الفصل الثاني
المدرسة النفعية التجريبية
سار الخط الرئيسي للفلسفة الإنجليزية في طريق
متصلٍ منطوٍ على ذاته نسبيًّا، منذ عصر النهضة حتى يومنا هذا، ويسمى هذا الخط الفكري
الرئيسي عادةً باسم المذهب التجريبي empiricism أو
فلسفة التجربة Phil. of experience، ولهذا المذهب
من الحق أكثر مما لأي مذهبٍ آخر في إرجاع أصله إلى تراثٍ طويل، وهو لم يتغلغل في
أي بلد
بنفس العمق والتأصُّل الذي تغلغل به في الجزر البريطانية، وعلى ذلك ففي وسعنا أن
نسمي
هذه المدرسة بالمدرسة الوطنية أو القومية، وعلى الرغم من أننا لو وحدنا بينها وبين
الفكر الإنجليزي لكان في ذلك سوء تفسير واضح للحقائق، فهناك مبررات للقول بأنها أكثر
المدارس تمثيلًا لهذا الفكر. وعلى أية حال فنحن هنا لسنا إزاء مدرسة اخترعها مؤرخو
الفلسفة، بل إن ما نحن إزاءه هنا هو الوجود الفعلي لفكرةٍ رئيسيةٍ واحدة وموقفٍ فكريٍّ
واحد، تتمثل لنا رغم تنوع أطرافها الهائل، ورغم المشاكل الجانبية والاتجاهات الفرعية
في
كلٍّ له في أساسه طابعٌ موحد، فالخط الفلسفي الذي يمتد من بيكن وهبز إلى لوك وباركلي
وهيوم، ثم إلى بنتام ومل وسبنسر، هذا الخط يتضمن مجموعةً كبيرة من المبادئ المتماسكة
المنسجمة التي تتخذ مظهرًا مختلفًا تبعًا لوجهة النظر التي نتأملها منها، ولكنها
تقف
دائمًا على علاقة بنفس المجموع الكلي، فإذا أردنا أن نهتدي إلى ألفاظٍ مناسبة لهذا
المجموع في أوجهه الرئيسية، فينبغي أن نختار اسم المذهب التجريبي أو الوضعي لنُبيِّن
اتجاهه الفلسفي الرئيسي، واسم المذهب الحسي أو الظاهري فيما يتعلق بنظريته في المعرفة،
ومذهب التداعي للدلالة على اتجاهه في علم النفس، ومذهب اللذة hedonism أو السعادة eudaemonism أو
المنفعة utilitarianism للتعبير عن اتجاهه
الأخلاقي، ومذهب الشك أو اللاأدرية للدلالة على موقفه الميتافيزيقي، ومذهب الإلهية
الطبيعية deism أو الحيادية indifferentism (وأحيانًا الإلحادية أيضًا) في الدين،
ومذهب الحريين «الليبرالية Liberalism» في
السياسة.
وقد بلغ المذهب التجريبي الكلاسيكي في القرنين السابع عشر والثامن عشر الذي نميزه
من
خليفته الطبيعي، المذهب التجريبي الحديث في القرن التاسع عشر، بلغ هذا المذهب أوْجَه
في
فلسفة هيوم، وتوقف مؤقتًا عندها، وكان التوقف مؤقتًا؛ لأن هيوم لم يخلف وراءه أي
تراث
من التعاليم الواضحة المنظمة التي كان تلاميذه وخلفاؤه يستطيعون الأخذ بها لتوسيعها،
بل
إن ما خلفه هو زعزعةٌ كاملة للمبادئ الفلسفية وهدمٌ تام لها، نجم عنه القضاء على
كل
إمكانية للتعليم المتقيد به، وحال دون أي استمرارٍ مباشر لمذهبه أو أي تدريسٍ فلسفيٍّ
قريب منه، وهنا يكمن المعنى الحقيقي لما يسمى — من باب التركيز — باسم مذهب الشك
عند
هيوم، فخط المذهب التجريبي الإنجليزي يسير في عمومه في اتجاهٍ مستقيم إلى الأمام
وعلى
نحوٍ متصل، حتى يبلغ أعلى مستوًى له عند هيوم، وعندئذٍ ينحرف وينقطع، ولا يتحرك إلى
الأمام ثانيةً حتى يتلقى دفعةً جديدة من الأفكار، ويحدث انقطاع الاتصال في نفس الموضع
الذي ينفصل فيه المذهب التجريبي الكلاسيكي عن نظيره الحديث ويتجدد ولكن على صورةٍ
مختلفة، ويتحدد الانقطاع تاريخيًّا بالهجوم المضاد الذي شنَّه ريد والفلسفة الاسكتلندية
على هيوم، أما الأفكار الواردة الجديدة فتتمثل في فلسفة بنتام.
ومن المُهم أن يكشف المرء بوضوح عن هذه الارتباطات التاريخية، فالمدرسة المتأخرة لا
ترتبط مباشرةً بالمتقدمة، بل إن بينهما انفصالًا وفراغًا تملؤه المدرسة الاسكتلندية؛
ذلك لأن هجوم ريد، والحركة الاسكتلندية التي أسفر عنها، قد أدى إلى إصابة التجريبية
التقليدية بضربةٍ قاصمة، كان لا بد من مضي وقتٍ طويل قبل أن تفيق منها، وقد انقضت
العشرات الأولى من القرن التاسع عشر في صراع بين هذه المذاهب المتنافسة، ظل محتدمًا
حتى
أنهاه الهجوم المشهور الذي شنَّه جون ستيوارت مل على هاملتن عام ١٨٦٥، وفي هذا النزال
الحاسم خرج المذهب التجريبي منتصرًا. وإن المعركة الفكرية بين مل وهاملتن لتناظر
بكل
دقة، من الوجهة التاريخية، المعركة بين ريد وهيوم، غير أن التفوق في الأسلحة كان
في هذه
المرة من نصيب المذهب التجريبي، الذي كان قد اكتسب قوةً جديدة، وطرد خصمه الاسكتلندي
نهائيًّا من الميدان هذه المرة، وقد أثبت المذهب التجريبي، بإعادته لتراثه إلى مكانته
القديمة، ومساهمته بأفكار ومبادئَ فكريةٍ جديدة، أنه هو الاتجاه الفلسفي الأقوى والأقدر
على البقاء، وهكذا كان التنافس بين المدرستَين، وصراعهما على السيطرة، هو العنصر
الهام
المتصل في الفكر الإنجليزي منذ أواسط القرن الثامن عشر حتى أواسط القرن التاسع عشر.
ومن
الجدير بالملاحظة أن الفترة التي استغرقها هذا الصراع كانت قرنًا بالضبط، منذ هجوم
ريد
الأول على هيوم في سنة ١٧٦٤ حتى هجوم مل الأخير على هاملتن في ١٨٦٥؛ فهاتان السنتان
تمثلان إذن نقطتَي الذروة في الصراع، على حين أن الفترة الواقعة بينهما تتميز بمنازلات
ومناوشات أقل أهمية، وبفترات هدنة وإيقاف للقتال أيضًا، وإن كان ذلك يقترن أيضًا
بتوترٍ
ظاهر أو خفي.
وعلى قدر ما كان من أهميةٍ تاريخية للمذهب التجريبي الحديث — كما يتمثل في المؤلفات
الرئيسية التي كُتِبَت منذ عهد بنتام حتى مل الأصغر — فقد أثبت أيضًا أنه حركةٌ عقلية
لها مكانتها الرفيعة وتأثيرها الهائل؛ فهو لم يقتصر على أن يكون المحور الذي يدور
حوله
التقدم الخاص في الفلسفة، بل لقد امتدَّ تأثيره — أكثر من أية حركةٍ أخرى في ذلك
العصر
— إلى ميادين الأدب والثقافة والسياسة والقانون والإصلاح الاجتماعي والتعليم، وسيطر
على
هذه المجالات وشكَّلها بصورته وطبعها بطابعه الخاص، ولم يكن مصدر نموه هو مدرجات
الطلاب
أو قاعات الدرس بقدر ما كان هو ضرورات الحياة الملحَّة والصراع اليومي المتقلب في
سبيل
العيش، ولم يكن الاهتمام به مقتصرًا على العلماء أو الإخصائيين، ولا كانت حدوده تنحصر
في الدوائر الأكاديمية والعلمية، كما هي الحال في الفلسفة الاسكتلندية وغيرها من
المدارس في ذلك القرن، ويتضح ذلك — خارجيًّا — إذا أدركنا أن ممثليه الرئيسيين لم
يكونوا من أصحاب كراسي الأستاذية أو غيرها من المناصب الأكاديمية، بل كان معظمهم
من
أصحاب المهن العملية، فقد نما منذ البداية بين مختلف مهام الحياة وظروفها العملية،
وكان
هذا الطابع العملي الواضح الذي تميز به كفيلًا بأن يضمن له تأثيرًا أوسع وأعمق مما
تكتسبه الأفكار والحركات الفلسفية عادة، وهكذا استوعب في داخله تراث أسلافه
الكلاسيكيين، مع توسيع نطاقه والنهوض به والتعمق في أغوارٍ أبعد في مختلف مجالات
الحياة، فهو ليس فقط المرآة التي تجمع وتعكس أشعة الفكر والشعور القومي الإنجليزي،
بل
إنه — مع الأدب والشعر — القالب الرئيسي الذي تتشكل به الروح الإنجليزية. والأمر
الذي
لا نكاد نجد له نظيرًا إلا في هذه الحالة هو أن يفتح للفلسفة طريقًا تؤثر به في السياسة
والقانون والبرلمان والتشريع والتعليم، وهو يسهم إسهامًا إيجابيًّا في حل المشكلات
الملحَّة في الميادين الاجتماعية والاقتصادية والجنائية وغيرها من الميادين العملية،
وهو في كل ذلك خليفةٌ مخلص لعصر التنوير، ينفر تمامًا من اتخاذ التأمل الخالص مثلًا
أعلى، ويضع نفسه تمامًا في خدمة الميدان العملي، حتى عندما يتخذ نشاطه طابعًا نظريًّا،
فهو برجماتي في كل شيء على الرغم من أنه لم يكتشف الصيغة الفلسفية المعبرة عن طابعه
الأساسي.
ونستطيع أن نتأمل المذهب التجريبي في ضوء آخر إذا ما تساءلنا عن قيمته الفلسفية
الكامنة، ونقارنه — على هذا الأساس — بالمذهب التجريبي الكلاسيكي السابق عليه، وهنا
نجد
أن المقارنة — كما هو متوقَّع — ليست في صالحه، على الرغم من أن الدراسة المنزهة
عن
التحامل كفيلة بأن تجعلنا نصدر عليه حكمًا أفضل مما يُعْزَى إليه عادة؛ إذ ليس ثمت
شك
في أن الفلسفة التجريبية قد بلغت قمة نموها النظري لدى الثلاثي المؤلَّف من لوك وباركلي
وهيوم، بحيث سار التطور التالي — في هذا الصدد — في اتجاهٍ نزولي، ولم يقتصر المذهب
التجريبي — في فترته الكلاسيكية — على إرساء دعائمه الأساسية، بل إنه قد استنفد
إمكانياته التأملية في جميع المجالات الرئيسية، ولم يكن في استطاعة القرن التاسع
عشر أن
يحرز أي تقدمٍ هام يغير به إطار المذهب التقليدي. وإلى هذا الحد يكون المذهب التجريبي
المتأخر بالفعل من عمل مفكرين من مستوًى أدنى بكثير من أسلافهم، ويفتقر إلى كل ما
يتميز
به الفكر الخلاق من قوة وأصالةٍ حقيقية، غير أن رجال ذلك الجيل الفلسفي — وإن كانوا
أقل
مرتبة من أسلافهم — لم يكونوا مجرد شرَّاح أو مقلدين، ولم يكونوا طفيليات تعيش على
ثروةٍ موروثة وتستهلكها، وإنما كرسوا أنفسهم لتدبير شئون ميراثهم بدقة ونجاح، واستطاعوا
إضافة أرباح إلى رأسمالهم الموروث. وهكذا فعلى الرغم من أنه لم تتحقق نتائجُ نظريةٌ
هامة، فقد خُلِقَت قيمٌ إيجابيةٌ جديدةٌ هامة، وتتمثل هذه — قبل كل شيء — في إحراز
تقدم
في تمييز المشكلات وتفريعها، وفي تحسين مناهج البحث، وأخيرًا، في إحداث توسيع وإثراء
ضخم في المادة التجريبية، وفتح ميادين جديدة للبحث، وقد أصبحت هذه المرحلة المتأخرة
للحركة التجريبية — للمرة الأولى — متعطشة إلى التجربة بالمعنى الصحيح للكلمة؛ فجمعت
بحماسة مجموعاتٍ ضخمة من المواد الجديدة، ورتبتها وصنفتها وبوَّبتها ونظمتها، أي
إنها
حاولت بالاختصار أن تفهمها وتعالجها فلسفيًّا، ولكن الفلسفة عندما تسلم قيادها للتجربة
إلى هذا الحد، تتعرض لخطر الخضوع لسيطرة التجربة بدلًا من إخضاعها لسيطرتها، وهكذا
تزداد ابتعادًا عن المشكلات المركزية، وينحرف اهتمامها الرئيسي إلى مسائلَ هامشية،
ويتمثل ذلك في فتور الدافع الصحيح إلى التأمل، وفي التخلي عن فكرة المذهب البناء،
وفي
اتخاذ موقفٍ سلبي من مشكلات الميتافيزيقا، وتحويل نظرية المعرفة إلى علم النفس، والمنطق
إلى مناهج البحث، وفي إعطاء الأولوية للفعل. وهكذا تُعدُّ التجريبية المحدثة حركة
تهتم
بالكم أكثر من الكيف، وبالاتساع أكثر من العمق، وعلى الرغم من أن هذه في مجموعها
عيوب،
فإنها ميزة بمعنًى من المعاني؛ إذ إنها أدت خدمةً ضخمة في استيعاب المعلومات الجديدة
والسيطرة على مجالات البحث الجديدة، كما أننا ندين للقرن التاسع عشر بظهور نظامٍ
محكم
للمنطق التجريبي، على حين أن الفترة الكلاسيكية لم تنتج إلا اقتراحاتٍ قليلة، تقترن
بنظريةٍ عامة في العلم ومبحثٍ منهجي في المعرفة كاد أن يُتجاهل تمامًا حتى ذلك الحين،
كذلك تحقق في الأخلاق بدورها — لأول مرة في ذلك الحين — تنظيمٌ دقيق للمادة التي
كان
المذهب الأخلاقي الأسبق قد توصل إليها من قبلُ، ولكنه لم يضعها قط في قالبٍ ثابتٍ
متماسك، وهذا يصدق أيضًا — بدرجةٍ أقل — على علم النفس، بينما يدل النشاط الذي بُذِلَ
في ميدان نظرية المعرفة على تأخرٍ مؤكد بالنسبة إلى ما كانت عليه الحال من قبلُ،
ومن
جهةٍ أخرى اكتشفت أرضٌ جديدة في مجالات القانون والسياسة والحياة الاجتماعية والتعليم
وغيرها من المجالات المنتمية إلى الميدان العملي.
وإذا طرحنا جانبًا المدرسة التطورية — التي
سنتحدث عنها في الفصل المقبل — فإن الشخصيات الرئيسية في المذهب التجريبي الحديث
هي
بنتام وجيمس مل وجون ستيوارت مل، وقد حمل هؤلاء المفكرون الثلاثة العبء الرئيسي في
الحركة، وفيهم يتمثل المظهر الحديث للتراث التجريبي الإنجليزي في أفضل وأعمق صوره،
وعلى
الرغم من أن جريمي بنتام Jeremy Bentham (١٧٤٨–١٨٣٢)
مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالقرن الثامن عشر، سواء من حيث تعليمه العقلي ونشاطه الإنتاجي،
فإنه — فيما يتعلق بتأثيره الفلسفي — ينتمي إلى القرن التاسع عشر، ويمكننا أن نرى
فيه
الممثل الأول لما نسميه بالمذهب التجريبي المحدث، وينحصر نشاطه — في المحل الأول
— في
ميدان الفلسفة العملية، وذلك أولًا في الأخلاق، ثم في جميع مجالات الدراسة المبنية
على
الأخلاق، كالسياسة والإصلاح الاجتماعي والتشريع والفقه القانوني (ولا سيما القانون
الجنائي) والقانون الدولي والتعليم، وفي جميع هذه المجالات كان مجددًا ثوريًّا، وقد
اكتسب منه الفكر الإنجليزي في القرن التاسع عشر من الخصوبة والعمق أكثر مما اكتسب
من أي
مفكرٍ آخر، وتأثر به بقوة تفوق تأثره بأي شخص غيره، وهو هنا يواصل ويحيي تلك الآراء
الديمقراطية المتحررة والنفعية التي بدأها لوك، والتي سيطرت على ذلك القرن، ولم يكن
لمذهب أي فيلسوفٍ آخر مثل ما كان لمذهبه من اتساع نطاق التأثير، أو من النتائج العملية
الهامة، وكان بلا شك أشد الأرواح في عصره وبلده تحررًا، ولم يلن أمام أية سلطة أو
أي
تراث؛ فحرر نفسه من جميع قيود الدولة والكنيسة والدستور والقانون التقليدي، ومن الأخطاء
المتأصلة والعادات الراسخة، وكان أعظم متشكك في ثبات النظام السائد للأشياء، سواء
في
المذاهب والنظم الاجتماعية، وأجرأ ثائر على القيم التقليدية، وأقسى ناقد للتقاليد
السائدة، وبالاختصار، فقد كان هو الفيلسوف المجدد Radical، أو المجدد الفلسفي كما أسماه معاصروه، وهو مؤسس مذهبيةٍ
(أيديولوجية) سياسيةٍ واجتماعيةٍ جديدة، تقترب في نواحٍ عدة من تلك التي ابتدعها
كارل
ماركس فيما بعدُ، ويمكن أن يُقال إنها استبقتها، وإن كانت قد بُنِيَت على افتراضاتٍ
منطقيةٍ مختلفة تمامًا، كما أنها تفوقها كثيرًا في اتساع نطاق الروح الشعبية التي
ارتكزت عليها. وعلى الرغم من أن أفكاره قد نظمت في مذهبٍ محددٍ دقيق، فإنها لم تكن
ترمي
أبدًا إلى مجرد التعليم، وإنما إلى هدفٍ عملي هو تغيير النظام القائم للأشياء وتحسينه،
وإذ وجدت هذه الأفكار لها أرضًا خصبةً واسعة، فقد تعلق بها معاصروه بترحيب وحماسة،
والواقع أن تعاليم بنتام كانت أشبه بالمغناطيس القوي في جذبها لكل ما هو شائع بين
المفكرين الأحرار التقدميين في إنجلترا في ذلك الوقت، وهكذا ظهرت لأول مرة على الأرض
البريطانية مدرسةٌ طموحة للتعليم الفلسفي، كان الفضل في إنشائها يرجع إلى اجتهاد
التلاميذ أكثر مما يرجع إلى أي اهتمامٍ خاص للأستاذ، وكانت الحالتان الوحيدتان اللتان
تشبهانها هما: تلك الجهود الأضعف كثيرًا، التي بذلها في اتجاهٍ مماثل مفكرو القرن
السابع عشر الذين كوَّنوا «مدرسة كيمبردج»، ثم تلك الجهود التي بذلها المفكرون الذين
التفُّوا حول ريد فيما بعدُ، ففي مدرسة بنتام اقتبس عدد من التلاميذ المجتهدين المخلصين
آراء الأستاذ وعلَّقوا عليها وأذاعوها في اتجاهاتٍ عديدة مختلفة، وأخيرًا وُضع من
هذه
الآراء برنامجٌ سياسي، وأُنْشِئَ حزبٌ سياسي (عُرِفَ باسم حزب «المجددين الفلسفيين»)،
لتنفيذ هذه الآراء، مع إنشاء صحيفةٍ أدبية لنشر هذه الآراء، وبذلك تحول المذهب إلى
دعوة، بل لقد دخل البرلمان — وهو المكان الملائم لتحويل الأفكار — إلى حقائقَ واقعة،
أما بنتام ذاته فلم يظهر أمام الجمهور، وإنما عاش في عزلةٍ هادئة عاكفًا على تحسين
مذهبه، وترك لتلاميذه كل ما عدا ذلك من الأمور، وليس من السهل أن نحدد بدقة كم من
أفكاره تحقق على هذا النحو بفضل الإصلاحات التشريعية الضخمة التي تمت في العِقْد
الرابع
من القرن التاسع عشر، غير أن من الأمور التي يشيع الاعتراف بها اليوم أن روح أفكاره
قد
تغلغلت فيها، وأسهمت في تحقيقها بنصيبٍ كبير.
