الحركة المثالية الجديدة
(١) القسم الأول: أصلها واتجاهها العام
نعني بالحركة المثالية الجديدة تغلغل المثالية الفلسفية الألمانية في الفكر الإنجليزي. ولم يصبح هذا التغلغل ملحوظًا إلا في العَقْدين السابع والثامن من القرن الماضي، أي بعد جيلٍ كامل من وفاة هيجل. وإذا كانت الصفة المميزة للفلسفة الإنجليزية حتى بداية هذه الحركة هي التزامها بدقة حدود تراثها القومي المنعزل نسبيًّا، ونفورها من أي عنصرٍ خارجي يقتحم أرضها عنوةً، بقدر نفورها من الانقلابات الداخلية، فإن أهمية الحركة الحديثة إنما تنحصر في أنها أحدثت تغيرًا تامًّا، واستحدثت وثبتت أشكالًا ومضموناتٍ فكريةً جديدة كل الجدة، وأضافت إلى حصيلة الفكر الإنجليزي ذخيرة من الأفكار الأجنبية التي لم تكن تُعرَف أبدًا من قبلُ. وعلى ذلك فإن المثالية الجديدة، التي كان دخولها إلى إنجلترا يمثل تحولًا هامًّا، لم تكن فقط توسيعًا وإثراءً وتعميقًا هائلًا للمحتوى المذهبي للتفكير الإنجليزي، بل كانت تمثل أيضًا، وقبل كل شيء، تراجعًا تامًّا عن الأساليب القديمة، وتحويلًا لدفة الفلسفة في اتجاهٍ جديد كل الجدة.
وإذن فعلينا أن نظل على اعتقادنا بأن النهضة الفلسفية في إنجلترا بعد أواسط القرن الماضي كانت ثمرةً متأخرة للمثالية الألمانية، وأنها تغذَّت من مصادرَ ألمانية، وتغلغلت فيها الروح الألمانية، أو أنها — إذا ما عبرنا عن الأمر بلغةٍ عملية — كانت في أساسها سلعةً ألمانية.
وليس المقصود من هذا الإقرار الواقع، لا الحكم، مدحًا أو قدحًا. فليس هذا موضع الكلام عن التغيرات التي طرأت على السلعة الأجنبية عندما استقرت في الأرض الإنجليزية، ولا عن مدى ارتباطها بالاتجاهات الفكرية القومية، أو بالصور الجديدة التي نمت منها، بل إن من واجبنا بالفعل أن نؤكد أن تغلغل التيار الفكري الألماني لم يحدث بطريقةٍ خارجيةٍ محضة، أي عن طريق اهتماماتٍ مدرسية، أو بالقسر والإرغام، وإنما حدث ذلك عندما أصبح ضرورةً باطنة؛ ذلك لأنه ليس ثمة شك في أن الظروف المؤدية إلى قبول البذرة الجديدة كانت، في الوقت ذاته، مواتية إلى حدِّ بعيد، وأن العوامل الحاسمة في هذا القبول كانت متعددة ومتنوعة.
فمن الملاحظ أولًا، أن الشعر والأدب بوجهٍ عام قد هيأ الجو الذهني لتلقِّي نظرةٍ مثالية إلى العالم. وكان من أهم العوامل التي ساعدت على البدء في الحركة الفلسفية على التخصيص، ذلك العمل التمهيدي الذي قام به، في النصف الأول من القرن التاسع عشر، شعراءُ مشهورون وكُتَّابٌ آخرون كان موقعهم خارج الأوساط الفلسفية المحترفة، وكان معظمهم على خلاف مع هذه الأوساط. فقد كان شعر الرومانتيكيين هو السبب في ظهور تلك النظرة الجديدة إلى العالم، والموقف الجديد من الحياة، الذي حل محل صور التفكير العتيقة الموروثة من عصر التنوير. وتظهر أولى بوادر المضمون الروحي الجديد، الذي شقَّ طريقه بعد ذلك بوقتٍ طويل إلى الفلسفة بدورها، في أشعار شيلي وكيتس، وورد سورث وكولردج. غير أن صمويل تيلر كولردج (١٧٧٢–١٨٣٤) هو الذي كانت له أهميةٌ خاصة من بين هؤلاء جميعًا، فهو لم يكن شاعرًا ملهمًا فحسب، بل كانت له أيضًا مواهبُ فلسفيةٌ أصيلة، وكان يسعى دائمًا إلى التعبير عن نظرته الشعرية إلى العالم تعبيرًا نظريًّا إلى جانب التعبير الفني، وفي خلال ذلك مرَّ ذهنه، الذي كان يتصف بقدرٍ هائل من التفتح والمرونة، بتغيراتٍ عدة، فتعرض مرة تلو المرة لتأثير هارتلي وباركلي واسبينوزا وأفلاطون وأفلوطين وكانْت وشلنج وغيرهم. وبعد اضطرابات وسوراتٍ متعددة، وصل أخيرًا إلى نوع من الميتافيزيقا الروحانية التي يمكن التعبير عنها بالحكم الرائعة والأقوال الموجزة أفضل مما يعبر عنها بالطريقة المنهجية الدقيقة. وقد وقف في هذه الآراء موقف المعارضة الشديدة للآراء الفلسفية السائدة في عصره وبلده، ولا سيما مذهب المنفعة التجريبي عند بنتام، الذي كان هو المذهب العصري المنتشر عندئذٍ. ومن الملاحظ أن الأوساط الفلسفية المتخصصة ذاتها كانت تعترف أحيانًا بأن كولردج قد أدخل إلى الفلسفة الإنجليزية روحًا جديدة لم تشترك في شيء مع الآراء الراسخة السائدة، كما جاء مثلًا في المقالات التي كتبها جون ستيوارت مل في عامي ١٨٣٨ و١٨٤٠ عن بنتام وكولردج، والتي أعيد طبعها، «أبحاث ومناقشات»، المجلد الأول، ورغم ذلك لم يظهر أي أثر لتدخل هذه الروح الجديدة في الأوساط الأكاديمية خلال حياة الشاعر، بل ولا بعد وفاته بجيلٍ كامل، وهذا أوضح دليل على أن الأوان لم يكن قد آن لحدوث تجديدٍ مثاليٍّ شامل في الفكر الإنجليزي.
على أن أحدًا لم يدعُ إلى رسالة المثالية بمثل العمق والتأثير الذي دعا به إليها توماس كارليل (١٧٩٥–١٨٨١)، فإليه، أكثر من أي شخص غيره، يرجع الفضل في إحداث التغيير الذهني الكامل الذي وقع في أيامه، وتهيئة الأرض للبذرة الجديدة. ورغم أن مواهب كارليل ومعلوماته الفلسفية كانت أقل من مثيلاتها عند كولردج، فقد كان أقوى منه اقتناعًا، وأشد إصرارًا وجرأة، وهكذا استوعب القيم الروحية للأدب والفكر الألماني، ثم عرضهما ثانيةً بكل ما كان يتصف به أسلوبه التنبئي من تأثيرٍ بالغ. ولقد كان إيمانه الكامل برسالته هو الذي أضفى على أقواله قوَّتها الإقناعية، وجعل لكلماته أصداءها القوية، وكان هو أول زعماء رد الفعل الحاسم على تراث القرن الثامن عشر، وعلى كل بقاياه في القرن التاسع عشر — أي على عصر التنوير — الذي كان رائده العقلي في نظره هو هيوم، وعلى الاكتفاء المتكاسل بالشكل والإنكار، وعلى الموقف الطبيعي وأخلاق المنفعة، وعلى تجاهل الروح النقدية وسيطرة العقل الغاشمة. ووسط كل أعراض الإفلاس الروحي هذه، التي كانت متفشية في بلاده، حاول أن يغرس القيم الجديدة التي ولدتها الفلسفة الكلاسيكية والأدب الكلاسيكي عند الألمان. وعلى هذا النحو أصبح جسرًا حيًّا بين الثقافتَين الألمانية والإنجليزية، وسفيرًا أو ممثلًا للروح الألمانية في بلاده، وأدى هذه المهمة على نحوٍ أفضل مما أداها عليه كولردج في أي وقت. ولكن، رغم هذا كله، لم يكن لديه أي اهتمامٍ فلسفي على التخصيص، ولم يكن للفلسفة بالنسبة إليه أي معنًى إذا ما فهمت على أنها تعمق في التحصيل أو تأملٌ خالص. ولقد اعتنق من المثالية وجهها العملي والديني أكثر مما اعتنق وجهها النظري، وآمن بها بوصفها قوةً حية وموقفًا ذهنيًّا أكثر مما آمن بها بوصفها نظرية أو فرعًا للمعرفة. وبدلًا من أن يتخذ من الفلسفة موضوعًا للتفكير، اكتفى بأن يحياها كيما يدعو إلى قيمتها الروحية ويطبقها على الحياة، منظورًا إليها من الوجهة الدينامية، ويدمجها فيها. وبمثل هذا الموقف تعلَّم من كانْت وفشته أكثر كثيرًا مما تعلَّم من شلنج وهيجل، وهذا ينطبق بوجهٍ أخصَّ على فشته، الذي كان يدين له بالجزء الأكبر من الوجه الفلسفي لتفكيره، ولم يكن يمل أبدًا من إحالة معاصريه إلى هردر ونوفالس وجان بول وشيلر، وإلى جوته العظيم، بوصفهم دعاة وخالقين لقيمٍ عمليةٍ جديدة ولكنها أزلية.
فالموقف الطبيعي في رأيه لا يمكن أن يكون معيار الحقيقة الفلسفية؛ لأن التفكير اليومي، الذي هو أبعد ما يكون عن التفكير العقلي، مضطر إلى الخضوع تمامًا لقرارات هذا التفكير العقلي، وهنا أيضًا كان فريير مبشرًا ومتنبئًا بتطورات ستحدث فيما بعدُ. غير أن اهتمامنا الرئيسي ينصبُّ هنا على الحديث عنه بوصفه واحدًا من رواد الحركة المثالية، التي ساهمت كتاباته، بما أحرزته من شهرةٍ غير قليلة في وقتها، في إعطائها قوةً دافعة ومضمونًا.
وهكذا فإن إحياء المثالية في إنجلترا قد مهدت له تياراتٌ أدبية، وبشَّرت به قلة من الفلاسفة المنعزلين، غير أن هناك عاملَين آخرَين ساعدا على إحداث هذا الإحياء والتعجيل به، أولهما اهتمام الأوساط الدينية واللاهوتية، وثانيهما العناية بالدراسات الكلاسيكية في الجامعات القديمة.
ويمكن القول إن هذا الاهتمام المتجدد والمتعمق، في أكسفورد، بفلسفة العصور الكلاسيكية القديمة، قد أتى في الوقت المناسب؛ نظرًا إلى الاتجاه الذي أخذ الفكر الإنجليزي يتحول إليه في ذلك الحين. فقد كانت القرابة بين المثالية اليونانية والألمانية واضحةً، وشعر الجيل الناشئ في أكسفورد أكثر من أي مكانٍ آخر، بالحاجة الملحَّة إلى تخليص الفكر الإنجليزي من ضيق أفقه وخضوعه الذليل لتراثه، وإلى العودة به إلى المجرى العظيم للفلسفة الأوروبية. وهكذا كان بعث الدراسات الأفلاطونية الذي استهله جويت، هو نقطة تجمع للمؤثرات الفلسفية الآتية من ألمانيا، وفضلًا عن ذلك، فإن هاتين القوتَين المتقاربتَين: اليونانية والألمانية، اللتين تقابلتا سويًّا في أكسفورد في اتصالٍ متبادلٍ مثمر، قد توحدتا في جويت نفسه، وسارتا في اتجاهٍ مشترك.
ولقد مر كثير من رواد المثالية الإنجليزية، بل أهمهم، على يديه، ونخصُّ منهم بالذكر جرين وإدوارد كيرد ونتلشيب الذين كانوا هم المقربين إلى مؤلفاته وشخصيته نظرًا إلى اشتغالهم في كلية باليول. ولقد ظهر تأثير الفلسفة الألمانية في كتاباته أوضح ما يكون في مقدماته لترجمته لمحاورات أفلاطون (الطبعة الأولى، ١٨٧١). ولنقُلْ أخيرًا إن أهمية جويت ترجع إلى أنه هو الذي أدخل تلك الروح الفلسفية التي تولدت عنها الحركة المثالية الجديدة في إنجلترا، ورعاها سنواتٍ طويلة، وحفز على الاهتمام بها، ولقَّنها لتلاميذه.
ولقد ظهر الجزء الأكبر مما أنجزته هذه المدرسة (إذ إن من الممكن الكلام عن مدرسة في هذه المرحلة) في أكسفورد، التي كانت المعقل الحقيقي للحركة، وظلت كذلك حتى بعد أن أدت وفاة جرين السابقة لأوانها إلى إحداث أول شقاقٍ جدي في صفوف الرواد. ومن أكسفورد انتقل الطلاب الذين تشبعوا بروح كانت وهيجل إلى سائر أرجاء البلاد، وأخذوا يشغلون بالتدريج كراسي الأستاذية وغيرها من مناصب التدريس في بقية الجامعات. وكانت جامعة جلاسجو مركزًا هامًّا آخر؛ فهناك استقرت التعاليم الجديدة فيها منذ وقتٍ مبكر جدًّا، بفضل الجهود الرائعة التي بذلها إدوارد كيرد وشقيقه جون، وحلَّت محل مذهب هاملتن الذي كان سائدًا حتى ذلك الحين. واكتسحت موجة المثالية الظافرة كل ما صادفها في كل مكان، وسرعان ما تركت طابعها في الجزء الأكبر من التعاليم الفلسفية التي كانت تُلَقَّن وتدرس في الجامعات. وهكذا حدث تغيير وتوجيهٌ جديد لا نظير لهما في تاريخ الفكر الإنجليزي بأسره. وفضلًا عن ذلك فإن حركة إحياء المثالية لم تبلغ في أي بلدٍ آخر ذلك الحد من الروعة، ولم يبلغ التأثير الروحي للمثالية ذلك الحد من القوة، الذي بلغه في إنجلترا في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر. وإنه لغريب حقًّا أن ألمانيا ذاتها لم تكد تشعر في أي وقت بهذا التحول العميق الذي طرأ على الفلسفة الإنجليزية بفضل تعاليم كانت وهيجل، وأنها لم تتلقَّ منها ثانيةً أي رد فعل أو تأثيرٍ مرتد.
ولقد سار تقدم الحركة على مراحلَ متعددة؛ كانت أولاها مرحلة استيعاب محتوى الأفكار الواردة بغية نشرها عن طريق الترجمات والشروح إلخ، وإدماجها في المادة المألوفة للتدريس الأكاديمي واستغلالها في مكافحة التعاليم القديمة التي كانت لا تزال سائدة عندئذٍ. كان ذلك هو العمل الرئيسي الذي تم في العقد البادئ بسنة ١٨٧٠، وهو عمل تولاه من أسميهم بالرواد، وهم سترلنج وجرين وإدوار كيرد وولاس وغيرهم. ورغم أن هذا العمل كان تفسيريًّا في أساسه، فقد كان أداؤه يتميز باستقلالٍ ذهنيٍّ ملحوظ، وتم فيه التوصل إلى بعض المبادئ الأساسية في التفكير، ظهرت فيها بوادر معالمَ فكريةٍ هامة تميز بها التطور التالي. وهكذا حُوِّرَت الأفكار المستوردة، أو وُسِّعَت على الأقل في أثناء نقلها. ثم جاءت مرحلةٌ تالية ظهر فيها النقد الخلاق والبناء المستقل، وذلك لتحصين الأرض التي غزاها الرواد وتوسيع رقعتها. وما إن أُطلِقت الروح النقدية التأملية من عقالها، حتى أمكن تحطيم الأشكال القديمة، واستطاع الفكر أن يبدأ التحليق في مساراتٍ جديدة. وهكذا أفضت الحركة الهيجلية إلى ظهور عدد من المحاولات المستقلة الأصلية لإيجاد حلولٍ جديدة للمشكلات الكونية القديمة. ومهما كانت درجة ابتعاد هذه المحاولات عن نقطة بدايتها، أو اختلفت طرق التفكير الأخرى التي انتهت إلى التحالف معها، فإن القوة الدافعة الأولى التي تلقتها إنما كانت عن الحركة المثالية الجديدة. ولا شك أن أقوى ذهنَين تأمليَّين ظهرا من بين صفوف هذه المدرسة كانا برادلي وماكتجارت، غير أن بوزانكيت وبرنجل باتيسون وورد وسورلي وهولدين وغيرهم قد ساهموا بدورهم في العمل البناء وتوصلوا إلى نتائج لها شيء من الأهمية.
وبعد فترة تدهورٍ طويلة، بلغت المثالية نقطة تقرب من النهاية خلال السنوات العشر الأخيرة تقريبًا، وإذا بدا عليها الوهن بوضوح، ولم يعُدْ بها مُدَّخر من الطاقة الخلاقة الجديدة، فقد أصبحت أكثر ميلًا إلى تجنب مواجهة خصومها، والتخلي عن البناء على أسسها الخاصة، والبحث عن دعامة لها في طرقٍ أخرى للتفكير، واتفق هذا الوهن الباطن مع سلسلة سريعة من الخسائر بوفاة أقدر قادتها: بوزانكيت في سنة ١٩٢٣، وبرادلي في ١٩٢٤، وماكتجارت وورد في ١٩٢٥، وهولدين في ١٩٢٨، وبرنجل باتيسون في ١٩٣١، وسورلي في ١٩٣٥، وماكنزي في ١٩٣٦، ولم يبق حيًّا ممن شهدوا أيام مجدها إلا القليلون، وأصبحت الحركة اليوم تكاد تدخل تمامًا في ذمة التاريخ. على أن المستقبل لن يكتفي بوضع أكاليل الغار عليها، وإنما سيرتد بنظره إليها في احترام واعتزاز؛ إذ إنها تمثل عصرًا اقترن فيه الذهن الإنجليزي بذهن كانت وهيجل، فأنتج ثورةً عاتية وتجديدًا جبارًا للفكر، ما زال حيًّا إلى اليوم، بوصفه قوةً دافعةً مثمرةً في تلك الفلسفة التي تختلف عنها اختلافًا تامًّا، والتي تسود إنجلترا اليوم.
