الفصل الثالث
المدرسة التطورية الطبيعية
رأينا من قبلُ أن الطابع السائد في الفلسفة الإنجليزية في النصف الأول من القرن
التاسع عشر، وخلال بعض الوقت بعد ذلك، كان هو التعارض بين الفلسفة الاسكتلندية
والتجريبيين التقليديين، وأن الأخيرين أخذوا يكسبون المواقع باطراد، ولكن حتى قبل
أن
ينتهي هذا الصراع، الذي كان هاملتن ومل آخر من خاضوه لصالح المذهب الأخير، ظهرت قوةٌ
جديدة كان يُنتظر لها مستقبلٌ باهر، وأعني بها مذهبَي سبنسر ودارون. فقد بدأت فكرة
التطور تظهر في الفلسفة، وكذلك في العلوم الخاصة، في العقد السادس، وهو العقد الذي
شهد
وفاة هاملتن وبلوغ مل أوج شهرته، وكانت الحركة التي بدأها سبنسر ودارون ترتبط ارتباطًا
وثيقًا بالاتجاه التقليدي للفكر الإنجليزي كما حددنا معالمه. وعلى الرغم من أنها
كانت
نبتةً جديدةً رائعة، فإنها ظهرت من نفس فصيلة التجريبية القديمة وامتدت جذورها في
نفس
تربتها، فليس من الممكن رسم خطٍّ فاصلٍ قاطع بينها وبين الحركة التي قادها بنتام
ومل،
وإنما تلتقي طريقتا التفكير في نواحٍ تبلغ من الكثرة حدًّا لا تعود معه نسبة أي مفكر
إلى المدرسة التطورية راجعة إلا إلى سيطرة الميل الدافع الجديد على فلسفته. غير أن
هذا
الميل الدافع الجديد سرعان ما أصبح من القوة بحيث إن قليلًا جدًّا من المفكرين هم
الذين
استطاعوا، ابتداءً من العقد السابع، أن يتجنَّبوا تأثيره عليهم.
ولقد كان وجود فكرة التطور في الجو في أواسط القرن التاسع عشر هو الذي جعلها تظهر
في
آنٍ واحد من عدة مصادرَ مستقلة، وتهبُّ كالعاصفة على الحياة العقلية المعاصرة لها
بأكملها، مكتسحة معها كل شيء، ففي ميدان الفلسفة أتى بها سبنسر، وفي ميدان العلوم
الخاصة أتى بها دارون ووالاس، وكان سبنسر هو الأسبق في ترتيب النشر. غير أن ظهور
المبدأ
الجديد من جهاتٍ متباعدة إلى حدٍّ كبير في وقتٍ واحد — وهو علة ما أحرزه من نجاح
سريع
لا نظير له — يجعل مشكلة الأسبقية غير هامة نسبيًّا. والأمر الذي له أهميته العامة
هو
أن التحالف الذي دخلته الفلسفة في ذلك الحين مع علم الحياة قد أثبت أن له من الفائدة
ما
كان للتحالف بين الفلسفة وبين الرياضيات والفيزياء أيام ديكارت ونيوتن. وهكذا أصبح
الفلاسفة يستوعبون ويستغلون نتائج العلوم الخاصة، وأصبح العلماء يتجاوزون نطاق أبحاثهم
الخاصة إلى نتائجها الفلسفية العامة؛ وبهذا كانت قوى التطور تزحف في جبهتَين، إن
جاز
هذا التعبير، وكانت الجبهتان متفرقتَين أولًا، ثم اتحدتا فيما بعدُ.
وعلى الرغم من أن سبنسر كان أول من عرض فكرة التطور علنًا، فقد كان تشارلس دارون Charles Darwin (١٨٠٩–١٨٨٢) هو الذي جعل لها
تأثيرها الهائل، عن طريق كتابه «أصل
الأنواع The Origin of Species» (١٨٥٩)، ولقد كان هذا الكتاب، الذي كان نقطة تحول في ميدانه
بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنًى، من إنتاج عبقريةٍ علميةٍ ضخمة، تتميز بقدرتها
على
الجمع، على نحوٍ فريد، بين دقة الملاحظة والصبر فيها، وبين الولاء المطلق للواقع
والقدرة على التركيب الذهني الإبداعي. ولقد فاق هذا الكتاب أي كشفٍ علميٍّ آخر في
القرن
التاسع عشر في مدى الضجة التي أحدثها، وفي مقدار ثوريته، ومدى تداخله في الصراع بين
الفئات والفرق المختلفة؛ ومن هنا فإن تقدير مدى تأثيره مستحيل.
ولقد تجاوز العلم بعض تفاصيله، وما زال بعضها الآخر موضوعًا للنزاع، غير أنه في عمومه
قد اندمج في تراث العلم الطبيعي وأصبح جزءًا لا يتجزأ منه، بل لقد طغى وفاض في مساراتٍ
عديدة تغلغل بها في حياتنا العقلية العامة، حتى أبعد أطرافها، بحيث أصبح يكوِّن،
بصورةٍ
مختلفةٍ مشوَّهة، ما يشبه الرأي الفلسفي عن الحياة والعالم للكتل الجماهيرية في جميع
البلدان. أما دارون ذاته فلم يتخذ أبدًا رداء الفيلسوف، وإنما كان شاعرًا بالأثر
الانقلابي الذي كان لا بد أن تحدثه نظريته في مناقشة المسائل الفلسفية، وكان هو ذاته
يقوم من آن لآخر في كتاباته المتأخرة (ولا سيما في «الأصل السلالي
للإنسان The Descent of Man» ١٨٧١) باستخلاص بعض النتائج الفلسفية لأفكاره، عن طريق تطبيقها
على مشكلاتٍ نفسية وأخلاقية، ولكن ذلك لم يكن إلا بطريقةٍ عارضة. أما الاستغلال الفلسفي
الدقيق لنظرية التطور فلم يكن يعبأ به أبدًا. فدارون لم يكن دارونيًّا، وإنما ظل
إلى
النهاية كما كان دائمًا، باحثًا متواضعًا لظواهر الحياة النباتية والحيوانية، محبًّا
للعزلة، مخلصًا أمينًا. وإنه لمن المناظر المؤثرة بحق أن نراه يترك الأمواج العاتية
للمذهب الدارويني تتكسر على صخرة عمله، بينما هو لا يعبأ بشيء، ويواصل السير في طريق
دراساته المرسوم دون أن يحيد عنه قيد شعرة.
وطالما حدث من قبله أن استبقت الأبحاث العلمية والتأملات النظرية عناصر مذهبه
الرئيسية، وهي قابلية الأنواع للتغير، والانتقاء الطبيعي، والصراع من أجل الوجود،
وبقاء
الأصلح، والتكيف مع البيئة، ووراثة الصفات الملائمة، والأصل الحيواني للإنسان … إلخ.
غير أن جمع هذه العناصر سويًّا في صورةٍ رائعةٍ واحدة عن أصل الكائنات الحية وتطورها
كان عملًا انفرد به دارون، وإليه وحده يرجع الفضل فيه. ومن المهم بالنسبة إلى أغراضنا
أن نلاحظ أن هذه الصورة لم تُبْنَ على أسسٍ بيولوجيةٍ خالصة، بل ساهمت فيها نظرية
مالتوس في السكان بدورٍ حاسم،
١ فقد كانت هذه النظرية هي التي ألهمت دارون فكرته المشهورة في الصراع من أجل
الوجود، وكانت هذه الفكرة هي التي أتاحت له جمع ملاحظاته واستدلالاته البيولوجية
في
نسقٍ موحد. ونستطيع أن نعبر عن الخدمة التي أسداها دارون إلى العلم بقولنا: إنه تكهن
بالدلالة البيولوجية لقانون مالتوس القائل إن هناك علاقةً عكسية في المجتمعات البشرية
بين عدد السكان وكمية الطعام المتوافرة (بحيث يزيد الأول بمعدل أسرع من الثاني)،
وأتى
بأدلةٍ تجريبيةٍ متعددة تثبت أن هذا القانون يسري على الحياة في المستويات دون البشرية؛
وبذلك أخضع مجال الحياة بأسره لمبدأٍ مشترك. غير أن دارون لم يهتم إلا قليلًا بالأثر
العام لنظريته في النواحي غير البيولوجية للإنسان، ولم يمسَّ هذا الموضوع إلا لمامًا،
مثلما فعل، مثلًا، بالنسبة إلى الأفكار الأخلاقية التي أرجع أصلها (كما فعل نيتشه
فيما
بعدُ بتأثير دارون) إلى الغرضية الواضحة الغريزة الحيوانية، غير أن مذهب دارون
البيولوجي قد مهد الطريق دون شك لعملية تطبيق المبدأ الذي سبق إثباته بالتفصيل بالنسبة
إلى عالم الحياة فيما دون الإنسان، على الإنسان ذاته، وتطويره بحيث تتكون منه نظريةٌ
عامة عن حياة الإنسان الاجتماعية وتاريخه، وقد تولى هذه المهمة سبنسر و«كيد
Kidd» وغيرهما، ونفذوها في الإطار العام لأفكار دارون،
وبفضل هذين المفكرَين طُبِّق المذهب الدارويني تطبيقًا مثمرًا في مجالات الأخلاق،
والتاريخ، (ولا سيما تاريخ الشعوب البدائية) وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا والاقتصاد،
أي في العلوم المعنية بالإنسان على وجه التخصيص.
وما إن ثبَّتت الداروينية أقدامها في المجال البيولوجي وأصبحت مثارًا للجدل في جميع
أرجاء العالم، حتى لم يعد من الممكن الحيلولة دون ذيوع النظرة العامة المتضمنة فيها
بشأن الحياة والكون، وأصبح زحفها الظافر أمرًا مؤكدًا؛ فهي — من حيث هي فلسفة — قد
جعلت
ما هو دون الإنساني مقياسًا أو معيارًا للإنساني، ولم تعد تنظر إلى الإنسان على أن
له
قيمة في ذاته، وإنما نظرت إليه على أنه لا يعدو أن يكون الفرع الأخير في شجرة نسب
ترجع
في أصلها إلى العالم الحيواني والنباتي، وبتعبير أعم، فهي قد فسرت كل شيء لا بالصور
العليا للطبيعة، وإنما بصورها الدنيا، وكانت تمثل «مذهبًا طبيعيًّا naturalism» من حيث إنها جعلت العوامل دون الإنسانية أهم من
العوامل الحضارية، ومذهبًا بيولوجيًّا Biologism من
حيث إنها عبرت عن المسائل الفلسفية من خلال المقولات والنظريات البيولوجية، وكانت
مذهبًا تطوريًّا evolutionism من حيث إنها نظرت
إلى الأشياء كلها على أنها جزء من عملية من التطور الصاعد، ومذهبًا آليًّا Mechanism لأنها فسرت الظواهر الغائبة من خلال
العلل الآلية وقوانينها. وهكذا فإن هذه النظرة إلى الكون، التي احتفظت بخطوطها العريضة
على الرغم من الاختلاف في النقاط التفصيلية، قد انقضَّت كالسيل الجارف، في العقود
الأخيرة من القرن التاسع عشر، على جميع مجالات الحياة العقلية، وأصبحت هي الفلسفة
الشعبية للمثقفين وأنصاف المثقفين وغير المثقفين على السواء، وقد أثارت الاهتمام
بالمشكلات الفلسفية، وانتقلت بالمناقشات الخاصة بها بعيدًا عن الأوساط الاحترافية
المحضة، وأثارت الصراع بين الفرق المتباينة، واستفزت بوجهٍ خاص أولئك الذين لم يروا
فيها إلا قوةً معادية للدين والأخلاق وكل القيم التي كان معترفًا بها من قبلُ. وإذا
كانت لم تتحول في إنجلترا إلى مذهبٍ ماديٍّ ساذج إلا نادرًا، وكان تأثيرها العام
فيها
أقل خطورة مما كان في بقية البلاد، فإن ذلك لم يكن راجعًا فقط إلى الطابع المحافظ
للإنجليز، بل كان راجعًا أيضًا، وقبل كل شيء، إلى أن قوة التراث الديني وعمقه ربما
كان
هناك أعظم مما كان في أي بلد آخر. ولقد اعترضت الكنيسة بقوة على المذهب الجديد، ودام
صراعها معه عشراتٍ عدة من السنين، كما أن الأوساط الأكاديمية في الفلسفة لم ترحب
به إلا
قليلًا، وعاملته على أنه مذهبٌ دخيل، وإن يكن مذهبًا يستحق التحدي عن جدارة، غير
أن
أقوى سد ضد طوفان الداروينية هو ذلك الذي شيَّدته المدرسة المثالية الجديدة، التي
ظهرت
في نفس الوقت الذي أتى فيه ذلك الطوفان، وأخذت بالتدريج تحتل مكان الصدارة في الجامعات.
وقد كانت الحركة المثالية في مرحلتها الأولى ترى أن مهمتها الأساسية هي قهر الداروينية،
بل إنه ليبدو في كثير من الأحيان أنها لم تكن تهيب بكانت وهيجل إلا ليؤيدا وجهة نظر
الدين في صراعه ضد هذه الزندقة الجديدة.
ولقد تمثل المذهب التطوري
الطبيعي Naturalistic evolutionism في المجال الفلسفي على التخصيص، في مذهب هربرت سبنسر Herbert Spencer (١٨٢٠–١٩٠٣)، وهو المذهب الذي
وصلت به تلك الفلسفة التي ظلت على ولائها للتراث القومي الإنجليزي إلى القمة، وبلغ
بها
القرن التاسع عشر خاتمة مطافه ونقطة اكتماله. ولقد سيطر سبنسر على الميدان الفلسفي
في
إنجلترا في الأعوام الثلاثين الأخيرة من القرن التاسع عشر، على نفس النحو الذي سيطر
به
مل وهاملتن وبنتام وريد وهيوم على هذا الميدان في أيامهم، وهو واحد من الفلاسفة
الإنجليز القلائل الذين ذاعت شهرتهم خارج إنجلترا أثناء حياتهم، بل لقد اكتسب شهرةً
عالمية؛ فذاع اسمه في روسيا والصين واليابان مثلًا، فضلًا عن أوروبا وأمريكا،
وتُرْجِمَت مؤلفاته إلى كل لغات الشعوب المتمدينة تقريبًا. ولم يكن السبب في هذا
النجاح
الفريد هو القيمة الكامنة لكتاباته، بقدر ما كان تمكنه من الجمع بين خيوطٍ فكريةٍ
متعددة بعثتها النظرية الداروينية، ومن نسج هذه الخيوط كلها في مذهبٍ فلسفيٍّ متماسك،
ففلسفته كانت تعبيرًا ظهر في أوانه عن الأفكار السائدة في أيامه.
ولم يكن التعليم الذي تلقاه يقل لفتًا للنظر عن الشهرة التي واتته قرب نهاية حياته،
فبعد تعليم بسيط رفض على أثره منحة للتعليم الجامعي، أصبح لمدةٍ قصيرة معلمًا بمدرسةٍ
ابتدائية، ثم مهندسًا بالسكك الحديدية بضع سنوات ثم صحفيًّا، وبعد ذلك انتقل إلى
احتراف
الكتابة. ولما كانت كل جهوده السابقة للحصول على منصبٍ ثابت قد ذهبت هباءً، فقد ظل
كاتبًا مستقلًّا حتى نهاية حياته، واستنفد في تأليف كتبه تلك الطاقة الضئيلة التي
خلفتها له صحته المعتلة، فحياته كلها قد استُنْفِدَت في صراعٍ بطولي من أجل صياغة
أفكاره الفلسفية، ولم يتمكن من التغلب على كل الصعاب والوصول بعمله إلى تمامه إلا
بفضل
قوة تحمُّله الهائلة وإيمانه الراسخ برسالته، وتشمل كتاباته مجموعةً رائعة من المجلدات
الضخمة، وعددًا من الرسائل الأصغر حجمًا، ومجموعةً كبيرة من الأبحاث والمقالات،
ومؤلَّفه الرئيسي هو «مذهب في
الفلسفة
System of Philosophy» وهو عملٌ ضخم يبلغ حجمه عشرة مجلدات، وقد أعلن عن اعتزامه
تأليفه في سنة ١٨٦٠، وتم بعد ستة وثلاثين عامًا بعد جهد لا يكلُّ. ويمثل هذا العمل
جهدًا لا يكاد يكون له مثيل في تاريخ الفلسفة في شموله، واتساق خطته، وضخامة العقبات
التي كان يتعين عليه مواجهتها.
٢
ولقد كان سبنسر رجلًا علَّم نفسه بنفسه بأدق معاني هذه الكلمة، ولما لم يكن له أستاذ،
فإنه لم يكن في حاجة إلى أن يُقدِّس تعاليم أي أستاذ، ولما لم يكن هناك، من بين
المفكرين البارزين، مَنْ كان أقل منه احتفالًا بأفكار الفلاسفة السابقين عليه
والمعاصرين له، فبلغ به الاستغراق في أفكاره الخاصة حدًّا جعله منعزلًا، في ترفُّع،
عن
البيئة الفلسفية التي كان يعيش فيها، ومما ساعد على هذا الانعزال ذلك التقطع الذي
كان
يتسم به تعليمه، وعلى الأخص ضآلة معرفته باللغات الأجنبية، وهو نقص لم يحاول تلافيه
قط.
ولقد ظل حتى النهاية رجلًا ثقف نفسه بنفسه، غير محمل بأثقال التاريخ السابق عليه،
مفتقرًا إلى الثقافة ذات الطابع الأعمق، ومُنحَصرًا في نطاق مشاكله وأفكاره الخاصة.
ولم
يكن يعرف عن فلسفة اليونان والألمان أكثر مما استطاع أن يلتقطه من الأصدقاء ومن الكتب
المدرسية الهزيلة الشائعة في ذلك الحين. وإنه لغريب حقًّا أن ذلك الرجل الذي عدَّه
الكثيرون أهم مفكرٍ فلسفي في القرن التاسع عشر، لم يكد يتأثر على الإطلاق بإيمانول
كانت
أعظم مفكري العصر الحديث. وقد رُوِيَ عنه أن محاولته الوحيدة لاستجلاء غوامض نقد
العقل
الخالص، قد توقفت ولما يقرأ في الكتاب إلا الصفحات القلائل الأولى. ومن جهة أخرى
فقد
كان لديه إحساسٌ مرهف، يتلاءم مع عصره، ونظرًا إلى أنه أدمج في مذهبه أفكارًا كثيرة
كانت هي الأفكار الرائدة في عصره، وإن لم تزل عندئذٍ مخيمة في الجو — إن جاز هذا
التعبير — فقد أصبح المتحدث الرسمي باسم الفلسفة في عصره؛ ولهذا السبب فإن مذهب هذا
الفيلسوف الذي كان أكثر تحررًا من القيود التاريخية من كل من عداه، قد اندمج في السياق
التاريخي للفلسفة على نحوٍ أكمل من أي مذهبٍ فلسفيٍّ آخر، وذلك بفضل ما قد يبدو لأول
وهلة خدعة من التاريخ. وتحوَّلت عزلته الذاتية إلى عكسها، أي إلى اندماجٍ طبيعيٍّ
آليٍّ
حتمي في المجرى الموضوعي للتاريخ الفلسفي. وفي ضوء هذه الاعتبارات نستطيع أن ندرك
بوضوح
لماذا كان مذهب سبنسر صالحًا بالنسبة إلى وقته فحسب، ولماذا كان نصيبه من الأصالة
قليلًا، فهو لم يتوسع في التجريبية والوضعية اللتين ورثهما من الماضي ولم يعمقهما.
أما
المحتوى الباقي لذلك المذهب، وهو المحتوى المستمد من الأبحاث العلمية السائدة عندئذٍ،
فقد جعل ذلك المذهب تعبيرًا عن موقفٍ تاريخيٍّ فريدٍ محدد المعالم، بحيث إنه عندما
تغير
ذلك الموقف فقد المذهب بالضرورة الجزء الأكبر من قيمته. ولما كان التغير قد بدأ أثناء
حياة سبنسر، واتخذ صورة رجحان لكفة العلوم الرياضية الفيزيائية على العلوم البيولوجية
والاجتماعية، فإن مذهب سبنسر لم يكد يبقى فيه الآن رمق من الحياة، بعد جيلٍ واحد
على
اكتماله. وهكذا فإن هذه الحلقة الأخيرة في سلسلةٍ فكرية يرجع امتدادها إلى بيكن،
قد
أصبح يتراكم عليها الآن من التراب ما يزيد على ما يعلو أية حلقة من الحلقات الأخرى
الكبرى في هذه السلسلة.
وعلى الرغم من ذلك فإن سبنسر قد أعاد إلى الفلسفة الإنجليزية الاتجاه إلى تكوين مذهبٍ
متكامل، وليس ثمة تناقضٌ واضح بين مثل هذا الاتجاه وبين النزعة التجريبية في الفكر،
غير
أن الذي حدث في واقع الأمر هو أن هذه النزعة الأخيرة لم تكن تقر الاتجاه الأول. ومن
المؤكد أن ما تتصف به الفلسفة الإنجليزية من افتقارٍ غريب إلى المذاهب، لا بمعنى
الافتقار إلى التأمل النظري فحسب، بل إلى البناء المتكامل المتناسق أيضًا، يبدو بالفعل
راجعًا آخر الأمر إلى التعلق التام المطلق بالتجربة، التي يكون الانتقال منها إلى
ما هو
مركَّب أصعب من الانتقال إليه من الفكر المحض. ولقد كان الفيلسوفان الكبيران الوحيدان
اللذان شيدا مذاهب في الفترة المتقدمة هما بيكن وهبز، ثم حدث انقطاع طويل الأمد،
وكان
سبنسر أول فيلسوف بعد هبز يخوض مغامرة تشييد مذهب، وكان المذهب الذي توصل إليه أوسع
نطاقًا وأشد إحكامًا من مذهب أيٍّ من السابقين عليه؛ فهو يحتل، على طريقته الخاصة،
موقعًا فريدًا في الفكر الإنجليزي. ومن المشكوك فيه أن يكون قد تأثر بهيجل وكونت،
وهما
الفيلسوفان الآخران الوحيدان القريبان منه زمنيًّا، واللذان خاضا غمار مهمةٍ مشابهة.
ومن المرجَّح أن كونت هو الذي كان خليقًا بأن يؤثر فيه، ولكن الأرجح من ذلك بكثير
أن
فكرة تنظيم المعرفة التجريبية في مذهبٍ دقيق قد نشأت من تصور سبنسر الخاص لما ينبغي
أن
تكون عليه الفلسفة؛ ذلك لأنه ميز بين ثلاث درجات للمعرفة؛ المعرفة اليومية، والعلمية،
والفلسفية، وذلك في ترتيبٍ تصاعدي في العمومية والوحدة، بحيث تكون مهمة الفلسفة هي
السعي إلى إيجاد مركبٍ أعلى يتألف من المركبات الجزئية التي تصطنعها العلوم الخاصة،
ومن
المعارف الأخرى التي لم تنظم على الإطلاق، ومثل هذه النظرة تشبه نظرة كونت، ومن بعده
«فنت
Wundt» «وريل
Riehl»
٣ في أنها وضعية، تتصور غاية الفلسفة ومنهجها على مثال غايات العلوم الطبيعية
ومناهجها، وهي تعبر عن عقلية عصر وضع ثقته في العلم واستقر عزمه على تحقيق التقدم
العلمي بكل حماسة، ولقد نشأت هذه النظرة عن الحاجة إلى بعث النظام والوحدة في تلك
المعرفة المتراكمة التي كانت تنمو بسرعة، وكاد أن يفلت زمامها، ولم تحاول هذه النظرة
قط
أن تدير ظهرها لهذه المعرفة، وإنما أرادت أن ترتقي بها إلى أعلى مستويات التجريد
الفلسفي، وكانت تؤمن بفلسفةٍ تجريبيةٍ متقدمة حتى أعلى درجاتها. وقد حقق سبنسر هذا
المثل الأعلى؛ فكان تجريبيًّا أصيلًا في تعطشه الدائم إلى الوقائع وإلى تنظيمها،
غير أن
رغبته في تشييد مذهب وقدرته العجيبة على ذلك، كانت هي المسيطرة على كل شيء؛ فقد كان
يبذل جهدًا لا ينقطع في التجريد والتصنيف والتعميم والاستنباط، ويتحرك إلى الأمام
نحو
توحيدٍ أكثر تجريدًا لها، حتى وصل إلى النقطة التي استطاع فيها أن يلخص الكون كله
في
صيغةٍ واحدة، وكانت النتيجة مذهبًا كان فيه مكان لكل شيء؛ مذهبًا بلغ تخطيطه من الجرأة،
وتنظيمه من البراعة والدقة، حدًّا لا يملك المرء معه إلا أن يشعر نحوه بالإعجاب،
مهما
كان موقفه النهائي منه. وهكذا ينبغي أن يعدَّ سبنسر واحدًا من أعظم منظمي الفكر الفلسفي
الذين عرفهم التاريخ.
ولقد كانت الفكرة الرئيسية في جميع أطراف مذهبه
هي فكرة التطور، فسبنسر هو أول من طبق هذه الفكرة تطبيقًا شاملًا بالمعنى الصحيح،
وشكَّلها في القالب الذي اكتسحت به العالم، ولم يوقف تقدمها الظافر إلا كارثة الحرب
العالمية الأولى، ولقد سبقه آخرون، أولهم هرقليطس، في بناء فلسفتهم على فكرة التطور.
ومن الأمثلة الواضحة لذلك هيجل، الذي كانت فلسفته مقابلًا مثاليًّا لمذهب سبنسر
الطبيعي، مثلما كان ماركس مقابلًا ماديًّا لهيجل، ولكن من العقيم أن يحاول المرء
تعقب
هذه التطورات السابقة؛ إذ إن فكرة التطور قد اتخذت عند سبنسر صورةً جديدة كل الجدة،
لم
تصبح ممكنة إلا بفضل حالة العلم في عصره. وليس معنى ذلك أنه كان معتمدًا على دارون؛
إذ
إنه، قبل ظهور كتاب «أصل الأنواع» بسنواتٍ عدة، كان قد توصل إلى مجموعة من أهم عناصر
مذهبه التالي، وقلب فكرة التطور من زوايا متعددة، كما يتضح من المقالات التي بعث
بها
إلى مجلاتٍ دورية في العقد السادس من القرن التاسع عشر، وأن هذه المقالات، وكذلك
كون
الخطة الأولى لمذهبه (وهي الخطة التي كان قد عمم فيها التطور بالفعل ليصبح مبدأً
كونيًّا) قد رسمت في يناير سنة ١٨٥٨. كل هذا يثبت بوضوح خطأ الزعم الشائع، القائل
إنه
لولا دارون لما ظهرت «فلسفة سبنسر التركيبة» على الإطلاق، ولكن عندما ظهر كتاب دارون،
رأى سبنسر فيه تأييدًا لأفكاره التي كانت عندئذٍ ما تزال تتسم بطابع المحاولة المترددة
(على الرغم من أنه كان قد توسع فيها إلى حدٍّ بعيد حتى في ذلك الحين)، كما رأى فيها
تأكيدًا للقيمة الهائلة لما استخلصه من نتائج، وذلك في ميدان البحث لم تكن تربطه
به إلا
صلةٌ طفيفة حتى ذلك الحين، وعلى الرغم من أنه هو ذاته قد استبق بطريقةٍ تقريبية نظرية
دارون في أصل الأنواع وتغيرها عن طريق الانتقاء الطبيعي، (وذلك في مقالَين ظهر أحدهما
سنة ١٨٥٢ والآخر سنة ١٨٥٧)، فإن نظرية دارون قد أتاحت ملء ثغرات معيَّنة في تفكيره
الخاص، وخلقت لديه ذلك الاهتمام بعلم الحياة، الذي ظهر بكل بوضوح في كتابه «مبادئ
علم
الحياة» (١٨٦٤–١٨٦٧). كما ينبغي التسليم بأن مذهب سبنسر لم يكن ليلقى ما لقيه من
نجاحٍ
هائل لو لم تكن موجة الداروينية قد دفعته إلى الأمام.
وليس في هذا الكتاب مجال لإجراء مناقشةٍ كاملة لأصل النظرية التطورية، ولكنا نستطيع
أن نشير إلى رابطةٍ طريفة تجمع بينها وبين الفلسفة الطبيعية في المذهب المثالي
الألماني. فعندما بدأ سبنسر يتجه بفكره إلى المسائل الفلسفية، لفت نظره رأي لشلنج،
اطلع
عليه عن طريق كولريدج، يقول فيه: إن مسار مملكة الحياة العضوية قوامه حركةٌ متزايدة
من
التنويع والتنظيم والفردانية، وتأيَّد هذا الرأي النظري عمليًّا فيما بعدُ بفضل أبحاث
علم الأجنة التي قام بها فون بير
K. E. Von Baer، وهو
عالم تأثر بالفلسفة الطبيعية عند شلنج وأوكن
Oken،
وسرعان ما وصل هذا التأييد إلى علم سبنسر، فقد رأى سبنسر أن هناك دلالة تمتد إلى
ما
وراء علم الحياة بكثير في قانون «بير» القائل إن التغيرات التركيبية التي تطرأ خلال
نمو
جنينٍ ما، تكشف عن تقدمٍ تدريجي من صور غير متحددة إلى صورٍ متحددة، ومن صورٍ متجانسة
إلى صور لا متجانسة. ولم تكن صياغته لفكرة التطور، في كتاب «المبادئ الأولى» (١٨٦٢)
على
أنها هي المبدأ الأساسي للأشياء، سوى تعميمٍ متطرف لهذا القانون. غير أن اهتمام سبنسر
بالفلسفة الطبيعية عند شلنج قد توقف عند حد قانون «بير»، ولم تأتِ كل العناصر الباقية
في بناء نظريته التطورية من الفلسفة، وإنما جاءت من العلوم الطبيعية بمعناها الدقيق،
أي
من الفرض السديمي عند كانْت ولابلاس،
٤ ومبدأ بقاء الطاقة، وأبحاث «ليل
Lyell» الجيولوجية،
٥ وأبحاث لا مارك ودارون في علم الحياة.