ويظهر بنتام في تاريخ الفلسفة على أنه واضع
ومؤسس مذهب المنفعة في الأخلاق، غير أنه قطعًا ليس أول القائلين بالمنفعة بوصفها
مبدأً
أخلاقيًّا؛ فهذا المبدأ متغلغل في التعاليم الأخلاقية الإنجليزية والفرنسية في عصر
التنوير، وهو يتخذ فيها أحيانًا صبغةً واضحة ويطبق من آنٍ لآخر، أما بنتام فقد تلقَّى
فجأة ما يشبه الوحي الجديد الذي أضاء تفكيره كبرقٍ خاطف عندما قرأ المجلد الثالث
من
كتاب هيوم «بحث في الطبيعة
البشرية Treatise of Human Nature»، وكما يقول بنتام ذاته، فقد ارتفعت الغشاوة عن عينَيه عندما
تكشَّفت له لأول مرة الأهمية الكبرى لفكرة المنفعة في السلوك البشري، وفي هذه اللحظة
الخلَّاقة تم تشييد الجسر الذي يصل بين التراث الكلاسيكي وبين فترة إحيائه الحديثة،
ولقد كانت أعظم خدمةٍ تاريخية أداها بنتام هي أنه آمن بهذه الفكرة إيمانًا راسخًا،
واتخذ منها مبدأً أساسيًّا لتفكيره ودعامة رئيسية لمذهبه، وشيَّد هذا المذهب بجد
ومثابرة هائلَين، وأمدَّه بثروةٍ ضخمة من المادة التجريبية، ولا يكاد المرء يجد مثلًا
لأي مذهبٍ فكريٍّ آخر قام واضعه بتنظيم مبدأٍ واحد فيه ودعمه بهذا الحشد الهائل من
التجارب كما يجد لدى بنتام؛ ذلك لأن الكمية الضخمة من المادة التجريبية، التي أدرجها
تحت مبدئه النظري الرئيسي، لم تكن هي وحدها التي اكتُسبت من التجربة، بل لقد كان
المبدأ
ذاته مكتسبًا من التجربة، وهنا نستطيع أن ندرك التضاد الواضح بين هذا المذهب وبين
آراء
المدرسة الاسكتلندية التي كانت خصمًا تاريخيًّا لها، فهناك من جهة مبادئ أوليةٌ فطرية
في الطبيعة البشرية، وهي مبادئ تؤكد المعرفة الحدسية وضوحها المباشر، وعليها ترتكز
أحكامنا في القيم، وهناك من جهةٍ أخرى تلك الفكرة البسيطة التي تؤكدها تجارب لا حصر
لها، ويمكن تحقيقها في أية لحظة، وهي القائلة بأن كل سلوكٍ بشري يُحدِّده ويملؤه
السعي
إلى اكتساب اللذة وتجنُّب الألم، وليس في وسعنا في هذا المجال أن نتحدث بالتفصيل
عن
الطريقة التي انتقل بها بنتام من هذا المبدأ البسيط حتى وصل إلى التطبيق الشامل لمبدأ
المنفعة، ومنه إلى صيغته الأخلاقية المشهورة القائلة: «بأكبر قدر من السعادة لأكبر
عدد
من الناس» وكيف انتقل إلى وصف الحياة الأخلاقية بأسرها، ومنه إلى إقامة توازن بين
اللذة
والألم في السلوك البشري، أو إلى ما يسمى بحساب
اللذات Hedonistic Calculus، وكيف طبق هذه الأفكار على أشد مجالات الحياة العملية تباينًا،
ولا سيما السياسة والإصلاح الاجتماعي، وحسبنا أن نذكر أنه حاول رد مجال السلوك البشري
بأسره (الفردي منه والاجتماعي) إلى مبدأٍ سائدٍ واحدٍ شامل لكل شيء، يطبق باتساقٍ
صارم
وتجاهلٍ قاسٍ للحجج المضادة، وعلى هذا النحو حاول جمع الكثرة المحيرة للظواهر الأخلاقية
في نظرةٍ عقليةٍ واحدة، وإخضاعها لمذهبٍ مُحكَم البناء، وهكذا ارتفعت الأخلاق عنده
لأول
مرة (ومعها المجالات العملية الأخرى للدراسة) إلى مرتبة العلم الدقيق، وأضيفت كالعلم
الطبيعي إلى مجال البحث الدقيق. وتتوقف عظمة هذه النظرة، والقدرة على تنفيذها عمليًّا
على العزل الجريء لوجهٍ محدودٍ منفصل، مع تجاهلٍ مترفع لكل الأوجه الباقية. وهكذا
اقتطع
بنتام — من مجالٍ معقدٍ عديد الأبعاد — سطحًا واحدًا، وقدَّمه إلينا بكل مظاهر البحث
العلمي الدقيق، وتحقق ذلك بجعل مبدأ المنفعة أهم العوامل وإخضاع الحياة الأخلاقية
بأسرها لعنصر الكم تمامًا، وهكذا أُزيلت عن الأخلاق كل العناصر الكيفية، وكذلك جميع
الشروط الميتافيزيقية والدينية وغيرها، بل لقد سعى بنتام إلى الاستغناء عن الأساس
النفسي الذي كان باحثو الأخلاق الإنجليز من قبله ومن بعده يرونه ضرورة لا غناء
عنها.
ولقد تأثر التطور التالي للفكر الإنجليزي — سواء
خلال حياة بنتام أو بعدها — تأثرًا تامًّا بمذهب المنفعة في قوته وإحكامه وبنائه
المنطقي السليم، ولكن كان من المحتَّم أن ينحدر هذا المذهب — الذي ادَّعى أنه نهائي
—
إلى مرتبة القطعية الجازمة، وأن يكبل كل الأذهان التي تقع تحت تأثيره بدلًا من أن
يُحرِّرها، وإذا استثنينا أتباع المدرسة الاسكتلندية وعددًا قليلًا من المفكرين
الثانويين وأصحاب الآراء الشاذة، فقد ظل مذهب المنفعة وقتًا طويلًا يفخر بولاءٍ إجماعي
له من الفلاسفة والمشتغلين بالفلسفة من الإنجليز، وبدا هنا أن المشكلات الكبرى في
الحياة والفكر قد حُلَّت أخيرًا، ولم يعد هناك مجال للتطور الحر للقدرات الفلسفية،
إلا
إذا كان ذلك من أجل التوسع في المبدأ الأساسي بمزيد من الدقة والتفصيل، وتطبيقه على
مجالاتٍ أوسع، وفي مجال الفلسفة الأخلاقية بدا أن بنتام قد قال الكلمة الأخيرة، ولما
كان قد تخلَّى نهائيًّا عن المشاكل الميتافيزيقية والدينية، فقد بدا أن أجنحة التأمل
النظري قد أصبحت مهيضة، وهكذا أصبح التمسك الصارم بالمبدأ، وهو التمسك السائد في
مدرسة
بنتام، هو أقوى العقبات في وجه التقدم الفلسفي.
وينبغي أن نذكر — من بين معاصري بنتام الذين أسهموا بأدوارٍ مستقلة، وساروا في طريق
الفكر النفعي دون أن يلتزموا مباشرةً باقتفاء أثره — أسماء جودون Godwin ومالتوس Malthus وريكاردو Ricardo، وهؤلاء الثلاثة معًا لا ينتمون إلى الحركة
الفلسفية بالمعنى الصحيح بقدر ما ينتمون إلى البيئة الروحية التي تستمد غذاءها من
الفلسفة؛ وبالتالي تزيد الفلسفة ثراءً، أما وليام جودون (١٧٥٦–١٨٣٦)، الذي سنذكر
هنا
كتابًا رئيسيًّا من كتبه كانت له شهرة وأهمية فائقة، هو «بحث في
العدالة السياسية An Enquiry Concerning Political Justice» (١٧٩٣)، فقد كان أعنف وأقوى هجومًا على النظام
الاجتماعي القائم من بنتام ذاته، وقد تأثر مباشرةً بموجة الثورة الفرنسية، وهو أول
مفكرٍ إنجليزي ذي مذهبٍ ثوري، وهو بدوره يرى في اللذة والسعادة دوافع السلوك البشري،
ويدعو مثل بنتام إلى تحصيل أكبر قدر منها للوصول إلى الحالة المثلى التي ينشدها
للمجتمع، وهو يرى أن العقل — الذي يضفي عليه أسمى الحقوق — هو المرشد الوحيد للإنسان
ومحرره من الاضطهاد السياسي والاستعباد الديني، ولقد استمد من التراث الروحي لعصر
التنوير والثورة الفرنسية عناصرَ كثيرة، منها إيمانه المتعصب بالتقدم وفوضويته وحماسته
ضد الكهنوت وكل من يموِّهون على الناس، وحلمه الإنساني العالمي بالسعادة البشرية،
وتأليهه للعقل، وهجومه على النظم الاجتماعية والأفكار الأخلاقية الشائعة، وقد استطاع
التوفيق بين مبادئ عصر التنوير ومبادئ الثورة الفرنسية في مذهبٍ فكريٍّ واحد، ولما
كان
قد عرض هذه الأفكار بحماسةٍ دافقة، فقد هزَّ عقول الناس بقوةٍ هائلة، ولا سيما عقول
الشعراء الرومانتيكيين، وهكذا وقع في حبائل إغراء مذهب جودون شعراء مثل كولردج ووردزورث
وسذي Southey وشلي وكثير غيرهم، ووجدوا لزامًا
عليهم أن يحددوا موقفهم منه، فانتهى بعضهم إلى التحرر منه، وانتهى البعض الآخر إلى
الإغراق فيه.
ولقد أخذ توماس ر. مالتوس
Thomas R. Malthus
(١٧٦٦–١٨٣٤) على عاتقه مهمة مهاجمة آراء جودون بما فيها من أمنيات مبالَغ فيها عن
مستقبل البشرية، وذلك في كتاب مالتوس المشهور والمفرط في غرابته: «بحث في نظرية السكان
Essay on the Principle of Populations»
(وقد نُشِرَ لأول مرة عام ١٧٩٨)، فأعاد الأمور في هذا الكتاب إلى نطاق الواقع المرير،
فقد كانت نظريته في السكان، التي أثارت بمجرد ظهورها عاصفة من الاستنكار وسيلًا من
الردود، موجهة أولًا ضد وهْم التقدم والاعتقاد بازدياد كمال الإنسان والمجتمع على
الدوام، وهو الاعتقاد المميز لعصر التنوير، وكانت ترمي إلى إثبات أن مشكلة السكان
تكشف
لنا عن قانونٍ صارم يهدم أحلام السعادة هذه، هو القانون القائل: إن السكان يتزايدون
بمعدل يفوق كثيرًا معدل نمو وسائل العيش، وعلى ذلك فليس لنا أن نتوقع زيادةً مطردة
للسعادة، بل ينبغي على العكس من ذلك أن نتوقع زيادة في البؤس الفردي والاجتماعي نتيجة
لهذه الظروف، وسرعان ما أصبحت تعاليم مالتوس — التي تتمشى نتائجها مع اتجاه بنتام
الفكري — جزءًا أساسيًّا من مذهب المنفعة، وكان لها في التفكير الاقتصادي الإنجليزي
تأثيرٌ قوي، وإن يكن مثبطًا، تجلَّت آثاره في التشريع العملي، وظل هذا المذهب قوةً
حية
حتى ما بعد منتصف القرن التاسع عشر على الأقل، وقد كان تأثر مالتوس ببنتام — من الوجهة
التاريخية — أقل من تأثره بمفكرين مثل أ.
تكر
A. Tucker،
١وبالي
W. Paley،
٢ ناهيك بتأثره بهيوم، الذي اعترف مالتوس ذاته بأنه كان يدين بالكثير لآرائه
في السكان، وفيما بعدُ استعار دارون من مذهب مالتوس تلك الفكرة الحافلة بالنتائج؛
فكرة
الصراع من أجل الوجود (والتعبير ذاته موجود لدى مالتوس) وبذلك اكتسب وجهة النظر التي
سادت أبحاثه البيولوجية.
أما ديفد ريكاردو D. Ricardo (١٧٧٢–١٨٢٢) فقد وضع
مذهبًا نفعيًّا في الاقتصاد في كتابه «مبادئ الاقتصاد السياسي
والسياسة الضريبية Principles of Political Economy & Taxation» ١٨١٧، التزم فيه مبادئ مذهب المنفعة بدقة، مع
تطبيقه على نطاقٍ أوسع من تطبيق مالتوس له، ولا شك أن أمر تقدير الأهمية الفائقة
لهذا
الكتاب، الذي يُعدُّ فتحًا في تاريخ الاقتصاد السياسي الإنجليزي، أو اختبار الآراء
التي
يتضمنها، إنما يقع خارج نطاق كتابنا هذا، والواقع أن هذا الكتاب لم يفُقْهُ أهمية
إلا
كتاب آدم سمث الكلاسيكي، الذي يرتبط به ارتباطًا وثيقًا؛ إذ نقل رسالته الفكرية إلى
القرن التاسع عشر في صورةٍ مستقلة. ولقد ظل ريكاردو أقرب من مالتوس إلى آراء بنتام،
وذلك بتوسط جيمس مل في المحل الأول، وإن يكن قد اتفق مع مالتوس في آرائه الاجتماعية
والسياسية الأساسية. وإن التفكير الاقتصادي للقرن التاسع عشر — ولا سيما تفكير ماركس
—
لَيَدين لريكاردو بأفكاره الأساسية، وقد احتلَّت آراؤه فيما بعدُ بالتدريج مركز
البديهيات في الدراسة النظرية للقوانين والوقائع الاقتصادية.
ويستمر التيار الرئيسي للتفكير النفعي — بعد بنتام — عند جيمس مل (١٧٧٣–١٨٣٦)
مباشرةً، وكان جيمس مل تلميذًا شابًّا وصديقًا وحليفًا لبنتام، اقتبس تعاليمه وواصلها
كأنها عقيدةٌ موروثة، وهو يمثل معبرًا بين بنتام — الذي أعاد بناء المذهب التجريبي
من
جديد — وبين ابنه جون ستيوارت مل، الذي بلغ بهذا المذهب تمامه، وهكذا كان يحتل أساسًا
موقع الوسيط، وكانت مهمته هي حفظ التراث حتى يسلمه نقيًّا صافيًا إلى ابنه وخليفته
العظيم. ولقد كان جيمس مل أشد المتحمسين للدعوة إلى أفكار بنتام، وأجهر الناس بالإعجاب
به، وقد التفَّت حوله تلك الفئة المسماة «بالمجددين الفلسفيين» الذين عملوا على تجديد
الحياة السياسية الإنجليزية مستوحين روح بنتام. وكان نشاطه التأليفي موجهًا في المحل
الأول إلى الفلسفة الأخلاقية والدراسات العملية المرتبطة بها، وكذلك إلى التاريخ
والفقه
ونظرية الدولة والسياسة والاقتصاد السياسي، وفي هذه الدراسة الأخيرة اعترف بأنه تابع
لريكاردو مباشرةً. وقد ارتكز في كل هذه المجالات على أفكار المدرسة التي تغلغلت في
دمائه، ولم يجد ما يدعو إلى مناقشتها، والتزم بحماسة التلميذ المكتمل وإخلاصه، تلك
الصيغة المشهورة في مذهب المنفعة، تحقيق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من
الناس.