(٢) القسم الثاني: الرواد
ولم يكن هذا الكتاب عملًا لعالمٍ مثابرٍ غزير المعرفة (وإن يكن يحوي بالفعل كميةً غير قليلة من المعلومات العلمية)، بل كان عمل رجلٍ تملَّكه انفعالٌ طاغٍ، يشعر بأن لديه رسالة يحققها، ويحسُّ بكل ما تنطوي عليه رسالته. فهو اعترافٌ ذاتي ينبض بالشعور الفياض، وهو نتاج تجربةٍ شخصيةٍ عميقة تهفو بإلحاح إلى التعبير عن ذاتها، وهو يخفق بروح المغامرة الجريئة التي يتسم بها المستكشف. وهو عمل صاغه المجهود الشاق لرائد لم يسبقه أحد، وإن كل صفحة منه لتحمل آثارًا لنضالٍ جبارٍ قلق مع الموضوع الذي كُتبت فيه. ولولا هذا كله لما استطاع ذلك الكتاب أن يبلغ ما كان لا بد له أن يبلغه من نفاذ البصيرة وعمقها، حتى يجرف الناس أمامه من فرط الحماسة، ويستهلَّ حركةً فكريةً جديدة.
ولقد كان الطريق الشاق الذي سلكه سترلنج لفهم هيجل — وقد صرح هو نفسه بأنه شق طريقه بحد السيف — مقترنًا بتلك المهابة السحرية التي يحس بها المرء وهو في حضرة شيءٍ غامضٍ طاغٍ، والتي لا يدرك مقدارها ودلالتها إلا في إحساسٍ غامض يحتاج إلى وقت وجهد لكي يتحول إلى مفهومٍ واضح. وإن كتابه ليزخر بالعجب من ضخامة هيجل الغريبة، وهو عجب يتبدَّى — تبعًا لحالته النفسية — تارةً في صورة يأسٍ عميق أو شكٍّ مرتاب، وتارةً أخرى في صورة ثقةٍ راضية أو حتى سورات من النشوة الخالصة. وليس لنا أن نفسر التعبيرات والأحكام الناشزة فيه إلا بأنها تسجيل لحالته النفسية، كلما مُني نضاله بالفشل حينًا، وتُوِّج بالنجاح حينًا آخر. ويمكن القول إن موقف الثقة والتأكيد الإيجابي والحماسة المتدفِّقة هو الأغلب على وجه الإجمال، وهو الذي يؤدي به في النهاية إلى بلوغ هدفه المنشود ظافرًا؛ أعني إلى كشف سر هيجل.
وهو يزيد من إيضاح مركز هيجل، عن طريق البحث في علاقته بالسابقين عليه من الألمان، ولا سيما كانت؛ ذلك لأن هيجل لا يفهم بذاته، ولا بد لاستجلاء غوامضه من الرجوع إلى كانت، الذي يحمل مفاتيح هذه الأسرار. وفي وسع المرء أن يسقط من حسابه المفكرَين اللذين أتيا بينهما، وهما فشته وشلنج. ومهما كانت أهميتهما، فقد كان كانت هو الذي وضع أسس المثالية الحديثة، ولا بد لفهم أية خطوة تجاوزته من فهمه هو أولًا؛ ذلك لأن كانت «تلك الروح الخيرة الأمينة المخلصة المعتدلة المتواضعة» (المجلد الأول، ص١١٥، ص٧٧ في طبعة ١٨٩٨) هو الذي جعل مبدأ المثالية معقولًا، وعلى أساس هذا المبدأ، موضحًا على هذا النحو، بنى هيجل عالمه وشيد مذهبه. ولقد أعاد هيجل تسمية وتصنيف وتنظيم كل شيء، ولكن كانت كان قد مهَّد لهذا كله من قبلُ، بحيث ينبغي أن تبدأ به دراسة الميتافيزيقا، التي يُتعين أن تجري في إنجلترا على أساسٍ جديد. ويصور سترلنج «كانت» على أنه أصدق الفيلسوفَين وأكثرهما أصالةً وعمقًا، وإن يكن هو الأبسط والأكثر تواضعًا، أما هيجل فهو الأجرأ والألمع، ولكنه غير موثوق منه مثل كانت، كما أنه مفرط في الإغراب، وهو الذي تمكن من تشييد بناءٍ جبار من المواد الغنية التي ورثها من الآخرين. ويعبر سترلنج عن فكرته هذه تعبيرًا موفَّقًا فيقول إن كانْت هو «المنجم الذي استمدَّ منه [هيجل] ثروته بأسرها» (م١، ص١١٥، ص٧٧ في طبعة ١٨٨٩).
ولقد كان سترلنج يوجِّه دائمًا اللوم إلى هيجل؛ لأنه تعمد إزالة كل آثار دينه الكبير الذي كان يدين به لكانت، وذلك بمهاجمته على الدوام؛ وبذلك ترك انطباعًا زائفًا بأنه كان معارضًا له على طول الخط، مع أنه كان في الواقع تابعًا ومكملًا له من جميع الأوجه. وعند هذه النقطة ينفجر شك سترلنج، مرارًا وتكرارًا، في أصالة الواجهة البراقة التي اتخذها مذهب هيجل، ولكن هذا الشك كان دائمًا يتلاشى أمام رؤية جانبٍ جديد من جوانب تفكير هيجل بكنوزه الزاخرة.
ولقد طبَّق سترلنج حكمة القائل إن التفكير الأصيل لم يستمر ولم يُفْهَم في إنجلترا منذ هيوم، طبَّقه حتى على أولئك المفكرين الإنجليز القلائل الذين «زعموا» أنهم فهموا الفلسفة الألمانية واستوعبوها، أي على السير وليام هاملتن ومدرسته، فكشف عن تفاهة هذا الزعم، بأن بيَّن أنهم لم يفهموا حتى أبسط التعبيرات المميزة لكانت وهيجل، وأنهم — بدلًا من أن يجيدوا فهم الفكر الألماني — قد شوَّهوه ودمَّروه، أو لم يتركوا منه، على أية حال، إلا ما هو سطحي. وهكذا طرح هاملتن بدوره جانبًا، وقد هاجمه مراتٍ عدة في كتابه «سر هيجل»، ثم دخل معه في معركةٍ صريحة في مؤلَّفٍ خاص ظهر في العام نفسه.
ولنعُدْ إلى «سر هيجل»، فما الذي كان يعنيه سترلنج بهذا العنوان الذي كان أقرب إلى الإثارة، وكيف استقرَّ عزمه على القيام بمهمة كشف هذا السر؟ ربما كان هناك بعض الصدق في الدعابة القائلة إنه لو كان سترلنج قد عرف سر هيجل لعرف كيف يحتفظ به لنفسه. وفي اعتقادي، على أية حال، أن فضل سترلنج لا يرجع إلى إماطته اللثام عن سرٍّ حقيقي، بقدر ما يرجع إلى أنه قد لفت الأنظار بكل قوة، ولأول مرة، إلى العبقري المجهول، الذي كان اسمه يزداد ذيوعًا في إنجلترا، وإن لم يتمكن أحد من أن يُكوِّن عنه فكرة تقرب من الوضوح والتحدُّد. ولا شك أن الضوء الذي ألقاه سترلنج على هيجل قد خبا إلى حدٍّ ما نتيجة للطريقة الشاقة التي توصل بها إلى فهمه، بحيث ترك من القناع الغامض الذي سعى إلى إزالته جزءًا يكفي لإثارة حب الاستطلاع والتشجيع على إبداء مزيد من الاهتمام بموضوع البحث. والأمر الذي لا جدال فيه أن هذا الكتاب لو كان علميًّا محضًا لما أحدث هذا التأثير. وعلى ذلك فإن فضل سترلنج لا يرجع إلى مساهمته في فهم محتوى مذهب هيجل، بقدر ما يرجع إلى مساعدته على إظهار الصفات العقلية والطابع العام لهذا المذهب. فإذا أخذنا في اعتبارنا حالة الفلسفة الإنجليزية في ذلك الوقت لوجدنا أن هذه كانت هي الخدمة الأجلَّ،؛ فقد خلق أسطورةً هيجلية، لم تتحول إلى الصبغة الواقعية المنتمية إلى العالم الفعلي، ولم تنقَّ من شوائبها، إلا بعد عشراتٍ طويلة من سنوات البحث الجاد النزيه الدقيق.
وإن الصورة التي رسمها سترلنج لهيجل لتبدو لي صحيحة على وجه الإجمال، فإذا تذكرنا أنه كان يطرق أرضًا جديدة كل الجدة، فسوف تتملكنا الدهشة من عمق بصيرته في إدراك ما هو أساس في هذا التفكير، وهي بصيرة لم تكن ممكنة إلا في ذهن اتسم بمثل هذا الخيال المتعاطف، وإن طريقته في العرض، التي كانت تحفل بالصور الواضحة الملوسة، وتحفل أيضًا بالغموض والتعقيد، وتحفل كذلك بالتأمل النظري والإغراب؛ إنما تلقي على المشكلات ضوءًا أشبه بضوء مجموعةٍ مختلطةٍ متداخلة من الكشافات. على أنه ينجح في بث الأفكار في ذهن القارئ، بحيث لا يملك القارئ إلا أن يفهمها. ولقد كان مصطلح هيجل مصدرًا لصعوبةٍ هائلة في طريقة العرض؛ فقد تعيَّن نحت ألفاظٍ فلسفيةٍ جديدة من أجل الوصول إلى مرادفاتٍ إنجليزية، وكانت محاولة سترلنج البطولية لتحقيق ذلك مساهمةً قيمة فيما تحقَّق بعده، بل حققت هي ذاتها نتائج تدعو إلى الإعجاب، حتى لو لم يكن قد نجح تمامًا، رغم صوره ونُحُوته الجريئة، في إعادة تجسيد معاني هيجل.
وتتوقف كل أهمية سترلنج في الحركة المثالية على حكم المرء على مؤلَّفه الأول «سر هيجل»، فرغم أن عمله في الكتابة الفلسفية، قد استمر حتى القرن الجديد، فإن واحدًا من مؤلفاته الأخرى العديدة لم يكن يداني مؤلَّفه الأول في أهميته التاريخية وفي قوته وتعبيره الشخصي المباشر، سواء في ذلك مناوشاته النقدية مع هاملتن وهكسلي ودارون، وكتابه المدرسي الرائع عن كانت (وهو موازٍ لكتابه عن هيجل)، ومحاضراته في فلسفة القانون، ومحاضرات «جيفورد» التي ألقاها بأسلوبٍ بلاغيٍّ مبالغ فيه، فقد ظل إلى النهاية هيجليًّا مخلصًا. وهكذا استمر، حتى في كتابَيه الأخيرين اللذين نشرا بعد أن تعدَّى الثمانين من عمره، يعرض فلسفة هيجل ويسعى إلى كسب أنصار لها.
كان ت. ﻫ. جرين هو أنشط وأنجح من واصلوا بناء المثالية على الأسس التي وضعها سترلنج، فعلى حين أن الأخير — الذي لم يشغل أي منصب أكاديمي — لم يستطع أن يدعو إلى عالم الأفكار المكتشف حديثًا إلا من خلال كتاباتٍ منشورة، فإن الأول قد تمكَّن من أن يضيف إلى ذلك وسائلَ أخرى لتحقيق نفس الهدف، هي التدريس والقدوة الشخصية، وسرعان ما كوفئ باستجابةٍ حماسية، ليس فقط في أكسفورد، التي كان الاستعداد الذهني متوافرًا فيها، بل في أماكنَ أخرى أيضًا. فبفضل جرين، وليس قبله، بدأت المثالية الألمانية بحق رسالتها في الأرض الأنجلوسكسونية، وبفضله كسبت لنفسها وطنًا ثانيًا باقيًا في بلد كانت فلسفته من قبلُ تغلق أبوابها بكل شدة في وجه المؤثرات الأجنبية، وتسير بإخلاصٍ تام في أعقاب تراثها القومي الطويل. ولقد كان هو الذي فتح تلك الجبهة الفلسفية التي كانت الحراسة عليها قويةً مشددة، ومنذ ذلك الحين لم يعد هناك حاجز يحول دون دخول الأفكار الجديدة بحرية.
ولكن إلى أي مدًى كان من الممكن المضي في عملية البناء فوق الأسس التي وضعها سترلنج، طالما أن التراث القومي المتأصل الذي يرجع إلى قرونٍ طويلة، قد ظل مسيطرًا بلا منازع؟ لقد أدرك جرين منذ البداية أن التراث كان العقبة التي يتعين إزاحتها، وأنه لا يكفي أن يوضع الجديد محل القديم، وإنما ينبغي أولًا زعزعة القديم وتقويض أركانه. وهكذا كان من الضروري خوض صراع حياة أو موت بين الفلسفات القائمة على المذهب الطبيعي أو مذهب المنفعة عند بنتام ومل وليويس وبكل وسبنسر ودارون وهكسلي، وبين سدجويك من جهة، وبين مثالية كانْت وفشته وشلنج من جهةٍ أخرى. وهكذا يصادف المرء في كل شيء كتبه تقريبًا، في المحاضرات التي تركها ضمن مخلفاته، وفيما نشره هو نفسه أو أعده للنشر، نضالًا مستمرًّا عنيفًا ضد الفئة القائلة بالمذهب الطبيعي، بل إن أول أعماله، أعني مقدماته المشهورة اليوم، تحمل هذا الطابع المميز، ألا وهو الارتباط الوثيق بين المناداة بالجديد، وبين إعلان الحرب على القديم. وهكذا كان لجرين دائمًا عدو يواجهه، وتلك هي الطريقة الوحيدة التي كان يستطيع أن يفكر بها. وعلى ذلك ففي تلك المرحلة المبكرة التي يمثلها، من مراحل التأثير الألماني، لم يكن العمل الجديد البنَّاء قد بدأ بعدُ، رغم أهمية مساهماته التمهيدية، أي إن رسالة جرين في تاريخ الفلسفة كانت قبل كل شيء إزاحة المذاهب القديمة من الميدان وتمهيد الأرض لمركبٍ جديد من نوعٍ مثالي، ولم تبدأ الثمار الكاملة لجهوده في الظهور إلا عندما ظهرت مذاهب برادلي وبوزانكيت وماكتجارت والباقين.
ولم يقتصر اهتمام جرين، في عملية تطهير الأرض، على المذهب الطبيعي عند معاصريه، بل إنه تجاوزهم، وركَّز جهوده أساسًا في استئصال الجذور التاريخية القديمة العهد لطريقة التفكير هذه. وهي المذاهب التجريبية الكبرى بالقرنَين السابع عشر والثامن عشر، ولهذا الغرض كتب مقدمتَيه لبحث هيوم في الطبيعة البشرية، وهما تمثلان نقدًا أساسيًّا للتعاليم النظرية والعملية للحركة التجريبية من لوك إلى هيوم. ولكن من الغريب حقًّا أن تلحق هاتان المقدمتان بطبعة لمؤلفات الممثل الكلاسيكي لهذه الحركة. ولقد كان جرين يسترشد بالفكرة الهيجلية القائلة: إن الفلسفة تتقدم بطريقةٍ ديالكتيكية، مستهدفة إيجاد نظرةٍ متزايدة المعقولية إلى الأشياء، بحيث تكون المذاهب الماضية هي الخطوات المتعددة في عملية التقدم هذه. ولا جدال في أن المذهب التجريبي كان إحدى هذه الخطوات الهامة، وكانت دلالة مذهب هيوم بالنسبة إلى تاريخ الفلسفة في نظره، هي أنها تمثل نهاية هذه الخطوة، التي ارتفعت بعدها الحركة الديالكتيكية الفكرية إلى مرحلةٍ جديدة أعلى عند كانت. فإذا ما نظرنا إلى المذاهب التجريبية الممتدة من لوك إلى هيوم من هذا المنظور الأعلى، لوجدنا أنها تبدو بالفعل أخطاء، غير أنها، بقدر ما أعانت على استخلاص حقيقةٍ جديدة لدى كانْت، قد ساهمت بدورٍ حاسم في تقدم الفكر، فبحثُ هيوم في الطبيعة البشرية يمثل معبرًا يوصل إلى «النقد» الأول عند كانت، [أي نقد العقل الخالص].