غير أن هذا الوصف لكل عملية في الكون بأنها تنويع تدريجي ينتقل به ما هو بسيط نسبيًّا
إلى ما هو مركَّب نسبيًّا، كان في نظر سبنسر ناقصًا، معبرًا عن وجهٍ واحد من أوجه
المشكلة، فقد رأى لزامًا عليه أن ينظر إلى هذه الحركة التي تسير في اتجاهٍ واحد على
أنها تعوض بميلٍ مساوٍ لها يسير في الاتجاه المضاد. فالتنويع (أو التفاضل) يعوِّضه
التكامل، والتفرق تعوضه الوحدة، والتقدم يعوضه التأخر أو الانحلال، بحيث تكون مهمة
الاتجاه الثاني هي إفساد عمل الاتجاه الأول، ويكون فعلهما معًا متبادلًا، بحيث يكمل
كلٌّ منهما الآخر ويعمقه. وليست العملية الأولى، والأهم، هي عملية التخصص، وإنما
هي
عملية التكامل ورفع الفوارق إلى وحدات أو كُلَّاتٍ أعلى، ومع ذلك فلكل اتجاه في التقدم
حد أعلى، وحالة توازن، هي نقطة بداية القوى المضادة التي تؤدي إلى حدوث الانحلال،
وعلى
ذلك فإن أعم قانون للتطور، في صورته الكاملة، إنما هو هذا الإيقاع الأزلي للتقدم
والانحلال، وهو عمليةٌ توحيديةٌ متصلة ذات وجهَين متعارضَين ومتقابلَين.
ولقد كانت الصيغة الكونية عند سبنسر، كما عرضناها حتى الآن، متحررة من أية مسلَّمات
ميتافيزيقية، ولا تبدأ هذه المسلَّمات في الظهور إلا في التعميم النهائي القائل إن
إيقاع الكون والفساد إنما ينحصر هو ذاته في توزيع المادة والحركة وإعادة توزيعهما،
وهنا
يكون التطور — من وجهة النظر النهائية هذه — تكاملًا للمادة مصحوبًا بتنوع وانتشار
للحركة من جهة، وامتصاصًا أو استهلاكًا للحركة مصحوبًا بتحلل للمادة من جهة أخرى.
ولما
كان المجموع الكلي للمادة والحركة ثابتًا، فإن كل هذا التغير، وكل تغير على الإطلاق،
لا
يمكن أن يكون سوى تجميع وتقسيم، وإعادة تجميع وإعادة تقسيم، بدرجاتٍ متفاوتة، للمادة
والحركة في المكان، يحدث وفقًا لقوانينَ آليةٍ بحتة. وعلى ذلك فإن الكون عند سبنسر،
سواء بوصفه كلًّا ومن حيث أجزائه، إنما هو آلةٌ هائلة يتحكم قانون العِلِّية في كل
عملياتها، وتسري قوانين المادة والقوة والحركة على كل الظواهر، أي إنها تسري على
الحياة
الاجتماعية والعقلية للإنسان مثلما تسري على العالم غير العضوي، ولم تكن مهمة سبنسر
في
«فلسفته التركيبية» سوى إثبات ذلك.
وقد خلَّص سبنسر هذا المذهب الآلي من المادية
الصريحة بإدخال فكرته المشهورة، فكرة «اللامعروف
Unknowable»
٦ التي تتيح منفذًا، وصمامًا — إن جاز هذا التعبير — في مذهبه الذي لولاهما
لكان مقفلًا تمامًا. ونظرًا إلى أنه قد عرضها في بداية مذهبه، أي في كتاب «المبادئ
الأولى»، فقد عُدَّت في كثير من الأحيان أساسًا لمذهبه، ولكنها ليست في الواقع إلا
تزيينًا للواجهة، قصد منه إعطاء البناء مظهرًا يقلل من نفور العقول المتديِّنة منه.
وفضلًا عن ذلك فقد كانت تلك الفكرة مقتبَسة، ولم تكن أصيلة لديه، وهي ترتكز على الحجج
الإبستمولوجية المشهورة المتعلقة بحدود قدراتنا في المعرفة، فنحن لا نستطيع أن نعرف
إلا
النسبي والمشروط والظاهري، ولكن نفس معرفتنا بذلك تلزمنا — بحكم ضرورةٍ عقلية — بأن
نفترض «مطلقًا» متضايفًا، وحتى لو كنا نعجز عن التغلغل فيه أبعد من ذلك، فلسنا نملك
أن
نتجنَّب افتراض وجوده. ويضع سبنسر هذه اﻟ «س» الهائلة في اعتباره فيسميها باللامعروف،
ولكنه ينتقل، على نحو يفتقر إلى الاتساق، إلى طريقة في التفكير أقرب إلى الميتافيزيقيا
منها إلى نظرية المعرفة، يجعل فيها الكم المجهول وصفًا محددًا إلى حدٍّ بعيد، فيذهب
إلى
أن علينا أن ننظر إلى العالم الذي تصل إليه تجربتنا وكل ما يحدث فيه من تغيرات على
أنه
تكشُّف لقوة تظل ثابتة وسط التغيرات، وتكون لا متناهية في المكان والزمان. وبهذه
الحجة،
التي هي قطعًا أكثر اتساقًا مع أسس مذهب سبنسر من الحجة الإبستمولوجية السابقة، يفقد
«اللامعروف» — دون شك — قدرًا كبيرًا من عدم قابليته لأن يُعرف. وهكذا فإن الفكرة
التي
اعتقد الكثيرون أنها هي الفكرة الرئيسية في فلسفة سبنسر تنطوي في ذاتها على تناقضٍ
داخلي، وهي فكرة يفتقر بناؤها تمامًا إلى الإحكام.
ومن الواضح أن مصدر فكرة اللامعروف هو كانت، غير أن سبنسر لم يقتبسها منه مباشرةً،
وإنما بتوسط هاملتن ومانسل، اللذين أدخلا عليها تعديلًا عميقًا، وكان كل ما فعله
هو أنه
ترجمها إلى لغته وطريقته الخاصة في التعبير. غير أن النزعة الظاهرية Phenomenalism التي كانت كامنة من وراء مذهبه، والتي لم يقل بها
سبنسر صراحةً وإنما افترضها ضمنًا، كانت عنصرًا مشتركًا في طريقة التفكير التجريبية
من
باركلي إلى مل، أي إنها كانت جزءًا لا يتجزأ من ذلك التراث الذي نمت فيه حياته العقلية.
وأخيرًا فإن من الواضح أن وصفه للمطلق بأنه قوةٌ ثابتة من خلال جميع تغيرات الحوادث
الظاهرية هو نقل لقانون بقاء الطاقة إلى مجال الميتافيزيقا.
ولقد ذكرنا من قبلُ أن اللاأدرية عند سبنسر — وهي ليست لا أدرية مطلقة بل لسببية؛
إذ
إنه «يؤكد» وجود عالم من وراء التجربة — لم تظهر نتيجة لمقتضيات مذهبه، وإنما نتيجة
لنظرةٍ جانبية إلى الدين، وقد أتاحت له أن يحدد العلاقة بين الدين من جهة وبين العلم
أو
الفلسفة (وهما في أساسهما شيءٌ واحد عند سبنسر) من جهةٍ أخرى، وكان من رأيه أن فكرة
عدم
قابلية المطلق لأن يعرف لها قيمة إيجابية، هي أنها تبين الطريقة التي يمكن بها وضع
حد
للخلاف القديم العهد بين قوى العلم أو الفلسفة والدين. فذلك الذي يعترف به العلم
أو
الفلسفة، ويحترمه، بوصفه لا معروفًا، هو نفسه الذي يتجه نحوه الوعي الديني، فهو في
الحالتَين موضوعٌ واحد ينظر إليه من وجهات نظر مختلفة، فمجال الفلسفة هو مجال ما
يمكن
أن يعرف، ومجال الدين هو اللامعروف، ولا محل للخلاف بينهما طالما أن كلًّا منهما
يلتزم
حدوده الخاصة.
وليس هنا مجال الدخول في تفصيلات مذهب سبنسر، والانتقال من طابق إلى طابق، ومن حجرة
إلى حجرة، خلال هذا البناء الهائل، وحسبنا أن نشير إليه بضع إشارات موجزة، وقد أرسى
سبنسر أسس هذا المذهب في كتابه «المبادئ الأولى»، فوضع خطًّا فاصلًا بين ما يمكن
أن
يعرف وما لا يمكن أن يعرف، وعرف الوظيفة العامة للفلسفة، وصاغ المبدأ العام للتطور
وهو
لا يمضي أبعد من ذلك في مناقشة المسائل المنطقية والمنهجية والمعرفية، وإنما ينتقل
مباشرةً إلى اختبار المبدأ الأساسي في المجالات الواسعة للتجربة؛ ذلك لأنه لم يكن
يعبأ
كثيرًا بمشكلات الفكر الخالص. حقًّا لقد كانت لديه موهبةٌ فذة على التفكير المجرد،
غير
أنه لم يكن يمارسها إلا عندما يكون لديه حشدٌ ضخم من المواد التجريبية التي يريد
بحثها،
وهو لم يفكر قط في كتابة بحثٍ خاص في المنطق؛ إذ إن دراسة هذا الفرع من وجهة النظر
التطورية كانت كفيلة بأن توصف منذ البداية بأنها عقيمة لا جدوى منها، غير أنه حدد
موقفه
من الحرب التي كانت ناشبة في أيامه بين هاملتن ومل حول تغليب الأولية apriorism أو التجريبية، وحول مسألة ما إذا كانت كل
معرفة لنا ترتكز على التجربة الفردية، أم أن هناك أية مبادئَ أساسية تتكشف بالضرورة
العقلية أو بالوضوح الذاتي على أنها مستقلة عن كل تجربة فردية. فسبنسر يمضي مع أنصار
الأولية إلى حد التسليم بوجود مثل هذه المبادئ التي هي ضرورية بمعنى أنه من المحال
تصور
ما يناقضها، وأنه من الواجب بالتالي أن ينظر إليها على سماتٍ فطرية للذهن الفردي،
غير
أنه يستحيل عليها أن تكون مستقلة عن كل تجربة بوجهٍ عام، فالذهن الفردي يرث منذ البداية
تلك التجربة (أو الخبرة) المتراكمة من الخط الطويل من أسلافه، ويحاول سبنسر أن يثبت
على
أسس منتمية إلى مجال علم الأعصاب Neurological أن هذه
التجربة العنصرية تكوِّن المعرفة الأصلية لذلك الذهن. فما يسمى بالحقائق الأولية
قد
تطور خلال تجربة الجنس البشري، ولم يعد بذلك «أوليًّا» إلا بالنسبة إلى الفرد. ومن
الواضح أن سبنسر يزيف في هذا العدد المعنى الصحيح للأولية؛ فهو لم يوفق بين العقلية
والتجريبية، وإنما اكتفى بتصحيح الصورة المتطرفة التجريبية كما تتمثل لدى مل على
الأرجح. غير أن الميل إلى التوفيق ظل مميزًا له، ولقد لاحظنا هذا الميل من قبلُ في
محاولته التوفيق بين الدين والعلم، كما أنه يتمثل في سياقاتٍ أخرى غير هذه، ومع ذلك
فهذا الميل لا يسفر في معظم الأحوال عن حلولٍ حاسمة، وإنما يسفر عن حلولٍ وسطى. وكان
سلوكه هذا السبيل هو الذي أدى إلى تلك التجريدات الغامضة الهزيلة، وتلك التعميمات
الجافة الجامدة، وتلك الإطارات العقيمة، التي نصادفها في كل خطوة من كتاباته، والتي
تشعرنا مرارًا وتكرارًا بأن فلسفة سبنسر ليست من عمل إنسانٍ حي وإنما من عمل آلةٍ
مفكرة.
ولما كان اهتمامه الأساسي قد انصبَّ على الميادين العملية للمعرفة، فقد اختار مجالات
علم الحياة وعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم الأخلاق لكي ينظمها في مذهبٍ واحد بواسطة
مبدأ التطور، وحذف العالم غير العضوي (وإن تكن خطته العامة بطبيعة الحال تتضمن إدراجه
ضمن موضوعات بحثه)، ولم يتعرض لمشاكله إلا لمامًا، كما فعل مثلًا في رسالة كتبها
عام
١٨٥٨ عن الفرض السديمي. وهكذا فإن مذهبه، على ضخامته، يظل بدون مبادئ الفيزياء
والكيمياء أشبه بجسد بلا رأس، وقد وضعت أسسه على نطاقٍ أوسع من أن يقدر على الاضطلاع
به
رجلٌ واحد.
ولقد كرَّس سبنسر أعظم اهتمامه وأقصى جهوده لعلم الاجتماع، ويشمل المؤلَّف الذي عالجه
فيه ثلاثة مجلدات كبيرة، ومع ذلك فهو عمل لم يتم، إذا حكمنا عليه في ضوء البرنامج
الذي
وضعه لنفسه، وكان هدفه هو إثبات أن النمو الاجتماعي ليس إلا مرحلة للعملية التطورية
الكونية، وهي مرحلة تشبه المرحلة العضوية إلى أقصى حد، فالمجتمع، مثله مثل الفرد،
هو
ناتج عن نموٍّ عضوي، وإن يكن سبنسر يسمى هذا النمو «فوق العضوي» لأنه من مرتبةٍ أعلى.
ويتوقف تقدم الحياة الاجتماعية، مثلما يتوقف تقدم الحياة العضوية، على تزايد قدرة
المجتمع على التكيف مع الظروف الطبيعية والبيئة الاجتماعية، ويتم هذا التكيف إيجابيًّا
عن طريق التقاليد والوراثة، وسلبيًّا عن طريق زوال المجتمعات التي لم تتكيف كما ينبغي،
وهنا يؤكد سبنسر أهمية مبدأ الانتقاء الدارويني، كما فعل في المواضع الأخرى من مذهبه.
وبهذه المناسبة، فقد كان سبنسر هو الذي قابل الشعار المعروف: «الصراع من أجل البقاء»،
بشعارٍ آخر لا يقل عنه شهرة، وهو «البقاء للأصلح». وهكذا أعاد سبنسر قانون دارون
المتعلق بالحياة الحيوانية إلى مجال الحياة البشرية، وهو المجال الذي كان قد أوحى
لمالتوس بهذا القانون في البداية، وقد تأيَّد في هذا المجال عامل التوزع أو التفاضل differentiation، فقد رأى فيه المعيار الصحيح لقياس
درجة النمو أو التحضر التي يبلغها أي كائنٍ اجتماعيٍّ معين، فكلما كان التنوع أقوى
في
مجتمع ما، كان ذلك المجتمع أرقى في سلم التطور، أي كان أقوى مركزًا من المجتمعات
المنافسة له في الصراع من أجل البقاء. ويسير التخطيط الذي رسمه سبنسر لمجرى التطور
التاريخي في نفس الطريق، فهو يضع، مثل كونت، قانونًا ذا مراحل ثلاث؛ حالة بدائية
تختلط
فيها عدة أنماط اجتماعية دون تمييز، ثم نمطٌ عسكري من المجتمع يرتكز على القوة، وأخيرًا
يظهر ببطء من هذا المجتمع، عن طريق عدة مراحل وسطى (أو «تفرعات Varieties» بالمعنى البيولوجي)، النمط الأكثر تحررًا من المجتمع، وهو
الذي يتمثل في الدولة الصناعية والتجارية الحديثة. وهكذا فإن عصر سبنسر الخاص — عصر
مذهب المسلك الحر (الحريين) والصناعة، والتكنولوجيا، والعلم والتجارة العالمية،
والتنافس السلمي بين الدول — كان بالنسبة إليه قمة تقدم البشرية، وقد كان يدافع في
كل
مجال عن ترك القوى تتبارى بحرية، وعن مبدأ «دعه
يعمل Laissez-Faire» في السياسة والتجارة والتعليم، وينفر من كل استخدام للقوة في
الدولة، ومن كل طغيان ونزعة عسكرية، ومن كل سيطرة في الأذهان وقمع للرأي الحر، ومن
التعصب الكنسي، وكل ما يماثل ذلك. ولقد كان في ذلك كله يعكس بدقة المثل العليا للقرن
الماضي، بنزعته التحررية والفردية، وتقدمه المذهل، وحريته الوهمية، وإيمانه الذي
لا
يقدر بالعلم، وعدم اكتراثه بالدين؛ وهي كلها صفات تحمل بوضوح طابع عصر التنوير الذي
يرجع أصلها إليه.
وقد وجَّه سبنسر مذهبه بفلسفةٍ أخلاقية استهدف فيها جمع كل الخيوط الفكرية السابقة
سويًّا، وكان على مبادئه أن تكشف عن حقيقتها في معالجة سلوك الإنسان والأفكار الأخلاقية
لمختلف الشعوب والأزمنة، وقبل ذلك كله، في تحديد ما ينبغي أن تكون عليه غايات الفعل
الأخلاقي وقوانينه، كما كان ينبغي على المجال الأخلاقي أن يثبت أنه يكشف عن انتظام
قانون التطور.
ولقد كان هذا هو الأساس الذي بُنيتْ عليه كل النظريات الأخلاقية التطورية المتعددة
التي ظهرت بعد نظرية سبنسر. ولكن على الرغم من مبدئه الجديد هذا، فلا يمكن القول
إنه
أحدث أي تغيرٍ حقيقي في مجال النظريات الأخلاقية؛ فقد كان من الطبيعي أن يتمشى مذهبه
الأخلاقي الخاص مع المذاهب التجريبية الإنجليزية السابقة عليه. وقد قبل المبادئ
الأساسية لمذهب اللذة النفعي، ونسج داخل إطارها نظريته التطورية الخاصة، مثال ذلك
قوله
إن السلوك المؤدي إلى أعظم قدر من السعادة هو ذلك الذي ينطوي على أعظم قدر من التقدم
والنهوض بالحياة، وهو الأصلح لتحقيق غايتها، والذي يؤدي على مستوًى تطوريٍّ أعلى.
ولقد
أوحت فكرة وجود مستوياتٍ متعددة للنمو إلى سبنسر بالتمييز بين الأخلاق النسبية والأخلاق
المطلقة، فلا يمكن أن تُحقَّق المثل الأخلاقية العليا تحققًا كاملًا إلا في أعلى
المستويات، وهو يتصور هذا المستوى الأعلى على أنه حالة لا تحدث إلا في مدينةٍ فاضلةٍ
خيالية، يختفي فيها كل تعارض بين المصالح الفردية، ويحل محله انسجام يبلغ من الكمال
حدًّا لا يوجد معه مجال حتى للاختيار بين الخير والشر، ففيها يرفع التضاد بين الأنانية
والغيرية.
ولا يمكن أن تحدث هذه الحالة إلا بتكيف الفرد تكيفًا كاملًا مع بيئته، ولنلاحظ أخيرًا
أن سبنسر قد لعب في الأخلاق، كما لعب في نظرية المعرفة، دوره التقليدي في التوفيق
بين
أطراف النزاع، فحاول أن يزيل الخلاف بين الأخلاق الحدسية والأخلاق التجريبية بأن
قال
بوجود قوانينَ أخلاقية تُعدُّ أولية بالنسبة إلى الفرد، ولكنها اكتسبت خلال النضال
الطويل الأمد، الجنس البشري، وهو هنا يزيف — كما فعل من قبلُ — المعنى الباطن
«للأولية»، ويظل ملتزمًا حدود الموقف التجريبي.
ولكن على الرغم من أن مذهب سبنسر الأخلاقي قد قُصِدَ منه أن يقدم الدليل النهائي على
صحة مبدأ التطور، فقد ختم سبنسر هذا الجزء من مذهبه باعتراف قال فيه إنه لم يجد مبدأه
العام مثمرًا إلى الحد الذي كان يتوقعه من قبلُ. وكان ذلك هو الموضع الوحيد الذي
لمح
فيه إلى الشك في قابلية هذا المبدأ للتطبيق الشامل، وباستثناء هذه الحالة الوحيدة،
لم
يطرأ على مذهبه أبدًا «ذلك الوهن الذي يبعث قناعًا شاحبًا» من الشك فقد كتب وهو مقتنع
—
عن ثقة تامة — بأنه يحمل معه مفتاح جميع المشاكل الفلسفية، وكل ألغاز الكون. ولكن
الواقع أنه كان في حاجة إلى كل ذرة من هذا اليقين المتعصب لكي يُقرِّر أن يأخذ على
عاتقه وينفذ مثل هذه المهمة الضخمة، أعني فلسفته التركيبية، التي لا يملك من يشكون
فيها، أو حتى من يرونها باطلة من أساسها، إلا أن يُبدوا الإعجاب بها.
وليس من مهمتنا في هذا المجال تتبع مجرى المذهب التطوري بعد دارون وسبنسر في جميع
مراحله وتنوعاته، بل إن كل ما نستطيع القيام به هو إيضاح لقوته ومجاله، كما يظهران
لدى
بعض من أشهر ممثليه، فقد كان معظم من ناصروا الفكرة الجديدة وتوسعوا فيها من العلماء،
أما الفلاسفة المحترفون — ولا سيما أصحاب الكراسي الجامعية — فقد ظل معظمهم بمعزل
عنها،
وساروا في طرقٍ أخرى، وربما كانت أهم شخصية في الفئة الأولى، وأشد أنصار النظرة الجديدة
إلى الكون تحمُّسًا، هو توماس هنري هكسلي
T. H. Huxley
(١٨٢٥–١٨٩٥) كان هكسلي عالمًا بارزًا في علم الحيوان، كما كان من أبرز الشخصيات في
الحياة العقلية بالعصر الفكتوري. وبفضل التقدير الذي اكتسبه بقوة شخصيته، وشدة إصراره،
وقوة أسلوبه وتحمسه، وطريقته الموفقة في صياغة التعبيرات والصيغ، نجح هكسلي في تحويل
أفكار دارون إلى عملةٍ جارية تتداول في كل ركن من أركان المجتمع. ولكن ذهنه كان أكثر
استقلالًا من أن يقتفي أثر دارون أو سبنسر أو أي شخص غيرهما دون تمييز؛ إذ كان يطبع
شخصيته الخاصة على كل ما يقتبسه، فهو حقًّا قد أقرَّ رأي دارون في الصراع من أجل
البقاء، غير أنه كان متشككًا في قانون التكيف مع البيئة، وبالتالي في فكرة الانتقاء
الطبيعي. أما في ميدان الفلسفة — الذي كان كثيرًا ما يطرقه،
٧ فقد ربط ربطًا وثيقًا بين المذهب التطوري والتراث القديم بالرجوع إلى هيوم
«أمير اللاأدريين» كما أسماه، وهو الفيلسوف الذي كان يتفق معه في موقفه العام، وفي
بعض
التفاصيل، ولا سيما في فكرة هيوم الرئيسية القائلة إن كل معرفةٍ حقيقية تقتصر على
عالم
التجربة، ومن هنا كان عداؤه للميتافيزيقا وكانت «لا
أدريته
agnosticism»، وهو لفظ نحته هكسلي وسرعان ما انتشر انتشارًا واسعًا. كذلك
كان مثل هيوم، يتصف بقدرٍ غير قليل من التشكك بطبيعته وهي صفة ترتبط بمثل هذا الذهن
المرن الذي ارتفع فوق النزعة القطعية الصارمة عند سبنسر.
ومع ذلك فقد افترق هكسلي في نواحٍ متعددة عن هيوم؛ ذلك لأنه حين حمل تفكير هذا الأخير
من الدقة أكثر مما يحتمل، قد ارتد إلى النزعة القطعية أو اقترب منها إلى حد الخطورة،
وكانت إثارته لذلك السؤال الذي يتعارض مع تفكير هيوم تعارضًا أساسيًّا، وأعني به
السؤال
عن أصل الانطباعات الحسية، مؤدية إلى إعطاء المذهب الظاهري أساسًا فسيولوجيًّا،
وبالتالي ماديًّا، فأعلن أن كل الحالات أو الحوادث الذهنية إنما هي نتائج لعللٍ بدنية،
بحيث يمكننا أن نفهم أصلها وطريقة عملها بدراسة تغيرات الجهاز العصبي، ولم يكن يجد
غضاضة في استخدام تعبيراتٍ ماديةٍ صريحة، حتى كان يتحدث أحيانًا بلغة «كابانس Cabanis» وغيره من الفلاسفة الماديين في القرنَين
الثامن عشر والتاسع عشر، وكان هو أول من وصف الذهن بأنه «ظاهرة ثانوية epiphenomenon»، أي ناتجًا ظاهريًّا للمخ.
ونتيجة لمثل هذه التعبيرات وغيرها من التعبيرات الصريحة، وُصف تفكير هكسلي بالفعل
بأنه مادي، غير أنه هو ذاته كان يحتجُّ على أية تسمية كهذه، وحاول أن يُبيِّن وجهة
النظر التي تشير إليها مثل هذه التعبيرات ليست نهائية، وينبغي ألَّا تعدَّ ملزمة
من
الوجهة الميتافيزيقية، بل يجب أن يُنْظَرَ إليها على أنها نقطة انطلاق البحث العلمي
في
الطبيعة، التي تكون وجهة النظر هذه أساسية لها، بوصفها فرضًا عمليًّا. وقد ذهب إلى
أن
وجهة النظر هذه لا تحوي ما يتناقض مع أكثر المذاهب المثالية تطرفًا، بل رأى أنه كلما
زاد استعدادنا لقبول الموقف المادي، كان من الأسهل الدفاع عن ضرورة المثالية. وهكذا
دفع
هكسلي بنفسه إلى مأزق لم يكن في وسع طريقته في التفكير أن تخلصه منه؛ فحاول نتيجة
لذلك
أن يجد لنفسه ملاذًا في اللاأدرية، وقال إن المادية لا تقبل البرهنة عليها، وكذلك
الحال
في المثالية لنفس الأسباب. والمذهبان معًا إنما هما القطبان المتضادان للموقف الممتنع
الذي يفترض فيه إمكان معرفة شيء عن الطبيعة الأساسية لشيء ما، سواء أكان هذا الشيء
مادة
أم ذهنًا، فلا مفر للعلم الطبيعي من التسليم بوجود العالم المادي، وما يتبع ذلك من
تأكيد الأولوية الواقع المحسوس، أما في الفلسفة فينبغي أن يكون ذلك العالم احتماليًّا
دائمًا؛ إذ إن الحقيقة الأولى فيها هي الوعي، بحيث لا يمكنها أن تتصور المادة لا
ظاهريًّا، بوصفها شيئًا معطًى للوعي في الوعي ذاته. ولقد كان هكسلي في هذا الصدد
في
شقاق مع نفسه، فعندما كانت تغلب عليه صفة الفيلسوف، كان يتحدث كما لو كان باركلي
هو
الذي يتحدث، وعندما كانت صفة العالم هي التي ترجح كفتها، كان يتحدث كأنه مادي. ولكي
يتخلص من هذا المأزق، اتخذ لنفسه رداء الشك، وكان يستمتع بهذه الصفة أو الحالة الذهنية
أكثر مما يستمتع بغيرها، بحيث أخضع لاختباره كل الفلسفات دون أن يلتزم بواحدة منها،
مستخدمًا إحداها تارةً والأخرى تارةً أخرى، حسبما يلائم موقفه. وكانت اللاأدرية عنده،
على خلاف ما كانت عند سبنسر، قريبة بالفعل من نزعة الشك، ولم تكن تعني حكمًا سلبيًّا،
بل كانت تعني الامتناع عن الحكم أصلًا في الأمور النهائية. وعلى الرغم من كل هذا،
فقد
كان في هكسلي أكثر من هذه اللاأدرية؛ إذ إن طبيعته التي كانت إيجابية في أساسها،
كانت
تثور، إن عاجلًا أو آجلًا، على هذا الانطلاق الفكري بين المواقف المختلفة، وتدفعه
إلى
إصدار تأكيداتٍ فلسفيةٍ محددة.
