الفصل الرابع
الجماعات المهتمَّة بالفلسفة الدينية
سوف يقتصر العرض الذي سنقدمه في هذا الفصل للفلسفة الدينية في الجزء الأول من الفترة
التي هي موضوع بحثنا، على المفكرين الذين كانت لهم أهميةٌ مستقلة خارج التيارات
الفلسفية التي عالجناها حتى الآن، فليست مهمتنا هنا، كما كانت في الفصول السابقة،
هي
تتبع تطور حركة فكرةٍ منفردةٍ موحدة مكتفية بذاتها نسبيًّا، وإنما هي ضم وجمع كل
ما
يبدو هامًّا في ميدان النظريات الفلسفة الدينية، أي في التفكير المتَّجه إلى المسائل
الدينية أينما وُجِد في سياقٍ واحدٍ شامل. ولكن أبعد الأمور عن غرضنا هو أن نقدم
ما
يمكن أن يُعَدَّ عرضًا شاملًا للحياة الدينية في إنجلترا في القرن التاسع عشر، حتى
ما
يتخذ منها صبغةً نظرية؛ ذلك لأن دور الجهود التي تبذل في ميدان اللاهوت كان بطبيعته
أكبر من دور الجهود الفلسفية في تكوين مثل هذه النظرية، ورغم أن الحدود بين هذين
الميدانَين تتداخل على الدوام، فمن واجبنا مع ذلك أن نقصر حديثنا على الميدان الأخير
بقدر الإمكان، وهكذا فإن عرضنا الموجز سيقتصر على ما له صلةٌ حقيقية بالفلسفة، وحتى
في
هذه الحالة لا نستطيع أن نقدم من ذلك إلا حالاتٍ مختارة.
وما دامت هذه هي وجهة نظرنا، فلزام علينا أن نتناول أولًا تلك الحركة التي كان
تأثيرها في الحياة الدينية بإنجلترا في القرن التاسع عشر يفوق تأثير أية حركةٍ أخرى.
وأعني بها «حركة أكسفورد» التي ظهرت في العَقْدين الرابع والخامس من ذلك القرن، والتي
أدت إلى إعادة تشكيل وتحويل قدرٍ كبير من الديانة المعاصرة لها. وقد كان معنى هذه
الحركة، بالنسبة إلى الفلسفة وإلى الحياة العقلية العامة لذلك العصر، رد فعل على
معظم
الاتجاهات التي كانت سائدة عندئذٍ: أي على المذهب العقلي بمختلف صوره، وعلى الثقة
بالمعرفة والزهو بالعقل، وعلى أخلاق السعادة ووهم التقدم، والفكر الحر والليبرالية،
وردِّ الوجود إلى الوقائع الخارجية، والقيم الدنيوية، وصبغ الدين بصبغةٍ سطحيةٍ ضحلة،
وجعل حياة الكنيسة راكدة، أي بالاختصار على روح التنوير كما خُلِّصت من الانهيار
الذي
طرأ عليها في القرن الثامن عشر، وتركزت على عرشها المتين في القرن التاسع عشر. ولقد
بدأت هذه الحركة في جامعة أكسفورد، شأنها شأن الحركة المثالية الجديدة التي ظهرت
في
الجيل التالي لها، وقام بها رجال مثل «ج. ﻫ. نيومان» و«ج. وكيبل» و«أ.ب. بوس» و«و.
ج.
وورد» و«ر. ﻫ. فرود»، وكان هدفها المؤكد، قبل كل شيء، هو تجديد الحياة الدينية
وتعميقها، ولكنها اشتملت في ذاتها أيضًا على قوًى فلسفيةٍ هامةٍ كانت هي التي أطلقتها
من عقالها، وكان الرجل الذي أضفى عليها روحها بوصفها حركةً دينية، هو ذاته الذي كان
أكبر ذهنٍ فلسفي فيها، وهو تلك الشخصية الفذة الرفيعة الكردينال نيومان.
ومن المؤكد أن جون هنري نيومان J. H. Newman
(١٨٠١–١٨٩٠) ينتمي إلى طليعة القادة والرواد العقليين الإنجليز في القرن التاسع عشر،
ولا ترجع مكانته السامية إلى قوة شخصيته وطبيعته الفريدة وسمو ذهنه فحسب، بل ترجع
أيضًا
إلى رحابة أفقه العقلي، واتساع نطاق علمه، وعمق تفكيره، والأهم من ذلك، إلى إيمانه
القوي العميق التأصل الذي أسهم فيه، بنصيبٍ متكافئ، شعورُه الإنساني الرفيع ومواهبه
العقلية الضخمة. ولقد تركزت فيه الطاقات الروحية للحركة الإنجليزية الكاثوليكية،
التي
أصبح هو ذاته، بمضي الوقت، أقوى داعية لها، وإن لم يكن هو الذي أسسها. غير أن نطاق
تأثيره قد امتد أبعد من هذه الحركة كثيرًا، بحيث شمل مجالات في الفكر وفي الحياة
الدينية لا تشترك مع هذه الحركة في شيء، فنيومان هو أكبر داعية لمذهب الروم الكاثوليك
عرفته إنجلترا منذ الانقسام بين الكنائس، ولقد بذل جهدًا يفوق ما بذله أي شخص قبله
في
الكشف للعالم الإنجليزي عن أمجاد هذه الكنيسة وعظمتها، وعن إيمانها وتراثها، وعقائدها
ونظمها، وحياتها الباطنة فضلًا عن الظاهرة؛ بحيث استطاع أن يشعر الناس بروحها وهي
تنبض
بالحياة. كل ذلك راجع إلى أن إيمانه لم يكن مجرد تعاليم تُلَقَّن، وإنما كان حياة
تُحْيا، ولأنه هو ذاته كان تجسدًا منظورًا، يراه القاصي والداني، لتلك الرسالة التي
دفعه إحساسه الباطن بالواجب الملقى على عاتقه إلى أن ينقلها إلى عصره. ولقد كانت
الشخصية الوحيدة التي تناظره، والتي ظهرت في عصرٍ متأخر، هي شخصية ف. فون هوجل F. Von Hügel، الذي كانت له رسالةٌ مماثلة يؤديها
في إنجلترا في القرن الماضي، وإن لم تكن له سلطة سلفه العظيم واتساع نطاق نفوذه.
ورغم أن فلسفة نيومان — بقدر ما يمكن استخلاصها من بقية أعماله — هي قبل كل شيء تلخيص
لإيمانه الديني وتبرير له، فإنها لا تقتصر على ذلك، وإنما هي أيضًا مظهر نزوعٍ أصيل
إلى
المعرفة، وحضور ذهن رائع، كانا من المميزات الأساسية لطبيعته. فهو لم يكتفِ بإعلان
الإيمان الذي كان يتملكه من البداية إلى النهاية، وإنما كان يهمه بنفس القدر أن يثبت
هذا الإيمان ويدعمه نظريًّا. وهو لم يعمل، من أجل تحقيق هذه الغاية، على الرجوع إلى
الفلسفة المدرسية وتجديدها كما قد يتوقع المرء، بل لقد كان تركيبه الذهني بأسره بعيدًا
كل البعد عن المدرسية، التي كانت نقط التقائه معها تقلُّ بكثير عن نقط اختلافه معها،
بحيث إن من الخطأ تمامًا الربط بين مذهبه وبين الحركة المدرسية الجديدة، أو الإشارة
إليه — كما فعل الكثيرون — وكأنه سلف لهذه الحركة؛ فمذهبه إنما هو تركيب لا يحمل
أي
طابع نيومان نفسه، وهو طابع ترجع جذور محتواه الديني إلى تعاليم آباء الكنيسة أكثر
مما
ترجع إلى مذهب توما الأكويني، كما ترجع جذور نظريته إلى التراث الإنجليزي (الذي هو
أيضًا التراث التقليدي).
ولا تؤلف كتابات نيومان الفلسفية إلا جزءًا صغيرًا نسبيًّا من إنتاجه الأدبي الضخم،
١ وأهم هذه الكتابات هي، «بحث في تطور المذهب
المسيحي
An Essay on The Development of Christian Doctriue» (١٨٤٥) و«بحث للوصول إلى
قواعد التصديق
An Essay in Aid of a grammar of Assent» (١٨٧٠)، ويمكننا أن نضيف إلى هذين كتاب «فكرة الجامعة
The Idea of a University»
(١٨٥٢)، وإن لم يكن لهذا الكتاب، الذي يعرض فيه نيومان برنامجه في التعليم الجامعي،
غرضٌ فلسفي على التخصيص، ولنضف إلى ذلك بعض مواعظه الدينية في الجامعة، ومؤلفه المشهور
«دفاع عن حياتي الذاتية
Apologia pro Vita Sua»
(١٨٦٤).
والفكرة الرئيسية في فلسفة نيومان النظرية تتمثل في فعل «التصديق Assent» العقلي، وفعل «الإدراك
الواعي Apprehension» السابق عليه، ويظهر مبدؤها الموجه في التمييز الأساسي بين
الإدراك الواعي الحقيقي (أو الشيء) real والإدراك
التصوري Conceptual (وبين التصديق الحقيقي
والتصوري)، وهو الذي يكوِّن أساس كل مساهمة أصيلة لنيومان، سواء في ميدان نظرية
المعرفة، أو في فلسفة الدين واللاهوت فيما بعدُ. ونستطيع أن نسمي هذه أيضًا الحقيقة
المجربة الأولى في فلسفته؛ إذ إن كل أفكاره تقريبًا تنبُع منها.
فما الذي يمكننا أن نفهمه من التقابل بين الإدراك «الحقيقي» والإدراك «التصوري»؟ إن
الإدراك، بمعنى الموقف النفساني من أية واقعة معينة أو الاستجابة النفسانية لها،
يحدث
بدرجاتٍ مختلفة من القوة والشدة، تبعًا لطبيعة المعطى الذي ندركه أو يدركنا، وتتوقف
قوة
الإدراك على القوة الكامنة في الموضوع والمنبثقة منه إلينا، على أن من الحقائق المقررة
بالنسبة إلى الطبيعة البشرية أن الأشياء العينية تؤثر فينا بقوة تزيد كثيرًا على
تأثير
الأفكار المجردة فينا، وأن ما هو موجود بالمعنى الأصيل، أي بمعنى أن له وجودًا عينيًّا
حقيقيًّا، ينطبع على ذهننا بعمق يزيد على عمق انطباع ما هو مستمدٌّ من الواقع، أعني
كل
ما هو مجرد أو تصوري. وهكذا فإن الإدراك الحقيقي أكثر فعالية من الإدراك التصوري،
من
حيث إن موضوعاته تنطبع علينا وتؤثر فينا بقوة تزيد كثرًا على تأثير الصور التي هي
موضوع
الإدراك التصوري، وهناك تمييز مناظر لهذا بين «التصديق» الذي نقوم به بالنسبة إلى
ما هو
عينيٌّ حقيقي من جهة، وبالنسبة إلى ما هو تصوري من جهةٍ أخرى.
وهناك تقابلٌ آخر يدعم التقابل بين الإدراك الحقيقي والإدراك التصوري، هو التقابل
بين
المعرفة المباشرة والمعرفة غير المباشرة، فالأولى تحدث حدسيًّا في الخيال، وهو ملكةٌ
هامة للمعرفة يعزو نيومان إليها دورًا في إدراك الحقائق لا يقل عن أهمية الدور الذي
يعزوه إليها هيوم، وهي تحدث بصورةٍ أكمل في الإدراك الحسي، سواء أكان خارجيًّا أم
داخليًّا.
ففي الإدراك الحسي يُعْطَى لنا الشيء ذاته، أو جزء أو وجه منه على الأقل، بصورةٍ
جسميةٍ ملموسة، ويصبح الشيء مواجهًا لنا مباشرةً بوصفه فردًا عينيًّا، ويدعونا إلى
أن
نكمل تحققنا منه في تجربةٍ حية، ولا يمكن أن يكون الإدراك الحسي والخيالي منفصلَين
تمامًا عن الواقع، ورغم ما بينهما من بونٍ شاسع، فلا يمكن أن يكون الواقع بمنأى عنهما،
وإنما يدخل الواقع مجال الإدراك الحسي بتوسط الصورة، فوظيفة الإدراك الحسي تخيلية imaginative مثلما هي تمثُّلية representative (أو محاكية imitative)، وهي ليست تخيلية بمعنى الإغراق في الخيال والبعد عن الواقع،
وإنما بمعنى تكوين صورة في المخيلة تكون جزءًا لا يتجزأ من الواقع، فالإدراك الحقيقي
هو
إدراك عن طريق صورة عينية. ومهما كانت كثرة صور الموضوع أو أوجهه في الوظيفة الإدراكية،
فإنها تقوم بدور الوسيط في نقر الموضوع التي هي صورة له، بما يتصف به من واقعية
(وبالتالي من حقيقة أساسية). ففي الصورة، سواء أكانت كافية أم غير كافية، وسواء أكانت
تعبيرًا أمينًا أم غير أمين عن الموضوع، يُنْقَل الواقع دائمًا، مهما كان الأمر،
ويمكن
أن يصل فيها إلى حد الاكتمال. وحتى في الحالات التي يبدو فيها الإدراك بعيدًا كل
البعد
عن الواقع، بل ومنفصلًا تمامًا عنه (كما في تخيل الشاعر أو ابتداع القصاص) نستطيع
أن
نلمح مع ذلك بوضوح طابع الواقع، ويكون هناك دائمًا شيءٌ واقعي (وذلك دائمًا بمعنى
أنه
شيءٌ فردي عيني يمكن إدراكه حدسيًّا إلخ) هو الأساس الكامن من وراء الخيال، ولكن
المعرفة لا تقبض على ناصية الواقع، لكي تصل منه إلى الحقيقة، إلا عن طريق الصور دائمًا.
وبفضل وجهة النظر هذه ينكشف المعنى العميق للكلمات المنقوشة على مقبرة نيومان في
«ردنال Rednal»، بالقرب من مدينة برمنجهام، وهي
«من الظلال والصور إلى
الحقيقة Ex Umbris of Imaginibus in Veritatem».
وأخيرًا ينبغي أن نضيف إلى الإدراك الحسي والخيال أداةً ثالثة للإدراك الحقيقي هي
الذاكرة، فهنا أيضًا تكون إزاء نوع من المعرفة العينية الشبيهة بالتصويرية، نتصل
عن
طريقها بالوجود الواقعي، بحيث يكون الحادث المتذكر مشابهًا تمامًا للموضوع المدرك
حسيًّا والمتخير، مع فارقٍ واحد هو أنه يحدث في صيغة الفعل الماضي.
أما الإدراك التصوري فيختلف اختلافًا تامًّا عن كل إدراكٍ حقيقي، فهو لا يتخذ من
«الصورة» وسيطًا لفاعليته، بل إن وسيطه الرمز والعلامة، وهو لا يتصل بالطبيعة الحقيقية،
وإنما يشيد فوقها عالمًا خاصًّا به هو عالم العقل الذي يتكون من تصورات وتحديدات،
ومن
استدلالات واستنباطاتٍ منطقية، أي بالاختصار من رموزٍ غير واقعية. هذا النوع من الإدراك
هو الأداة المستخدمة في كل معرفةٍ علمية، وهو مشروعٌ تمامًا، بل لا بد منه في مجال
العلم، ولا يمكن أن ترفض ادعاءاته إلا عندما تتعدى على المجالات الأخرى، كما يحدث
في
تلك العصور التي تتجه نحو النزعة
العقلية intellecetualism. ومن الواضح أن نيومان يقصر قدرة العقل على حدودٍ ضيقة، ويبخس
التصور حقه، وهو يكشف دائمًا عن تفضيل لما هو عيني وفردي، وما هو موضوع لإدراكٍ حسيٍّ
واضح، وللواقع غير العقلي المجرب مباشرةً، وهو يبالغ في تفضيله على حساب المعقول
والكلي
والمجرد، أي ما يتم يتوسط العمليات المنطقية أو بالاستدلال منها.
وإن ما يصح على فعل الإدراك لَيصح بنفس القدر على فعل التصديق assent، فهنا أيضًا نجد نفس التقابل بين التصديق الحقيقي والتصديق
التصوري، أو بين التصديق المطلق والاستدلال، ولسنا في حاجة إلى تتبع تفاصيل هذا
الموضوع؛ إذ إن مناقشته كلها تسير في خطٍّ موازٍ لمناقشة الموضوع السابق. ويعني نيومان
بالتصديق فعلًا ذهنيًّا لا يمارس فيه العنصر العقلي من طبيعتنا فحسب، وإنما تتضمن
فيه
شخصيتنا الكاملة، بما فيها من عواملَ عاطفيةٍ وإرادية، على نحوٍ أقوى بكثير مما يحدث
في
العنصر العقلي. فالتصديق نوع من الاستجابة الكاملة لموقفٍ فعلي معين أو ظرفٍ خاص،
وقد
تلعب العلميات المنطقية دورًا فيه، غير أن هذا يكون دائمًا دورًا ثانويًّا، فالتصديق
فعل عيني مباشر، وهو فعل شخصي تمامًا، وليس قابلًا للتحليل أبعد من ذلك، وهو في أساسه
واحد غير منقسم، ولا يقبل درجات أو فروقًا في القوة. وهو مطلق في كل لحظة، وحتى حيث
يكون مشكوكًا فيه، يكون عنصر الشك متضمنًا في القضية أو الواقعة التي يوجَّه إليها
فعل
التصديق، لا في فعل التصديق ذاته. والأمر على خلاف ذلك تمامًا في الاستدلال، الذي
هو
دائمًا مشروط وغير مباشر، والذي يمر بدرجاتٍ مختلفة من التأكيد، ولكنه لا يتجاوز
أبدًا
اليقين النسبي للاحتمال ليصل إلى اليقين المطلق للتصديق. غير أن هذا الانتقال من
الاحتمال إلى التصديق ينبغي أن يتم إذا أردنا أن يكون لنا من الحقيقة نصيب، ولن تساعدنا
على تحقيقه أية تجريداتٍ تصورية أو سلاسلُ منطقية من البرهان والاستدلال. وإنما الذي
يلزمنا نوع من الشعور العيني أو النزوع إلى الحقيقة، الذي ينبغي بالتالي أن يرد بأكمله
إلى اليقين الذاتي الباطن للروح الفردية، وإلى القرار الشخصي للذهن الذي يدرك ويحكم.
مثل هذا القرار ليس ناتجًا عن عملياتٍ منطقيةٍ مطولةٍ معقدة، وإنما هو يقوم على نوع
من
الإدراك الحدسي الذي يرتكز، لا على ملكة التفكير في الإنسان فحسب أو على فهمه، وإنما
على شخصيته الكاملة؛ ذلك لأن «ما هو برهان بالنسبة إلى ذهنٍ ما، ليس كذلك بالنسبة
إلى
ذهنٍ آخر، وإن يقين قضيةٍ ما ليرتد في الواقع إلى يقين الذهن الذي ينظر فيها.»