وهو في الوقت ذاته أهم نقطة تحول في تاريخ الفلسفة الحديثة. وهكذا يربط جرين بين هيوم وكانت ربطًا وثيقًا؛ إذ إن أحدهما قد سأل سؤالًا، والآخر قد أجابه. فنزعة الشك عند هيوم قد هزَّت الفكر، من أعماقه، بفضل اتخاذها من التساؤل موقفًا أساسيًّا، وبذلك مهَّدت الطريق لإجابة من نوعٍ جديد، قدمها كانْت في «نقد العقل الخالص»؛ لذلك فإن كانْت يُعَدُّ الخليفة الحقيقي لهيوم. وهكذا فإن تطور الفلسفة بعد هيوم لا يتمثل في ذلك الخط المستقيم المؤدي إلى أتباعه في القرن التاسع عشر، وإنما في التحول الديالكتيكي الذي عجَّل بظهور الحركة المثالية الكبيرة لدى الألمان، فلم يكن في إنجلترا خلفاء أصيلون لهيوم؛ إذ إن أسئلته الفاحصة، التي نفذت إلى أعمق جذور المعرفة، لم تجد هناك من يجيب عنها، بل إنها لم تعد مفهومة؛ فذلك النوع من الفلسفة، الذي كان موجودًا عندئذٍ، كان منحلًّا لا حياة فيه، وما هو إلا فكر يسير في فراغ، دون أي حافزٍ خلاق، وبالتالي دون أية إمكانية للتقدم. ولقد كان انتقال الروح الفلسفية التي ظلت حية في المذاهب الإنجليزية الكلاسيكية إلى ألمانيا، هو الذي دعا جرين إلى أن يقول مرارًا وتكرارًا للجيل الجديد من مواطنيه: «دعوكم من مواطنيكم مل وسبنسر، وتحولوا إلى كانت وهيجل.» وبهذا الرأي المضاد الذي قال به جرين، بدأ فصلٌ جديد في تاريخ الفلسفة الإنجليزية.
ورغم نقص عدد المؤلفات التي عبر بها جرين عن تفكيره، فإن هذا التفكير يُكوِّن كلًّا منظمًا، يندرج تحت ثلاثة أبواب: الميتافيزيقا، والأخلاق، والفلسفة السياسية. ولقد كان الباب الأخلاقي هو الرئيسي من بينها، كما يحق للمرء أن يتوقع من ذهن كان اتجاهه أخلاقيًّا في أساسه؛ فالأخلاق هي مركز الثقل في المذهب، تسبقها وتمهد لها الميتافيزيقا (التي هي بدورها مسبوقة بنظرية المعرفة). وتسفر عن مذهب في الدولة، وفي الشروط الأخلاقية للحياة الاجتماعية والسياسية، وبتعبيرٍ آخر فإن المذهب يبحث على التوالي في المسائل الآتية، التي تفضي الإجابة عن كلٍّ منها إلى الإجابة عن الأخرى: ما هو الحقيقي؟ ما هي الطبيعة الحقيقية للإنسان؟ وما مكانه في عالم الواقع؟ وما الذي يتعين عليه أن يفعله إذا شاء أن يؤدي رسالته؟ وماذا ستكون مهام المجتمع إذا شئنا أن يؤدي الإنسان في هذا المجتمع وبفضله رسالته الأخلاقية؟ وأخيرًا فهناك السؤال الذي لم يناقشه جرين صراحةً، وهو السؤال المتعلق بالحقيقة العليا أو الله، بوصفه أساس كل وجودٍ مخلوق. وهكذا فإن مذهب جرين يتعلق بطبيعة الحقيقة، وبالإنسان بوصفه شخصًا أو موجودًا أخلاقيًّا، وبالمجتمع أو الدولة بوصفها كثرة من هذه الموجودات، وبالله بوصفه الموجود الذي تستمد منه كل الموجودات الأخرى معناها.
وسرعان ما يظهر بعد ذلك، بطبيعة الحال، اتجاه إلى تجاوز موقف كانْت الإبستمولوجي واستخلاص نتائجَ ميتافيزيقيةٍ تسير في اتجاه الفلاسفة التالين لكانْت ولا سيما هيجل. وقد اتجه المجهود الأكبر لجرين إلى التغلب على الثنائية التي وضعها كانت بين المظهر والشيء في ذاته، وطبيعي أنه كان من المحال، في ضوء مذهبه القائل بأن العلاقات تسري على كل شيء وتكوِّن كل شيء، أن يقنع بعالمَين لا تربطهما أية علاقة. وهكذا أوضح، في مقابل هذه الثنائية، أن فكرة الشيء في ذاته تنطوي على تناقضٍ مشابه لذلك الذي تنطوي عليه فكرة الانطباعات عند هيوم، إذ كيف يمكن أن يدخل ما هو — حسب تعريفه — غير قابل للمعرفة، في أية علاقة مع ذهن عارف؟ لو كان الشيء في ذاته علة المظاهر؛ لوجب أن يكون هو ذاته مظهرًا، على حين أن تعريفه ذاته ينص على أنه ليس كذلك، ولو كان هو المادة الخام — غير المشكَّلة على الإطلاق — للتجربة، لوجب أن يكون خلوًا من أي تحددٍ عقلي. فالمادة المحسوسة المستقلة تمامًا عن التحديد الفكري لا تعدو أن تكون «س» غير مرتبطة بشيء، وبهذا الوصف لا يمكن أن تكون موضوعًا للمعرفة ولا واقعةً حقيقية، «فالإحساس المحض» تعبير لا يناظر شيئًا في الواقع، وإنما هو ناتج عن تجريدٍ مصطنع. وهكذا يقف جرين موقف المعارضة الشديدة للمذهب الحسي، ويلمح أثرًا باقيًا من هذا المذهب حتى في فكرة الشيء في ذاته عند كانت، وهو يذهب إلى أننا ملزمون بأن ننسب إلى الإحساس شيئًا من التحدُّد، أعني التعاقب والشدة، وهذا يستتبع أن الفكر هو الشرط الضروري لوجود هذه الوقائع المحدَّدة، وأن الإحساس المحض لا يمكن أن يكون عنصرًا مكوِّنًا للعالم الفعلي.
وإذن فما هو هذا المبدأ الذاتي الذي هو أساس كل وجودٍ موضوعي وشرطه؟ هنا أيضًا يسارع جرين إلى ترك نظرية المعرفة، أي المذهب الكانتي بمعناه الضيق، وينتقل إلى تطبيقٍ تأمُّلي نظري يبدأ فيه ظهور أفكار منتمية إلى هيجل وباركلي، فمقابل الطبيعة — أي الطبيعة بوصفها نسقًا من الأشياء المرتبطة فيما بينها — هو الروح، ولكن ليس المقصود بالروح هو الذات الفردية منظورًا إليها نفسيًّا، ولا الوعي في عمومه منظورًا إليه معرفيًّا، وإنما المقصود مبدأٌ ميتافيزيقيٌّ كلي، أو وعيٌ أزلي، كما يفضل جرين أن يسميه. فالكون، بوصفه نسقًا، كل عنصر فيه يرتبط بكل عنصرٍ آخر ويفترضه مقدمًا ويفترض فيه، يقتضي وعيًا كليًّا شاملًا لكل شيء، يكون شرطًا لوجوده، ذلك هو وحدة الكثرة، والهوية في كل تغير للمظهر، وعلاقة محتويات الإدراك العابرة بنسق الفكر، وكذلك علاقة الأشياء والوقائع الجزئية بنسق العالم في كلِّيته. فهذا هو المبدأ المنظم الذي يبعث الوحدة وكل نوع من النظام، وهو الكل الذي يجد فيه كل جزء مكانه المنطقي، والكلي الذي يصبو إليه كل جزئي، والذي يحتاج إليه ليكمل ذاته، ولا يكون بدونه شيئًا، وهو للوحدة الإلهية التي تحمل كل شيء وتحفظه، والتي يعيش فيها كل شيء ويتحرك ويجد وجوده، فهو العنصر الروحي المطلق، الذي يعلو ويتجاوز ويسبق كل ما هو طبيعي، والذي لا يوجد في مكان ولا في زمان، واللامادي اللامتحرك، الواحد أزلًا مع ذاته. وواضح من ذلك أن للمبدأ الأول عند جرين أوجهًا متعددة؛ فهو تارة العقل الكانتي، وتارةً أخرى الروح الهيجلية، وتارةً ثالثة إله باركلي. ونظرًا إلى قوة الاتجاه إلى الألوهية عند جرين، فإن الأخير من هؤلاء — أعني إله باركلي — يظهر لديه كثيرًا، لا سيما في فكرته عن حضور كل الأشياء (أو كل الأفكار، كما كان باركلي خليقًا بأن يقول) وتساميها في الله، ولهذا السبب كان في تعاليمه سلاح رحَّب اللاهوت المحافظ في كفاحه ضد المذهب الطبيعي والمادي المنبثق عن العلم الطبيعي. ولقد لاحظ الكثيرون أن تجدد المثالية في إنجلترا قد نشأ نتيجة المصالح الدينية والكنسية، التي اتخذت من المثالية وسيلة للدفاع ضد تأثير الداروينية والتطورية الهادم للإيمان.
ومع ذلك ينبغي ألا تنسينا هذه الصفة التي تميزت بها الحركة المثالية في بدايتها، أن تجدد الفكر الإنجليزي، مهما كان قد استُغِلَّ في خدمة أغراض لها طابع غير نظري؛ يدين بظهوره، بنفس المقدار، لحافزٍ فلسفيٍّ أصيل، ولا شك أن هذا الحافز ظاهر عند جرين، رغم أنه لم يكتسب عنده أساسًا نظريًّا محضًا، وكان قبل كل شيء تعبيرًا عن اهتمامه، الذي كان أخلاقيًّا واجتماعيًّا في أساسه، والذي ربما كانت البواعث الدينية بدورها قد لعبت فيها دورًا.
ويتكرر مثل هذا الموقف في الأخلاق بمعناها الصحيح عند جرين، بل إن مظاهر الثنائية هنا أوضح منها في أي جزءٍ آخر من مذهبه، وذلك راجع إلى أنه كان في مذهبه الأخلاقي أشد تأثرًا بكانت مما كان في ميتافيزيقاه، وهو يتخذ نقطة بدايته من تلك الحاجات الخالصة كالدوافع والغرائز، التي هي في مجال الأخلاق مُناظِرة للإحساسات الخالصة في المعرفة، وهو يرى أنها بدورها تحتاج لكي تكتمل أو تتحقق إلى مبدأ يعلو عليها. والواقع أننا لا تكون لنا في المجال البشري حاجاتٌ خالصة أبدًا، بل يُضاف إليها دائمًا وعي بها وبالأشياء المرتبطة بها. وهكذا يتضح لنا هنا أيضًا، كما اتضح لنا في مجال المعرفة، أن ما يوصف بأنه موضوعيٌّ خالص، ينطوي منذ البداية على إشارة إلى شيءٍ ذاتي، وأن الانتقال من الحاجة الخالصة إلى الوعي بالشيء الذي نحتاج إليه، يفترض مقدمًا أن الحاجة تتمثل لذات تتميز عنها أساسًا بأنها تظل ثابتة طوال تعاقب الحاجات المتغيرة. وهنا أيضًا نجد، كما وجدنا من قبلُ، أن الذات تختلف عن العملية أو التعاقد، المماثل أمامها، وليست هي ذاتها مرحلة أو سلسلة من المراحل داخل هذا التعاقب، وإنما هي شيء باقٍ ثابت من وراء كل ذلك، شيء تستقر فيه المراحل الجزئية المتعاقبة.
وإذن فالحاجة الخالصة ليست بذاتها شيئًا، وإنما هي تشير دائمًا إلى شيءٍ أعلى، أي إلى الفعل الأخلاقي، وإلى ما نعزوه دائمًا إلى أنفسنا، وما نشعر بأننا مسئولون عنه. ويميز جرين تمييزًا قاطعًا بين الفعل الأخلاقي وبين الفعل الغريزي البحت، ويسمى الأخير نفيًا للأول. وهو يبين أنه على حين أن شروط أفعالنا قد تنشأ من المجال الطبيعي، فإن بواعثنا لا يمكن أن تنشأ من هذا المجال؛ فالباعث لنا على الفعل هو دائمًا عمل من أعمال الوعي الذاتي، وهذا لا ينتمي إلى المجال الطبيعي وإنما إلى المجال الأخلاقي، فالمسئولية التي نضطلع بها عن الفعل هي التي تجعله أخلاقيًّا، حتى لو كان الحافز إلى الفعل أو إلى التعجيل به مجرد حاجة حيوانية. ونحن ننسب الفعل إلى شخصيتنا، والشخصية هي وحدة حاجاتنا المتعاقبة زمنيًّا، أي إن هناك في جميع أفعالنا وعي يظل على ما هو عليه، يمارس فاعليته على حاجات أصلها حيواني، ويرتفع بها إلى مستوى المجال الأخلاقي. والهدف من كل هذه الأفكار، التي لا نستطيع هنا أن نتابعها في تفاصيلها، هو التفرقة القاطعة بين العالم الأخلاقي وبين الظروف الطبيعية التي ينشأ منها، والتي يظل مغلَّفًا بها.
وعندما يصل جرين إلى المهام والغايات العينية للحياة الأخلاقية، يلتزم الطريق الذي حدَّد معالمه كانت وفشته. فالقيمة المطلقة للشخصية الإنسانية هي مبدؤه الأول، الذي يتلو منه شرط المساواة والإخاء بين جميع الناس. فليس لأحد أن يسعى وراء أي خير، سواء لنفسه أو لأي شخص غيره، بوسائل قد تنال من خير الآخرين، وليس لأحد أن يحكم على الناس المختلفين بمعايير مختلفة. ولما كان لكل شخصٍ إنساني قيمةٌ مطلقة، فمن الواجب أن تعامل الإنسانية في كل فرد على أنها غاية على الدوام، لا على أنها وسيلة. ولا يمكن تحقيق الخير بمعناه الصحيح إلا إذا كان لكل شخص كيانه الذي يلتزم كل شخصٍ آخر بالاعتراف به واحترامه. وقوام التقدم الأخلاقي إنما يكون في إدراكنا المتزايد للحقيقة القائلة إن الغاية الحقيقية للإنسان لا تكون في المظاهر الخارجية للخير، وبالتالي لا تكون في الفضائل التي نكتسب بها هذا الخير الخارجي، وإنما تكون كلها في الفاعلية الفاضلة منظورًا إليها بوصفها غايةً في ذاتها. فالموضوع الوحيدة الذي هو أساسي وله قيمةٌ مطلقة، بالنسبة إلى الإنسان، هو كمال الشخصية الأخلاقية منظورًا إليه على أنه تحقيق للذات الأصيلة. ولقد أدرك جرين أن الفكرة الأساسية في هذا المثل الأخلاقي الأعلى، الذي وجد أعلى تعبير عنه، في العصور الحديثة، في المثالية الألمانية، كانت موجودة ولها أثرها في كلٍّ من أفلاطون وأرسطو (اللذين أشار إليهما صراحةً)، ولكن على الرغم مما عزاه إلى الفلسفة اليونانية من قيمةٍ رفيعة، فقد رأى أن المسيحية، عندما أدخلت مصادرات المساواة والإخاء بين البشر (وهي فكرتها الاجتماعية المميزة)، قد وسَّعت المجال الأخلاقي إلى حدٍّ بعيد، وإن لم تكن قد غيَّرت المثل اليوناني الأعلى؛ ومن ثم فقد أعطى مكان الصدارة للمثل المسيحي الأعلى، ورأى أنه يمثل خطوةً عظيمة الأهمية إلى الأمام.
وإن مذهب جرين الأخلاقي ليمثل، في تطور الفلسفة في إنجلترا، انشقاقًا أشد، وتغييرًا أعمق من أي شيء حقَّقه في المجال النظري بمعناه الضيق، فهو في الأخلاق قد ضرب على وتر لم يُسمَع من قبل في إنجلترا أبدًا. ففي مذهبه الأخلاقي، كما في نظرية المعرفة عنده، نراه يهاجم المذهب التجريبي، ويرى أن رسالته في الحياة، والخدمة التي سيقدمها إلى عصره، إنما هي الحملة على أخلاق اللذة، إلى جانب ما عرضه من أفكاره الخاصة. فكيف يمكن تحقيق الغايات الرفيعة للمثل الأخلاقي الأعلى إذا لم يكن لسلوك الإنسان من مصدرٍ سوى طلب اللذة وتجنُّب الألم؟ إن اللذة، بما هي كذلك، لا ارتباط لها بالأخلاق، مثلما لا ترتبط بها الحاجة بما هي كذلك. وهي لا تكتسب دلالةً أخلاقية إلا عندما تدخل في علاقة مع وعي يعرفها بوصفها لذة، وعندئذٍ لا تعود لذةً مجردة، وإنما تتحول وترتفع إلى مستوًى أعلى، وتغدو عنصرًا في الحياة الأخلاقية. وبالمثل فإن مجرد إضافة اللذة إلى اللذة، وموازنة مقدار منها بمقدارٍ آخر، هو عمل لا معنى له، بل هو عمل مستحيل؛ إذ إن اللذة بما هي كذلك، مجردة من الموضوع الذي تتعلق به، والشروط التي تظهر فيها، تكون غير محددة على الإطلاق؛ وبالتالي لا يمكن إدراكها بوصفها حسًّا محضًا. ومن الجائز بالفعل أن يقترن بلوغ الهدف المرغوب فيه باللذة، ولكنها لا يمكن أن تكون هي ذاتها موضوعًا للرغبة، وإن طابع اللذة في الخير الذي نصل إليه ليتوقف على خيرية هذا الخير، وليست هذه الخيرية هي التي تتوقف على ما تجلبه من لذة. وهكذا يرفض جرين مذهب اللذة بأكمله بوصفه غير مقنع من الوجهة النظرية، وله نتائجُ خطرة من الوجهة العملية.
