣: كتاب جون ستيوارت مل، «مذهب في
المنطق System of Logic».
-
١٨٤٥-٦: كتاب ج. ﻫ. ليويس، تاريخ الفلسفة من خلال سير
الفلاسفة Biographical Hist of Philosophy.
-
١٨٤٩: زيارة كونجريف Congreve الأولى
لكونت في باريس.
-
١٨٥٣: كتاب ليويس، «فلسفة العلوم الوضعية عند كونت».
-
١٨٥٣: هاريت مارتينو، «الفلسفة الوضعية عند أوجست كونت، ترجمة فيها تصرف
وتركيز» (الطبعة الثالثة، في ثلاثة مجلدات، ١٨٩٦).
-
١٨٥٤: زيارة كونجريف الثانية لكونت.
-
١٨٥٥: زيارة هاريسون لكونت.
-
١٨٥٨: كتاب كونجريف، «ترجمة صلوات الديانة الوضعية وأدعيتها».
-
١٨٦٤: مقال سبنسر، «أسباب
الخلاف مع فلسفة أ. كونت Reasons for dissenting from the Phil. of A. Comte»، (في كتاب مقالات علمية
وسياسية وتأملية نظرية، المجلد الثاني). Essays,
Scientific, Political and Speculative.
-
١٨٦٥: كتاب بريدجز، «نظرة كونت العامة إلى
الوضعية Comte’s General View of Positivism».
-
١٨٦٥: كتاب جون استورات مل، أوجست كونت
والوضعية A. Comte & Positivism.
-
١٨٦٦: كتاب بريدجز، «وحدة حياة كونت ومذهبه، رد على جون استورات
مل The Unity of Comte’s Life and Doctrine, a Reply To J. S. Mill».
-
١٨٦٧: قيام كونجريف بإنشاء الجمعية الوضعية بلندن (مكان الانعقاد ابتداءً
من ١٨٧٠ هو «شارع
تشابل Chapel St».).
-
١٨٦٩: مقال توماس هكسلي، «الأوجه العلمية للمذهب الوضعي في مجلة The Scientific Aspects of Positivism Fortnightly Review».
-
١٨٧٠–١٩٠٠: كونجريف، «مقالات
سياسية واجتماعية ودينية Essays, Political, Social & Religions» (في ثلاثة مجلدات).
-
١٨٧٥–١٨٧٩: «مذهب الفلسفة الوضعية لأوجست كونت» ترجمة بريدجز وهاريسون وبيسلي
وكونجريف.
-
١٨٧٨: انشقاق الحركة إلى جماعتي كونجريف (شارع «تشابل») وهاريسون (قاعة
نيوتن فيما بعدُ).
-
١٨٨١: افتتاح لافيت Laffite لقاعة نيوتن Newton Hall.
-
١٨٨٢: كتاب بريدجز «خمسة مقالات في الدين
الوضعي Five Discourses on Positive Religion».
-
١٨٨٥: كتاب أ. كيرد Caird، «فلسفة كونت
الاجتماعية وعقيدته The Social Phil. & Religion of Comte».
-
١٨٨٧: ج. كوتر موريسون J. Cotter Morison،
«صلاة
الإنسان The Service of Man».
-
١٨٩٢: «التقويم الجديد
للعظماء The New Calendar of Great Men». نشرة هاريسون.
-
١٨٩٣ و١٩٢٥: «المجلة
الوضعية The Positivist Review»، رئيس التحرير بيسلي Besely، ثم س. ﻫ.
سويني Swinny، وأخيرًا ف. ج.
جولد F. J. Gold.
-
١٨٩٩: وفاة كونجريف.
-
١٩٠٦: وفاة بريدجز.
-
١٩٠٧: كتاب بريدجز، «مقالات
وخطب Essays and Addresses».
-
١٩١٥: وفاة بيسلي.
-
١٩١٦: عودة اتحاد الجماعتَين (المكان: شارع تشابل).
-
١٩٢٣: وفاة هاريسون.