ولقد أسهم هكسلي بإضافة قيمة إلى النظرية
الأخلاقية التطورية، وذلك في محاضرة «رومانس Romanes»
المشهورة التي ألقاها عام ١٨٩٣ بعنوان «التطور والأخلاق»، وهنا أيضًا سار في طريقه
الخاص، وافترق في بضع نواحٍ عن الآراء التطورية الشائعة، فعلى حين أنه وافق على أن
قانون التطور يسري على مجال الفعل الأخلاقي كما يسري على كل المجالات الأخرى، فقد
ذهب
إلى أنه يتحقق في المجال الأخلاقي على نحوٍ مختلف تمامًا، فعالم الطبيعة يحكمه صراع
رهيب من أجل البقاء، يحارب فيه الكل ضد الكل ويغلب فيه حب الذات على التعاون، وينتصر
القمع القاسي على التعاطف والشفقة. أما الحياة الاجتماعية للإنسان فيظهر فيها — على
الرغم من كونها ذات أصلٍ طبيعي، ورغم ضغط القوى الطبيعية — عالمٌ فريد في نوعه، عالم
فيه قوانينه المطردة ومعاييره الخاصة. وهكذا فإن حياة الإنسان الأخلاقية إنما هي
تفنيدٌ
صريح للمبدأ الطبيعي؛ مبدأ الصراع الذي لا يرحم في سبيل المنافسة، وهي أبعد الأمور
عن
أن تكون تعبيرًا آخر عنه. وبهذا التأكيد للاستقلال الذاتي الفريد للنظام الأخلاقي
الذي
يظهر مع المجتمع، حرر هكسلي الأخلاق التطورية من قيود المذهب الطبيعي، ومهد الطريق
لمثاليةٍ أخلاقية، وهي مثالية وجدت أجمل تعبير عنها في دفاع هكسلي نفسه عن كرامة
الإنسان الأخلاقية، وفي اللغة الرفيعة التي تحدَّث وكتب بها عنها، وفي الطابع النبيل
الذي ساد نظرته إلى الحياة البشرية.
أما «جون تندول
John Tyndall» (١٨٢٠–١٨٩٣) فكانت
تجمعه بهكسلي صلة الصداقة الشخصية، فضلًا عن الأهداف العلمية المشتركة، وكان اهتمامه
بالفلسفة أقل وضوحًا من اهتمام هكسلي بها، ولكنه بدوره كرَّس جزءًا كبيرًا من محاضراته
وكتاباته لينشر ويذيع الأفكار العلمية الجديدة، ولا سيما فكرة التطور، وله محاضرةٌ
مشهورة
٨ اعترف فيها بأنه مادي، وأثارت ضجةً كبرى، وجعلته فترة ما مركزًا للاهتمام
الفلسفي، غير أن رأيه في طبيعة المادة يختلف تمامًا عن الرأي الشائع، بل يختلف عن
الرأي
العلمي الأدق من هذا الأخير. صحيح أنه اعترف بأن المادة كما تعرفها الفيزياء لا يمكن
أن
تكون قد ولدت الكون كما نعرفه، غير أنه كان يؤمن بأن كل تركيب ونشاط في العالم، سواء
أكان ذهنيًّا أم ماديًّا، حتى نشاطنا في الأخلاق والفن والعلم، هو في الحقيقة كامن،
وكأنه في بذرة في النار الأولية للشمس.
أما بالنسبة إلى العلوم غير العضوية، التي كانت
هي مجال تخصص «تندول»، فإن فكرة التطور لم تكن تنفع كثيرًا؛ فعلينا أن نعود إلى المجال
البشري إذا شئنا أن نقدر قيمة الاتجاه الفكري الجديد تقديرًا صحيحًا، ولقد أجرى
السير فرانسس جولتن
Sir Francis Galton٩ (١٨٢٢–١٩١١) أبحاثه الهامة وهو متأثر مباشرةً بدارون، الذي كانت تربطه به
صلة قرابةٍ وثيقة، وأهم ما اشتهر به جولتن هو أنه مؤسس علم تحسين السلالات
Eugenics وهو العلم الذي يرى أن ذلك الانتقاء الصالح
والقضاء على غير الصالح، وهو الانتقاء الذي يحدث آليًّا في الطبيعة، ينبغي أن يتم
بطريقةٍ متعمدةٍ منظمة في المجتمع البشري. ولقد كانت أعمال جولتن المتنوعة، وهي تشمل
أبحاثًا في الإثنولوجيا والأنثروبولوجيا، ودراسات في الوراثة البشرية، وفي عمى الألوان،
وفي الصور العامة وبصمات الأصابع، وتطبيقه للمناهج الإحصائية على دراسة الإنسان؛
كل هذه
كانت تستهدف معالجة المشكلات العملية المتعلقة بتحسين الجنس عن طريق التحكم الواعي
في
المعاشرة والتناسل، وأن حركة تحسين النسل، التي ثبتت أقدامها في بلدانٍ متعددة، إنما
تدين له بمُثلها العليا وبكثير من مناهجها، ولقد كان تلميذه الأكبر في إنجلترا، والمكمل
لرسالته (ومؤرخ حياته أيضًا)، هو كارل
بيرسن
Karl Pearson الذي ينبغي أن نتحدث عنه بمزيد من التفصيل، نظرًا إلى أنه قد
انتقل من العلم إلى الفلسفة.
فقد كان كارل بيرسن (١٨٥٧–١٩٣٦)
١٠ هو أكثر الناس تحمسًا للتوسع في النظرة العلمية بحيث تمتد إلى المسائل
الفلسفية، وأشد ممثلي هذا الاتجاه تعصبًا، ولقد كان عالمًا مرموقًا في ميادينَ متعددةٍ
متصلة، فقدم مساهمات رائدة في تطبيق الرياضيات على علم الحياة والأنثروبولوجيا وعلم
الاجتماع. وترجع أهميته الكبرى من وجهة نظرنا إلى كتابه المشهور ذي التأثير البالغ
وهو
كتاب «قواعد العلم
The Grammar of Science» (١٨٩٢،
الطبعة الثالثة ١٩١١، طبعة جديدة رخيصة ١٩٣٧) الذي صاغ فيه المثل العلمي الأعلى
للمعرفة، كما كان سائدًا في أيامه، صياغةً كلاسيكية، ومجد الروح الكامنة من ورائه،
والأعمال التي جعلته ممكنًا، وأعرب بوضوح عن اقتناعه بأن العلم قد كتب له أن يخدم
ثقافة
المستقبل ويشكلها.
والهدف من هذا الكتاب هو دراسة المفاهيم الأساسية للعلم الحديث. وهكذا يتخذ بيرسن
من
المباحث الرياضية الفيزيائية أنموذجًا للعلم، وأكد بناءً على ذلك أن الطبيعة الأساسية
للعلم لا تكون في التفسير وإنما في الوصف، ولا تكون في الإجابة عن السؤال «لماذا
تكون
الأشياء؟» وإنما في الإجابة عن السؤال «كيف تكون الأشياء؟» وفضلًا عن ذلك فإن غاية
العلم هي القيام بهذا العمل بالنسبة إلى كل شيء، فلا شيء يقع خارج نطاقه، ولكن لما
كان
من المستحيل فهم الأشياء في كليتها الشاملة، فإن العلم يضطر إلى الالتجاء إلى نوع
من
الاختزال التصوري Conceptual، ويصطنع رموزًا وصيغًا
وقوانين، ويتمكن بفضل هذه من فهم الواقع ووصفه بطريقةٍ مختصرة. وبعبارةٍ أخرى
فالإلكترون مثلًا ينبغي ألا يعد حقيقيًّا من الوجهة التجريبية وإنما هو مجرد رمز
أو
تعبيرٍ اختزالي يبتدعه خيال العالم، ويمكن بالتالي طرحه جانبًا كلما ثبت عدم كفايته
لوصف الوقائع المتعلقة به. وفضلًا عن ذلك فالعلم لا يضع النظريات حبًّا في النظريات،
وإنما هو عملي في أساسه، وهو من أهم ما في متناول أيدينا من الوسائل لتكييف أنفسنا
مع
بيئتنا والنجاح في صراعنا من أجل البقاء. واستهدافه هذه الغاية العملية هو ذاته الذي
يجعله يسعى إلى تحصيل أكبر قدر من المعرفة بأبسط الوسائل، طبقًا لقانون الحد الأدنى
من
المقاومة. ولهذا السبب بعُيِّنَه يرفض العلم كل المسلمات الباطلة المتعصبة، بحيث
إن من
مهامه الرئيسية تحرير الفكر من الأوهام التي كدَّستها عليه الخرافة والجهالة على
مر
القرون. وهكذا فإنه يحمل على اللاهوت والميتافيزيقا من أساسهما وبكل ما فيهما. أما
الفلسفة، فبقدر ما يكون لها أي حق في المطالبة بمجرد الوجود، فإنها تنحل إلى العلم
حسب
تعريفه المذكور من قبلُ، ولا يمكن أن يصبح لها مجالٌ خاص بها إلا بقدر ما ينظر إليها
تاريخيًّا على أنها مرحلة من مراحل النمو العقلي للإنسان.
غير أن على العلم بدوره أن يقوم — في مجاله الخاص — بعملية تطهير فعليه أن يستبعد
من
مجاله كل ما لا يتمشى مع طبيعته من حيث هو وصف وتنظيم وتصنيف، وهذا يعني أن عليه
أن
يتخلص من أفكار العِلِّية والقوة المادية، التي لا تعدو أن تكون أصنامًا مختبئة في
زوايا العلم حتى في أحدث صورة. فمقولة العلية ليست لها صورةٌ فكرية، ولا تدعمها
التجربة، وإنما هي مجرد حدٍّ تصوري ابتدع لإرضاء حاجتنا إلى الاقتصاد في التعبير.
والقوة هي نوع من الحركة، وليست تفسيرًا لها. أما المادة فليست شيئًا، أو ليست على
أية
حال شيئًا معروفًا، بحيث لا تحتاج الفيزياء إلى فكرتها. ولقد شغل مكان كل هذه التصورات
بفكرة الحركة، التي يضعها العلم ولكنه لا يستطيع تفسيرها. وحسب العلم أن تعطيه الحركة
والدقائق الجسمية والمكان، وهي كلها أمور يمكن قياسها بدقة، لكي يستطيع أن يقدم وصفًا
لكل ما يقع في نطاق التجربة.
وهكذا كان موقف بيرسن تمجيدًا متطرفًا لقدرة العلم الشاملة، وهو يسير في نفس الطريق
الموروث مباشرةً عن تجريبية هيوم ووضعية كونت، وله مقابل دقيق في الجانب الفلسفي
من
تفكير «أرلست ماخ». ومما يدل على إدراك ماخ لهذه القرابة الوثيقة بينهما، أنه أهدى
كتابه «تحليل الانطباعات
الحسية Analyse der Empfindugen» إلى بيرسن، تعبيرًا عن شعور الزمالة والتقدير. كذلك كانا
يتفقان في الأساس المعرفي (الإبستمولوجي) لنظريتهما في العلم. وهذا الأساس كغيره
يرتد
إلى هيوم، فالوقائع التي يعالجها العلم ليست أشياءَ في ذاتها ذات طبيعةٍ غامضة، بل
هي
مجرد ظواهر الوعي، أي هي الإحساسات ومشتقاتها، التي لا توجد سواها أية حقيقة أخرى.
صحيح
أننا نُسقط جزءًا من محتوى الوعي على مكانٍ خارجي، ونتحدث عنه بوصفه وقائعَ مادية،
غير
أن هذا الإسقاط لا ينقلنا في الواقع إلى ما وراء الوعي، فما يسمى بالشيء الخارجي
ليس
إلا تركيبًا ذهنيًّا نتج عن ربط الانطباعات الحاضرة بالماضية. صحيح أنه يجوز العلم
أن
يتجاوز الإحساسات الحاضرة، وأنه يفعل ذلك حقًّا عن طريق تكوين فروض ووضع قوانين
واستخلاص استدلالات وما إلى ذلك، غير أن الإحساسات هي التي تتحكم في كل هذه التركيبات
التصورية الاصطناعية، وهي التي تضفي عليها أي معنًى ممكنٍ لها. فالذهن عند بيرسن،
كما
هو عند ماخ، يشبه المحطة المركزية للهاتف (التليفون)؛ إذ يتلقى الانطباعات الخارجية
ويرتبها ويعيد توجيهها. ولكن ينبغي علينا ألا نتطلع في الاستيطان، كما في الإدراك
الحسي، إلى ما وراء الإحساسات والصور والمفاهيم المستمدة منها؛ فليس ثمة نفس أو أي
شيء
يشبهها متميز عن المحتويات التي يكون لدينا بها وعي، وما الذهن إلا مجموع انطباعاته
وأفكاره. وهكذا يظهر بوضوح أن نظرية المعرفة عند بيرسن مماثلة تمامًا لنظرية هيوم
ومل
وماخ.
ولقد مضى بيرسن في امتداحه للروح العلمية إلى حد التمجيد المفرط، فرسالة العلم الحديث
ذاتها هي احترام ذلك الإله الذي لدينا به وحده يقين مؤكد، أعني الروح البشرية، وما
الدين إلا خدمة قضية العلم، وما التقديس إلا تأمل ما أنجزه العقل البشري، وأن مكتشفي
الحقيقة لهم القديسون والصالحون بحق، ولن يقول أحد في المستقبل إنني مؤمن لأن موضوع
إيماني ممتنع، بل سيقال «أومن لأنني أفهم.» وهكذا فإن بيرسن، مثل كونت، يؤلِّه العلم،
وموقفه هو موقف عصر التنوير، وكل ما في الأمر أنه ظهر في غير الأوان، أي متأخرًا
عن
وقته بمائة عام.
ومثل هذا يمكن أن يقال عن تفكيره الأخلاقي
١١ الذي يجعل من التقدم في المعرفة العلمية سمةً رئيسية لكل محاولة للاقتراب
من المثل الأخلاقي الأعلى. وكما أنه حمل على الدين (كما يشيع فهمه) بوصفه ناتجًا
عن
الخرافة، فهو كذلك قد وصم الأخلاق المسيحية هنا بأنها نتيجة لشعورٍ أعمى، فالأخلاق
الحقة لا صلة لها في نظره بالشعور، وإنما بالمعرفة وطلبها فحسب، وهو يؤيد رأي سقراط
القائل إن العارف وحده هو الذي يمكن أن يكون فاضلًا. وهو يضيف الاشتراكية إلى «أخلاق
الفكر الحر» بوصفها تكملةً سياسية لها، وهو لا يعني بالاشتراكية ذلك النوع الثوري
المرتبط بماركس، بل لا يعني بها أساسًا أي تغيير للنظام السياسي القائم على الإطلاق،
وإنما يعني بها ذلك التقدم المطرد البطيء للشخصية الأخلاقية، على النحو الكفيل بأن
يؤدي
بكل فرد إلى إخضاع سلوكه لصالح المجتمع من حيث هو كل. مثل هذه الاشتراكية تقتضي تحسين
الجنس عن طريق أساليب علم تحسين السلالات، وتحرير المرأة، وإلغاء المحرمات الجنسية
(أي
«إباحة الحب»)، وحرية اختيار العمل، وحرية الفكر. ولقد كان في هذه الأفكار يستبق،
على
نحو يدعو إلى الإعجاب، وهو لم يزل في العقد التاسع من القرن الماضي؛ أفكارًا ظهرت
من
بعده، وكان لا بد للقيام بذلك من شخصية مثل بيرسن، تتصف بالقوة والجرأة، وتمتلئ ثقة
بقدرة العلم على كل شيء، وتؤمن إيمانًا راسخًا بحرية البحث، وتزدري الحلول الوسطى،
وتستخلص النتائج بجرأة حتى لو كان من شأنها أن تغضب معاصريه.
١٢
ولقد حدث تطبيق وتأييدٌ آخرُ واسع المدى لمبدأ التطور في ميدان خارج عن الفلسفة،
ولكنه قريب من مجالها إلى الحد الذي يبرر ذكره في هذا المجال، فمثلًا قام السير هنري
مين
Sir H. Maine (١٨٢٢–١٨٨٨)، الذي يمكن أن
يُعَدَّ خليفة أوستن،
١٣ بإعطاء أساسٍ جديد كل الجدة للتشريع التاريخي والمقارن، وذلك في عدة مؤلفات
كان لها تأثيرها الهائل، رتب فيها وقائع التنظيم البدائي الاجتماعي والسياسي بوساطة
هذا المبدأ،
١٤ وفي ميدان الاقتصاد والتاريخ الدستوري والعلوم السياسية، وقام ولتر بادجت
Walter Bagehot (١٨٢٦–١٨٧٧)
١٥ بمجهودٍ مماثل، ولما لم يكن دارسًا منعزلًا، بل كان من رجال الأعمال
والبنوك، فإن أفكاره كانت ذات وجهةٍ علمية، وكان لها بعض التأثير في هذا المجال.
وهو
يصف دينه لدارون ويعترف به في العنوان الفرعي لكتابه «الفيزياء والسياسة»، وهو «أفكار
عن تطبيق مبدأي الانتقاء الطبيعي والوراثة على المجتمع السياسي»، وقد أثارت مؤلفاته
اهتمام دارون ذاته.
ولكن الميدان الذي اكتسبت فيه نظرية التطور أكبر قوة لها، خارج نطاق علم الحياة
والفلسفة، كان ميدان الأنثروبولوجيا، مثال ذلك أن السير جون لبوك
Sir John Lubbeck (اللورد أيفبري
Avebury، ١٨٣٤–١٩١٣) كان داروينيًّا متحمسًا، ورأى أن الإنسان البدائي
لم يكن يعرف الآلهة، وأن الدين تطور من أشكال الوثنية المختلفة، كعبادة المسحورات،
«الفتيش
fetishism» ومنها إلى عبادة أصنام الجدود
«الطوطمية
Totemism» ثم عبادة الأوثان بوجه عام
idolatry، وغيرها من صور تعدد الآلهة، ومن هذه كلها
إلى مرحلته التوحيدية الراهنة. وحاول السير إدوارد بيرنت تيلور
Sir Edward Burnett Tylor (١٨٣٢–١٩١٧) وهو أول أستاذ للأنثروبولوجيا
في أكسفورد، وأعظم حجة إنجليزي في هذا الفرع من العلم خلال القرن التاسع عشر، أن
يثبت
أن الصور العليا للدين، وكذلك الفلسفة، قد ظهرت من مذهب حيوية الطبيعة
Animism، وكان خليفة تيلور هو السير جيمس فريزر
Sir James G. Frazer (ولد سنة ١٨٥٤)، وهو
عميد علماء الأنثروبولوجيا الإنجليز الأحياء،
١٦ وقد ذاعت شهرته دوليًّا منذ وقتٍ بعيد، وهو يرى أن حياة الإنسان البدائي
كان يحكمها السحر أكثر مما تحكمها المعتقدات الخاصة بحيوية الطبيعة، ولما كان السحر
يرمي إلى السيطرة على القوة الطبيعية، فإنه أقرب إلى العلم منه إلى الدين، أما هذا
الأخير فلم يظهر إلا بعد وقتٍ متأخر جدًّا، حين أهاب الناس بقوًى أعلى بعد أن بلغت
قوى
مداها، وحين حل الخوف والأمل والتفاؤل والتشاؤم محل الرغبة في السيطرة. ويظهر استمرار
تأثير سبنسر ودارون بوجهٍ خاص في عمل عالمٍ أنثروبولوجي حيٍّ آخر،
١٧ وهو إدوارد وسترمارك
Edward Westermarck
(وُلِدَ سنة ١٨٦٢)، وهو فنلندي استقر منذ وقتٍ طويل في إنجلترا وأصبح أستاذًا لعلم
الاجتماع بجامعة لندن من سنة ١٩٠٧ إلى سنة ١٩٣٠، ومن كتبه المشهورة، «تاريخ الزواج
البشري
Hist. of Human Marriage» (١٨٩١، الطبعة
الخامسة في ثلاثة مجلدات سنة ١٩٢١) وقد عالج مشكلات الأخلاق في كتابَين، «أصل الأفكار
الأخلاقية
وتطورها
The Origin and Development of the Moral Ideas» (في مجلدَين، ١٩٠٦–١٩٠٨، الطبعة الثانية ١٩١٢–١٩١٧)
و«النسبية الأخلاقية
Ethical Relativity» (١٩٣٢)،
وتظهر في الكتابَين نزعته التطورية بكل وضوح؛ إذ إن معالجته للظواهر الأخلاقية من
حيث
نشأتها وتطورها تؤدي حتمًا إلى النسبية الأخلاقية. وهو يرى أن كل المحاولات التي
ترمي
إلى الاهتداء إلى أساس لصحةٍ موضوعيةٍ مزعومة للأحكام الأخلاقية، كمحاولتَي المذهب
العقلي والحدسي، تتعارض حتمًا مع حقائق التطور الأخلاقي. وهو يرى مثل هيوم أن الانفعال،
لا العقل، هو أصل الحكم الأخلاقي والمتحكم فيه، والانفعال ذاتي قطعًا. وقد حاول أن
يتعقب أصل الظروف الانفعالية لأحكامنا الأخلاقية التلقائية، بل والنظريات الأخلاقية
الأولية ذاتها كنظرية كانت. فالانفعالات الأخلاقية — التي تتميز عن غير الأخلاقية
بتنزهها وشمولها — تُسْتَمَد كلها من الاستحسان والاستهجان، بحيث يكون الأول هو أصل
الانفعالات الإيجابية، والثاني أصل الانفعالات السلبية (التي يدرج ضمنها الشعور
بالإلزام الخلقي). فالانفعالات دائمًا أسباب الأحكام الأخلاقية لا نتائجها، وما المبادئ
الأخلاقية إلا تعميمات لمثل هذه الأحكام المشتقة، وفضلًا عن ذلك فالانفعالات الأخلاقية
ليست آخر الأمر فردية، وإنما هي اجتماعية في طابعها وأصلها، وقد كان وستر مارك يؤكد
دائمًا ارتباط الأخلاق بعلم الاجتماع.
ولنعد من هذه التفرعات للمذهب التطوري، وهي
تفرعاتٌ خارجية إلى حدٍّ ما، إلى مظاهره ذات الطابع الفلسفي الأوضح، فننتقل إلى
جورج هنري لويس
George H. Lewes (١٨١٧–١٨٧٨)، الذي
كان أهم ممثلي المذهب التطوري في المجال الفلسفي بعد سبنسر، وكان ينتمي، بفضل ذهنه
الرحب، إلى مجال الأدب بقدر ما ينتمي إلى مجال الفلسفة، وهو معروف لدى جمهرة القراء
بصلته الرومانتيكية بجورج إليوت، وترجمته لحياة جيته (وهي ترجمة انتشرت في ألمانيا
على
نطاقٍ واسع) أكثر مما هو معروف بمؤلفاته الفلسفية،
١٨ ولقد كان في الفترة الأولى من حياته على الأخص واحدًا من أشد تلاميذ كونت
الإنجليز تحمسًا، ووجد في هذه الناحية، كما وجد في غيرها من النواحي، تآلفًا روحيًّا
كاملًا مع جورج إليوت، ولقد كانت وجهة النظر الوضعية هي السائدة تمامًا في كتابه
«تاريخ
الفلسفة»، وهو كتاب ليست له قيمةٌ كبيرة بمعاييرنا الحالية، ولكن إتقان كتابته أدى
إلى
ذيوع انتشاره إلى حد غير مألوف، بحيث كان هو الذي أمدَّ كثيرًا من القراء الإنجليز
بمعلوماتهم الوحيدة عن تاريخ الفلسفة. وبهذه المناسبة، فقد كان هذا الكتاب من أوائل
الكتب العامة في تاريخ الفكر النظري باللغة الإنجليزية، وكان الهدف منه كشف غرور
كل
تأملٍ ميتافيزيقي، فهو قد فرض حظرًا على الجزء الأكبر من المحاولات الفلسفية، وانتهى
من
ذلك إلى تحبيذ مذهب كونت بوصفه قمة التفكير البشري، وقد تزايد تباعده فيما بعدُ عن
مذهب
كونت، تأثر وقتًا ما بسبنسر، ثم سار آخر الأمر في طريقه الخاص، ولكنه لم يترك معسكر
الوضعية فقط بصفةٍ نهائية.
ولقد كانت فلسفة لويس — كما عرض الجزء الأكبر منها في كتابه الأخير — تعبيرًا أمينًا
عن ذهنه المرن المتفتح، ومعارفه التي كانت واسعة إلى حدٍّ غير عادي، والتي اشتملت
على
مسائلَ بيولوجية ونفسانية، فضلًا عن المسائل الفلسفية، وهي تزخر بالأفكار، التي يعدُّ
الكثير منها هامًّا، ولكنها في عمومها تفتقر إلى الاتساق والإحكام، فمن الصعب أن
يهتدي
المرء إلى مبدأٍ جامع أو إطارٍ مسيطر عليها، وإنما يحس المرء بعد قراءته بأن لديه
تفكيرًا حيًّا خصيبًا، ولكنه يفتقر إلى الوضوح والنضج. ويؤكد لويس، كأي وضعيٍّ مخلص،
أن
الفلسفة ينبغي أن تكون علمية، ولا يعني بذلك فقط أن عليها اتباع مناهج العلوم الطبيعية،
بل يعني أيضًا أن عليها أن تقتصر على ما هو تجريبي بوصفه هو وحده القابل لأن يعرف.
ولقد
كان هو الذي نحت لفظ «ما بعد التجريبي
metempirical»
ليدل به على ما هو موجود، أو يفترض أنه موجود، من وراء التجربة، وكما بين شادورث
هدجسن
Shadworth Hodgson،
١٩ فإن لويس لا يوضح إن كان ينكر وجود ما بعد التجربة، أم ينكر فقط قابليته
للمعرفة أم كليهما معًا، ويبدو على وجه الإجمال أنه يعترف بوجوده فحسب. ومهما انكشف
للحدس وللإيمان من هذا المجال، فإنه لا يمكن أن يكون — بالنسبة إلى المعرفة في معناها
الوضعي — إلا تصورًا سلبيًّا حديًّا. وقد ترك لويس آخر الأمر مجالًا للمشكلات
الميتافيزيقية في الفلسفة، ولكنه اشترط أن تعالج وتحل بروحٍ علميةٍ دقيقة؛ فالفلسفة
في
نظره، كما هي في نظر سبنسر، هي العلم الذي ينتقل إلى أعلى التجريدات وأوسع
التعميمات.
وفيما عدا ذلك، فقد كانت معظم أبحاث لويس ذات طابعٍ فسيولوجي ونفساني، وهذه بدورها
حافلة بالأفكار المثيرة، التي ترتفع في أحيان غير قليلة إلى مستوى التبصر العبقري،
ولكنها ظلت كلها عقيمة لأنها اختبأت وسط حشد من الأفكار المختلطة التي تفتقر إلى
الاتزان والوضوح. ومن أفكاره الجديدة، التمييز بين نوع الظاهرة الذي يتبدى بوصفه
تجديدًا خالصًا بالنسبة إلى سوابقه، وبين النوع الذي لا يمكن فهمه تمامًا من خلال
خصائص
أجزائه المكونة، وكان لويس أول مَنْ أطلق على الفئة الأولى اسم الظواهر الطافرة emergent، بينما أسمى الفئة الثانية ﺑ«الناتجة resultant»، وهو هنا قد استبق «فلسفة الطفرة emergent Phil.» عند لويد مورجان وألكسندر، وإن
لم يكن من المؤكد إن كانت ثمة أي استمرار منه إليها، أي تأثير مباشر أو غير مباشر
له
فيهما.
ولقد كان تفكير لويس ينتمي في أساسه إلى عصر كونت ومل، ولم يتأثر بأفكار دارون وسبنسر
إلا قليلًا. أما الجيل التالي من المفكرين الذين وُلِدُوا في العقدين الرابع والخامس
من
القرن التاسع عشر، فقد طغت عليهم موجة المذهب الجديد، في السن التي كانوا فيها أشد
تعرضًا للتأثر بآراء الغير، ولكنه لم يؤثر إلا في القليلين بمثل العمق الذي أثر به
في
وليام كنجدن كليفورد William Kingdon Cilfford
(١٨٤٥–١٨٧٩)، الذي شغل منذ عام ١٨٧١ حتى موته المبكر منصب أستاذ الرياضيات في الكلية
الجامعية (يونيفرستي كوليدج) بلندن.
كان كليفورد شخصيةً فريدة ذات موهبةٍ عقلية لامعة، وكان سابقًا لسنِّه ضليعًا في
ميادينَ عديدة، تشع العبقرية منه، وكانت له القدرة على التحمس وإثارته لدى الغير،
كما
كان له على الناس سحرٌ غريب، ولكن ذلك اقترن لديه بجرأة لا ضابط لها، وبنوع من الإفراط
والإغراب؛ فإذا بالنتيجة شخصيةٌ حافلة بالمتناقضات كانت تسير نحو استهلاك ذاتها،
ولقد
كان فيه عرقٌ بروميتي، وكان يتصف بالكثير مما يذكرنا بمعاصره الألماني نيتشه. والحق
أنه
ما من شيء يؤكد مدى خروج شخصية كليفورد عن المألوف في الفكر الإنجليزي بقدر قرابته
العقلية مع هذا المفكر الألماني الذي كان دائمًا وما يزال غريبًا كل الغرابة بالنسبة
إلى الإنجليز، غير أن حياة كليفورد كانت أقصر بعشرة أعوامٍ كاملة من حياة نيتشه
العقلية، ولم يتسنَّ له أن يتم إلا أقل مما أتمه نيتشه بكثير. ولربما خطر ببال المرء
أن
يتساءل: أهناك شيء كان سيعجز عن تحقيقه لو كان قد وُهِبَ حياةً أطول؟ غير أن هذا
سؤالٌ
عقيم؛ إذ ربما كان القدر قد شاء له أن يقدم في سيلٍ جارف كل ما كان لديه خلال العمر
القصير الذي أتيح له، بحيث إنه كان قد استنفد موارده العقلية بالفعل عندما خانته
قواه
الجسمية. وهكذا كان عمل كليفورد الذي وزعه بطريقته الموهوبة بين ميادينَ علميةٍ متعددة،
قد ظل تمثالًا رائعًا لجذع بغير أطراف، وكان هو ذاته باحثًا أكثر منه كاشفًا، وحافزًا
للغير أكثر منه موجهًا لهم، ومرشدًا إلى أهداف لم يعش هو ذاته لتحقيقها.