أما فلسفة جرين السياسية، فإنها، على خلاف فلسفته الأخلاقية التي عرضها في كتاب انتوى نشره وأعدَّ معظمه بالفعل للنشر، قد وصلت إلينا في صورة محاضرات أشرف على نشرها شخصٌ آخر من بين مخلفاته، ومن ثم فإن أهميتها الفلسفية أقل. فمذهبه في المجتمع وفي الدولة هو مجرد امتداد لمبادئه الأساسية للأخلاق في مجال الحياة الاجتماعية، فالفرد والدولة يفترض كلٌّ منهما الآخر ويتحكم فيه، ولا يمكن تحقيق الشخصية الأخلاقية إلا في المجتمع ومن خلاله. ولكن رغم أن جرين أكد العامل الاجتماعي بقوة، واعترف بما فيه الكفاية بأهمية الدولة، فإنه هنا أيضًا يتوقف كعادته في منتصف الطريق؛ ذلك لأن فكرة الشخصية الأخلاقية التي أخذها عن كانت وفشته، والتي عمقت إلى حدٍّ بعيد، لم تمنعه من العودة إلى الفردية المأثورة عن الإنجليز؛ فظل يضع الفرد، منظورًا إليه على أنه مستقل وحر، قبل الأفراد المنتمين إلى مرتبة أعلى كالمجتمع والدولة والأمة. وهكذا فإن عدم تحرره تمامًا من قيود التراث القومي، قد حال بينه وبين استخلاص تلك النتائج الجريئة التي استخلصها هيجل. وليس من الممكن تفسير ضآلة تأثير هيجل في فلسفته الأخلاقية إلى هذا الحد الذي يدعو إلى الدهشة، إلا في ضوء الحالة السياسية في إنجلترا. ولا بد لنا — لكي نصادف اعترافًا غير متحفظ بالنظرية الهيجلية في الدولة — من أن ننتظر حتى يظهر بوزانكيت وغيره من الأفراد الذين هم أحدث عهدًا في هذه المدرسة.
ورغم ذلك فإن جرين قد تجاوز الأفكار الإنجليزية الشائعة عن الدولة بكثير؛ فقد أكد بوجهٍ خاص أن الدولة لا ترتكز على القوة، وإنما على الإرادة الحرة لأفرادها، صحيح أن القوة يكون لها تأثيرها في تكوين الدول، ولكن ذلك يكون دائمًا على أساس حقوقٍ موجودة من قبلُ ومعترف بها من قبل. والفكرتان لا انفصال بينهما، فالقوة تنبثق من الحقوق وتؤدي إلى مزيد من الحقوق، وهي بالتالي ليست إلا وسيلة لخلق الحقوق وحفظها. وفضلًا عن ذلك فإن غاية الدولة هي حماية الحياة الأخلاقية لأفرادها وضمان هذه الحياة لهم، عن طريق تهيئة الظروف التي تستطيع فيها الشخصية الأخلاقية أن تزدهر وتحقق ذاتها، ومن هنا فإن القوانين هي الشروط الضرورية لهذا التحقيق للإنسان بوصفه كائنًا أخلاقيًّا عاقلًا. وإذن فليس لنا أن ندهش إذ نجد لدى جرين اتجاهًا إلى النزعة السلمية والعالمية. أما كون الدول لا زالت تتخذ من الحرب أداة في سياستها، فإن ذلك لم يكن في نظره دليلًا على ضرورة الحرب، بل على انحطاط مستوى الحياة الأخلاقية فحسب. أما عن النزعة العالمية، فإنها لا تسعى إلى تحطيم الدولة، وإنما تشمل القومية في داخلها، وكلما اقتربت الأمة من المثل الأخلاقي الأعلى للدولة، قلَّت حاجتها إلى خوض غمار حروب مع أممٍ أخرى؛ لأن نفس القوانين الأخلاقية التي تتحكم في حياة الأفراد في المجتمع تسري بالمثل على العلاقات السياسية المتبادَلة بين الأمم.
(٣) القسم الثالث: الهيجليون
كان الرائد التالي العظيم للمثالية في إنجلترا بعد جرين هو إدوارد كيرد، ولقد كان سنِّه مقاربًا لسن جرين، وأصبح صديقًا لجرين وهو لم يزل تلميذًا في أكسفورد، وبدأ عمله في التدريس بعد سنواتٍ قلائل من بداية عمل جرين في التدريس أيضًا، ومن هنا فقد كان تعيينه في جلاسجو في ١٨٦٦ أمرًا له أهميته العظمى في نشر الحركة المثالية؛ إذ جعل لها مركزَين قويَّين؛ فقد جعل كيرد من جلاسجو معقلًا للمثالية في اسكتلندا. وهكذا بدأ ما يمكن أن يسمى بحركة تطويق للفلسفات السائدة، فتولت أكسفورد أساسًا مهاجمة التفكير التجريبي والتطوري عند مل وبين وسبنسر ودارون وهكسلي، ووجهت جلاسجو هجومها، في المحل الأول، إلى مذهب هاملتن الذي كان يسيطر عندئذٍ على الجامعات الاسكتلندية. وفي هذا الصدد أحدث كيرد انقلابًا، فعندما ترك جلاسجو ليخلف جويت عميدًا لباليول، بعد سبعة وعشرين عامًا من الكتابة والتدريس، كان قد أنشأ جيلًا كاملًا من الهيجليين الشبان، الذين خلفوه في السيطرة على الأرض التي غزاها، ووسعوها. وبعودته إلى أكسفورد ملأ أخيرًا تلك الثغرة التي خلفتها وفاة جرين المبكرة، وأعاد الحركة المثالية إلى الكلية التي بدأت فيها، ودعمها هناك بشخصيته القوية وشهرته اللامعة.
ولقد كانت المهمة الملقاة على عاتق كيرد في توطين الفكر الألماني بإنجلترا مهمةً فريدة في نوعها؛ فقد كان سترلنج قد أتم العمل الرائد الأول، غير أن الجهد المضني الذي بذله في كفاحه من أجل استخلاص معنى تفكير هيجل والاهتداء إلى مرادفاتٍ إنجليزية لمصطلحاته، قد ترك القناع الذي يحيط بتفكير هيجل هذا على ما هو عليه، إلا بالنسبة إلى فئةٍ قليلة من الأذهان اللماحة، أما جرين فكان تفكيره أكثر استقلالًا من أن يتيح له تقديم عرضٍ واضح أمين لتعاليم كانت وهيجل. صحيح أن هذه التعاليم قد دخلت في إطار مذهبه، غير أن من الصعب أن يميزهما المرء، داخل هذا الإطار، الواحد عن الآخر، أو أن يفرق بينهما وبين الأفكار التي استمدها جرين من مصادرَ أخرى، أو بينها وبين تفكيره الخاص، كما أن أسلوبه الغامض المركز جعل قراءته أمرًا عسيرًا على أية حال. أما الممثلون المتأخرون للحركة، مثل برادلي وبوزانكيت وماكتجارت، فقد وسعوا الفكر الألماني وحوَّروه إلى حدٍّ يستحيل معه القول إن مهمتهم كانت تقتصر على توصيل مضمون هذا الفكر إلى الإنجليز بأي قدر من النقاء. وهكذا فإن كيرد، الذي كان يقل عن هؤلاء إلى حدٍّ بعيد في تقيده بأفكاره المذهبية الخاصة، كان هو الوسيط أو الموصل الحقيقي لتفكير كانت وهيجل، ولكنه لم يضطلع بهذا العمل بروح الموضوعية الجافة التي يتصف بها المؤرخ المحض، وإنما أقبل عليه بحماسة وشغف المريد والداعية المخلص، فتصرف بطريقةٍ فذة في ذلك الكنز الذي آل إليه، وسكَّ منه عملة متداولة يسهل على كل شخص استعمالها بعد ذلك، بل إن كيرد وحده هو الذي يرجع إليه الفضل، لأول مرة في إشاعة استخدام جميع الصيغ والتعبيرات المثالية بين جميع أفراد جيل الكانتيين والهيجليين الإنجليز، وإشاعة السخرية منها بين خصومهم. ولقد كانت لديه قدرةٌ فذة على التعبير عن أمورٍ عسيرةٍ غامضة بلغةٍ واضحةٍ سلسلةٍ بديعة، وأدى تحويله لالتواءات كانت وألغاز هيجل إلى أسلوبه المشرق الوضَّاء، إلى زيادة قدرة اللغة الإنجليزية على التعبير الفلسفي، فضرب بذلك مثلًا لمواطنيه في كيفية الكلام عن مثل هذه الأمور والكتابة فيها.
وقد تُوِّج كيرد هذا كله بشخصيةٍ رائعة لها مواهبها الفريدة، غنية بالخصال التي تجذب أذهان الشباب وتأسرها؛ من حماسة وانفعال وإخلاصٍ شديد لقضيةٍ عظيمة، وسلاسة التعبير وحرارته، فضلًا عن القدرة الأدبية الرائعة التي أشرنا إليها منذ قليل، فهو في إنجلترا يمثل أنقى وأفضل نمط تجسدت فيه روح الهيجلية، وربما نصها إلى حدٍّ ما. ولقد تجنب كيرد القيام بأية محاولة من شأنها إضفاء ثباتٍ قطعي على مذهب هيجل، أو فرضه على الناس قسرًا، أو تشويهه وتبديده، وإنما استهدف أن ينشر بين الناس، وينقل إلى الآخرين، روح مذهب هيجل وماهيته، اللذين امتلك كيرد ناصيتهما واستوعبهما أكثر من كل من عداه تقريبًا، دون أن يكون له من هدف سوى خدمة الحقيقة وبعث حياةٍ جديدة في الفلسفة. لقد بلغ ذهنه من الحيوية ومن الامتلاء بالثقافة القومية والأجنبية حدًّا جعله لا يرضي بأن يقسم يمين الولاء للتعاليم الحرفية لأي أستاذ بعينه. فلم يكن هيجل بالنسبة إليه إلا آخر وأنضج تعبير عن نظرةٍ مثالية إلى الأمور ظلت حية منذ أيام اليونان، لا بين كبار الفلاسفة فحسب، بل عند الأدباء المبدعين أيضًا. وإن كتابه «مقالات في الأدب والفلسفة» ومحاضرات جيفورد التي ألقاها في موضوع الإلهيات عن فلاسفة اليونان، لتشهد باتساع أفق نظرته إلى المثالية بوصفها روحًا باقية يعترف فيها بكل ما هو رفيع ونبيل وجميل في الإنسان، ويتحقق فيها على أكمل وجه، وهي روحٌ كانت حية في العصر الوثني القديم، مثلما كانت حية في المسيحية، وفي دانتي وجوته، وفي روسو وورد سورث وكارليل. ولقد كانت مثالية هيجل شيئًا عاشه الفيلسوف مثلما علمه، ولم تكن نصًّا جامدًا أو نسقًا من الأفكار المجردة، وإنما قوة من قوى الحياة، تجدد الإنسان من الباطن. ولم يبدأ الاكتساح الظافر للحركة المثالية الإنجليزية إلا عندما أضفى عليها كيرد، زعيمها المعترف به بعد وفاة جرين، روحًا منشطة استمدَّها من ذهنه الرفيع، وأذاعها على القاصي والداني بكلماته القريبة إلى الأفهام، وجمع حوله حلقة من التلاميذ الذين تشربوا نفس الروح، وضمنوا استمرار عمله. والحق أن أي معلم للفلسفة لم يغرس في ذلك الوقت مثل ما غرسه إدوارد كيرد من البذور المثمرة، ولم يُثر ما أثاره من الحماسة، ولم يلقَ ما لقيه من الإعجاب والاحترام.
ويستطيع المرء أن يجد لدى كيرد عنصرًا هيجليًّا آخر، إلى جانب الديالكتيك وكثرة استخدام تنظيمه الثلاثي للأفكار، هو تفاؤل هيجل الظافر فيما يتعلق بقدرتنا على المعرفة، والجرأة المعرفية للتفكير الذي لا يمكن أن يوضع له حد، والذي يجرؤ حتى على انتزاع قناع الغموض عن «المطلق» ذاته. ففي كل تفلسف له تلمس دائمًا ثقته المطلقة في قدرات العقل، وهذه الثقة هي التي ألقت عليه نضارة وحيوية أدت به إلى احتقار روح العجز التي يتصف بها مذهب الشك، وروح الاستسلام التي تتصف بها اللاأدرية، كذلك كانت الصوفية، التي تختصر الطريق الموصل إلى المطلق، مُنفِّرة في نظره، فحيث يضيء نور العقل كل شيء، تتبدد سحب الصوفية المعتمة.
كان جون كيرد، شقيق إدوارد كيرد الذي كان يكبره بكثير، والذي كان لاهوتيًّا بارزًا وواعظًا مرموقًا، ذا ميولٍ هيجليةٍ واضحة ظهرت في كتابه «مدخل إلى الفلسفة الدينية»، وهو أهم كتاباته الفلسفية. بل إنه قد دعا إلى الهيجلية من فوق منبر الكنيسة، وكان له دون شك نصيبٌ كبير في تغلغلها في الدوائر اللاهوتية باسكتلندا. ولقد كان كأخيه خطيبًا وكاتبًا لامعًا، وكانت له مقدرة تفوق مقدرة أخيه ذاتها في تحرير أفكار هيجل من الأغلال التي قيدها بها هيجل، وإضفاء تعبيراتٍ شعبية غير متخصصة عليها. كذلك كان الشقيقان متشابهَين في مذهبهما، فقد التزمت الفلسفة الدينية عند جون حدود الهيجلية بدقة. وكانت فلسفته هذه تؤثر المخاطرة الفكرية التأملية على عزوف مذهب اللاأدرية عن الحكم عند هاملتن ومانسل وسبنسر. كما أعلن في فلسفته معارضته للمحاولة التي قام بها التجريبيون لتعريف الدين من خلال أولى مراحله وأدناها، فأكد أن قيمة أي دين لا تُقاس إلا بأعلى فكرة تحقق فيها، وهذه «الفكرة» سابقة على جميع الصور التي تبدَّت فيها الحياة الدينية، وهي تكون أساسًا لها كلها، بحيث لا يمكن فهم تاريخ الدين إلا في ضوئها. أما تلك العناصر الذاتية اللاعقلية — من خوف وأمل وعاطفة وخرافة — التي رأى التجريبيون أنها هي العناصر الأساسية للدين، فإن قيمتها أقل بكثير من العنصر العقلي، مهما كان لها من أهميةٍ تاريخية أو غيرها. فالقوة الدينية على التخصيص إنما هي العقل، ومن الواجب أن يتحدد طابع الدين وماهيته، لا بعمق الشعور، وإنما بالمعرفة والبصيرة النفَّاذة، وهنا تتخذ المعقولية عند جون كيرد طابعًا أصرح مما كان لها عند أخيه.
وهو يرفض فكرة الإله الخارج عن العالم، أو الإله الذي خلق العالم وما زال يحكمه من خارجه، وإنما الله هو أعمق ماهية للعالم، تلك الماهية التي تشتمل على جميع الأشياء المتناهية وتتغلغل فيها بوصفها روحها المطلقة. فالإنسان هو كائنٌ متناه ومشارك في حياة الله في آنٍ واحد، ومن ثم فهو مواطن في عالَمين، الروحي والطبيعي. من هنا كانت طبيعته تتسم بذلك القلق والشقاق الدائم الذي لا نجد له في عالم الحيوان نظيرًا. هذا الانفصام الذي تتصف به الطبيعة البشرية قد يجد له دواءً مؤقتًا في الحياة الأخلاقية، غير أن هذا ليس دواءً نهائيًّا، إذ إننا لا نصل في الحياة الأخلاقية إلى بداية ذلك الزوال للذات الفردية، وذلك التوحيد بين حياتنا وبين ذلك المجال الدائم الاتساع، مجال الحياة الروحية التي تتجاوزها. وهما أمران لا يتحققان بأكمل صورة إلا في الدين، فالدين هو المجال الذي يختفي فيه نهائيًّا التعارض بين الطبيعي والروحي، بين الفعلي والمثالي، والذي لا يعود فيه المثل الأعلى اللامتناهي غاية لا تتحقق، وإنما يصبح شيئًا متحققًا بالفعل. وهكذا فإن كل تفكيرٍ ديني عند كيرد إنما يهدف إلى التوفيق والتوحيد بين الإيمان والمعرفة، بين الدين والفلسفة، وأهم من ذلك كله، إلى زيادة كمال عقيدة المسيح بالهيجلية، أما الفروق العميقة بين هذين، فهو يدعها جانبًا دون أن يعيرها انتباهًا.
ولا يتصف أي كتاب مما نشره هو ذاته بالصفة المذهبية، وهكذا لا نستطيع أن نعرف ما كان يقول به هو ذاته من التعاليم إلا من خلال محاضراته ومقالاته التي نُشِرت بعد وفاته، والتي تتناول الفلسفة الأخلاقية والسياسية والدينية قبل كل شيء، ولقد كانت فكرته الرئيسية، في المجال الأول من هذه المجالات الثلاثة، هي التعاون الاجتماعي، أما في المجال الثاني فكان يفضل ديمقراطيةً حرة، مع ميولٍ اشتراكية واضحة، وكانت الدولة في نظره هي التنظيم الأعلى الذي يوحد كل الأشكال الأدنى للتجمع الاجتماعي ويشتمل عليها. أما في فلسفة الدين فقد كان قريبًا كل القرب من الأخوين كيرد، ولا سيما من تفسير جون كيرد النظري التأملي للمسيحية. فقد كان التجسد الذي لم يعد واقعةً تاريخيةً منفردة وإنما رآه حقيقةً أزلية، يعني بالنسبة إليه التجلي المنظور لكمون الله في الإنسان، وللروحي في المادي، والأزلي في الزماني. فالإنسان ليس مجرد ناتج للطبيعة، كما يقول الماديون، ولا مجرد ابن للسماء، كما يقول الأفلاطونيون، وإنما هو نتاجٌ مشترك لعواملَ طبيعية وروحية، غير أن الطبيعة والروح هما حقيقةٌ واحدة منظورًا إليها تارة من الظاهر وتارة من الباطن. فالألوهية التي توجد في الإنسان بالقوة وتحيا فيه، ترفعه فوق مستوى النظام الطبيعي الذي هو جزء منه، وتُكسبه سيطرة عليه وتحررًا منه. وهكذا تسفر المثالية عند والاس، كما هي الحال عند معظم الهيجليين الأوائل، عن مذهب في الألوهية، وتبدو دعامة للدين وأداة له.