ويطلق نيومان على هذه القدرة الذاتية على إدراك الحقيقة، وهي القدرة التي تنطوي على
ما يزيد كثيرًا على ملكاتنا العقلية بأسرها، اسم «الحس الاستدلالي illative sense»، وهو يعني بهذا اللفظ المنهج الأصيل للاستدلال،
الذي لا يقتصر على استخدام التجريدات المنطقية والعمليات التصورية، والذي نستطيع
بفضله،
رغم ذلك، أن ندرك الحقيقة ذاتها في كل تراثها وحيويتها، وفي طابعها العيني الفردي.
ولكنا هنا إزاء موهبةٍ شخصية، تقتضي تدخل الإنسان بأكمله، لا مجرد ملكةٍ منفصلة بطريقةٍ
سطحية، لا تكون بنفسها قادرة أبدًا على التعرف على الواقع أو بلوغ الحقيقة، «فليس
ثمة
معيارٌ نهائي للحقيقة، بمعزل عن الشاهد الذي يواجه به الذهن ذاته الحقيقة.» ولما
كان
المعيار الوحيد للحقيقة هو اليقين الذاتي للذهن الفردي، كانت موضوعية الحقيقة مبنية
على
هذه الذاتية، أي على الصواب المطلق لهذا الحس الاستدلالي الذي تفهم به الحقيقة.
هذا العرض السريع للأفكار الرئيسية في نظرية المعرفة عند نيومان يكشف بوضوح عن مدى
خطأ أية محاولة تُبذَل لإيجاد أي ارتباط بين مذهبه وبين النظرية المدرسية، والأصح
من
ذلك أن يقال: إن جذور مذهبه إنما تكون في المذاهب الكلاسيكية للتجريبية الإنجليزية،
وإنه على حين يستمد كثيرًا من لوك وباركلي وبطلر، يعمل في الوقت ذاته على إعادة صياغة
ما أخذه من هذه المصادر بطريقةٍ حرة، ولا يتخذ موقف الاعتماد الكامل لتنفيذ مخلص
(وهذه
نقطة لا يتعين علينا مناقشتها بالتفصيل). فكل شيء في مذهبه يتخذ طابعه الذهني الخاص
ويمتلئ به، وهو لا يستمد من التراث الذي يتصل به غذاءً يتمثله، وإنما يستمدُّ منه
جوًّا
ذهنيًّا يستنشقه. وإلى هذا الحد يمكن القول: إن التراث التجريبي قد طرأ عليه هنا
تجديد،
ولكن على يد مفكر ليس وثيق الارتباط به، وإنما كان في قرارة نفسه مبتعدًا عنه ابتعادًا
أساسيًّا.
كذلك يمكن تحديد نقط الْتقاء بينه وبين أنواع النظريات التالية له، فضلًا عن السابقة
عليه، مع تحفظاتٍ معينة في كل حالة. ومن أمثلة هذه النظريات، «فلسفة الحياة» عند
برجسون، والبرجماتزم عند جيمس، غير أن تعاليم نيومان لم تجد في هذه النظريات إلا
صدًى
غير دائم، وفضلًا عن ذلك فإن تحليلات نيومان الوصفية الدقيقة والعميقة لظواهر الإدراك
والتصديق والاحتمال واليقين تشير مقدمًا — كما لاحظ «تيودور هيكر
Theodor Hacker»
٢ — إلى أوصاف هوسرل الفينومينولوجية، وإن لم يكن من الممكن إثبات أي ارتباطٍ
تاريخي بين هذين المفكرَين. ومن هذا كله نستنتج أن فلسفة نيومان النظرية كانت تنطوي
في
ذاتها على عددٍ غير قليل من الأفكار ذات الدلالة البالغة بالنسبة إلى المستقبل، وهي
أفكار لم تظهر بالفعل إلا بعده بوقتٍ طويل، كما نستنتج أنه رغم كل الامتداد العميق
لجذورها في الماضي، فقد قامت بدورٍ ملحوظ في التمهيد للتطور التالي للفكر.
ولكنا لو نظرنا إلى نقد نيومان للمعرفة على أن له غرضًا نظريًّا بحتًا لكُنَّا بذلك
نسيء فهمه؛ فهدفه منذ البداية عملي، أعني إثبات الإيمان الديني، ومن ثَم فهو يحتل
مكانته في سياقٍ أوسع لا يكتسب معناه الكامل إلا فيه. «فنظرية المعرفة» هي الأساس
والمرحلة الأولى بالنسبة إلى «نظرية الدين» التي تنتقل إليها آخر الأمر، ولكن حتى
في
هذه الحالة بدورها، أي في هذه المشكلة الجديدة التي تواجه نيومان الآن، ينصب اهتمامه
الأول والأكبر على الجانب الذاتي للدين، أي على إدراك العنصر الإلهي في الوعي البشري.
ومع ذلك ينبغي أن نؤكد أن هذا لا يعني صبغ الدين بالصبغة الذاتية أو نزع الصفة
الموضوعية عنه، وإنما يعني فقط أن الاهتمام الأكبر لهذا المفكر ينصب على الجانب الذاتي،
فهو في كل الأحوال يسلم بالدين من حيث هو حقيقةٌ موضوعية، ولما كان يؤلف الأساس الثابت
لكل إيمان، فإنه لا يقتضي أي دعمٍ نظريٍّ مستقل. وإذن فالمشكلة الفلسفية التي تواجه
نيومان تؤدي إلى السؤال التالي: على أي نحو يشارك الذهن البشري في الحقيقة الإلهية؟
وبأي الوسائل المعرفية يتمكن من إدراك هذه الحقيقة؟
وعندما يلاحظ نيومان في أحد المواضع أن هناك
بالنسبة إلى كل منا حقيقتَين نهائيتَين فحسب، هما ذاتنا والله، فإنه يقول بالحقيقتَين
الأوليَين اللتين يهتم بهما التفكير الديني، أعني نفس الإنسان والوجود الإلهي. هاتان
الحقيقتان ينبغي أن تتميزا عن أي كيانٍ آخر فيما يتعلق بالطابع الخاص لحقيقتهما؛
إذ لا
يتصف أي شيءٍ آخر بهذا القدر الرفيع من الشخصية والعينية والفردية والحيوية؛ ذلك
لأن
نيومان لا يعني بلفظ «الحقيقي» أي موجود بما هو كذلك، وإنما هو يستخدم اللفظ دائمًا
بالمعنى القطعي الذي تدل عليه تلك الصفات الأربع التي عددناها الآن. ومن الواضح،
من
وجهة النظر هذه، أن حقيقة الله هي أرفع ما يتسنَّى لتجربتنا الوصول إليه؛ إذ إنها
هي
العينية وقد رُفِعت إلى أعلى درجات القوة.
وهكذا نستدل بكل وضوح، من وجهة النظر التي اتخذها نيومان في نظريته هذه، على أنه يرى
أن إدراكنا لهذه الحقيقة (وتصديقنا عليها) إنما يتم على نفس النحو الذي يتم عليه
إدراكنا للحقيقة العينية بوجهٍ عام، أعني إدراكنا لذاتنا وللذوات الأخرى وللعالم
الخارجي. ولكن هذا يعني أن العقل والوظائف العقلية المرتبطة به، لا تقوم وحدها في
هذا
الصدد بأي دور، أو لا تقوم بأي دورٍ ضئيل، وإننا نحتاج ثانية إلى تدخل الشخصية الكاملة،
والجانب العملي فيها على التخصيص، إذا ما شاءت النفس الوصول إلى الحقيقة الإلهية.
وفي
هذا الصدد يكتب نيومان قائلًا: «من المحال أن يكون للبرهان المنطقي دور في الموقف
العيني الذي يتعين عليَّ مواجهته.»
فوجود الله لا يمكن الاستيقان منه بعملية استدلال، ولا يمكن أن يتكشَّف بوصفه الحلقة
الأخيرة في سلسلة قياساتٍ منطقية، وإنما هو يقتضي ذلك النوع من «الإدراك الحقيقي»
المباشر تمامًا، وذلك «الحس الاستدلالي» الحدسي، الذي تتفاعل فيه كل قوانا وتطلق
فيه كل
مقدراتنا الذهنية. ولسنا هنا إزاء ملكةٍ ذهنية على التخصيص، بل ولا أي نوع من الملكة
«الخاصة» التي تكون لها حرية العمل مستقلة عن الشخصية في مجموعها، وإنما هذا نشاط
يتم
فيه تنسيق الأجزاء المتعددة في هذا الكل على نحو يصل فيه وجود الإنسان بأكمله إلى
أعلى
قدرةٍ ممكنة على الإدراك، ولا شك أن العوامل العقلية تشارك في هذا النشاط، وإن تكن
القيمة التي تعزى إليها ضئيلة، كما يشارك فيه الشعور، وإن يكن نيومان ينظر بعين
الارتياب الشديد إلى الشعور، عندما يتخذ أساسًا للإيمان الديني «فالدين، من حيث هو
مجرد
شعور، هو بالنسبة إليَّ وهم ومهزلة.»
وهكذا فإن نيومان لا يعطي المكانة الأولى في مذهبه للذهن ولا الشعور وإنما للضمير،
وعلى ذلك فمن الواضح أن البواعث الأخلاقية هي الأقوى تحكمًا في نظريته الدينية، ولقد
كان يحرص بقوة على استقلال الحياة الأخلاقية، ولم يسمح بحاجته العميقة إلى الإيمان
الديني بتعريض هذا الاستقلال للخطر، بل إنه — رغم نجاحه في التوفيق بين الأخلاق والدين
— كان يركز جهده في ربط الأخير بالأولى لا العكس، وهذه هي أفضل وسيلة لتفسير الاتجاه
التشاؤمي في طبيعة نيومان، فقد عانى، على نحو أعمق من معظم المفكرين الدينيين في
عصره،
من التقابل المستقطب الذي يميز الحقائق الأساسية للحياة الأخلاقية، والتعارض الصارخ
بين
الخير والشر والصواب والخطأ، وهو لم يشأ أن يعبر الهوة الفاصلة بين طرفَي هذا التقابل
بطريقةٍ سطحية، وذلك بالالتجاء إلى الحب الإلهي والخيرية الإلهية، وإنما أحس بسطوة
الشر
والألم كاملة في العالم، وعانى من أجل ذلك كل ما يمكن أن تستشعره نفسٌ شديدة الحساسية
من ألم، ولقد كان يؤثر دائمًا رسم صورته للعالم بألوانٍ قاتمة. غير أن تشاؤمه لم
يكن
منبعثًا عن احتقار العالم بقدر ما كان مصدره العزوف عنه، وكان هروبه الزاهد من العالم
تعبيرًا عن التعاطف والاستسلام المعذب، أكثر مما كان تعبيرًا عن التحقير
والازدراء.
وهكذا فإن الأولوية المنسوبة إلى الضمير هي التي تكشف عن الاتجاه الأخلاقي في تعاليم
نيومان الدينية، فالضمير هو — أولًا وقبل وكل شيء — تلك الأداة التي تصل بها النفس
الفردية إلى معرفة الطبيعة الإلهية وإدراكها، وهو المدخل الذي يوصل ما هو إلهي إلى
الطبيعة البشرية، فذلك «الإله الذي هو في الضمير» هو بالنسبة إلى نيومان حقيقة لا
تقل
أهمية عن إله الوحي وإله الكنيسة. وللتجربة الدينية أهمية تعادل أهمية الدين الموضوعي،
بل تزيد عليه، وعلينا أن نبحث عن الله في ذلك الطريق الذي يبدأ صعودًا من النفس
البشرية، وهنا أيضًا تكون نقطة بداية نيومان — كما هي دائمًا — هي الفردي والشخصي
والعيني. وهذا الطريق واحد من وجهة نظر الأخلاق، فالإلزام الخلقي لا يكون حقيقيًّا
لأن
هناك إلهًا، بل إن الأمر على العكس من ذلك، فنحن نعترف بوجود الله لأننا نشعر بوجود
الإلزام الخلقي، فالضمير هو وسيط المبدأ الإلهي وجزاؤه؛ ولذا فإن نيومان يبدي اهتمامًا
خاصًّا بتحليل وقائع الضمير بأكبر قدر من الدقة الفلسفية حتى يبرز طابعه الحقيقي
المقابل لأوجه النشاط الأخرى للنفس البشرية. والضمير أداة موثوق منها تمامًا للمعرفة،
ولها من الأهمية في الكشف عن الألوهية العالية ما للإدراك الحسي في معرفة العالم
الخارجي، وهو إدراك يعادل الإدراك الحسي في حقيقته، غير أنه إدراك لموضوعٍ آخر، أي
لأعلى الحقائق وأكثرها عينية، وهي الحياة الإلهية؛ ولذا كانت جذوره متأصلة، لا في
ظلام
الشعور الدامس، أو في الأحوال الانفعالية المتقلِّبة، وإنما في ضوء الفكر الناصع.
وكل
ما في الأمر أن هذا التفكير ليس هو التفكير المجرد غير المباشر الذي هو غريب عن
«الحقيقة العليا»، وإنما هو تفكيرٌ عينيٌّ حدسيٌّ وثيق الارتباط بالحياة، ويبلغ تحققه
في «الحقيقة العليا».
وهكذا ينبغي أن نؤكد على الدوام هذه الحقيقة، وهي أن الإيمان الديني هو في نظر نيومان
أمرٌ شخصي وذاتيٌّ محض قبل كل شيء، تختص به كل نفس على حدة، وتتمكن بفضله من الوصول
إلى
الله بذاتها مباشرةً، ومن أن يكون لها نصيب في نوع من المعرفة الطبيعية للألوهية.
ولقد
كان من الواجب أن تؤدي نقطة البداية هذه إلى البروتستانية المتطرفة، أو حتى إلى
الصوفية، ولكنه في الواقع قد سار في الاتجاه المضاد الذي أدى به إلى الإيمان الكامل
بالكنيسة الكاثوليكية. وربما بدا هذا غريبًا للوهلة الأولى، وقد يؤدي بنا إلى الشك
في
وجود انفصامٍ أساسي في تعاليم نيومان. غير أن ذلك التنافر المنطقي الذي يمكن كشفه
في
تفكير نيومان، وأعني به اقتران أشد أنواع الإيمان الديني شخصية بأقوى تمسك بالسلطة
الخارجية، لا تكاد تكون له أهمية من وجهة نظره الخاصة. فالواقع هو أن نيومان قد تمكن
من
تحقيق الانتقال من الداخل إلى الخارج، ومن الاستقلال الذاتي الفردي إلى السلطة
الخارجية، ومن التجربة الشخصية إلى الكنيسة والعقيدة، دون أن يرتكب أية تضحية بالعقل
أو
يبخس أيًّا من الجانبَين المتعارضَين حقوقه. وهكذا اعترف بضرورة وجود مصدرَين للإيمان
الديني: إله الوحي فضلًا عن «الإله الذي في الضمير»، وسلطة الكنيسة وتنظيمها فضلًا
عن
تجربة النفس، والتمسك الموضوعي الملزم بالعقيدة فضلًا عن الاقتناع الذاتي. وهكذا
فإن
الصفة الخاصة التي تتميز بها فلسفة نيومان الدينية هي أنها تعطي حقًّا متساويًا لكلا
العاملَين، وتجمع بين الاثنين في مركبٍ متآلف.
ففي كتاب «قواعد التصديق» يقتصر اهتمام نيومان على الجانب الذاتي للدين، بينما انصبَّ
هذا الاهتمام، في كتابه الأسبق من هذا بكثير، الخاص بتطور التعاليم المسيحية، على
الجانب الموضوعي في المحل الأول، والفكرة الأساسية التي تبرز إلى الأمام ها هنا هي
أن
حقيقة الدين لا يمكن أن تفصل عن تاريخه. وهكذا تغدو فكرة التطور development
(evolution) هي اللحن المميز لهذه المناقشة لماهية
الدين منظورًا إليها من الوجهة الموضوعية، وهنا ينبغي أن نؤكد منذ البداية أن مفهوم
التطور development عند نيومان ينتمي من الوجهة
الزمنية إلى عصرٍ سابق على نظرية التطور الداروينية، بل إن نقط التلاقي بينه وبين
مبدأ
التطور عند دارون وسبنسر تبلغ من القلة حدًّا يجعله يصل إلى التناقض مع هذا الأخير
في
المسألة ذات الأهمية الحاسمة. ومن واجبنا، إذا شئنا أن نربط مفهوم التطور
(dev.) عند نيومان بمفاهيمَ موازية له تاريخيًّا،
أن نتأمل الصورة التي اتخذها هذا المفهوم في مذاهب أرسطو وليبنتسر وهيجل. غير أننا
سنصرف النظر هنا عن العلاقات التاريخية للفكرة، وأطرفها في هذا الصدد هو البحث في
مسألة
التأثير الممكن (والذي ليس مع ذلك أمرًا قريب الاحتمال) لنظرية هيجل؛ ذلك لأن أفكار
نيومان هي كشوفٌ أصيلة تنتمي إليه قبل غيره، ولا يحتاج إلى راعٍ يتحدث مؤيدًا
لها.
وهو يعرض الأساس الفلسفي لتطور التعاليم المسيحية في حجة تتعلق قبل كل شيء بتطور
الأفكار بوجهٍ عام. وبهذا تنقل المشكلة منذ البداية إلى الميدان الذهني، وفي هذه
الواقعة نفسها نجد فارقًا أساسيًّا بين نظرة نيومان وبين نظرات المذاهب الطبيعية
(naturalistic) التالية، فالأمر في حالة التركيبات
الذهنية أو الأفكار مماثل له في حالة الأشياء الجسمية المدركة حسيًّا، فالشيء لا
يكشف
في البداية إلا عن هذا الوجه أو ذاك من جوهره، تبعًا للاتجاه الذي ينظر إليه منه،
ويتمثل لنا في هياكل وتخطيطاتٍ متعددة تتزايد تجمعًا لتكوِّن «وجهًا كليًّا» للشيء،
تبعًا لمقدار دقة الملاحظة وطولها. وكذلك الحال في الفكرة، فهي تُقاس تبعًا للكل
الذي
تكوِّنه أوجهها الممكنة، وهي الأوجه التي قد تتباين كثيرًا تبعًا للأفراد الذين
يدركونها، وترتبط قوة الفكرة وعمقها ارتباطًا محددًا بكثرة الأوجه التي تتمثل عليها
وتنوعها، وليس ثمة وجه يبلغ من العمق حدًّا يجعله يستوعب كل محتوى فكرة عينية، كما
لا
يوجد أي تعبيرٍ لغويٍّ قادر على تعريفها بأكمل معانيها. غير أن كل هذه الأوجه المتباينة
يمكن أن ترتبط بالفكرة بوصفها نقطة تلاقيها المشتركة، وأن تندمج فيها، ومهما بدا
من
تباينها وتنوعها في الوهلة الأولى، فإننا كلما أمعنَّا النظر فيها وأطلنا تأملها،
وجدناها تزيد من تأكيد حقيقة الفكرة التي تنتمي إليها، ومن تكاملها وأصالتها وقوتها.