ولقد شملت الأعمال التي أنجزها كليفورد، إلى جانب جهوده الهامة في الرياضيات ومعرفته
الدقيقة بالعلم الطبيعي، أبحاثًا في نظرية المعرفة، ونظرية العلم، وكذلك في
الميتافيزيقا والأخلاق وفلسفة الدين،
٢٠ وهو يتخذ نقطة بدايته في نظرية المعرفة من فكرةٍ قريبة من المذهب الظاهري
الحسي عند باركلي وهيوم، فموضوعات العالم الخارجي تعطى لي بوصفها انطباعات، وهي تمثل
سلسلة من التغيرات في وعيي، وليس لها عدا ذلك وجود، غير أن انطباعات الذوات الأخرى
لا
تعطى على نفس النحو؛ إذ إنها لا يمكن أن تكون موضوعًا لوعيي، وإنما يمكن الاستدلال
عليها من وعيي، عن طريق إسقاط ذاتي خارج وعيي على الذات «الأخرى». ويطلق كليفورد
على
هذه الانطباعات التي أسقطها خارج ذاتي على هذا النحو وأدركها على أنها توجد خارج
«ذاتي»
اسم «الانبثاقات
ejects»، وهكذا فبينما تكون
الموضوعات
objects هي المعطيات التي تبدو بوصفها
ظواهر في وعيي الخاص وتنتمي إليَّ وحدي، فإن «الانبثاقات» هي محتويات عمليات المعرفة،
منقولة من وعيي الذاتي ومحوَّلة إلى الوعي الخارجي الذي تنتمي إليه. ومما يزيد هذا
التفسير لعملية المعرفة تعقيدًا أن كليفورد يضيف إليه أفكارًا منتمية إلى المجال
التاريخي التطوري، فالإيمان بوجود وعي غير وعيي مضمون بالفعل، على نحوٍ مستقل عن
كل
حجةٍ نظرية؛ نظرًا إلى أن الإنسان لم يكن منذ البداية فردًا منعزلًا، وإنما تربطه
بأقرانه علاقاتٌ اجتماعية. وهكذا يتضح، من وجهة نظر التطور التاريخي، أن الإيمان
(بالمنبثق (خارج الذات)
The eject) هو نوع من إعادة كشف
وعيٍ مشابه لوعي في وجود أقراني من الناس، أو من التعرف على هذا الوعي الآخر، غير
أن
«الموضوع» المعطى لوعيي قد يتمثل أيضًا منذ البداية، حتى لو كان ذلك بطريقةٍ غريزية
فحسب، بوصفه موضوعًا يمكن أن يحس به وعيٍ آخر بالإضافة إلى وعيي. ويطلق كليفورد على
الموضوع الذي يقترن به هذا الاعتقاد اسم «الموضوع الاجتماعي»، ولا يعني الإحساس
بالخارجية، الذي تثيره مثل هذه الموضوعات، أي شيء سوى هذه العلاقة الفعلية أو الممكنة
مع وعيٍ «آخر». ومن الواضح أن مثل هذه الطريقة في البرهنة على هذه المسألة تنطوي
على
جمعٍ عشوائي بين أفكار شديدة التنوع، ومن الممكن أن يُطْلَق عليها اسم البرهان
الاجتماعي على حقيقة العالم الخارجي.
ولا تمتزج في هذه النظرية اتجاهاتٌ فكرية تجمع بين المذهبَين الحسي والتطوري فحسب،
بل
تمتزج فيها أيضًا اتجاهاتٌ فكريةٌ إبستمولوجية وميتافيزيقية، وليس في وسعنا أن نعرض
هنا
الارتباطات الباطنة بين هذه الاتجاهات المتباينة، وهي الارتباطات التي لا تظهر بوضوحٍ
كامل في طريقة كليفورد المتقلِّبة في التفكير، غير أن كل حجة تؤدي في النهاية إلى
عنصرٍ
واحد في فلسفته أصبحت له شهرةٌ واسعة، هو نظرية «المادة
الذهنية mind-stuff». وفي هذه النظرية يشير أولًا إلى أن الانطباع أو الإحساس لا
يلزم أن يكون في وعي يحويه، وإنما يكون أيضًا أن يوجد بطريقةٍ مستقلة «خارج» الوعي،
أي
إنه «شيء في ذاته»، ومطلق يكون وجوده «لذاته»، لا منسوبًا إلى أي شيءٍ آخر، وكل ما
يمكن
أن يقال عنه هو أنه يحس sentiur، فالعناصر التي يتألف
منها كل إحساس هي التي أسماها كليفورد «بالمادة الذهنية»، ولقد كان من السذاجة بحيث
اعتقد أنه توصل بذلك أخيرًا إلى حل المشكلة «الشيء في ذاته» عند كانت، وهو يصل إلى
هذا
الهدف ذاته عن طريق سلسلةٍ أخرى من الحجج، فيحاول أن يبين أن مشكلة العلاقة بين المجال
المادي والمجال النفسي ينبغي ألا تُحلَّ برد أحدهما إلى الآخر بوصفه مصدرًا له، وإنما
يسود المجالَين تبادل وتناظرٌ تام، يماثل في اكتماله ذلك التبادل والتناظر الموجود
من
جهة بين حروف الجملة عندما تُقرأ أو تُنطَق، وبينها من جهة أخرى عندما تُكتَب أو
تُطبَع. وذلك يعني في نظره أننا لسنا هنا إزاء شيئَين مختلفَين أساسًا ومن حيث المبدأ،
وإنما إزاء نفس الجوهر، الذي يبدو ماديًّا من وجهة معيَّنة ونفسيًّا من الوجهة الأخرى.
وهو يستخدم تعبير «المادة الذهنية» ليدل به أيضًا على ذلك الجوهر الموحَّد الكامن
وراء
كل الوجود. وهنا أيضًا يكون من الواضح أن المادة الذهنية ينبغي ألا تُعدَّ مستقلة
عن كل
وعي فحسب، بل يجب أن تعد سابقة عليه في الزمان أيضًا؛ إذ ينبغي أولًا أن تركز المادة
الأولى المنتشرة في الكون في أثناء حالته المختلطة، وتدمج في تركيباتٍ متكاملة، ومن
المحال أن يصبح الوعي ممكنًا قبل ذلك بحيث يتوقف المستوى الذي يبلغه الوعي على المستوى
الذي يصل إليه تطور العناصر المادية. وينبغي أن ينظر إلى ما يبدو لنا «مادة» على
أنه
مؤلَّف بالمثل من مادةٍ ذهنية، فكل ذرة وجسيمة فيها، بالإضافة إلى ماديتها، عنصرٌ
نفساني. ومن الواضح أن مذهب سبنسر في الكونيات يلعب دورًا في تأملات كليفورد هذه،
كما
أن من الواضح أن فكرة «شمول النفس panpsychism» هذه
ليست إلا مذهبًا ماديًّا لا يحجبه إلا قناعٌ دقيق؛ إذ إن «المادة الذهنية» التي قال
بها
كليفورد، على الرغم من كونها تبدو فكرةً جريئة إلى حدٍّ بعيد، هي بالفعل فكرةٌ
ميتافيزيقيةٌ معقدة التركيب، يتضح من الفحص الدقيق أنها لا تختلف اختلافًا أساسيًّا
عن
«المادة» المألوفة.
ولدى كليفورد آراء في المنطق ومناهج العلوم الدقيقة لها قيمةٌ فلسفيةٌ أعظم، وإن تكن
شهرتها أقل كثيرًا، وتتفق هذه الآراء في الأساس مع آراء ماخ، كما تتفق بوجهٍ خاص
مع
آراء بيرسن، الذي كان يقف عن كثب منها، وشيَّد عليها مذهبًا، والمبدأ الأساسي هو
مبدأ
«الاقتصاد في التفكير» الذي يؤدي هنا، كما يؤدي لدى المفكرين الآخرين، إلى استباق
أفكار
ظهرت فيما بعدُ في النظرية البرجماتية في المعرفة.
ويظهر التأثير المقلق لأفكار دارون وسبنسر أوضح ما يكون في آراء كليفورد الأخلاقية،
التي اهتم بها اهتمامًا خاصًّا. ولقد كان كليفورد يعتقد، كما رأينا من قبلُ، أن إيماننا
بالعالم الخارجي يرتكز على نوع من الغريزة الاجتماعية، ولا يمكن أن يضمنه التفكير
النظري البحت، ومثل هذا يقال في الأخلاق، فهنا أيضًا تكون الحقيقة الرئيسية هي أن
الفرد
ليس شيئًا في ذاته ولذاته، بل إن وجوده كله إنما ينحصر في كونه عضوًا في كلٍّ اجتماعي
يدعم الفرد ويحيط به، وهنا يدخل كليفورد فكرةً رئيسية هي فكرة «الذات القبلية Tribal Self» وهي فكرة استحدثها هو، وأصبحت
بفضله مشهورة. والمقصود عنده بهذا اللفظ ذلك الإحساس الذي هو موروث ومكتسب في آنٍ
واحد،
والذي يؤدي إلى إدراك ما يخدم مصالح القبيلة أو الجماعة الاجتماعية التي ينتمي إليها
الفرد. والذي يحدث أولًا هو أن الذوات المنفصلة التي تنشأ منها «الذات القبلية»
بالتدريج، تكون في البداية مدفوعة بالسعي وراء اللذة، والميل إلى إشباع حاجاتها
الفردية. غير أن الذات الفردية تمتد إلى الذات القبلية بقدر ما تترك جانبًا مصالحها
الأنانية وتدافع عن مصالح القبيلة وكأنها مصالحها الخاصة، ويكون نمو الفرد هذا عملية
تطورٍ اجتماعي في نفس الوقت. غير أن الذات الخاصة والذات الاجتماعية تكونان في الحياة
البشرية في صراعٍ دائم، وحيث تكون الذات الاجتماعية نامية، فإنها تعارض الدوافع
الأنانية للذات الخاصة، وهي الدوافع التي تتعارض مع مصالح المجتمع، وتجعل المرء يستاء
من مسلكه الخاص. وفي هذه الإدانة للذات الفردية بوساطة الذات الجماعية يرى كليفورد
أن
ظاهرة الضمير تعبر عن نفسها، بوصفها صوت «الذات القبلية» وقد نما وتهذب عن طريق
الانتقاء الطبيعي؛ وعلى ذلك فالخير (أو الشر) الأخلاقي، بالنسبة إلى أخلاق كليفورد
القبلية أو الاجتماعية، هو ما ينفع القبيلة (أو يضرها)، أو بتعبيرٍ أقرب إلى الروح
الداروينية، هو ما يزيد (أو ينقص) من كفاءتها أو قدرتها على البقاء. وهدف الأخلاق
هو
تدريب الفرد على أن يصبح أكمل عضو ممكن في المجتمع، أي أن يصبح شخصًا يُسكِت صوت
مصالحه
الخاصة ولا يعترف إلا بمصالح القبيلة، أو أن يكون — حسب تعبير كليفورد — مواطنًا
صالحًا. فإذا ما جردنا هذه الأفكار من ردائها التطوري، كان من الواضح أنها تنطوي
على
مساهمة قيمة في الأخلاق الاجتماعية المثالية، فكليفورد ينبذ صراحة الأخلاق المبنية
على
مذهب اللذة، ومبدأ «أعظم قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس»، وعلى الرغم من أنه
هو
ذاته لم يتحرر تمامًا من نوع من مذهب المنفعة المتسامي، وظل أسير القيود الداروينية،
فإن مذهبه، كما هو واضح، يمثل حلًّا للمشكلة الأخلاقية أفضل بكثير من ذلك الذي استطاعت
الفلسفة الأخلاقية الإنجليزية أن تقدمه. ومما زاد في نجاح أفكاره في هذا الميدان،
وأكسبه احترام المفكرين، حتى من لم يكن منهم يستطيع الموافقة على آرائه في الميادين
الأخرى، أنه لم ينشرها على أنها مذهبٌ جاف، وإنما بثَّ فيها قوة شخصيتها وحماستها
الدافقة.
كذلك اتسم موقف كليفورد من الدين بنفس هذه الغرابة المتحمسة؛ فهو هنا كان يعارض كل
حل
وسط، وينفر من أي نوع من الإذعان للسلطات الكنسية، على النحو الذي كان من الشائع
أن
يدعو إليه في إنجلترا حتى أولئك المفكرون الذين لا يكترثون بالدين. وهكذا وقف يدافع
بتعصبٍ حقيقي عن عدم الإيمان، ولم يجد غضاضة، في إنكاره لله، أن يعامل الديانات الوضعية
بقسوةٍ شديدة، ويصبَّ جام غضبه على الكنيسة والعقيدة والكهنوت وكأنه واحد من رسل
عصر
التنوير ينفس عن كراهيته المكبوتة، فهو قد أسمى المسيحية «وباءً فظيعًا دمَّر
حضارتَين». وأعرب عن سخطه الأخلاقي الشديد على التأثير الضار للقساوسة، الذي رأى
أنهم
الأعداء الحقيقيون للإنسانية، وأنهم خطرٌ دائم على الدولة والمجتمع والأخلاق الحقة.
ولكن حتى هذا العدو المرير لكل ما هو ديني لم يستغنِ عن نوع من البديل للإيمان الديني،
فقد وجد ملجأً في عبادة الكون، ووقف في خشوع وتقديس أمام نظامه واطراده الرائع، وأطلق
على الشعور الذي كان ينتابه في هذا الصدد «العاطفة
الكونية cosmic emotion»، وأقرَّ بأنها توجد — كما قال كانت في كلمته المشهورة — كلما
تأمل المرء السماء المرصَّعة بالنجوم فوقه والقانون الأخلاقي في داخله. غير أنه وضع
الإنسان موضع الله، وكان كل إيمانٍ حي موجَّهًا في نظره إلى تمجيد للإنسان والإشادة
به.
وقد دافع مثل كونت عن «عقيدة الإنسانية» وكتب بشيء من المبالغة عن الإنسان الأب الذي
ينظر إلينا من فجر التاريخ ومن الأعماق الخفية لكل روح بنار الشباب الأزلي ويقول:
«قبل
أن توجد الآلهة كنت هناك.» كما كتب في موجة حماسة، عند ختام بحثه في «العاطفة الكونية»
يقول «إن من يستطيعون قراءة علامات الزمان سيقرءون فيها أنه قد آن أوان مملكة الإنسان.»
غير أن معبد هذه العقيدة كان بالنسبة إلى كليفورد بناء العلم الشامخ، وكان أمله معقودًا
على العلم في تحقيق أي تقدمٍ مقبل لروح الإنسان.
على أن الإجابة عن السؤال عن إمكان التوفيق بين الداروينية والدين لم تكن دائمًا
النفي القاطع، كما في حالة كليفورد، وإنما ظلت المشكلة بالنسبة إلى تلميذٍ آخر لدارون،
هو جورج جون رومانس Geroge J. Romanes (١٨٤٨–١٨٩٤)
مشكلةً مفتوحة حيَّرته طوال حياته. ولقد كان رومانس، الذي تتلمذ على دارون وأصبح
صديقًا
مقربًا إليه، عالمًا بيولوجيًّا في المحل الأول، واكتسب بفضل أبحاثه المستقلة شهرةً
ضخمة، بوصفه واحدًا من أنبغ المساهمين في «نظرية
الأصل السلالي Theory of descent»، ولكنه لما كان ميالًا بطبيعته إلى الدين، وتربَّى في
بيئةٍ متمسكة بالدين، فقد كان يندفع دائمًا إلى ما وراء حدود البحث التجريبي الخالص،
لكي يخوض المسائل الفلسفية المتعلقة بالتفسير العام للتجربة، وهي المسائل التي كانت
تنتظر قرار المذاهب العلمية الجديدة بشأنها بإلحاحٍ شديد. ولقد كان الصراع بين إيمانه
وعلمه خفيًّا أحيانًا، وصريحًا أحيانًا أخرى، وبفضل هذا الصراع تحول إلى فيلسوف.
وإنه لمن الطريف أن نتتبع المراحل المتعددة التي مر بها هذا الصراع حتى انتهى إلى
صورته الأخيرة، ففي أول مؤلفاته، («اختبار صريح لمذهب
الألوهية A Candid Examination of Theism» ١٨٧٨) نجده متمسكًا بالطرق المادية في التفكير إلى حد أن
الأساس المتين لعقيدته في الشباب سرعان ما أصبح سرابًا، ولكن لم يكن معنى ذلك رفضًا
صريحًا للدين — كما في حالة كليفورد — وإنما كانت تلك فترة اختبار باطنٍ عميق، يقف
فيه
موقف الحكم على نفسه، لكي يُقدِّر قيمة القوى المتصارعة فيه. ورغم أن العلم هو الذي
يثبت أنه الأقوى، ويقضي على كل الحجج المؤيدة لمذهب الألوهية، فإنا نشعر بأن الإيمان،
رغم كونه مضطرًّا إلى التواري في الصفوف الخلفية لم يُلغَ تمامًا بأية حال؛ إذ يصبح
من
الواضح أنه حتى إذا لم يتسنَّ إنقاذ شيء من الحطام، من وجهة نظر العلم، فإن هناك
طريقًا
آخر لمعالجة المسألة بترك الباب مفتوحًا لإمكان وجود الله، هذا الطريق يؤدي إلى نوع
من
الميتافيزيقا الغائية، التي يبدو أن من الممكن أن ينفذ المرء منها إلى مجال يتجاوز
مجال
العلم، ولكن من الضروري هنا افتراض وجود روحٍ عليا، تكون هي العلة النهائية لكل
الأشياء. غير أن رومانس لا يتابع هذه الحجة بأي اقتناع جدِّي، بل إنها في الواقع
تؤدي
به دائمًا إلى صراع مع ضميره العلمي، الذي لا يمكن تبرير أية تأملاتٍ نظرية كهذه
أمام
محكمته. وهكذا يقع في تأرجحٍ غريب بين نظرة إلى العالم فيها مكان للألوهية، ونظرةٍ
أخرى
لا مكان فيها للألوهية. ولم يكن من الممكن أن ينقذه من هذا التأرجح إلا اتباع الطريق
النقدي بصراحة وجرأة، ولكنه يلجأ بدلًا من ذلك إلى موقف اللاأدرية لكي يخفف من صراع
الضمير المُحتدم داخله، دون أن يحل هذا الصراع نهائيًّا.
على أن وجهة نظره قد تغيرت قبل مضي سنواتٍ قلائل، ففي محاضرة ألقاها سنة ١٨٨٥، وإن
لم
تكن قد نُشِرت إلا بعد وفاته سنة (١٨٩٥)، بعنوان «الذهن والحركة والمذهب
الواحدي
Mind, Motion and Monism» يُبدي رومانس ميلًا إلى مذهب وحدة الوجود على طريقة «جوردانو
برونو»، كما يُبدي وجهة نظر واحديةً مماثلة في مقالٍ قصير ظهر بعد ذلك بوقتٍ قليل
في
مجلة
Contemporary Review (١٨٨٦) بعنوان «العالم بوصفه انبثاقًا
The World as Eject» (وقد نشر المقال
أيضًا في كتابه، «الذهن والحركة والمذهب الواحدي»). ورغم أن هدفه من هذه الواحدية
كان
عبور الهوة بين المادية والروحية، فإن ميله إلى الروحية كان واضحًا. وقد وصل إلى
هذا
الموقف بأن وفق بين نظرية «الانبثاقات» عند كليفورد وبين آرائه الخاصة، فضلًا عن
قيامه
باختبارٍ نقدي لفكرة كليفورد في «المادة الذهنية» التي أكسبها طابعًا مضادًّا تمامًا
لطابعها الأصلي، وذلك إذا أرجع كل شيء إلى المجال النفسي بدلًا من المجال المادي،
وهو
في كل هذه الآراء لا يمس المسألة الدينية الخاصة على التحديد بعدُ، وإنما يتخذ موقفًا
محايدًا إزاءها، وهو على الأخص لا يزال ينظر هنا إلى «المنبثق الشامل
World-Eject» (وهو الاسم الذي يطلقه رومانس على «المطلق») على أنه
مبدأٌ لا شخصي مجرد ميتافيزيقي محض، ولكن نظرته تغيرت مرةً أخرى في السنوات الأخيرة
من
حياته، فقد خلَّف ملاحظات عن كتاب كان يزمع تأليفه ولكنه لم يقم بذلك فعلًا، كان
المفروض أنه سيختبر فيه مشكلة الدين من جديد،
٢١ وفي هذه الملاحظات يظهر رومانس على أنه قد تقبل الإيمان الديني نهائيًّا،
وقد ظهرت وصيته الأخيرة هذه في الكتاب الذي أشرف على نشره تشارلس جور
Charles Gore بعنوان «أفكار عن الدين
Thoughts on Religion»، (١٨٩٦) فقد اهتدى
رومانس إلى طريق العودة إلى الديانة الوضعية، وأصبح يمثل الآن مذهبًا ألوهيًّا شخصيًّا
بالمعنى الموجود في المسيحية، وعرف كيف ينظم في اعتقاداته العلمية على النحو الملائم
للدين. وقد احتفظت الداروينية ومذهب التطور لديه بصحتها كاملة، ولكن في اتفاق، لا
اختلاف، مع النظرة إلى العالم في ظل الألوهية، وبهذا تغلب على الثنائية القائمة بين
المعرفة العلمية والإيمان، وحقق تلاؤمًا منسجمًا بينهما.
ومع ذلك فإن هذا التلاؤم، إذا شئنا الدقة، لا
يمكن تحقيقه، فالداروينية — إن شاءت أن تكون أمينة — لا يمكن أن تتفق مع الدين فوق
الطبيعي، ومن ثَم فقد كانت هذه الفكرة هي السائدة، وهي التي يعبر عنها معظم الفلاسفة
الذين ساروا في طريق سبنسر ودارون وهكسلي في بحثهم للمشكلة الدينية، ونستطيع أن نذكر
من
بين ممثليهم المعبرين عنهم اسمَي: شارلس جرانت
ألن
Charles Grant Allen (١٨٤٨–١٨٩٩) ووليام
ونوود ريد
William Winwood Read (١٨٣٨–١٨٧٥)، فقد قطع ريد، الذي كان كاتبًا غزير الإنتاج في
العلم والآداب معًا، كل صلة له بالدين، ودعا إلى رأي في الحياة يكون مبنيًّا تمامًا
على
المذهب الطبيعي الفردي القائم على فكرة اللذة دون أي لبس أو غموض. ولقد كان واحدًا
من
القلائل الذين اهتموا بالمشكلات الجمالية، وحاولوا إيجاد تفسيرٍ تطوري لها،
٢٢ وقد اشتهر ريد بكتابه «استشهاد
الإنسان
The Martyrdom of Man» (١٨٧٢، وظهرت له عدة طبعات تالية) وهو عملٌ مؤثر يحرك
المشاعر، كان له نجاحٌ أدبيٌّ ضخم، وقد كانت القوة الدافعة إليه، كما يدل على ذلك
عنوانه، هي نظرة مكتئبة متشائمة إلى الحياة، تنطوي على رفضٍ تام لكل القيم العالية
على
الطبيعة ولكل إيمانٍ ديني، وتستبدل به الإيمان بقدرة العلم على كل شيء، والاعتقاد
الصارم بأن العلم — والعلم وحده — هو الذي قُدِّرَ له أن يخلص الإنسان من بؤسه الماضي
والحاضر إلى مستقبلٍ أفضل. وهكذا يتسامى ريد بالإنسان، مثل كليفورد، ليجعل منه كائنًا
من نوعٍ أعلى، وهو بالطبع لا يعني بذلك الإنسان من حيث هو فرد، بل يعني الإنسانية
جمعاء، لكي يستخلص من قابلية الإنسان للكمال تلك العقيدة الجديدة التي يهيب بها لتحل
محل القديمة.
ولقد خاض المعركة مع المذهب الجديد مفكرون أقرب إلى الروح الدينية، كلٌّ بطريقته
الخاصة، ونتجت عن ذلك تفرعاتٌ عديدةٌ جدًّا، وبغض النظر عن رومانس، نستطيع أن نختار
للبحث — من بين هؤلاء الكثيرين — الأسماء الآتية: جيمس ألنسن بكتن James Allanson Picton (١٨٣٢–١٩١٠)
وجيمس كرول J. Croll (١٨٢١–١٨٩٠)، وهنري درموند H. Drummond، والسير جون روبرت سيلي Sir J. R. Seeley (١٨٣٤–١٨٩٥).
كان بكتن شديد التعلق بسبنسر، وكان يؤمن بكل
التعاليم الميتافيزيقية التي يتضمنها كتاب «المبادئ الأولى»، ولكنه مضى خطوةً أبعد
من
ذلك؛ إذ وحد بين «اللامعروف» والإلهي، وبذلك سعى إلى تحويل القمة الميتافيزيقية التي
بلغها مذهب سبنسر في اتجاه الفلسفة الدينية، وقد تعمد أن يبين أن المذهب التطوري
لا
يفضي حتمًا إلى اللاأدرية أو النزعة الطبيعية
Naturalism ناهيك بالمادية، بل إن من الممكن جدًّا الجمع بينه وبين
العاطفة الدينية الصادقة. رغم أن هذه قد تكون بعيدة تمامًا عن أي إيمانٍ وضعي من
النوع
العقيدي؛ لذلك عكف بكتن على إقامة دين على أساسٍ تطوري، ومن الواضح أن مثل هذا الدين
ينبغي أن يؤدي إلى مذهب شمول الألوهية
Pantheism،
٢٣ وهكذا يدافع هنا عن توحيد اسبينوزا بين الله والطبيعة، ويعلن بحماسةٍ
عاطفية أنه هو حل جميع المسائل المختلف عليها في الفلسفة، ولكن رغم أن بكتن يرفض
صراحةً
فكرة إلهٍ خالق، ويؤكد أن الكون قد نشأ من ذاته ويكتفي بذاته، فإنه يعلق مع ذلك أهميةً
كبرى على محاولته إثبات أن عقيدته العالمية تتفق مع الجوهر الحقيقي للديانات التاريخية
وضمنها المسيحية، وهكذا يسمى مذهبه «بالمذهب المسيحي في شمول الألوهية
Christian Pantheism»، ولا يشعر بأي حرج من التناقض
الملموس الذي ينطوي عليه الجمع بين مذهبَين على هذا القدر من التنافر.
٢٤
وعلى حين أن التركيب الديني العلوي عند بكتن كان أقرب إلى أن يكون إضافة قصد بها
تنميق المذهب وتزويقه أكثر مما كان تعبيرًا عن التخلي الفعلي عن المذهب الطبيعي،
فإن
«كرول» وهو عالمٌ جيولوجيٌّ اسكتلندي، يغامر بالمعنى خطوةً حاسمة بعد هذه الحدود،
فهو
بدوره يترك المذهب التطوري في مجموعه دون نقاش، ويأخذ بأهم العناصر في نظريته، ولكنه
في
الوقت ذاته يحاول أن يهزَّه من أعماقه ويزعزع نفس الأساس الذي بني عليه. فقانون التطور
نفسه ينص على أن المادة والقوة والحركة هي العوامل التي تحدد وتفسر كل عمليةٍ كونية
وكل
تغير يحدث فيها، ومع ذلك فإن أحدًا لا يتساءل عما وراء هذه العوامل، وإنما تظل قائمة
بوصفها العناصر النهائية لكل وجود وكل صيرورة، ولا تكون هي ذاتها في حاجة إلى تفسير.
أما بالنسبة إلى كرول فإن هذا البحث عن مصدر تلك العناصر وأصلها يبدو أمرًا له أهميةٌ
عظمى، فكون القوة والمادة موجودتَين، هو أمر أقل أهمية من مسألة تحديدهما. والمشكلة
الأساسية في الفلسفة هي مشكلة تحديد العوامل الأصلية للوجود وتفسيرها، فإذا كانت
كل
حالة حاضرة للكون تتحدد مقدمًا بالحالة السابقة عليها، وهذه بدورها تتحدد بما يسبقها،
فإنا نواجه عندئذٍ تسلسلًا ممتنعًا إلى ما لا نهاية، ولا بد أن تكون هذه السلسلة
قد
بدأت في وقت ما، ولا بد أن يكون هناك تحديد أول، ومن الواضح في الوقت ذاته أن القوة
لا
يمكن أن تُردَّ آخر الأمر إلى القوة بوصفها العلة المحددة لها، ولا الحركة إلى الحركة.