إذا ما تركنا جانبًا ذلك المؤثر الأجنبي الذي
كانت له أكبر النتائج على الفكر الإنجليزي في القرن التاسع عشر، وهو المثالية
الألمانية، فمن المؤكد أنه ليس ثمة مذهبٌ آخر كان له ذلك التأثير الباقي الذي كان
للمذهب الوضعي عند أوجست كونت، ولكن هناك مع ذلك فارقًا هامًّا بين مجالَي تأثير
هاتين
الحركتَين الأجنبيتَين؛ فمجال تأثير المثالية كان هو الأوساط الأكاديمية؛ إذ كان
أول
الناس وأقواهم تأثرًا بها هم الفلاسفة المحترفون، الذين اتخذ تفكيرهم بفضلها اتجاهاتٍ
جديدة، أما الوضعية فقد انتشرت بوجهٍ خاص في الأوساط الثقافية العامة في ذلك العصر،
ولم
يكن الفلاسفة المحترفون يحملون لها احترامًا كبيرًا. وفضلًا عن ذلك فإن الوضعية تدين
بالاتساع النسبي لنطاق تأثيرها إلى وجود تنظيماتٍ دقيقة لها، تمشيًا مع روح كونت،
وبذلت
مراكزها التنظيمية جهدًا كبيرًا في نشرها. ورغم ذلك فإن الحركة الوضعية الإنجليزية
لا
تنتمي إلى مجال الفلسفة بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، فمذهب كونت لم يعطِ التفكير
الإنجليزي من القوة الدافعة ما أعطاه إياه مذهبَا كانْت وهيجل، على النحو الذي كان
كفيلًا بإدخال تطور هذا التفكير في مرحلةٍ جديدة، وإنما ظلت الوضعية — حيثما وجدت
قبولًا — مقيدة بنفس الصورة التوكيدية الصارمة التي خلفها عليها مؤسسها. وقد أدى
تحجرها
في عقيدةٍ مدونة على يد تلاميذ هذا الأستاذ — أو على الأصح مريديه — إلى ابتعادها
كل
البعد عما يقتضيه المذهب الفلسفي الأصيل من حيوية وقوةٍ متدفقة. ومن هنا لم يكن من
المستغرب ألا يكون هناك، ضمن صفوف دعاة كونت في إنجلترا، أي ذهنٍ فلسفي من الطراز
الأول، وإنما كان هؤلاء قبل كل شيء متخصصين في العلوم، ورجال أدب، وأشخاصًا من ذوى
النوايا الطيبة الذين رأوا في فلسفة كونت عقيدةً جديدة أحسوا أن من واجبهم نشرها
في
زمنهم. وهكذا فإن الحركة الفلسفية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر (وهي الفترة
التي بلغ فيها نمو الوضعية وازدهارها مداه)، لم تستفد إلا قليلًا، إن كانت قد استفادت
شيئًا على الإطلاق، على الرغم من الحماسة الحقيقية والدعوة الصادقة لأنصارها (وربما
بسبب هذه الحماسة وتلك الدعوة ذاتها)، فقد اقتبست تعاليم كونت على أنها عقيدة ثابتة،
وحفظت على هذا الأساس، ولم يتجاوز الوضعيون أبدًا نطاق التسبيح بحمد أستاذهم وترديد
كلماته المقدسة.
وإذن فالوضعية الإنجليزية ليست مذهبًا جديدًا، بل وليست تفريعًا أو تكملة أو توسيعًا
جديدًا لمذهبٍ قديم، وإنما هي مجرد نقل لجذور فلسفة كونت، أو على الأصح عقيدته، وإعادة
زرعها في تربةٍ غريبة. ومن هنا فسوف نكتفي فيما يلي بافتراض أن محتوى المذهب معروف؛
لأنه هو بعينه مذهب كونت، ونقتصر على إيراد أهم تواريخ هذه الحركة ومراحلها. فمنذ
العقد
الخامس من القرن الماضي، عندما بلغت مكانة كونت قمتها، ارتفعت بعض الأصوات الكبيرة
تشير
إلى الدلالة الفائقة الأهمية لهذا الفيلسوف، وطبيعي أن هذه الأصوات قد صدرت عن تلك
المدرسة الفكرية التي كانت أقرب إلى مذهب كونت بفضل اشتراكها معه في الأصل، أعني
المدرسة التجريبية؛ فالوضعية والتجريبية معًا يرجعان في أصلهما إلى هيوم، بوصفه الأب
الروحي لهما، وقد قال كونت نفسه عن المفكر الاسكتلندي الكبير إنه الممهد الحقيقي
لفلسفته. وهكذا فإن جون ستيوارت مل، الذي كانت له مراسلاتٌ أدبية متصلة بكونت منذ
عام ١٨٤١،
١ قد تحدث في كتابه «المنطق» (١٨٤٣) عن الفيلسوف الفرنسي بوصفه واحدًا من أول
المفكرين الأوروبيين، كذلك أشار ج. ﻫ.
ليويس
G. H. Lewes إلى مكانة كونت في حركة الفلسفة الحديثة، عندما أطلق عليه، في
كتابه «تاريخ
الفلسفة من خلال سير الفلاسفة
Biographical Hist. of Philosophy» (وهو كتاب كان واسع الانتشار، ونشر
لأول مرة في ١٨٤٥-١٨٤٦) لقب أعظم المفكرين المحدثين، وأسمى مذهبه تاج كل التطور الفلسفي
الذي سبقه. وبعد بضع سنوات ألَّف ليويس، الذي كان معجبًا متحمسًا بكونت، كتابًا خاصًّا
عن «فلسفة العلوم الوضعية عند كونت»، ودافع عن وجهة نظر كونت بوسائلَ أخرى، وعن طريقه
اطلعت (جورج إليوت)، التي أصبحت زوجته فيما بعدُ، على تعاليم كونت، وقد كشفت رواياتها
بوضوح عن تأثير كونت، كما لاحظ الكثيرون. وفي نفس العام الذي ظهر فيه كتاب ليويس
عن
كونت، نشرت «هاريت
مارتينو
Harriet Martineau» (١٨٠٢–١٨٧١)، شقيقه جيمس مارتينو، الفيلسوف الديني، ترجمة،
أو على الأصح سردًا وتلخيصًا، لكتاب «دروس
في الفلسفة الوضعية
Cours de Phil. Positive»، وهو تلخيص يعطي عن هذا الكتاب فكرةً عامة لا بأس
بها، بفضل حسن اختياره للأجزاء التي عرضها، وقد قدَّم هذا الكتابُ مؤلَّفَ كونت الأكبر
إلى جمهرة القراء الإنجليز في صورةٍ موجزةٍ شاملة، بعد تنقيته من كل المبالغات الزائفة.