ويطلق نيومان اسم التطور الذهني للفكرة على هذه العملية التي يحدث خلالها — سواء
طالت
أم قصرت — تبلورٌ داخلي للخطوط العامة للفكرة، بحيث تقترب من معناها الأساسي، ولكنا
نستطيع أن نشبِّه هذه العملية بالمجرى الذي يكون أصفى ما يكون قرب منبعه. ولكن الفكرة،
على العكس من ذلك، تزداد نقاءً وخصبًا كلما ازداد حوض المجرى الذي استُمِدَّت منه
امتلاءً وعمقًا. وهذه الاستعارة توحي بأن البدايات التاريخية لأية فكرة لا يمكن أن
تُتخذ مقياسًا لقيمتها وأهميتها، بل إنها تزداد اكتمالًا كلما حققت نفسها خلال الزمان
بمزيد من العمق، ورغم أنها تظل بمعنى معين نفس الفكرة خلال تحولاتها، فإنها في دورتها
النهائية تكون أقرب إلى الاكتمال مما هي في مظهرها الأول أو في أية مرحلةٍ وسطى.
وهكذا فإن مركز الثقل في هذا العرض للتطور التاريخي يقع، على النقيض تمامًا من وجهة
النظر الطبيعية naturalistic، في المراحل المتأخرة
للعملية لا في مراحلها الأولى، وفي نهايتها لا في بدايتها، فمعنى أية فكرة (وهو ما
يقصد
به دائمًا تركيب عيني أو قوة حية للذهن تكون لها رسالةٌ تاريخية تحققها) لا يعبر
عنه —
عند بداية ظهور الفكرة على المسرح — بنفس القوة والفعالية التي يعبر بها عنه في عصور
الحضارة الأرقى والأكثر نضوجًا. ولا يرجع ذلك إلى الفكرة ذاتها بقدر ما يرجع إلى
طبيعة
إدراك الذهن البشري لها — وهو إدراك يكون دائمًا ناقصًا غير مطابق للحقيقة الكاملة
للفكرة — ولا يمكن الكشف عن جميع الأوجه المتضمنة فيها، بكل ما فيها من ثراء إلا
بعملية
نمو وتقدم تدريجية؛ ولذا فإن الزمان عاملٌ ضروري في نمو الفكرة، أو لتمكن من يتلقونها
من فهمها والتيقن منها، والأمران سيَّان. ولا تتحقق عملية الاستيضاح هذه إلا خلال
تاريخها، وهي تتحقق بدرجاتٍ متزايدة بقدر ما يزداد نضوج وعمق الطريقة التي يفهمها
بها
أولئك الذين تمر بهم هذه الفكرة. وعلى ذلك فمن الواجب التمييز بين فهم الذهن العارف
للفكرة أو تحقيقه لها، وبين الفكرة ذاتها، فالأول يمر بعدة تحولات ويخضع للتطور،
أما
الثاني فيكون على ما هو عليه من البداية، وطوال هذه المراحل كلها. وإذا كانت حقيقتها
تزداد بالتدريج تكشفًا خلال تاريخها، فما ذلك إلا لأنها كانت منذ البداية متضمنة
في
داخلها، فتاريخها وماهيتها ينتميان أساسًا كلٌّ منهما إلى الآخر، وما الأوجه المختلفة
التي تتكشف فيها، والتي يؤلِّف مركبُها صورتها النهائية، ما هي إلا مجرد «لحظات»
أو
انبثاقات لما هو منتمٍ إليها في الأساس، وهي لا تضاف إليها من الخارج، وإنما تنمو
من
داخلها نموًّا عضويًّا. وبعبارةٍ أخرى، فالفكرة تظل محتفظة بطبيعتها الأساسية مع
تغير
أوجهها المختلفة، ومهما تغير تمثلها الخارجي أو تطور، فإنها هي ذاتها تظل دون تغير،
وهكذا يتضح أن التطور development بالمعنى الذي استخدمه
نيومان يختلف من حيث المبدأ عن المعنى «التطوري evolutionary» الذي تنطوي عليه الكلمة في المذهب الطبيعي Naturalism، فلا شأن له بعمليات التغير الآلية
العِلِّية في عالم المادة، ولا بالنمو البيولوجي وتكوين الكائنات العضوية عن طريق
سلسلة
دائما الارتفاع من المستويات التي تزداد على الدوام تفاضلًا
(differentiation)، وإنما هو يعني بالفعل شيئًا
ذهنيًّا أو روحيًّا خالصًا، ويعني تحقيق ماهية الأفكار خلال مجرى تاريخها، وتكشف
هذه
الماهية في الفهم المتزايد للذهن المدرك، كلما برز تارة هذا الوجه، وتارةً أخرى ذاك
الوجه من أوجه المعنى الكامن الواحد.
ومن السهل الآن أن نقوم بتطبيق هذه الأفكار على تاريخ الديانة المسيحية والكنيسة
المسيحية، وهو الأمر الذي كان الموضوع الأول لاهتمام نيومان؛ فالمذهب المسيحي إنما
هو
فكرة كهذه، مرت عبر القرون بتعديلاتٍ متعددة، كانت فيها تكشف عن ماهيتها على نحو
يزداد
على الدوام ثراءً وعمقًا وامتلاءً، وهذه التعديلات ليست مجرد تغييراتٍ عشوائيةٍ مفككةٍ
متعاقبة طرأت على المذهب كما أُوحِيَ به في الأصل، بل إن تاريخ العقيدة يدل، على
العكس
من ذلك، على أن كل شيء قد سار ها هنا بأكبر قدر من الانتظام، وفي اتجاهٍ واحد تحدده
الفكرة ذاتها مقدمًا. فالفكرة المسيحية قد نمت عضويًّا، وهي قد مرت بعمليةٍ أصيلة
من
التطور (dev.)، من بدايتها حتى يومنا هذا، دون أن يتأثر
بذلك معناها الأساسي. وقد ظلت على الدوام تكشف عن صور وجوانبَ جديدة من وجودها لفهم
البشرية النامي والمتزايد عمقًا، بحيث لم يزدها ذلك هزالًا وضعفًا، وإنما زادها نضوجًا
واكتمالًا وفعالية. ولقد استطاعت أن تجاري التقدم العام للمدنية حتى أعلى مستويات
العقل
والثقافة، واكتسبت مزيدًا من الرسوخ والامتلاء ومن القوة والوضوح على قدر ما كانت
تصل
إليه المدنية من سمو؛ ذلك لأن من أوضح مظاهر ثراء المسيحية الذي لا ينفد، أن محتوى
فكرتها لا يمكن أن يُدْرَكَ كله دفعةً واحدةً أو على نحوٍ نهائي، وإنما ينبغي أن
يكون
الزمان (بمعنى «المدة durée» عند برجسون) خلاقًا فيها؛
ليتيح لكل ما تنطوي عليه أن ينمو فيها عضويًّا، وأن يكشف عن ذاته بالتدريج. وكلما
كانت
الفكرة التاريخية أعقد وأكثر عينية، كانت أقدر على الامتداد خلال فترةٍ زمنيةٍ أطول.
ولا يشك نيومان، من جانبه، في أن الفكرة المسيحية تفوق بكثير كل الأفكار الأخرى تعقدًا
وعينية، وبالتالي خصبًا في تطورها التاريخي، وقد أثبت هذا الموقف الأساسي فعاليته
بوجهٍ
خاص في موضوع تاريخ العقيدة، الذي طبقه نيومان عليه بطريقةٍ مثمرة إلى أقصى حد، وإليه
قبل غيره يرجع الفضل في تحول مفهوم «العقيدة Dogma»
الجامد إلى وجهة نظر عضوية أكثر حيوية، لم تجرؤ حقًّا على زعزعة سلطة العقيدة وطابعها
الإلزامي، وادعائها امتلاك حقيقة تسمو على الزمان، ولكنها لقيت قبولًا واسعًا نظرًا
إلى
نسبتها التاريخية، وبالتالي ارتباطها الحيوي بتطور الذهن.
ولقد اكتملت نظرية نيومان في تطور الأفكار عامة، وتطور المذهب المسيحي خاصةً، على
نحو
يحفظها من جمود التعصب ومن النزعة المذهبية الفارغة، والعنصر الآخر في نظريته هو
التمييز الهام الذي يقول به بين التطور (dev.) الأصيل
أو السليم، والتطور الزائف أو الباطل، ويطلق نيومان على النوع الأخير اسم: فساد الفكرة،
وهو يخصص الباب الثاني والأكبر من كتابه لمناقشةٍ مفصلة زاخرة بالأسانيد للعلاقة
بين
التطورات الأصيلة لأي مذهب، والتطورات المفسدة له. وهو هنا يهتم بمسألة المعايير
التي
يمكننا أن نميز بها التطور الأصيل من الزائف، وظاهرة التقدم الحقيقي من ظاهرة التأخر،
وهو يضع نظرية لهذه المعايير بشيء من التفصيل، فهناك بوجهٍ خاص سبع صفات تدل على
أن
الفكرة تنمو عضويًّا، ولم يدب فيها الفساد بعدُ. فالفكرة تكون كذلك إذا كانت:
(١) تحتفظ بشكلٍ نموذجيٍّ واحد، (٢) وتكشف عن مبادئَ محفوظة على الدوام، (٣) وتظل
لها
القدرة على الاستيعاب أو التمثل assimilation، (٤)
وتستبق بداياتها الأولى مراحلها التالية، (٥) وتكون أوجهها المتأخرة قادرة على تبرير
أوجهها المتقدمة ودعمها، (٦) وعندما تتمكن من الاحتفاظ بمضمونها الأصلي، وبالتالي
بعث
حياةٍ جديدة فيه على الدوام، (٧) وأخيرًا، عندما تكون لها حيويةٌ باقية طوال مراحلها.
وإن توافر هذه الشروط في المسيحية (ولا سيما تلك الفكرة التي تدعو إليها كنيسة الروم
الكاثوليك عن المسيحية) بدرجةٍ أعلى مما تتوافر في أية حركة أخرى في التاريخ، وكونها
قد
استطاعت حتى الآن أن تتغلب على جميع الاتجاهات التي هدفت إلى القضاء عليها، وتغلبت
ظافرة على كل المؤثرات المفسدة؛ لهو في نظر نيومان الدليل الكافي على أن المسيحية
ستحتفظ في المستقبل أيضًا بقدرتها على الحياة، بل وسوف تتمثل أيضًا على أنها قوةٌ
حية
في الذهن، تشهد رسالتها التاريخية في الماضي بعظمتها أبلغ شهادة وأعمقها.
•••
وإذا استثنينا نيومان، الذي كان المفكر الوحيد المنتمي إلى الصف الأول من بين رجال
«حركة أكسفورد» فلن نجد إلا شخصيةً واحدة في هذه الحركة كانت لها ميولٌ فلسفيةٌ قوية
وقدرة على التفلسف، تلك هي شخصية «وليام جورج
وورد William George Ward»، (١٨١٢–١٨٨٢)، ولقد ساهم وورد، الذي كان ينتمي إلى الجناح
الأكثر تطرفًا في الحركة، بدورٍ كبير في فصل الحركة عن الكنيسة الإنجليكانية، وتم
تحوله
نهائيًّا إلى الكاثوليكية حتى قبل نيومان ذاته (في سبتمبر ١٨٤٥)، وقد حاول وورد أن
يعبر
تعبيرًا رسميًّا دقيقًا ومنهجيًّا عن تلك العناصر التي كانت بالنسبة إلى نيومان كشفًا
فلسفيًّا ارتفع من أعماق روحه إلى مستوى التفكير الواضح. ولم يكن وورد أكثر ميلًا
من
نيومان إلى العودة إلى المدرسية لاستمداد الوحي منها، ولكنه كان أوثق ارتباطًا
بالاتجاهات الفكرية المعاصرة له، والتي كانت صلته بها متينة، سواء عندما كان يعارض
أفكارًا سائدة في عصره أو عندما كان ينتفع بمعونتها. وقد عرض برنامجه الديني في كتابه:
«المثل
الأعلى لكنيسةٍ مسيحية The Ideal of a Christian Church» (١٨٨٤)، وهو مؤلَّف يوازي «تطور المذهب
المسيحي» عند نيومان. وقد تضمن هذا الكتاب أقوى، وربما أول، تعبير عن اتجاهات الكثلكة
في حركة أكسفورد؛ ومن ثَم فقد كان يمثل نقطة تحول في تاريخها. وقد مهد بطريقةٍ قاطعة
للانفصال الذي حدث بعده بعامٍ واحد. ولقد كان العامل الذي دفع وورد، وكل من جاروه
في
معارضته المتزايدة للبروتستانتية، هو المثل الأعلى للتقوى الزاهدة، وفكرة الحياة
المسيحية وقد تحولت إلى الباطن وأصبحت لها قداسة، وهي فكرة استحوذت عليهم تمامًا.
فكان
من الطبيعي أن تؤدي بهم هذه المعارضة آخر الأمر إلى تحولهم الصريح إلى هذا النوع
من
الإيمان، وإلى الكنيسة التي رأوا مُثُلهم العليا هذه تتحقق فيها على أفضل نحو، وأهم
المؤلفات التي عُرِضَت فيها آراء وورد الفلسفية، مؤلفان تاليان: أحدهما هو رسالته
«في الطبيعة واللطف
الإلهي On Nature and Grace» (١٨٦٠)، والآخر سلسلةٌ طويلة من الأبحاث ظهرت في مجلة
«دبلن ريفيو Dublin Review» (التي كان هو ذاته
مشرفًا على تحريرها)، فيما بين عامَي ١٨٦٧ و١٨٩٣، ونُشِرَت بعد وفاته في مجلدَين
عنوانهما «بحوث
في فلسفة مذهب الألوهية Essays on the Phil. of Theism» (١٨٨٤)، وأشرف على طبعهما ابنه «ولفرد وورد».
وتعرض هذه البحوث لذلك الخلاف الضخم الذي نشب بين حركة أكسفورد والمذهب التجريبي
عند
جون ستيوارت مل وأفراد مدرسته، بوصفهم أقوى مفكري ذلك العصر تمثيلًا للفلسفة الدنيوية،
وهذه البحوث أشبه بطرف مقابل لكتاب مل: «اختبار لهاملتن»، وهي تؤلف في الوقت ذاته
ردًّا
على هجوم مل، بقدر ما كان تفكير وورد قريب الشبه، في نقاط معينة، من تعاليم المفكر
الاسكتلندي هاملتن.
وقد وُجِّهَ نقد وورد إلى القضية الرئيسية في الفلسفة التجريبية، القائلة إن كل معرفة
لنا مستمدة من التجربة، وإن هذه هي المصدر الوحيد المشروع لليقين والحقيقة. فما علينا،
في رأيه، إلا أن نخطو خطوةً واحدةً نتجاوز بها المعطيات المباشرة للوعي، أعني أن
نتأمل
مثلًا، بدلًا من هذه المعطيات، الأفكار المستعادة التي تمدنا بها التجربة بطريق غير
مباشر؛ لندرك مدى استحالة وجهة النظر المقتصرة على التجربة، أو وجهة النظر «الظاهرية»
الخالصة (Pure Phenomenism) كما يسميها وورد في معظم
الأحيان كلما كان بصدد الكلام عن موقف مل. ذلك لأننا في حالة التذكر لا نهتم بالانطباع
الحاضر الذي يكون لدينا بحادثٍ ماضٍ، وإنما نهتم بالوجود الفعلي لهذا الحادث في الماضي.
وإن مجرد كوننا نتذكر، لَدَليل كافٍ على أن المعارف
(Cognitions) التي توصلها إلينا الذاكرة ليس لها
ضمان في التجربة المباشرة، بل إن علينا — لكي نفسر الذاكرة — أن نفترض معارف
(cognitions) لا يتم اكتسابها بالطريقة التي يقول
بها المذهب التجريبي. ومثل هذه النتيجة تصدق على كل معرفة يود المذهب التجريبي أن
يردها
إلى التجربة الخالصة والاستقراء، فعملية المعرفة Cognition لا تُبْنَى فقط على ما يجري بالفعل، وإنما تُبْنَى أيضًا —
وبصفةٍ دائمة — على نوع من المعرفة Knowledge لا صلة
له بالتجربة، لا بطريقٍ مباشر ولا بطريق غير مباشر، بل هو بالفعل مختلف عنها اختلافًا
أساسيًّا. ذلك هو «الحدس»، وليست الموضوعات التي تعرف بواسطته هي المعطيات الظاهرية
(Phenomenal) للوعي أو مشتقاتها، وإنما هي حقائقُ
أوليةٌ ضرورية ذات صحةٍ شاملة، تكون لنا بها بصيرة مباشرة تضفي على هذه الموضوعات
وضوحًا ذاتيًّا. وهكذا تؤدي فكرة وورد الأساسية هذه إلى تأكيده أن كل معرفةٍ بشرية
لا
تبدأ بالتجربة، وإنما تبدأ بحقائق معينة واضحة بذاتها. ومن ثَم فهي حقائقُ موثوق
فيها
على نحوٍ مطلق، يمكن إدراكها مباشرةً، ويكون يقينها كامنًا فيها هي ذاتها، وليس
مستمدًّا من أي شيء غيرها. فكل ما تعلن ملكات المعرفة البشرية أنه يقيني على نحو
لا
يتطرق إليه الشك، يعرف لذلك منذ البداية على أنه ذو صحةٍ مطلقة، واليقين الذاتي هو
المعيار الذي نقيس به الحقيقة الموضوعية. ومهما كانت الطرق الأخرى التي نتمكن بها
من
بلوغ المعرفة، سواء أكانت هذه الطرق تجربة أم ملاحظة أم استنباطاتٍ منطقية أم أية
طريقة
غيرها، فإن المعرفة الحدسية تكون على الدوام مفترضة مقدمًا، وهي تمثل تمهيدًا لا
غناء
عنه. وبهذه الحقائق التي تعرف على هذا القدر من الوضوح كان وورد يُشيِّد حصنًا ضد
هجمات
التجريبية السائدة عندئذٍ، لا يختلف كثيرًا عن ذلك الذي شيَّده فلاسفة المدرسة
الاسكتلندية، بل إن مذهبه قد احتل بالفعل مكانته في التيار الفكري الحدسي القوي الذي
أخذت تتجمع وتتلاقى فيه القوى المعارضة للمذهب التجريبي، دون أن تكون مع ذلك جبهةً
واحدةً مشتركة، وذلك قبل ظهور الحركة المثالية (بل وبعد ظهورها في بعض الحالات).