وهكذا فلا بد أن نستنتج من كون شيء موجودًا في اللحظة الحالية أن «شيئًا» لا بد قد
وُجِدَ منذ الأزل. غير أن الاعتقاد بأن «الكون» هو الأزلي محال؛ إذ إنه ينطوي على
القول
الممتنع بوجود تعاقب لا نهائي للأحداث، وبذلك لا يتبقى إلا افتراض إلهٍ أزلي لا متناهٍ،
بوصفه المحدد الأول للسلسلة الكونية، أو الروح الخالقة التي هي العلة النهائية لكل
الوجود، وبالتالي حافظ العملية التطورية بأسرها. وهكذا فإن التطورية — مع احتفاظها
بصحتها الكاملة — لا تعود نظريةً مكتفية بنفسها أو قائمة بذاتها، وإنما هي تنتقل
في
النهاية إلى مذهب للألوهية، وهذا دليلٌ آخر على أنها قد سئمت سفينة المذهب الطبيعي
التي
تهيم فيها، وأخذت تبحث عن شاطئ تستقر فيه.
٢٥
أما «درموند» فقد قام بمحاولةٍ مستقلة لإيجاد
مكان للدين داخل مذهب العلم الطبيعي، وقد أحرز درموند، الذي كان قسيسًا ولاهوتيًّا
وباحثًا علميًّا، شهرةً مفاجئة بعد النجاح الهائل غير المتوقع، لكتابه «القانون الطبيعي
في
العالم الروحي Natural Law in The Spiritual World» وهو الكتاب الذي نُشِرَ في ١٨٨٣، وبيعت منه قبل نهاية
القرن ١٢٥٠٠٠ نسخة، وكانت أهم أسباب هذا النجاح، بالإضافة إلى الأسلوب الشعبي في
الكتابة، وسهولة فهم محتوياته، هي أنه تضمن بحثًا في العلم الجديد قام به شخص لا
يشك
أحد في تديُّنه، ولكنه لم يحمل على هذا العلم — كما يفعل غيره من المتدينين عادة
— على
أنه معادٍ للدين، وإنما يعرضه على أنه متفق تمامًا مع تعاليم العقيدة المسيحية. وبفضل
هذا الكتاب تم التوفيق، لأول مرة، بين مذهب التطور الجديد وبين الجمهرة الكبيرة من
الناس، الذين كانوا يهتمون بالمذهب، ولكن عقيدتهم الدينية تباعد بينهم وبينه. وقد
كانت
فكرة درموند الأساسية — وهي فكرة غاية في البساطة، ولكنها في بساطتها بناءة إلى حدٍّ
بعيد — هي أن يمد إلى العالم الروحي تلك القوانين التي تسري على العالم الطبيعي،
مثلما
مدَّها سبنسر إلى العالم التاريخي الاجتماعي. وهو يعني بعبارة «العالم الروحي» عالم
الدين قبل كل شيء؛ فهذا العالم، في رأيه، يخضع بدقة لنفس مبدأ القانون الذي يخضع
له
العالم الطبيعي، والمبدآن معًا متماثلان من جميع النواحي. وهكذا فإن القانون الأساسي
للوجود كله هو قانون الاتصال، وكل درجة وكل مستوى للوجود يخضع لنفس القوانين التي
تربط
الجميع في وحدةٍ شاملة، ومهمة العلم هي أن يثبت طبيعة ما هو عالٍ على الطبيعة، كما
أن
مهمة الدين هي أن يثبت أن ما هو طبيعي عالٍ على الطبيعة، ويصبح الروحي طبيعيًّا بنفس
المقدار الذي تصبح به الطبيعة روحية. وعيب هذه الفلسفة هو ذلك الخطأ الأساسي، وأعني
به
تجاهل الفارق الحاسم بين هذين العالمَين، ففيها خلط لا يكاد يحتمل بين مجالَي الوجود
اللامتجانسَين، وإزالةٌ كاملة لكل الحدود بين الطبيعة والروح، فالدين إذ يتنكر في
زي
العلم يسيء استغلال العلم لأغراضه الخاصة. ويمضي درموند في هذا الخلط إلى حد يكون
للمرء
معه أن يشك فيما إذا كنا هنا نواجه انحطاطًا للعقل إلى مرتبة الطبيعة، أم ارتقاءً
للطبيعة إلى مرتبة الروح. غير أن الدوافع الباطنة للمذهب تظهر واضحة عندما نجد أن
نتيجته النهائية هي القول إن للروح الأولوية على الطبيعة، وإنه ليس للمادة حقيقة
في
ذاتها، وإنما هي مجرد تجسد للروح، وإن الروح وحدها هي التي تكشف عن ماهية العالم
الحقيقي.
وقد أثمرت فلسفة درموند الشعبية كتابًا آخر هو «ارتقاء الإنسان
The Ascent of Man»،
٢٦ وفيه تحلُّ فكرة الصراع من أجل وجود الآخر محل فكرة صراع الكائن من أجل
وجوده هو ذاته، بحيث يحاول أن يبين أن الظواهر الأخلاقية لا تظهر في المجال البشري
وحده، بل في مجالٍ أدنى منه بكثير في المملكة الحيوانية، وأنها ترتبط أيضًا بالعمليات
البسيطة للحياة، فالسلوك الغيري يسود الطبيعة بأسرها، وله من القوة ما للأنانية،
كما أن
قانون الحب أو الصراع من أجل وجود الآخر — وهو القانون الذي يضعه درموند مقابل المبدأ
الدارويني — يسري خلال الحياة الكونية بأسرها. وهنا أيضًا يظهر نفس الميل الذي اتضح
في
الكتاب السابق، وهو الميل إلى وضع مختلف مجالات الوجود على قدم المساواة، والجمع
بينها
في ظل مبدأ القانون الواحد الذي يربط بينها ويكمن من ورائها جميعًا.
أما «سبلي» المؤرخ المعروف، فقد عالج المشكلة الدينية في مؤلَّفين نُشِرا غفلًا من
اسمه، هما: «هذا هو الرجل Ecce Homo» (١٨٦٥، وهو عرض
لتعاليم المسيح، أثار ظهوره ضجةً عنيفة) و«الدين
الطبيعي Natural Religion» (١٨٨٢)، غير أن موقفه يقل عن موقف درموند وضوحًا، فافتقار
أفكاره إلى التحديد القاطع، والطريقة المختلطة التي تعرض بها، كل ذلك يترك القارئ
متشكِّكًا فيما إذا كان يمثل عقيدةً طبيعية مبنية على فكرة «شمول الألوهية» وحدها،
أم
أنه قد أبقى مكانًا في نظريته للحجج المؤيدة لمذهب الألوهية والإيمان بما فوق الطبيعة.
وعلى أية حال فتفكيره يميل في الأغلب إلى الاتجاه الأول، فقد كان بدوره، مثل درموند،
حريصًا على التوفيق بين نظرته إلى الدين وبين العلم الحديث، وعلى إظهار قوانين الطبيعة
على أنها قوانين الله في الوقت ذاته، وكان مقتنعًا بأن التوحيد بين الله والطبيعة،
وتقديس حقيقة أعلى «في» الطبيعة، يكفل لصاحب الذهن العلمي منفذًا لعاطفةٍ دينيةٍ
مشابهة
لتلك التي يبعثها في ذهن الشخص النقي الإيمان بألوهية علوية مشخصة. غير أن سيلي كان
أقل
من درموند بكثير في درجة التزامه بالإيمان الديني، وفضلًا عن ذلك فإن العوامل الجمالية
تلعب دورًا هامًّا في تفسيره للدين، فقد كان يرى أن الظواهر المميزة للمجال الديني
تتمثل في كل ما يثير الحماسة ويبعث العجب، وفي كل ما يستحق التبجيل، وكل ما يبعث
في
الإنسان الدهشة أو يكتسب إعجابه. وعلى ذلك فقد رأى أن الحياة الدينية لا تتجسد وعبادة
كائن علوي لا يدرك، بقدر ما تتمثل في التفاني المخلص في سبيل الحقيقة والمعرفة العلمية،
وفي حب الجمال، وفي نقاء الضمير وحيويته، أي إنها بالاختصار تكون في كل سعي وراء
الحق
والخير والجمال. وهكذا فإن تعاليم سيلي، التي يضفي فيها على القيم الثقافية للإنسان
نوعًا من السمو الديني، ترتد في النهاية إلى عبادة الثقافة أكثر مما ترتد إلى عبادة
الطبيعة، فهي تعبر عن شخصية واسعة الثقافة تستجيب لحياة الذهن في جميع أوجه نشاطها،
أكثر مما هي بديل هزيل لعقيدة العالم أو إيمان روح يعد الدين بالنسبة إليها تجربةً
هامة
بحق.
فإذا انتقلنا إلى الأخلاق التطورية، وجدناها تسير عمومًا في مسارٍ أضيق وأوضح معالم
من مسار الفلسفة الدينية التطورية، وإن يكن يوجد هنا أيضًا عدد من الاختلافات والفوارق
التي ينبغي ملاحظتها. ولقد أشرنا من قبلُ إلى سماتها الرئيسية، وإلى بعض صورها المميزة
عند بحثنا لسبنسر وهكسلي ووستر مارك وكليفورد. وما زال أمامنا عدد من المفكرين الذين
يحسن جمعهم سويًّا؛ لأنهم قد أولوا مشكلة الأخلاق أهميةً كبرى، وأهم هؤلاء جميعًا
هو
السير لزلي ستيفن Sir Leslie Stephen (١٨٣٢–١٩٠٤)،
الذي تضمن كتابه المنهجي الرئيسي «علم
الأخلاق The Science of Ethics» (١٨٨٢) ما يمكن أن يعدَّ أنضج وأكمل محاولة لبناء الأخلاق
على أساس فلسفةٍ تطورية. ولقد كان ستيفن كاتبًا موهوبًا متعدد الجوانب إلى حدٍّ بعيد،
امتزجت كتاباته بالحياة العقلية للعصر الفكتوري على أنحاءَ شتى، وكانت لها ثمرات
في
ميدان الصحافة، وفي ميدان كتابة السير، وفي التاريخ الفلسفي والأدبي، وفي الفلسفة
المنهجية إلخ، ومنذ سنة ١٨٨٢ حتى ١٨٩١ كان على رأس مشروع من أهم المشروعات الأدبية
الإنجليزية، وهو القاموس الهائل المعروف باسم «قاموس السير
القومية Dictionary of National Biography» والذي أسهم فيه ستيفن نفسه بكتاباتٍ متعددة. وأهم أعماله
الأخرى «تاريخ
الفكر الإنجليزي في القرن الثامن عشر Hist. of English thought in The XVIII century» (في مجلدَين، ١٨٧٦، انظر من قبل
ص [٨٣]) وهو وصفٌ رائع لعصر التنوير في إنجلترا، أعقبه بعد ذلك كتاب أشبه بتكملة
الكتاب
السابق، يتعلق بالقرن التاسع عشر، (هو «أصحاب مذهب المنفعة من الإنجليز
The English Utilitarians» في ثلاثة مجلدات، ١٩٠٠)
وتشمل كتاباته الأخرى التي يغلب على محتواها الطابع الفلسفي «مقالات في التفكير الحر
والحديث
الصريح Essays on Free Thinking and Plain Speaking» (١٨٧٣) و«دفاع عن
اللاأدرية An Agnostics Apology» (١٨٩٣) و«الحقوق والواجبات الاجتماعية Social Rights and Duties» (في مجلدَين، ١٨٩٦).
ولقد كان ستيفن ينتمي أصلًا إلى أوساطٍ متمسكة بالدين، حتى إنه رُسِّم قسيسًا في
شبابه، ثم عكف فيما بعدُ على الفلسفة، وأدى به تأثره المتزايد بمل أولًا، ثم بدارون،
وأخيرًا بسبنسر؛ إلى الانسحاب تدريجيًّا من الكنيسة، حتى تخلى أخيرًا عن مركزه الديني
في عام ١٨٧٥، ومنذ ذلك الحين أصبح يصف نظرته إلى العالم بأنها نظرة مفكر حر يقول
باللاأدرية. وكان في الشئون الدينية ممثلًا كاملًا، ولكنه متأخر، لعصر «التنوير»
تقترب
آراؤه كثيرًا من آراء هيوم فيلسوفه المفضل، كذلك كان يدين بموقفه الفلسفي من المسائل
الأخرى التجريبية الإنجليزية الكلاسيكية ولعصر التنوير بقدر ما يدين للمفكرين المحدثين،
واقترب من لوك وهيوم وأخلاقيي القرن الثامن بقدر ما اقترب في البداية من مذهب المنفعة
عند بنتام ومل الأب والابن، وبقدر ما اقترب فيما بعدُ من تطورية سبنسر ودارون.
وهكذا استوعب ذهنه وتشرَّب كل أفكار التراث الإنجليزي، الذي كانت لديه به معرفةٌ
تاريخية أعمق من معرفة معاصريه به، ففي تفكيره تظهر دوامًا تلك الخصائص المشتركة
لهذا
التراث، أعني العداء للميتافيزيقا، واللامبالاة إزاء الدين (وهي تزيد في حالته بحيث
تبلغ حد الازدراء، والإنكار الصريح، إن لم يكن الإلحاد المعترف به علنًا)، والإهابة
المتكررة بالتجربة بوصفها المصدر الوحيد لمعرفتنا (وهو يرى أن الحقيقة الأساسية
للاأدرية إنما تكمن في هذه الإهابة، لا في مذهبٍ ميتافيزيقي كما ذهب سبنسر وغيره)،
وتمجيد العلم الدقيق، الذي يرى أنه الأنموذج الوحيد السليم للفلسفة بدورها، والذي
يبنى
عليه كل تقدمٍ بشري، ورفض كل الحقائق الأولية، وكل استنباط وتركيب من العقل الخالص،
وخصائص كثيرة غيرها. غير أن أهميته الفلسفية لا تنحصر فيما هو مشترك بينه وبين السابقين
عليه ومعاصريه، بل في محاولته الوصول إلى صيغة وحلٍّ خاص به للمشكلات التي ورثها،
على
أنه لم يصل في هذه المحاولة إلى أية نتيجة إلا في ميدان الأخلاق.
فإذا كان سبنسر هو الذي وضع أسس الأخلاق التطورية، فإن ستيفن هو الذي ارتفع بالبناء
إلى أعلى نقطة بلغها. وهكذا فإن كتاب ستيفن «علم الأخلاق» ليس مجرد تكملة لرسالة
كتاب
سبنسر «معطيات الأخلاق»، وإنما هو يمثل تقدمًا حقيقيًّا عليه، وفيه يعمق المحتوى
الفلسفي لكتاب سبنسر ويعلي من قيمته. وفي وسعنا أن ندرك بوضوح نوايا المؤلف من عنوان
الكتاب ذاته، فالأخلاق يمكن أن تُبحَث علميًّا، وينبغي أن تُطبِّق عليها المناهج
العلمية، ومن ثَم فمن الواجب أن تتحرر الأخلاق من كل تأملٍ ميتافيزيقي وجزاءٍ ديني،
وتقتصر على التزام حدود التجربة. وفضلًا عن ذلك فلا شأن لعلم الأخلاق بالميادين
الأخلاقية التي يفترض أن لها يقينًا حدسيًّا أو أنها مُستمَدَّة من اعتباراتٍ منطقيةٍ
بحتة، بل إن وظيفتها هي وصف الوقائع الأخلاقية وتحليلها كما تعطى في التجربة وتعرض
للملاحظة، حتى تستمد منها السمات العامة للسلوك الإنساني والطبيعة البشرية، وعليها
أن
تبحث في منشأ هذه الوقائع والدور الذي تلعبه في العملية التطورية الكونية الشاملة.
وإذن
فالبحث في الأخلاق يتشابك في معظم الأحيان مع الأبحاث في علم البيولوجيا وعلم النفس
وعلم الاجتماع، ومن هذه العلوم تستمد الأخلاق كل تبصرٍ أصيل تكشف عنه.
ولهذا الاندماج بين الحياة الأخلاقية وبين الوقائع الاجتماعية أهمية خاصة؛ ذلك لأن
ستيفن يحاول — متجاوزًا في ذلك المذهب النفعي وسبنسر بمراحل — أن يحرر الأخلاق من
كل
الحدود والشروط أو الظروف الفردية، وأن يدمجها في النسيج الاجتماعي تمامًا. وإذن
فأول
ما ينبغي عمله هو تحديد علاقة الفرد بالجماعة، والنتيجة هي ألا نتصور الفرد على أنه
وحدة لا تتجزأ، قائمة بذاتها، أو المجتمع على أنه مجرد مجموع لمثل هذه الوحدات، وإنما
تكون المحصلة النهائية علاقةً عضوية يكون فيها المجتمع، بوصفه كائنًا اجتماعيًّا،
مشتملًا على الكائن المنفرد المنعزل بوصف هذا الأخير جزءًا من كيانه، ولكن يستحيل
تصور
هذا الأخير بمعزل عن هذه العلاقة على الإطلاق، وفي هذا الصدد يستخدم ستيفن تعبيرًا
حيًّا موفقًا ليدل على الفرد، هو «النسيج
الاجتماعي Social tissue» ويستخدم هذا اللفظ أيضًا للدلالة على الكل الاجتماعي، بحيث
يتمثل الفرد الواحد كما كان مغزولًا في هذا النسيج الكامل بكل خيط في وجوده، ونتيجة
لذلك بالنسبة إلى سلوك الإنسان هي أنه مهما بدا للإنسان أن يستهدف غايات وأغراضًا
خاصة
به، فإنه مع ذلك واقع تحت ضغط المجتمع إلى درجةٍ واضحة، وهو يعبر عن مصالح المجتمع
حتى
لو بدا أن الدوافع الأنانية هي مصدر سلوكه، فحتى تلك الأفعال التي تستهدف صالح الفاعل
وحده، أي إشباع رغبة فردية في اللذة أو النفع الشخصي، ترجع في أصلها إلى شخصية الفرد
التي هي أساسها، وهذه الشخصية من نتاج النسيج الاجتماعي إلى حدٍّ بعيد جدًّا، وتكاد
كلها تتحدد وتشكل بعوامل حياة الجماعة.
أما المعيار الأخلاقي الذي يستتبعه هذا الموقف فليس سعي الفرد الشخصي إلى السعادة،
ولا هو البحث عن أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس؛ إذ إن كل النظريات المبنية
على فكرة اللذة والسعادة تنطوي آخر الأمر على افتراض أن الفرد ذرةٌ منعزلةٌ مستقلة
داخل
الجماعة، وإنما المعيار الصحيح هو صحة الكائن العضوي الاجتماعي وكفاءته. فالفعل يكون
خيرًا من الوجهة الأخلاقية إذا كان يؤدي إلى تقدم ونهوضٍ حقيقي في حياة الجماعة،
والجماعة تكون أقدر على حفظ ذاتها في الصراع من أجل البقاء إذا كانت المعايير الأخلاقية
المتحكمة في أفرادها تقوم على استهداف سلامة المجتمع من حيث هو كلٌّ، والهدف الأخير
لكل
أخلاق إنما هو سلامة النسيج الاجتماعي وقوته وكفاءته وحيويته، ولا يكون السلوك متمشيًا
مع القانون الأخلاقي إلا بقدر ما يتجه إلى تحقيق هذه الغاية، وتزداد حيوية النظام
الاجتماعي بقدر ما يصل إلى حالة توازن ويحتفظ بها. وعلى ذلك فإن للأخلاق هدفًا آخر
هو
الوصول إلى حالة التوازن الاجتماعي والاحتفاظ بها، فإذا ما شئنا أن نعبر عن هذه الفكرة
من وجهة نظر التطور الاجتماعي، لقلنا إن المبادئ الأخلاقية تُقبَل بعد عملية انتقاءٍ
طبيعي، وإن النمط الأخلاقي الذي يغلب على الباقين هو الأكثر فعالية، وهو الأقدر على
الحياة، وهو الذي يكشف عن أكبر قدر من التوازن.
وعلى حين أن ستيفن يرفض النظريات السابقة عليه، والمبنية على فكرتَي اللذة والسعادة،
فإنه يسعى مع ذلك إلى إنصاف مبدأ المنفعة وإيجاد مكان له في مذهبه الأخلاقي، وبذا
يبدو
مذهبه هذا على أنه مركب من مبادئَ نفعيةٍ ومبادئَ تطوريةٍ، مع رجحان كفة الأخيرة
بالطبع. وهكذا فإن من الممكن التوفيق بين العرض الذي قدمناه من قبلُ لمذهبه وبين
قاعدة
المنفعة، إذا فسرنا الأخيرة بأنها ليست مجرد مبدأ إيجاد اللذة والسعادة، وإنما هي
أيضًا
مبدأ النهوض بالصحة وحفظ الحياة، فاللذة والصحة، وإن لم تكونا متفقتَين على الإطلاق،
تتبديان في أفعال تسير على الأقل في اتجاهٍ متقارب؛ إذ إن حدوث تعارض بينهما يؤدي
إلى
إخلال التوازن الاجتماعي، وعلى ذلك فإن تقاربهما — إن لم يكن هويتهما — هو أمر يضمنه
التطور حتمًا، غير أن المنفعة، بمعنى حفظ الحياة، تثبت في كل حالة أنها أهم بكثير
من
المنفعة بمعنى مجرد تحصيل اللذة وطلب السعادة.
وأخيرًا فالتطور ينطوي على نتيجةٍ أخرى، فإذا كانت بعض طرق السلوك تكتسب قيمةً
أخلاقية أعظم من غيرها بفعل الانتقاء الطبيعي، وتصبح بذلك مفضلة، أي تقرها الجماعة
البشرية، فمن الواضح أن المهم في الأمر ليس الفعل الوحيد المنفرد، وإنما الشخصية
التي
ينبثق عنها هذا الفعل. وإذن فالتطور لا يولد ولا يرعى طرقًا معيَّنة للسلوك فحسب،
وإنما
يولد ويرعى أنماطًا محددة من الشخصية أيضًا، فتكوين شخصيةٍ متينة يمثل مستوًى أعلى
في
التقدم الأخلاقي من التدريب على طريقة السلوك هذه أو تلك، وهذا هو التقدم الذي يتحقق
في
الانتقال من أخلاقية السلوك الخارجي إلى أخلاقية التعود الباطن، وكلما ازداد الشخص
الأخلاقي النموذجي تنظيمًا، أصبح لشخصيته طابعٌ أكثر ثباتًا وتحددًا، وعلى ذلك فإن
أعلى
قانونٍ أخلاقي ليس هو ذلك الذي يعبر عنه بالأمر «افعل هذا»، وإنما بالأمر «كن
هكذا».
وينبغي أن يلاحظ أخيرًا أن مذهب ستيفن الأخلاقي قد وجد امتدادًا له، بعد سنواتٍ
قلائل، في أول كتب صمويل ألكسندر Samuel Alexander
وهو، «النظام الأخلاقي
والتقدم Moral Order and Progress» (١٨٨٩)، وهو كتاب سنتحدث عنه في موضعٍ آخر [انظر الفصل
الرابع من الباب الثاني.] فهذا الكتاب قد تشبَّع تمامًا بروح مذهب ستيفن الأخلاقي،
وهو
يشبهه في نواحٍ متعددة، وإن يكن قد كشف عن سماتٍ مستقلة.
أما المذهب الأخلاقي عند «إيدث
سِمْكُكس Edith Simcox» (١٨٤٤–١٩٠١)، الذي سبق مذهب ستيفن بسنواتٍ قلائل، والذي
عرضته في كتابها «القانون الطبيعي، بحث
في الأخلاق Natural Law, an Essay in Ethics» (١٨٧٧)، فهو فرعٌ آخر للمذهب التطوري الطبيعي، ومن الممكن
تسميته «بمذهب الكمال Perfectionism»؛ إذ إنه يرى أن
الهدف المثالي للحياة الأخلاقية والسلوك الأخلاقي هو في الممارسة الكاملة لجميع الملكات
البشرية، ويتسم هذا المذهب بأن الطابع التربوي والجمالي يغلب فيه على طابع العمل
العلمي
— وربما كان ذلك تعبيرًا عن طبيعةٍ نسائيةٍ مألوفة، فالآنسة سمككس تربط بين المجال
الأخلاقي والسياسي وكل مظاهر الحياة الرفيعة للروح، وبين القوى الطبيعية التي تُنمَّى
في الإنسان، وهي ترد المبدأ القانوني المتحكم في هذه الحياة إلى مبدأ القانون الطبيعي.
فالمعيار الأخلاقي الذي يستخلص من التطور الطبيعي ويتأيَّد به، هو ذلك الذي يتمشى
أكثر
من غيره مع الطبيعة المميزة للإنسان، أي هو الأكثر تلاؤمًا مع الإنسانية، على حين
أن أي
انحراف عنه ينظر إليه على أنه نقص وإقلال للقيم الأخلاقية. وإذن فالخير في السلوك
إنما
يكون في رعاية وتنشئة نمطٍ إنسانيٍّ مثالي، عن طريق المضي في كل قدرةٍ طبيعية إلى
أعلى
وأكمل ما يمكن أن تصل إليه من درجات التحقق، وما الكمال الأخلاقي إلا تحقيق القانون
الطبيعي الذي يخضع له الوجود البشري بدوره. وهكذا يطلب إلى الفرد، بوصفه فاعلًا،
أن
يتعاون تعاونًا فعالًا مع القوى السائدة في الكون، على حين أنه، من حيث هو كائن مفكر،
ينحني أمامها في خشوع لأوامرها بروح من الاستسلام الديني.
أما ألفرد بارات Alfred Barrett (١٨٤٤–١٨٨١)، فقد
كان شغوفًا بالفلسفة رغم كونه قد احترف مهنة المحاماة، ونشر وهو لم يزل في الرابعة
والعشرين من عمره كتابًا أخلاقيًّا (هو «الأخلاق
الفيزيائية Physical Ethics»، ١٨٦٩)، يتفق مع الأخلاق التطورية في النظر إلى الوجود
الأخلاقي للإنسان على أنه ناتج عن تنمية وجوده الطبيعي، وبذلك يكون حصيلة للعوامل
والظروف الفيزيائية والبيولوجية والفسيولوجية التي تجعله على ما هو عليه. وتتمثل
لدى
بارات بدوره بوضوح نزعة المذهب التطوري إلى الخلط بين حدود مختلف مستويات الوجود،
وهذا
يؤدي به إلى أن يجعل لمستوى «الطبيعة» مكانًا بارزًا مميزًا عن كل ما عداها، ويناظر
ذلك
في مجال المعرفة تمييز ورفع لمكانة العلوم الطبيعية فوق كل العلوم الأخرى، وعند هذه
النقطة يدعو — باسم وحدة المعرفة كلها — إلى ضرورة إدراج الأخلاق بدورها تحت التفكير
العلمي، في ظل المثل الأعلى للمعرفة، وهذا هو ما تعبر عنه عبارة «الأخلاق الفيزيائية Physical Ethics»، أي إن أساس العلم هو
الطاعة العاقلة لقوانين الطبيعة. وفي هذا الكتاب المبكر تظهر علاماتٌ واضحة على مواهب
بارات العقلية الفائقة، وهو ينطوي على سمات أصيلة عديدة، رغم أنه لا يزيد في عمومه
عن
أن يكون مجرد إنتاجٍ متوسط. وقد استمد الكتاب قوةً دافعةً كبيرة من سبنسر، الذي يسميه
بارات أعظم فلاسفة عصره، غير أنه يمضي قدمًا بهذه القوة الدافعة بحيث تكتسب شكلًا
مستقلًّا، غير أن موت بارات المبكر لم يُتِح له جني ثمار حماسته الفكرية في مؤلَّف
أعظم. ولقد كانت تلحُّ عليه قرب نهاية حياته مشروعاتٌ شاملة لمذهبٍ ميتافيزيقي كونيٍّ
شامل، ونشر ما تم حتى وفاته في كتاب بعنوان «التفسير الفيزيائي لما بعد التجربة
Physical metempirie» (١٨٨٣). وتشهد الأفكار التي
يعرضها في هذا الكتاب، بالمثل، على قوة تفكير بارات، الذي كان يسير في اتجاه فلسفة
للذرات الروحية، يتردد فيها صدى ليبنتس؛ وبذلك كان يتباعد عن مذهبه الطبيعي الذي
قال به
في البداية.