وكانت الجهود المخلصة التي بذلتها الآنسة مارتينو هي التي قدمت كونت فعلًا إلى
الإنجليز، ولفتت إليه أنظار جمهورٍ أوسع. وقد سر كونت ذاته كثيرًا بهذا العرض المحكم
لمذهبه. وقد أعيدت ترجمة الكتاب إلى الفرنسية، وكان له دويٌّ كبير في فرنسا ذاتها،
حتى
إنه ظل وقتًا ما ينافس الكتاب الأصلي في شعبيته.
على أن هناك عاملًا آخر كان له تأثير أهم في نشر أفكار كونت في إنجلترا، هو الإعجاب
الصادق الذي كان مل يشعر به نحو هذه الأفكار. ولم يكن من قبيل المصادفة أن دعا ستيرلنج
إلى فلسفة هيجل بين الإنجليز وكأنه يدعو إلى إنجيلٍ جديد، ونبه مل في نفس العام،
بنفس
القدر من التمجيد، إلى شخصية كونت. كما حدث في هذا العام نفسه (أي ١٨٦٥) أن نشر مل
بين
الجمهور نتيجة خلافه النقدي الكبير مع هاملتن الذي كان أكبر ممثلي المدرسة الاسكتلندية،
فقد كان مل يتابع منذ البداية التطور الفكري للفيلسوف الفرنسي باهتمامٍ عظيم، وقد
اتصل
به مباشرة في مراسلاتٍ مستفيضة، بل لقد قدم إليه معونةً ماليةً سخية في ظروف كان
يمر
فيها بضائقةٍ ماليةٍ شديدة، وقد عرض موقفه من كونت بجميع تفاصيله في كتابه «أوجست
كونت
والوضعية» (١٨٦٥)، الذي أعلن فيه اتفاقه مع فلسفة كونت في سماتها الرئيسية، وقبوله
لمبدأ «الإنسانية» في عقيدة كونت، ولكنه اتخذ موقف الرفض النقدي من الشعائر الغريبة
في
العقيدة الدينية الجديدة التي صيغ فيها هذا المبدأ في نوع من الإيمان الوضعي، وكذلك
من
الاستسلام الساذج للسلطة والمبالغة في تأكيد الغيرية، مما كان يهدد بالقضاء على وحدانية
الفرد وحرية الفكر؛ لذلك رأى الوضعيون المتمسكون في كتاب مل هجومًا على المعنى الحقيقي
لتعاليم كونت، ودخل «بريدجز Bridges» المعركة بكتاب
ألَّفه ردًّا على مل، حاول فيه الدفاع عن وحدة مذهب كونت وحياته.
وبعد أن اكتسب اسم كونت قدرًا معينًا من الشهرة في إنجلترا ازداد ظهور الانتقادات
الموجَّهة إلى مذهبه، مثال ذلك أن مفكرًا مثل سبنسر — الذي كان باعترافه هو ذاته
يدين
بالكثير لكونت — قد اتخذ في سلسلة من المقالات موقف الرفض تجاه أجزاءٍ هامة من تعاليمه
(انظر بوجهٍ خاص «أسباب
الخلاف مع فلسفة كونت Reasons for dissenting from the Phil. of Comte» (١٨٦٤)، وقد ورد هذا المقال في المجلد الثاني
من كتاب «مقالات علمية وسياسية وتأملية»)، كذلك أصدر «هكسلي» بعض التصريحات التي
كانت
ذات لهجةٍ نقديةٍ أشد، فأعلن أن الفلسفة النقدية عند كونت ليست خلوًا من المعنى بالنسبة
إلى العلم فحسب، بل هي معادية للعلم، ووضعها في هذا الصدد مع الكنيسة الكاثوليكية
على
مستوًى واحد، وقد وصف مذهب كونت في عبارةٍ موفقة ذاعت شهرتها إلى حدٍّ بعيد، فقال
إنها
«كاثوليكية مطروحًا منها المسيحية.» وكان في ذلك يرد على صيغة «كونجريف»، التي وصف
فيها
الوضعية بأنها ليست إلا «كاثوليكية مضافًا إليها العلم.»