ومع ذلك، فقد أدى في ناحيةٍ معيَّنة خدمةً هامةً
ضرورية لمدرسته؛ ذلك لأن بنتام لم يكد يعبأ بإيجاد أساسٍ نظري لتعاليمه، وهكذا كانت
هناك ثغرة في مذهبه تحتاج إلى أن تملأ، لا سيما وقد أنتجت المدرسة الاسكتلندية المضادة
له مؤلفاتٍ قيمة، لم يكن من الممكن التصدي لها وإبطال أثرها إلا بمؤلفاتٍ متساوية
القيمة من الجانب الآخر، وقد أخذ مل على عاتقه هذه المهمة في أهم كتبه، وعنوانه:
«تحليل ظواهر
الذهن البشري
Analysis of the Phenomena of the Human Mind» (١٨٢٩ طبعة جديدة بإشراف جون ستيوارت مل، ١٨٦٩)، وفي
هذا الكتاب وضع الأساس النفسي لمذهب المنفعة. ولقد كانت لآراء مل في علم النفس أهميةٌ
تاريخيةٌ خاصة، بالإضافة إلى وظيفتها بوصفها أساسًا؛ فقد كان لزامًا عليه، لكي يضع
هذا
الأساس، أن يلجأ إلى الأفكار التجريبية القديمة، وعلى ذلك كان على مل أن يلتقط خيط
التطور، أو يصل بين طرفَيه، عند النقطة التي قطعه فيها المفكرون الاسكتلنديون قبل
ذلك
بنصف قرن من الزمان، أي عند علم النفس الترابطي كما قالت به المدرسة الكلاسيكية الأقدم
عهدًا، وهكذا اكتسب علم النفس عند مل قوامه عن طريق العودة إلى تعاليم هيوم
وهارتلي
Hartley،
٣ ومن ثَم فقد كانت معارضته صريحة للمذهب الحدسي في المدرسة الاسكتلندية،
ولقد عاد ثانيةً إلى تأكيد أهمية الفاعلية الآلية للذهن، وأدخل مرةً أخرى منهج التشريح
النفسي، ومعه الكيمياء النفسية، وتشبث بفكرة تحليل الظواهر الذهنية إلى أبسط أجزائها
(الذرات النفسية)، وأحيا من جديد قانون التداعي أو الترابط بوصفه القانون الأساسي
للحياة النفسية، وكذلك النظرة الظاهرية
Phenomenalist
في نظرية المعرفة، وهكذا أعاد من جديد إلى الحياة كل مجموعة الأفكار المنتمية إلى
النظرية الفلسفية الكلاسيكية، ولقد اقتربت آراؤه من هارتلي أكثر مما اقتربت من لوك
وهيوم، ولكنه امتنع عن جميع التفسيرات الفسيولوجية، واقتصر على مجرد استطلاع مجال
الشعور أو الوعي النفسي، وكانت لديه قدرةٌ فائقة على التحليل، كما تشبث بإصرار بمبدئه
الأساسي في التداعي، وحسن منهجه، ودعم مذهبه، وأتى بموادَّ تجريبيةٍ جديدة، ولكنه
لم
يتخلَّ أبدًا، في أية نقطةٍ هامة، عن الأسس التي حفظها وأكدها التراث، وهنا أيضًا
لعب
مل دوره المميز، أعني دور الوسيط؛ وذلك بأن أدى في مجال الدراسات النظرية نفس الخدمة
التي أداها مل في المجال العملي، أعني تجديد الفكر بروح الفلسفة الإنجليزية الكلاسيكية،
وأن أهميته التاريخية لترجع إلى أنه دفع علم النفس ونظرية المعرفة دفعةً قوية إلى
الأمام، ولدت سلسلةً طويلة من النتائج الأخرى، وظلت على قوتها حتى قرب نهاية القرن
الماضي على الأقل.
ولقد كانت فلسفة جون ستيوارت مل، وهو أعظم
مفكِّر تجريبي في القرن التاسع عشر، تُمثل نموًا عضويًا من الوضع الفلسفي الذي أوجده
بنتام وجيمس مل، وقبل أن ننتقل إلى الحديث عنه، ينبغي أن نذكر أسماء بعض الشخصيات
التي
يقع مولدها بين مل الأكبر ومل الأصغر، والتي ترتبط بهما ارتباطًا وثيقا. ولقد كان
المشرع جون أوستن
J. Austin (١٧٩٠–١٨٥٩)، والمؤرخ
جورج جروت
G. Grote، شقيق الفيلسوف جون جروت، الذي
سيأتي ذكره فيما بعدُ؛ كان هذان من بين الأصدقاء المقرَّبين إلى مل الأب ومل الابن،
وكانا في البداية صديقَين حميمَين للأب، ثم نمت بينهما وبين الابن صداقة أبوية متينة.
ولقد قام أوستن، الذي ظل بضع سنوات أستاذًا للقانون في جامعة لندن، بدراسةٍ منظمةٍ
دقيقة لمجال القانون من وجهة نظر مذهب المنفعة، ووضع في كتابه المشهور، تحديد مجال
الدراسة التشريعية
The Province of Jurisprudence Determined (١٨٣٢)، أسس فلسفة للقانون،
٤ ولكن علاقته بأوساط مذهب المنفعة قد تعقَّدت بفعل مؤثرات أتت إليه من
المدرسة التاريخية في القانون ومن الرومانتيكيين الألمان؛ إذ إنه عاش خلال النصف
الثاني
من العقد الثالث من عمره فترةَ طويلة طالبًا في هيدلبرج وبون، حيث تعرف إلى شخصيات
مثل
سافيني
Savigny،
٥ و«أ. ف. شليجل
Schlegel»
٦ وبراندس
Brandis،
٧ وغيرهم، وعلى هذا النحو اكتسب تفسيره أفقًا أوسع من حدود التقيد الصارم
بمذهب بنتام، وتبدي ذلك على أنحاءَ عدة، من أهمها أنه لم يبنِ أخلاق المنفعة على
فكرة
المنفعة ذاتها، وإنما حاول أن يدعمها بالجزاءات الدينية. أما «جروت»، الذي اشتهر
بوصفه
مؤرخ اليونان القديمة، فقد كان منذ البداية أميل من أوستن إلى مل الأب، وقد انضم
بحماسة
إلى مل في جهوده لإصلاح المذهب التجديدي
الفلسفي
philosophic radicalism، الذي كان يمثله في البرلمان، غير أن مذهبه الفكري قد تلقَّى
مؤثرات من مصادرَ أخرى، أهمها الفلسفة اليونانية، التي كان له بها إلمامٌ واسع (كما
تشهد بذلك مؤلفاته عن أفلاطون وأرسطو) وقد حاول في كتابه الذي نشر بعد موته
«شذرات في الموضوعات
الأخلاقية
Fragments on Ethical Subjects» (١٨٧٦)، وهو مؤلفه المنهجي الوحيد، أن يثبت الطابع
الاجتماعي للأخلاق على نحوٍ أفضل مما فعله أصحاب مذهب المنفعة بموقفهم الذي تسوده
النظرة الفردية، مؤكدًا أولوية المجتمع على الفرد، وواجب الفرد في الخضوع للإرادة
الجماعية للمُجتمع.
ونستطيع أن نذكر هنا، إلى جانب أوستن وجروت، اسم
السير جون هرشل J. Hershel (١٧٩٢–١٨٧١) ووليام هيوول W. Whewell (١٧٩٤–١٨٦٦)، وعلى الرغم من ابتعاد
هذين عن دائرة بنتام، فقد قاما بنصيبٍ هام في الإعداد للأبحاث المنطقية التي أجراها
مل
الابن؛ ذلك لأن مل قد وجد في كتاب الفلكي العظيم هرشل، وعنوانه «بحث منظم حول دراسة
الفلسفة
الطبيعية Discourse on the Study of Natural Philosophy» (١٨٣٠)، مادةً زاخرة مستمدة من العلوم الطبيعية استعان بها
في وصف عمليات الاستقراء، بل لقد وجد في هذا الكتاب أيضًا منهجه التجريبي الخاص مطبقًا
عمليًّا، وإن لم يعبر عنه بصورةٍ صريحة. ولقد وجد مل قيمةً أعظم في الأبحاث الشاملة
التي أجراها هيوول، والمبنية على معرفةٍ دقيقة بنظرية العلوم الاستقرائية وتاريخها،
وهي
الأبحاث التي عرضها هيوول في كتابَيه العظيمَين: تاريخ العلوم الاستقرائية History of the Inductive Sciences
(١٨٣٧، الترجمة الألمانية ١٨٣٩–١٨٤٢) و«فلسفة العلوم
الاستقرائية Philosophy of the Inductive Sciences» (١٨٤٠). ولقد كان هيوول يمتاز بمعرفةٍ هائلة للماضي،
وفاق في نطاق معلوماته الموسوعية ودقتها هاملتن ذاته، الذي اشتهر بأنه كان أوسع رجال
عصره علمًا، ولقد استعان مل في إعداد الباب الثالث من كتاب المنطق (وهو الباب الخاص
بالاستقراء) بالمواد التي جمعها هيوول استعانةً كاملة، وأقرَّ شاكرًا بأنه لولا هذا
العمل التمهيدي لما تمكن من إنجاز مهمته، ولكنه في الوقت ذاته أحس بغريزةٍ صائبة
بالتضاد المنهجي القاطع بينه وبين هيوول؛ فقد رأى فيه ممثلًا لما يسميه بالنظرة
الألمانية أو «الأولية a priori» إلى المعرفة البشرية
وقدراتها. والواقع أن هيوول قد تأثر بكانت تأثرًا قويًّا، ورفض المنطق ونظرية المعرفة
التجريبيين، ولقد اعترف مثل مل بالأهمية الأساسية للاستقراء، بوصفه عملية استخلاص
الحقائق والمبادئ العامة من الوقائع الجزئية في كل بحث وكشفٍ علمي؛ ولذا أطلق اسم
«العلوم الاستقرائية» على تلك العلوم التي تسمى عادة باسم «الطبيعة»، ولكنه لم يجعل
الأهمية الأولى فيها لملاحظة الوقائع، وإنما رأى أن الأفكار التي يلعب الذهن الدور
الرئيسي فيها هي عامل لا يقل عن الملاحظة أهمية، وأنه لما يتفق تمامًا مع رأي كانت
القائل بأن الإدراكات الحسية فارغة، أن يقول هيوول في مقدمة كتاب «تاريخ العلوم
الاستقرائية» المذكور من قبلُ، أن الشرط الأساسي لكل تقدمٍ علمي هو اتحاد الأفكار
الواضحة بالوقائع المحددة. ويطلق هيوول اسم التضاد الأساسي في الفلسفة، على رأيه
القائل: إن الفكرة ينبغي ألا تستقل أبدًا عن الواقعة الملاحظة، ومع ذلك ينبغي أن
تجذب
الواقعة دائمًا نحو الفكرة، وقد عبر عن ذلك تعبيرًا موجزًا بليغًا في قوله: «إن التقابل
بين الحس والأفكار هو أساس فلسفة العلم، فلا قيام لمعرفة دون توحيد هذين العنصرَين،
ولا
قيام لفلسفة دون الفصل بينهما» («فلسفة العلوم الاستقرائية»، طبعة جديدة، ١٨٤٧، المجلد
الثاني، ص٤٤٣). ولقد كان هدف هيوول في كتابَيه العظيمَين هو إحياء «الأورجانون الجديد Novum Organun» لبيكن، ورفع هذا الكتاب إلى
المستوى المتقدم الذي بلغه العلم الحديث. وهكذا فقد بدأت دراسة الأسس المنهجية للعلم
على يد هيوول، وواصلها مباشرةً مل في كتابه «المنطق»، وثبت أن للخلاف الذي نشأ بينهما
فيما بعدُ فائدته الجمة؛ إذ أثار الاهتمام بهذه المسائل في الأوساط الفلسفية والعلمية
معًا.
والآن نصل إلى جون ستيوارت مل
John Stuart Mill (١٨٠٦–١٨٧٣)، الذي بلغ عنده
المذهب التجريبي الحديث منتهاه، مثلما بلغت التجريبية الكلاسيكية منتهاها عند هيوم
قبل
ذلك بقرن من الزمان. ويعتقد كثيرون أن مل هو أعظم مفكرٍ إنجليزي في القرن التاسع
عشر،
ولكن أيًّا كان الأمر، فمن المؤكد أنه كان أعظم الكتاب الفلسفيين في عصره، ومن الملاحظ
أنه، مثل بيكن وهبز وشافنسبري وباركلي
٨ وهيوم وبنتام وجيمس مل، ثم سبنسر فيما بعدُ، لم يشغل أي منصبٍ تعليميٍّ
رسمي، ومارس الفلسفة، لا على أنها مجرد بحثٍ علمي أو ثقافي، أو لصالح حلقةٍ صغيرة
من
التلاميذ والمتخصصين، بل بوصفها رسالةً روحية ينبغي أداؤها استجابة لنداءٍ باطن،
والجهر
بها على الملأ أجمعين، ولقد كان أعظم ناطق بلسان الفلسفة في عصره، كما أصبح واحدًا
في
سلسلة القوى الأدبية الخلَّاقة الهائلة التي مارست تأثيرها مثله على الوجه الروحي
للحياة في إنجلترا في القرن التاسع عشر، وإلى مل يرجع الفضل، أكثر مما يرجع إلى أيٍّ
من
السابقين عليه مباشرة، في تجاوز الفلسفة لنطاقها الضيق السابق، واتساع نطاقها بحيث
أصبحت تنتمي إلى مجال الأدب العام؛ وبذلك أصبح قراؤها هم كل الصفوة المثقفة في الأمة،
وبفضله أصبح للفلسفة منبرٌ واسعٌ عريض تعلن به عن نفسها، وتبعث فيه قواها، كما اكتسبت
بدورها قوة بفضل تأثيرات الحياة الثقافية التي أصبحت الفلسفة محاطة بها.
ويمثل مل — في تطور الفلسفة الإنجليزية — آخر مركبٍ ضخم عُرِضَ به المذهب التجريبي؛
فجميع الأفكار الرئيسية في المذهب التجريبي تتجمع لديه في وحدةٍ متسقة إلى أبعد حد،
ويحدث ذلك، لا على شكل مذهبٍ متناسقٍ منظم بدقة، كما هي الحال عند سبنسر فيما بعدُ،
وإنما بذلك الأسلوب المتحرر الذي يحتل أكبر عدد من مجالات التجربة، لكي يتغلغل فيها
بالتفكير الفلسفي، لا لكي يدرجها في وحدةٍ شاملة أو ليحشرها قسرًا في مذهبٍ مشيد
هندسيًّا. والواقع أن الطريقة الأولى لا الثانية هي الأسلوب الصحيح للتفلسف التجريبي،
الذي لا يمكنه — بحكم إخلاصه للتجربة في كل إمكانياتها المتعددة — أن يستسلم مباشرةً
لفكرةٍ بسيطة، أو يقنع بالتنظيم الصارم في مذهب؛ فالتفكير المذهبي — من ذلك النوع
الذي
احتل فيما بعدُ مكانةً كبيرة لدى سبنسر — عنصرٌ غريب يصعب التوفيق بينه وبين مبادئ
المذهب التجريبي، ولما كان مل قد اعتنق هذه المبادئ خالصة، ففي وسعنا أن ننظر إليه،
لا
إلى سبنسر، على أنه آخر ممثل أصيل للتراث الإنجليزي العظيم.
ولقد تغلغل هذا التراث في دمائه منذ نعومة أظفاره؛ فقد خضع تعليمه لأفكار أبيه
ولإشراف هذا الأب وحده، دون مدرسة أو جامعة، وذلك وفقًا لروح فلسفة بنتام وطبقًا
لمبادئه تمامًا، وقد وصف هو ذاته هذه التجربة غير العادية وصفًا حيًّا في ترجمته
الذاتية لحياته Autobiography (١٨٧٣)، ويكاد يكون
في حكم المعجزات أن هذه التجربة لم تدمره، وهكذا قَبِلَ عن طيب خاطر وبإيمانٍ كامل
تلك
التعاليم التي لُقِّنَ إياها بإكراهٍ خارجي. وعندما بلغ الخامسة عشرة من عمره، كان
قد
أصبح مؤمنًا بمذهب المنفعة إيمانًا كاملًا مصقولًا، كما كان متشرِّبًا تمامًا بجميع
تعاليم المدرسة، وملمًّا بكل ما يمكن تصوُّره من أنواع المعارف، ولقد بلغ من استحواذ
المذهب عليه أنه أنشأ مع مجموعة من أصحاب الاتجاه نفسه — وهو لم يزل في السادسة عشرة
من
عمره — جمعيةً فلسفيةً أسماها «جمعية مذهب المنفعة»، وكان هذا التعبير — وليس تطبيقاته
القديمة المتفرقة — هو الذي أشاع هذا اللفظ على الألسن بالتدريج، وهكذا أصبحت كلمة
صاحب
المذهب المنفعي أو «النفعي» التي نقشها مل بطريقةٍ صبيانية على رايته، تعني بالنسبة
إليه رمزًا لكل ما اكتسبه من الفلسفة عن أبيه، أي أفكار بنتام ومدرسته.
وعندما بلغ مل العشرين من عمره، انتابته أزمةٌ روحيةٌ عنيفة، ينبغي أن نلمَّ بها
هاهنا؛ إذ إنها قد تحكَّمت في حياته التالية بأسرها، وأطلقت لأول مرة ما كان حتى
ذلك
الحين حبيسًا بفعل تعليمه المصطنع، أعني طبيعته الباطنة ذاتها، فلم تكن هذه الأزمة
—
ولا سيما فيما جلبته بعد ذلك من نتائجَ مثمرة — إلا رد فعل على ضيق الأفق والجمود
الذي
كانت تتسم به الآراء التي حبسه تعليمه بين جدرانها، ولقد سبق له أن أظهر نوعًا من
الثورة على نظرية السعادة في الأخلاق، وعلى الأخلاق الحتمية وطغيان العقل، فأصبح
يدرك —
لأول مرة — الأهمية القصوى للفن والشعر بوصفهما مؤثرَين ثقافيَّين، واعترف لأول مرة
بالحاجة إلى تنمية العواطف والخيال في التعليم، بالإضافة إلى ملكة الفهم النظرية
الخالصة، وبقيمة التهذيب الباطن للنفس الفردية إلى جانب التنظيم المجرد للظروف
الخارجية، ولقد تكشف له العالم الجديد، الذي أصبح الآن محيطًا به من كل جانب، والذي
مكَّنه من اجتياز صدمته الروحية العميقة؛ تكشف له هذا العالم لأول مرة بفضل استغراقه
في
شعر وردزورث Wordsworth.