ولقد كان آخر تعبير عن الأخلاق التطورية في القرن التاسع عشر هو «أصل الغريزة الأخلاقية
ونموها The Origin and Growth of the Moral Instinct» (١٨٩٨)، من تأليف ألكسندر سذرلاند Alexander Sutherland (١٨٥٢–١٩٠٢)، وهو صحفي وكاتب كان يعيش في أستراليا،
ولم يخض ميدان الفلسفة إلا هذه المرة وحدها، وهو يهتم في كتابه هذا — كما فعل وستر
مارك
في كتابه — بالبرهنة تجريبيًّا على وجود حاسةٍ أخلاقية من أدنى مستوى حتى أعلى أنماط
الحضارة البشرية، كما يهتم بمسألةٍ مرتبطة بها، هي التقدم الأخلاقي للبشرية. ويرى
«سذر
لاند» أن الغريزة الأخلاقية الأولى والأصلية هي التعاطف، الذي يُرجع جذوره إلى حب
الأم،
ويلعب التعاطف، حتى في حياة الشعوب البدائية، دورًا ضابطًا حاسمًا، ويتمثل موضوعيًّا
في
معايير وقواعدَ متعددة، ومنه تنشأ فكرة الواجب في مرحلةٍ تطورية أعلى، وهذه بدورها
تصطبغ بصبغة باطنة، وتتحول إلى الشعور بالاحترام الذاتي. وبعبارةٍ أخرى فأداء الواجب
هو
نتيجة الاحترام الذاتي الباطن، وليس مجرد فعل يُقصد منه المنفعة الخارجية، ويرتد
الواجب
إلى ضميرٍ باطن، وبذلك تصل الحياة الأخلاقية إلى أنبل تجسد وأعلى تحقق لها.
ولقد كان أهم مذهب للأخلاق التطورية ظهر عند مطلع القرن العشرين هو مذهب ل. ت. هبهوس L. T. Hobhouse، وذلك في كتابه «الأخلاق في تطورها Morals in Evolution» (في مجلدَين، ١٩٠٦)
وسوف نتحدث فيما بعدُ عن هذا الكتاب، الذي كان آخر أمثلة المدرسة التي نحن بصددها
عندما
نناقش آراء هذا المفكر في مجموعها [انظر الجزء الأخير من هذا الفصل].
بقي علينا أن نبحث ميدانًا قريبًا من الأخلاق، اكتسب بفضل العلم الجديد والفلسفة
الجديدة إمكانياتٍ خصبة للتطبيق، وأعني به علم الاجتماع، وهنا أيضًا حدَّد سبنسر
معالم
الطريق الذين تعيَّن على الباحثين الآخرين المضي فيه أبعد منه، ولكن لما كانت معظم
أعمالهم تنتمي إلى مجال العلم المتخصص، ففي وسعي أن أحذفهم من هذه الدراسة. ومع ذلك،
فإلى جانب تلك الأعمال ذات الأهمية العامة، والتي ذُكِرَت من قبلُ أو ستُذْكَر فيما
بعدُ في سياقٍ آخر، ينبغي أن نلفت النظر إلى عمل لقي في أيامه تقديرًا كبيرًا، وحاول
أن
يستخلص ما في الداروينية من قيمة لعلم الاجتماع، ويجعلها بحثًا مثمرًا، ذلك هو كتاب
«بنجامين كيد
Benjamin Kidd» (١٨٥٨–١٩١٦)
«التطور الاجتماعي
Social Evolution» (١٨٩٤). ولقد
صادف هذا الكتاب من النجاح بقدر ما صادف كتاب دراموند، «القانون الطبيعي في العالم
الروحي»
٢٧ وكانت عوامل النجاح متشابهة في الحالتين إلى حدٍّ بعيد، فقد ساهم في هذا
النجاح شعبية الأسلوب وتأثيره في النفس، والوضوح الشفاف لتفكيره، غير أن السبب الرئيسي
لهذا النجاح هو أن الدين قد تلقَّى نجدة من مذهب من ألدِّ أعداء الدين، وهو الداروينية،
وكان هذا كافيًا لجعل الجمهور يستقبل الكتاب بحماسةٍ شديدة، بينما وقفت الأوساط العلمية
منه موقفًا أشد تحفظًا بكثير.
ويمكن القول: إن علم الاجتماع عند «كيد» قد اقتبس الأفكار الرئيسية في نظرية الأصل
السلالي
theory of descent بحذافيرها؛ أعني فكرة
الصراع من أجل البقاء، والانتقاء الطبيعي، وبقاء الأصلح، ووراثة الصفات إلخ. وقد
اقتبس
هذه الفكرة الأخيرة بالمعنى الذي أضفاه عليها فيزمان
Weismann٢٨ (الذي تأثر به كيد كثيرًا) أكثر مما اقتبسها بالمعنى الدارويني. فالقانون
الحيوي للحياة البشرية، الفردية والاجتماعية، وكذلك للعلاقات المتبادلة بين الفرد
والمجتمع، هو نفس القانون الذي يسري على الحياة الحيوانية، أي الصراع والنضال الذي
لا
ينقطع ولا يرحم، والانتقاء والرفض، والتقدم والنمو، ولا يحدث التعارض بين مصالح الأفراد
فحسب، بل بين مصالح الكائنات الاجتماعية أيضًا، وأخيرًا بين مصالح مجتمعات بأكملها
في
علاقاتها المتبادلة. ويرجع ظهور جميع أشكال المجتمع إلى الصراع من أجل الوجود عن
طريق
عملياتٍ طبيعية كانتقاء السلالات، كما أن هذه الأشكال تظل خاضعة لقوانين هذه العمليات.
وهنا نستطيع أن نقول إن النظرية حتى الآن هي نظريةٌ بيولوجيةٌ خالصة في المجتمع،
بالغت
في حد التطرف في تأكيد المبدأ الدارويني حتى تطبقه على الحياة الاجتماعية، غير أن
«كيد»
يخلط عند هذه النقطة بهذا النسيج الاجتماعي سلسلة من الأفكار الرئيسية التي تضفي
على
نظريته طابعها المميز، والتي يرجع إليها قبل غيرها، الطابع الجذاب في هذه النظرية.
فهو
أولًا يبالغ دون تحفُّظ في تقدير أهمية العوامل العاطفية في الإنسان، وفيما يستتبعه
ذلك
من إقلال من أهمية العوامل العقلية والذهنية، وذلك لصالح رأي في علم الاجتماع يغدو،
لهذا السبب، مبنيًّا على أساسٍ عاطفي قبل كل شيء. وهكذا يرى «كيد» أن الصفات العاطفية
لا العقلية هي أول الصفات التي تولدها وترعاها عملية الانتقاء الطبيعي، وهي التي
تشجع
على النهوض البشري.
وهو يعزو إلى الصفات الأولى فعاليةً اجتماعيةً أقوى بكثير مما يعزوه إلى الثانية،
بل
إنه يذهب إلى حد القول: إن كل ما يرتبط بالعقل والفهم والتعقل والعلم — أي بالاختصار
بمعقولية الإنسان — هو عاملٌ معادٍ صراحةً للتطور، وعقبة في وجه التقدم، ومن ثَم
فلا
يوجد في نظره ارتباط عِلِّي بين ارتفاع مستوى النمو الاجتماعي والذهني، وهو يرى أن
الاختلاف الذي يميز تلاميذ المدارس في المستويات الحضارية العليا عنهم في المستويات
الدنيا، ليس اختلافًا في التقدم العقلي، بل في مدى نمو القوى العاطفية. وهكذا أدخل
عاملًا جديدًا على المذهب التطوري، لم يسبق لأحد التنبيه إليه، أو على الأقل لم ينبه
إليه بمثل هذه الصراحة وهذا التحمس؛ إذ إن التطورية، كما عرضها كل ممثليها البارزين،
كانت تشيد بالمعرفة والعلم (وبالتالي بالإنسان من حيث هو عاقل) بوصفها مثلا عليا،
وجعلت
كل نهوضٍ فردي واجتماعي متوقفًا عليها. أما عند «كيد» فإن الإحساس يقوم بالدور الذي
كان
يقوم به العلم، فيصبح العامل الأول في التطور الاجتماعي، أي العامل الذي يكوِّن المجتمع
بحق، فهو نقيض العقل، وهو على عكسه يبدي فعاليةً اجتماعيةً كبيرة، ويتضح أنه هو القوة
الدافعة بالتطور إلى أعلى.
غير أن عرضه ينطوي على نقطةٍ أخرى، تماثل السابقة في أنها بدورها لم تقترن من قبلُ
أبدًا بمبدأ التطور، فكيد يوحد، بطريقةٍ عامةٍ خشنةٍ سريعةٍ مميزة له، بين عالم الشعور
ومجال الدين (وكذلك بينه وبين مجال الأخلاق، ولكن بمعنًى ثانوي). ويستتبع هذا الرأي
بضعة نتائجَ غريبة جدًّا بالنسبة إلى التطور والتاريخ. وينبغي أن يلاحظ أولًا أن
المفهوم الذي يربطه كيد بالدين يشابه كل مفاهيمه وصيغه الأخرى في افتقاره إلى التحدد
والوضوح. وعلى أية حال فإنه يعني بالدين ظاهرةً اجتماعية في المحل الأول، ولا يمل
من
تأكيد طابعه العاطفي فضلًا عما فيه من جزاء خارج عن العقل. وهو يستبعد عنه كل العناصر
المعقولة بوصفها متناقضة معه تناقضًا أساسيًّا، ويُعلي من قيمة طابعه الأخلاقي فوق
طابعه الديني الصرف. وهكذا يصل بنا، عندما يتأمل الأمر من وجهة نظر التطور الاجتماعية،
إلى النتيجة القائلة إن الدين يمثل مبدأ الانتقاء الحقيقي في الصراع من أجل البقاء.
فالعملية التطورية تعلي أولًا وقبل كل شيء الطابع الأخلاقي الديني؛ إذ ترى أن هذا
العامل هو الذي يثبت فعاليةً اجتماعية تفوق فعالية كل عاملٍ آخر، ولا سيما النظري،
فليس
ثمة قوًى تشجع على التقدم الاجتماعي بقدر القوى الأخلاقية والدينية، وكل الشعوب
المتدينة لا بد أن تتغلب في الصراع من أجل الحياة على الشعوب غير المتدينة وتثبت
أنها
أصلح للبقاء. والدين هو أعظم قوةٍ اجتماعيةٍ موجودة، وقيمته تتضح في أنه يثبت أنه
أقوى
سلاح في صراع الأجناس والشعوب المتنافسة. وأهم الأسباب المؤدية به إلى اكتساب هذه
الأهمية البارزة أنه يثير المشاعر الغيرية في الإنسان ويرعاها، ويعلمه إنكار الذات
في
سبيل الجماعة، وكل هذه أمور يعجز عنها العقل، الذي هو وظيفة هدَّامة أكثر منها بنَّاءة.
وأعلى صور التركيب الاجتماعي هي تلك التي تُبنى على أكبر قدر من الإيمان الديني
والإرادة الأخلاقية، وأعلى صور الإيمان الديني هي المسيحية، التي يرى «كيد» أنها
هي عصب
الحضارة الغربية بأسرها، والدعامة الأساسية التي يرتكز عليها البناء بأكمله. ويقترن
بهذه الفكرة تفاؤلٌ واضح التعصب في التقدم، يضلله الإعجاب الأعمى بالتقدم الرائع
الذي
تحقق في عصره، حتى لينسى ما يحمله هذا العصر ذاته في ثناياه من عيوب وأخطاء.
وتقترن بهذا أيضًا مناقشاتٌ متعلقة بفلسفة التاريخ، ومعنى المدنية الغربية ودلالتها،
كما يعرضها كيد في مؤلَّف تالٍ هو، «مبادئ المدنية
الغربية The Principles of Western Civilization» (١٩٠٢)، غير أن هذا لا يعدو أن يكون تكرارًا مطولًا لحججه
السابقة، ولا يكاد يحوي أية أفكارٍ جديدة. ومثل هذا يصح على كتابه الأخير، «علم القوة The Science of Power» (الذي نشر بعد وفاته سنة
١٩١٨)، وهو بدوره كتاب أحرز نجاحًا عظيمًا، وكُتِبَ تحت تأثير الحرب العالمية الأولى.
ويتضح مقدار عناد «كيد» في تشبثه بمبادئه إذا أدركنا أن كارثةً مدمرة كالحرب العالمية
الأولى قد عجزت هي ذاتها عن شفائه من وهم التقدم المسيطر عليه.
وينبغي أن يتسع المقام هنا للكلام عن كاتبٍ آخر احتل مركزًا مستقلًّا، بل مركزًا
منعزلًا في نواحٍ عدة، داخل الحركة التطورية، إذ إنه قد خرج عن إطار النظرية التطورية
أكثر مما التزم حدود هذا الإطار؛ ذلك هو صمويل
بطلر Samuel Butler (١٨٣٥–١٩٠٢). وهو من أطرف شخصيات العصر الفكتوري؛ إذ كان رسامًا
موسيقيًّا وفيلسوفًا وأديبًا كاتبًا وناقدًا ومترجمًا ومتبحِّرًا في شعر هوميروس
وشكسبير، ومؤرخ سير وروائيًّا ومربي أغنام. وقد تمكن، رغم تعدد أوجه نشاطه، من أن
يضيف
عناصر أصيلة خلَّاقة إلى كل الميادين التي اهتم بها على وجه التقريب، ولكنه لم يكن
متخصصًا أو خبيرًا محترفًا في واحد من هذه الميادين، وإنما كان فيها كلها هاويًا
عبقريًّا، وموقظًا ومثيرًا للاهتمام لدى الآخرين، بعثر أفكاره وخيالاته الرائعة بسخاء
كاد يصل إلى حد الإسراف المفرط. ولقد كان يتخذ موقف المعارضة من كل الآراء والقوى
السائدة في عصره تقريبًا، وكان على خلاف مع المعايير والقيم السائدة في كل المجالات
تقريبًا، ووقف يعارض كل ما كان مقدسًا وصحيحًا، في أعيُن معاصريه، في مجالات الأخلاق
والدين والكنيسة والعلم والفلسفة والتعليم. وهكذا كان يسبح ضد تيار عصره، ويهز العالم
من سباته، وكانت شخصيته منعزلة غير محددة المعالم، ولكنها كانت رغم ما تعرضت له من
نقد
وإنكار، خلَّاقة زاخرة بالمعاني بالنسبة إلى المستقبل.
ومن الصعب أن يحدد المرء الموضوع الأساسي لاهتمام شخصية لها تلك الأوجه والنواحي
المتعددة التي كانت لبطلر، ولكنا نستطيع أن نفترض أنه كان ينتمي إلى مجال الفكر؛
فقد
كان له على أية حال ذهنٌ فلسفي من الطراز الأول، وإن يكن قد افتقر إلى التعليم والمنهج
الذي يتميز به المتخصص والدارس المتبحر. وكان تفكيره يشعُّ في معظم أوجه نشاطه الأخرى،
ومن السهل التعرف عليه فيها (ولا سيما في الروايات) مثلما يمكن التعرف عليه في مناقشاته
الأقرب إلى الروح المنهجية. ولقد كان تحرر ذهن بطلر — الذي كان له عقل من أذكى وأرقِّ
وأجرأ العقول في عصره — أقرب إلى طابع التحرر من الأوهام ومن قيود التراث وأغلاله،
منه
إلى طابع «المفكر الحر freethinker» بالمعنى المألوف
لهذه الكلمة، ورغم أنه كان هدامًا إلى حد غير قليل في نقده الشكي وتهكُّمه، فإن تفكيره
كان إيجابيًّا بنَّاءً، ومعبرًا عن قوةٍ خلاقةٍ متأصلة فيه.
والفكرة الرئيسية في فلسفة بطلر هي فكرة التطور أو النمو، ورغم أنه أدخل على هذه
الفكرة تعديلاتٍ كبيرة، ووسعها إلى حدٍّ بعيد، فقد ظلت إلى النهاية مستحوذة عليه.
ولقد
كان واحدًا من تلاميذ دارون، ورحب بأفكار أستاذه بحماسة بمجرد ظهورها، وكانت تعني
بالنسبة إليه تجربة تحكمت في توجيه تفكيره التالي. ولكنه لم يكن الرجل الذي يكتفي
بقبول
أفكار تنقل إليه، أو يدين بها لمجرد كونها هي المسيطرة على الأذهان في عصره، بل إنه
—
على العكس من ذلك — سرعان ما وجد نفسه معارضًا لها في النقاط الرئيسية، ونظرًا إلى
أنه
كان في الأصل واحدًا من أوائل أنصارها، فقد أصبح الآن واحدًا من أوائل نقادها. ومن
المؤكد أن اختبار بطلر النقدي لنظرية الأصل
السلالي theory of descent هو أرقُّ وأعمق نقد ظهر في إنجلترا حتى نهاية القرن السابق.
وهذا يرجع أساسًا إلى أن هذا النقد لم يتعرض للمبدأ الجديد من الخارج، أو تطبيق معيارٍ
مُعَدٍّ مقدمًا يحكم به عليه، وإنما تعرض له بمعيار يرجع في أصله إلى باطن النظرية
ذاتها؛ ومن ثَم فقد هدمها وقلبها رأسًا على عقب في عقر دارها. ويمكن القول إن بطلر
قد
استبق بطريقةٍ ضمنية على الأقل — إن لم يكن بطريقةٍ صحيحة — تلك التعديلات والتجديدات
التي لم تدخل على الداروينية إلا بعد وقتٍ طويل، وذلك في كتابات نيتشه وبرجسون، والمذهب
الحيوي الجديد Neo Vitalism والبرجماتزم وفلسفة
الطفرة Emergence، فهنا كان بطلر، كما كان في
نواحٍ أخرى سابقًا عصره بمراحل، ورغم أن حياته تنتمي إلى القرن التاسع عشر، فإن ذهنه
ينتمي إلى القرن العشرين.
وليس في وسعنا أن نشير إلى تلك الأفكار النيرة الأصيلة التي ندين بها لبطلر، والتي
كانت في عصره جديدة غير مألوفة وأصبحت في وقتنا الحالي شائعة، إلا بطريقةٍ موجزة
وبعباراتٍ عامة. ولنبدأ بأبرز النقاط أولًا، فقد أدرك بطلر منذ وقتٍ مبكر ببصيرةٍ
نفاذة
أن مذهب التطور معرض لخطر التيه في بيداء فلسفةٍ ماديةٍ آليةٍ قاحلة؛ ومن ثَم فقد
اتجهت
كل جهوده إلى إعادة المذهب إلى طريق التفسير المثالي والغائي للحياة. ولقد اهتدى
إلى
حليف في شخص الفيلسوف الألماني إدوارد فون
هارتمن
E. Von Hartmann، الذي اتفق معه في أساسيات نقده للداروينية، وإن يكن قد رفض
أنظاره الميتافيزيقية فوضع فكرة وجود طاقةٍ خلاقة للحياة مقابل آلية الانتقاء والوراثة،
وافترض وجود نوع من القوة الأولية أو الإرادة الأولية التي تسود كل جزء من الكون،
وتجمع
الكل سويًّا في كائنٍ عضويٍّ كونيٍّ واحد. وهكذا أصبحت الفكرة التي تحتل مكانة الصدارة
لديه هي فكرة الحياة بوصفها مبدأً خلاقًا، لا تلك الحياة البيولوجية البحتة غير
المكترثة بالقيم، وإنما الحياة التي كان لها من القيمة والجدارة المؤكدة ما نسبته
النظريات الحيوية المتأخرة إليها. وتتضح أهمية تفسير بطلر للحياة بوجهٍ خاص في بحثه
في
الذاكرة، وهو الذي كان يشبه بحثًا آخر سبق أن قام به أ.
هيرنج
E. Hering،
٢٩ وإن لم يكن بطلر قد عرفه، وازداد شيوعًا فيما بعدُ بفضل مذهب «سيمون
R. Semon»
٣٠ في «التذكر
mneme». وتبعًا لهذا المذهب
ينبغي أن ينظر إلى «الحياة» على أنها صفة في المادة العضوية تتمكن بفضلها تلك المادة
من
التذكر، وتكون المادة «حية
animate» بقدر ما تكون لها
هذه القدرة، وتتمثل هذه الصفة حتى في أصغر خلية، وإن تكن فيها غير واعية، وإليها
يعزو
بطلر العمليات النفسانية الغرضية الواعية، بل يعزو أيضًا كل نوع من التحقق اللاشعوري،
من تكرار وتعوُّد ووراثة، وأخيرًا عملية التطور ذاتها. ويكفي هذا لإيضاح أن الذاكرة
ليست مجرد ظاهرةٍ فردية، وإنما هي صفة يمتلكها الجنس بأكمله، وأن هناك نوعًا من
«الذاكرة القبلية
tribal memory» تبدأ عملها عند
مولد الفرد، ولا تنقطع بموته، الذي لا يعدو أن يكون تغييرًا للذاكرات. وهكذا يمكن
توريث
الذاكرة من حيث هي وظيفة، وبقدر ما هي موروثة فإنها تسمى بالغريزة، وتصبح العادة
غريزة
عندما تمارسها الأجيال المتعاقبة بدرجةٍ كافية من التكرار والانتظام. ولا اختلاف
بين
الغريزة والعقل
intellect من حيث المبدأ، وإنما
يختلفان في الدرجة؛ إذ إن الأفعال التي يكون أصلها عقليًّا قد تنحدر إلى مرتبة الغرائز
إذا ما تكررت بقدرٍ كافٍ. وهذا يصدق أيضًا على الفرق بين العضوي واللاعضوي، فبطلر
يرى
أنه لا توجد أية هوة فاصلة بينهما، وإنما تعبر الحدود على الدوام في كلا الاتجاهين.
فحتى المادة غير الحية ذاتها قادرة على «التذكر»، وبقدر ما هي كذلك يمكن أن تعد حية،
وكل الكائنات الحية مكونة أساسًا من نفس المادة، وكان يمكن أن تكون متماثلة من جميع
الأوجه لولا تباين «ذاكراتها»، واختلاف قدرتها على التذكر، والذكريات الفعلية المختزنة
فيها.
ومع ذلك فمن الواجب ألا تُفهَم فكرة بطلر عن الذاكرة بمعنًى آلي؛ فهي فكرة غائية
تمامًا، مثلها مثل الحياة التي يكون قوامها الفعلي هو هذه الذاكرة، فالحياة غرض ومقصد
وإرادة وتطلع إلى الأمام بكل معاني هذه الكلمات، أي هي بالاختصار غايةٌ خلاقة، وليست
مجرد عمليةٍ آلية أو تفاعلٍ متخبط بين قوًى طبيعية. وينساب مجرى الحياة في جميع مراحل
التطور العضوي (بل في جميع مراحل التطور غير العضوي أيضًا، وذلك بمعنًى أوسع في الكم
وأضيق في الكيف)، فيوحد بين كل كائنٍ حي وبين السلسلة اللامتناهية لأسلافه، ويكتسب
كل
كائن طابعه الفردي المستقل بفضل تلك الفعالية الدائمة المستمدة من تلك السلسلة، والتي
تؤدي وظيفتها دون وعي كما تختزن في الذاكرة. غير أن القوة الدافعة الأولى التي تتحرك
في
كل حياةٍ عضوية وتنشطها هي الإرادة، ويرتبط بها الإيمان الذي يعطي الإرادة القدرة
على
أن تصبح ما تختاره. وفي رأي بطلر أن قدرة الإرادة هائلة إلى حد أنه لو أرادت الحمامة
بعزم وتصميم أن تصبح طاووسًا، لما حال بينها وبين ذلك أي انتقاءٍ طبيعي.
وإن المرء ليلمس هنا مقدار التحول الذي طرأ على مقولات دارون، ومدى الطابع الجديد
المختلف تمامًا الذي انطبعت به النظرية التطورية، فالطريق الذي سلكه بطلر هو بالتأكيد
ذلك الذي يؤدي من الآلية إلى الغائية، ومن الحتمية إلى حرية الإرادة، ومن «النزعة
البيولوجية» إلى النزعة الحيوية، ومن الطبيعية إلى المثالية، ومن الانتقاء الطبيعي
كما
قال به دارون إلى «الدفعة الحيوية
élanvital» الخلاقة
كما قال بها برجسون، وفكرة «الطفرة
emergence» عند
ألكسندر، بل وإلى التحليل النفسي كما قال به فرويد آخر الأمر، ولم يكن ذلك كله إلا
تعبيرًا عن شخصيته المتألقة حيوية وذكاءً.
٣١
ولقد كانت فلسفة بطلر إشارة إلى نقطة التحول في
المذهب التطوري الطبيعي، وعلامة على حلول ساعة تقرير مصيره، ومع ذلك فإن أفكاره
الرائعة، التي توصل إليها بلمحاتٍ حدسية أكثر مما استخلصها علميًّا، لم تثر الاستجابة
التي كانت جديرة بها خلال حياته، ولم يكن لها إلا دورٌ ضئيل في العملية الطويلة التي
أعيدت بها صياغة فلسفة التطور ووضعت في قالبٍ جديد ابتداءً من مطلع القرن العشرين،
وقد
تضافرت في تحقيق هذه النتيجة قوًى متعددة ومتنوعة، تنتمي إلى مدارس وجماعاتٍ متباينة،
ولكن أقواها وأنجحها وأبعدها أثرًا كانت تلك التي ترجع في أصلها إلى فلسفة برجسون،
فقد
كان كتابه «التطور الخلاق L’Evolution Créatrice» هو
الذي أحدث التحول الحاسم في اتجاه التفكير التطوري؛ إذ إنه رغم بقاء شكل فكرة التطور
على ما هو عليه في ذلك الكتاب، فإن مضمونها ومحتواها قد تغير تمامًا. وأوضح مظهر
للهوة
الشاسعة التي تفصل بين النظرية القديمة والنظرية الجديدة هو اختبار برجسون النقدي
الموجز لسبنسر، وهو الاختبار الذي ختم به كتابه الرئيسي (انظر التطور الخلاق، ص٢٩٢–٢٩٩،
الترجمة الإنجليزية ص٣٨٤–٣٩١)، فهو هنا يشرح كيف أن المعنى الحقيقي للتطور، بوصفه
نموًّا متقدمًا development قد فات سبنسر تمامًا. ولقد
كان من نتيجة عمل برجسون أن أصبح من المستحيل بعد ذلك قيام فلسفةٍ تطورية بالأسلوب
القديم، صحيح أن الأشكال القديمة ما زالت موجودة، ولكنها أشكال لا حياة فيها، ورغم
أننا
ما زلنا نصادف حتى يومنا هذا متعصبين للمذهب القديم، فإن كل مفكر لديه أي شيءٍ حقيقي
يقوله في هذه المشكلات أصبح منذ ذلك الحين يقف — وينبغي أن يقف — في دائرة نفوذ تفكير
برجسون.
وهذا يصدق أولًا وقبل كل شيء على فلسفة «الطفرة Emergence» التي أصبحت اليوم جزءًا من تراث المذهب التطوري، وهي تكوِّن
تيارًا ضخمًا في الفكر الأنجلوسكسوني المعاصر، وترتبط على أنحاء شتى بالمذهب القديم،
غير أن ما تتميز به هو أن البرجسونية متغلغلة فيها تمامًا، ولا يمكن تصورها بدونها.
وعلى ذلك فلن نتحدث في هذا المقام عن هذه المرحلة القريبة العهد في النظرية التطورية،
وإنما سنعود إلى ممثليها المتعددين في سياقاتٍ أخرى، وإذا استثنينا الفكرة الواحدة
التي
ساهم بها ليويس (انظر: [الباب الأول: المدارس الفكرية المتقدمة – الفصل الثالث: المدرسة
التطورية الطبيعية])، فإن أهم ممثليها — أعني مؤسس النظرية — هما ألكسندر ولويد مورجان Lloyd Morgan، ومن الممكن تتبع تأثيرها، بدرجات
تتباين عمقًا، في كتابات هبهوس، وشيلر Schiller
ومكدوجال McDougall وولدن كار Wildon Carr وسمطس Smuts، ومن الأمريكيين ديوي Dewey
وسيلرز Sellars وبريتمان Brightman وسبولدنج Spaulding، أي لدى
مفكرين ينتمون إلى مدارسَ فكريةٍ متباينة كل التباين، وما قيل على نظرية «الطفرة»
يصدق
أيضًا على البرجماتية؛ إذ إن هذه، وإن لم تكن تعدُّ منتمية إلى التطورية بحق، فإن
لها
صلات ببعض فروعها في أفكارٍ رئيسية عديدة لها.
ولكن من المهم أن نلاحظ أن أهم ممثلي البرجماتية من الإنجليزية، وهو «شيلر F. C. S. Schiller»، قد ظهر تفكيره من الداروينية
مباشرةً، وأن مذهبه الناضج لا ينطوي بدوره على أي شيء يتعارض مع هذا الأصل، فأول
مرحلةٍ
سابقة على البرجماتية في تفكيره، وهي التي تتمثل كتابة «ألغاز أبو الهول The Riddles of the Sphinx» (١٨٩١)، مبنية
كلها على أساسٍ تطوري. بل إن هذا الكتاب قد عبر بطريقة مستقلة عن نظريات دارون وسبنسر
ذاتها، وإن يكن يدين لها بالكثير بطبيعة الحال (انظر فيما بعدُ الفصل الثاني من الباب
الثاني)، ولكن البرجماتية بدورها لم تكن بمنأًى عن التأثر بذلك التحول الذي أُدخِل
على
مبدأ التطور، إنما استوعبته ضمن تعاليمها.