وقد اشترك في الخلاف الناشب حول كونت مفكرٌ آخر هو «جون رسكين
John Ruskin»
٢ فقد أعلن على صفحات كتابه «
Fors Clavigera»
(الرسالة رقم ٦٧، ١٤ مايو، ١٨٧٦)، معارضته لهاريسون، واحتج باسم الفن والجمال على
عقيدة
الآلات البخارية والمصانع، وعلى الاتجاه إلى التصنيع والإيمان المتعصب بالتقدم، وغير
ذلك من الأفكار التي كان الوضعيون في رأيه هم دعاتها. وقد دافع هاريسون عن نفسه دفاعًا
رائعًا ضد مثل هذا الفهم السيئ، الناشئ عن الجهل بكتابات كونت، وذلك في مجلة
«
Fortnightly Review» عام ١٨٧٦، وكذلك على صفحات
«
Fors Clavigera»، التي وضعها رسكين نفسه تحت تصرف
ناقده (انظر «ماكجي
McGee» حملة صليبية من أجل الإنسانية
A Crusade for Humanity، ١٩٣١،
ص٩٦ وما يليها). كذلك ظهر اختباران نقديان آخران لكونت، من جانبٍ آخر، ظهرا معًا
سنة
١٨٨٥، كان أحدهما من تأليف «جيمس مارتينو» الفيلسوف الديني، الذي كرس فصلًا لبحثٍ
نقديٍّ مفصل لكونت في المجلد الأول من كتاب «أنماط للنظرية الأخلاقية
Types of Ethical Theory»، وفي هذا
الفصل اعترف بإعجابه بالفيلسوف الفرنسي في الأمور التفصيلية، ولكنه رفض الوضعية منظورًا
إليها في جملتها، إذ لم يستطع التوفيق بينها وبين وجهة نظره المؤمنة بالألوهية. أما
الاختبار الثاني فقام به «إدوارد كيرد
E. Caird»
المفكر الهيجلي الذي نقد كونت من وجهة النظر المثالية في كتابه العميق «الفلسفة
الاجتماعية والدين عند كونت
The Social Phil. & Religion of Comte» وبعد ذلك في كتاب «تطور الدين
The Evolution of Religion»، (المجلد الأول، الفصل
١٢، ١٨٩٣). ورغم أن هذه الأصوات قد تبدو سلبية، فإنها تشهد مع ذلك بالاهتمام الجدي
الذي
قوبلت به فلسفة كونت في إنجلترا في العقد السابع والثامن والتاسع من القرن
الماضي.
ولقد كان مؤسس الحركة الوضعية في إنجلترا، والقوة الدافعة لها، هو ريتشارد كونجريف Richard Gongreve (١٨١٨–١٨٩٩)، ففي أثناء عمله
زميلًا في كلية وادم Wadham بأكسفورد، سافر إلى باريس
عام ١٨٤٩، وتعرف إلى كونت شخصيًّا، ثم زاره مرةً ثانية عام ١٨٥٤. ولقد بلغ من تأثر
كونجريف بهذا التعارف أنه قرَّر التخلي عن عمله في التدريس في أكسفورد؛ لكي يُكرِّس
حياته بأسرها «لعقيدة الإنسانية» التي قال بها كونت، وفي عام ١٨٥٥ نزح إلى لندن،
وافتتح
بهذه الخطوة الهامة الحركة الجديدة، وفي سنة ١٨٥٨ نشر ترجمة لكتاب: «شعائر العقيدة
الوضعية Catéchism Positiviste»، وهو العمل الذي حوَّل
فيه كونت تعاليمه الفلسفية إلى عقيدةٍ وضعية، وكان كونجريف قد جمع من حوله في بداية
عام
١٨٥٠ — وهو لا يزال زميلًا ومدرسًا بكلية وادم — مجموعة من الشبان الموهوبين في هذه
الكلية، وأذاع بينهم روح فلسفة كونت. وشملت جماعة وادم هذه فردريك هاريسون، وجون
هنري
بريدجز، وإدورد سبنسر بيسلي، وأصبحت هذه الجماعة، ومعها معلمها كونجريف، نواة الحركة
التالية. وبعد أن ترك الشبان الجامعة تشعَّبت طرقهم وقتًا ما في البداية، ولكنهم
وجدوا
أنفسهم بعد عدة سنوات منهمكين سويًّا في الدفاع عن قضيةٍ واحدة.