ثم أتته فيما بعدُ معوناتٌ عديدة من مصادرَ
أخرى، أولها اهتمامه الكبير بعبقرية جوته Goethe، ثم
تعرفه إلى الشاعر والمفكر الرومانتيكي العظيم كولريدج Coleridge، الذي اتصل به عن طريق قراءاته الخاصة من جهة، ومن جهةٍ أخرى
عن طريق صداقته الشخصية لأصدقاء شبان لكولريدج، مثل فردريك د. موريس Frederick D. Maurice وجون سترلنج John Sterling، صديق كارليل Carlyle الذي مات صغيرًا، وأخيرًا من كارليل ذاته، الذي بدأ في ذلك
الحين يكشف عن العالم الروحي الألماني لمواطنيه. ولقد كان كارليل في نظر مل شخصيةً
جذابة من ناحية ومنفرةً من ناحيةٍ أخرى، وعلى الرغم من مقاومته لتأثيره، فإنه لم
يستطع
أن ينأى بنفسه تمامًا عن هذا التأثير، الذي لا يعزى إليه الاتجاه الذي أصبح تفكيره
يتخذه في ذلك الحين فحسب، بل تعزى إليه أيضًا تلك الحدود التي ظل ذلك التفكير محصورًا
فيها. وعلى أية حال فإن الأمر الذي كان مل على ثقة منه عندئذٍ، هو أنه قد انشق إلى
غير
رجعة على طريقة أبيه في التفكير.
كل هذا ظهر بوضوح في بحثَين نشرهما مل في عامَي ١٨٣٨ و١٨٤٠ في «مجلة وستمنستر Westminster Review»، أولهما كان عن بنتام،
والثاني عن كولردج (وقد أُعيد نشرهما فيما بعدُ في المجلد الأول من كتابه: «أبحاث
ومناقشات Dissertations and Discussions» (١٨٥٩)، ويستحق
هذان البحثان اهتمامًا خاصًّا؛ إذ إن مل كان فيهما من أوائل من عرضوا التقابل الحاسم
الذي انقسمت به الحياة الروحية لعصره إلى معسكرَين بينهما خصومةٌ عنيفة والشخصية
التي
يتجسد فيها أحد طرفَي هذا التضاد، والتي ترمز له بوضوح، هي شخصية بنتام، الذي واصل
تراث
القرن السابع عشر، أما الشخصية التي تمثل الطرف الآخر، فهي شخصية كولردج، الذي تركزت
فيه تلك القوى الروحية الجديدة التي ظهرت في القرن التاسع عشر، وعبرت عن نفسها من
خلاله. ولقد أحسَّ مل، الذي كان بحكم الأصل والبيئة والتعليم ملتزمًا بالانضمام إلى
معسكر بنتام، ثم تأثر فيما بعدُ تأثرًا عميقًا بعالم كولردج؛ أحسَّ بالتوتر الذي
جعل من
هاتين الشخصيتَين، ومن القوى الديالكتيكية التي عبرت عن نفسها من خلالهما، قطبَين
يتنافر كلٌّ منها مع الآخر بشدة، وقد أدرك بنظره الثاقب التقابل المطلق بين أفكارهما
وآرائهما في الحياة «إن كل إنجليزي اليوم هو ضمنيًّا إما مُشايِع لبنتام أو لكولردج.»
وقدَّم لهما وصفًا كان في عمومه صحيحًا، فقال: إن مذهب كولردج أنتولوجيٌّ، محافظٌ،
دينيٌّ، عينيٌّ، تاريخيٌّ، شعري، أما مذهب بنتام فتجريبيٌّ، تجديدي، غير مؤمن، مجرد،
واقعي، وعملي في أساسه. ولقد نظر إلى هذا التقابل — بمعنًى أوسع — على أنه يمثل التقابل
بين القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر، أو بين عصر التنوير والعصر الرومانتيكي، أو
بين
الروح الإنجليزية والروح الألمانية، وفي الوقت ذاته أحسَّ بضرورة التوفيق بين هذين
الضدَّين وتخفيف توتراتهما، وبنداءٍ باطن يدعوه إلى إيجاد مركب بينهما، واثقًا من
أن
«كل من تسنَّى له استيعاب مقدماتهما والجمع بين منجيهما ملك ناصية الفلسفة الإنجليزية
في هذا العصر بأسرها.»
ولقد أدت الصدمة التي تلقاها من كولردج — ذلك المفكر الذي عده مل بحق ناطقًا
إنجليزيًّا بلسان المثالية الألمانية — إلى إبعاده مؤقتًا على الأقل عن التقيد الحرفي
بمدرسة بنتام، وقد ناقش في مقاله عن بنتام مذهب هذا الأخير، وأوضح الأخطاء والنواقص
في
تعاليمه، ثم تبرأ كما قال فيما بعدُ «على نحوٍ قاطع من المذهب البنتامي الضيق الأفق
الذي تبدى في كتاباته الأولى.» وقد رأى بوضوح أن فلسفة بنتام لم تمس إلا السطح الخارجي
للأمور، وأن الأوجه الأعمق والأدق للحياة قد خفيت عليها، أما كولردج فقد ألقى الضوء
على
هذه الأوجه؛ ولذا فإن مل قد التمس لديه المشورة في تلك المسائل الحاسمة التي تخلى
فيها
— كما كان يعتقد — عن الطريقة التقليدية في التفكير، فإذا ما تأملنا الآن تفكير مل
كما
يتمثل في مؤلفاته الرئيسية، التي تنتمي كلها إلى فترةٍ تالية لهذين المقالَين، كان
لنا
أن نتساءل عن مدى الفائدة التي عاد بها عليه تأثير كولردج، ومقدار تغير وجهة نظره
نتيجة
لهذا التأثير، وإن الإجابة الصحيحة عن هذا السؤال لكفيلة أيضًا بأن تحدد بدقة موقع
مل
التاريخي.
وينبغي أن يقال أولًا: إن تأثره بكولردج، وهو اللفظ المختصر الذي نستخدمه للدلالة
على
تفتح ذهن مل لتيارات الفكر المنبثقة عن المثالية والرومانتيكية، قد بلغ أَوْجَه بتأليف
هذين المقالَين، وأن هذا التأثر لم يزد قوة في تفكيره المتأخر، وإنما طرأ عليه الضعف،
وقد أدرك مل نفسه ذلك عندما عاد بذاكرته في أواخر حياته إلى تلك المرحلة من تطوره
في
ترجمته الذاتية لحياته، ولاحظ أنه قد أكد أكثر مما ينبغي، في تلك الفترة، الجانب
الملائم لأحد تيارَين فكريَّين (كولردج) والجانب غير الملائم للتيار الآخر، وكثيرًا
ما
أكد فيما بعدُ مناصرته لأفكار القرن الثامن عشر التي كان يعارضها إلى حدٍّ ما في
تلك
الفترة، وإن لم يكن قد تخلَّى عنها أبدًا. ومن الظواهر الغريبة أن مل، وإن كان قد
اطلع
على معالم الفكر الألماني بفضل كولردج وكارليل وغيرهما، فإنه لم يرهق نفسه أبدًا
من أجل
استيعاب المذاهب الفلسفية الألمانية بدقة، وقد كان مستواه في هذه الناحية أدنى كثيرًا
من مستوى هاملتن، معاصره الأكبر سنًّا، صحيح أنه قد تعرف سطحيًّا إلى شعر جيته، وإلى
النظريات التربوية ﻟبستولاتسي
Pestolzzi،
٩ ثم اتصل فيما بعدُ بفلهلم فون
همبولت
Wilhelm Von Humboldt،
١٠ غير أن ما كان يعرفه عن الحركة الفلسفية الألمانية من كانت إلى هيجل كان
كله تقريبًا مستمدًّا من السماع، ولم يتجاوز بعض الأفكار الغامضة المختلطة، فهنا
ظل مل
محتفظًا بتلك العزلة التي تُميِّز كثيرًا من المفكرين الإنجليز، مع أن روحه المتحرِّرة
كانت في نواحٍ أخرى متفتحة كل التفتح للمؤثرات الخارجية، وحيثما كان يشتم من بعد
وجود
مؤثرات ألمانية، كان يقف ضدها ويُقلِّل من قدرها، مفضلًا عليها تراثه القومي، فالفلسفة
الألمانية كانت في نظره كتابًا ذا أختامٍ سبعة، لم يشعر بأدنى رغبة في استجلاء
أسراره.
ومع ذلك فإن القوة المستمدَّة من كولردج لم تتركه دون أن تخلف فيه أثرًا، فهو لم
يتخلَّ أبدًا على نحوٍ نهائي عن ارتباطاته القديمة، ولم يصل إلى توفيقٍ صحيح بين
الأفكار القديمة والجديدة، وبفضله أصبحت حركة مذهب المنفعة مرنةً سيالة مرةً أخرى،
ففاضت جوانبها من حدودها الضيقة، وكسرت قيدها القطعي، وعلى الرغم من أنها لم تكسب
أرضًا
جديدةً واسعة، فقد أصبحت واعية بحدودها الخاصة، وظهر فيها استباق لأفكارٍ جديدة وحياةٍ
فلسفيةٍ متجددة، ولا يستطيع المرء أن يقول إن التعاليم التقليدية قد حدث فيها تجديدٌ
أساسي، ولكن حدث فيها تغيرٌ هام، وهو تغيير لم ترفض فيه التعاليم القديمة في أية
نقطةٍ
هامة، وإنما هز أركانها في نقاطٍ عديدة، وأدخل عليها من آن لآخر تعديلات بلغت حدًّا
لم
تعد معه قابلة للدخول في الإطار القديم، وكما قال بول
هنسل Paul Hensel (انظر «كتابات
وأحاديث قصيرة Kleine Schriften and Vorträge» ١٩٣٠، ص١٣٩ والصفحات التالية) فإن مل قد استخلص من
داخل القوالب الثابتة للمذهب التقليدي أفكارًا عديدة قام بإحيائها حتى تجاوزت إلى
حدٍّ
بعيد ما يمكن أن تستوعبه تلك القوالب، «فحياته بأسرها كانت صراعًا باسلًا من أجل
طبع
شخصيته الفردية الزاخرة على تلك القشرة الجامدة التي غُلِّف بها مذهبٌ محدود الأفق»،
(نفس المرجع والموضع).
وقد أثبت مل امتيازه على جميع معاصريه بإبدائه استعداده للتعلم من أي شخص لديه أي
شيء
يقوله له (باستثناء الفلاسفة الألمان)، ويكاد تفكيره يشفُّ دائمًا عن تلك الروح
التوفيقية التي هي دائمًا على استعداد للتوسط بين المدارس الفكرية المتعارضة، ولترك
الحجج المتناقضة تتفاعل بعضها مع بعض.
ولقد انبثقت فلسفة مل، كما رأينا من قبلُ، من تربة التراث الإنجليزي، ومن ثَم فقد
بدأ
باستغلال ما آل إليه من ذلك التراث بحكم الأمر الواقع، فاتبع مذهب المنفعة في الأخلاق،
وتعاليم أبيه في علم النفس ونظرية المعرفة، ونظريات مالتوس وريكاردو في الاقتصاد
السياسي، كما اقتبس، في الميتافيزيقا والدين، تلك اللاأدرية التي كانت حظًّا مشتركًا
بينهم جميعًا، ثم أتاه من الخارج مذهب الأفكار الجديد الذي تجسد في كولردج وكارليل،
ولكن على الرغم من أن هذا المذهب قد هزَّ فلسفته من أعماقها، فإن مل لم يستطع أبدًا
أن
يستوعبه استيعابًا كاملًا. وهناك مدرسة اتصلت بها فلسفة مل في عهد متأخر نسبيًّا
(حوالي
١٨٤٠)، هي الوضعية الفرنسية عند سان سيمون وتلميذه العظيم كونت، ولما كانت هذه المدرسة
أقرب من السابقة عليها إلى طريقة تفكير مل، فإنه سرعان ما تفهمها واستوعبها، وأدت
علاقاته بكونت، التي اتخذت شكلًا شخصيًّا عن طريق تبادل الرسائل، إلى وحدةٍ وثيقة
للمذهبين، ومن هذه الوحدة نشأ ارتباطٌ فلسفيٌّ مبني على تشابه الهدف والتقارب الباطن
بين الآراء، وهكذا انسابت التجريبية الإنجليزية والوضعية الفرنسية، عند مل، في مجرًى
متسعٍ واحد، ومع ذلك فإن مل قد انصرف مستاءً عن المرحلة الأخيرة لتفكير كونت؛ إذ
شعر
بأن حرية البحث الفلسفي مهدَّدة بالخطر من جمودها شبه الديني، ورأى لزامًا عليه أن
يرفضها، أما المدرستان الألمانية والاسكتلندية فقد ظل يعارضهما طوال حياته
الفكرية.
ولم ينتبه مل إلا قليلًا للاختلافات العميقة بين
هاتين المدرستَين، وكل ما رآه منهما هو معارضتهما المشتركة لمناهجه الخاصة، وهكذا
ظهرت
كل فلسفة عصره أمام عينَيه في صورةٍ واحدة، هي صورة التوتر بين الطرف الألماني –
الاسكتلندي وبين الطرف الإنجليزي، أو بين الفلسفة الترتسندنتالية عند كانْت، ونظرية
الموقف الطبيعي (أو الإدراك المشترك Common-Sense) عند
ريد، ومذهب هاملتن الذي انبثق عن الجمع بينهما، كل هذا من جهة، وبين المذهب التجريبي
من
جهةٍ أخرى، وهكذا وجد نفسه في شقاقٍ دائم مع كل ما لا ينبثق عن التجربة، أو ما لا
يمكن
أن يحقق بالتجربة، ومع الأفكار الفطرية والحقائق الأولية a priori واليقينيات الحدسية، سواء في المعرفة وفي الأخلاق وفي أي
ميدانٍ آخر، وهو يدرج ضمن هذه الفئة كل ما يفترض أنه ملك مضمون للذهن البشري السليم،
وبالتالي كل هذه العناصر الأساسية ومبادئ الطبيعة البشرية التي ألقى تحليل ريد الضوء
عليها، ﻓالأولية apriorism بجميع مظاهرها ليست في نظره
إلا ملاذًا للجهل، يحمله مل مسئولية فساد كل علمٍ صحيح وكل بحثٍ فلسفيٍّ أمين. ولقد
كان
مذهب هاملتن في عصره، هو الذي يمثل أقوى قلعة لهذه الفلسفة الحدسية؛ ولذا أعد نفسه
لصراعٍ نهائي معه ومع مؤثراته القوية، ومن هنا كان كتاب مل الخلافي ضد هاملتن (١٨٦٥)
هو
المرحلة الأخيرة في هذا الصراع الطويل بين مدارس متعارضة في إنجلترا، وبعده دفن هذا
الخلاف، الذي انتهى إلى التغلب تمامًا على الخصم وتأكيد التجريبية الظافرة.
وليس في وسعنا أن نتناول هنا مساهمة مل في مختلف مجالات الفلسفة إلا بإيجازٍ شديد،
وأول ما ينبغي أن نتحدث عنه هو مساهمته في مجال المنطق، لا لأنها هي الأولى بالترتيب
الزمني فحسب، بل لأن لها الأهمية الأولى، فإليه — لا إلى أي شخص غيره — يدين المذهب
التجريبي بقيام نظريته المنطقية ونموها، أما السابقون عليه فلا تكاد تكون لهم في
هذا
الميدان جهود تُذكَر،
١١ صحيح أن هبز ولوك وهيوم هم الذين وضعوا الأسس، ولكن مل كان أول من رفع
البناء، فأخضع هذا المجال بجميع أطرافه لتنظيمٍ دقيق، وكان — باستثناء بيكن — أول
من
جعل من الأسس المنطقية للعلوم الدقيقة موضوعًا للبحث، ولقد أحدث فتحًا جديدًا في
تاريخ
المنطق، ليس فقط بفضل الأساس المنهجي الجديد لهذه الدراسة، بل أيضًا بفضل الاتساع
الهائل الذي أدخله على مجالها؛ ومن هنا كانت كل الاتجاهات المنطقية التالية، بالقدر
الذي تخلت به عن تراث أرسطو أو لم تسر به في الطريق المثالي الميتافيزيقي أو الطريق
الرياضي، مدينةً له بفضلٍ ما، بل إنه قد دفع بالمذاهب التقليدية والمثالية إلى التفكير
من جديد في أساس منهجها، وبفضل مل أصبحت للاتجاه النفساني في المنطق المكانة العليا
طوال سنواتٍ عديدة، ولم تنتهِ سيطرته إلا بعد أبحاث هوسرل الحاسمة قرب نهاية القرن
التاسع عشر. فكل الأبحاث في الأوجه النظرية والمنهجية للعلم تتخذ نقطة بدايتها من
مل
قبل غيره، ومهما افترقت عنه فيما بعدُ، فإنها مدينة له ببدايتها الأولى، فقد كشف
مل
أرضًا جديدة أضافها بأكملها إلى إطار العلم المنطقي، وذلك في فكرته الخاصة بمنهج
تكوين
التصورات العلمية ومنهج البحث الدقيق عامة، ولقد كان بحثه في منطق العلوم الطبيعية،
الذي عرضه في الفصول الأساسية المتعلقة بالاستقراء، هو أفضل بحثٍ منهجي في هذا الميدان،
إذا ما قورن بجميع المحاولات السابقة من نوعه، هذا فضلًا عن تلك المحاولة الأولى
لتكوين
منطق للعلوم الذهنية، وهي المحاولة التي أضافها إلى ما سبق، صحيح أنه لم يتمكن —
حتى
ذلك الحين — من إدراك الفروق الرئيسية بين منهجَي العلوم الطبيعية والعلوم الذهنية،
وأنه أيَّد بحماسةٍ زائدة ادعاء العلوم الطبيعية أنها هي التي تحتل المكانة العليا،
غير
أنه أدرك أن ثمة مشكلةً منطقيةً هامة ها هنا، وكان من أوائل من أدرجوا في مجال المنطق
مجموعة من العلوم التي كاد المناطقة الآخرون يتجاهلونها تمامًا. هذه حقائق ينبغي
ألا
ينساها المناطقة المتأخرون والكُتَّاب في مناهج العلوم الذهنية؛ إذ إن الكثيرين منهم
لا
يعترفون اليوم إلا نادرًا بقيمة جهود مل، وقد حاول مل أن يحلَّ هذه المشكلة بالنظر
إلى
طريقة العلم الذهني على أنها موازية بدقة لطريقة العلم الطبيعي، وبهذه الموازاة وحدها
أعتقد أن من الممكن جعل الدراسات الذهنية علمية بالمعنى الدقيق، ويمكن القول بوجه
عام:
إن كتاب مل في «المنطق» (الذي ظهر أولًا في مجلدَين، في سنة ١٨٤٣، بعنوان «مذهب في
المنطق، النظري
والاستقرائي»
A system of Logic, Ratiocinative and Inductive هو أدق وأشمل تطبيق لمبادئ المذهب التجريبي في بريطانيا،
وفيه طرد مل «الأولية
apriorism» من آخر وأقوى
معاقلها، ولم يتوانَ عن استخلاص أجرأ النتائج. وهكذا سار شوطًا أبعد بكثير من كل
السابقين عليه، حتى في هيوم ذاته، إذ لم يجرؤ هؤلاء على مهاجمة المنطق في هذا الموضع
أو
ذاك، وكانوا يخشون التدخل في مجالات معيَّنة ثبَّت أركانها تراث دام قرونًا عديدة،
أما
مل فقد اكتسح كل شيء، وأوضح أن البديهيات المنطقية والقضايا الرياضية ذاتها ليست
إلا
استقراءات من التجربة، «فنحن لا نرى ما يدعو إلى الاعتقاد بإمكان وجود أي موضوع
لمعرفتنا، سواء أكان تجربتنا أو ما يمكن أن يُستخلص من تجربتنا بالتمثيل، أو بوجود
أية
فكرة أو شعور أو قوة في الذهن البشري، تحتاج لتبريرها ولظهورها إلى أن ترد إلى أي
شيء
عدا تجربتنا.» هذه النغمة الرئيسية تتردد وكأنها إيقاعٌ أساسي من بداية كتاب «المنطق»
إلى نهايته.