كان ريتشي من أولئك الذين كان يدينون بتحولهم للمثالية إلى اتصالهم الشخصي بجرين. ولقد تلقَّى أول تعليمٍ فلسفي له على يد فريزر وكالدروود في إدنبرة، غير أن تفكيره لم يتخذ وجهته النهائية حتى دخل جو الحياة العقلية في أكسفورد في أواسط القرن الثامن. في ذلك الوقت كان أرنولد توينبي (١٨٥٢–١٨٨٣)، الاقتصادي والمصلح يعمل بنشاط هناك، وكان إيمانه المتحمس بالاشتراكية، الذي لم يعبر عنه في قاعة المحاضرات فحسب، بل في خدماتٍ متفانية قدَّمها خارج الجامعة. كان هذا الإيمان يقدم للجيل الجديد من طلاب الجامعة والدراسات العليا مثلًا رائعًا للشعور بالمسئولية الاجتماعية. وهكذا فإن ريتشي، الذي كان في اتجاهه العام ومثله العليا قريبًا من ذهن توينبي وجرين قد نضج في صحبتهما، وبفضلهما قبل غيرهما، واتخذ في نضجه وجهة سارت به في اتجاه البحث العملي، كالفلسفة الأخلاقية والاجتماعية والسياسية، التي كرس لها كل كتاباته تقريبًا. لقد كان هدفه الأول هو إيضاح هذه الميادين وتنظيمها عن طريق مقولات المثالية الجديدة ومبادئها. وليس معنى ذلك أنه تجاهل مشكلة إيجاد أساسٍ نظري لها؛ فقد كان في هذا الصدد أشد تمسكًا بالهيجلية من جرين؛ ذلك لأنه تلقى من هذا الأخير الحافز الذي دفعه في اتجاه المثالية بوجهٍ عام. أما فيما يتعلق بالمضمون الخاص لمثاليته، فقد كان يرجع في معظم الأحيان إلى هيجل نفسه مباشرةً، وهذا واضح حتى في أول مؤلفاته، الذي تناول فيه مشكلة «معقولية التاريخ»، أو إمكان قيام فلسفة للتاريخ — وهي مشكلة نادرًا ما خاضها الإنجليز — وناقش جميع أطرافها من وجهة نظر هيجلية، هذا على الرغم من أنه لم يتوسع في هذا البحث إطلاقًا فيما بعدُ. كذلك حرص على أن يوضح — بطريقةٍ فلسفية — العلاقة بين الأصل والقيمة، وبين المنهجَين التاريخي والمنطقي، وأوضح مرارًا أن مسائل الواقع ينبغي أن تظل دائمًا منفصلة عن مسائل القيمة؛ إذ إن تفسير واقعة على أساس أصلها هو أمر لا صلة له بقيمتها. وكان يرى أن لهذا المبدأ أهميةً عظمى في كل تفكير عن الأخلاق والدين والمجتمع والدولة، ولكنه طبقه بوجهٍ خاص في نقده للمذهب التطوري، فالتطوريون، الذين يقصرون اهتمامهم على بحث أصل الشيء، والتتابع الزمني لأحواله، عاجزون تقريبًا عن إدراك مغزاه.
أما في آرائه في المنطق ونظرية المعرفة والأنتولوجيا فقد كان أقرب إلى المذهب المطلق منه إلى مذهب الكثرة الذي تتصف به المثالية الشخصية، واتفق إلى حدٍّ بعيد مع آراء برادلي في الواحد والكثير، والفردي والكلي، والمظهر والواقع، ودرجات الواقع، وما إلى ذلك. وفي نظريته في الدولة، عارض المذهب الفردي الشائع في المدرسة الإنجليزية القومية؛ فالدولة في نظره كلٌّ عضوي، له حق العلو على المجتمع والأفراد، والتدخل على نطاقٍ واسع في شئون الآخرين. وعلى الرغم من أنه كان يؤيد قيام شكلٍ ديمقراطي للحكومة، فإنه لم يكن غافلًا عن نقط الضعف في المذهب البرلماني الليبرالي، ومبدأ الاقتراع العام، وطالب باختيار السياسيين المسئولين عن طريق معيارٍ أرستقراطي هو النزاهة والمقدرة. أما في بقية التفاصيل فقد كان يشارك جرين ميله الواضح إلى الاشتراكية، وإن لم يكن قد بناها بالطبع على أية أخلاق للمنفعة، وإنما على مبدأ قيمة الإنسان الأخلاقية، واستمدها من المبدأ المثالي القائل بالذات الاجتماعية، ومسئولية هذه الذات تجاه الجماعة. ولم تكن رسالته هي الرفاهة والسعادة، وإنما التوازن الاجتماعي والفاعلية الاجتماعية.
كانت فلسفة جونس، بقدر ما كان لها من مضمونٍ محدد، مثاليةً هيجلية بالصورة التي أضفاها عليها كيرد، فمنذ اللحظة التي طلب فيها العلم على أستاذه العظيم، وهو طالبٌ شابٌّ وافد إلى جلاسجو من ويلز، اعتنق مذهب الحركة الجديدة وكرَّس نفسه لها بكل ما في طبيعته المتحمسة من قوة. وظل طيلة حياته تلميذًا مخلصًا لكيرد، الذي كان يدين له بكل شيء تقريبًا. ولقد كان يدرك أنه ليس مفكرًا أصيلًا؛ لذلك عدَّ نفسه واعيًا وحارسًا لكنزٍ ثمين، هو النظرة المثالية إلى كل الأشياء، التي أخذ على عاتقه أن يذيعها بين أكبر عددٍ ممكن من الأذهان ويبثها فيهم. فالمثالية كانت هي اليقين الفلسفي الوحيد، الذي يتعين حفظه مصونًا، على الرغم من أن أسسها يمكن أن توسَّع ومضمونها يمكن أن يطبق بنجاح في ميادينَ متزايدة للنشاط الإنساني. وكان تحقيق هذا التوسيع والتطبيق هو المهمة التي كرس لها جونس جهده، وهي مهمة حققها على أفضل وجه في الفلسفة الدينية والاجتماعية والسياسية.
وربما لم يدعُ أحد إلى المثالية بمثل هذا التفاني والإخلاص الجريء، والحماسة الأصيلة التي دعا بها إليها جونس؛ فقد كان أقل اهتمامًا بالبرهان منه بالدفاع البليغ والإقناع الحي؛ إذ إن كل فلسفة هي في نظره موقف عن الحياة وقوةٌ روحية أكثر منها مذهبًا من التعاليم النظرية. وهكذا فإن جونس قد استوعب — بحرارة التجربة الشخصية المباشرة — ما شيده كيرد وكسبه عن طريق التفكير المضني الدقيق، فحوَّله من بحث إلى إيمان، ومن مذهب إلى شعور، بل حوَّله في أحيان غير قليلة إلى حماسةٍ خيالية أو نوع من الوجد الصوفي. فالمثالية كانت في نظره جزءًا من حياة عملية، واعتناقًا لإيمان وعقيدة، وشيئًا عاشه وآمن به وأعلن أنه هو الأمر الوحيد اللازم. وبالاختصار فقد أصبحت الهيجلية عاطفية عند جونس، وهو نبيها وحواريها، وقد حملها كأنه رسول إلى أقصى حدود الإمبراطورية عندما دُعِي في ١٩٠٨ إلى إلقاء محاضرات في جامعة سيدني عن «المثالية بوصفها عقيدةً عملية»، وهي مناسبة فيها بعض الشبه من محاضرة هيجل الافتتاحية المشهورة في هيدلبرج سنة ١٨١٦.
وإذن فلم يكن من المستغرب أن يبحث جونس عن المحتوى المميز للفلسفة المثالية خارج المؤلفات الفلسفية المتخصصة، وأن يجده في ذلك الطابع الأخلاقي الذي تتسم به أوجه النشاط العملية للإنسان، وفي اعتناق عقيدة (ولا سيما العقيدة المسيحية)، وقبل ذلك كله، في عاملٍ دائمٍ خلَّاق هو الأعمال الأدبية العظيمة. فالشعراء يعبرون بصورةٍ جميلة عما يصوغه للفلاسفة بلغة التصورات المجردة. ومن ثم فإن جونس قد اقتبس من كبار فناني الأدب كثيرًا من العناصر التي تؤيد مذهبه وتدعمه؛ فعنده أن لسنج وجوته وورد سوث وبروننج، قد أعلنوا على طريقتهم الخاصة تلك النظرة إلى العالم التي عبرت عنها فلسفة كانْت وفشته وهيجل وأتباعهم من الإنجليز بطريقة التصورات. ولقد رأى في شعر بروننج بوجهٍ خاص تعبيرًا رفيعًا عن الشعور والمقصد المثالي، ووصفه، في كتابٍ رائع خصصه كله له، بأنه «معلمٌ فلسفيٌّ ودينيٌّ أصيل». ولهذه الأسباب ذاتها أحسَّ بتقاربٍ وثيق مع كارليل، الذي وجدت طبيعته التنبئية وبلاغته الدافقة تجسدًا جديدًا لها في شخص جونس.
ولسنا هنا بحاجة إلى الدخول في تفاصيل مضمون تعاليمه الفلسفية؛ إذ إنها لم تكد تتجاوز تعاليم الهيجليين الأوائل الذين عرضنا لهم من قبلُ، فنحن نصادف لديه مرةً أخرى جميع العناصر المألوفة في المذهب، بعد إعادة صياغتها بطريقةٍ بارعة؛ كتضايف الفكر والوجود، والمثالي والواقعي، والروحي والطبيعي، والجمع بين الأضداد في وحدة «الكل» العليا الشاملة لكل شيء، والتركيب الروحي للكون، والحملة على كل أنواع الثنائية بوصفها تجريداتٍ باطلة، واستبعاد العرضي واللامعقول، وفكرة النسق المترابط، والمطلق بكل صفاته ووظائفه المألوفة، وكمون الله في الطبيعة والإنسان، والتوحيد بينه وبين المطلق، وتشخيص الله، وتحقق الأخلاق في الدين، والتفاؤل الميتافيزيقي الساذج، وما إلى ذلك.
ولم يبقَ علينا إلا أن نلاحظ أن الفارق بين الاتجاهات المتقدمة والاتجاهات المتأخرة في المدرسة الهيجلية ازداد وضوحًا وشدة عند جونس؛ فقد أحسَّ مرارًا وتكرارًا بأنه مضطر إلى نقد تشويهات برادلي وبوزانكيت وتزييفهم للهيجلية في صورتها الأصلية. وقد حرص مرارًا على إيجاد تمييز قاطع بين موقفه وبين موقف بوزانكيت بوجهٍ خاص. وكانت نقطة الخلاف الرئيسية هي التقابل بين الواحدية والثنائية، صحيح أن الموقف الذي اتخذه برادلي وبوزانكيت يمكن قطعًا أن يوصف بأنه واحدي بمعنًى ما، ولكنه بدا موقفًا ثنائيًّا واضحًا من وجهة نظر أولئك الذين يمضون، مثل كيرد وجونس، في اتجاه الوحدة إلى حد استخلاص أبعد نتائجها؛ لذلك عكف جونس على تصيُّد مظاهر الثنائية عند برادلي، وعند بوزانكيت على نحوٍ أوضح، وهي ثنائية المظهر والحقيقة، والمتناهي واللامتناهي، والنسبي والمطلق، والأهم من ذلك كله تلك الثنائية التي تفصم الطبيعة البشرية إلى شقَّين متغايرَين. فجونس كان يرى أن الإنسان ليس بحاجة إلى الخروج عن ذاته ليبلغ المثل الأعلى، ولا يتعيَّن عليه أن يغير ذاته بالاندماج في المطلق؛ إذ إن ذاته ستضيع تمامًا عندئذٍ، وإنما الواجب عليه بالأحرى أن يصبح ذاته، ويحقق الإمكانيات الكامنة فيه، وعندئذٍ يكون قد وصل إلى اللامتناهي بحق، بل يغدو «هو» المتناهي في عملية صيرورته.
وهكذا استعاض جونس عن العلو على الذات عند بوزانكيت بتحقيق الذات وبعث الكمال فيها، كذلك كان يرى أن المطلق ليس حالة تسكن فيها كل حركة، وتستقر في ذاتها مباركة إلى الأبد، وإنما هو عمليةٌ ديناميةٌ أزلية التقدم، يكون الزمان فيها عاملًا حقيقيًّا، لا مجرد مظهر، وهنا نلمس التضاد بين نزوع جونس إلى الفاعلية والبرجماتية، وهو نزوع يُذكِّرنا كثيرًا بنظيره عند فشته، وبين الموقف الأقرب إلى التأمل والسكينة عند القائلين بالمثالية المطلقة.
وهناك نقطة اختلاف أخرى، فجونس قد اعتقد أنه قد اكتشف أعراض مرضٍ خطير في نظرية المعرفة التي قال بها برادلي وآخرون؛ إذ إن في هذه النظرية نزعةٌ ذاتية تكاد تقرب من مذهب «الذات الوحيدة»، وهي تستتبع النظر إلى الواقع على أنه هزيل أو متلاشٍ تمامًا، وهكذا آلى على نفسه أن يحاربها. ولما كان يرى أن لوتسه، الذي كان تأثيره في الفكر الإنجليزي هائلًا، مسئول عن ظهور هذا المرض، فقد كرَّس لنقد نظرية لوتسه مؤلَّفًا خاصًّا، هو واحد من أفضل كتاباته، فهو يرى أن المشكلة الرئيسية في نظرية المعرفة لا تجد حلًّا مرضيًا في الذاتية ولا في الموضوعية، فالذهن ليس مستقلًّا عن الموضوعات، ولا الموضوعات مستقلة عن الذهن، وما نصادفه في المعرفة إنما هو حركة عالمٍ موضوعيٍّ حقيقي في وسيط هو الفكر، وبدلًا من أن نتصور المعرفة على أنها محاولة لاقتناص الواقع في شبكة من التمثلات والتصورات، علينا أن نتصوَّر الواقع على أنه مبدأٌ فعَّال يكشف عن ذاته لنا في عملية التفكير. فليس ثمة حاجة إلى جلب الذات والموضوع والفكر والواقع سويًّا، وإنما هما مقترنان منذ البداية، بوصفهما القطبَين اللذين يقع بينهما ما نسميه بعالمنا. فالمثالي والواقعي ليسا عالمَين منفصلَين، وإنما هما عنصران لا ينفصلان داخل كونٍ واحد، وهكذا يسود مفهوم الواحدية تفكير جونس.
ترجع الأصول الفلسفية لمويرهيد إلى جيل الهيجليين الأقدم عهدًا، وقد تلقى تعليمه في مركزي الحركة، وهما جلاسجو وكلية باليول بأكسفورد. ودرس على كيرد وجرين على التوالي، فطبع هذان تفكيره بالطابع الخاص المميز له، وحدَّدا الاتجاه الذي سار فيه فيما بعدُ. ولقد أخذ عن كيرد الهيجلية في الصورة التي اصطبغت بها تحت تأثير الهيجليين الإنجليز الأصليين في العقد الثامن، أما جرين فإليه يرجع اهتمامه بتطبيقها على مشكلة الحياة العادية. وتتناول معظم مؤلفاته المذهبية مشكلات الأخلاق والحياة الاجتماعية والسياسية، بينما لم يعالج الفروع النظرية البحتة للفلسفة إلا لمامًا، وحتى في هذه الحالة كان بحثه متجهًا إلى علاقتها بالفروع العلمية أكثر مما كان مبعثه أي اهتمام بها لذاتها. وفيما يتعلق بالأسس النظرية لتفكيره، فقد كان على اتفاق يكاد يكون كاملًا مع فلسفة أستاذه كيرد، التي حاول بالفعل أن يوسعها لا أن يغيرها.
ولكن على الرغم من أن مويرهيد لم يحاول أن يدخل أي عنصرٍ جديد بحق على المثالية الإنجليزية، فإنه يحتل بين أولئك الذين قاموا بدور الأوصياء على تراث كيرد وجرين مكانةً بارزة؛ فقد احتفظ حتى يومنا هذا بحيوية ونضارة القوة الدافعة التي ولَّدت الحركة ذاتها، وسار بها في جوٍّ متغير عبر زمن تتحرك فيه الفلسفة بمؤثراتٍ آتية من جهاتٍ مختلفة كل الاختلاف. وغيَّرت فيه المثالية ذاتها معالمها الأصلية تغييرًا عميقًا متعدد الأوجه، بعد أن كادت جذوتها تخبو، وإن لم تكن قد خَبَتْ تمامًا، فهو لا يزال واحدًا من القلة القليلة الباقية من تلك الأيام الزاهرة التي دخل فيها الفكر الإنجليزي مرحلةً جديدة من تطوره.