ولقد كان فريدريك هاريسون Frederic Harrison
(١٨٣١–١٩٢٣) من أروع شخصيات العصر الفكتوري، فقد كان شخصًا له اهتمامات وقدراتٌ متعددة
إلى حدٍّ غريب، وكان خبيرًا في ميادينَ عديدة، ترتبط على أنحاءٍ شتى متفرقة بحياة
عصره
الأدبية والاجتماعية والسياسية، وكانت له علاقاتٌ شخصية بجميع العقول الكبيرة في
عصره
تقريبًا، وقد عمل في كل هذه المجالات على الإقلال من الخلافات وتخفيف حدة كل ما هو
مفرط
في الشدة أو التدقيق. وكان له ذهنٌ صافٍ، تمرَّس في النقد، لماحًا يلتقط الأفكار
الجديدة بسرعة. كما كانت له مقدرةٌ غريبة على التعبير الأدبي، تمكن بفضلها من المساهمة
فورًا في كل المسائل الهامة في عصره، بحيث كان إدلاؤه بحكمه الصائب وخوضه المعمعة
بشخصيته المتينة الصادقة، كلما عرضت مسألة لها خطرها؛ كفيلًا بإحداث تأثيرٍ كبير
في
المشكلة موضوع الخلاف. أما إنتاجه التأليفي فلا يكاد يكون له حدود، وهو يشمل موضوعاتٍ
واسعة النطاق إلى حدٍّ هائل. وكان كل نوع من التعلُّم والتفقه المتخصص غريبًا عنه،
بحيث
كان إنتاجه الأدبي والعلمي كله برجماتيًّا بأدق معاني الكلمة؛ إذ إنه ظل دائمًا متفتح
الذهن للمشاكل والمسائل موضوع البحث بكل ما فيها من ثراء وامتلاء. وكان هدفه دائمًا
هو
العمل على نصرة القضية الجديرة بالانتصار، وتقويم ما هو معوجٌّ، وإيضاح ما هو غامض،
وتخفيف حدة الخلافات، فهو الكاتب «العالمي» بالمعنى الصحيح، والمثقف الأصيل
(Homme de Letters) بالمعنى الذي حدده فولتير لهذه
الكلمة. والحق أن تركيب ذهنه يبدو مشابهًا لتركيب ذهن فولتير في نواحٍ عدة، ولكن
على
مقياسٍ أصغر بطبيعة الحال، وعلى مستوًى أقل، وإن يكن يكشف في هذا المستوى المنخفض
عن
شمول في ثقافته يشبه شمول الثقافة عند فولتير، وبراعة في التعبير اللفظي، واتساع
نطاق
نشاطه الفعال وشدته. وربما كانت الناحية الوحيدة التي أظهر فيها هذا الرجل، رغم مواهبه
الرفيعة التي كانت تؤهله للزعامة العقلية، نوعًا من ضيق الأفق، هي إيمانه المتحمس
بمذهب
كونت الذي أصبح بالنسبة إليه معيارًا ومرشدًا في الفكر والسلوك معًا. ولكن حتى في
هذه
الناحية ينبغي التمييز بينه وبين بقية الوضعيين؛ إذ إن ذهنه كان من الامتلاء والاتساع
بحيث رفض أن يقبل قضايا كونت على أنها تركيبٌ عقيديٌّ جامدٌ متحجر، بل نظر إليها
على
أنها أداة قياس واختبار، فيها حركة وحياة. وهكذا فإنه أقل تلاميذ كونت من الإنجليز
تعصبًا، وهو الوحيد الذي تمكن، من بينهم، من جعل مذهب كونت يشعُّ حياةً كاملة الامتلاء
دون تعصب أو تحديد، ولم يبتعد حكمه عن السداد أحيانًا إلا في المسائل السياسية، نتيجة
لشدة تعلقه بأستاذه الفرنسي وإعجابه بكل ما هو فرنسي، بحيث أدى به ذلك إلى إجحاف
مصالح
شعوبٍ أخرى. وكما أنه دأب على رفع صوته محذرًا من سياسة القوة والتوسع الاستعماري
التي
اتبعها الإنجليز، فكذلك احتجَّ على انتهاك بروسيا الواضح لحرمة فرنسا في حرب ١٨٧٠-١٨٧١
مطالبًا كما فعل غيره من الوضعيين، بتدخل إنجلترا إيجابيًّا لصالح فرنسا، وكذلك رأى،
بالنسبة إلى الحرب العالمية الأولى، أن قضية الحق والإنسانية كلها ممثلة في جانب
الحلفاء، ووافق على القضاء على الشعب الألماني واستعباده، مع أن هذا الشعب كان يحارب
من
أجل بقائه بشجاعة فائقة، وبالقدر الذي يُحتِّمه جشع الفرنسيين وكراهيتهم
العمياء.
أما جون هنري بريدجز
John H. Bridges (١٨٣٢–١٩٠٦)،
الذي ظهرت حماسته لتفكير كونت منذ كان طالبًا في «وادم» تحت تأثير كونجريف الطاغي،
فقد
درس الطب بعد ذلك في لندن، ثم هاجر إلى أستراليا، حيث مارس مهنة الطب زمنًا، وواصل
ممارسة هذه المهنة أيضًا بعد عودته إلى بلاده. ورغم ما كان يبذله من مجهودٍ مخلصٍ
دائب
في ميدان الصحة العامة، فقد كانت مؤلفاته تمتد على نطاقٍ عظيم الاتساع، فشملت موضوعاتٍ
تاريخية وفلسفية وأدبية، (مثال ذلك أنه كرس سنواتٍ عدة لنشر كتاب روجر بيكن
«المؤلف الأعظم
Opus Majus» في ثلاثة مجلدات)،
ولكن الأهم من ذلك كله أنه تحمس للدفاع، بالكلمة المقروءة والمكتوبة معًا، عن الوضعية،
ولنشر تعاليم كونت، فمنذ عام ١٨٦٥ أعدَّ طبعة لجزءٍ كبير من المجلد الأول من
«مذهب في السياسة
الوضعية
Système de Politique Positive»، وهو الكتاب الرئيسي الثاني لكونت في ترجمةٍ إنجليزية
٣ تمت في الأعوام ١٨٧٥–١٨٧٩ بفضل الجهود المتعاونة التي بذلها هو نفسه كما
بذلها هاريسون وبيسلي وكونجريف، وكان قبل ذلك قد دافع عن «وحدة حياة كونت ومذهبه»
(١٨٦٦) ضد هجوم مل، ثم نشر بعد ذلك «خمس مقالات في الدين الوضعي» (١٨٨٢)، وساهم بنصيبٍ
كبير في «التقويم الجديد لعظماء
الرجال
New Calendar of Great Man» الذي نشره هاريسون في ١٨٩٢، ففي هذا المؤلف الأخير وحده، الذي
كان نظيرًا إنجليزيًّا لكتاب كونت «التقويم
الوضعي
Calenderier Positiviste»، أسهم بكتابة ١٦٤ سيرة، وبعد وفاته جمعت له «مقالات وخطب»
ونُشِرَت في عام ١٩٠٧. وكانت مواهب بريدجز، من حيث هو مفكر، تفوق مواهب هاريسون،
غير
أنه كان ميالًا إلى الدرس التأملي المتعمق، مع سعة اطلاع كبيرة، وكان يفتقر إلى الحماسة
الإصلاحية والنشاط العملي الذي كان لدى هاريسون منه نصيبٌ كبير.