وعلى
أية حال فإنا نجد، في هذا الصدد، تقاربًا باطنًا بين مفكرَين من المدرسة الاسكتلندية
(مثل هاملتن ومانسل وماكوش) وبين مفكري حركة أكسفورد (مثل نيومان وورد)، وتلك الجماعات
الأخرى التي كانت أهمها جماعة مارتينو.
على أن المعارض بين المذهبَين التجريبي والحدسي أكثر من مجرد نزاع على نظرية المعرفة.
فلو تأملناه من منظورٍ أوسع؛ لوجدناه قائمًا على التقابل الفلسفي البعيد الأثر بين
مذهب
الألوهية Theism والاتجاه المضاد لمذهب الألوهية Anti-Theism؛ ذلك لأن إقامة مذهب
الألوهية، الذي كان هو موضوع الاهتمام الرئيسي لوورد، والذي لم يكن يقصد من نظريته
الحدسية في المعرفة إلا أن تكون تمهيدًا له، كان يعني بالمثل خصومة عنيفة ضد الاتجاه
إلى عدم الاكتراث بالدين لدى الشُّكَّاك واللاأدريين، الذين كان معظمهم يرجعون في
الأصل
إلى المعسكر التجريبي. وهكذا وقف يناضل ضد صبغ الفلسفة بصبغةٍ دنيوية، وهو الاتجاه
الذي
رأى أن المذهب التجريبي مسئول عنه أساسًا، ورأى في مقابل ذلك أن المهمة الحقيقية
والأهم
الملقاة على عاتق الفلسفة، هي إثبات الدين وإقراره. وهكذا فلم يكن لجميع الجهود التي
بذلها في الميدان النظري من هدف في رأيه إلا تبرير إيمانه الديني آخر الأمر. وأهم
ركن
في هذا الإيمان هو الإيمان بإلهٍ مشخص على النحو الذي قالت به التعاليم المسيحية
(أي
العقيدة الكاثوليكية). وقد كانت براهين وورد الفلسفية على وجود الله متفقة أساسًا
مع
براهين غيره من المفكرين الكاثوليك مثل نيومان، ول. أولى-لابرين L. Ollé-Laprune، وي.
كلويتجن J. Kleutgen الذين تأثر بهم تأثرًا دائمًا. ولقد أكد مثلهم بوجهٍ خاص
الحجة الأخلاقية وجعلها الأساس الرئيسي لدفاعه عن الدين، غير أنه لم يتمكن — من الوجهة
النظرية البحتة — من إيجاد مكان لوجود الله في فلسفته، من غير أن يخالف سائر مبادئ
تفكيره، إلا بقدر ما رأى في حقيقة وجود الله واحدة من تلك الحقائق الأولية التي تنطوي
في ذاتها على يقينٍ مطلق؛ نظرًا إلى وضوحها الذاتي، فوجود الله لا تضمنه حقائق التجربة
ولا البراهين المنطقية، وإنما تضمنه البصيرة المباشرة فحسب.
وأخيرًا فإن مبدأ الحدس يظل بدوره محفوظًا عندما يطبق على الأخلاق. والواقع أن آراء
وورد في هذا الموضوع، وإن كانت هي النتيجة الطبيعية لمقدماته الخاصة في نظرية المعرفة،
لم تجد التعبير الواضح عنها إلا قرب نهاية حياته، عندما عرف آراء «أولى-لابرين»،
أبي
الحركة «التجديدية Modernist» الذي تأثر وورد تأثرًا
عميقًا ببحثه «في اليقين
الأخلاقي De la Certitude morale» (١٨٨٠)، واستمدَّ منه الكثير مما أعانه على بلورة آرائه
الخاصة في هذا الموضوع. ولقد كانت لمشكلة اليقين الأخلاقي في نظر وورد، كما كانت
في نظر
أولى–لابرين، مكانةٌ رئيسية، وكما أن هناك حقائق نظرية وميتافيزيقية ضرورية، فهناك
أيضًا استبصاراتٌ أخلاقية، لها يقينٌ مطلق نظرًا إلى وضوحها الذاتي الملزم. فأفكار
الخير والشر والصواب والخطأ والفضيلة والرذيلة هي أفكارٌ بسيطة تمامًا، ولا تقبل
مزيدًا
من الترشيح أو التحليل. فكون خيانة صديقي شرًّا ينبغي استهجانه لذاته، هو بالنسبة
إليَّ
أمر له يقينٌ حدسيٌّ محض، ولا يحتاج إلى مزيد من البحث، فهنا أعترف بحقيقةٍ أخلاقية
واضحة بذاتها، وبالتالي ضرورية. غير أن الوضوح الذاتي لمثل هذه اليقينيات الأخلاقية
يلزمنا بالاعتراف بوضوحٍ ذاتيٍّ ثانٍ متضمن في الأول، وأعني به كون هذه اليقينيات
ترجع
في أساسها إلى وجود الله؛ ذلك لأن كون مصدر البديهيات الأخلاقية — أي استحسان الخير
واستهجان الشر — هو كائن من نوعٍ أعلى، هو بدوره مسألة بصيرةٍ مباشرة، فجذور الأخلاقية
ترجع إلى الله بوصفه المُشرِّع الأعظم للمعايير الأخلاقية، وهي في الوقت ذاته أفضل
برهان على ضرورته ووجوده.
وأخيرًا، فإن هذا الموقف يلقي ضوءًا ساطعًا على مشكلة الحرية؛ ذلك لأن وورد، شأنه
شأن
معظم ممثلي الأخلاق الحدسية، يجهر بأنه من خصوم الحتمية، وهكذا يجد نفسه في هذه المسألة
بدورها متخذًا بطبيعته موقف المعارضة من المذهب التجريبي بنظرته الآلية والحتمية.
ولقد
كان الخصم الأكبر الذي اشتبك معه، في هذه الحالة أيضًا، هو مل. ويرى وورد أن مشكلة
حرية
الإرادة تتوقف أساسًا على مسألة كون الإنسان قادرًا أو غير قادر على مقاومة نزعاته
الإرادية الطبيعية. ويعتمد وورد، في الإجابة على هذا السؤال، على حقائق التجربة،
وذلك
على خلاف ما جرت عليه عادته. فهذه الحقائق تثبت أن الكائن الذي وُهِب عقلًا يملك
هذه
القدرة بالفعل بدرجةٍ كبيرة — أي إنه يستطيع أن يكبح جماح نفسه ويقاوم النزوع التلقائي
لإرادته — وإنه بقدر ما تكون له هذه القدرة، تكون أفعاله حرة بحق، بغض النظر تمامًا
عن
كونه يمارس هذه القدرة في أية حالةٍ خاصة أم لا. وهكذا يبدو أن في هذا الالتجاء البسيط
إلى التجربة، الذي يصل مباشرةً إلى لب المشكلة، برهانًا كافيًا على اللاحتمية. غير
أن
للمشكلة وجهًا آخر: فهي لا تنطوي فقط على الرأي السلبي القائل إن الإرادة «ليست»
خاضعة
للحتمية في كل أمر، وإنما تنطوي أيضًا على الرأي الإيجابي القائل إن الإنسان ذاته
مصدرٌ
أصيل للنزوع الإرادي أو علة للفعل الإرادي لها استقلالها الذاتي. وعند هذه النقطة
تتشابك الخيوط التي تربط بين الأخلاق والدين، فليس هناك سوى منبعَين أصيلَين من هذا
النوع، لتلك العلية التي لا تخضع لحتميةٍ خارجية، هما الإرادة الإلهية والإرادة
البشرية؛ إذ بينما يكون الله — بوصفه العلة القصوى والعليا — هو أصل كل حادث، وبالتالي
أصل الإرادة البشرية بدورها، فإن النزوع الإرادي للإنسان لا يخضع مباشرة لحتمية الإرادة
الإلهية. بل لقد جعلت قوة الله الخالقة من الإنسان مركزًا للنزوع الإرادي قائمًا
بذاته،
وقد أضفى الله — بمحض اختيار — على مخلوقه تلك الحرية التي ينفرد بها وحده، فمنحه
القدرة على إحداث الحوادث؛ وبذا يتسنى له أن يتحرر، في حدود معينة، من الارتباط بالله،
ويسلك مستقلًّا عن الإرادة الإلهية. وهكذا فقد تخلى الله إلى درجةٍ محدودة عن السيطرة
على الإرادة والسلوك البشري، وإلى هذا الحد يكون الإنسان حرًّا، بمعنى أن لديه حرية
الاختيار بين الصواب والخطأ، وبين الخير والشر. وهكذا نهتدي إلى حلٍّ طبيعي للنقيضة
القائمة بين الأخلاق والدين، والتي تثيرها مشكلة الحرية، وهو حل يعترف اعترافًا كاملًا
بالاستقلال الذاتي للعالم الأخلاقي، ولكنه في الوقت ذاته يربط بينه وبين القانون
الإلهي.
ويجدر بنا في هذا الصدد أن نشير إلى فرانسيس وليام نيومان
Francis William Newman (١٨٠٥–١٨٩٧)، وهو الشقيق الأصغر للكردينال،
الذي قال بآراء لا تختلف كثيرًا عن آراء أخيه الشهير، وإن لم يكن قد انضم إلى حركة
أكسفورد. ولقد كان فرانسيس نيومان كاتبًا خصبًا غزير التأليف، غير أن مزاجه كان مزاج
الباحث الهادئ أكثر منه مزاج المناضل أو الزعيم في صراعٍ ديني. وكان ضحية شتى أنواع
الهواجس، فنسج حول نفسه عالمًا فكريًّا خاصًّا به، دون أن يشعر بالحاجة إلى أية زمالةٍ
فكرية مع الآخرين، ودون أن يكون متصفًا بما كان يلهم أخاه من انفعالٍ رفيع واقتناعٍ
عميق بإيمانه. ولقد كان فرانسيس أقل مكانة من أخيه، سواء في شخصيته ومن حيث عمق التفكير
ووضوحه وصدق العزيمة وقوة الإيمان، وإنه لمن عدم التوفيق من جميع النواحي أن يوضع
قبل
شخصية الكردينال العظيمة، أو حتى أن يوضع إلى جانب «شيلر ماخر
Schleiermacher»
٣ (كما فعل فليدرر
Pfleiderer). وقد عُرِضَت
أهم آرائه الدينية والفلسفية في ثلاثة مؤلفات: في «النفس
The Soul» (١٨٤٩)، وهو كتاب يتسم بالصدق والحساسية، ويفيض بالحماسة
الصوفية في كل صفحاته، ثم «مراحل
الإيمان
Phases of Faith» وهو ترجمةٌ ذاتية لحياته وصف فيها تلك الرحلة الروحية التي
انتقل فيها من تعاليم المسيحية إلى مذهب ألوهي (
theism)
منفصل عن جميع الارتباطات الكنسية الإيجابية، وهو مؤلَّف يوازي كتاب أخيه «دفاع عن
حياتي»، وهناك أخيرًا كتابه «الألوهية» مذهبيًّا وعمليًّا و
Theism,
doctrinal and Practical (١٨٥٨)، وهو كتاب يتضمن عرضًا أكثر منهجية
لوجهة نظره اللاهوتية.
ولقد كانت وجهة نظره هذه، مثل وجهة نظر أخيه، فردية وضد العقلية، غير أن فرديته
تتركز، على نحوٍ أشد وأكثر تحيزًا حتى من أخيه، في العلاقات ذات الطابع الشخصي الكامل،
التي تربط بين النفس والله، فالمصدر الوحيد لمعرفة حياة الله هو نفس المرء ذاتها،
وهو
تلك الحاسة الباطنة التي تكشف لنا الماهية الإلهية، والعضو الذي نتمكن بفضله من
الاقتراب من الموجود الإلهي والاتحاد به. وهنا نستطيع أن نلمج تيارًا صوفيًّا قويًّا،
يقترن به رفض كل الوسائط الخارجية للطف الإلهي، وكل سلطة ملزمة أيًّا كانت، سواء
أكانت
الكنيسة والعقيدة أو سلطة الإنجيل أو حتى وساطة المسيح.
والركن الوحيد الباقي من الإيمان هو الألوهية الصوفية كما تتكشف وتدرك في التجربة
الحية للنفس. ولكن على الرغم من كل العمق والإخلاص الذي اتسمت به تلك التجربة التي
نبعت
منها هذه المحاولة، فإن هذه المحاولة للوصول إلى مذهبٍ ألوهيٍّ منقًى من جميع الشوائب
تعني في الواقع أن الجوهر الأصيل للدين قد خُفِّف أو فُرِّغَ تمامًا، وأن اتجاه فرانسيس
نيومان ليوحي — على عكس حماسة شقيقه وحيويته المقترنة بإيمانٍ راسخ بالحياة التنظيمية
الفعلية للكنيسة — بأن لصاحبه روحًا منعزلة تطرب لعواطفها الخاصة، حتى ليشعر المرء
بأن
التفكير الديني قد تراجع أمام الأنا الذي يقنع بتأمل نفسه منعكسًا في مرآةٍ ذاتية،
وأمام التجربة ذات النوع الذاتي الشخصي المحض.
ولقد رأينا أن للفلسفة الدينية لحركة أكسفورد، كما تتمثل لدى ج. ﻫ. نيومان وو. ج.
وورد، سمةً بارزة يمكن تسميتها ﺑ«النزعة
الأخلاقية moralism» وفي هذه النزعة يتمثل الوعي الأخلاقي، بكل تأكيدٍ ممكن،
على أنه أساس الدين، بل على أنه معيار حقيقته، فتعاليم حركة أكسفورد تفترض مقدمًا
أن
نقطة بداية الدين هي الأخلاق، وأن كل تطورٍ أصيل للوعي الديني ينطوي في ذاته على
السعي
إلى الكمال الأخلاقي، وهذا الاتجاه في الوقت ذاته دليل على مدى تغلغل جذور التراث
الإنجليزي فيها. ولقد ظهر نفس هذا الاتجاه، على نحوٍ أوضح وأبرز في مذهبٍ آخر هو
المثالية الأخلاقية عند مارتينو James Martineau.
ولقد كان هذا المذهب الأخير بالتأكيد مستقلًّا عن حركة أكسفورد، غير أن الأهداف التي
اتجه إليها والميول التي كشف عنها لها بعض الشبه بهذه الحركة، فضلًا عن أن تعاليمه
الفلسفية بوجهٍ خاص تقترب منها اقترابًا وثيقًا في نقاطٍ متعددة. ولقد كان مارتينو
—
بعد نيومان — هو بالتأكيد أقوى مجدد وباعث لحياة الروح في مجالَي الأخلاق والدين
من
أبناء الشعب الإنجليزي في القرن التاسع عشر، وهو ينتمي مثل نيومان، إلى الصف الأول
من
كبار العقول في العصر الفكتوري.
وتعد فلسفة مارتينو
٤ تعبيرًا عن اعترافاتٍ شخصيةٍ عظيمة أكثر مما تُعدُّ نظريةً مذهبية بالمعنى
الضيق. فهي لم تكن نتاجًا لأية مدرسة أو اتجاهٍ فلسفيٍّ خاص، بقدر ما كانت ثمرة للقوى
والحركات العقلية العامة التي أضفت على العصر الفكتوري طابعه وميزاته الخاصة. وبفضل
الاتصالات الشخصية والأدبية التي أقامها مارتينو، كان أكثر تغلغلًا في هذه الحركة
من
معظم المفكرين الآخرين في عصره. ولعل من أهم أسباب ذلك طول حياته، التي بدأت من السنة
التالية لوفاة كانْت، ولم تنتهِ إلا بعد بداية القرن الجديد، واشتمل عمره على حوالي
ثلاثة أجيال، وبذلك شهد ظهور وانقضاء عدة تيارات وحركاتٍ فكرية مختلفة. ولذا كان
تطوره
الذهني يرجع إلى فترةٍ أسبق كثيرًا من الفترة التي نعرضها ها هنا؛ إذ يبدأ من العقد
الثالث في القرن الثالث الماضي، ثم يمتد طوال جزء غير قليل من مجرى هذه الفترة، ليصل
إلى قمته الحقيقية في فترة النضج الكامل الوضاء خلال عمرٍ متقدم كانت له فيه مواهبُ
نادرة، والواقع أن الكتب التي جلبت لمارتينو أكبر قَدره من الشهرة الفلسفية تكاد
كلها
تكون منتمية إلى فترة كهولته المتأخرة جدًّا،
٥ ولا توجد قطعًا أية حالة أخرى لمفكر وصل إلى أعلى درجات الإنتاجية الخلاقة
فيما بين سن الثمانين والتسعين من عمره. وإلى هذا الحد تكون أعمال مارتينو وتأثيره
منتمية أساسًا إلى الفترة موضوع البحث في هذا الجزء من كتابنا، وإن يكن إنتاجه الفكري
قد بدأ في فترة أسبق بكثير.
وترجع الأهمية الخاصة لتطور مارتينو، من حيث هو فيلسوف، إلى أن هذا التطور يعكس
السمات المميزة لثقافة عصره في مجموعها، وقد عرض هذا التطور في مقدمته لكتاب «أنماط
من
النظرية الأخلاقية»، فقد تأثر بعمق، في شبابه ورجولته المبكرة، بطريقة التفكير
التجريبية والحتمية التي كانت سائدة في البيئة الوثيقة الصلة به، وأصبح على التوالي
من
الأتباع المخلصين لتعاليم كل من لوك وهارتلي وكولينز وإدواردز وبريستلي وبنتام وجيمس
مل. ولكن حتى في ذلك الوقت كانت تطرأ على ذهنه من آن لآخر شكوك حول صحة هذه المذاهب،
وإن تكن صداقته الوثيقة لمل الابن قد خففت من شكوكه مؤقتًا. ولكن بدأ يحدث داخله
تحولٌ
عميق، انتهى بصورة مؤقتة عام ١٨٤٠، وأدى إلى انشقاقه صراحةً عن نمط التفكير الذي
كان
يقبله من قبل، وكان من الواضح أن هذا التغيير قد حدث نتيجة لنموٍّ باطن أكثر مما
حدث
نتيجة لمؤثراتٍ خارجية. فقد كشف له تأمله العميق في مشكلات التجربة الباطنة عن عامل
لم
يكن قد لاحظه حتى ذلك الحين، وهو وظيفة الذهن المستقلة بذاتها في الإرادة والمعرفة،
والتي تنطوي على شيءٍ مختلف ومستقل عن مجرد تغير الظواهر والنوازع وتعاملها، وتظل
خلال
هذا التغيير محتفظة بهوية ثابتة. وكانت مشكلات الوعي الأخلاقي هي التي تشغله أكثر
من
غيرها، فقد بدأ يدرك المعنى العميق لأفكار مثل المسئولية والذنب والجدارة والواجب،
وأصبح وجهًا لوجه إزاء مسألة احتمال وجود عالمٍ مثالي لما ينبغي أن يكون من فوق كل
موجودٍ تجريبي، واحتمال كون هذا العالم المثالي هو الذي يستطيع أن يمده بوجهة النظر
التي يمكن من خلالها فهم المعنى الحقيقي للإرادة البشرية وللسلوك البشري. فالمذهب
الطبيعي Naturalism لم يمكنه من تقديم إجابة على هذه
الأسئلة المحيرة؛ ولذلك تخلى عن تلك النظرة إلى العالم، التي تؤكد أن كل حادث باطن
— لا
كل حدث ظاهر فحسب — يخضع لقانون عِلِّيٍّ دقيق، ثم أدى به الاختبار النقدي لمشكلة
العلية إلى مراجعةٍ دقيقة للمذهب الذي سبق له قبوله، ومهد الطريق للكشف الذي أصبح
فيما
بعدُ من السمات الرئيسية لتفكير مارتينو.