كذلك يحاول مل — في ميدان نظرية المعرفة — أن يعرض وجهة النظر التجريبية النفسية
في
طابعها المنطقي الخالص، وأهم مؤلفاته التي قدم فيها هذا العرض بطريقةٍ شاملة هو كتابه
الفلسفي الثاني «اختبار لفلسفة السير وليام هاملتن Examination of Sir William Hamilton’s Philosophy» (١٨٦٥). ويُعَدُّ هذا الكتاب
المؤلَّف الرئيسي للتجريبية الحديثة في نظرية المعرفة، مثلما كان كتاب «التحليل»
لجيمس
مل مؤلفها الرئيسي في علم النفس، وهنا تصل قدرة مل على العرض الواضح الطليق، والمجادلة
العملية النقدية إلى أقصى درجات تطورها، غير أن مذهبه في المعرفة أقل في أهميته
الفلسفية بكثير من مذهبه في المنطق؛ فهو لم يكتشف هنا أرضًا جديدة، وإنما حقلًا زرعه
من
جديد، وسبق أن استغله استغلالًا كاملًا ممثلو التجريبية الكلاسيكيون، الذين انتفع
مل
نفسه من أبحاثهم، وهكذا فإن الطابع الغالب عليه في هذا الميدان هو العودة إلى الأفكار
القديمة لباركلي وهيوم، وعلى الرغم من أنه توصل إلى بعض الصيغ الجديدة، فإنه لم يضف
إلى
المعرفة إضافةً حقيقية، وتتلخص وجهة نظره في القول بصيغةٍ محددة بدقة للمذهب
الظاهري Phenomenalism، الذي كانت أهم تعاليمه هي
تلك المتعلقة بطبيعة المادة والذهن، وهو يتوصل إلى حل لمشكلة العالم الخارجي (أو
المادة) خلال محاولته تجنب المذهب الحسي
الساذج crude sensationalism، وذلك في صيغته المشهورة: «الإمكانات الدائمة للإحساس»، فمفتاح
المشكلة لا يبدو لديه في الإحساسات التي هي ماثلة مباشرة للوعي، والتي هي في تغيرٍ
دائم
وتفتقر إلى كل دوام وثبات، وإنما في توقعنا، في ظروف معيَّنة، إمكان ظهور إحساسات
معيَّنة، وفي كون هذه الإحساسات الممكنة تتصف بالثبات والدوام، غير أنه لم يدرك أن
تصورَي «الإمكان» و«الدوام» يفترضان مقدمًا تنظيمًا موضوعيًّا للأشياء، وأنه بذلك
يتخلى
عن المذهب الحسي بمعناه الدقيق؛ إذ إن هذا المذهب الأخير يرد كل وجودٍ حقيقي إلى
الأحاسيس وارتباطاتها، وهو يعالج مشكلة الذهن أو الأنا على نفس النحو، فهو يتفق تمامًا
مع نظرية «الحزمة» bundle-theory عند هيوم؛ إذ يُعرِّف
الذهن بأنه سلسلة أحاسيسنا كما تتبدى فعلًا في الوعي، والزيادة الوحيدة التي يدخلها
على
هذه النظرية هي إضافته إلى الأحاسيس الماثلة مباشرة تلك الإمكانات اللامتناهية للإحساس
والانفعال، التي يكفي توافر شروط معيَّنة لكي تظهر مباشرةً، وهذه الشروط قائمة دائمًا
بوصفها إمكانات، سواء أحدثت بالفعل أم لم تحدث، ومع ذلك فإنه يدرك تلك الحقيقة الفريدة،
وهي أن حزمة الأحاسيس هذه واعية بذاتها من حيث هي ماضٍ أو مستقبل، بحيث يكون علينا
إما
أن ننظر إلى الأنا على أنه شيء يختلف من حيث المبدأ عن سلسلة الأحاسيس أو إمكانات
الإحساس، أو أن نقبل الموقف الغريب الذي يوجد فيه شيء هو، حسب تعريفه، مجرد سلسلة
من
الأحاسيس، ويكون في الوقت ذاته واعيًا بذاته بوصفه سلسلة. ولم يستطع مل أن يتخلص
من هذا
المأزق، ولا أن يقرر مراجعة «نظرية الحزمة» بحيث يجعلها أقرب إلى أن تكون مذهبًا
للأنا
بوصفه مبدأً روحيًّا للوحدة، فهو يكتفي بملاحظة هذه الحقيقة الغامضة، ويرفض القيام
بأية
محاولة لتفسيرها. وعلى أية حال فإن توقفه الفجائي إزاء هذه المشكلة وغيرها يدل على
أنه
قد اضطر في أحوال كثيرة إلى أن يغمض عينَيه بقسوة عن الضوء الوضاح لبصيرته النفاذة؛
حتى
يظل مخلصًا للمذهب التقليدي لمدرسته. وعلى الرغم من أن ثقته بهذا المذهب قد قَلَّت
بالتدريج، فإنه لم يجهر صراحةً بخروجه على هذا التراث لا في هذه المسألة ولا في غيرها
من المسائل.
فهو لم يفعل ذلك في ميدان «الأخلاق» التي عرضها بوجهٍ خاص في كتابه: «مذهب
المنفعة Utilitarianism»، سنة ١٨٦٣، والتي يتعين
علينا أن نعرض لها هنا بإيجاز، فهنا يبدأ مل من المذهب النفعي الصريح عند بنتام وأبيه
جيمس مل، ولكنه، على الرغم من عدم تخلِّيه نهائيًّا عن مبدأ المنفعة، قد وصل خلال
تطوره
إلى نظريةٍ أخلاقية تفوق النظرية التقليدية صقلًا وجاذبية بكثير، حتى ليجوز للمرء
أن
يقول: إن مل قد حوَّل الأنغام الخشنة المزعجة إلى سُلمٍ موسيقيٍّ أرق وأعذب، فحساسيته
الأخلاقية الرفيعة المصحوبة بشعورٍ مرهف في تقديره للقيم، لم تستطع أن تقنعه بمذهب
يرد
كل فعل بشرى إلى السعي إلى اللذة والسعادة، ويعبر عن جميع مشاعر اللذة والسعادة بطريقةٍ
كمية محضة. وصحيح أن مل يفاضل بين مشاعر اللذة وعدم اللذة، وأنه كان في ذلك نفعيًّا
بحق، غير أنه يدرج في حسابه فروقًا كيفية أيضًا؛ إذ لا يقتصر في تقديره لمشاعر اللذة
على كميتها، بل يقدرها أيضًا تبعًا لمدى علو قيمتها. وهكذا فإن القيمة الأرفع مرتبة
يمكن أن ترجح كفتها على قيمة من مرتبةٍ أدنى، ويمكن أن يعد المرء شخصيةً أخلاقية
أرفع
إذا كانت الأنواع العليا من القيم أوضح ظهورًا لديه من الأنواع الدنيا. وهكذا فإن
مل
حين يؤثر الحديث عن صالح البشر على تحقيق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس،
وحين
يتحدث في فلسفته الأخلاقية عن الواجب والشخصية أكثر مما يتحدث عن السعادة والمنفعة،
وحين يجعل القيمة الأخلاقية للإنسان مرتبةً أعلى من مجرد السعي إلى تحصيل اللذة،
وحين
يجعل المثل الأعلى للأخلاق مرتكزًا، آخر الأمر، على النمو المتكامل المتناسق الشخصية،
في كل ذلك كان مل يستحضر نتائج ذلك التصويب الهام الذي أدخله على الصيغة الأساسية
لمذهب
المنفعة. وبالمثل خفَّف مل من حدَّة النزعة الفردية للمدرسة بالتوفيق بينها وبين
نوعٍ
معتدل من الاشتراكية، ومن السهل أن يرى المرء في ذلك مجرد نبيذٍ جديد يُصَبُّ في
زجاجاتٍ قديمة، والواقع أن الأسس المنهجية عند مل تُماثل نظائرها لدى أسلافه، غير
أن
المحتوى قد طرأ عليه تغير غير قليل، فمل يقف على مشارف نظرةٍ جديدة إلى الحياة، كان
لديه عنها إحساسٌ تنبُّئيٌّ واضح، وإن لم يكن التزامه قيود التراث قد حال دون تمكنه
من
إدراكها على نحوٍ قاطع.
وسوف أضع اللمسات الأخيرة في الصورة التي أحاول رسمها لتفكير مل بلمحة عن موقفه من
المسائل الميتافيزيقية والدينية، ففي ترجمته الذاتية لحياته نجد الفقرة المعبرة الآتية:
«إنني في هذه البلاد واحد من الحالات القليلة جدًّا التي تمثل شخصًا لم يتخلَّ عن
إيمانه الديني، وإنما لم يكن لديه مثل هذا الإيمان قط، فقد نشأت في حالة سلبية بالنسبة
إليه.» وبعد مرور وقتٍ كبير كتب مل «ثلاثة
أبحاث في الدين Three Essays on Religion» وهي أبحاث أثارت دهشةً عامة عندما نُشرت بعد وفاته،
ففيها لم يعد يتمسك بموقف الشك غير المكترث من المسائل النهائية، وإنما يناقشها بطريقة
تحفل بالنظر الفلسفي الدقيق، وإن يكن يتحسس طريقه بحذر نحو آراءَ إيجابية عن النظام
الكوني، وعن معنى الألم في العالم، وطبيعة الله، ومسائلَ ميتافيزيقية أخرى. وهو يبدي
في
اختباره الدقيق للطريق الذي ينبغي أن يؤدي به من الأسس التجريبية لتفكيره إلى محاولة
الإجابة عن المشكلات المتعالية؛ يبدي ميلًا واضحًا إلى فكرة وجود مبدأٍ إلهي للعالم،
وهو يرى في هذا المبدأ كائنًا له أعلى درجات الكمال الأخلاقي، ولكن ليست له قدرة
لا
متناهية، وهكذا يرى أن فكرة الإله المتناهي، الذي يسير بالكون، في صراعه الدائم ضد
المبادئ السلبية للعالم، نحو تطور يزداد على الدوام ارتقاءً، والذي يحتاج لذلك إلى
التعاون الإيجابي من جانب الإنسان، يرى أن هذه الفكرة تنسجم على أفضل نحو مع التجربة
الأخلاقية والدينية، وهي فكرة ثبت في كثير من الأحيان أن لها فائدتها في العصور
التالية، وعلى الرغم من استحالة التوفيق بين هذه المرحلة الأخيرة في تفكير مل، وبين
الآراء التي ورثها حول هذه المسائل، فإن هذه المرحلة لا تتناقض مع تطوره الفلسفي
الخاص،
وهي تكشف بوضوح عن أفكار كانت كامنة خلال المجرى العام لتفكيره، ولم تتكشف تمامًا
لسببٍ
واحد، هو أن المذنب الذي ورثه قد أدى إلى كبتها.
ولقد كان «ألكسندر بين Alexander Bain» (١٨١٨–١٩٠٣)
أنبغ تلاميذ مل، كما كان من أصدقائه المقربين، وكان يدين له بالفضل فيما أحرزه من
تقدم،
وكان ينحدر — مثل مل وأبيه — من أصلٍ اسكتلندي، كما شغل فيما بين عامي ١٨٦٠ و١٨٨٠
كرسي
الأستاذية في المنطق بجامعة أبردين. ويرجع الفضل إليه وإلى نجاحه بوصفه أستاذًا في
احتلال المدرسة التجريبية الجديدة لأول مرة المكانة التي تستحقها في الأوساط
الأكاديمية، وفي امتدادها إلى شمال المملكة؛ حيث كانت المدرسة الاسكتلندية تسيطر
على
الميدان حتى ذلك الحين، وحيث توطدت أيضًا — منذ عهدٍ قريب — دعائم المثالية، وهكذا
فإن
«بين» وفريزر الذي يمكننا أن نعدَّه الحارس الذي كان يحمي مؤخرة المدرسة الاسكتلندية
في
تقهقرها، وكذلك أ. كيرد Caird، هؤلاء الثلاثة ظلوا في
وقتٍ واحد، وطوال سنواتٍ عديدة، يمثلون في الجامعات الاسكتلندية المدارس الفلسفية
الرئيسية الثلاث للفلسفة الإنجليزية في القرن التاسع عشر، وفي ذلك الوقت كانت المدرسة
الاسكتلندية في تدهور، والتجريبية في أعلى قممها، والمثالية في طريقها إلى
الصعود.
ولقد كان «بين» يتميز إلى جانب عمله في التدريس، بالنشاط وغزارة التأليف في ميدان
علم
النفس والمنطق والأخلاق والتربية والنحو والبلاغة، ولكن أهم ما اشتهر به هو إنتاجه
في
علم النفس، وأهم مؤلفاته كتابان عظيمان كان لهما تأثيرٌ واسع، هما «الحواس
والعقل The Senses and the Intellect» (١٨٥٥) و«الانفعالات
والإرادة The Emotions & the Will» (١٨٥٩)، وفيهما عالج ميدان الحياة الذهنية بأسره بصورةٍ أدق
وأشمل من أية محاولةٍ سابقة، واستمر سائرًا في الطريق المباشر لعلم النفس الإنجليزي
عن
طريق ربط آرائه بمل الأب أكثر من الابن، الذي لم يتعهد هذا الميدان من ميادين الدراسة
بنظام، وإن لم يكن قد تجاهله تمامًا، ولقد استعان مل ذاته بتلميذه «بين» في إعداد
كتابه
«المنطق»، وتعاون معه هذا الأخير فيما بعدُ تعاونًا مثمرًا وتلقَّى منه مساعدةً هامة؛
ولذلك نظر إليه على أنه خليفته الصحيح في عمله.
وعلى الرغم من أن علم النفس عند «بين» قد نشأ
من تراث المدرسة الإنجليزية، التي التزمها التزامًا تامًّا، سواء في مناهجها في البحث
وفي مسلماتها الفلسفية، فإنه ينكشف في نواحٍ عديدة عن تقدم يتجاوز الوضع القديم،
وتظهر
فيه دلائل تبشر بالفترة المقبلة للمذهبين التطوري والإرادي
(
evolutionism & voluntarism) ويتمثل
تعلُّقه الشديد بالتراث في تقديره الواضح للوقائع، واحترامه للعلوم الدقيقة وجمعه
واستغلاله لكمياتٍ هائلة من مواد البحث، كما يتمثل أيضًا في منهجه الوصفي التحليلي،
واحتفاظه بمبدأ الترابط (أو التداعي)، ويتمثل أخيرًا في رفضه للميتافيزيقا النظرية
الخاصة حول جوهر النفس، وقد تميز عن مل وأبيه، اللذين اقتصرا على علم النفس المتعلق
بالوعي، بأنه وسَّع آفاق علم النفس في اتجاه علم وظائف الأعضاء، مثلما فعل «هارتلي»
من
قبله، وإن لم يكن قد اتبع في ذلك أسلوب هارتلي الغامض، الذي جمع بين الصيغة الدقيقة
والصيغة الميتافيزيقية، وإنما انتفع إلى أقصى حد بالنتائج الفسيولوجية التي كانت
متوافرة في ذلك العصر، ولا سيما تلك التي قدمها «يوهانس مولر
Johannes Muller»،
١٢ وبذلك وضع علم وظائف الأعضاء بكل عتاده في خدمة علم النفس، وقد بحث في
العلاقات بين الظواهر النفسانية وبين نظائرها في المخ والجهاز العصبي، ورد العمليات
النفسانية العليا إلى أسسها الغريزية وشروطها العضوية، كل ذلك دون وجود أي دافع من
النظر الفلسفي المحض، بل مع التزام حدود العلم الدقيق. ولكن على الرغم من أن «بين»
لا
يستخلص أية نتائج مادية، بل إنه يرفضها صراحةً، فإنه يذهب في رده الحياة الذهنية
بأسرها
ومجال الوعي كله إلى عملياتٍ مادية إلى حد يصبح معه مهددًا على الدوام بالوقوع في
هوة
المادية، ولا يعصمه عنها إلا تحويله علم النفس إلى علمٍ طبيعيٍّ دقيق، وتجنبه كل
قرارٍ
فلسفيٍّ نهائي. وكما أن محاولة هارتلي الأولى لبناء الحياة الذهنية على عمليات علم
وظائف الأعضاء لم تفلت من الوقوع في المادية إلا بفضل إيمانه الديني القوي، فإن هذه
المحاولة الثانية التي قام بها «بين» لم تفلت من مصيرٍ مماثل إلا بفضل اهتمامه بالمنهج
العلمي الدقيق.