أما إدوارد سبنسر بيسلي E. S. Beesly (١٨٣١–١٩١٥)
وهو العضو الثالث في الحلف، فقد عمل، بعد تخرجه في الجامعة، في التدريس فترة ما،
وعُيِّن عام ١٨٦٠ أستاذًا للتاريخ في الكلية الجامعية «يونيفرستي كوليدج University College» بلندن، وقد وجَّه نشاطه
الأكبر لمكافحة الظلم الواقع على الطبقات الاجتماعية الضعيفة، فقد كان يمثل لصالحهم
قضية الحق العام والعدالة الاجتماعية بحماسة المصلح الصادق، وذلك في محاضراته وكتيباته
ومقالاته في المجلات، كذلك نشر بعض الأعمال الأدبية، وقام بنصيب في نشر الطبعة
الإنجليزية لكتابَي «السياسة الوضعية» و«التقويم الوضعي».
وهكذا فإن الحركة الوضعية نمت في إنجلترا من البذرة التي بُذرت في «وادم كوليدج»،
وكان مركز هذه الحركة هو «الجمعية الوضعية بلندن» التي أُسِّسَت عام ١٧٦٧، على نمط
الجمعية الوضعية التي أسسها كونت عام ١٨٤٨، وفي عام ١٨٧٠ حصلت الجمعية على مبنى في
شارع
«تشابل» (وهو شارع «كوندويت
Condwit» عند «لام
Lamb»)، وما زال هذا المبنى منتميًا إليها، وسرعان ما تحول
إلى معبدٍ وضعي على الطريقة التي حددها كونت، فوُضِعَت فيه تماثيلُ نصفية لعظماء
الشخصيات وقديسي الإنسانية، تمثل الشهور الثلاثة عشر، ووُضِعَت أمام المبنى لوحة
نُقِشَت عليها الصيغة المقدسة للوضعية:
باسم الإنسانية،
الحب هو المبدأ،
والنظام هو الأساس،
والتقدم هو الغاية،
عش من أجل الغير، عش متفتحًا.
وكانت تُعقد هناك صلواتٌ منتظمة لها صيغٌ محددة، كما كانت تُلْقَى أناشيدُ وخطبٌ
وضعية، وكانت تقام حفلاتٌ رسميةٌ خاصة في أيام أعياد الوضعية، أي في ذكرى مولد كونت
ووفاته، لا تختلف كثيرًا عن الاحتفالات الفرنسية الأصلية التي كانت هذه تقام على
نمطها.
على أن تنظيم العبادة الدينية لم يكن يُكوِّن إلا جانبًا واحدًا من أوجه النشاط
المتنوعة التي كان يقوم بها الوضعيون، فإلى جانب نشاطهم الأدبي الذي أشرنا إليه من
قبلُ، كان لهم أيضًا تأثير في الحركات التعليمية والاجتماعية والسياسية، فتكوَّنت
جماعات للشبيبة، ونُظِّمَت دروسٌ مسائية، وكانت تُبْذَل أحيانًا محاولات لإنشاء نوعٍ
وضعي من التعليم المدرسي. وفي الميدان السياسي حاولوا اكتساب تأثيرٍ دائم بالاحتجاجات
العلنية والخطابات المفتوحة إلى الحكومة والكتيِّبات إلخ، وكانوا ينشرون هذه الكتابات
عندما كان الأمر يستدعي اتخاذ قراراتٍ حاسمة في الداخل وفي الشئون الخارجية على الأخص.
وقد ارتبط نشاطهم بوجه خاص، في الناحية السياسية، بقضية الحركة النقابية، التي ساعدوا
على إقرار الاعتراف القانوني بها. ومن الحركات الاجتماعية والسياسية الأخرى التي
لعبوا
فيها أدوارًا كان لها نصيب متفاوت النجاح، حركة تحرير المرأة، والكفاح من أجل حرية
أيرلندا، ومعارضة سياسة القوة الاستعمارية، وإلزامية التعليم، والإصلاح النيابي.