وهكذا كان مارتينو قد تمكن، عندما بلغ سن الأربعين، من التغلب على المذهب الطبيعي
في
نقاطٍ أساسية مُعيَّنة، غير أن تحوله التام إلى المثالية كان نتيجة اطلاعه المباشر
على
الفلسفة الألمانية وإعجابه بها أثناء فترة الدراسة في برلين في شتاء ١٨٤٨–١٨٤٩. ولقد
رأى هو نفسه، عندما بلغ الشيخوخة، أن هذه التجربة كانت لها أهميةٌ عظمى في تطوره
الذهني، فتحدث عن «ما يمكن أن يقال عنه إنه تعليمٌ ثانٍ تلقيته في ألمانيا» سار فيه
«بإرشادٍ سديد من المرحوم الأستاذ ترندلنبرج Trendelenburg قبل غيره»، ووصف تأثير هذه التجربة بأنه «ميلادٌ روحيٌّ
جديد»، على أن هذا الاتصال بترندلنبرج، شارح أرسطو المشهور، الذي حضر مارتينو محاضراته
في المنطق وتاريخ الفلسفة، لم يمده بأي مذهبٍ فلسفيٍّ تام الإعداد كان يستطيع أن
يتخذه
لنفسه بأكمله، ولم تكن ميتافيزيقا ترندلنبرج بأسرها مقبولة لديه. وإنما كانت نتيجة
هذا
اللقاء هي أنها أمدته لأول مرة بفهمٍ عميق للتطور الكامل للتفكير الفلسفي منذ العصر
اليوناني القديم حتى الفلاسفة الألمان المحدثين؛ فتمكن بذلك من أن يلمح الارتباطات
الباطنة والقوى الروحية الفعالة في جميع المذاهب الماضية العميقة، ومن أن يجمعها
كلها
سويًّا. وعلى هذا النحو حصل ما لم يكن لديه من قبلُ، أي على ذلك العتاد العقلي الذي
تمكن بفضله من أن يجمع في وحدةٍ فلسفيةٍ واحدة بين مختلف الأفكار النظرية والأخلاقية
والدينية التي كانت تدور في رأسه وتكافح من أجل التعبير عن نفسها تعبيرًا واضحًا.
وكتب
هو ذاته من برلين (في ٢٥ فبراير سنة ١٨٤٩)، يقول: «إن محاضرات ترندلنبرج في تاريخ
الفلسفة قد لبَّت حاجاتي تمامًا، فلم تعرض عليَّ مذهبًا، وإنما أمدتني بمرشدٍ أمين
لمصادر المذاهب اليونانية القديمة والألمانية الحديثة، وأتاحت لي على أفضل وجه فرصة
لإعادة النظر في آرائي الخاصة وتصويبها» (حياة جيمس
مارتينو Life & Letters of James Martineau من تأليفه ج.
درموند J. Drummond، وك. ب. أبتن C. B. Uptos،
المجلد الثاني، ص٣٣١). وهكذا لم يكن ذلك حافزًا له على إعادة دراسة كتابات أفلاطون
وأرسطو فحسب، بل أيضًا على التعمق في الأفكار الزاخرة للمثاليين الألمان، ولا سيما
كانت
وهيجل، اللذين بدأ الغموض ينقشع عن كتاباتهما لأول مرة، كما صرح هو ذاته. ولقد كان
هذا
التوضيح المتبادل للمذاهب الفكرية الألمانية عن طريق المذاهب اليونانية، ولليونانية
عن
طريق الألمانية، هو الذي أدى إلى ظهور الكشوف الفكرية الجديدة التي تجمعت لتكون فلسفة
مارتينو الخاصة، والتي لم تعرض مع ذلك عرضًا ناضجًا إلا بعد جيل أو أكثر. ومن ثَم
فإن
هذه الفلسفة لا تنتمي إلى أية مدرسةٍ فكرية بعينها، وإنما هي تجمع في ذاتها العناصر
الرئيسية للفكر المثالي في كل الأوقات وبين جميع الشعوب، على نحو ما يتمثل في المذاهب
الدينية (ولا سيما المسيحية) وفي المذاهب الفلسفية. فالواقع أن التعاليم الدينية
والمسيحية كان لها، في تشكيل تفكير مارتينو، دور لا يقل عن دور النظريات الفلسفية،
وكانت مصدرًا لقوةٍ متجددة على الدوام في صياغة نظرته العامة إلى العالم.
وهكذا فإن مارتينو قد أعاد بناء طريقته الخاصة في التفكير من أساسها بعد اتصاله
المباشر بالفلسفة الألمانية قبل فترة من بدء الحركة المثالية الجديدة في العقد الثامن
من القرن الماضي، وقد أفاده المفكرون اليونانيون في عملية التجديد هذه مثلما أفادوا
تلاميذ كانت وهيجل في أكسفورد فيما بعدُ. وهكذا استبق، بشخصه، تطور الفلسفة الإنجليزية
بحوالي عشرين عامًا، ولكنه ظل في البداية شخصيةً منعزلة؛ فكان عاجزًا عن أن يبدأ
من
ذاته حركةً فكريةً جديدة، أو أن يهتدي إلى حركة ينضم إلى صفوفها. وكان سبب هذا الافتقار
النسبي إلى التأثير مزدوجًا؛ ذلك لأنه لم يكن قد صاغ التعاليم التي اتخذت قوامًا
محددًا
في ذهنه على شكلٍ منهجي في مؤلَّفٍ رئيسي، وإن يكن قد عبر عنها في كتاباتٍ صغيرة
كانت
تظهر من آن لآخر، ولم تكن هناك بيئة لديها الاستعداد العقلي لتلقي آرائه وتقبلها،
على
نحو ما أصبحت جامعة أكسفورد فيما بعدُ. وعندما بدأت حركة إحياء كانْت وهيجل في أكسفورد
فيما بعدُ، وسارت في طريقها الظافر، استقبل مارتينو وتلاميذه في البداية الحركة بأعظم
الترحيب؛ إذ شعروا بأنها قريبة كل القرب من نظرتهم الخاصة، وحاز جرين بوجهٍ خاص إعجاب
مارتينو، وجمعت بين الرجلين صداقة أفاد منها كلاهما. ولقد وجدوا أساسًا مشتركًا
لجهودهما الفلسفية، ليس فقط في نقط الالتقاء المتعددة التي تميزت بها نظريتاهما،
بل
أيضًا في ذلك الاهتمام بالدين، الذي كان يتميز به الأنصار الأولون لمذهب أكسفورد
المثالي، مثلما كان يتميز به مارتينو. وفضلًا عن ذلك فإن اشتراكهما في محاربة نفس
الأعداء — أعني الاتجاهات المادية واللاأدرية والمذاهب
الطبيعية naturalistic السائدة في ذلك العصر، قد جمع بينهما في تحالفٍ واحد. ولكن
العلاقات الطيبة التي تميزت بها السنوات الأولى اهتزت فيما بعدُ على نحوٍ ملحوظ،
ووجد
مارتينو ومن يماثلونه في التفكير أنهم يقفون موقف المعارضة الشديدة من المثاليين،
ولا
سيما الهيجليين الأوائل، وكان قوام الاختلافات بينهما هو، من جهة، ذلك الفارق الأساسي
بينهما في طريقة معالجة مشكلتَي الحرية والشخصية (وهما أهم المصادرات في مذهب مارتينو)،
ومن جهةٍ أخرى ذلك الاتجاه المتزايد إلى صبغ التفكير بصبغةٍ دنيوية لدى المذاهب المطلقة
عند الهيجليين المتأخرين، وفي مقابل ذلك التقت تعاليم مارتينو في نقاطٍ متعددة مع
أولئك
المثاليين المحدثين الذين كانوا يمثلون مذهبًا «تشخيصيًا personalist» والذين كانت وجهة نظرهم أقرب إلى لوتسه Lotze منها إلى هيجل. ومن أمثلة هؤلاء المثاليين المحدثين،
برنجل باتيسون Pringle-Pattison، راشدل Rashdall، وسورلي Sorley. والواقع أن فلسفة مارتينو في مجموعها قريبة في نواحٍ عدة من
فلسفة لوسته، وكانت لها في انجلترا رسالةٌ مماثلة لرسالة لوتسه في ألمانيا.
وعندما نُشِرَت على الملأ، في العقدين التاسع والأخير من القرن التاسع عشر، مؤلفات
مارتينو المذهبية الكبيرة (وهي «أنماط من النظرية الأخلاقية» و«دراسة للدين» و«محور
السلطة في الدين») أثارت اهتمامًا كبيرًا، ولقيت ترحيبًا حارًّا، ولا سيما من خارج
أوساط الفلاسفة المحترفين. ولكنها جاءت أكثر تأخرًا من أن تكون مفرق طرق في تاريخ
الفكر
الإنجليزي؛ ذلك لأن الحركة المثالية المحدثة كانت قد اكتسبت منها قصب السبق، ولم
تعد
لهذه الكتابات الأهمية التي تمكنها من أن تكون قوة تدفع الفكر إلى الأمام، وإنما
استطاعت فقط أن تُعيد تثبيت ودعم مواقف تم التعبير عنها بكل دقة قبل ذلك بسنواتٍ
عدة،
ولم يكن تأثيرها راجعًا إلى المضمون الفعلي لما نشرته من تعاليم، بقدر ما كان راجعًا
إلى كونها وصيةً أدبية لزعيمٍ مشهور اكتسب احترامًا عميقًا، وشاهدًا على شخصيةٍ
أخلاقيةٍ رفيعة عاشت بقوة الذهن وعلَّمت الناس كيف يعيشون بها.
ولقد كانت أهم الميادين التي امتدت إليها قدرة مارتينو واهتمامه الفلسفي هي الأخلاق
وفلسفة الدين، ولم تكن معالجة المشاكل النظرية الخالصة في نظره غاية في ذاتها، وإنما
هي
وسيلة تمهد لفلسفته الأخلاقية والدينية وتدعمها؛ لذلك ألحق مناقشة هذه المشاكل ببحثه
في
طبيعة الدين (في المجلد الأول من «دراسة في الدين»)، ولم يكرس لها كتاباتٍ خاصة.
وكانت
المشكلتان اللتان أبدى بهما اهتمامًا خاصًّا هما مشكلتا المعرفة والعلِّية. ولن نناقش
هنا أولى هاتين المشكلتَين؛ إذ لم يكن في معالجة مارتينو لها من جديد، أما نظرية
العلية
فتمهد الطريق مباشرةً للمشاكل الميتافيزيقية الكبرى.
فالعِلِّية تعني أولًا العلاقة بين عاملين، العلة والمعلول. وتبعًا للنظرية السائدة،
التي تمثلها المذاهب الطبيعية naturalistic التي تسود
التفكير العلمي تمامًا، فإن العملية العلِّية تحدث في عالم الظواهر. فالعلة والمعلول
معًا ظاهرتان تربطهما سويًّا علاقة تسلسل وارتباطٍ ضروري، بحيث تسبق العلة المعلول
في
الزمان وكأنها هي التي تبعثها، والعاملان معًا متجانسان تمامًا، ولهما نفس الطابع
الوجودي. وهكذا فإن العلة هي التعاقب الزمني للظواهر المرتبطة تبعًا لقانونٍ ما،
ونتيجة
ذلك هي نظرية الحتمية، أي كون كل حادثٍ داخلي أو خارجي متحددًا تمامًا تبعًا لقانون
علِّي، تخضع له الإرادة البشرية بدورها خضوعًا تامًّا.
وفي مقابل هذا التفسير للعلِّية، يؤكد مارتينو أن العلة تتسم بطابع الشيء في ذاته،
فهي ليست ظاهرة ضمن سائر الظواهر، وإنما هي قوةٌ إنتاجيةٌ أصيلة، والمعلول لا يتلو
منها
بمجرد التعاقب العلي فحسب، بل إن العلة تنتجه وتولده. وهكذا يصبح معنى العلية هو
التوليد أو الإنتاج، أي إن العلة تصبح لا متجانسة مع المعلول، وأساس كل المظاهر ذاتها
لا يكون في العالم الظاهري، وإنما في عالم لا ظاهري للعلل المنتجة. وينتقل مارتينو
بعد
ذلك إلى محاولة إثبات أن العلة الحقيقية الوحيدة التي نعرفها هي فاعلية الإرادة،
وأن
ماهية العلية هي إذن هوية مع الإرادة، غير أن الإرادة تتمثل أولًا، وقبل كل شيء،
في ذات
المرء نفسه أو في الشخصية الإنسانية، ففي تأكيدي لإرادتي أكون على وعيٍ تام بذاتي
بوصفها قوةً قادرة على إحداث ظواهر، وعلة أصيلة قادرة على تغيير عالم الظواهر. ولكن،
على حين أن القوة الناتجة عن فعل الإرادة هي شرٌّ ضروري لمثل هذا الاختيار، فليس
فيها
هي وحدها ما يوضح سبب تغييرٍ معين دون غيره، ومن ثَم فإن ماهية فعل الإرادة إنما
تنحصر،
لا في مجرد فيض القوة، وإنما في قدرة الإرادة على اختيار طريقة معينة للسلوك من بين
طريقتَين أو أكثر من طرق السلوك المتاحة لها، وفي أن تستقر على هذه الطريقة وتوجه
إليها
تلك القوة التي تطلقها والتي تحدث التغيير، وبهذا المعنى لا تكون العلية إلا تعبيرًا
عن
إرادة. ولكن من الواضح أن إرادة الإنسان لا يمكن أن تكون هي العلة الوحيدة في العالم
بأكمله، فهناك من فوقها الإرادة الموضوعية أو الكونية، وهي ليست إلا إرادة الروح
الإلهية التي خلقت العالم وتحدث فيه كل تغير فيما عدا ما يقع في النطاق الضيق المخصص
للنشاط البشري. وهكذا فإن الحقيقة الأساسية للعالم هي الإرادة بمعنى الممارسة الحرة
للعلية، ويغدو العالم أو الطبيعة مظهرًا للإرادة العليا للروح الإلهية.
وهكذا فإن المصادرتَين الكبيرتَين اللتين تُبنى عليهما نظرية مارتينو في العلية،
والدعامتَين الهائلتَين اللتين يرتكز عليهما بناؤه الميتافيزيقي، هما مصادرة حرية
الإرادة البشرية والإيمان بسلطة الله، فالأولى هي محو نظريته الأخلاقية، والثانية
لب
فلسفته في الدين. وترتبط بالإيمان بألوهية المبدأ الأعلى فكرة تجسده في عالم الطبيعة،
وفي النفس البشرية معًا، كما ترتبط بمصادرة الحرية فكرة وحدانية النفس البشرية وفرديتها
الأصيلة وقيمتها اللامتناهية، وتضاف إلى هاتين أخيرًا مصادرة ثالثة هي الإيمان بعدم
فناء الروح البشرية وببقائها في حياةٍ مقبلة دائمًا.
وهكذا يتوقف مذهب مارتينو تمامًا على فكرته عن الحرية الأخلاقية ومعها فكرة الشخصية
المستقلة الشاعرة بالمسئولية والموهوبة عقلًا؛ فالشخصية الأخلاقية حرة، لا بالنسبة
إلى
عالم الحوادث الطبيعية فحسب، بل بالنسبة إلى إرادة الله أيضًا. إذ على الرغم من أنها
تشارك في الروح الأزلية التي خلفتها والتي تكون حية فيها، فإن هذا لا يستتبع فقدانها
لاستقلالها ولاكتفائها الذاتي الأساسي، ومع ذلك فليست حريتها ملكًا أصليًّا لها،
وإنما
تضفيها عليها الإرادة الإلهية. وهبة الحرية هذه هي التي تمكن الشخصية الإنسانية من
الاختيار بين السبل الممكنة للسلوك، وبالتالي من الاضطلاع بالمسئولية الكاملة عما
تفعل.
وعلى هذا النحو لا يكون ثمة قيد على الإرادة الإلهية ولا على البشرية، فالله قد خلق
العالم البشري بحريته ووهبه حرية، حتى يتمتع الإنسان، بقدر ما هو شخصيةٌ أخلاقية،
بحرية
تجعله مستقلًا عن الإرادة الإلهية. وهكذا يتميز المجالان البشري والإلهي، تميزًا
واضحًا، وبفضل هذا الانفصال بين الإنسان وبين الله ينسجم استقلال المتناهي مع الطابع
المطلق للموجود اللامتناهي، ويتم التوفيق بين مذهب الألوهية Theism وبين مذهب اللاحتمية Indeterminism. والثمن الذي يدفع مقابل ذلك هو بطبيعة الحال قبول
الثنائية التي تسود المذهب بأسره، ولا تقتصر على الثنائية الأصلية بين الإنسان والله،
وإنما تميز تفكير مارتينو في مجموعه، بما فيه من تفضيل للمتقابلات المطلقة، وللخطوط
الفاصلة القاطعة، والتقسيمات الفرعية المتميزة.
ولعله قد اتضح الآن أن هذا المذهب مضاد تمامًا لمذاهب الهيجليين المطلقة
(absolutist)، ومن هنا ندرك سبب ذلك العنف الذي
حارب به مارتينو وأتباعه نمو المثالية الفلسفية، ففي رأي مارتينو أن المذهب الهيجلي،
على الرغم من استخدامه الدائم للفظ الحرية، لم يكن في مجموعه إلا حتميةً مقنَّعة،
تنطوي
على اختفاء «الشخصية» التي ادعى هذا المذهب أنه يقدرها، في «غياهب المطلق»، ولم يكن
في
وسعه أن يرى هذا «المطلق» إلا إطارًا ميتافيزيقيًّا مجردًا معقدًا، توضع في مقابله
الشخصية الحية العينية للمطلق الإلهي، وفي الوقت ذاته أحسَّ بنفور من ميتافيزيقا
برادلي؛ لأنها قد فتحت الباب، في رأيه، لمذهب شمول الألوهية والصوفية، وبذلك أزالت
كل
الحدود التي رأى ذهنه الهادئ الصريح ضرورة رسمها.