على أن الاتجاه الفكري البرجسوني لم يقتصر في
تأثيره على هذا، وإنما تغلغل — وما زال بالفعل يتغلغل — في الفلسفة الحديثة في أنحاءٍ
شتى، غير أنه قد انقسم إلى عدد من التيارات والنزعات بلغ في ضخامته حدًّا يجعل من
المستحيل الآن النظر إليه على أنه تركيبٌ موحد، والدليل على ذلك أنه منذ بداية تأثير
البرجسونية أصبح كل مفكرٍ إنجليزي ينتمي، في نواحٍ مُعيَّنة، إلى المعسكر التطوري،
أو
يشيد بالتطورية في هذه النقطة أو تلك على الأقل.
وسوف نختتم هذا القسم ببحث أكثر تفصيلًا لفلسفة هبهوس،
٣٢ الذي يمكن بالفعل أن تُعَدَّ تعاليمه أكمل مظهر للفكر التطوري الحديث، على
أن عرضنا له سيُبيِّن أن هذا الفكر الخصب الغزير الإنتاج لا يمكن أن يحصر في الإطار
الضيق لمبدأٍ واحد بعينه، أو ينسب إلى مدرسةٍ خاصة أو اتجاهٍ فكري معين، وإنما هو
يتجاوزه هذه الحدود بمراحل، ويحتاج إلى أن يقدَّر بمعاييرَ خاصة به؛ لذلك ينبغي أن
نؤكد
بكل وضوح أننا لا نعني ببحثنا لمؤلفاته في هذا السياق، أن نُصدر مقدمًا أي حكم حول
طابعها أو اتجاهها.
ولا تتميز أعمال هبهوس في مجال الفلسفة بعمقها وأصالتها بقدر ما تتميز برحابة نظرتها
وشمول نطاقها وتشعُّب مجالات اهتمامها. فقد كان ذهن هبهوس، بعد ذهن سبنسر، هو أكبر
ذهنٍ
موسوعي بين الفلاسفة الإنجليز. كما كان باحثًا ذا مركزٍ رفيعٍ مستقل في مجالاتٍ مختلفة
للعلم، بل لقد تحدى روح التخصص الشائعة اليوم، عن طريق التحكم في ذخيرة تدعو إلى
الدهشة
من المعارف العامة والخاصة، والجمع بينها سويًّا في إطار تفسيرٍ فلسفيٍّ موحد، وفضلًا
عن ذلك، فلكي يكوِّن المرء مجرد فكرة عن نشاطه الذي لا ينفد، ومدى تشعب مجهوداته،
ينبغي
أن يذكر أن نشاطه بوصفه عالمًا وفيلسوفًا لا يمثل إلا شطرًا واحدًا من مجموع أعماله،
وأن حياته قد استغرقت إلى جانب ذلك، في عملٍ متواصل في الصحافة والسياسة والخدمة
الاجتماعية والتنظيم والتدريس وما شابه ذلك.
ويتضح الطابع العام للإطار الفلسفي الذهني لهبهوس في نفوره العميق من كل تأملٍ مجرد
يتم في فراغ، فقد كان تفكيره مبنيًّا على الدوام على أساسٍ متين من البحث الدقيق
في
مجال معين من الحقائق التجريبية، وكان ينهل على الدوام من معين التجربة ليجدد بها
هذا
التفكير، ولكنه مع ذلك لم يتوقف أبدًا عند حدود الوقائع المجردة، وإنما رأى نفسه
مضطرًا
على الدوام إلى إحراز المزيد من التقدم نحو تكوين مركب ومنظورٍ فلسفيٍّ عام. وإذا
شئنا
أن نعبر عن الأمر تعبيرًا مجازيًّا، لقلنا إنه كان يحرث الحقل التجريبي ويبذر فيه
البذور الفلسفية، لكي يجني ثمارًا فلسفية. وتتمشى مع ذلك تلك القرابة الوثيقة التي
قال
بها بين الفلسفة والعلم، فليس بين الاثنين في نظره فارقٌ أساسي. وعلى حين أن العلوم
تسعى إلى إخضاع جزء من عالم الواقع في وجه محدد من أوجهه، للتفسير العقلي، فإن الفلسفة
تسعى إلى الوصول إلى معرفة لعالم الواقع بأسره وإخضاعه لنظريةٍ شاملة؛ لذلك ينبغي
على
الفلسفة أن تطأ طريق العلوم الخاصة. ولما كان هذا طريق تقدمٍ مستمر لا نهاية له،
فإن
الفلسفة — التي هي بدورها سعيٌ دائم — ينبغي أن تتجنب كل استنتاجاتٍ نهائية، وإن
تتبُّع
المشكلات لذاتها أو من أجل محتواها الواقعي لأهم من إتمام بناء الفكر الفلسفي المتعدد
الحجرات في مذهبٍ متناسق الخطوط، وليس ثمة مبرر للمجهود الذي يُبذَل في بناء المذهب،
وهو المجهود الذي يعترف به هبهوس صراحةً، والذي كان واضحًا كل الوضوح في تفكيره،
إلا
إذا حدث ذلك في مذهبٍ مفتوح يحتفظ بالمشكلات المتعددة في صورتها الخاصة ويستبقيها،
ويكون من الممكن فيه دائمًا تدفق مادةٍ واقعيةٍ جديدةٍ مستمدة من مجهودات العلوم
الخاصة. وهكذا فإن الهدف الأول للفلسفة هو صنع مركب من العلوم، أو بعبارة أدق: مركب
يكون منسجمًا مع نتائج البحث المتخصص، ويتخذ منها أساسًا يبنى عليه، ومع ذلك فهي
لا
تبلغ من ضيق الأفق حدًّا يجعلها تقف عند حد إضفاء صحةٍ مطلقة على الوجه العلمي للأشياء،
وإنما تشمل كل مجال للتجربة يقبل البحث النظري، وضمنه عالم القيم الذي تنتمي إليه
المجالات الدينية والجمالية والأخلاقية. وهكذا فإنها — بأشمل معنًى للكلمة — مركب،
ليس
فقط للوجود كما يُعرف عليها، وإنما للوجود في كل مجالاته وتدرجاته.
ولقد أدى الأساس التجريبي الواسع الذي بُنِيَ عليه كل ما توصل إليه هبهوس من نتائجَ
فلسفية، واستعداده الدائم لاستخلاص نتائج تفيد الفلسفة من كل إضافةٍ جديدة تنتمي
إلى
مجال الواقع المجرب، أدى ذلك إلى إضفاء طابعٍ مرن ذي نسيجٍ رخو على تفكيره، كان هو
المميز له حتى بالنسبة إلى أقوى المذاهب الفلسفية تأثيرًا فيه. وكما أنه استعان بكل
ما
كان يبدو له ذا دلالة في العلم والحياة لكي يزيد تفكيره خصوبة، فكذلك كان ذهنه على
الدوام متفتحًا بالنسبة إلى المذاهب الفلسفية للسابقين عليه ولمعاصريه. وهو لم يكن
يبالي، عند استيعابه وتمثله لتفكير شخصٍ غيره، باسم المدرسة التي ينتمي إليها أو
الاتجاه الذي يتبعه، وإنما كان يهتم فقط بالقيمة الحقيقية لذلك التفكير ومدى إمكان
انطباعه على مذهبه في إطاره الخاص. وهكذا كان معاديًا لكل تحيز فلسفي، ولم يكن يدين
بالولاء المطلق لأي أستاذ بعينه، وإنما أصبح، بفضل إصغائه لأصوات الكثيرين، وسيطًا
ومعبرًا بين حركاتٍ مختلفة يدب الخلاف فيما بينها. ويتمثل هذا الاتجاه إلى التوفيق
حتى
في أول كتبه، الذي يهدف خاصة إلى التوفيق بين المعسكرَين المتضاربَين في التجريبية
التقليدية، وبين المثالية العائدة إلى الظهور. وهكذا مهد الطريق، منذ أواخر القرن
الماضي، لذلك التلاقي بين الأضداد، الذي لم تظهر أوسع وأكمل آثاره إلا بعد مضي وقتٍ
طويل. غير أن هذه الصفة في عمل هبهوس قد تُعلِّل لنا عدم بلوغ هذا العمل ما يستحقه
من
النجاح، رغم كل ما اتصف به من امتلاء وثراء، فلقد كان الاعتراف الذي لقيه من الفلاسفة
المحترفين أقل كثيرًا مما أنجزه بالفعل؛ إذ لم تستطع واحدة من المدارس والجماعات
المتعددة أن تحسبه ضمن من ينتمون إليها، أو أن تدرج عمله، بكل مداه ونطاقه، في مجالها
الخاص.
وهكذا فليس من الصحيح أن يسمى هبهوس أفضل ممثل للمدرسة الإنجليزية التقليدية،
٣٣ ولا من الصحيح مقارنة وجهة نظره بوجهة نظر بوزانكيت،
٣٤ وإنما الأصح أنه يعلو عليهما معًا، عن طريق اتخاذ أو رفض عناصر مكونة لكل
منهما، وبذلك يصل إلى مركب يحمل بأكمله طابعه الذهني الخاص. وإنا لنجد في هذا الصدد
كلمة لها دلالتها في تصدير هبهوس لأول كتابٍ فلسفي ألَّفه، وهو «نظرية المعرفة»،
وهي
كلمة تلقي ضوءًا واضحًا على الموقف، وتظل منطبقة على مؤلفاته التالية مثلما تنطبق
على
مؤلفاته الأولى، فهو يقول: «وهكذا يبدو أن الوقت قد حان للقيام بمحاولةٍ نزيهة لمزج
ما
هو صحيح وقيم في التراث الإنجليزي مع المذاهب الجديدة التي توطنت الآن بيننا، ومن
واجبنا حين نقتبس من لوتسه
Lotze وهيجل، ألا ننسى أننا
قد تَعلَّمنا أيضًا من مل وسبنسر.» ويبدو أنه كان يقصد بهذه الكلمات «جرين
Green» على التخصيص؛ إذ إن هذا الأخير قد حاول قبل حوالي
عشرين عامًا أن يصرف أنظار الجيل الجديد عن مذاهب مل وسبنسر المتأخرة، ويشجعها على
دراسة كانْت وهيجل (انظر طبعة جرين لكتاب هيوم «بحث في الفهم البشري،
Treatise» المجلد الثاني، ص٧١).
ولقد كان مذهب سبنسر التطوري هو الذي تحكَّم أولًا في الطابع الذي اتخذته أفكار
هبهوس، فقد كان في شبابه يرى أن مذهب سبنسر هو الكلمة الأخيرة في العلم، ولكنه سرعان
ما
أخضع هذا المذهب بعد ذلك لتعديلٍ شامل، وازداد تباعدًا عنه بتقدم حياته. ولقد أخذ
عن
سبنسر الطابع الموسوعي الشامل للتفكير الفلسفي، وتفسير النزعة الفلسفية إلى بناء
المذاهب بأنها جمعٌ تركيبي لنتائج البحث العلمي، وكانت تجمعه بمل نزعته التجريبية
في
مجال نظرية المعرفة والمنطق من جهة، واتجاهه الليبرالي في السياسة، ونظريته الفردية
في
الدولة من جهةٍ أخرى، ولكن هبهوس كان يدين للتجريبين القدامى بأكثر مما يدين به
للتجريبيين المتأخرين، وإنه ليذكرنا ببيكن، لا في موقفه الذهني العام فحسب، بل في
منهجه
العلمي الدقيق ونظرته إلى الفلسفة على أنها «علم العلوم scientia scientiarum»، كما يُذكِّرنا بلوك في نظرته الواقعية إلى المعرفة وفي
طريقته العامة في معالجة مشكلة المعرفة، أما النقاط التي اتفق فيها مع هيوم فهي كثيرة
إلى حد أنها تتغلغل في نظريات هبهوس من بداياتها إلى نهايتها، كذلك لم يخلُ الأمر
من
تأثر لتفكيره بوضعية كونت؛ فقد استمد من كونت اتجاهه نحو علم الاجتماع بوصفه العلم
الذي
يبحث في المجتمع، كما استمد منه (أو من تلميذه وداعيته الإنجليزي «بريدجز Bridges») فكرة الإنسانية، وإن لم يكن قد اتخذ لنفسه
الموقف الوضعي المضاد للميتافيزيقا. ومن جهةٍ أخرى فإن الأواصر التي تربط بينه وبين
الحركة المثالية قوية جدًّا، فآراء جرين في الفلسفة الاجتماعية والسياسية تتفق جزئيًّا
مع آراء هبهوس، كما أن الأخير يدين، في مجال المنطق، لبرادلي وبوزانكيت بقدر ما يدين
لمل، بل إن بوزانكيت بوجهٍ خاص قد أصبح، كما اعترف هو ذاته، مرشده العقلي في نواحٍ
عديدة، على الرغم من عدائه المطلق لنظرية بوزانكيت الهيجلية في الدولة، وأخيرًا فقد
تأثر خلال تكوينه لنظريته في المعرفة بمفكرين مثل ت.
كيس T. Case وج. كوك ولسن J. Cook Wilson وهم
من المفكرين الأوائل الذين استبقوا الحركة الواقعية، وقد استمتع بتبادل الأفكار معهم
في
أكسفورد.
ويستدل من مجرى تطور فلسفة هبهوس على أنه بينما كان ذهنه في شبابه عاجزًا، شأنه شأن
معظم معاصريه، عن التخلص من تأثير الهجوم القوي الذي شنَّته مذاهب دارون وسبنسر وهكسلي،
فسرعان ما تكوَّن لديه رد فعلٍ قوي على نظرياتهم التطورية ذات النزعة الطبيعية، وهو
رد
فعل ساعد على دعمه الجو العقلي في أكسفورد التي كانت في ذلك الحين معقل المثالية.
فهناك
شعر شعورًا كاملًا بما أحدثته الحركة الجديدة من ضغط ومن تأثير في النفوس، فانساق
في
تيارها وقتًا ما، ولكنه من جهةٍ أخرى قد أحسَّ بنفور من تأملات الهيجليين المفرطة
في
الخيال والتجريد، ولم يجد تعطشه إلى الوقائع وإلى القبض بشدة على ناصية العالم الفعلي
ما يرضيه في فلسفةٍ عقليةٍ خالصة لا تصل إلى الاكتمال إلا بالتحليق في الفراغ. وهكذا
وجد نفسه مضطرًّا على الدوام إلى العودة إلى الاستطلاع التجريبي والأبحاث الدقيقة
في
الميادين العلمية الخاصة، أو إلى أوجه نشاط ذات طابعٍ عمليٍّ واضح. ولقد كان أول
كتبه،
الذي ينتمي إلى سنوات إقامته في أكسفورد، والذي يتعلق بالحركة العمالية (١٨٩٣)، شاهدًا
على اهتمامه، منذ هذا الوقت المبكِّر، بالمسائل الاجتماعية والسياسية، بل إنه كان
قبل
ذلك، في عام ١٨٨٨، يقضي عدة ساعات يوميًّا في معمل عالم البيولوجيا ج. س. هولدين J. S. Holdane، منهمكًا في تجارب في علم وظائف
الأعضاء والكيمياء الحيوية على الحيوانات، وكانت هذه التجارب إعدادًا لأبحاثه الرائدة
في ميدان علم النفس الحيواني، وقد عاد فيما بعدُ إلى المجال النظري البحت في دراسته
للمسائل المنطقية والمعرفية والميتافيزيقية. وكانت أولى ثمرات جهوده الفلسفية كتاب
«نظرية المعرفة» (١٨٩٦)، الذي قدم فيه عرضًا شاملًا لمجال الفلسفة النظرية بأسرها،
يكشف
عن نضوجٍ غريب وسعة إطلاع عجيبة، ويكون أساس جميع مؤلفاته التالية. وبعد هذه المحاولة
الأولى، التي لم تلقَ بالتأكيد إلا اهتمامًا أقل بكثير مما يجب، وإن كانت قد أعلنت
ظهور
مفكر له ذهنٌ قويٌّ متينٌ رحب، ولم يكن لها إلا نظائر قليلة بين الكتب الأولى للفلاسفة،
قطع هبهوس فجأة مجرى أعماله العلمية، وبدأ يخوض حياة صحفيٍّ عامل، ولم يعد إلى العمل
الجامعي إلا فيما بعدُ، عندما أصبح إنتاجه يشمل مجلدَين كبيرَين في التطور التاريخي
للذهن والأخلاق، مبنيَّين على أبحاثٍ متخصصةٍ دقيقة. وقد كوَّنت هذه الكتب أساس الدراسة
المترابطة لجميع المسائل الفلسفية المتشابكة، وقد أودع هبهوس خلاصة أبحاثه ودراساته
في
كتاب رائع هو «النمو والغرض Development and Purpose»
وهو عرض منهجي نُشِر لأول مرة سنة ١٩١٣، ولكن أُعيد طبعه قرب نهاية حياته (١٩٢٧)
بعد
مراجعةٍ دقيقة. وفي هذا الكتاب تخلى هبهوس عن طريقة الاستطلاع الحذر التي كان يعالج
بها
المسائل الميتافيزيقية من قبلُ، واتخذ من المشكلات النهائية موقفًا يؤدي إلى استخلاص
نظرية تضفي على فلسفته اكتمالًا ووحدةً متسقة. وقد شغل في العقد الأخير من حياته
ببحثٍ
شامل في علم الاجتماع، عرضه في أربعة كتب، وجمع هذه الكتب (بطريقة خارجية أكثر منها
داخلية) تحت عنوان «مبادئ علم الاجتماع»، وفي هذا المؤلَّف أيضًا ظل هبهوس مخلصًا
لمبدئه الرئيسي في الارتقاء من الوقائع إلى النظرية، وفي اختبار نتائج النظرية وتبريرها
مرارًا وتكرارًا بالرجوع إلى الوقائع.
ومن الطبيعي أننا لا نستطيع أن نبحث هنا مختلف أوجه النشاط المتشعبة التي قام بها
هبهوس بوصفه باحثًا، وهي أوجه تمتد إلى ميادينَ متباينة إلى حدٍّ بعيد، كعلم النفس
الحيواني، وعلم النفس المقارن والاجتماعي والأنثروبولوجيا، وعلم الاجتماع بوصفه علمًا
خاصًّا، والمنطق، ونظرية المعرفة، والميتافيزيقا، والأخلاق، وعلم الاجتماع الفلسفي،
ونظرية الدولة. وعلينا أن نكتفي بتقديم موجزٍ مختصر للسمات الأساسية لأفكاره الفلسفية
بأضيق معاني هذه الكلمة، فنظرية المعرفة عند هبهوس، وهي النظرية التي سنطلق عليها
اسم
الواقعية النقدية Critical realism، تبدأ بالوعي
أو الإدراك المباشر apprehension — ومعنى هذا اللفظ
عنده يقترب كثيرًا من معنى «الإحساس» sensation عند
لوك، أو «الإدراك الحسي perception» عند باركلي أو
«الانطباع impression» عند هيوم — أي إنها تبدأ
بمعرفة ما هو حاضر أو موجود مباشرةً في الوعي — فكل معرفة تبدأ بالإدراك المباشر
وتعود
إليه في النهاية. وكون الشيء مدرَكًا يعني بالضبط كون الشيء ضمن محتوى الوعي، والإدراك
هو الفعل المعرفي الذي يوجه إلى ذلك المحتوى الحاضر مباشرةً على الدوام، وهو يشترك
مع
جميع الأفعال المعرفية الأخرى في صفة التأكيد assertion، أي تأكيد أن الحاضر «موجود». وإمكانية الخطأ مستبعدة تمامًا
فيما يتعلق بهذا المعطى الأول للمعرفة، فما نكون على وعيٍ مباشر به، أي الواقعة الحاضرة
المعطاة، تظل واقعةً حقيقية حتى لو اتضح عندما ينظر إليها من مستوًى معرفيٍّ أعلى
أنها
وهم. فالإدراك لا يبتُّ بشيء فيما يتعلق بمركز الواقعة الموجودة، وإنما يؤكد أنها
حاضرة
في الوعي فحسب. غير أن هذا المعطى الأولي، الذي هو من حيث المبدأ بمنأًى عن الخطأ،
لديه
منذ البداية قيمةٌ معرفيةٌ خاصة، من حيث إنه هو الأساس الذي تفترضه مقدمًا جميع
المعطيات الأخرى، والمعيار الذي تقاس عليه، فالإدراك هو محكمة النقض والإبرام في
المسائل المتعلقة بصحة حقيقة جميع الأنواع الأخرى للمعرفة.
ومن الواضح أن الإدراك، من حيث صفة كونه مغيارًا للحقيقة، يناظر تمامًا «الانطباع»
عند هيوم، الذي تنحصر وظيفته في تبرير وإثبات صحة الأفكار بوصفها محتويات للوعي ليست
هي
ذاتها «حاضرة». وهكذا فإن مبدأ هيوم الأساسي، القائل إن الأفكار تثبت صحتها انطباعاتٌ
مناظرة لها هو نفسه الكامن من وراء نظرية المعرفة عند هبهوس، بل ومن وراء فلسفته
بأكملها بمعنًى آخر، بقدر ما يكون من سماتها الأساسية اشتراط تحقيق كل حدسٍ فلسفي
بواسطة الوقائع التجريبية الكامنة من ورائها، وتلك هي الصفة المميزة لتجريبية هبهوس،
وهي تجريبية تفترق أساسًا عن المذاهب التجريبية الإنجليزية الكلاسيكية، في أن لها
أساسًا أوسع بكثير في التجربة، يتمشى مع التقدم الذي حققته العلوم ومع تراكم المواد
المعرفية.
وسرعان ما تتحول التجريبية عند هبهوس، كما تحولت عند لوك، إلى اتجاهٍ واقعي، وبذلك
وجدت نفسها معارضة لكانْت وجميع النظريات المثالية، فمحتويات المعرفة تُعْطَى على
أنها
منتمية إلى العالم الواقعي، وكل ما يتعين على الفكر أن يفعله هو أن يعترف بهذه
المحتويات، أي أن يكشفها أو يميط اللثام عنها، لا أن يبنيها، ومعنى ذلك أنه ليس ثمة
معرفة «أولية apriori» وإنما المعرفة «بعدية aposteriori» فحسب؛ ولذلك لا يمكن أن تكون مادة المعرفة
هي تلك الكثرة المختلطة التي قال بها كانْت، والتي يتعين تطبيق المقولات الذهنية
وصور
التركيب عليها، ولا هي الفكرة البسيطة عند لوك، التي هي محتوًى كيفيٌّ صرف، بل إن
كل
معطًى — حتى ما يبدو منه بسيطًا — مركب من البداية، أي إنه يضم، إلى جانب الكيف،
مجموعة
من العلاقات والترتيبات، كالامتداد والمقدار والشكل والوضع بل والاتجاه. وفي هذه
النقطة
يفترق هبهوس عن أساتذته التجريبيين، فالأفكار البسيطة عند لوك أو الانطباعات غير
المترابطة عند هيوم لا يمكن أن تكون في رأيه محتويات للمعرفة، وإنما هذه الإحساسات
المفكَّكة لا تعدو أن تكون تجريداتٍ فكرية، لا يناظرها شيءٌ حقيقي، ففي أبسط إدراك
مباشر، يدرك الذهن كلًّا معقَّدًا أو واقعة عينية، تنطوي على ترتيبٍ زماني ومكاني،
وعلى
علاقاتٍ أخرى متعددة بالإضافة إلى الكيف وحده. ولا شك أن تخلي هبهوس على هذا النحو
عن
مذهب الانطباعات المفككة عند هيوم، عن طريق القول بأن المعطى كلٌّ مركب، يربط بينه
وبين
مفكرين مختلفين عنه، ومختلفين فيما بينهم كل الاختلاف مثل «جرين» وهدجسون Hodgson، ويخلي الطريق لتدفق عناصرَ مثاليةٍ معينة في
نسق التفكير التجريبي والواقعي.
ويستطيع الذهن إلى جانب تلقِّيه للمحتوى الحالي للمعرفة عن طريق الإدراك المباشر،
أن
يمارس عددًا من الوظائف الأخرى على المعطيات، كالحفظ
Retention (بواسطة الذاكرة) والتحليل والتأليف والاستدلال والتعميم إلخ.
وهناك أهمية خاصة لعملية الحكم، التي يحللها هبهوس تحليلًا دقيقًا، فما الفارق بينها
وبين الإدراك المباشر الخالص؟ إن الحكم «هذا أزرق.» يتألف من ثلاثة عناصر: المعطى
الحاضر («هذا»)، ومضمون كلي («أزرق»)، والرابطة
٣٥ التي تُحدِث علاقة بين الاثنين الآخرين. وهكذا يندرج الموضوع في الحكم تحت
مضمونٍ كلي أو فكري، وهذا الاندراج أو التضمن يعني تشابه المعطى مع كل حالةٍ أخرى
يمكن
أن يتحقق فيها المضمون الفكري. وإذن فهذا المضمون الفكري هو الذي يتميز به الحكم،
وهو
حاضر دائمًا في قلب عالم الوقائع، ويؤدي إلى إقامة علاقاتٍ ذات طابعٍ عام بين مختلف
معطيات الوعي. وهكذا يعطى أحد عناصر المضمون الكلي للحكم لا بطريقةٍ واقعية وإنما
بطريقةٍ فكرية أو مثالية، ويكون الحكم متعلقًا بواقعٍ يوجد خارج فعل الحكم أو مشيرًا
إلى هذا الواقع. بل إن تعريف هبهوس للحكم يتفق لفظيًّا مع تعريف برادلي وبوزانكيت
له،
فهو الفعل الذي يربط بين مضمونٍ فكري أو مثالي وبين واقعٍ خارج عن فعل الحكم. وهذه
العلاقة القائمة بين عناصر الحكم تتخذ شكل قبول أو تصديق في الحكم الموجب، وشكل رفض
أو
استبعاد في الحكم السالب. وإذن فعملية الحكم تتوقف على مركب بين عناصرَ فكرية أو
مثالية
وعناصرَ واقعية. ولسنا في حاجة إلى أن نشير بالتفصيل إلى مدى تأثر هذه النظرية في
الحكم
بالمنطق الهيجلي المحدث عند برادلي وبوزانكيت، أو أن نوضح بعد ذلك مقدار ما تدين
به
للمناطقة الألمان من أمثال زيجفرت
Sigwart
وبرنتانو
Brentano.
ويعالج هبهوس موضوع الحكم، مثلما تناول موضوع الإدراك المباشر، ضمن معطيات المعرفة،
ما دام لا ينتج مضموناتٍ جديدة، بل يقتصر على ربط العناصر المعطاة بعضها ببعض، ويؤكد
هذه العلاقة أو ينفيها. أما القسم الثاني في المنطق فيبدأ عند النقطة التي يأتي فيها
الذهن بشيءٍ جديد يتجاوز المعطى، ولا يكون من الأصل متضمنًا في الوقائع، وهو يطلق
على
هذا المجال في المنطق اسمًا عامًّا هو الاستدلال، ويتم الانتقال من الحكم إلى الاستدلال
عن طريق الخيال، الذي يظهر بفضله مضمونٌ جديد لم يكن حاضرًا من قبلُ، ويشيد بناءً
جديدًا، وإن يكن من الواجب ملاحظة أن أحجار البناء مستمدَّة من مادة المعطى، أو كما
يقول هبهوس: إن الخيال يُبْنَى بأحجارٍ تشكلت من قبلُ، كذلك تنحصر ماهية الاستدلال
في
الحصول على واقعةٍ جديدة، بوصفها نتيجة، من محتوى معطًى بوصفه أساسًا (هو المقدمات)
أي
على حقيقة ليست متضمَّنة في المقدمات. ولكن على حين أن العنصر الجديد يوحى به فحسب
في
حالة نواتج الخيال، فإنه في حالة الاستدلال يقترن بإحساسٍ قوي بالاعتقاد أو التصديق،
نؤكد على أساسه أن المستوى الجديد صحيح ومطابق، وإذن فمن الواجب تمييز الاستدلال
من
الخيال مثلما يتميز التقرير الموثوق به من مجرد الإيحاء. ويستطيع المرء أن يلمح في
عامل
الاعتقاد أو التصديق الذي أدخل هنا، والذي يلعب أيضًا دورًا في نظرية الحكم وفي
الاستقراء والاحتمال، ذلك العامل الذاتي المتضمَّن في نظرية هيوم، والذي هو في نظرية
هبهوس من الأسس الهامة لهذه الأشكال المنطقية، وإن لم يكن له دورٌ حاسم في تأكيد
صحتها
الموضوعية، فمهمة الفكر في الاستدلال هي الربط بين المعطى على النحو الكفيل بمدِّ
معرفتنا به إلى حقيقةٍ أخرى غير معطاة. والمصادر الوحيدة التي ينبغي أن يسلم بها
الفكر
هنا هي أن الواقع هو بالفعل نسق ترتبط أجزاؤه فيما بينها بالضرورة، وهكذا فإن نشاط
العقل إنما يكون في الجمع والتنظيم. ولقد كانت مناقشة هبهوس حتى الآن تفترض صحة الفكر،
وهكذا فإنه يتناول في القسم الأخير من بحثه المنطقي مسألة تبرير ادعاء الصحة هذا
في
الفكر.