ولقد اندمجت الجمعية الوضعية بلندن، التي أُنشِئَت في شارع «تشابل»، اندمجت منذ
البداية في الكيان الكامل للتنظيم الوضعي العالمي، وهو التنظيم الذي بدأ عمله بعد
وفاة
كونت بوقتٍ قصير، متخذًا من فرنسا مركزًا له. وكان أول «كاهن أعظم للإنسانية» هو
الفرنسي «بيير لافيت Pierre Laffitte»، صديق كونت
الحميم، الذي تولى رئاسة الحركة بأسرها بعد وفاة مؤسسها، والذي أصبح كونجريف وزملاؤه،
بالتالي، مرءوسين له، على أن الارتباط بالكنيسة الأم لم يكن ارتباطًا وثيقًا، بل
كان
قوامه دفع الاشتراكات للصندوق المركزي، والتشابه في اللوائح وأوجه النشاط. وقد بدأت
بعض
الاختلافات في وجهات النظر تظهر داخل الجماعة الإنجليزية، لا سيما في مسألة إيجاد
تنظيم
مركز من نوعٍ كنسيٍّ دقيق؛ ذلك لأن فكرة تحويل الحركة كلها إلى كنيسة كانت متسلطة
على
ذهن مؤسس الحركة الإنجليزية وهو كونجريف، الذي كان شخصية ذات طاقةٍ هائلة وقوةٍ فرديةٍ
عظيمة، أما أنصار الحركة من الشبان فقد أرادوا الاكتفاء بصيغ وطقوس أقلَّ دقة، ولهذا
السبب ذاته نشب خلاف بين «لافيت» وكونجريف، أدى في النهاية إلى شقاقٍ علني، وبالتالي
إلى انفصال الجماعة الإنجليزية عن المركز العام في فرنسا. ولكن هذه الخطوة كانت لها
نتيجة لا مفر منها، هي حدوث انقسام في صفوف الحركة الإنجليزية؛ إذ رفض الأعضاء الأصغر
سنًّا مسايرة القائد؛ نظرًا إلى انشقاقه عن لافيت، واحتفظوا باتصالهم مع المنظمة
الفرنسية ودعموه، ومن ثم فقد أنشأوا جماعةً مستقلة تحت قيادة «لافيت». ورغم ذلك كله،
فقد تمسك كونجريف بموقفه، واستطاع أن يكسب تأييد جزء من الطائفة الوضعية، وواصل إقامة
الصلوات والمراسيم الدينية في شارع «تشابل»، أما جماعة «لافيت» فقد انضم إليها بريدجز
وهاريسون وبيسلي، وأصبح بريدجز أول رئيس ﻟﻠ «هيئة الوضعية بلندن London Positivist Committee» التي أُنشِئت
حديثًا، وحدث ذلك الانقسام عام ١٨٧٨. وفي عام ١٨٨٠، اعتزل بريدجز الرئاسة، وحلَّ
محله
هاريسون بشخصيته الذكية، وظل يقود الجماعة حتى سنة ١٩٠٤، وسرعان ما اتخذت الجماعة
لنفسها دارًا خاصةً بها في لندن، أطلق عليها اسم «قاعة
نيوتن Newten Hall» وافتتحها «لافيت» بنفسه في أول مايو سنة ١٨٨١.
وهكذا فمنذ سنة ١٨٧٨ كانت هناك جماعتان وضعيَّتان مستقلَّتان في إنجلترا، تستهدفان
أساسًا نفس الغايات وتقومان بنفس أنواع النشاط، أصبحت إحداهما مكتفية بذاتها تمامًا،
بينما احتفظت الأخرى بعلاقاتٍ رسمية مع مركز الحركة في باريس، وقدمت إليه معوناتٍ
مالية. وسنطلق على أولى هاتين الجماعتين اسم جماعة كونجريف، وعلى الثانية جماعة
هاريسون، وذلك تبعًا لاسم رئيس كلٍّ منها. وتشترك الجماعتان في أنهما أظهرتا أعظم
قوة
وأكبر قدر من النمو في العَقْدين التاسع والأخير من القرن الماضي، وبحلول القرن الجديد
طرأت عليهما عملية انحلالٍ سريع لم يكن من الممكن إيقافها، وأصاب الحركة كلها هزال،
وأخذت تضمحل رويدًا رويدًا. وأحرزت كلتا الجماعتين بعض النجاح في الأقاليم، وإن يكن
في
معظم الأحيان نجاحًا عابرًا، فقد تكونت «خلايا» للوضعيين في ليفربول ومانشستر ونيو
كاسل
وبعض المدن الأخرى، غير أن الحركة ظلت أساسًا مقتصرة على العاصمة. وقد فقدت جماعة
كونجريف، قوتها الدافعة بوفاة كونجريف عام ١٨٩٩، وأدى فقدان زعيمها إلى انحلالها،
فخلفه
هنري كرومتون Henry Crompton،
ومن بعده الفرد هاجارد Alferd Haggard، وهنري دوسانز Henri Dussanze وفيليب توماس Philip Thomas، ولكن لم يكن لواحد من هؤلاء تلك الصفات الممتازة التي
كان يتصف بها المؤسس الإنجليزي الأول للوضعية. وأما جماعة هاريسون فقد أظهرت مزيدًا
من
الحيوية، وكان الفضل يرجع إليها في جمع ونشر «التقويم الجديد للعظماء» الذي أشرنا
إليه
من قبلُ، وفضلًا عن ذلك فقد أسست الجماعة مجلةً خاصة بها، هي «المجلة الوضعية The Positivist Review» التي أُنشِئَت سنة
١٨٩٣، وكان يشرف على نشرها أولًا بيتسلي، ثم س. ﻫ.