أما مذهب مارتينو الأخلاقي، كما عرضه في «أنماط من النظرية الأخلاقية»، فهو ثمرة
دراسةٍ شاملة لمختلف النظريات التي يكشف عنها تاريخ الفلسفة الأخلاقية. وإن هذه
المحاولة الطريفة لوضع مذهب للأنماط الأخلاقية لتشبه من بعض الأوجه المنهج الذي سار
عليه سدجويك، وإن كانت قد أدت إلى نتائجَ مخالفة تمامًا. فهو يقسم المذاهب الأخلاقية
أولًا إلى فئتَين رئيسيتَين: مذاهب نفسانية ومذاهب غير نفسانية، وأساس التقسيم هو
كون
المسلَّمات الأخلاقية الأساسية يتوصل إليها، من جهة، من الداخل — عن طريق المعرفة
الذاتية — ومن هناك تمتد لتأتي بتفسير للعالم الموضوعي، أو كونها تسير في الطريق
المضاد، وفي هذه الحالة الأخيرة تكون هناك مجموعتان فرعيتان، في إحداهما يكون أساس
المشكلة الأخلاقية البشرية في افتراض كياناتٍ ميتافيزيقية، وفي الأخرى يكون في مجرد
الظواهر وقوانينها. وتسمى الفئة الأولى من هاتين الفئتَين الفرعيتَين باسم النظريات
الميتافيزيقية (التي تتشعب إلى المتعالية transcendental عند أفلاطون والباطنة أو الكامنة immanent عند ديكارت ومالبرانش واسبينوزا)، أما الفئة الثانية فهي
الفيزيائية، التي يُعدُّ كونت أهم ممثليها. كما تقسم الأنماط النفسانية من النظريات
إلى
نفسانية ذاتية idiopsychological ونفسانية غيرية heteropsychological، فالأولى تقوم على حدس
الوعي الأخلاقي الفردي، والثانية على ملكةٍ نفسية غير هذه. وهذا النمط النفساني الغيري
قد يتخذ بدوره ثلاثة اتجاهات، يستمد فيها ماهية الحقيقة الأخلاقية من الحس أو من
العقل
أو من التجربة الجمالية، وتنتمي إلى الفرع الأول من هؤلاء كل أخلاق للذة (ويمثلها
على
الأخص أبيقور وبنتام)، سواء أكانت نفعية أم تطورية. ويمثل النوع الثاني، الذي يسمى
«الأخلاق الذهنية dianoetic»، كلٌّ من كدوورث Cudworth وكلارك Clarke وبرايس Price، أما النوع
الثالث، أي الجمالي، فيتمثل في شافنسبري وهتشسون. أما نظرية مارتينو الخاصة، فهي
تلك
التي تتخذ المنهج «النفساني الذاتي».
وليس من الممكن تحديد الأصول التاريخية لهذه النظرية بدقة، وقد أشار مارتينو ذاته
إلى
صلتها الوثيقة ببطلر من جهة، وبكانْت من جهةٍ أخرى، وليس ثمة شك في أنه يدين لهذين
المفكِّرين بأكثر مما يدين به لأي مفكر غيرهما، فاتفاقه مع بطلر ينصبُّ أساسًا على
منهجه، أما اتفاقه مع كانت فيتعلق أساسًا بمضمون تفكيره. وهناك مؤثراتٌ أخرى أقل
أهمية،
هي صلاته بالمدرسة الاسكتلندية كما يمثلها ريد وهاملتن (بل والمفكرون الأخلاقيون
الاسكتلنديون الأقدم عهدًا أيضًا)، وهي مؤثرات أَوْلاها النقاد الأهمية الأولى، وإن
لم
يكن في وسعنا أن ننكر أن العامل الحدسي، وفكرة الوضوح الذاتي لأحكام القيم الأخلاقية،
وهي عناصر تلعب دورًا كبيرًا في نظرية مارتينو، تشير إلى مؤثراتٍ اسكتلندية، وأخيرًا
ينبغي ألا ننسى أن المصدر الذي كان مارتينو يستمدُّ منه على الدوام بصيرةً متجددة
هو
الأخلاق المسيحية كما عرضت في «موعظة
الجبل Sermon of the Mount».
ولقد اتخذ مارتينو نقطة بدايته من الوعي الفردي أو التجربة الباطنة التي تكون لنا
على
أساسها بصيرةٌ مباشرة بالحقائق والصفات الأخلاقية. وهكذا فإنه يفترض مقدمًا حاسةً
أخلاقية أو ملكةً أخلاقيةً خاصة تختلف أساسًا عن كل ملكةٍ أخرى (كملكة العقل أو الحس
الجمالي).
وهو في هذه المسلمة الرئيسية يتفق أساسًا مع بطلر وفكرته في الحاسة الأخلاقية، ونحن
نطلق على هذا الموقف الأخلاقي اسم المذهب الحدسي، الذي يمكن أن يعد مارتينو واحدًا
من
أهم ممثليه المحدثين. وإذن فالحقيقة الأخلاقية الأساسية إنما تكون في أن لدينا، بوصفنا
بشرًا، نزوعًا لا يقاوم إلى استحسان أشياء مُعيَّنة واستهجان أخرى، وإصدار أحكام
مطابقة
عليها.
وإنه لواضح على التو أن موضوعات تقديراتنا واستنكاراتنا الأخلاقية هي أشخاص لا أشياء،
وهذا يؤدي إلى الحدس، الكامن من وراء كل فكرةٍ أخرى، والقائل إن كل تقويماتنا الأخلاقية
موجَّهة دائمًا إلى البواعث الباطنة للفعل لا إلى نتائجه الخارجية. والواقع أن مارتينو
يركز اهتمامه كله على الباعث الباطن، بينما النتيجة الخارجية، مهما كان من خيريتها،
لا
تكون لها أبدًا صلة بأخلاقية الفعل، وإنما ينبغي أن ينظر إليها فقط من حيث إنها علامة
أو شاهد على البواعث الباطنة للفعل. فإذا كنا نعترف بالقيمة الأخلاقية للباعث على
الفعل
فقط، فمن الواضح أنه لا بد أن ينشأ كل حكمٍ أخلاقي من ملاحظة بواعثنا الباطنة، وأن
تكون
جذوره متغلغلة في التجربة الباطنة أو الوعي الذاتي. وهذه هي نقطة البداية الوحيدة
التي
يمكننا منها أن نصل إلى أحكامٍ تقويمية على سلوك الآخرين، إذ نطبق على هذا السلوك،
بالتمثيل، نفس الإجراء الذي طبقناه من قبلُ على أنفسنا. وهكذا لا تتكشف الحياة
الأخلاقية إلا في مجال الإرادة، وليس ثمة أفعال لها أي معنًى بالنسبة إلى الأخلاق
سوى
الأفعال المنبعثة عن الإرادة.
ولكي يزيد مارتينو فكرته هذه إيضاحًا، يميز بين «التلقائيات spontaneities» و«الإرادات volitions»،
ففي السلوك التلقائي لا نكون عادة مدفوعين إلا بدافعٍ واحد، أما السلوك الإرادي فينطوي
على دافعيَن على الأقل، فوجود كثرة من البواعث الملزمة هو الشرط الأساسي للحكم
الأخلاقي، ولا بد أيضًا أن تظهر هذه البواعث في آنٍ واحد، لا متعاقبة. غير أن الذات
لا
يمكن أن تقتصر على أن تكون الساحة التي تقتحمها البواعث وتتقاتل فيها على السيطرة،
بل
إن هذه البواعث إنما هي مجرد إمكانياتٍ متاحة للذات، التي يكون لها وحدها البت فيما
سيؤخذ به من بينها. فالذات لا بد أن تكون هي المسيطرة على البواعث الملزمة، لا خاضعة
لها. والحكم الأخلاقي يتوقف قيامه أو سقوطه على وجود قدرةٍ انتقائية لدى الذات، تمكنها
من البت بين إمكانيتَين أو أكثر، ومن هنا كان لا بد أن تتوافر الحرية للذات في اختيارها
بين البواعث، «فإما أن تكون الإرادة الحرة حقيقة، وإما أن يكون الحكم الأخلاقي
وهمًا.»
وتكوِّن فكرة البحث في البواعث الأساس النفسي لمصادرة حرية الإرادة، فإذا كان للإرادة
الحرية في الأخذ بهذا الباعث ورفض غيره، وإذا كانت لدى المرء، بالتالي، القدرة على
التصرف في ظرفٍ معيِّن على نحوٍ مخالف لذلك الذي تصرف عليه فعلًا، فلا بد أن تواجهنا
مسألة البحث فيما إذا كان ثمة نظام مُعيَّن يمكن أن ترتب به البواعث، على نحوٍ يبرر
الأخذ بهذا الباعث أو ذاك في كل حالةٍ خاصة. ويرى مارتينو أن مثل هذا النظام موجود،
ففي
وسعنا أن نتأمل بواعث الفعل من وجهتَي نظر مختلفتَين، تبعًا لما في كل منهما من قوةٍ
كامنة من جهة، ومن سمو أو جدارة من جهةٍ أخرى. وعندئذٍ نقول إن من يستسلم لأقوى الدوافع
يسلك سلوك الحريص prudent، على حين أن من يطيع أسمى
هذه الدوافع يسلك بدافع الواجب؛ إذ إن التقدير الأخلاقي يتوقف على قيمة الباعث، بينما
يتوقف التقدير الحريص على قوته؛ لأن الأول في أساسه شاملٌ ثابتٌ ملزم للجميع، بينما
الثاني فرديٌّ متغير تبعًا للأشخاص والظروف.
ويعرض مارتينو بعد ذلك بالتفصيل نظرية في بواعث
السلوك، فيصنفها ويعددها بدقة، تبعًا لمبادئ في التقسيم مطبقة بطريقةٍ منهجية. وهو
يقوم
بمحاولةٍ رائعة لتفسير ميدان البحث هذا بأكمله وبكل نواحيه، ولبعث النظام والتناسق
فيه.
وهنا يصادف المرء كثيرًا من الملاحظات النفسية العميقة، غير أن المناقشة تكشف أيضًا
عن
نزوعٍ واضح لصاحبها إلى التقسيمات والتصنيفات الشكلية؛ مما يؤدي في حالاتٍ كثيرة
إلى
التعسف في إدخال الظواهر في الإطار المنطقي. وهو يحتم هذا البحث بوضع سلم أخلاقي
للقيم،
نستطيع أن ندرك منه على الفور مكانة الباعث الذي يدفع إلى هذه القيم. وهو يشمل ثلاثة
عشر مستوًى، في أدناها توجد الانفعالات المسماة بالثانوية، كحب الانتقام vindictiveness والميل إلى اللوم censoriousness والريبة suspiciousness، وفي أعلاها عاطفةٌ أساسية هي العطف compassion، وشعورٌ أساسي هو التبجيل reverence. وهكذا كان مارتينو، مثل جيته، يرى في هذا الأخير تاجًا
للشخصية الإنسانية وكمالًا لها.
ويُعدُّ هذا الجزء أهم أجزاء النظرية الأخلاقية عند مارتينو وأكثرها أصالة. وفيه،
كما
في غيره، يظهر طابعها الحدسي بوضوح، إذ إن الترتيب الموضوعي لمكانة القيم الأخلاقية
يرجع في أصله إلى الوعي الأخلاقي الخاص أو إلى الحاسة الخلقية، التي نستطيع عن طريقها
أن ندرك بوضوحٍ ذاتيٍّ مباشر، ويقينٍ حدسيِّ كامل تدرج قيم البواعث من الأعلى إلى
الأدنى، والمواضع المختلفة للبواعث الخاصة في سلم القيم. ولا يظهر هنا أي دور
للاعتبارات النظرية وعوامل الاستدلال العقلية، والمقارنة … إلخ، وإنما يقتصر ذلك
على
وعينا الباطن بالقيمة الأخلاقية، وهو وعي يقدم إلينا كلما ازداد دقة ورفاهة، معيارًا
أدق وأوثق، يطبق على قراراتها الخاصة، وكذلك في الحكم على سلوك الآخرين. ومن الطبيعي
أن
مارتينو كان مضطرًا إلى الاعتراف بأن العملية الحدسية لا تكون صحيحة تمامًا إلا بالنسبة
إلى الحالات التي تكون فيها البواعث بسيطة غير معقدة، أما حين يكون الموقف أكثر
تعقيدًا، فقد يحتاج الأمر إلى تصحيح لاستبصارنا الأصلي بالقيمة، عن طريق عملية تفكير
انعكاسي. وهو يتحدث في هذا الصدد عن وعي «شبه حدسي» أي وعي يتم بالتأمل العقلي، ولكنه
يؤكد بشدة، على أية حال، أن هناك سلمًا متدرجًا لمبادئ الفعل، يتيح تحليلًا مقارنًا
للبواعث والقيم الأخلاقية، كما يؤكد أننا نحمل في ذاتنا هذا السلم، ونستطيع أن نقرأ
درجاته مباشرةً. ويستتبع هذا أن يكون كل حكمٍ أخلاقي ذا طابعٍ مقارن فليس في وسعنا
أن
نكتفي بالقول إن هذا السلوك أو ذاك صواب أو خطأ، خير أو شر، بل إن كل ما يمكننا أن
نقوله هو أنه أفضل أو أسوأ نسبيًّا من سلوكٍ آخر كان للإرادة نفس القدرة على اتباعه،
وعلى ذلك فمن الواجب تقدير الفعل بأنه خير عندما يكون ناتجًا عن باعثٍ أعلى، في الوقت
الذي يوجد فيه أيضًا باعثٌ أدنى. ولكن لما كنا نحمل في ذاتنا وعيًا بالدرجة النسبية
لقيمة باعثَين يتعيَّن علينا الاختيار بينهما، فإن فينا من الأصل التزامًا باختيار
الباعث الأعلى. ويطلق مارتينو على هذا الاسم «القانون الأخلاقي للمبادئ أو
الالتزام Canon of Principles or Obligation» وهو يميزه من القانون الأخلاقي للنتائج Canon of Consequences فالأول يقدم إلينا «المعيار الأخلاقي
الحقيقي لتحديد ما هو صحيح في الحالة التي نكون إزاءها»، والثاني يقدم إلينا «المعيار
العقلي لتحديد حكمة السلوك». «والأول كافٍ لتقدير الشخصية، أما إذا شئنا تقدير السلوك
فمن الواجب تكملته بالثاني.» غير أن للأول في كل الأحوال مكانة تعلو على الثاني؛
إذ إن
الاكتفاء بمراعاة نتائج الفعل من أجل الصالح العام لا ينطوي في ذاته على التزامٍ
أخلاقي
— وهي نقطة يؤكدها مارتينو ويعترض بها على سدجويك — لأن الالتزام إنما ينشأ من وجود
صراع بين البواعث تتضح فيه القيمة العليا للغيرية منها، وهكذا يتعيَّن علينا دائمًا
أن
نرجع إلى بواعث الفعل قبل الانتقال إلى تقدير نتائجه.
وهذا يؤدي إلى وضع حدٍّ فاصلٍ قاطع بين مذهب مارتينو الأخلاقي وكل نوع من مذهب اللذة
أو السعادة أو المنفعة، فالأخلاق عند مارتينو — كما هي عند كانْت — أخلاق ضمير وواجب،
ومسئولية وقانونٌ أخلاقي ملزم. ولم يكن واحد من معاصريه الإنجليز يدانيه في قوة
الاقتناع التي أعلن بها جدارة الإنسان الأخلاقية، وسمو الشخصية ونزاهتها، وحرية
الإرادة، وسيادة القانون الأخلاقي. ولقد كان مذهبه من أقوى القلاع التي قاومت الاتجاهات
الطبيعية naturalistic والمادية في عصره، وناضلت
ضد طوفان المذاهب الداروينية والتطورية، وضد الاكتفاء بالوجه الدنيوي للحياة، وكثير
من
الاتجاهات الأخرى. ومما زاد في فعاليته أنه كان يجد دعمًا من شخصيته العظيمة الرفيعة
وأن تلك الحياة الروحية الرفيعة التي جعل منها رسالة له، قد تحققت في شخصه على أكمل
نحو.
ولقد كانت نفس الأهداف المثالية التي وضعها لمذهبه الأخلاقي، هي التي تكوِّن أساس
فلسفته الدينية، فعلى الرغم من أنه — حين جعل السلوك الأخلاقي أمرًا باطنًا تمامًا
— قد
حرره من الروابط الاجتماعية فضلًا عن قيود الوجود الطبيعي، فإنه لم يفترض أن من الممكن
تحديد هذا السلوك بطريقةٍ مستقلة تمامًا، وإنما سعى إلى إيجاد أساس له في ذلك المبدأ
الأعلى الذي يكون الدين مجاله. ولقد رأينا من قبلُ أن نقطة البداية في مذهب مارتينو
هي
الوعي الذاتي، ولكن هناك مع ذلك طريقتَين تستطيع بهما الذات تجاوز حدودها الخاصة؛
هما
فعل الإدراك، الذي تدرك به عالم الطبيعة الخارجي، وحقيقة الضمير الذي نشارك به في
الموجود الإلهي. وهي في الحالتين تشعر بذاتها في «آخر»، وتشعر بهذا «الآخر» في ذاتها،
وهي في الحالة الأخيرة تتجاوز ذاتها لتنتقل إلى ذاتٍ أعلى. وتزداد ضرورة الانتقال
من
المجال الديني في فكرة السلطة، فما هو أصل تلك السلطة التي تجعلنا نفضل الباعث الأعلى
على الأدنى، ونرى أن هذا التفضيل هو الفعل الأخلاقي الصحيح؟ هل نحن نستمدُّها، على
نحوٍ
ما، من وعينا الخاص الذي تبدَّت فيه لأول مرة؟ لو كان هذا صحيحًا، ألن يكون صراع
البواعث في هذه الحالة مجرد صراع بين حاجاتنا الشخصية؟ من المحال أن يكون هذا هو
لب
تجربة الإلزام، وإنما الأصح أن هذه التجربة تعني أننا نشعر بشيء أعلى منا، لا يمكن
أن
يكون جزءًا من ذاتنا؛ لأنه يفرض علينا مطالب مُعيَّنة. وهكذا فإن تجربة السلطة هذه،
إذا
ما فُسِّرَت على النحو الصحيح، تدفعنا إلى تجاوز حدودنا الخاصة لنعترف بكائن من مرتبةٍ
أعلى، يتجاوز ذاتنا، ولكنا لما كنا أشخاصًا، ولما كانت الشخصية تنطوي على نوع من
الوجود
أعلى من مجرد الشيئية، فلا بد أن يكون هذا الكائن، الذي هو من مرتبةٍ أعلى من مرتبتها
ذاتها، مختلفًا عنا، يتجاوزنا ويعلو علينا، أي ينبغي أن يكون هو الشخصية اللامتناهية
أو
الإلهية. وهكذا فالوعي الأخلاقي أكثر من مجرد جزء من ذاتنا، ففيه نعترف بسلطة موضوعية
أو قانونٍ موضوعي عالٍ علينا، لا نصنعه بأنفسنا، وعن طريقه ندخل في اتصالٍ مباشر
مع
الحياة الإلهية.