وفي هذا القسم يصل ابتعاد هبهوس عن الأساس التجريبي لمذهبه إلى أقصى مداه، ويغترف
بكلتا يديه من نبع الفكر المثالي، الذي نقله أتباع كانت وهيجل إلى إنجلترا، وإن هذه
الحقيقة لتشهد على قوة الحركة المثالية وخصبها شهادةً أقوى مما يشهد بها ذلك العدد
من
مريديها وتلاميذها الطيِّعين الذين اتخذوا وجهة النظر المثالية لأنهم وجدوها مهدئة
لنفوسهم، أو حافزة على استخدام عباراتٍ فخمة رنانة، أو دعامة لإيمانهم المزعزع، أكثر
مما اتخذوها لأنها قوةٌ دافعةٌ خلاقة لإحياء الفلسفة.
فهنا يتضح لهبهوس أن المذهب الحسي القائل بالانفصال المطلق ينتهي إلى اللاواقع
والوهم، ويتخلى على نحوٍ قاطع عن كل نزعةٍ شكَّاكةٍ يائسة وكل لاأدرية مستسلمة، وهما
النزعتان اللتان طالما افتخر بهما المفكرون الذين تخرجوا في معسكر العلم الطبيعي.
ويرسم
أخيرًا حدًّا فاصلًا يستبعد منه المذهب الحدسي، الذي يكون الوضوح الذاتي لقضيةٍ واحدة
كافيًا في نظره لضمان حقيقتها بل إنه — على العكس من ذلك — يرى أن صحة الحكم لا يمكن
أن
تنحصر في كونه معطًى بوصفه واضحًا بذاته مباشرةً، فلا يمكن أن يدَّعي الحكم المنعزل،
المنفصل عن مضمون الفكر، لنفسه أية صحةٍ نهائية، وإنما تكون هذه الصحة مؤقتة، يثبتها
السياق فحسب. وكما أن الواقعة المنعزلة لا تكون لها قيمةٌ معرفية، فكذلك يقف الحكم
المنعزل في الجانب الآخر من الحدود التي تقع من ورائها الحقيقة واللاحقيقة معًا،
وعليه
أن ينتظر تأكيد الأحكام الأخرى له، ولا يجد حقيقته الكاملة إلا في نسق المعرفة الكاملة.
والحد الأدنى اللازم لإثبات الصحة هو ذلك الذي يؤلِّفه حكمان يؤيد كلٌّ منهما الآخر
ويؤكده، غير أن الإثبات النهائي لصحة الحكم إنما يكون في الارتباط المنهجي المتبادل
بين
جميع أجزاء الكل فيما بينها، ومع الكل الذي تشير هذه الأجزاء إليه، والذي تجد دعامتها
فيه، فحقيقة الحكم هي الكل، وهي تشبه ديمقراطية لا فضل فيها لأحد على غيره، وإنما
ترتبط
قيمة كل فردٍ واحد وحقيقته ارتباطًا لا ينفصم بصالح المجموع، الذي يتوقف بدوره على
مدى
صلاحية كل فرد على حدة. ويستخدم هبهوس لفظ «التلاؤم Consilience» ليدل به على الاعتماد والارتباط والتأييد المتبادل للأجزاء
الفردية في الكل المعرفي، وعلاقتها الضرورية بالنسق الكلي، وهذا في نظره هو المعيار
الحقيقي لكل حقيقة وصحة. وهدف المعرفة الذي يتحكم في غاية العلوم والفلسفة معًا،
والذي
تقترب منه هذه دون أن تبلغه أبدًا على نحوٍ كامل، هو بلوغ ذلك الطابع الكلي الذي
يكتمل
بفضل التلاؤم التام لجميع أجزائها وأفرادها، والنسق التام التنظيم لجميع الأحكام
التي
يؤيد بعضها بعضًا ويؤكده ويحققه. ولكن إذا لم يتحقق هذا، فمن الواجب دائمًا أن تكون
فكرة «التلاؤم» معيارًا لضبط كل معرفةٍ منفصلة، وكل بحث في ميدانٍ خاص. فمن الواجب
أن
يضع المرء دائمًا نصب عينيه أن يرفع كل عنصرٍ فرديٍّ مستقل إلى مستويات من التعميم
أعلى
دوامًا عن طريق إقامة علاقاتٍ متبادلة بين هذه العناصر بحيث تزداد جذورها تأصلًا
في
الكل المنظم للمعرفة. وإن ماهية كل تفكير وبحثٍ بشري — سواء في العلوم الخاصة وفي
النظرة الفلسفية الجامعة — لا تكون في الانعزال والاكتمال، وإنما هي دائمًا نمو عن
طريق
المزيد من التلاؤم والترابط. ومهمة العقل — أو على حد تعبير هبهوس الدافع العقلي
في
الإنسان — إنما تكون في ربط المعارف المفردة والتجارب المنعزلة في تركيبٍ فكريٍّ
منظمٍ
شامل، بحيث يكون الهدف هو ذلك الانسجام العقلي الذي يجد فيه سعي الذهن البشري غايته
وطمأنينته. كذلك لا يستطيع الخطأ أن يرغم هذا الدافع العقلي على الانحراف عن طريقه؛
إذ
إن الخطأ بدوره ليس، من حيث المبدأ، بمنأًى عن عالم العقل، وإنما هو حقيقةٌ جزئية،
أي
مرحلةٌ ضرورية في التنظيم المنهجي للمعرفة، وإن نفس هذا النقص والقصور الذي يشوبه،
إنما
هو الذي يحفز الإنسان على تجديد أبحاثه على الدوام، وإعادة النظر فيما سبق أن قبله
من
النتائج. ولا شك أن فلسفة هبهوس — باتخاذها هذه المواقف — قد وسعت الهوة الفاصلة
بينها
وبين نقطة بدايتها التجريبية إلى أقصى حدٍّ ممكن، وبدا أنها تزداد بالتدريج اقترابًا
من
نظرية الحقيقة عند الفلاسفة الهيجليين الإنجليز، كما قال بها على الأخص برادلي وتلميذه
جويكم.
ومع ذلك فهناك في الوقت ذاته فارقٌ مميز واضح بين هبهوس والهيجليين، فقد كان في غنًى
عن «المطلق» عند برادلي، الذي هو مبدأ معتزل متوَّج بسموٍّ وقور فوق الكثرة المتنوعة
للعالم الظاهري بما فيه من أوهام ومتناقضات. وهكذا قضى على صرامة مبدأ برادلي وثباته،
وأذابه في الحركة الحية لعمليةٍ رأى أنها تقدمٌ أصيل نحو تأليف وتركيبٍ منظم يزداد
علوًّا على الدوام (وإن لم يكن ذلك على نسق الديالكتيك الهيجلي)، هدفها هو بلوغ الحقيقة
الكلية، بحيث كان هبهوس التجريبي في هذه المسألة أقرب إلى مقصد هيجل الحقيقي من برادلي
الهيجلي. ولقد توصل إلى هذه النتيجة بإدماج فكرة التطور مع فكرة التلاؤم — وهنا نصل
إلى
ملتقى طرق هام في فلسفته — وبذلك وحَّد بين المبدأين الأساسيَّين لتفكيره، فصحة معرفتنا
تزداد كلما ازدادت تكشفًا داخل العلم الكامل، وهي تقترب من الحقيقة المنهجية الكاملة
بالقدر الذي تزداد فيه — أثناء تقدمها — علوًّا بفضل التلاؤم. وبهذا تصبح الحقيقة
حاضرة
في المعرفة المتقدمة خلال التطور، الذي هو الواسطة في نموها حتى الاكتمال. وهكذا
تتخذ
فلسفة هبهوس مظهر اندماجٍ مطبق بطريقةٍ واقعية، بين عناصر من المذهب المطلق وعناصر
من
مذهب التطور، مع اتخاذ التجريبية نقطة بداية لها.
فإذا انتقلنا من نظرية المعرفة إلى الميتافيزيقا عند هبهوس، للاحظنا هنا أيضًا كيف
تحكَّمت المثالية في الأساس التجريبي والواقعي وعدَّلته في نقاطٍ أساسية، ويتضح ذلك
بوجهٍ خاص في تخفيف المثالية لحدة النزعة الطبيعية المادية في تفكير هبهوس، مما جعل
له
أساسًا يختلف تمامًا عن أسس مذاهب القرن التاسع عشر ذات الطابع العلمي وهي المذاهب
التي
ظهر مذهب هبهوس في ظلها في البداية؛ ذلك لأن دراسات هبهوس الواسعة في النمو التاريخي
للذهن، كما عرضها في كتابه «الذهن في تطوره»، قد أقنعته عند وقتٍ مبكر، بناءً على
أبحاثٍ تجريبية دقيقة، بأن الذهن ليس مجرد ظاهرةٍ ثانوية أو مصاحبة لحوادثَ مادية،
وإنما هو عنصر له أكبر قدر من الدلالة والأهمية في مجموع العالم الواقعي. وبعد أن
دُعِّمت أسس دراساته الخاصة بفضل تعاليم المثاليين، أصبح يعترف بالمبدأ الروحي في
العالم، بوصفه عالمًا مستقلًّا قائمًا بذاته، لا مجرد عاملٍ مستمَدٍّ من المادة،
كما
اعترف من جهة أخرى بأن «الحقيقة
Reality» بما هي كذلك
ليست «روحية»، وإنما هناك في مقابل عنصر «الروح أو الذهنية
Mentality»، عنصرٌ غير روحي يسميه بالمبدأ الآلي. وهكذا فالذهن ليس سيد
الأشياء جميعًا، كما أنه ليس من جهةٍ أخرى ناتجًا عرضيًّا لقوًى آلية، وليس مطلقًا
ولا
ثانويًّا، وإنما هو قوةٌ دافعةٌ عضوية تضفي النظام على العناصر المختلطة المتنافرة،
وتبعث في العملية الكونية وحدة وانسجامًا. والمعيار الرئيسي لكل نشاطٍ روحي أو ذهني
إنما يكون في الغرضية العاقلة، فالمبدأ الغائي يأخذ مكانه إلى جانب المبدأ الآلي،
بحيث
يشمل كلٌّ منهما الآخر ويفترضه مقدمًا، ويكشف كلٌّ منهما عن الحقيقة في وجهٍ خاص
من
أوجهها. وهكذا فإن الفكرة الرئيسية في ميتافيزيقا هبهوس إنما تكون في هذا التفسير
للحقيقة على أنها ليست آلية فحسب ولا غائية فقط، وإنما هي الاثنان معًا، أي على أنها
عملية نمو تقوم فيها بين المبدأين علاقةٌ تبادليةٌ وثيقة، ويكونان متداخلَين
interwoven، إن جاز هذا التعبير.
٣٦
على أن التجربة تدلنا على أنه يوجد — إلى جانب المبدأين الآلي والغائي — مبدأٌ ثالث
يساهم في تفسير الظواهر، هو المبدأ العضوي، والمقصود بالكائن العضوي وحدة تتحكم أجزاؤها
أو أعضاؤها بعضها في البعض، ويكون الكل والأجزاء فيها متضايفَين بدقة. وقد تبين لنا
من
قبلُ أن نسق المعرفة إنما هو تركيبٌ عضوي كهذا، كما تكشف لنا الميتافيزيقا الآن أن
نسق
الواقع هو أيضًا كذلك، فتكون النتيجة انسجامًا أو تطابقًا تامًّا بين النسقَين. فالواقع
إذا ما تأملته في مجموعه كان نسقًا عضويًّا لا يُقضى فيه على استقلال العناصر ووظيفتها
المحدودة داخل الكل، على الرغم من الاعتماد المتبادل لأجزائه بعضها على البعض، والعلاقة
المتبادلة بين الأجزاء وبين الكل، وإنما يحفظ هذا الاستقلال بفضل الوحدة التي تتجاوز
هذه العناصر وتشتمل عليها، فلا يمكن أن يكون في الواقع جزءٌ منفصل تمامًا عن بقية
الأجزاء؛ وهذا يعني بتعبيرٍ آخر أنه لا يمكن أن يوجد عنصر غير معقول تمامًا. ومن
الواضح
أن مذهب هبهوس يتبدى — من وجهة النظر هذه — مثلما يتبدَّى في نواحٍ أخرى عديدة، على
أنه
مذهبٌ متمسك بالمعقولية، بل هو واحد من أورع مظاهر هذا الأسلوب في التفكير في الفترة
الأخيرة؛ فهو في كل خطوة يوطد مكانة المبدأ العاقل في التفكير وفي الوجود، في مقابل
الميول اللامعقولة المتعددة في عصره، ويدافع عن نفسه ضد الأمراض الفلسفية التي شاعت
عندئذٍ، والتي تطعن في العقل وتضع محله بديلًا لا عقليًّا كالغريزة أو الحدس.
ولنلاحظ أن المقولتَين الآلية والغائية، وهما المقولتان الأوليان من بين المقولات
الأساسية الثلاث التي تفسر بواسطتها الحقيقة، هما قوتان ميتافيزيقتان تتقابلان
وتتعارضان بشدة، فالآلية، التي هي المسيطرة في الأصل، هي القوة التي لا تعرف تنوعًا،
والتي تكون مختلطة ومضطربة، تتداخل فيها الطاقات ويقضي بعضها على البعض؛ لأن عدم
وجود
صلة بينها يجعل من المستحيل أن يُقدِّم بعضها إلى البعض الآخر معونةً متبادلة. غير
أن
هناك منذ البداية عنصرًا ذهنيًّا تنطوي عليه كل ذرة من المادة، يزداد تأثيره كلما
ازداد
النظام والارتباط والانسجام في القوى الآلية، وعندما يبلغ النمو مرحلةً أعلى، يزداد
توحد هذه القوى في ترتيبات وتجمعات تبعًا لقوانين وغاياتٍ عقلية، ويتم التطور بتقهقر
العوامل الآلية دوامًا إلى الوراء، كلما امتد باستمرار زحف العناصر الغرضية المؤدية
إلى
إقرار النظام، وهدفه هو ذلك النسق المنسجم الذي تكون المهمة الغائية للذهن إيجاده
بمضي
الزمن. وهكذا فالذهن (أو الروح) المنتشر في الكون يعمل دوامًا على بعث الانسجام في
العناصر المتعارضة، مهما كان بطء وتدرج المراحل التي يعمل بها.
أما المقولة الأساسية الثالثة، أي العضوية، فقد عرفها هبهوس على نحوٍ أقلَّ دقة بكثير
من المقولتَين الأخريَين، وهو يرى على أية حال أنها أقرب إلى مقولة الغرضية منها
إلى
مقولة الآلية، وإن كانت تقبل الانطباق على كليهما معًا، غير أنها لا تنطبق على الكون
في
مجموعه؛ إذ إن الكون لا يمكن أن يفسر إلا غائيًّا. وتبلغ ميتافيزيقا هبهوس قمتها
في
نظرته إلى الكون على أنه غائيةٌ مشروطة، من حيث إن مبدأ الغرضية لا يمكن أن يبلغ
غايته
أبدًا، وإنما يقف دائمًا في تضاد مع العناصر المتنافرة للمادة الآلية، ولم يستطع
هبهوس
أبدًا أن يصل إلى إيضاحٍ نهائي للعلاقة بين العضوي والغائي. ولنلاحظ مدى تحول التجريبية
إلى الإفراط في النظر العقلي الخالص في فلسفة هبهوس، ومدى ابتعاد هذه التأملات الرفيعة
التحليق عن الأساس التجريبي الواسع الذي هو أصلها، وهذا مثل آخر للتأثير الهام الذي
مارسته المثالية ذات الطابع الهيجلي، التي أضفت على الفكر الإنجليزي طابعًا يتسم
باتساع
النطاق وعمومية النظرة على نحو ازداد جرأة وسموًّا عما كان موجودًا من قبلُ
بكثير.
أما الأخلاق عند هبهوس، التي عرض وجهها الأقرب إلى الطابع التجريبي في كتابه «الأخلاق
في تطورها» ووجهها الأقرب إلى الطابع الفلسفي في «الخير المعقول»، فتتفق في جميع
النقاط
الأساسية مع المبدأ الأساسي لفلسفته، فهو هنا أيضًا يبدأ بتقديم بيان عن التطور
التاريخي لوقائع الأخلاق مبني على استقصاءٍ تجريبي واسع النطاق، أعني نوعًا من تعقب
«نسب الأخلاق»، ثم ينتقل إلى تفسيره الفلسفي الخاص لهذه المادة التجريبية، وهنا أيضًا
تكون النتيجة النهائية أخلاقًا عقلية لا تجريبية، مهمتها إيضاح وظيفة العقل في مجال
السلوك العلمي، وهو هنا أيضًا يرد على الحملة على المعقولية، ويقف في وجه تيارات
اللامعقولية التي ترى أن الدوافع الوحيدة لسلوكنا إنما تكون في الاندفاع الغريزي
وفي
الشعور وفي العاطفة. وهو يبين أن العناصر العقلية — كالغرض والتفكير المتدبر — تلعب
دورًا لا يقل عن دور الشعور الغريزي الأعمى، إن لم يفُقْهُ بالفعل، فالتفكير الواضح
لا
يقل ضرورةً في السلوك عن الشعور الصحيح، «وأقل البشر حساسية لا يتجه إلى الفعل بحكم
الاندفاع الغريزي وحده فحسب.» وفضلًا عن ذلك فإنه لا يميل إلى وضع تضادٍ شديد بين
عالم
الشعور وعالم الفكر، فأصل الاثنين واحد، وهو الطبيعة البشرية، ومن المحال فصلهما
إلا
بتجريدٍ مصطنع. وهو يرى بوادر المعقولية الأخلاقية حتى في ذلك السلوك الواعي الهادف
الذي يتمثل في أدنى مراحل الحياة الأخلاقية مثلما يتمثل في أعلاها، ووظيفة العقل
العملي
تسير في طريقٍ مواز تمامًا لطريق العقل النظري؛ إذ إنه على حين يهتم الأخير بربط
الوقائع والإدراكات المنفصلة عن طريق التلاؤم الكامل لنسقٍ منسجم، فإن مهمة الأول
هي
توحيد دوافع ونوازع واتجاهاتٍ منفردة في الكل المنسجم للشعور. وهنا أيضًا يستحيل
أن يظل
العنصر الواحد — أي النزوع الواحد في هذه الحالة — منعزلًا، وإنما يشير إلى خارج
ذاتها
متجهًا إلى إدماج ذاته في الكل الأعلى الذي هو جزء منه، وهكذا تكون مهمة الإرادة
هي
القيام بتأليف بين الاتجاهات الإرادية المنفردة، مثلما تكون مهمة هذه الاتجاهات هي
توحيد النوازع المنفردة، وفي كل هذه المراحل يوجد عنصرٌ عقلي يلعب دوره، ويتمثل آخر
الأمر بوصفه «الخير». وكما أن الإيمان بانتصار الحقيقة وسيادة العقل قد أدى إلى النزعة
العقلية في المجال النظري، فكذلك يؤدي الاعتقاد بالقدرة الشاملة للخير إلى التفاؤل
في
المجال العملي، وفي كلا المجالَين تمدنا فكرة الخير بالقوة الدافعة التي تحقق بها
المعقولية ذاتها على مستويات تتزايد علوًّا، وتساعد على انتصار الحقيقة في ميدان
المعرفة والخير في ميدان السلوك. أما التحقق الكامل للخير فليس أكثر إمكانًا من التحقق
الكامل للحق، غير أن السعي وراءه يظل مستمرًّا على الدوام، شأنه شأن التقدم الموازي
الذي لا ينقطع للمعرفة، وهكذا فإن مبدأ المعقولية يطبق في الأخلاق، مثلما يطبَّق
في
العلم، بوصفه النزوع الدائم التجدد نحو انسجامٍ مكتمل، لا بوصفه البلوغ النهائي لهذا
الهدف.
وقد أمدَّ هبهوس أخلاق الانسجام هذه بعناصر من النظريتَين التجريبية والمثالية، مثلما
فعل في نظرية المعرفة والميتافيزيقا. وقد أشار هو ذاته إلى أن موقفه هذا مرتبط ارتباطًا
وثيقًا بمبادئ مذهب المنفعة عند مل من جهة، وبالمثالية الأخلاقية عند جرين من جهة
أخرى؛
ففكرة الانسجام تتفق مع مذهب المنفعة بقدر ما تكون السعادة العامة عنصرًا أساسيًّا
متضمنًا فيها. ومن جهةٍ أخرى يقر هبهوس نقد جرين لمذهب اللذة في تحليله النفساني
لمنابع
السلوك، وينزع عن مذهب المنفعة طابع التركز حول اللذة، ويتحول مبدأ تحقيق أكبر قدر
من
السعادة لأكبر عدد من الناس إلى مصادرة الكل الاجتماعي المنسجم. وليس من واجبنا أن
نخوض
هنا تفاصيل نقط التقاء هبهوس بالأخلاق المثالية، غير أن النقطة التي انحرفت فيها
الأخلاق عند هبهوس انحرافًا واضحًا عن الأخلاق عند جرين أو كانْت، هي القول بأنه
ليس من
الواجب النظر إلى العقل العملي على أنه يحلِّق بعيدًا فوق حياة الشعور والنزوع، ولا
من
الواجب النظر إلى هذين الأخيرَين على أنهما كمٌّ مهمل، بل ينبغي إدراجهما أو ضمُّهما
على نحوٍ ما في مركب الخير العقلي.
أما النظرية السياسية عند هبهوس فهي خارجة عن مذهبه إلى حدٍّ ما، بقدر ما كان في هذا
الميدان يحصن نفسه عن وعي وقصد من هجوم الأفكار المثالية، بحيث إنه يلتزم هنا حدود
التراث القومي تمامًا، أي إنه يمثل بكل وضوح الفكرة الليبرالية الديمقراطية الفردية
عن
الدولة كما نجدها في المذهب الذي يمتد في تيارٍ واحدٍ متصل من لوك إلى مل، ولكن من
رأيي
أن أفكاره في هذا الموضوع ينبغي ألا تُعْزَى إليها نفس المكانة التي تُعْزَى إلى
الأجزاء الأخرى من تعاليمه؛ إذ إن نظرية هبهوس السياسية كما عرضها في كتابه الذي
كان
جدليًّا في أساسه «النظرية الميتافيزيقية للدولة» لا تنبع من الدراسة العلمية الموضوعية
التي تميز بقية أعماله، وإنما من جو الحرب العالمية المسموم المفعم بالكراهية، وهو
الجو
الذي فرض تأثيره حتى على مفكر له من الحكم المتزن الموضوعي ما كان لهبهوس، فهو لم
يرَ
في نظرية الدولة عند هيجل، وفي النظرية التي أحياها جرين في أعماله على التربة
الإنجليزية، ولكن بحماسةٍ فاترة، وأحياها بوزانكيت على نحوٍ أدق وأشد تحمسًا؛ سوى
أنها
أدت إلى تكوين تلك العقلية الرجعية التي أدت (في رأيه)، من خلال سياسة القوة التي
اتبعها بسمارك، إلى النزعة العسكرية الألمانية وإلى الحرب العالمية. فالدولة المطلقة
عند هيجل لا تعني، في نظر هبهوس، خرق حرية الفرد واستقلاله فحسب، وإنما تعني إخضاع
الأخلاق للسياسة؛ مما يؤدي إلى إلغاء الروابط الأخلاقية بين الشعوب وإحلال القوة
السافرة محل الحق، وعلى العكس من ذلك يقول هبهوس بأن الفردية قيمةٌ مطلقةٌ عليا،
لا
ينبغي أن تستنفدها الدولة دون باقٍ، فلا يمكن أن يكون تنظيم الدولة غاية في ذاته،
وإنما
ينبغي أن يكون دائمًا وسيلة، أي صورة واحدة من بين الصور العديدة الممكنة التي يتجمع
بها البشر بحرية لكي يتمكنوا من تنمية إمكانياتهم وتحقيق التزاماتهم الأخلاقية، والفرد
وحده هو الذي ينبغي أن يُعَدَّ غاية في ذاته، أما جميع صور المجتمع — ولا سيما الدولة
—
فيجب أن تستهدف رخاء الأفراد ومصالحهم، والدولة مسئولة أخلاقيًّا أمام الدول الأخرى،
مثلما يكون الفرد مسئولًا إزاء الآخرين. وليس في وسع أية نظرية أن تعفيها من هذه
المسئولية، وهنا نرى نوعًا واضحًا من الليبرالية البورجوازية، التي تدافع عن نفسها
ضد
اكتمال سلطة الدولة؛ لأنها تشعر بأن الأخيرة تهدد حريتها، وهو يتخلى في هجومه على
الهيجلية عن كل إنصاف وموضوعية. وهكذا فإنه بدلًا من أن يتعمق مفهوم الدولة عند هيجل،
يزركش صفحاته بعبارات وحججٍ مقتطعة من سياقها، ومتولدة عن حرارة اللحظة وانفعالها
فحسب،
والأكثر من ذلك مدعاة للأسف أنه اتخذ مثل هذه الحجج وسيلة لإثبات نظريته الخاصة في
الدولة، مع أن جزءًا غير قليل من مصادر قوته إنما يرجع إلى نفس تلك المثالية التي
ناصبها هذا العداء المرير.
وهناك أخيرًا ميدان علم الاجتماع، الذي كانت دراسات هبهوس الشاملة فيه أخصب وأكثر
إيجابية في نتيجتها، وهو هنا أيضًا يجمع بين دقة المتخصص وبصيرة الفيلسوف، ويستمد
وجهات
النظر التي يصوغ منها مبادئه العامة من دراسةٍ واسعة للوقائع. ولقد كان حريصًا على
أن
يجعل فكرة التطور، وهي الفكرة التي تنساب كمجرًى في جوف الأرض في جميع أجزاء فلسفته،
تأتي ثمارها في ميدان علم الاجتماع أيضًا، ولكن لم تكن المسألة بالنسبة إلى هبهوس
مجرد
اقتباس أفكار كتلك التي تُستمَد من نظرية دارون البيولوجية في الصراع من أجل البقاء،
وإنما أدرك قبل كثير غيره أن المناهج ووجهات النظر البيولوجية لا يمكن أن تنقل بنجاح
إلى مجال العلاقات الاجتماعية دون اختبارٍ نقدي لها، وإنما لا بد أن تدخل على مبدأ
التطور تعديلات عديدة دقيقة، تبعًا للميدان الذي يطبق فيه، فما يصح على حياة النباتات
والحيوانات لا يصح دون تحفظ على المجتمع البشري، فما الذي يعنيه التطور في الحياة
الاجتماعية؟ إنه قطعًا لا يعني مجرد الصراع من أجل البقاء، ولا يعني بقاء الأقوى
اجتماعيًّا على حساب الأضعف اجتماعيًّا، وإنما تحل الغرضية العاقلة، على مستوى الكائنات
التي وُهِبَت عقلًا، محل الاتفاق اللامعقول الذي يسود الطبيعة. وهذا يبين لنا أن
التطور
الأعلى للبشرية لا يتحقق بصراع الكل ضد الكل، وإنما — على العكس من ذلك — يتحقق بتنظيم
المساعدة المتبادلة، وبالتحالف الفعال بين الأفراد. وأعلى أنواع المجتمع هي تلك التي
يحل فيها محل حرب الكل ضد الكل، تعاونٌ إيجابيٌّ بين الجميع في الحرب ضد القوى
المعادية، والمعنى الرئيسي للتقدم هو التحقق المتزايد لمثل هذا التعاون. ويستطيع
المرء
أن يلمح في فكرة التعاون هذه، التي تصبح «لحنًا مميزًا» لعلم الاجتماع عند هبهوس،
ذلك
التلاؤم الذي يجعل أفراد أي كلٍّ — سواء أكان ذلك الكل فرعًا علميًّا أم مذهبًا
فلسفيًّا أم طائفةً اجتماعية — يعملون على مساعدة بعضهم البعض والرجوع إلى بعضهم
البعض،
ولا يحققون وجودهم الصحيح إلا في مثل هذا الارتباط المتبادل. وهكذا فإن الفروع المنفردة
في مذهب هبهوس ترتبط فيما بينها، تبعًا لمفهومها الأساسي الموحد، في مذهبٍ فلسفيٍّ
مكتمل، ولا أقول مكتملًا بمعنى أنه يوصد أبوابه في وجه الوقائع، وإنما هو متفتح للضغط
الدائم للمواد التجريبية التي تنتظر العمل الفلسفي ليضعها في مكانها اللائق في نسق
المعرفة. وترتبط فكرة التلاؤم ارتباطًا وثيقًا بفكرة التطور، بوصفها اللحن الأساسي
الثاني في مذهب هبهوس. ورغم أن المرء لا يستطيع أن يُفرِط في إزجاء المديح له نظرًا
إلى
ما اتصف به الفلاسفة ذوو الاتجاه الدارويني من انحرافات وأخطاء في ميدان البيولوجيا
(وكان سبنسر أبرزهم في ذلك بالتأكيد) فلا بد أن نعترف له هنا بفضل إضفاء معنًى مستقل
على فكرة التطور، يختلف تبعًا للمجال الذي تطبق فيه، وبذلك خلصها من عقم وعشوائية
التفكير من خلال إطاراتٍ خاوية ويُدَّعَى أنها تقدم منهجًا لتفسير كل ما في العالم،
ورفعها إلى مرتبة مبدأٍ منهجيٍّ أصيل للبحث.