وأخيرًا فقد ساهم مويرهيد بنصيبٍ ملحوظ في تاريخ الحركة المثالية، فقد وضع الحركة في إطارٍ عقليٍّ أوسع، وحاول على هذا الأساس أن يفهم أصلها وتطورها، فضلًا عن مغزاها العام، وقد تتبع ما أسماه «بالتراث الأفلاطوني في الفلسفة الأنجلوسكسونية» حتى بداياته الأولى، وكشف — على خلاف الطريقة المألوفة في العرض — عن تيارٍ موحَّدٍ مستمر للتفكير المثالي، يسري طوال تاريخ الفلسفة الإنجليزية بأسره، وإن كان يتخذ أحيانًا صورة تيار غير ظاهر. وقد أوضح كيف أن الأرض في إنجلترا كانت ممهدة للتجديد الذي حدث في القرن التاسع عشر بتأثير ألمانيا، قبل ظهوره المفاجئ بوقتٍ طويل، وذلك أولًا عن طريق الشعر الرومانتيكي لشلي وكيتس ووردسورث وكولردج (وقد كتب مويرهيد عن هذا الأخير بحثًا كان غاية في العمق)، ثم عن طريق أدب الكتاب في العصر الفكتوري، مثل كارليل وإمرسون وتينسون وبروننج وأرنولد، وأخيرًا عن طريق ذلك التغير العام في الأفكار والنظم، الذي تميز به النصف الثاني من القرن الماضي. ولما كان مويرهيد شاهد عيان على ظهور الحركة المفاجئ في العَقْد الثامن من ذلك القرن، ومساهمًا فيها بنشاط منذ ذلك الحين، فقد كان أصلح الجميع للعودة بنظره إليها في فترة الكهولة من حياته الطويلة، وتأملها في مجموعها، والكشف للجيل الجديد، عن قصة تطورها والكنوز التي تحويها تعاليمها.
ويقتضي مبدأ النسبية ارتباطًا وثيقًا بين الفلسفة والعلوم الخاصة، أي بين وجهة النظر الكلية ووجهات النظر الجزئية. وقد عبر هولدين عن هذا المطلب صراحةً في أول بحثٍ فلسفي كتبه (علاقة الفلسفة بالعلم)، وهو البحث الذي تكاد تظهر فيه جميع الأفكار الهامة التي قال بها فيما بعدُ. وليس قانون النسبية، في أساسه، إلا قول هيجل إن الحقيقة هي الكل، صحيح أن وجهات النظر الخاصة في العلوم المختلفة تظل محفوظة في المعرفة من حيث هي كلٌّ، ولكن ينبغي أن نضيف إلى ذلك أمرًا لا يقل عنه أهمية، هو أنها لا تجد لها مكانًا، ولا تدخل في علاقة بعضها مع البعض، إلا في هذا الكل. أما النظر إلى أي وجهٍ جزئي على أنه مطلق، وتجميد أي فرع للمعرفة على صورة يصبح معها مستقلًّا عن الفروع الأخرى وعن الكل، فأمر فيه تناقض مع مبدأ كلية الحقيقة ووحدة الواقع. فالواقع، في ماهيته النهائية، هو روح، لا تدرك خلال المراحل المتعددة للوجود والمعرفة إلا نفسها، ولا تكشف إلا ذاتها، خلال مرورها بعملية الإدراك الذاتي الديالكتيكية، فهي الكل العيني، وهي وحدة المعرفة والوجود، والحقيقة والواقع.
كل هذا ينطوي على فكرة الكل العيني، وهي الفكرة التي تلعب لدى هولدين دورًا يماثل في أهميته دورها لدى بقية الهيجليين. وهي تدل على ماهية الفكر، وتنطوي على العناصر المميزة لعامليه، وهما الكلي المحض والجزئي المحض، اللذان يكونان مجردَين تمامًا، إذا ما أُخِذا على حدة، شأنهما شأن الذاتي والموضوعي مأخوذَين على حدة. فعينية الفكر تعني إدماج أوجهه المنعزلة المجردة عمدًا، بحيث يتم التغلب على الانعزالية عن طريق فاعلية الفكر الدينامية أو الديالكتيكية، التي تتقدم من وجه إلى وجه حتى تبلغ الحقيقة في كل عيني يجمع بين هذه الأوجه كلها.
هكذا كانت أفكار هولدين الأساسية هيجلية كلها، ومن الواضح أن رأيه القائل إن كل ما هو حقيقي محتشد بالمعنى منذ البداية، وإن المعنى هو ماهية الحقيقة الواقعة، هذا الرأي يعبر مرةً أخرى عن قول هيجل بمعقولية الواقع، وهنا يصبح الواقع، مرةً أخرى، مقيدًا بعلاقته بالفكر، ولا يكون ممكنًا إلا داخل المعرفة. وتلك، من الوجهة الإبستمولوجية، هي فكرة هيجل القائلة إن الفكر هو الذي يصنع لنفسه حدوده، وهو الذي يستطيع أن يتجاوزها. وأخيرًا فإن هولدين — مثل هيجل — يرى أن الفلسفة، بوصفها وصول الروح المطلقة إلى الوعي الذاتي والتحقيق الذاتي، لا تكون ممكنةً إلا من حيث هي مذهب، وهو يضع أسس هذا المذهب في المجلد الثاني من «المسلك إلى الحقيقة»، فيكشف عن الأوجه المتعددة للروح في المراحل المتناهية والمطلقة من تطورها.
ويمكن وصف موقف هولدين، منظورًا إليه على نحوٍ شامل، بأنه مزج بين الهيجلية وبين نظرية النسبية، أو بعبارةٍ أصح: بأنه إثراء للأولى بالثانية. وهكذا كشفت الفلسفية الهيجلية عن خصبها الدائم في هذا التجديد المستقل لذاتها في ميدانٍ خاص للمعرفة غريب عنها تمامًا، كالفيزياء النظرية الجديدة؛ إذ إن نظرية أينشتين لم تكن، في نظر هولدين، إلا اعترافًا بأن مبدأ هيجل الأساسي هو المبدأ الصحيح لكل علم على الإطلاق، وبأن المعرفة التي كُشف النقاب عنها حديثًا إنما هي مثلٌ جديد يوضح الإطار المذهبي الذي وضعه هيجل ويزيده ثراءً.
ولقد ربط بيلي اسمه باسم هيجل، لا بوصفه شارحًا ومترجمًا له فحسب — وذلك في كتابَين قيِّمَين ساهم بهما بنصيبٍ كبير في تشجيع الدراسات الهيجلية بإنجلترا — بل أيضًا في كتابه المذهبي الأول «عرض عام للتركيب المثالي للتجربة». فهذا الكتاب، وإن يكن مستقلًّا فيما عرضه من التفاصيل، لا يعدو في أساسه أن يكون تلخيصًا — بتصرف — للأفكار الرئيسية في كتاب «ظاهريات الروح» لهيجل، وهو الكتاب الذي عدَّه بيلي «أعظم ما أنتجه الفكر المثالي في الفلسفة الحديثة». وهو يعرض — معتمدًا على كتاب هيجل اعتمادًا كبيرًا — الطريقة التي ترتفع بها التجربة البشرية من مرحلة إلى أخرى، مكونة تركيباتٍ جديدةً أخصب في كل مرحلة أعلى، حتى تصل — في مستوى الوعي الذاتي — إلى وحدة الذات والموضوع، التي تعلو فيها المستويات الدنيا، من إدراك وفهم، على ذاتها وتصل إلى أعلى وحدة لها. وهنا يعطي بيلي للديالكتيك الهيجلي، الذي كان المذهب الهيجلي الإنجليزي يتجاهله عادة، حقه كاملًا، وتظهر «الفكرة»، لا على أنها مبدأٌ متحجرٌ ثابت، كما هي عند جرين وبرادلي وبوزانكيت وغيرهم، بل على أنها عمليةٌ حية تتقدم بطريقة ديالكتيكية. على أن هذا التجديد الذي اكتفى فيها بمحاكاة تفكير هيجل قد تأخر عن أوانه جيلًا، بمعنى أنه أتى بعد أن كانت الحركة الهيجلية في إنجلترا قد تجاوزت بكثير مرحلة التقيُّد الحرفي بهيجل، وأصبح لها كيانها المستقل.
ولا يكاد يوجد أي ارتباطٍ فكري بين المثالية المطلقة التي ظهرت في كتابات بيلي الأولى وبين الموقف المختلف تمامًا، الذي نصادفه في كتاب له ظهر بعد الحرب الأولى، هو «دراسات في الطبيعة البشرية». ولا شك أن السبب الرئيسي لهذا التغيير الملحوظ، هو تلك التجربة التي أحس فيها إحساسًا عميقًا بمأساة الحرب العالمية الأولى وعدم وجود داعٍ لها، وهي المأساة التي أدت، بما ولدته من اضطرابٍ شامل ودمارٍ هائل في العلاقات البشرية، إلى زعزعةٍ تامة لإيمانه بالعقل الهيجلي الذي يحكم العالم، بحيث لم يعد يقبل بعد ذلك أي تبرير؛ لذلك تحول بيلي إلى البحث في الطبيعة البشرية. ويمكننا أن نقول إنه انتقل رجوعًا من هيجل إلى هيوم؛ إذ أصبح يجعل من الفردية العينية للإنسان موضوعًا رئيسيًّا لاهتمامه الفلسفي. ولقد ظهرت بالفعل نقاط اتصال بينه وبين هيوم، من أمثلتها: الاهتمام البالغ بتأكيد العوامل غير العقلية في التفكير والمعرفة، والنظر إلى جميع المشكلات الفلسفية بطريقة كلها تركُّز حول الإنسان وتشبُّه به. ولم تعد الفلسفة عند بيلي — حينئذٍ — طلبًا للحقيقة الكلية أو وصول العقل إلى الوعي بذاته، وإنما أصبحت مسألةً شخصيةً محضة لكل مفكر، تتجه أساسًا إلى إرضاء حاجاته النظرية الفردية، فهي السعي إلى بلوغ أقصى حد من الرضا يمكن أن يجلبه التفكير للفرد. والغاية الوحيدة للحقيقة هي الوصول بالذهن الإنساني إلى الانسجام والطمأنينة. مثل هذه التعاليم، التي يظهر فيها، بالإضافة إلى ما سبق، تيارٌ برجماتيٌّ واضح، تستتبع صبغ الفكر بصبغةٍ ذاتيةٍ فرديةٍ نفسانية، أي إنها تقلب تمامًا اتجاه المثالية المطلقة الذي دافع عنه بيلي من قبل عن اقتناعٍ كامل. وبالمثل أصبح ينظر إلى العلم نظرةً تشبيهية بالإنسان، بوصفه اختراعًا بشريًّا يعبر عن نشاطٍ بشري تدفعه حاجةٌ مُلحَّة. وهكذا فإن هذه المرحلة الأخيرة من مراحل تعليمه، التي أحرق فيها كل جسور ماضيه الفلسفي تقريبًا، قد استقرت أخيرًا في تراث الفكر القومي الإنجليزي. وتلك هي الحالة الوحيدة لمثل هذا التطور، وهي حالة لم تكن راجعة إلى اعتباراتٍ باطنة، وإنما إلى ظروفٍ خارجية.
لا يسعنا، إذا شئنا أن يكتمل العرض الذي نقدمه، أن نتجاهل ج. أ. سمث، الذي اختتم به فرع الهيجليين، ولقد تلقى سمث تعليمه، شأنه شأن الكثيرين من السابقين عليه، في أكسفورد، وفي الكلية التي ظهرت فيها الحركة، حيث اتصل شخصيًّا، منذ وقتٍ مبكر، بممثليها البارزين مثل جويت وإدوارد كيرد ونتلشيب، الذي كان المشرف عليه في الكلية. كذلك استمد رصيدًا من الأفكار الهيجلية من برادلي وبوزانكيت، وإن كان ذلك بصورةٍ أقل تمسكًا بالأصل، على أنه عكف في الوقت ذاته، اقتداءً منه بالتراث السائد في أكسفورد، على دراسة الكتَّاب اليونانيين، فكرَّس أبحاثًا طويلةً عميقة لأرسطو، وظل سنواتٍ متعددة يعدُّ واحدًا من أبرز الباحثين في أرسطو بإنجلترا، وشارك بهذه الصفة في نشر ترجمة أكسفورد الهامة لأرسطو، التي خُتِمت في عام ١٩٣١ بترجمته الخاصة لكتاب «النفس». ولقد كان إتمام هذا العمل، وكذلك تأثيره العميق بوصفه معلمًا، هما أهم ما ساهم به في ميدان البحث الفلسفي.
(٤) القسم الرابع: فلاسفة المثالية المطلقة
لا يفوق برادلي في أهمية النصيب الذي ساهم به في عرض المذهب المثالي ونشره في إنجلترا، سوى جرين وكيرد، غير أنه يُعدُّ المركز الرئيسي لمرحلةٍ جديدة في هذه الحركة. فكل ما تم حتى الآن يعدُّ، بدرجاتٍ متفاوتة، مجرد جهدٍ تمهيدي، هو عرض لعالم الأفكار الجديد في صورة ترجمة وتفسير وعرض ومحاكاة ونقد. وإذا استثنينا جرين، فإنا لا نصادف حالةً واحدة تستحق الاهتمام صيغت فيها المادة الجديدة وعُرضت بطريقةٍ مستقلة. أما عند برادلي، فقد شبَّ المذهب المثالي الإنجليزي عن الطوق، وبدأ يسلك طريقًا خاصًّا به. ولقد كان برادلي أول من تناول هذا المذهب بطريقةٍ خلاقة، وأول من جرؤ على أن يضع بذور مذهبٍ خاص به في الأرض التي فتحت حديثًا، بل لقد كان واحدًا من القلائل من عظماء بناة المذاهب، وواحدًا من أجرأ المفكرين التأمليين الذين أنجبتهم إنجلترا ومن أكثرهم أصالة. وهو يحتل في الفكر الإنجليزي الحديث منزلةً رفيعةً، وربما أرفع منزلة، على الرغم من أن أعماله الفلسفية ما زالت تثير نزاعًا شديدًا حاميًا، وربما ستظل تثيره طويلًا، فلا يكاد يوجد مفكرٌ آخر ساهم بمثل ما ساهم به في إثارة الاهتمام الأصيل بالفلسفة.
وفي ضوء ما سبق ينبغي لنا أن نتأمل العداء المرير الذي حُمِل به البرجماتيون على مذهب برادلي وسخروا به منه سخريةً لاذعة، فأصل النزاع إنما هو الاختلاف الكامل في المزاج والموقف الكامن من وراء كلٍّ من الفلسفتَين، أعني التقابل بين العقلية المغامرة المناضلة التي تحب أن تجوس خلال العالم وتغيره، وبين العقلية الخائرة الحريصة على الطمأنينة والهدوء، والتي تغلق نفسها في مذهب وتلتزم الطريق الواسع المؤدي إلى الحقيقة المطلقة. ولا شك في أن الاختلاف أساسي، وأن الخلاف الطويل المرير بين برادلي وشيلر ينبغي أن يُعدَّ تعبيرًا عن هذا الاختلاف.
ففي مذهب برادلي الأخلاقي تجد نزعته الهيجلية أوضح وأصدق تعبير عنها، وتتجلَّى بأوضح صورة تلك التجربة الشخصية العنيفة التي تعلق بها المذهب الهيجلي، وذلك على الرغم من قلة استخدامه لمصطلح هيجل. وهنا أيضًا يشير في فقرةٍ مأثورة إلى الفلسفة الألمانية على أنها الفلسفة الصحيحة، والوحيدة القادرة على إنقاذ الفكر الإنجليزي من عزلته الخطرة. وهنا كذلك نجد أول نقدٍ هدَّام، بأسلحةٍ هيجلية، للفلسفات الأخلاقية التقليدية البالية التي قالت بها مذاهب المنفعة واللذة والتجريبية بوجهٍ عام. وأخيرًا فعلى الرغم من كل اعتماده على هيجل وغيره من الألمان في هذا الكتاب المبكر في الأخلاق، فإنه يظهر فيه مفكرًا مستقلًّا من الطراز الأول، قُدِّرَ له أن يطوِّر تلك القوة الدافعة الجديدة التي تلقَّاها من الآخرين ويسير بها إلى الأمام.
على أن برادلي ينتقل، من بعد هذه الأخلاق الفعلية الواقعية، إلى تشييد «أخلاق مثالية»، أي نظام أخلاقي من مستوًى أعلى، لا تعود فيه الذات حبيسة بيئتها الاجتماعية. وهو في هذه المحاولة، التي يتخلى فيها جزئيًّا عن الموقف الذي بلغه من قبلُ، يقدم إلينا لمحة لعالم القيم لا يكون من الضروري فيه إقامة علاقةٍ مباشرة مع البيئة الاجتماعية، وإنما الواجب أن تطلب قيمة لذاتها، شأنها شأن سعينا إلى الحق والجمال. وهكذا فإن برادلي يعترف هنا بمجال للكمال غير الاجتماعي، ومع ذلك فلا يمكن أن يحلق هذا المستوى الأعلى في الهواء فوق المستوى الأدنى، وإنما ينبغي أن تكون جذوره متأصلة في هذا الأخير وأن ينمو منه، فالأخلاق المثالية ترتكز على الأخلاق الاجتماعية. وهكذا ينسجم تفكير برادلي مع حساسية الشعب الذي ينتمي إليه، فهو يجسد فكرة «الجنتلمان» الإنجليزي، وهي فكرةٌ لا تحتمل خروجًا عن الحواجز الاجتماعية والقومية، وهو في هذه النقطة أقرب إلى هيوم بكثير منه إلى هيجل.