وعلى ذلك فمن الواجب تحديد العلاقة بين الأخلاق والدين على النحو الآتي: فالأولى
سابقة على الثانية، وتقتضي بحثًا سابقًا؛ إذ إن القواعد الأخلاقية تكون في البداية
مستقلة عن أي إيمانٍ ديني، وهي تتحكم فيه من البداية ولا تفترضه مُقدمًا، فكل دينٍ
علوي
ترجع جذوره إلى الوعي الأخلاقي، وإلى المجال الأخلاقي يرجع أصل أعظم النتائج التي
يحققها. ومن جهةٍ أخرى فليس من الممكن إبقاء الأخلاق في حدود المجال البشري وحده،
وإنما
هي تشير إلى ما يتجاوز هذا المجال، وتتطلب اكتمالًا في اتجاه الدين، وإلا عادت فانحدرت
إلى مستوى مذهب اللذة.
وتزداد قوة الاتجاه الأخلاقي للدين ظهورًا عند مارتينو عندما يبدأ في بحث براهين وجود
الله، فهو يحرص قبل كل شيء على عرض حجتَين: الأولى وهي الحجة الميتافيزيقية، التي
عرضنا
لها من قبلُ، تتلو نظرية العلية، فلما كانت العلية، كما رأينا، في هوية مع الإرادة،
ولما كانت الإرادة البشرية ضيقة المجال بدرجاتٍ متفاوتة، ولما لم يكن من الممكن،
فضلًا
عن ذلك، أن توجد في عالم الظواهر أية علة أصيلة بمعنى العلة القادرة على التوليد؛
فإنا
نستدل من الإرادة البشرية على وجود الإرادة الإلهية، بوصفها الدعامة الأصلية لعالم
الطبيعة بأسره. وهكذا تؤدي الحجة الميتافيزيقية مباشرة إلى الله، بوصفه العلة الأولى
أو
الإرادة العاقلة العليا. والأهم من ذلك، البرهان الأخلاقي على وجود الله، أو على
الأصح،
محاولة إظهار الله في مجال الأخلاق. فهنا تكون الأداة الوسيطة هي الضمير، الذي يتكشف
به
الموجود الإلهي بنفس اليقين الذي يتكشف به العالم الخارجي للإدراك الحسي. ففي الضمير
ندرك كذلك العلة الأولى، بوصفها القانون الأسمى في الوقت ذاته، وندرك الله على أنه
المشرِّع ذو الخير الكامل ومصدر كل القيم الأخلاقية، وأصل سلطة الالتزام التي لا
نستطيع
أن نستمدها من ذاتنا، وأخيرًا بوصفه واهب إرادتنا الحرة ذاتها، والشرط الذي لا بد
منه
لكل سلوكٍ أخلاقي. فالله، بوصفه دعامة قانونٍ أخلاقيٍّ مطلق، لا يكون مجرد «مطلق»
ميتافيزيقي، وإنما هو الشخصية الأخلاقية العليا، التي هي حيةٌ عنيفة، والتي يمكننا،
بوصفنا أشخاصًا، أن ندخل معها في اتصالٍ مباشر.
غير أن هذا الاتصال بين الإنسان والله يمتد أبعد كثيرًا من مجال الأخلاق، فعلى حين
أننا في الوعي الأخلاقي نصل إلى تأكيد للوجود الإلهي، ونصبح على وعيٍ مباشر بالله،
ولا
سيما في واقعة الضمير، فإن الألوهية تواجهنا أولًا بوصفها قوةً عاليةً مطلقة ترتفع
«فوقنا» إلى أبعد حد، وندين لها بالطاعة والخضوع. غير أن هذا لا يستنفد جميع أطراف
العلاقة بين المتناهي واللامتناهي، وهي علاقة تفوق ما يمكن أن يعرف في الوعي الأخلاقي
بكثير من حيث طابعها الوثيق الشخصي المباشر. وهكذا يتضح أن من الضروري اقتراض حاسة
أو
ملكةٍ دينية على التخصيص، تكون مختلفة لا عن الملكة العقلية أو الجمالية فحسب، بل
مختلفة بوجهٍ خاص عن الحاسة الأخلاقية. ويعترف مارتينو بوجود هذه الحاسة أولًا في
الشعور الأوَّلي بالتبجيل، وهو الشعور الذي عزا إليه أرفع مكانة في سلمه الأخلاقي
للقيم. فالتبجيل هو الذي يجذبنا إلى المجال الأرفع، ويتيح لنا أن نتطلع إلى أعلى،
وأن
نعير الحدود التي تفصل بين الحقيقة الظاهرية والحقيقة الحقة، وأن نصل إلى ما هو مثالي.
وهكذا فإن ما كان خضوعًا وطاعةً للأمر الإلهي، في المستوى الأخلاقي، يغدو الآن شعورًا
واعيًا بالتصديق العميق والحب المؤكد. ففي الشعور بالتبجيل نتخلص من تلك المعركة
التي
لا تتوقف بين البواعث المتصارعة وتصل إلى «المشاركة في الحياة والحب الإلهيين»، ويجد
الأخلاقي تحققه واكتماله النهائي في المقدس، وتدخل النفس المتناهية في الوجود
اللامتناهي وتُستوعَب فيه. وهكذا تتلاشى فلسفة الدين عند مارتينو في تيارٍ فكري،
إن لم
يكن تيارًا صوفيًّا خالصًا، فهو على الأقل يقترب من ذلك اقترابًا وثيقًا، وهنا نجد
أن
ما كان يكوِّن اللب الجوهري للأخلاق عنده — أي فكرته عن النفس الفردية المصونة المستقلة
— قد أصبح مهددًا بخطرٍ عظيم في فلسفته الدينية، ولا يتم الوصول إلى الاتفاق التام
بين
المجالَين، بل لا يمكن الوصول إليه، في ذلك المذهب الذي كان تبعًا لغرضه الأصلي قائمًا
على التوتر المستقطب للتقابل بين الإنسان والله، والذي لم يحاول أن يقضي على هذا
التوتر
ويقرب ما بين القطبَين إلا فيما بعدُ.
وهناك مفكر كان يرتبط بمارتينو ارتباطًا وثيقًا، وإن كان قد أدخل تعديلاتٍ هامة على
مذهبه، في اتجاه فلسفة لوتسه، ذلك هو تشارلس
أبتن Charles Barnes Upton (١٨٣١–١٩١٠)، وكان يشغل منذ ١٨٧٥ منصب أستاذ الفلسفة في كلية
مانشستر، وقد وضع «أبتن» مذهبًا ألوهيًّا أخلاقيًّا ربط فيه بين الأخلاق والدين ربطًا
متبادلًا وثيقًا، فمعنى الأخلاق عنده لا ينحصر في تحقيق قانونٍ أخلاقيٍّ مستقل بذاته،
بقدر ما يكون في توجيه الإنسان قدمًا نحو الإيمان الديني؛ لذلك حارب أبتن «ذوى
النزعة الأخلاقية ethicists» الذين كانوا يهدفون
إلى حرمان الأخلاق من كل ارتباطاتها «الأعلى» وإلى بنائها على الإرضاء الشخصي للحاجات
والرغبات الفردية فحسب. ولقد كانت أفكاره في الميتافيزيقا وفلسفة الدين مستمدة كلها
تقريبًا من تعاليم مارتينو ولوتسه. وقد استمد من ثانيهما النظرية العامة في الكون
كما
عرضها في كتابه «العالم الأصغر Microcosmos». بل لقد
نظر إلى لوتسه على أنه هو الفيلسوف الذي بلغ بالمثالية الألمانية حد الاكتمال، ووجد
فيه
أقوى حليف له ضد القوى المعادية للدين، التي أطلقتها العلوم الطبيعية من عقالها.
ولقد
تلقَّى أبتن ذاته تعليمًا في العلوم الدقيقة، فاتجهت جهوده إلى التوفيق بين النظرة
الآلية إلى العالم وبين حرية الإرادة. وقد عمل، مثل مارتينو، على إحلال فكرة الوعي
المباشر بالله محل ذلك الأساس الذي توجده النزعة العقلية للدين، فنحن نشعر بوجود
الله
مباشرةً، لأن هذا الوعي يتكشف في الشعور، وفي أفعال الإدراك الحدسية، أما معرفتنا
بالله
عن طريق البرهان العقلي والاستدلال النظري فلا تكون لها أبدًا، بالنسبة إلى هذا الشعور،
إلا قيمةٌ ثانوية، مهما كانت لها مع ذلك من أهمية. والفارق الرئيسي بين فكرة أبتن
هنا
وبين فكرة مارتينو، التي تشبهها في الأساس، هو ازدياد قوة العنصر الصوفي عند
الأول.
وأخيرًا فقد كان أبتن من أوائل من أدركوا الخطر الذي يهدد المثالية الأخلاقية من
جانب
المثالية الهيجلية المطلقة: أعني خطر القضاء على الحرية الأخلاقية والمسئولية الفردية،
وهدم حرية الاختيار الأصيلة بين الممكنات المختلفة، والحط من الحقائق الأساسية كالشر
والخطيئة إلى مرتبة المظاهر الخالصة، واستبعاد التأثير المباشر للألوهية على النفس
البشرية، إلخ. ولما كانت الحركة الهيجلية الإنجليزية، التي قامت في مرحلتها الأولى
تدافع عن الدين وعن الكنيسة، قد أخذت تزداد تحولًا إلى مذهب غير مكترث بالدين على
أحسن
التقديرات، فقد طالب أبتن المدرسة الهيجلية بأن تغير مجراها وتتحول إلى فلسفة لوتسه،
بوصفها الفلسفة الوحيدة التي يمكن فيها التوفيق بين التجربتَين الأخلاقية والدينية
على
النحو الصحيح. وعلى عاتق مثل هذه الفلسفة الدينية تقع مهمة مزدوجة، هي إعطاء الشخصية
والحرية الإنسانية حقها الكامل، مع إثبات كمون الله في الطبيعة وفي النفس البشرية
في
الوقت ذاته.
٦
وللمفكرين التالين بدورهم ارتباطٌ وثيق بمدرسة مارتينو الفكرية:
وهكذا فإن أعظم القوى النظرية في ميدان فلسفة الدين في القرن التاسع عشر قد تجمعت
حول
هذين المركزَين، حركة أكسفورد والمذهب التوحيدي عند مارتينو، غير أن الاهتمام بالمشكلة
الدينية ظل حيًّا على الدوام، حتى داخل الحركات
الفكرية ذات الاتجاه الفلسفي المحدَّد، ولا سيما بين مفكري المدرسة الاسكتلندية كما
رأينا، وفي الأوساط التطورية بدرجةٍ أقل، وإن يكن اهتمام هذه الأخيرة قد اتجه إلى
النقد
والرفض أكثر مما اتجه إلى البناء الإيجابي.
غير أن مشكلات الدين كانت موضوعًا للاهتمام في الحركة المثالية بدورها، ولو أن هذا
الاهتمام كان أعظم في بدايتها في العقدَين الثامن والتاسع منه في مراحلها المتأخرة.
فليرجع القارئ إلى الأجزاء المتعلقة بهذه الاتجاهات في الكتاب للاطلاع على مزيد من
المعلومات عن هذه المساهمات. ولكنا لن نذكر شيئًا عن التفكير الديني الذي نما في
الكنائس والطوائف الدينية، والذي كانت أهميته لاهوتية أكثر منها فلسفية، على أساس
أن
مثل هذا التفكير خارج عن نطاق بحثنا. ولنكتفِ في هذا الصدد بالكلام عن أعمالٍ كانت
لها
أهميةٌ خاصة، هي أعمال «فردريك دنيسون
موريس Frederic Denison Maurice» (انظر أيضًا بداية الفصل التالي)، وهو من أعظم وأشهر الزعماء
الدينيين في عصره، وقد اشتهر بنشاطه في حركة الإصلاح المعروفة باسم «الاشتراكية
المسيحية». ولنضف إليه شخصيةً أخرى مشهورة هي شخصية الأسقف «تشارلس جور Charles Gore» (١٨٥٣–١٩٣٢) والكتاب الذي نشره
بعنوان «نور العالم Lux Mundi» (١٨٨٩) والذي يضم
مقالات لكتَّابٍ مختلفين. ولقد كان جور، مثل موريس، اشتراكيًّا مسيحيًّا وداعية إصلاح،
تعلَّم في كلية ﺑ«اليول Balliol» منبع المثالية
الإنجليزية.
ومن الواجب الإشارة إليه في هذا العدد بوجهٍ خاص نظرًا إلى محاولته توجيه الاتجاه
«البوسي
Puseyist» المحافظ داخل حركة أكسفورد
وجهةً حديثة، وبث روح النقد المتحرر فيها، فعلى حين أن نقطة بدايته، في ناحية العقيدة
والسلطة الكنيسية، كانت هي ذاتها نقطة بداية «بوسي
Pusey»، فقد اضطلع بمهمة التوفيق بين مبدأ السلطة الدينية وبين
المبادئ العلمية والفلسفية عن طريق وضع حدٍّ فاصل بين نطاقَي نفوذهما، وقد أراد أن
يبني
العقيدة المسيحية على أساس العلم والنقد الحديث، وأن يربطها في علاقةٍ حية بالمشكلات
الأخلاقية والاجتماعية الحديثة.
١١
وينبغي أن يُذْكَر هنا اسمٌ آخر، هو اسم
«ماكس مولر Max Müller» (١٨٢٣–١٩٠٠)، وهو من
الباحثين الرواد في ميدان الدراسة العلمية والتاريخية للأديان، وواحد من أعظم العلماء
المدققين في عصره، وقد كان ألمانيًّا بحكم المولد، إذ إنه نجل الشاعر «فيلهلم مولر Wilhelm Muller»، ولكنه وفد إلى إنجلترا في ١٨٤٦،
وشغل الكرسيَّين الآتيَين في أكسفورد، كرسي اللغات الحديثة من ١٨٥٠ إلى ١٨٦٨، وكرسي
فقه
اللغة المقارن من ١٨٦٨ حتى تقاعده السابق لأوانه عام ١٨٧٥. وله دراسات تشغل عددًا
كبيرًا من المؤلفات، وتمتد إلى ميادينَ واسعة ومتنوعة كالأديان المقارنة والفلسفة
والتراجم وعلم الأساطير المقارن وفقه اللغة والدراسات الشرقية واللغويات إلخ. وقد
جلبت
له هذه الدراسات شهرةً عالمية، لا سيما في الهند واليابان والصين، وأكسبته تكريماتٍ
متعددة، وكان له دورٌ بارز في فتح آفاق الحضارات والأديان الشرقية، ولا سيما الهندية،
أمام الدارسين الغربيين، وقد طبق المنهج المقارن بطريقةٍ مثمرة على دراسة الدين
والحضارة والأسطورة.
وكان يرى أن الدين واللغة يسيران جنبًا إلى جنب على المستوى البدائي على الأقل، وأن
من الممكن استخدام كلٍّ منهما في إلقاء ضوء على الآخر، ومن ثَم فقد جعل من البحث
في
اللغة أداة تساعد على البحث العلمي للدين، غير أنه كان باحثًا أكثر منه مفكرًا، وكان
لغويًّا أكثر منه فيلسوفًا، وحال تعدد أوجه نشاطه دون وصوله إلى مذهبٍ فلسفيٍّ
موحد.
وكان مولر يعني بالدين، الشعور عن وعي باللامتناهي، بقدر ما يمكن لتأثيره أن يتحكم
في الطابع الأخلاقي للإنسان. وقد ميز بين ثلاث مراحل في تطور الحياة الدينية: هي
المادية
physical والأنثروبولوجية والنفسانية،
وكان يرى في المسيحية خلاصة لكل دين، كما بدا له تاريخ الدين بأسره تطورًا لا شعوريًّا
نحو هذا الهدف الأسمى، وإليه ندين أيضًا بترجمةٍ كاملة لكتاب «نقد العقل الخالص
Critique of Pure Reason» لكانت (١٨٨١)، وهي
مهمة كان شوبنهور ينوي الاضطلاع بها قبل نصف قرن من الزمان، ولكنه لم ينفذها. ولقد
سبقت
ترجمة مولر ترجمة أخرى تولاها مايكلجون
Meikeljohn
(١٨٥٥)، كما حلَّت محلها الآن ترجمة أخرى ﻟنورمان
كمب سمث
Norman Kemp Smith (١٩٢٩) تفوق السابقتَين بمراحل في الدقة والتبصر الفلسفي على السواء.
١٢
ونستطيع أن نضيف هنا كاتبَين في الفلسفة لا يمكن أن يُعَدَّا منتميَين إلى معسكر
بعينه، وكانت تشغلهما مشكلات من نوعٍ آخر بالإضافة إلى مشكلة الدين، هما الاسكتلنديان:
فريزر وفلنت.
كان «ألكسندر كامبل فريزر A. Campbell Fraser» (١٨١٩–١٩١٤) خليفة لهاملتن، من ١٨٥٦ إلى ١٨٩١،
في كرسي المنطق والميتافيزيقا في إدنبرة. ولا ترجع أهميته الفلسفية إلى أي تفكيرٍ
منهجي
بقدر ما ترجع إلى نشاطه الطويل الناجح في التعليم، ومزاياه بوصفه ناشرًا لمؤلفات
لوك
وباركلي، اكتسبت تعاليمهما بفضله شهرةً واسعة، وبعثت فيها حياةً جديدة، جعلت أقوالهما
تسري على ألسنة النقاد وعامة الناس. ولقد ظل شباب اسكتلندا، طوال أكثر من جيلٍ كامل،
يتلقون العلم على يديه، ويكتسبون انطباعات وإيحاءات لا تزول من محاضراته التي لم
تكن
ترمي إلى فرض أي مذهبٍ محدد على السامع، بقدر ما كانت تهدف إلى بث روح التفلسف فيه
بفضل
ما تبعثه من شعور بالحرية والحماسة؛ وبذلك تحفزه على التفكير الإيجابي المستقل. «فلم
ينشر فريزر مذهبًا ولا أسَّس مدرسة، وإنما أثار الأفكار وحفزها دون أن يدفعها إلى
السير
في اتجاهه» (سورلي).