سويني S. H. Swinay، وأخيرًا ف. ج.
جولد F. J. Gould. وقد تخلى هاريسون عن رئاسة الجماعة عام ١٩٠٤، ولكنه ظل بعد ذلك
يقدم تأييده إلى الجماعة بالمشورة والفعل وبالكلمة المكتوبة والمنطوقة، ولقد ظل حتى
بعد
تجاوزه الثمانين، بل حتى بلغ التسعين من عمره، يحارب في سبيل أفكاره بحرارة وحماسة
تكاد
تعادل ما كان يبديه في شبابه، وكان دائمًا يتقدم الصفوف كلما اعتقد أن حقًّا قد هُضم،
أو أن انحرافًا يحتاج إلى تقويم. وقد توفِّي المحارب المتحمس وهو في الحادية والتسعين،
وبوفاته راح آخر ممثل لحركة كرَّس لها أفضل ما في حياته، وستظل دائمًا مرتبطة باسمه
قبل
غيره. وقد جمع ذلك العدد الهائل من المقالات والخطب والمناقشات والمحاضرات التي ألقاها
هاريسون أو كتبها في المجلدات الآتية، التي هي، بالإضافة إلى «المجلة الوضعية» أفضل
مرجع لدراسة الحركة، «عقيدة رجل غير متخصص في الدين (علماني) Creed of a
Layman» (١٩٠٧)، و«فلسفة الموقف الطبيعي (أو فلسفة الإدراك
المشترك) The Phil. of Common Sense» (١٩٠٧)،
و«المشاكل
القومية والاجتماعية National and Social Problems» (١٩٠٨)، و«الحقائق والمثل العليا Realities and Ideals» (١٩٠٨)،
و«التطور الوضعي
للدين The Positive Evolution of Religion» (١٩١٣)، وينبغي أن نضيف إلى هذه كتابه، «مذكرات من حياتي الشخصية Autobiographic Memoirs» (١٩١١) وقد
صدر في مجلدَين، ويروي فيه قصة حياته الزاخرة المليئة بأسلوبه الحي المشوق، وقد قدم
ماكجي J. E. McGee عرضًا دقيقًا شاملًا لكتاباته
في كتابه «حملة صليبية من أجل
الإنسانية A Crusade For Humanity» (١٩١٣، ص٢٤١–٢٤٥)، وفيه عرض تاريخ المذهب الوضعي الإنجليزي
المنظم لأول مرة في صورةٍ جامعة، وإلى هذا الكتاب المفيد غاية الفائدة ندين بالجزء
الأكبر من الحقائق الواردة في هذا القسم.
وكان رئيس الجمعية الوضعية الذي عُيِّن خلفًا لهاريسون هو «س. ﻫ. سويني
S. H. Swinny» (١٩٠٥) الذي ظل
وقتًا طويلًا يشرف على تحرير صحيفة الجمعية، وبعد عامٍ واحد من تعيينه، توفي بريدجز،
وأعقبه بيسلي بعد تسع سنوات، وأخيرًا تم الصلح بين المعسكرَين المتعارضَين، وأعيد
توحيدهما وسط الحرب العالمية الأولى (١٩١٦)، بعد إخفاق عدة محاولاتٍ سابقة. غير أن
هذه
التقوية الخارجية لجسم الوضعية العليل قد أتت بعد فوات الأوان، فلم تستطع الحيلولة
دون
الانحلال التام للحركة التي غدت ضعيفة بحكم السن، فمنذ ذلك الحين عادت اجتماعاتهم
تعقد
في شارع تشابل؛ إذ كانت الحركة قد فقدت «قاعة نيوتن» قبل ذلك بوقتٍ طويل (١٩٠٢)،
وكان
أتباع هاريسون قد اضطروا إلى البحث عن أمكنةٍ أخرى لعقد اجتماعاتهم، وتم انهيار الحركة
في السنوات التي أعقبت الحرب، ففي ١٩٢٠، تولى «لاسبل
T. S. Lascelles» الرئاسة بعد
اعتزال ب. توماس، وفي ١٩٢٣ توفي هاريسون وسويني، وفي ١٩٢٥ توقفت المجلة الدورية التي
كان يرأس تحريرها منذ سنتين جولد بعنوان «الإنسانية
Humanity» عن الظهور، وهكذا يمكن القول إن الحركة قد انتهت من
الوجهة العلمية، حتى رغم أنه ما زالت هناك، حتى وقت ظهور هذا الكتاب (أي عام ١٩٣٧)
«هيئة وضعية بلندن»، تملك غرفة في شارع «تشابل».
٤