وقد عمل «بين» على توسيع نطاق علم النفس المبني
على الترابط (التداعي) وتحسينه في نواحٍ هامة، وأدخل أفكارًا جديدةً متعددة في إطاره
الجامد، ولم يقتصر — كما اقتصرت هذه المدرسة في علم النفس — على الاهتمام بالعقل
وحده،
وإنما اعترف اعترافًا كاملًا بالعوامل العاطفية والدوافع الأولية والغرائز والانفعالات
… إلخ، كما اعترف بالأهمية الحاسمة لمجال الإرادة بأسره في تكوين العمليات النفسانية
وتوجيهها. وهكذا كان هو أول عضو في مدرسته يحاول الخروج على آلية الترابط السلبية،
والاعتراف بإيجابية الحياة الذهنية وتلقائيتها، كذلك حاول التخلص من فكرة تفتيت النفس
بالنظر إليها على أنها عمليةٌ سيالة أو متصلة، أكثر منها مجموعة من العناصر المترابطة،
وكان في ذلك كله يعمل حسابًا لعنصر الإرادة وما يناظره في المجال الفسيولوجي. وعلى
الرغم من أنه كان بعيدًا عن الآراء التطورية (إذ إن أول كتابيه الهامَّين قد ظهر
في نفس
الوقت الذي ظهر فيه كتاب «مبادئ علم النفس» لسبنسر، وثانيهما قد ظهر في نفس العام
الذي
ظهر فيه «أصل الأنواع» لدارون)، فإنه استشهد في تفسيراته على عواملَ فسيولوجية
وبيولوجية، واستعان أكثر ممن كانوا قبله بالمنهج
التكويني genetic، ومن الجوانب الأخرى الهامة في أعماله، فنظريته في الانتباه،
التي أكد فيها أهمية عنصر الإيجابية، وإحياء نظرية هيوم في الاعتقاد belief، ومناقشته لمشكلة العالم الخارجي في صدد نظرية المعرفة،
فالشيء الخارجي ليس في رأي «بين» مجرد ناتج لسلاسل من الحاضرات الذهنية المرتبطة
ارتباطًا وثيقًا، والتي تتلقاها سلبيًّا، وإنما هو عاملٌ مفترض ضمنًا في سلوكنا العملي،
يطلق فينا طاقاتٍ توتُّرية، ويضع نفسه، من ناحيته الخاصة، في مقابلنا. ويرى «بين»
أن
أصل اعتقادنا بحقيقةٍ خارجية أو منفصلة إنما يكمن في الشعور الذاتي بمثل هذا التقابل،
وهنا أيضًا تحل وجهة النظر العاطفية والإرادية voluntarist محل الحسية sensationalism
والعقلية.
وتوجد في كتابات «بين» تفصيلاتٌ عديدة كهذه توحي بالتطور التالي لعلم النفس كما تمثل
لدى سبنسر «وفنت
Wundt»
١٣ و«وورد
Ward» و«ستوت
Stout» وغيرهم، ومع ذلك فإن مذهب «بين» يظل على إجماله ترابطيًّا، أو
هو على الأقل يعود دائمًا إلى النظرية الترابطية، وفي كتاباته يتضح، كما اتضح في
كتابات
مل، أن أغلال المدرسة أقوى من الكشف الجديد. صحيح أنه قد هز هذه الأغلال، ولكنه لم
يستطع تحطيمها؛ إذ على الرغم من أنه جعل لتلقائية الحياة الذهنية مكانة أبرز كثيرًا
مما
جعله لها أي مفكرٍ سابق عليه، فإنه يتضح آخر الأمر أن مصدر هذه التلقائية لا ينبغي
أن
يلتمس في النفس ذاتها بقدر ما يلتمس في عواملَ فسيولوجية وعضوية كالإحساسات العضلية
والحركات المنعكسة وتخفيف التوتر إلخ، وهي عناصر يبني عليها كل الظواهر النفسانية،
وهو
لا يعترف أبدًا اعترافًا صريحًا بالطابع الإيجابي للعمليات النفسانية بما هي كذلك،
أو
للطاقة الذهنية على التخصيص.
وإذن ففضل «بين» إنما ينحصر أساسًا في توجيهه علم النفس التجريبي وجهة أقرب إلى
الطابع التقدمي الحديث، أما لو قارنَّا بقية أعماله بهذا العمل، لوجدنا أهميتها
التاريخية أقل كثيرًا، مهما بدت في أيامه مفيدة. ويعدُّ «بين» آخر ممثلٍ هام لمدرسة
مل
تظهر لدية آثار من روحه، وإليه يرجع الفضل، أكثر مما يرجع إلى أي شخصٍ آخر، في حفظ
تراث
مل طوال جيلٍ كامل بعد وفاته؛ ذلك لأن نشاطه التأليفي الجم قد امتد حتى نهاية القرن
التاسع عشر، بينما طالت حياته حتى القرن العشرين.
ونستطيع أن نذكر من بين معاصري «بين» الأحدث عهدًا الذين واصلوا حفظ تراث المدرسة:
أسماء «فولر» و«كروم روبرتسن» و«سلي»، وقد دار الجزء الأكبر من النشاط الفلسفي لهؤلاء
المفكرين الذين أتوا في أعقاب فلاسفةٍ عظام، في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر،
وتناول مجالات المنطق ونظرية المعرفة والأخلاق، والأهم من ذلك كله علم النفس. ﻓ
«توماس فولر Thomas Fowler»، (١٨٣٢–١٩٠٤) الذي كان
عميدًا لكلية «كوربس كريستي Corpus Christi» وأستاذًا
للمنطق في أكسفورد من ١٨٧٣ إلى ١٨٨٩، قد حول «منطق» مل إلى مؤلَّفٍ مدرسيٍّ ميسر
وشائع
الاستعمال (هو «أركان المنطق، الاستنباطي والاستقرائي The Elements of Logic, Deductive & Inductive» في مجلدَين، عام ١٨٦٩)، وكتب
عن المذهب التجريبي الكلاسيكي (فألَّف كتبًا عن بيكن ولوك وشافنسبري وهتشسون) وعالج
المشاكل الأخلاقية في كتابٍ شائع (الأخلاق
التقدمية Progressive Morality، ١٨٨٤) وفي كتابٍ آخرَ أقرب إلى الطابع العلمي الدقيق
«مبادئ الأخلاق Principles of Morals»، الجزء
الأول في ١٨٨٦، والجزء الثاني في ١٨٨٧، وقد عاد في الكتاب الأخير إلى أفكار الفلاسفة
الأخلاقيين الإنجليز في القرن الثامن عشر، محاولًا التمييز بوضوح بين الجزء الذي
يفرضه
الشعور الأخلاقي وبين ذلك الذي يفرضه القانون والمجتمع والدين، وبذلك أراد أن يثبت
الاستقلال الذاتي للمجال الأخلاقي، معرفًا ذلك الجزء بأنه شعور الرضا أو السخط الذي
نحس
به عندما نكتفي بالتفكير في أفعالنا الخاصة، دون أي رجوع إلى سلطة خارجية. وقد أكد
الطابع التقدمي للأخلاق، وعزاه إلى الزيادة التدريجية في دقة الحساسية الأخلاقية
وتهذيبها، كما عزاه إلى العناصر العقلية في الفعل الأخلاقي أكثر مما عزاه إلى العناصر
العاطفية فيه، وكان — مثل مل — يمثل مذهبًا نفعيًّا معتدلًا، واعترف بالفروق الكيفية
بين مشاعر اللذة وانعدامها، وأدرك عدم تطابق الدوافع الأخلاقية العليا والدنيا، وقد
استبدل بمبدأ المنفعة في صورته الخشنة الساذجة فكرة الرفاه Welfare or
well-being التي فهمها تمامًا بمعنى «السعادة eudaimonia» عند أرسطو.
أما المفكر الاسكتلندي جورج كروم
روبرتسون
G. Croom Robertson (١٨٤٢–١٨٩٢) فكان أقوى من السابق كثيرًا وأقل خضوعًا للتراث،
وكان تلميذًا وزميلًا «لبين»، ودرس في برلين (على ترندلنبرج
Trendelenburg١٤ وديبوا ريمون
Du Bois-Reymond١٥ وفي جيتنجن «على لوتسه
Lotze»،
١٦ كما درس في باريس، وشغل منذ عام ١٨٦٧ حتى وفاته أستاذية الفلسفة في الكلية
الجامعية (يونيفرستي كوليدج) بلندن، وكان هو أول من شغل هذا المنصب، وقد قام روبرتسون
بدورٍ مفيد في دعم الدراسات الفلسفية وتشجيعها في الجامعات، وكان من أقوى الشخصيات
الفلسفية في أيامه، وهي صفة اكتسبها بتأسيسه لمجلة «مايند
Mind» الفلسفية التي ظل عدة سنوات رئيسًا لتحريرها، وهذه المجلة تعد
أهم نشرةٍ فلسفية في البلاد الناطقة بالإنجليزية، وكانت فكرة تأسيسها، في عام ١٨٧٦
ترجع
إلى «بين» ويمكن القول أنها لا زالت حتى اليوم متأثرة بروح رئيس تحريرها الأول، ولقد
كانت المجلة عندئذٍ ملتقى لأكثر المدارس الفكرية تنوعًا، وقد كرس روبرتسون، بعد أن
تتلمذ على «بين»، معظم جهوده لعلم النفس، ولم يكن يميل إلى تأليف الكتب،
١٧ ولكن جهوده انصرفت إلى التوسع في دراسة مشكلاتٍ منفصلة من علم النفس، بدلًا
من أن تتجه إلى معالجة ميدان الظواهر النفسانية كله بالتفصيل (كما فعل «بين»)، وكان
مما
أعانه على ذلك ذهنه التحليلي المدقق، وقدرته النقدية الفائقة؛ مما أتاح له القيام
بأبحاثٍ رائعة في التحليل النفسي، كأبحاثه في الإدراك الحسي والذاكرة والعمليات الفكرية
والنزوع الإرادي، وهي أبحاث كان منها ما فاق مستوى أستاذه بكثير. وعلى الرغم من أنه
كان، على وجه العموم، من أنصار المذهب التجريبي، فإنه لم يسمح لنفسه بالتقيد بأغلال
التعاليم الصارمة للمدرسة، وإنما كان الدوام تواقًا إلى توسيع أفقه الذهني وتعميق
معلوماته الفلسفية، وكانت لديه معرفةٌ شاملةٌ دقيقة بمجال تاريخ الفلسفة بأسره، كما
كان
ملمًّا إلمامًا واسعًا بمؤلفات كبار الفلاسفة الألمان ولا سيما كانْت، وكان مقتنعًا
اقتناعًا عميقًا بحاجة الفلسفة التجريبية الإنجليزية إلى أن تكتسب قوةً جديدة بعد
أن
تضاف إليها الأفكار العميقة التي ينطوي عليها كتاب «نقد العقل الخالص» لكانْت.
وكان هذا هو الاتجاه الغالب على مؤلفاته، ولا سيما في ميدان نظرية المعرفة، ولم يكن
ينفر من الميتافيزيقا، وقد بذل قرب نهاية حياته محاولةً طريفة، اتخذ فيها نقطة بدايته
على أساس المذهب التجريبي، محاولًا الوصول إلى مذهب في الكونيات قريب من مذهب الذرات
الروحية عند ليبنتس، وإن يكن قد اختلف عنه في نواحٍ كثيرة.
على أن الخليفة الحقيقي لمل و«بين» في ميدان علم النفس لم يكن روبرتسن، وإنما
«جيمس سلي James Sully» (١٨٤٢–١٩٢٣) خليفة
روبرتسون في الكلية الجامعية (يونيفرستي كوليدج) بلندن (من ١٨٩٢ إلى ١٩٠٣). ولم يكن
سلي
فيلسوفًا بقدر ما كان باحثًا وملاحظًا تجريبيًّا علميًّا مثابرًا، وكان مثل «بين»
— الذي كان يشبهه كثيرًا — منغمسًا بكل قواه في مجال التجربة، وكان يجمع كمياتٍ ضخمةً
جديدة من المواد أو يعيد اختبار المواد القديمة في ضوءٍ آخر، وبذلك كان يوسع الأساس
القديم ويمده دون أن يتجاوزه أو يزوده بأساسٍ فلسفي أفضل. ولقد كان دائمًا يتخذ موقف
عالم النفس التجريبي، مهما كانت المجالات أو الموضوعات التي يعالجها؛ وهكذا فإنه
ناقش
مثلًا مشكلة الضحك التي كرس لها كتابًا كبيرًا (هو: «بحث في الضحك An Essay on Laughter» ١٩٠٢) لا بأسلوبٍ فلسفي أو
ميتافيزيقي كما فعل برجسون، بل تناول الموضوع من خلال جميع مظاهر تطوره، من نفسية
وفسيولوجية وأنثروبولوجية وإثنولوجية وبيولوجية واجتماعية، ولكنه لم يتمكن من الإتيان
«بالنظرية الفلسفية الحقيقية» التي رأى أنها هي القمة التي ينبغي أن تنتهي إليها
جميع
هذه النواحي المنفصلة، وكان قد بحث قبل ذلك بوقتٍ طويل في مشكلة الوهم Illusion بأسلوبٍ مماثل وفي تلك الحالة أيضًا اكتفى
«بدراسة نفسية»، تاركًا مجال معالجة الموضوع بمزيد من التوسع للفلاسفة، الذين هم
القادرون على الإتيان بالحل الصحيح للمشكلة «الأوهام، دراسة نفسية Illusions, a Psychological Study» ١٨٩١،
الطبعة الألمانية سنة ١٨٨٤)، وقد عالج علم النفس وفقًا لمبادئ «بين»، أي بطريقةٍ
فسيولوجية ووفقًا لمنهج الترابط، فتناول هذا العلم أولًا بصورةٍ مجملة (في كتاب
«المجمل في علم النفس Outlines of Psychology»،
سنة ١٨٨٤)، ثم عرضه عرضًا شاملًا جامعًا بوصفه علم الذهن البشري «الذهن البشري The Human Mind» في مجلدَين، ١٨٩٢)، وقد عدَّه
أساس كل المعرفة التي ترمي إلى توجيه وتحديد مجرى الفكر والشعور والعمل. وهكذا قلد
«بين» في مدِّ علم النفس إلى مجال نظرية التربية، (وذلك في «المجمل» الذي كتبه مع
إشارةٍ خاصة إلى مجال نظرية التربية، ثم بعد ذلك بوقتٍ قصير في: «الموجز في علم النفس
للمعلمين Teachers Hand-Book of Psychology»، ١٨٨٦، الذي ظهرت له ترجمةٌ ألمانية في ١٨٩٨)، كذلك عالج
ميدان علم نفس الطفل (في كتابه «دراسات في
الطفولة Studies of Childhood»، ١٨٩٥) ومضى في هذا الصدد أبعد من «بين» بكثير، كما اقتدى
بالاتجاه السائد في عصره إذ عالج أيضًا علم النفس التجريبي، الذي كان مقتنعًا بفائدته،
ولا سيما في التعليم. وأخيرًا، فإن شغفه بالتجربة قد جعله يوجه اهتمامه إلى علم الجمال؛
وبذلك فتح للمذهب التجريبي مجالًا كان جديدًا، أو على الأقل مجالًا طال تجاهله منذ
القرن الثامن عشر، ولكنه أيضًا اقتصر على بحث سيكولوجية الظواهر الجمالية، واكتفى
بالتصنيف والتحليل والوصف، بحيث أخفق في المضي بالدراسة إلى مجالٍ جديد أو في السير
بها
في طريقٍ فلسفي، وإنما اقتصر على تطبيق المنهج القديم على مادة من نوعٍ جديد (وذلك
في
مقاله عن «علم الجمال» الذي كتبه ﻟ «دائرة المعارف البريطانية» في طبعتها التاسعة،
عام
١٨٧٥، وفي بعض الأبحاث التي نشرها في مجلاتٍ دورية).