ولقد تلقى فريزر الجزء الأكبر من ثقافته الفلسفية على يد السير وليام هاملتن، أستاذه
وصديقه فيما بعدُ، وبفضله شبَّ في البداية متشبعًا تمامًا بالتراث الفلسفي الاسكتلندي،
ولكنه وقع بعد وقتٍ غير طويل تحت تأثير «توماس براون» ونظريته في العلية، ثم اجتذبه
مذهب الشك عند هيوم، بكل ما فيه من إغراء خطر، هزَّه من أعماقه، وبعد أزمةٍ عنيفة،
اهتدى أخيرًا، في فلسفة باركلي، إلى الخلاص من الشك والقلق، ووجد فيها، في الوقت
نفسه،
ذاته الحقيقية، كما روى في ترجمته الذاتية لحياته «سيرة فلسفية Biographica Philosophica» (١٩٠٤). ومنذ ذلك الحين
أصبح تطور تفكيره الفلسفي الخاص متأثرًا في أساسه بمذهب باركلي، وإن لم يكن قد تخلى
على
نحوٍ قاطع عن أصله الاسكتلندي (ريدو هاملتن)، وهو لم يقتصر على تجديد فلسفة باركلي
في
تفكيره الخاص، بل يمكن القول إنه أعاد كشفها لمعاصريه. ولا شك أن حرصه على التوفيق
العلمي الصارم لم يسفر عنه ما يمكن تسميته «بالباركلية الجديدة»، ولكنه أسفر فعلًا
عن
اهتمامٍ عام بشخصية الأسقف الأيرلندي وتعاليمه، وكان لهذا الاهتمام قيمته، من حيث
إنه
كان حافزًا على التفكير أحيانًا، بل اتخذ صورةً منظمة في كثير من الأحيان، وكان يحقق
نوعًا من التوازن مع الطموح المتزايد للمدرسة الهيجلية. ومن أهم أعمال فريزر، النشرة
الأساسية لمؤلفات باركلي (١٨٧١، الطبعة الثانية ١٩٠١) وكذلك ترجمته لحياة باركلي،
التي
لا تزال تُعدُّ مرجعًا أساسيًّا حياة باركلي ورسائله Life & Letters of Barkeley (١٨٧١) وكذلك نشرة ممتازة لكتاب لوك الرئيسي
«بحث في الفهم البشري» (في مجلدَين، ١٨٩٤).
ولقد كان فريزر في الأصل قسيسًا، ولم يستطع أن يتخلى في كتاباته الفلسفية عن أصله
الديني على نحوٍ تام، وهكذا كان أهم ما جذبه إلى باركلي إثباته الفلسفي وتبريره للديانة
المسيحية من حيث هي مذهبٌ ألوهي يحتل فيه الله مكانةً مركزية بوصفه الخالق، بينما
لا
يكون للعالم من مبرر إلا بوصفه من خلْق الله. ولم تكن القوة الدافعة له إلى تقديم
عرضٍ
منهجي لهذه الفكرة بادرةً ذاتيةً صادرة عنه، وإنما كانت حافزًا خارجيًّا هو تعيينه
لإلقاء محاضرات «جيفورد»، التي اضطر فيها، رغم عدم وجود أي ميل لديه إلى التأمل الفلسفي
المنهجي وإلى وضع ما يكاد يكون مذهبًا خاصًّا به (في كتاب «فلسفة المذهب الألوهي The Phil. of Theism»، في مجلدَين،
١٨٩٥-١٨٩٦، الطبعة الثانية في مجلدٍ واحد، ١٨٩٩)، وفي هذا الكتاب يأخذ بفكرة باركلي
الطريفة التي تنظر إلى الطبيعة على أنها هي اللغة الإلهية، ويتوسع فيها على نحوٍ
مثمر
ليجعل منها مذهبًا رمزيًّا كونيًّا. ولما كان ينفر بطبيعته من كل موقفٍ متطرف، فقد
اعتقد أنه، إذ وضع مذهبًا ألوهيًّا مبنيًّا على الإيمان الديني، فقد اهتدى إلى حلٍّ
وسط
يوفق من جهة بين الإلحاد ومذهب شمول الألوهية Pantheism، ومن جهة أخرى بين مذهب الشك اليائس وبين الثقة المفرطة في
المعرفة. ولقد أدرك وجود مثل هذا اليأس في اللاأدرية الشكاكة عند هيوم، الذي رأى
بحق
أنه هو — وليس كانْت كما كان يشيع القول عندئذٍ — الأب الحقيقي للاأدرية المحدثة
عند
هكسلي وسبنسر وغيرهما، كما أدرك من جهةٍ أخرى وجود الموقف الآخر المضاد، وهو التفاؤل
المفرط، في المذهب العقلي الذي يقول بإمكان معرفة كل شيء عند هيجل والهيجليين المحدثين.
وهكذا استعاض «بالإيمان» عن «الاعتقاد» النظري عند هيوم، وحاول السير في طريقٍ وسط
بين
الطرفَين، بحيث لا يبخس المعرفة البشرية، في نطاقها الضيق، حقها، مع حمايتها من
المبالغات في كلا الاتجاهَين. وبالمثل كان ينفر من كل تفسير يرفع الأنماط الأصلية
المعطاة للوجود — وهي الإنسان والعالم والله — إلى مرتبة المطلق (وقد كان، مثل مارتينو،
يرى أن هذه هي فعلًا أنماطٌ معطاة للوجود). وهناك ثلاثة أنواع من المذهب الواحدي Monism تنتج عن إضفاء صفة المطلق على هذه المعطيات،
هي: شمول الأنا Panegoism (أو مذهب الذات الوحيدة Solipsism) وشمول المادة Pan-Materialism وشمول
الألوهية Pantheism. ويرى فريزر أن هذه تمثل
أنظارًا فلسفية لا صلة لها بالألوهية، وقد أخضعها للنقد والتفنيد من وجهة نظره المؤمنة
بمذهب الألوهية.
ولقد حاول، في مذهبه الخاص، أن يوفِّق بين هذه الكيانات الثلاثة المعطاة، فتخلَّى
للعلوم الخاصة عن «العالم» بمعنى الطبيعة، وبذلك حطَّ من مكانتها الفلسفية بل تجاهلها،
ووحد بين المجال البشري والأخلاق، وبين المجال الإلهي والدين، لكنه نظر إلى «الله»
من
الجانب الأخلاقي قبل كل شيء، بوصفه تشخيصًا للخيرية اللامتناهية، كما نظر إلى الإنسان
على أنه الكائن الأخلاقي على التخصيص، أي على أنه «شخص» أخلاقي، أما الأشياء فقد
نظر
إليها على أنها توجد من أجل الأشخاص فحسب. وهكذا كان مذهب الألوهية عند فريزر مبنيًّا
على الأخلاق، كما هي الحال عند نيومان ومارتينو، وكانت مثاليته روحية وتشخيصية كمثالية
باركلي، وبذلك كانت حصنًا ضد الاتجاهات الطبيعية naturalistic السائدة في عصره. ومن الطريف أن نلاحظ في هذا العدد أن
الفلسفة الألمانية لم تؤثر في تفكيره إلا على نحوٍ ضئيل وبدرجةٍ ثانوية تمامًا. ولكنه
رغم تمسكه التام بالتراث الإنجليزي القومي، قد تغلَّب على بعض الأخطاء التي كانت
شائعة
في مدرسة هاملتن (ولا سيما فيما يتعلق بكانت)، بل لقد حاول أن يفسر هيجل (في اتجاه
يميل
إلى «اليمين» الهيجلي) وأن يستوعب تعاليمه. فإذا تذكرنا أن جذور فريزر الفلسفية ترجع
إلى عهدٍ أسبق كثيرًا من عهد إحياء المذاهب المثالية الألمانية في إنجلترا، فلن يعود
من
المستغرب أن تراه، بعد هذا الإحياء، عاجزًا عن إعادة توجيه فكره من أساسه، رغم أنه
كان
يعطف كثيرًا على الحركة الجديدة.
أما روبرت فلنت Robert Flint (١٨٣٠–١٩١٠) فكان من
البداية قسيسًا بالكنيسة الاسكتلندية، ثم أصبح منذ عام ١٨٦٤ أستاذًا للفلسفة الأخلاقية
في «سانت أندروز St. Andrews» ثم أستاذًا للاهوت في
إدنبرة (من ١٨٧٦ إلى ١٩٠٣). ولقد كان عمله الإيجابي بوصفه مفكرًا يسير في اتجاهَين،
اتجاه فلسفة التاريخ، واتجاه فلسفة الدين، وقد أخرج في كلا الميدانين سلسلة من المؤلفات
كانت تتميز باتساع نطاقها ودقة البحث واتساع المعلومات فيها.
وينبغي أن تعزى إلى أعمال فلنت في الميدان الأول أهميةٌ خاصة؛ إذ إن فلسفة التاريخ
(ومن بعدها علم الجمال) كانت أقل المباحث الفلسفية نصيبًا من اهتمام المفكرين الإنجليز،
وهي لم تُثر أي اهتمامٍ جدي إلا في حالاتٍ استثنائية، بل إنه ليمكن القول: إن التاريخ
لم يصبح أبدًا مشكلةً فلسفية بالنسبة إلى الإنجليز، ولهذا السبب لم يكد إحياء الموقف
الفلسفي من التاريخ في القارة الأوروبية، أي في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، يجد أي
صدًى
في إنجلترا، بل إنه لا يمكن أن يكون هناك، بين صفوف الهيجليين الإنجليز، أي اعتراف
بمشكلة التاريخ أو أية تفسيراتٍ شاملة لمجرى التاريخ على النحو الذي عرضه هيجل ذاته.
وهكذا يتميز فلنت بأنه أحد المفكرين الإنجليز القلائل الذين رأوا أن التاريخ ليس
مجرد
موضوع يُبحَث تجريبيًّا، بل إن من الممكن أيضًا تفسيره فلسفيًّا. فمن الواجب أن يتحول
التاريخ إلى فلسفة التاريخ إن شاء أن يفهم ذاته على النحو الصحيح. وكلما تقدم التفكير
التاريخي ازداد اصطباغًا بالطابع الفلسفي؛ إذ إن وقائع التاريخ تنطوي في أساسها على
معنًى فلسفي. والحوادث التاريخية لا تتعاقب اتفاقًا أو خبط عشواء، وهي ليست متروكة
للفوضى والاضطراب، بل إن في وسعنا أن نهتدي فيها إلى نظام وقانون، تترابط فيه فيما
بينها، وينمو الحادث فيه من الآخر، ومع ذلك فمن الواجب ألا ينظر إلى هذا الترتيب
المنظم
في مجرى التاريخ على مثال العِلِّية العلمية، وإنما هو يتمثل في نوع من الاتفاق مع
القانون خاص بالعملية التاريخية وحياة الروح. وهذا يعني أن فلسفة التاريخ، بوصفها
التفسير العقلي للطابع الصحيح للوقائع التاريخية والعلاقات الحقيقية بينها، هي جزء
من
التاريخ ذاته، بل هي التاريخ على مستوًى أعلى من مستويات المعرفة، فالتاريخ بوصفه
علمًا، والتاريخ بوصفه فلسفة، ليسا مبحثَين منفصلَين ينتقل كلٌّ منهما عن الآخر،
وإنما
هما فرعان من جذعٍ رئيسيٍّ واحد.
وبهذه الروح ألَّف فلنت كتابه العظيم عن فلسفة التاريخ في أوروبا، وهو عمل كان يستهدف
غايةً عظيمة الطموح، ويكشف عن اطلاعٍ واسعٍ عميق، بل إن هذه الغاية قد فاقت قدرة
هذا
العالم على البحث، على ضخامتها، إلى حد أنها تُرِكَت ناقصة بعد محاولتَين لإتمامها،
١٣ وتشمل الأجزاء المكتملة النظريات الفلسفية للفرنسيين والألمان من
عهد بودان
Bodin١٤ وليبنتس، كما أن الطبعة اللاحقة في ١٨٩٣ قد تضمنت عرضًا شديد العمق، لم
يفُقْه أي عرضٍ آخر حتى الآن، لنظريات المفكرين الفرنسيين والبلجيكيين والسويسريين.
أما
الطبعة الأولى (١٨٧٤) فلها أهميةٌ خاصة من حيث إنها لفتت أنظار القراء الإنجليز لأول
مرة إلى الحركة المثالية الألمانية من كانْت إلى هيجل، وكوَّنت منها مركبًا جامعًا
يكشف
عن درجةٍ عالية نسبيًّا من الفهم، بل إن هيجل نفسه يعالج هنا بطريقةٍ نقدية تمامًا:
فمع
رفض فلنت لمعظم تعاليمه، نراه يكتب عنه بإعجاب يدعو إلى الدهشة، «مهما كان بعد المرء
عن
أن يكون تلميذًا لهيجل، فمحال عليه أن ينكر أنه لا يكاد يوجد كنز للأفكار الفلسفية
أغنى
من ذلك الذي تُكوِّنه مجلداته الثمانية عشر.»
ولكن تفسيرات فلنت تتفق بوجهٍ عام مع الفرنسيين أكثر مما تتفق مع الألمان — ومن هنا
كان النجاح الرائع الذي أحرزه كتابه في فرنسا — وقد أكد أن مذهب رينوفييه
Renouvier١٥ هو الذي يمثل موقفه الخاص من فلسفة التاريخ، وهو الموقف الذي لم يقدم أي
عرضٍ تفصيلي. وهكذا يرفض تلك النظريات التي تعالج التاريخ على أنه إنتاجٌ آلي أو
صراع
من أجل الوجود بين الأفراد والمجتمعات، أو على أنه مجرد نموٍ عضوي أو حركةٍ ديالكتيكية،
ويرى في التاريخ — بدلًا من ذلك — عمليةً خلاقة هي في أساسها أخلاقية، عملية تربية
للفرد الفاعل بحريته ليبلغ مستوى الإنسانية الأصيل، الذي يصل فيه القانون الأخلاقي
إلى
صورته الصحيحة وتحققه الكامل.
أما الوجه الآخر من إنتاج فلنت العقلي فيتمثل في الدور القوي الذي لعبه في الصراع
بين
الاتجاهات الطبيعية اللاأدرية وبين اللاهوت المسيحي، وهو الصراع الذي كان يحتدم في
الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، وقد ألَّف في هذا الموضوع الكتب الآتية، «مذهب
الألوهية Theism» (١٨٧٧، الطبعة الثالثة عشرة
١٩٢٩) و«النظريات المضادة لمذهب
الألوهية Anti-Theistic Theories» (١٨٧٩، الطبعة التاسعة ١٩٢٩)، و«اللاأدرية Agnosticism» (١٩٠٣)، وهي كتب لقيت إقبالًا شديدًا،
ودافعت عن قضية الإيمان الديني ضد عدم الإيمان بأسلحة الثقافة الواسعة العميقة. ولما
كان فلنت يدرك أن موقف الأوساط الدينية من العلم الحديث كان حتى ذلك الحين يقترب
من
الرفض التام، فقد رأى أن رسالته، بوصفه مدافعًا عن الإيمان، هي على العكس من ذلك
رسالة
توفيق بينهما، وتخفيف التوتر بين اللاهوت المحافظ من جهة وبين الفلسفة الطبقية naturalistic والبحث العلمي للطبيعة من جهةٍ أخرى،
ولقد حاول أن يجنب الإيمان المسيحي ذلك الخطر الذي تنطوي عليه تعاليم دارون وسبنسر
وهكسلي وأتباعهم، وذلك بالتخفيف من حدة حججهم المضادة لفكرة الألوهية، وبتكييف نتائج
أبحاثهم بأوسع قدرٍ ممكن على النحو الكفيل بإثبات نظرته المؤمنة بالألوهية إلى العالم.
ولكي يبرهن على وجود الله، التجأ إلى الحجج الأنتولوجية والكسمولوجية والأخلاقية
القديمة، التي كانت في ذلك الحين قد فقدت قيمتها لدى الجميع، وأشار بوجهٍ خاص إلى
ضرورة
وجود أساسٍ عقلي للدين، الذي هو في رأيه أمر يتعلق بالعقل، أكثر مما يتعلق بالشعور
أو
الإرادة. بل إنه مما يميز وجهة نظر فلنت التي كانت عقلية في أساسها، أنه كان يتجاهل
عنصر الإيمان في الدين، ويبالغ في تأكيد الوجه العقلي فيه، كما تظهر نفس هذه الروح
بوضوح في أمورٍ أخرى، وكان من نتيجتها أنها قلَّلت من فعالية كتاباته في الدفاع عن
العقيدة المسيحية بدلًا من أن تزيدها.
كذلك عرض فلنت في هذا الميدان برنامجًا يتصف بنفس الدقة المميزة له، غير أن إنجازه
كان يتجاوز نطاق قدرته كثيرًا؛ إذ لم يكن يرمي إلى أقل من عرض مذهب تفصيلي في اللاهوت
الطبيعي بكل أطرافه، وكان المفروض أن يعالج هذا المذهب أربع مشكلات بوجهٍ خاص: (١)
إيضاح الأدلة التي لدينا للإيمان بوجود الله، (٢) تفنيد النظريات المضادة للألوهية،
من
إلحاد ومادية ووضعية وتشاؤمية وشمول للألوهية ولاأدرية، (٣) تحديد معالم وجود الله
كما
يتكشف في الطبيعة والتاريخ، (٤) تعقب أصل فكرة الله وتطورها في تاريخ التأمل النظري
الألوهي. ولكن لم يتح له أن ينفذ هذا البرنامج إلا جزئيًّا؛ إذ إنه لم يضطلع على
الوجه
الأكمل، كما رأينا، إلا بالمهمة الثانية. والخلاصة أن فلنت كان باحثًا مدقِّقًا من
الطراز الأول، مهتمًّا بنواحٍ أخرى أهمها التاريخ واللاهوت (لقد سُمِّي بأعلم أهل
عصره
في اسكتلندا). وكانت لديه قدرةٌ كبيرة على التعميم، وذهنٌ موضوعيٌّ نافدٌ أصيل، غير
أن
مكانته، بوصفه مفكرًا مستقلًّا له موقفه الخاص، كانت أقل من ذلك بكثير. أما من حيث
هو
مؤرخ لفلسفة التاريخ، ومناضل ضد المذهب الطبيعي في الربع الأخير من القرن الماضي،
فما
زال اسمه يُذْكَر حتى اليوم باحترام، وكان آخر مؤلفاته: الفلسفة بوصفها علم العلوم
وتاريخ تصنيفات العلوم Philosophy as the Scientia Scientiarum and a History of Classifications of the Sciences (١٩٠٤).