وإذا نظر برادلي إلى الغاية الأخلاقية على أنها شيء ينبغي تحقيقه في الواقع الحالي، فقد تجاوز ثنائية كانْت بطريقةٍ هيجلية، ولكن يتضح بعد ذلك أن هذا الموقف الرفيع ذاته إنما هو موقفٌ تمهيدي فحسب، يلقي به برادلي بدوره في دوامةٍ ديالكتيكة، الذي لا يتوقف عند حد؛ ذلك لأن الثنائية القديمة، التي سبق حلها، بين الوجوب والوجود، تطل برأسها من جديد عندما يتضح أن الفكرة الأخلاقية لا يمكن أبدًا أن تتحقق تحققًا كاملًا. ففكرة الوجوب أو الإلزام تنطوي على تناقض؛ إذ إنه حيث لا يوجد نقص لا يوجد إلزام، وحيث لا يوجد إلزام لا توجد أخلاقية، ولا يمكن أن يوجد حلٌّ مباشر لهذه المشكلة القائلة بوجود تباين بين الأخلاقي، بوصفه شيئًا متحققًا بالفعل أو قابلًا للتحقق، وبينه من حيث هو غايةٌ مثالية مرغوب فيها. ومعنى ذلك أن من واجبنا، إذا شئنا الخلاص من هذه المشكلة، أن نترك مجال الأخلاق ونفكر قدمًا في مجال يعلو على الأخلاق، لا تعود فيه فكرة الإلزام حاضرة. هذا المجال الأعلى هو الدين، الذي هو تحقق الأخلاقية أو اكتمالها الرفيع، بمعنى أن الذات المثالية، التي تظل دائمًا، بالنسبة إلى الأخلاق، شيئًا ينبغي أن تكونه، تتحقق بالفعل في الدين، هذه الأفكار تفضي إلى تلك التأملات التي لم ينتقل برادلي إليها إلا عند صياغته لمذهبه الميتافيزيقي بعد سنوات عدة.
وسوف نرى، عندما نعرض لهذا المذهب، أن الخير الذي يلحقه تناقضٌ ذاتي لا يحقُّ له ادعاء الواقعية بالمعنى الدقيق، وإنما ينتمي فقط إلى عالم الظواهر غير الواقعي، وعلى ذلك فحتى حين يتجاوز هذا الخير ذاته في الدين، فإنه لا يجد في ذلك إلا حلًّا أو تحققًا تمهيديًّا. وفي «المطلق» وحده بوصفه الواقع الحقيقي، يصل الخير — ومعه ضده أي الشر — إلى مستقره النهائي، بعد أن يفقد طبيعته الخاصة في تحولٍ كامل. وهكذا فإن اكتمال الأخلاق عند برادلي إنما يكون في ميتافيزيقا المطلق عنده.
وإن كتاب برادلي ليختلف، حتى من حيث المظهر الخارجي، عن البحوث المألوفة في المنطق، فهو ليس منطقًا صوريًّا ولا رياضيًّا ولا تجريبيًّا، وإنما هو بحثٌ أصيل إلى أبعد حد، شخصي تمامًا، في قوانين الفكر والصور المنطقية. وهو موجَّه أساسًا وبعنف ضد منطق التجريبيين، ويرجع تأثيره التاريخي إلى أنه قضى على التأثير القوي لمنطق مل، وأبعد تعاليمه عن الميدان عشراتٍ متعددةً من السنين، إلى أن حدث، في وقتٍ قريب جدًّا، رد فعلٍ بطيء لصالح مل إلى حدٍّ ما. وأفضل ما يوصف به منطق برادلي هو أنه منطقٌ ميتافيزيقي، بمعنى أن للمسلَّمات الميتافيزيقية تأثيرها الفعال فيه، أو أنها على الأقل تكون أساسه الخفي، ولكنه لا يناظر إلا على نحوٍ عام ذلك النوع من المنطق الذي يتجلَّى بأنقى صوره في هيجل، والذي لا تربطه به إلا نقط التقاء متفرقة، والذي نادرًا ما استخدم ماهيته، وهي الديالكتيك، إذ تجنب تمامًا الارتقاء الديالكتيكي من مقولة إلى أخرى، وفضلًا عن ذلك فإن علاقاته بالمذهب الأرسطي التقليدي في المنطق سطحية إلى حدٍّ ما، وذلك على الرغم من أنه مبني جزئيًّا على نتائجه، فهو يتخلى عمدًا عن فكرة التصور، وينقد فكرة القياس بقسوة.
والفرق بين الاستدلال والحكم هو أن الأخير أقرب كثيرًا إلى الإدراك المباشر، أي إلى المادة الحسية، فقبل إمكان قيام أي استدلال، ينبغي أن يطرأ قدر مُعيَّن من التنظيم على المادة الخام للمعرفة، وهذه هي مهمة الحكم أساسًا، ويمكن القول: إن الحكم يبدأ، بصورةٍ بسيطةٍ أولية، في التجربة الحسية، على حين أن الاستدلال يفترض مقدمًا أساسًا عقليًّا، وهذا لا يعني أن الاستدلال يبدأ حيث ينتهي الحكم؛ إذ إن برادلي يؤكد أن الصور البدائية للاستدلال تظهر في البدايات الأولى للحكم، وعلى أدنى مستويات الحياة المعرفية. غير أن الحكم الصريح هو قطعًا سابق منطقيًّا، إن لم يكن نفسيًّا، على الاستدلال الصريح، وإن يكن الاثنان معًا وجهَين لعمليةٍ واحدة. وهكذا فإن فكرة برادلي هذه تستبق فكرة بوزانكيت (التي كانت وثيقة الصلة بها)؛ إذ تجعل مهمة المنطق هي عرض نمو الذهن وتتبع العمليات المنطقية طوال مراحل نموها المتعددة.
وبعد تخلُّص برادلي من تصور العلاقة، يرد كل التصورات الأولية الأخرى للفكر إلى علاقات، هي بدورها عاجزة عن الاتصال بحدودها إلا من خلال سلسلة لا متناهية — وبالتالي مستحيلة — من العلاقات المتوسطة. وهكذا فإن عالم المظهر عنده مزدحم بدرجة لم تُعْرَف من قبلُ، وقد كرس الباب الأول كله من كتابه لإثبات أن المقولات والتصورات الأخرى للفكر، وكذلك محتوى التجربة، كل هذا يعاني مما تتضمنه العلاقة من تناقض غير قابل للحل، وبالتالي ينتمي إلى عالم المظهر. وفي هذه الفصول يترك برادلي السفسطائي الشكاك نفسه على سجيتها، في دوامة من التمييزات الحادة والحجج الدقيقة التي تثير سحابةً هائلة من الغبار الديالكتيكي بحيث لا يكون لنا أن ندهش حين نرى الأشياء تتهاوى بين يديه، ولا تترك في النهاية إلا عالمًا من الأنقاض. ففي دوامته الديالكتيكية يكتسح، الواحدة تلو الأخرى، كلًّا من: الكيفيات الأولى والثانية، والشيء والصفة، الكيف والإضافة، الزمان والمكان، الحركة والتغير والتعاقب، العلية والفعل والانفعال، الجوهر وهوية الأشياء، بل وهوية الذات، وكل علمٍ طبيعي، والخطأ والشر والخير، بل الدين والله.
ولا حاجة بنا إلى تتبع كلٍّ من هذه على حدة، وإنما سننتقي حالة الذات لنضرب مثلًا بها على الطريقة التي سار عليها؛ إذ إنها تكشف على أكمل وجه عن مدى استعداد برادلي للخروج عن مواقف المثاليين السابقين عليه، مثل جرين وولاس كلما اقتضى مبدؤه ذلك. وتلك هي أوضح حالة تُبين مدى تحكم الإطار الجامد الذي وضعه برادلي في نتائجه مقدمًا، وإلى أي حدٍّ أغمض عينَيه عن حلٍّ كان قريبًا من متناول يده، وفي الوقت ذاته كانت تقتضيه المشكلة ذاتها. فدون أن يبذل حتى مجرد محاولة لحل مشكلة الهوية الشخصية بتحليلٍ مباشر للوقائع المجردة، نراه يكتفي ببحث النظريات المتعلقة بها، وهي نظريات بلغت من الكثرة والتنوع حدًّا يبعث على الاضطراب، وانتهى إلى أن تصورًا له من التباين والغموض ما لتصور الذات لا يمكنه أن يفي بتلك الشروط التي ينبغي عليه، أو على أي تصورٍ آخر، أن يفي بها إذا ما شاء أن يعد حقيقيًّا أو واقعيًّا؛ لذلك أدرجه ضمن المظاهر. غير أن الذات تمثل حالة ينطبق عليها بكل وضوح معيار الواقعية الذي رأى برادلي أن له أهميةً عظمى، أعني معيار انسجام الواحد والكثير، والكثرة في وحدةٍ مركبة. فهو إذ أنكر وحدة الوعي الذاتي قد جعل الذات مساوية لمجموع تجاربها بدلًا من أن يجعلها مساويةً لوحدة هذه التجارب. وهكذا انتهى إلى الرأي القائل إنها مجرد حزمة من الأحوال المتفرقة، فاقترب بذلك كثيرًا من نظرية هيوم التي كان قد أعلن صراحةً عن عدم رضائه بها. والأهم من ذلك أنه تخلى بهذا عن الرأي الذي كان قد عرضه في مذهبه الأخلاقي من قبلُ. وفضلًا عن ذلك فإن هذا قد جعل من المستحيل عليه — كما سنرى فيما بعدُ — أن ينتفع على أي نحو من مقولة الشخصية في تحديد المطلق. وهكذا فإن نظريته في الذات، كما عرضها في كتابه عن الميتافيزيقا، تمثل نكسة إلى التجريبية (التي كانت تربطه بها بالفعل صلاتٌ قوية)، وهي تعد مثالًا للطريقة التي أساء بها مفكر لامع الذهن مثله إلى مشكلة في سبيل مبدأ.
ولا يستثنى الخطأ والشر من عملية التحول الكبرى التي تدمج بها المقولات والمظاهر المتناهية في المطلق، ففيما يتعلق بالخطأ، يكون معنى هذا الاندماج أنه لا يمكن وجود تعارضٍ أساسي بين الحقيقة والخطأ، وإنما الأمر كله أمر درجات من هذا وذاك، فالخطأ في الواقع «هو» الحقيقة، أي هو الحقيقة الجزئية الناقصة، التي نتأملها من وجهة نظر فهمنا المحدود القاصر، أما في التجربة الكلية فإنه يصحح ذاته ويختفي. ومن الواضح أن برادلي هنا لا يحل هذه المشكلة الخطيرة غاية الخطورة، وإنما يكتفي بالزيغ والتهرب منها. ولا جدال في أن الهجمات العنيفة التي وجهها خصوم برادلي، ولا سيما البرجماتيون، إلى نظريته في الخطأ، قد مسَّت نقطةً شديدة الضعف في مذهبه.
وكما رأينا من قبلُ، فإن المجال فوق الأخلاقي الذي تهفو إليه الحياة الأخلاقية هو الدين. ولم تكن لبرادلي صلةٌ وثيقة أو أساسية بالأمور الدينية، وإن المرء ليحس بأن ما قاله عنها سطحي، وبأنه ليس ناتجًا عن معاناة وتجربة، وإنما عن تفكيرٍ نظري قام به وهو قابع في مقعده الوثير فحسب. وهو في هذا يقول إنه رغم أن الدين مطلق بالنسبة إلى الأخلاقية، فإنه بالنسبة إلى «المطلق» مجرد مظهر. وتؤدي التناقضات الداخلية التي يهتدي إليها برادلي في الدين إلى دفعه إلى تجاوز ذاته، ليصل إلى كمال الكل الميتافيزيقي الأعلى. فما هي إذن العلاقة بين الله وبين المطلق؟ إن الله لا يكون إلهًا إلا بقدر ما يكون هو الكل، ولكنه بهذا المعنى ليس هو الله، كما تعرفه الأديان، الذي هو أقل من المطلق. وهكذا فإن تصور الله ينجذب بدوره، بعد كل التصورات الأخرى، في الدوامة الديالكتيكية، فهو ليس الكل وإنما هو وجهٌ واحد، وبالتالي مجرد مظهر، بحيث ينبغي أن يطرأ على الله، ومعه الدين، ذلك التحول الذي يغوص به في «الواحد» الميتافيزيقي النهائي، ولا شك أن هذا الحل — أو قل هذا الانحلال — الغريب محتَّم بالنسبة إلى مذهب برادلي؛ ذلك لأنه بعد أن نظر إلى الشخصية على أنها حزمة من المتناقضات، وبالتالي على أنها حقيقة من مرتبةٍ أدنى، لم يعد أمامه بُدٌّ من أن يعزو إلى المطلق طبيعة فوق الشخصية، وأن يصفه من خلال فكرتَي الاتساق والانسجام، أما الدين فكان بالنسبة إليه مسألةً عملية، ونظرًا إلى أن صوره وتصوراته تتجه أساسًا إلى تحقيق غاياتٍ عملية، فلا يلزم أن تخلو من التناقضات النظرية. أما كون معظم الأديان تصور الكائن الأعلى على أنه شخص، فتلك مجرد نتيجة للحاجة البرجماتية التي تعبر عنها هذه الأديان. وعلى أية حال فإن هذا التصوير، كما يقول برادلي، لا يمكن أن يفي بمقتضيات المبدأ الميتافيزيقي الذي يسميه المطلق؛ ومن ثم فهو يقصر دونه.
أبرز سمات فلسفة بوزانكيت قرابتها الوثيقة من فلسفة برادلي، وكأن الرجلَين يكوِّنان شركة، يمثل فيها برادلي الذهن المنشئ الذي جاء بالبادرة الأولى وأخصبها بعد ذلك، ويمثل بوزانكيت — عمومًا — الذهن الأكثر تفتحًا والأقدر على العمل والتنفيذ. غير أن من الإسراف أن يقال — كما فعل البعض في الآونة الأخيرة — إنه يكاد يكون من الممكن النظر إلى الاثنين على أنهما شخصيةٌ فلسفيةٌ واحدة؛ ذلك لأنه، على الرغم مما بينهما من اتفاقٍ كبير في الموقف العام فضلًا عن التفصيلات، فليس من الصحيح أن تسمى فلسفة بوزانكيت مجرد ترديد لفلسفة برادلي، فهي تمثل إعادة بناء مستقلة وتوسيعًا وتطبيقًا لتعاليم برادلي، قام به مفكرٌ أصيل تصادف أنه متفق مع برادلي، وإن لم يكن يقل عنه مقدرةً، فليس أحدهما هو المعطي والآخر هو الآخذ فحسب، بل لقد كان بين الاثنين تبادلٌ مثمر للآراء، كان برادلي فيه هو المستفيد في أحيان غير قليلة.
ولقد كان بين حياة كل من برادلي وبوزانكيت اختلاف هائل، (على الرغم من أن بداية حياتهما ونهايتها كانتا متفقتَين في الزمان تقريبًا). وقد انعكس ذلك الاختلاف أيضًا في عقليتهما وطريقتهما في التفلسف، فقد كانت طبيعة برادلي منطويةً منعزلة، ولم يشغل منصبًا تعليميًّا، ولم تكن له واجبات تستحق الذكر، وهو لم يكن توَّاقًا إلى النشاط العملي، وإنما ظل مغلقًا على ذاته، منصرفًا بكليته إلى حياة التأمل، وقضى حياته كلها بين جدران كليته في منفًى اختياري عن العالم. أما بوزانكيت فكانت له، على العكس من ذلك، طبيعةٌ إيجابيةٌ عملية، وقدرةٌ هائلة على العمل، ولم يستطع أن يقنع بالحدود الضيقة لحياة المحاضر الجامعي إلا فترةً محدودة، فبعد عشر سنوات قضاها في هذه الحياة، وجد مجالًا أوسع وأبرز للعمل في لندن، حيث كان يقوم بالمساعدة في تنظيم الخدمات الاجتماعية ويحاضر في الجمعيات الفلسفية وفي فصولٍ كانت قد بدأت تنشأ عندئذٍ بموجب حركة تعليم البالغين الجديدة. وعلى حين أن برادلي لم ينشر إلا أربعة كتب من جميع الأحجام، فإن بوزانكيت، الذي كان من أخصب كُتَّاب الفلسفة في عصره وأوسعهم مجالًا، نشر ما يقرب من العشرين.
ولقد وجدت المثالية المطلقة في برادلي وبوزانكيت أفضل من يمثلانها بين الإنجليز، فقد توسع فيها الأول في اتجاه العمق، والثاني في اتجاه الامتداد. وإلى بوزانكيت على التخصيص يرجع فضل بناء نظرة برادلي إلى العالم على أساسٍ أوسع كثيرًا وتطبيقها وعرضها، بكل ما فيها من نواحٍ مثمرة، في جميع الفروع الفلسفية، أي في علم الجمال وفلسفة الدين والقانون والدولة، فضلًا عن علم النفس والمنطق ونظرية المعرفة والأخلاق. وهو في هذه الخاصية الموسوعية يزداد اقترابًا إلى هيجل من برادلي، كما أنه على وجه العموم تلميذ أشد تمسكًا بتعاليم الأستاذ وإخلاصًا لها. ونستطيع أن نقول إنه أعاد مذهب برادلي إلى نقطة بدايته الهيجلية الأولى، وإن السبب في ذلك ليس فقط كونه أقل قطعية من برادلي، بل أيضًا كونه أقل منه نزوعًا إلى الشك. ولقد أشار البعض، عن حق، إلى أنه قد عمل في كل الأحوال على تغيير الاختيار القاطع عند برادلي، الذي يعبر عنه كلمة «إما كذا وإما كذا»، إلى تعبيرٍ أخفَّ وأقل حدة، هو «كلاهما معًا»، بحيث كان يسعى إلى تخفيف التعارض بين المدارس بدلًا من أن يؤكده ويزيده حدة. ولا أدل على اتجاهه هذا من البرنامج الذي وضعه لواحد من كتبه المتأخرة، والذي يتضح في عنوانه، هو «تقابل الأضداد في الفلسفة المعاصرة»، وهو كتاب بذل فيه قصارى جهده ليهتدي إلى أساسٍ مشترك تستطيع جميع المدارس أن تبدأ منه محاولةً تعاونية لمواجهة مشكلات الفلسفة. وهكذا وجد ذهنه الرحب اللامع تعبيرًا مميزًا له في هذا الموقف، وكذلك في موقف الشهامة الذي كان يعامل به خصومه إذا ما رأى نفسه مضطرًّا إلى الاختلاف معهم، ومع ذلك فلزام علينا أن نعترف بأن هذه الشهامة قد أدت به في كثير من الأحيان إلى التنازل عن آرائه على نحو لا يتفق مع موقفه الخاص.