ولقد كان الأصل الذي ظهرت من خلاله الحركة التجريبية لدى الكُتَّاب الذين ذكرناهم
منذ
قليل هو الأبحاث النفسية قبل كل شيء، غير أن اتجاهًا آخر قد تفرع منها، وكرس أبحاثه
لفلسفة التاريخ، ولا بأس من أن نلمَّ هنا بشيء عنه بإيجاز، فقد أثار مل، ومعه كونت
في
نفس الوقت، الاهتمام بالعلوم الذهنية وبمناهجها وطابعها المنطقي، وقد اعتقد هذان
المفكران أنهما إذا نقلا منهجَي القانون الطبيعي والعلِّية الدقيقَين إلى عالم التاريخ
السياسي والاجتماعي الذي تمثله هذه العلوم، ففي إمكانهما أن يفسرا معناها وغايتها،
وحاولا أن يختبرا هذه الفكرة، ويبرراها بقدر الإمكان، من خلال البحث في التاريخ المعاصر
لهما، وكان من نتيجة ذلك أن أدخل عنصرٌ فلسفي في فهم التاريخ، وبالتالي حدث تقارب
مع
الأبحاث التاريخية لعصر التنوير، وهي الأبحاث التي كانت زاخرة بالأفكار الفلسفية،
ولا
سيما لدى فولتير وهيوم. وهكذا ألَّف جورج
جروت G. Grote تلميذ بنتام وصديق مل (انظر من قبل [الباب الأول: المدارس
الفكرية المتقدمة – الفصل الثاني: المدرسة النفعية التجريبية]) كتابه «تاريخ اليونان»
(في ستة مجلدات ١٨٤٥–١٨٥٦) بروحٍ فلسفية، وإن لم يبلغ في ذلك حد الإفراط، وكانت أروع
وأهم المحاولات التي بذلت في إنجلترا في هذا الصدد، هي محاولة «توماس هنري بكل T. H. Buckle» (١٨٢١–١٨٦٢) مؤلف الكتاب المشهور
«تاريخ المدنية في
إنجلترا History of Civilization in England» (وكان المفروض أن يشتمل المؤلف بأكمله على أربعة عشر مجلدًا،
ولكن لم يظهر منه إلا الاثنان الأولان بوصفهما مقدمة، في عام ١٨٥٧ و١٨٦١، وقد طبعهما
Ritter طبعةً ألمانية غير محددة التاريخ)، وعلى
الرغم من أن بكل لم يكن تلميذًا لأي أستاذ مُعيَّن، فقد تأثر بقوة بالأفكار الوضعية،
وكان الأساس الفلسفي لتفسيره للتاريخ مكونًا من أفكار مل وكونت على السواء، فضلًا
عن
مفكري عصر التنوير الإنجليز والفرنسيين من قبلهم، ولهذا الأساس الفلسفي صلةٌ وثيقة
جدًّا بالنظرة المادية؛ إذ إن الفكرة الرئيسية فيه هي أن الحياة الروحية وكل التقدم
الحضاري تتوقف على الأحوال المادية للبيئة، أي على عوامل المناخ والتربة والتغذية،
وهذا
يستتبع بطبيعة الحال نقل مناهج العلم الطبيعي إلى علوم التاريخ والحضارة. وقد استخلص
بكل النتائج الجريئة التي تتلو من هذا الرأي، فعالم التاريخ يخضع لنفس القوانين
العِلِّية الدقيقة التي يخضع لها عالم الطبيعة، وفي الطبيعة البشرية اطراد يناظر
الاطراد في مجرى الطبيعة المادية، بحيث لا يحدث أي شيء في أحد المجالَين إلا وفقًا
لتعاقبٍ ضروري، ويحتل الإحصاء في التاريخ نفس المكانة التي تحتلها الرياضة في العلوم
الطبيعية، فهذان العلمان يقومان بحسابٍ دقيق لجميع العوامل التي تنتج وتحدد حادثًا
تاريخيًّا أو وضعًا اجتماعيًّا معيَّنا، ولقد كان «بكل» مؤمنًا إلى حد التعصب بمقدرة
الإحصاء، واستخلص بالاستناد إليه نتائجَ جريئةً معروفة، ولم يكن اهتمامه موجهًا إلى
الشخصيات الفردية وأفعالها الإرادية الحرة الظاهرة، بقدر ما كان موجهًا إلى العوامل
المطردة العامة التي تعبر عنها الحركات الجماهيرية الكبيرة، فالأخيرة، لا الأولى،
هي
التي تشكل تلك الحياة التي تتجسد في التاريخ والحضارة، ولسنا نستطيع أن نتخيل تقابلًا
أوضح من ذلك الذي قام بين طريقة «بكل» الجماعية الواقعية في كتابة التاريخ، وبين
طريقة
معاصره كارليل الفردية المثالية البطولية. ولقد كانت أفكار «بكل» مستمدة، بوجه عام،
من
القرن الثامن عشر، ومن هنا لم يكن خصومه على خطأ حين سخروا منه قائلين: إنه ابن لعصر
التنوير تأخر ظهوره قرنًا من الزمان. ولقد حارب الدين والكنيسة بوصفها قوًى تمثل
الجهالة في التاريخ، وكان لديه إيمان متعصب بالتقدم، لم يكن مبنيًّا لديه على أي
أمل في
التقدم الأخلاقي للجنس البشري، وإنما بُنِيَ على التوسع المتزايد في المعرفة والتنوير
بفضل العقل. وعلى الرغم من أنه ربط الروح بالطبيعة، فقد كان يؤمن بقدرة الروح على
إخضاع
الطبيعة والسيطرة عليها، وذلك بين الشعوب التي تتحقق فيها شروط النمو والتقدم عن
طريق
تزايد انطباع حياتها بالطابع العقلي بفضل العلوم الدقيقة والنقد الفلسفي (الذي عزا
إليه
وظيفةً حضارية ذات أهميةٍ خاصة).
ولقد أثار تفسير «بكل» للحضارة، بما اتصف به من طموح وتحيز وروحٍ نقديةٍ دقيقة،
عاصفةً كبرى في الحياة العقلية بإنجلترا بعد منتصف القرن التاسع عشر، وكان من أقوى
العناصر التي دخلت في تكوين الحركة التطورية، وهي الحركة التي بدأ ظهورها حوالي ذلك
الوقت، وإن كان تأثر «بكل» نفسه بها لا يكاد يُذكَر، ولقد ظهرت بعده محاولاتٌ أخرى
لإيجاد تفسيرٍ فلسفي للعصور الماضية، مثل محاولة «لكي W. E. H. Lecky» (١٨٣٨–١٩٠٣) في كتابه «تاريخ ظهور روح المذهب العقلي في أوروبا وتأثيرها History of the Rise and Influence of the Spirit of Rationalism in Europe» (ظهر في مجلدَين،
عام ١٨٦٥، ونشره «سولوفيتش» بالألمانية، وظهرت الطبعة الثانية لهذه النشرة في ١٨٧٣)
وفي
كتاب «تاريخ الأخلاق الأوروبية من أوغسطس إلى شارلمان History of European Morals From Augustus To Charlemagne» (في مجلدين، ١٨٦٩)
وكتاب «تاريخ إنجلترا في
القرن الثامن عشر History of England in the 18th Century» (في ثمانية مجلدات، ١٨٧٨–١٨٩٠) وهي كتب استوحى
مؤلفها فيها كلها روح «بكل»، كما ظهر أيضًا كتاب «تاريخ التطور العقلي لأوروبا History of the Intellectual Development of Europe» (١٨٦٢) للعالم جون و. دريبر John W. Draper، الذي هاجر إلى أمريكا، وكذلك
الكتاب الرائع «تاريخ الفكر الإنجليزي في القرن الثامن عشر History of English Thought in the 18th Century» (في مجلدَين، ١٨٧٦–١٨٨١)
من تأليف لزلي ستيفن Leslie Stephen (١٨٣٢–١٩٠٤)، وهو
كتاب تسوده أفكار «بكل»، وإن يكن قد تأثر أيضًا بفكرة التطور.
ونستطيع أن نشير أيضًا إلى مفكرَين آخرَين تربطهما بمدرسة مل صلة غير وثيقة، وينتمي
الجزء الأكبر من تعاليمهما إلى المدرسة النفعية أو التجريبية، وإن يكونا قد تأثرا
أيضًا
بأفكارٍ أخرى، وهما المفكر الأخلاقي هنري
سدجويك Henry Sidgwick والمفكر المنطقي والميتافيزيقي كارفث ريد Carveth Read.
أما هنري سدجويك (١٨٣٨–١٩٠٠)
١٨ فقد ذاع صيته بظهور كتابه «مناهج
الأخلاق
Methods of Ethics»، وهو أول مؤلفاته (باستثناء كتيب صغير) وأبعدها تأثيرًا، وقد
ظهر الكتاب عام ١٨٧٤، بعد وفاة مل بعامٍ واحد، وكان ذلك العام هو الذي شهد أول إنتاج
للحركة المثالية في أكسفورد، وهو «مقدمات» جرين لهيوم، وكتاب «منطق هيجل
Logic of Hegel» لولاس، وقد أدى كتاب سدجويك، الذي
اكتسب شهرةً غير قليلة، بالإضافة إلى شخصيته الخاصة وتدريسه، إلى إنهاض وتقوية الاهتمام
بالفلسفة في كيمبردج على نحو يناظر النهضة التي أحدثها تلاميذ كانت وهيجل في أكسفورد،
وأصبح سدجويك على رأس حركة لم تكن حقًّا جديدة تمامًا، ولكنها كانت تمثل تجمعًا جديدًا
لقوى تؤيد تنمية التراث القومي في الفلسفة، وصحيح أن القوة الدافعة التي بعثها، والتي
دعمها «وورد
Ward» من بعده، لم تؤدِّ إلى ظهور مذهبٍ
قوي متحدد المعالم نسبيًّا، كما حدث في أكسفورد، غير أنها قطعًا مهدت الطريق للانطلاق
الفكري الذي حدث في أوائل القرن العشرين، والذي يرتبط بفلاسفة كيمبردج قبل غيرهم.
ومن
الممكن القول إنه قام في الأخلاق بنفس الدور الذي قام به وورد في علم النفس، مع فارقٍ
واحد هو أن وورد قد فتح صفحةً جديدة، على حين أن سدجويك قد اختتم وطوى صفحةً
قديمة.
ولقد كانت الشهرة الهائلة التي أحرزها سدجويك في الفلسفة طوال الربع الأخير من القرن
التاسع عشر، بل وبعد ذلك أيضًا، ترجع كلها إلى كتابه الأول، الذي لا يمكن أن تقارن
به
في الأهمية جميع مؤلفاته الأخرى مأخوذة معًا.
١٩
ويحتل هذا الكتاب مكانةً عليا ضمن أشهر المؤلفات الأخلاقية التي ظهرت في إنجلترا في
النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بل لقد أصبح بالفعل كتابًا كلاسيكيًّا، ومع ذلك
فإن
أهميته قد بولغ فيها، فالقول إنه كتاب غيَّر مجرى البحث في علم الأخلاق إنما ينطوي
على
استخدام لتعبير بالٍ عتيق، وإذا سمح بهذا الوصف فينبغي أن يكون ذلك للدلالة على معنًى
أقلَّ بكثير من ذلك الذي يقصد عندما يطبَّق — في الفترة ذاتها — على مل وسبنسر من
جهة،
وعلى جرين وبرادلي من جهةٍ أخرى؛ ذلك لأن سدجويك لم يضع منهجًا جديدًا ولم ينشئ مذهبًا
جديدًا، وإنما ينحصر فضله في أنه صنَّف ورتَّب وراجع وقوَّم مجموعة موجودة من قبلُ
من
الأفكار، وحاول أن يربط على نحوٍ مثمر بينها وبين أفكارٍ أخرى جديدة.
وعلى الرغم من أن بعض كتاباته تتناول أعم المسائل الفلسفية، فقد كاد اهتمامه يكون
منحصرًا كله في المشاكل الأقرب إلى الطابع العملي، وفي وقائع الحياة الأخلاقية
والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وفي المناهج والمقولات التي يمكن دراستها بواسطتها،
وكان هدفه الأساسي هو أن يجعل من الأخلاق مبحثًا فلسفيًّا مكتفيًا بذاته، متحررًا
من كل
تحزب ميتافيزيقي ونفساني وديني، ومتحررًا من البلاغة ومن الاتجاه إلى الوعظ والإرشاد؛
ذلك لأن الأخلاق عنده ليست قواعد للسلوك وإنما هي نظرية، ومن الواجب ألا يُعَدَّ
نصيرًا
لقيمٍ قديمة أو داعية لقيمٍ جديدة، بقدر ما يجب أن يُعَدَّ مشاهدًا هادئًا يتأمل
الوقائع بروح تبلغ من الموضوعية بقدر ما تسمح طبيعة هذه الوقائع وطبيعته هو الخاصة.
ولقد كانت عبقريته الفلسفية نقدية وتحليلية قبل كل شيء، ولا يكاد يكون لسدجويك، بين
معاصريه، نظير في تلك المقدرة والمثابرة اللازمة للنظر إلى المشكلة الواحدة من أكثر
الزوايا تباينًا، وتتبعها بالقيام بتحليلات أدق وتعقب الاعتراضات والردود على
الاعتراضات حتى آخر تفرعاتها. على أن هذا الميل إلى النظر إلى الأشياء بطريقة
ميكروسكوبية قد حال بينه وبين تأمل المشكلة الواحدة أو مجموعة المشاكل في كليتها،
فطالما كان يضل طريقه في متاهة من التفاصيل، ويعجز عن إدراك معالم الطريق الموصل
إلى
أية نتيجةٍ واضحة، وقد أدى به حرصه على تجنب الانحياز إلى إعطاء شيء من الحق لجميع
الأطراف، بحيث كانت النتائج التي وصل إليها بالفعل أقرب إلى الحلول الوسطى منها إلى
الحلول الأصيلة للمشكلات، وترتب على ذلك أن اصطبغت كتاباته كلها، ولا سيما كتابه
الرئيسي، بطابعٍ رتيبٍ ممل، فهي في ترددها أعجز من أن توصل القارئ إلى تكوين فكرةٍ
محددة تسيطر على ذهنه، وكان منهجه مقاربًا لمنهج العلوم الخاصة، وهو عكس الطريقة
التركيبية التأملية التي كان يتبعها مفكرو أكسفورد، وليس في وسع أحد أن ينكر أن منهجه
هذا قد أثر في فلاسفة كيمبردج اللاحقين؛ فالتقارب بينه وبين منهج مفكرين مثل
«مور Moore» و«ماكتجرت Mctaggart» و«برود Broad» أوثق من أن
يسمح لنا بافتراض أن هذا التقارب، في بيئةٍ واحدة، لم يحدث إلا مصادفة، وعلى ذلك
فمن
الواجب تقدير منهجه على أساس تأثيره في المستقبل، على عكس محتوى مذهبه الذي كان،
كما
لاحظنا، يمثل نهاية فترة أكثر مما يمثل بداية فترةٍ أخرى.
وهو يعرِّف الأخلاق بأنها تحديد الفرد بطريقةٍ عقلية الفعل الصحيح، فهي علمٌ معياري،
وليست مجرد علمٍ وضعي، ومجالها هو مجال ما ينبغي أن يكون، متميزًا عما هو كائن، وهو
يشمل الغايات أو الأوامر التي يحددها لنا العقل العملي، ويرى سدجويك أن هناك محاولتَين
فقط من المحاولات التي بُذِلَت للوصول إلى صيغة للمثل الأخلاقي الأعلى، هما وحدهما
اللتان يمكن أن تُعَدَّا معقولتَين، إحداهما هي تلك التي ترى ذلك المثل الأعلى في
السعادة، والأخرى تلك التي تجده في الكمال، وللأولى صورتان متميزتان، إحداهما ترى
أن
السعادة التي ينبغي أن تطلب هي سعادة الشخص ذاته، والأخرى ترى أنها هي سعادة الآخرين،
وعلى ذلك فمن الممكن تقسيم المذاهب الأخلاقية إلى ثلاثة أنماطٍ رئيسية (كان لكل منها
ممثلوه في التاريخ)، هي الأنانية أو مذهب اللذة
الأناني egoistic hedonism، والمنفعة أو مذهب اللذة الشاملة universalistic hedonism، والمذهب الحدسي intuitionism.
أما المذهب الحدسي فهو مبني على الاعتقاد بوجود بديهياتٍ أخلاقية، أي مبادئ لها صحةٌ
واضحة بذاتها، ومن أمثلتها أنه لا ينبغي لي أن أفضل خيرًا حاضرًا على خيرٍ أعظم منه
في
المستقبل، أو خيرًا لذاتي على خير أعظم منه لغيري. أما القضايا المماثلة للقضية القائلة
إن من واجبي قول الصدق والوفاء بالوعد، فليست بداهتها مباشرةً كالسابقة، غير أن المبادئ
المعترَف بها اعترافًا عامًّا، كالحيطة والعدالة والإحسان، تشمل على أية حال عناصر
يدركها الذهن مباشرةً، ويرى سدجويك أن المذهب الحدسي يتمثل على أوضح نحو لدى «كلارك»
و«كانت»، ونستطيع أن نضيف إليهما «مارتينو Martineau»،
الذي لم تكن نظريته قد نُشرت في صورتها الناضجة عندما ظهر كتاب سدجويك لأول مرة.
أما
بالنسبة إلى مذهب اللذة hedonism، فإن سدجويك قد أسدى
خدمةً هامة إذ ميز تمييزًا قاطعًا بين نوعَين منه، فمذهب اللذة الأناني، الذي يمثله
أبيقور، يتخذ من لذة المرء نفسه وألمه معيارًا للسلوك، ويدعم هذا الرأي بالنظرية
النفسية القائلة إن هدف كل فعل لنا إنما هو تحصيل اللذة أو تجنب الألم، ويضيف إلى
ذلك
الرأي القائل إن اللذة والألم قابلان للقياس وللمقارنة فيما بينهما، بحيث يكون من
الممكن مواجهتهما الواحد بالآخر والبحث عن توازنٍ ملائم بينهما. وأما مذهب المنفعة،
كما
يتمثل لدى بنتام وجون ستيوارت مل، فيتخذ معيارًا للسلوك، لا من سعادة كل فرد، بل
من
سعادة الجميع، ففي كل فعل لي يتعين عليَّ مراعاة مصالح جميع الأشخاص الآخرين الذين
قد
يتأثرون به، وهكذا كانت الصيغة التي تلخِّص رأي بنتام هي «أكبر قدر من السعادة لأكبر
عدد من الناس.» ولم يكن في وسع سدجويك أن يهتدي في أي من هذه المذاهب إلى ذلك الذي
يمكنه أن يقول إنه يمثل مذهبه الخاص، ولقد كان الذي يسعى إليه هو مركب يجمع أكبر
قدرٍ
ممكن مما يبدو له صحيحًا في كل من هذه المذاهب، على الرغم من أن ما توصل إليه لم
يكن
إلا حلًّا وسطًا غير مُرْضٍ. ولقد كان أبغض المذاهب إليه هو الأنانية، في صورتيها
الأخلاقية والنفسانية، وقد رفضها في النهاية رفضًا قاطعًا، بوصفها منافية للتجربة
والعقل معًا. أما مذهب اللذة الشاملة، فقد سار معه سدجويك شوطًا بعيدًا، ولكنه عدَّله
تعديلًا أساسيًّا، متجاوزًا مل بتنكُّره لمذهب اللذة النفسي الذي ارتكز عليه المذهب
كله
عند مل، وملتمسًا له أساسًا مخالفًا تمامًا. وكان مطلبه يسير في اتجاه المذهب الحدسي،
الذي وجد أن الغاية الأخلاقية لا تكون في الاستقراء التجريبي، وإنما تكون في التبصر
العقلي المباشر، وقد اختلفت الآراء كثيرًا حول المصدر الذي تأثر به في هذا الصدد،
وهل
هو الأخلاقيون الإنجليز القدامى مثل كلارك وبطلر، أم هو كانت و«لوتسه Lotze»؟ والأرجح أنه تأثر بالجميع، ولكن من الواجب
استبعاد أي اقتباسٍ عميق منه للأخلاق المثالية الألمانية؛ إذ إنه كان متمسكًا بأركانٍ
أساسية في المذهب النفعي، واكتفى بتصحيحه وتعديله وتوسيعه، ولم يحاول أبدًا أن ينشقَّ
عنه. أما العناصر التي اقتبسها فعلًا فلم تكن مرتبطة بتفكيره إلا ارتباطًا خارجيًّا،
لا
متمثلة فيه عضويًّا، ونستطيع أن نشير — للدلالة على ذلك — إلى الموقف العدائي الذي
سرعان ما اتخذه نحو سدجويك الأخلاقيون الإنجليز الأحدث عهدًا، الذين تأثروا بالمثالية
الألمانية، وهو موقف نجد تعبيرًا واضحًا عنه في كتاب برادلي «دراسات أخلاقية Etbical Studies» (١٨٧٦) وفي كتيبه الخاص «مذهب
اللذة عند سدجويك Mr. Sidgwick’s Hedonism»
(١٨٧٧)، فضلًا عن كتاب جرين «مدخل إلى
الأخلاق Prolegomena of Ethics» (١٨٨٣) الذي اتخذ من سدجويك هدفًا مستمرًّا للهجوم، ولقد كان
سدجويك ذاته شاعرًا بهذه العداوة، ويتضح عجزه عن إنصاف مدرسة أكسفورد كما تتمثل في
«جرين» بجلاء في كتابه الذي صدر بعد وفاته بعنوان «محاضرات في المذهب
الأخلاقي عند جرين وسبنسر ومارتينو Lectures on the Ethics of Green, Spencer and Martineau».
وعلى ذلك فإن موقف سدجويك الخاص، بقدر ما يمكن القول إن له موقفًا خاصًّا، هو أقرب
إلى الجمع بين عناصرَ مستمدةٍ من المذهب الحدسي والمذهب النفعي، والتوفيق بين الأخلاق
العقلية والأخلاق التجريبية، وهما التياران الرئيسيان في الفلسفة الأخلاقية الإنجليزية،
اللذان كانا من قبله في صراع، أو على الأقل كان كلٌّ منهما متباعدًا عن الآخر. ولقد
أطلق هو ذاته على مذهبه اسم مذهب المنفعة، وأحيانًا كان يطلق عليه اسمًا أوضح، هو
مذهب
المنفعة المبني على أساسٍ حدسي، وبذلك لفت الأنظار إلى الوجه الذي أراد أن يؤكده
أكثر
من غيره، ولا تكاد تظهر في مذهبه أية علامات للمذهب التطوري عند سبنسر وهكسلي وستيفن
وألكسندر، وغيرهم، وهم الذين عملوا جميعًا على تطبيق مبادئ دارون على الأخلاق بعد
ظهور
كتاب سدجويك، وعلى الرغم من أنه حاول في الطبعات التالية لكتابه أن يعرض لهذا المذهب،
فمن الواجب أن يوصف موقفه، حتى في النهاية، بأنه سابق على مذهب التطور، وربما مضاد
له،
كما أنه رفض في الطبعات التالية المذهب الحدسي الخالص عند مارتينو، ومعه مثالية جرين،
وأصبح هذان المفكران، ومعهما سبنسر، هدفًا لهجومٍ خاص وجَّهه إليهم في المحاضرات
التي
نشرت بعد وفاته، والتي أشرنا إليها من قبلُ.
ولقد أدى إبعاد سدجويك لمذهب المنفعة عن مذهب اللذة الفردي الذي كان يرتبط به، إلى
ترك الطريق مفتوحًا لوضع أساسٍ عقليٍّ حدسي لهذا المذهب، فقد رأى أن من الخطأ في
ملاحظة
ما يحدث في الواقع أن يقال إن الغاية الوحيدة للنزوع الإرادي هي تحصيل اللذة وتجنُّب
الألم، وذهب إلى أنه حتى لو صح هذا لكان من المستحيل الانتقال — بنوع من الاستقراء
— من
هذه الأنانية إلى المبدأ النفعي القائل بالسعادة الشاملة؛ ذلك لأن من المستحيل جعل
الوقائع الذهنية محدِّدة للمعايير الأخلاقية، أي جعل ما هو كائن محدِّدًا لما ينبغي
أن
يكون، فليس لأصل أفكارنا الأخلاقية أي شأن بصحة هذه الأفكار، وبهذا التأكيد لفكرة
الوجوب خطا سدجويك خطوةً حاسمة تجاوز بها كل أخلاقٍ تجريبية، وإن يكن قد ظل كعادته
في
موقفٍ وسط، بالقول إن موضوع الالتزام — أي المثل الأخلاقي الأعلى — هو السعادة لا
الواجب، فهناك مثلٌ أعلى يدركه الحدس ويضمنه، وله من الوضوح واليقين بقدر ما لأية
بديهيةٍ رياضية، هو المثل الأعلى القائل: إن من واجبي، بوصفي كائنًا عاقلًا، أن أُعامِل
الآخرين كما أودُّ أن أعامَل في الظروف المماثلة، وهذا هو مبدأ العدالة، أما مبدأ
الحيطة prudence القائل: إن من واجبي أن أفضِّل
خيرًا مقبلًا على خيرٍ حاضرٍ أقلَّ منه، وكذلك مبدأ الإحسان benevolence القائل: إن عليَّ ألا أسعى إلى ما هو خير لي إلا في إطار
الخير العام؛ فهما بدورهما بديهيتان أخلاقيتان، وليسا موضوعَين للاستقراء، وإنما
للحدس
العقلي. ومن الواضح أن الأمر المميز لمذهب المنفعة، وهو السعي وراء تحقيق السعادة
للجميع، لا للذات فحسب، إنما يرتكز على أول هذه المبادئ الثلاثة وآخرها، أي إن مذهب
المنفعة يرتكز على المذهب الحدسي، وبالعكس يؤدي المذهب الحدسي إلى مذهب المنفعة؛
فالاثنان يرتبطان سويًّا ارتباطًا وثيقًا.
غير أن لمذهب المنفعة دعامةً أخرى يستمدها من الموقف الطبيعي (الإدراك المشترك)، أي
من المشاعر الأخلاقية الساذجة للإنسان العادي، ومن الصفات المميزة لسدجويك أنه —
على
الرغم من رفضه لأي تحديد تجريبي للمثل الأخلاقي الأعلى — قد حرص كل الحرص على التوفيق
بين آرائه النظرية وبين التجربة العملية، وعلى تجنب أي تصادم مع النظام المقرر للعرف
الأخلاقي السائد، فمع اعتقاده بأن من واجب الفلسفة أن تعلو في نواحٍ معينة على الرأي
الشائع، بل وتختلف عنه، كان مقتنعًا بأن عليها ألا تقف بمعزل تمامًا عنه، أو أن تناقضه؛
لذلك حاول أن يبين أن مذهب المنفعة والموقف الطبيعي (أي الإدراك المشترك) يتمشى كلٌّ
منهما مع الآخر، بل أن يبيِّن أن الأول لا يعدو أن يكون صياغةً منهجيةً دقيقة للثاني،
وهو المثل الأعلى الذي ظلت الحياة الأخلاقية للبشر تسير نحو تحقيقه طوال تاريخها؛
فنحن،
من الوجهة العملية، مؤمنون دون أن نشعر بمبدأ المنفعة، وهكذا ترتكز الأخلاق الفلسفية
على جذور في الواقع التجريبي للنظام الأخلاقي السائد، ولا تكون بها حاجة إلى الخروج
عن
هذا الواقع سعيًا وراء معاييرها ومُثلها العليا؛ ومن ثَم فقد أطلق سدجويك على القوانين
الأخلاقية المعمول بها اسم «النتاج الرائع للطبيعة» الذي هو «ثمرة نمو دام قرونًا
طويلة»، ولم يكن أبغض إليه من «تلك الروح الثورية» التي تنشق على أخلاق العرف والنظم
السائدة في المجتمع، وتحاول هدمها. وهكذا كان سدجويك محافظًا بطبيعته، وكان أبعد
الناس
عن تحقيق مطلب نيتشه في «إعادة تقويم جميع القيم»، ولقد كان سدجويك في تعلقه بالنواتج
الطبيعية لنمونا التاريخي، وفي اعتماده عليها بوصفها عناصرَ هامة في تحديد أي موقفٍ
أخلاقيٍّ معقول، يعكس الطابع العام وطريقة التفكير العامة المميزة لأمته، ويحتل مكانة
في ذلك الصف الطويل من الفلاسفة الأخلاقيين الإنجليز الذين تبلورت طريقة التفكير
هذه في
مذاهبهم مرارًا وتكرارًا.
أما كارفث ريد
Carveth Read (١٨٤٨–١٩٣١)
٢٠ فهو مفكرٌ آخر ظل تفكيره يدور في الأغلب في إطار المذهب التجريبي التقليدي،
وإن يكن قد تجاوزه ليكوِّن لنفسه ميتافيزيقا خاصةً به، نظرًا إلى كونه — على غير
المألوف بين الفلاسفة التجريبيين — صاحب ذهن ينزع إلى النظر والتأمل، ولقد اعترف
هو
ذاته بأنه كان في كتابَيه الأولَين، اللذين عالجا سويًّا مجال المنطق؛ متفقًا إلى
حدٍّ
بعيد مع النظريات التجريبية عند مل وبين وسبنسر و«فن
Venn». فموضوع المنطق ليس في رأيه مجرد التصورات أو الألفاظ، وإنما هو
دائمًا الوقائع وما بينها من علاقات، فهو العلم العام للوقائع، أو هو — كما يُعرِّفه
ثاني هذين الكتابين — علم الشروط التي ينبغي توافرها إذا شئنا البرهنة على أي حكمٍ
قابل
للبرهنة، ويطلق ريد على عملية بناء المبدأ المنطقي على الواقع هذه اسم المنطق المادي،
تمييزًا له من النزعة الاسمية عند «ويتلي
Whately»
والنزعة التصورية
Conceptualism عند فيلسوف مثل
هاملتن.
ولقد كان موقف ريد تجريبيًّا في علم النفس بدوره، وذلك على الأقل بمعنى أنه يبدأ
من
التجربة ويعود إليها، وهو موقف «ظاهري
Phenomenalist»
على طريقة هيوم ومل؛ وذلك لأنه عدَّ عالم التجربة مؤلَّفًا بأسره من معطيات الوعي،
بحيث
يشتمل الوعي عليه ويوحده في الآن نفسه، والوعي هو الحقيقة الواقعة بالمعنى الصحيح،
ولما
كان شرطًا للوجود المادي، فإنه لا يمكن أن يستمدَّ من هذا الوجود أو يفسر من خلاله،
وهو
يقدم تفسيرًا لطريقة وجود الأشياء قبل أن يكون هناك ذهنٌ عارف يدركها، على نحو ما
توجد
الظواهر لو لم يكن هناك كائنٌ عضويٌّ واعٍ يدركها، وفي هذا التفسير يقتفي أثر مل
في
تصوره الكيانات التي لا تُدْرَك على أنها إمكاناتٌ دائمة للإحساس، وعند هذه النقطة
تبدأ ميتافيزيقاه،
٢١ ويطلق ريد على حالة العالم عندما لم تكن هناك ظواهر، إذ لم تكن هناك بعدُ
أية كائناتٍ عضوية لديها وعي اسم «الوجود
Being» أو
الواقع المطلق، ولكن على الرغم من أن هذه الحالة ليست داخلة في نطاق الوعي، فلا يمكن
التفكير فيها بدون وعي، أي إن الواقع بوجهٍ عام — وليس مجرد الواقع التجريبي غير
العضوي
والعضوي — هو واقعٌ واعٍ، وبعبارةٍ أدقَّ فالوعي مصاحب للوجود، والوقائع المدركة
هي
مظاهر للموجود الأصلي. وهكذا يؤدي المذهب الظاهري في المعرفة إلى ظهور نوع من مذهب
شمول النفس
panpsychism الميتافيزيقي.
ولا يمكن القول: إن المكونات المختلفة لهذه النظرية إلى العالم، وعلاقاتها بعضها
ببعض، تفي بمقتضيات النظرية الفلسفية؛ فالواقع هنا ينظر إليه على أنه مؤلَّف من ثلاثة
عناصر: الوجود الظاهري Phenomenal والواعي والعالي أو
الخالص، أول هذه العناصر هو عالم الأشياء في الزمان والمكان، عالم التجربة اليومية
والعلوم، ومع ذلك فإن شرط أي شيءٍ ظاهري — أي الوعي — يوصف بأنه شيء يبدأ وجوده في
وقتٍ
متأخر نسبيًّا، أعني شيئًا مرتبطًا ارتباطًا لا ينفصم بالعنصر الظاهري، أي المادة.
والنتيجة ثنائية قاطعة للنفس والجسم، فالأخير جوهرٌ تجريبي، والأول نشاط «للوجود
المطلق»، ولا يمكن أن يكون بينهما أي تأثير متبادل. فلا يمكن أن تكون الإرادة هي
علة
الحركة؛ إذ إن هذين الاثنين قد جُعِلا بحيث ينتميان إلى مجالاتٍ مختلفة للوجود. والأمر
الذي تسببه الإرادة هو تغير في الوجود، ولدينا بهذا التغير وعيٌ مباشر، كما أن نفس
التغير يتضح لنا، بطريقٍ غير مباشر، في الحركة التجريبية التي ندركها، وعلى ذلك فإن
الوعي يصبح مرتبطًا، لا بالجسم الذي يحل فيه بالضبط، وإنما بالوجود العالي بقدر ما
يتبدى في الجسم. أما الطبيعة الجوهرية لهذا الوجود الضروري ولمظاهر فاعليته فأمر
يدقُّ
علينا فهمه. ولو حاولنا أن نُحدِّده بطريقةٍ أدقَّ لما كان ذلك إلا بأن ننسب إليه
بعض
خصائص الوعي، الذي هو المتضايف معه. وينسب ريد إليه، على سبيل الترجيح، الزمان (أو
التعاقب على الأقل) والتغير والتواجد Co-Existence
(وربما لم يكن ذلك بوصفه علاقةً مكانية)، والترتيب أو اطراد التغير. وهكذا يقدم إلينا
أخيرًا نظرةً تجريبية إلى الكون، تخيم عليها ميتافيزيقا نظرية تأملية، وهي نظرة لها
عيوبٌ واضحة، منها مثلًا: غموض ذلك الوعي الذي هو من جهة إدراكٌ واعٍ أصيل، ومن جهةٍ
أخرى شيءٌ غير محدد، يرتبط بكل وجود أيًّا كان، ومن عيوبه أيضًا رد العالم المادي
إلى
وجودٍ ظاهري في الوعي العارف، وما يقابل ذلك من توسيع لنطاق هذا العالم نفسه إلى
ما
وراء الوعي في عالم من الوجود المطلق. وأخيرًا تلك العلاقة الغامضة التي يتركها قائمة
بين العالم الظاهري والعالم الحقيقي، وهي علاقة توجد — إن جاز هذا التعبير — من وراء
ظهر الوعي.
وهو ينقل هذه الأفكار الميتافيزيقية في كتابه الأخلاق الطبيعية والاجتماعية Natural & Social Morals (١٩٠٩)
إلى مجال الأخلاق، فمبدأ الوحدة في هذا المجال هو الوحدة الأصيلة بين الناس عن طريق
الإخاء والتعاون، والإشباع الكامل لكل رغباتهم، والاعتراف بغايةٍ عُليا لكل مساعيهم،
وهذا الخير الأسمى هو الفلسفة بمعنًى متسع، أي الثقافة Culture، فالفلسفة هي التحقيق الصحيح للطبيعة البشرية، وعن طريقها
يصل العالم إلى معرفة بذاته، وبفضل معرفة الإنسان لذاته وحدها، يستطيع هذا الإنسان
—
بوصفه أعلى مظاهر الحياة الواعية والوجود التجريبي بوجهٍ عام — أن يسمو إلى مراتبَ
أعلى
من الحرية والسمو والسعادة والحكمة. وهكذا فإن ريد كان أشبه بداعيةٍ متعصب لعصر التنوير
حين توقع أن يتحرر الإنسان باطنيًّا، ويصل إلى سعادته الحقة وخلاصه، بفضل تلك الاستنارة
المتزايدة التي يبعثها فيه العلم والفلسفة، وبفضل التعاون الفعال، وتطبيق مبادئ علم
تحسين السلالات eugenics. ولقد كان ريد واحدًا من
البريطانيين القلائل الذين آمنوا بحماسة بقدرة تدابير علم تحسين السلالات على القضاء
على الانحلال المعنوي والمادي للأمم، وتحويله إلى عكسه، ويتضح هذا الاهتمام بالبيولوجيا
في آخر كتاباته «أصل
الإنسان وخرافاته The Origin of Man and of his Superstitions» (١٩٢٠، الطبعة الثانية، في مجلدَين، ١٩٢٥) وهو كتاب
يلتزم حدود علم الأنثروبولوجيا.
ويمكن القول إن ريد هو آخر أتباع التراث التجريبي القديم؛ إذ إن صلته به — وإن كانت
واهية في بعض النواحي — كانت صلةً حيويةً أصيلة، ولكن الواقع أن هذا التراث الذي
استعرضناه حتى الآن كان في تدهور حتى في بداية العصر الذي بدأ فيه نشاطه الفلسفي؛
ذلك
لأن جميع قوى الحركة التجريبية وطاقاتها المتعددة كانت قد تجمعت في جون ستيوارت مل،
وعلى ذلك فقد كان موته نقطة تحول هامة وبداية انحلالٍ بطيء ولكنه مستمر لتلك النظرة
إلى
الحياة والعالم، التي كان هو آخر ممثلٍ ضخم لها، وبدأت قوًى جديدة تطرق باب الفلسفة
الإنجليزية، ففي أثناء حياة مل كان سترلنج قد جهر بصوته مدافعًا عن كانت وهيجل، ولم
تكد
عينا مل تغمضان حتى أصدرت الحركة المثالية في أكسفورد أول كتاباتها الجديدة العظيمة.
وهكذا افتتح عصرٌ جديد للفكر، لنشق بطريقةٍ واعية على الصور القديمة المتأصلة في
الأرض
البريطانية، وكان مصرًّا على طلب الحقيقة بطريقته الخاصة، وبدأ مذهبٌ مثالي، من أصلٍ
ألماني، يتخذ مواقعه ضد التراث الإنجليزي، وأخذ ينتزع منه، ولا سيما في الأوساط
الأكاديمية، الموقع تلو الآخر، ولكن حتى قبل استهلال هذه القوة الفلسفية الجديدة،
وحين
كان نجم مل ما يزال لامعًا ظهرت قوًى أخرى بدأت تمارس تأثيرها في صف المذهب التجريبي؛
فغيرت مظهره، وأعطته قوةً دافعةً جديدة، وحرَّكته في اتجاهٍ جديد، وقد أتت هذه القوى
من
علمٍ خاص هو علم الحياة، وتكوَّنت منها الحركة الهائلة التي أطلقها سبنسر ودارون
في
العقدَين السادس والسابع من القرن التاسع عشر، وهي حركة كانت على الرغم من تجريبيتها
تختلف اختلافًا بيِّنًا عن المذهب التجريبي كما يمثله بنتام ومل؛ ومن ثَم فقد وجب
بحثها
على حدة.