ونستطيع أن نقول إن المثالية قد شعرت، عند بوزانكيت، بالحاجة إلى مزيد من التجربة، وضمت إلى مجالها الخاص مجالاتٍ فكريةً واسعة، ولقد كانت الميادين الخاصة التي تغلغل فيها أكثر من أن تتيح لنا تتبعه حيثما ذهب. ومن هنا كان يكفينا أن نستخلص، من عددٍ قليل منها، الاتجاه العام لتفكيره. ونستطيع أن نقسم نشاطه التأليفي، بوجه عام، إلى ثلاث فترات: في الأولى كان يهتم قبل كل شيء بالأسس المنطقية لمذهبه، وفي الثانية بمشكلات علم الجمال والأخلاق وفلسفة الدولة، وفي الأخيرة أكمل أطراف نظرته إلى العالم بميتافيزيقا بنَّاءة، وبتطبيق هذه الميتافيزيقا على مجال الدين.
فالصورة المنطقية الأولى والأساسية في بوزانكيت — كما هي في نظر برادلي — هي الحكم لا التصور؛ إذ ليس للتصور مكان في التفكير الفعلي إلا بوصفه جزءًا عضويًّا من حكم، فالحكم معنى يكوِّن كلًّا عضويًّا، وبالتالي لا يمكن فهمه إلا في ضوء الوحدة الوظيفية لأجزائه. أما إذا أخذنا نُعدِّد هذه الأجزاء ونُحلِّلها، كان في ذلك تمزيق لنسيجها الحي، وكل فعل للحكم يشير إلى واقع خارج هذا الفعل ذاته، ومن الواجب أن يعد حكم الإدراك الحسي المألوف تمامًا تعبيرًا جزئيًّا عن الواقع، أما الحكم الكامل فلن يكون أقل من تأكيد الواقع كله في أعمِّ صورة له؛ لذلك فإن الواقع — بما هو كذلك — هو في آخر الأمر الموضوع المميز لكل حكمٍ صحيح، وفي كل حكم تفترض مقدمًا كلية الأشياء بطريقة أو بأخرى على الدوام، حتى ولو كنا لا ندركها في عملية الحكم إلا بطريقةٍ جزئية، وإذن فلما كان الحكم هو الجهد الذي يبذله الفكر لتحديد الواقع، فإنه لن يتباين فقط تبعًا لاختلاف الأنواع الكيفية للواقع الذي يحدده من آن لآخر، بل أيضًا تبعًا لدرجة النجاح الذي يحققه في هذا التحديد، وسواء اتخذ الحكم شكل معادلةٍ رياضية أو تعريفٍ منطقي أو حكمٍ تقويمي، فإن أهم طابع يميزه يتحدد بالكل الكامن الذي يدركه.
أما في ميدان الفلسفة السياسية، فإن بوزانكيت كان يسلك نفس الطريق المثالي العظيم الذي سار فيه أفلاطون وأرسطو وروسو وهيجل وجرين. وإذا استثنينا المحاولة التي بذلها جرين على استحياء، فقد كان بوزانكيت أول مفكر في إنجلترا يقوم بعملية إحياء حقيقية لفكرة الدولة كما تصورها هيجل، في مقابل النظريات القومية الليبرالية عند بنتام ومل وسبنسر. وعلى حين أن جرين قد توقف في منتصف الطريق، فإن بوزانكيت قد سار الشوط كله مع هيجل، وكان أول من فعل ذلك، ويمكن القول، دون تحفظ: إن وضعه لنظرية الدولة كان أكبر وأهم محاولة في الحركة المثالية الإنجليزية.
ولو نظرنا إلى الذات الجزئية من الوجهة الأخلاقية، لكانت هي الذات الأنانية التي تحيا تمامًا بدوافعها الطبيعية، على حين أن الذات العضوية هي الذات المعنوية أو العاقلة. والآن يمكن تحديد ماهية الدولة وغايتها، فالدولة هي الإرادة العامة أو العاقلة، وهي كائن مستمر في هوية مع ذاته، يتغلغل في كثرة من الأفراد الذين لا يكون للدولة وجود ومعنى إلا فيهم وبهم، والغاية العليا للدولة هي نفس غاية الفرد، أي تحقيق أفضل حياة ممكنة، أو الارتفاع بطبيعتنا إلى الوحدة الكاملة مع الكل الاجتماعي. والأمران سيان، غير أن للدولة، في غايتها المباشرة، وظيفة أخرى أكثر سلبية، هي إزاحة العقبات التي تقف في وجه تحقيق الغاية الأخلاقية. ولما لم يكن من الممكن دائمًا إزاحة هذه العقبات بالتأثير الأخلاقي البحت، فإنه يتعين في كثير من الأحيان الالتجاء إلى الإرغام والقهر. وهكذا فإن القوة جزءٌ أصيل لا يتجزأ من طبيعة الدولة؛ إذ أن الأنانيين في طبيعتهم الجامدة، وكذلك معظمنا في حالتنا الحيوانية، يحتاجون إلى الإرغام من أجل تحقيق الذات الحقَّة. وهذه فكرة تظهر فيها بوضوح تلك الثنائية التي وضعها كانت بين الذات التجريبية والذات المعقولة، فعلى عاتق الدولة تقع مهمة تحرير الذات العاقلة من أغلالها التجريبية، والارتقاء بها، ولو بالقوة، إلى مرتبة الحرية؛ ذلك لأن الحرية هي تحقيق الذات الحقة، وهي أن نحيا أفضل حياةٍ ممكنة لنا، ونكوِّن نحن والكل واحدًا. وما القسر الذي تفرضه علينا الإرادة العامة، آخر الأمر، إلا المطلب الذي تفرضه ذاتنا الحقة الفاضلة على ذاتنا الدنيا العنيدة. ومثل هذا القسر أمر لا مفر منه طالما أنه ليس لدينا فكرة عن ضرورة هذا المطلب، أو طالما كانت فكرتنا عنه ناقصة فحسب. وهذا هو أساس حق الدولة في معاقبة المذنبين، فالعقاب تعويض عن الظلم الذي يلحق المجتمع نتيجة للإخلال بنظامه القانوني، وهو إلغاء للإرادة المضادة للمجتمع عند المذنب.والمذنب ذاته عضو في الجماعة التي لحقها الظلم، وله على هذا الأساس الحق في أن يعاقب بمعنًى ما، لئلا يخدع في طبيعة الحياة الاجتماعية. ويعدُّ إلحاق العقوبة به ثمنًا لإعادة اندماجه في المجتمع الذي خرج على قانونه بما ارتكبه من إثم، وهنا نجد بوزانكيت يساير نظرية هيجل التي تعرف العقوبة بأنها قصاص.
أما الميتافيزيقا فإنها بداية تفكير بوزانكيت ونهايته، وهي أيضًا كل ما يقع بين هذه البداية والنهاية، ويتم الانتقال إليها من فلسفته في الدولة عن طريق الاعتراف بأن الروح الاجتماعية، التي تكون الدولة أعلى تجسد لها، ليست هي الصورة النهائية للفردية، بل هي واحدة من صورها الأولية فحسب، فهناك — من وراء أنظمة الحياة السياسية وأوجه نشاطها — مجالات تساهم بنصيبٍ أكبر كثيرًا في تحقيق الذات التي اكتفت الدولة بدعمها وكفالة الأمن لها، فالروح الإنسانية، في إدراكها المتزايد للعالم، تعلو على الدولة إلى نسقٍ أعلى تزيدها اقترابًا من الواقع المطلق، أعني نسق الفن والدين والفلسفة. وبهذه الأخيرة تصل إلى الميتافيزيقا، أي مذهب المطلق.
وعلى الرغم من أن أنظار بوزانكيت الميتافيزيقية، التي تتبدى فيما ألقاه من محاضرات «جيفورد»، تفترق عن أنظار برادلي وتتجاوزها من حيث المضمون والمصطلح معًا، فإن التغيرات لا تمس إلا الفوارق الدقيقة والاختلافات السطحية. أما في جميع النقاط الأساسية فهو يسير في الاتجاه الذي أشار إليه برادلي؛ لذلك لم تكن بنا حاجة إلا إلى أن نلفت الأنظار إلى النواحي التي يبدو أنه تجاوز برادلي فيها.
وتتركز أفكار بوزانكيت في مشكلة الفردية، فمهمته هي إدراك طبيعة الفردية، لا في أي مجالٍ خاص، كالمجال الأخلاقي أو الاجتماعي، وإنما في دلالتها الميتافيزيقية النهائية. هذه الدلالة، كما فهمها بوزانكيت، مضادة تمامًا للرأي السائد عن الفرد بوصفه شيئًا منعزلًا، خاصًّا، فريدًا. ويتضح ذلك في موقفه من التاريخ، فهو، على خلاف بعض الفلاسفة الألمان المحدثين، الذين كان التاريخ في نظرهم هو المجال الخاص بالفرد، قد رأى أن التاريخ تجربة من نوعٍ مختلط، تتميز بالتعاقب العارض والزمني المحض للحوادث؛ وبالتالي لم يعلق عليه أهمية. وهو بالفعل يرى بدوره أن الفرد شيءٌ خاص يتميز على نحوٍ فريد تمامًا من الجزئيات الأخرى، ولكن بمعنى أن هناك شيئًا واحدًا فقط هو الذي يعبر بوضوح عن طبيعة الفردية، ألا وهو المطلق، فالوحدات في الرياضة والعلوم الطبيعية، كالأعداد والذرات، تقف على مسافةٍ بعيدة كل البعد عن الفرد بالمعنى الزاخر الذي فهمه به بوزانكيت، فالأولى وحداتٌ مجردة، ومجرد تكرار لمتشابهات، بينما الفرد الحقيقي هوية عينيةٌ كلية داخل كلٍّ منظمٍ زاخر بالتنوع.
وهكذا فإن الفردية، بوصفها الكلية العينية، واللامتناهي الحقيقي بالمعنى الهيجلي، تبلغ أسمى مراحلها في تجربة «المطلق» اللامتناهية، أما في التجربة المتناهية فإنا نجد استباقات لها، وأفرادًا من نوعٍ أدنى، تتمثل أكمل أنواعها في العمل الفني وفي الشخصية الإنسانية وفي الطائفة الاجتماعية مثلًا. ومن الواجب ألا نخطئ فهم هذه الفكرة في حالة الإنسان، ففي اللغة المعتادة يقال عن الإنسان إن لديه فردية بقدر ما يكفُّ عن أن يكون مجرد ممثل للنوع الذي ينتمي إليه، وبقدر ما يغدو شخصية، أي بقدر ما يتميز بصفاته وأعماله الخاصة، بل إن التفكير الفلسفي ذاته كثيرًا ما نظر إلى فكرتَي الفردية والشخصية على أنهما فكرتان لا تنفصلان. وقد كان «راشدال»، من بين الفلاسفة الإنجليز المتأخرين، أوضح وأصدق ممثل لهذه النظرة التشخيصية، غير أن بوزانكيت يخالف هذا الرأي؛ فهو لا يوافق على أن الشخصية عنصرٌ ضروري داخل في تكوين الفردية، ويؤكد مرارًا أن الفردية البشرية ليست هي التي تحقق مقتضيات الفردية الكاملة بمعناها الصحيح، وإنما ينبغي التماس هذا التحقق فيما وراء المستوى الشخصي والمتناهي، فما الفرد البشري إلا جزء من كلٍّ أكبر، وهو بدون هذا الكل لا يكون شيئًا، وإنما يحتاج إلى أن يكمل فيه، فهو ناقصٌ مفتقر إلى الكمال طالما ظل على تناهيه، وهو لا يكون فردًا بحق طالما ظل شخصًا، وإنما هو في الأصل لا يعدو أن يكون كثرة وتعددًا، يهفو إلى أن يصبح كلًّا واحدًا، ومن هنا كان عليه أن يجد حلًّا وسطًا أو توفيقًا بين ما يكونه وبين ما يود أو ينبغي أن يكونه، وعلى ذلك فالصفة المميزة للمتناهي هي العلاء على الذات، وهذه فكرة لها أهميتها الرئيسية في مذهب بوزانكيت.
وعلى الرغم من أن بوزانكيت، كما رأينا، قد جعل من مشكلة الفردية محورًا لتفكيره، فإن مذهبه في المطلق لم ينشأ عنها، وهذا أمرٌ واضح لديه كما هو لدى برادلي؛ ذلك لأنه إذا كان السبيل إلى بلوغ المثل الأعلى هو التضحية بالذات الإنسانية، فهلا يكون في ذلك تحطيم لشخصية الإنسان في أعمق أغوارها؟ وإذا كان لا بد لهذه الشخصية أن تتبدل تمامًا لكي تجد ذاتها الحقة، فما الذي يتبقَّى من قيمتها المميزة؟ ألسنا نُقدِّر قيمة الشخصية أولًا وقبل كل شيء من أجل ما هي عليه في المكان والزمان الراهنَين، لا من أجل مثلٍ أعلى لها يقتضي تحقيقه القضاء على كل ما هو عزيز لدينا؟ أليست فكرة إذابة فرد وإدراجه في فردٍ أعلى هي على أية حال فكرة يصعب تصورها إلى حدٍّ بعيد؟ لا جدال في أن بوزانكيت، في بحثه في الشخصية الفردية، يمضي في الحد من قيمتها إلى حدٍّ يستحيل بعده البحث على أي نحو في مسألة إدراك طابعها الأساسي، فمذهبه مضطر إلى الاختيار بين أحد أمرين: إما أن يظل المثل الأعلى غير متحقق، وإما أن يقضي على الواقع الحقيقي، وتلك هي نتيجة السير بالمثل الأعلى أبعد ما ينبغي عن الواقع.
ولا يتسع المقام هنا لمعالجة ميتافيزيقا بوزانكيت بطريقةٍ شاملة على أي نحو، كما أن الحاجة لا تدعو إلى ذلك، بل نستطيع أن نختم كلامنا بأن نلاحظ أن مشكلة القيم تحتل فيه مكانةً أبرز بكثير من مكانتها عند برادلي، وربما كان ذلك راجعًا إلى تأثير لوتسه والفلاسفة الألمان المتأخرين الذين بحثوا مشكلة القيم. على أن تكرار استخدام التعبيرات المستمدة من مجال القيم لم يتغير بالفعل أي عنصرٍ أساسي في الموضوع، بحيث لا يمكننا في هذه الحالة أيضًا أن نقول إن بوزانكيت قد أفلح في إحراز أي تقدمٍ حقيقي على برادلي، الذي كان التجاؤه إلى مصطلح القيم أقل منه بكثير. والواقع أن استخدام برادلي المتحمس المترفع للفظ «الواقع» يدل على أن هذا اللفظ كان في نظره تصورًا ينتمي أساسًا إلى مجال القيمة. ولما كان الأمر كذلك فقد كان من السهل إعادة التعبير عن أجزاء معينة من مذهبه بلغة القيم، وهذا ما فعله بوزانكيت، فالمطلق في نظره ليس أعلى حقيقة وأسمى واقع فحسب، بل هو أيضًا أعلى القيم، وهو مقياس كل جدارة. كذلك اعترف بوزانكيت بمستويات القيمة مثلما اعترف بمستويات الفردية والواقع، فمقياس جدارة أية ظاهرة هو في حتميتها المنطقية وخلوِّها من التناقض، أو في الارتباط العضوي المتبادل والانسجام بين أجزائها، والأمران سيان. ومن الواضح أن فكرته عن القيمة ونظرته إلى العالم بوجهٍ عام، قد تحددت أساسًا بأفكاره الرئيسية المنطقية والجمالية، فتأثير الأفكار المنطقية واضح في سعيه وراء الرضاء النظري باستبعاد كل ما هو متناقض لا معقول، كما أن تأثير علم الجمال واضح في ذلك التكامل المنسجم لمذهبه في سيمفونية للمطلق يعود فيها كل ما هو نشاز إلى التوافق والانسجام.
ولقد كان يرى في الجمال نوعًا أساسيًّا من الوحدة العليا، وتوفيقًا بين الخاص والعام، والطبيعي والروحي، والضرورة والحرية، وكان تصوره للجمال من السعة بقدر تصوره للخير والحق. وهكذا جعله يشتمل على القبح بوصفه أدنى مستوًى أو مظهرًا له، وأن الكمال المنسجم الذي تتمتع به في العمل الفني إنما هو أكمل بشير بتلك الوحدة النهائية التي تتطلع إليها الميتافيزيقا بوصفها «المطلق».
(٥) القسم الخامس: مذهب الكثرة عند ماكتجارت
كان ماكتجارت — بلا شك — أكثر المثاليين اكتمالًا واستقلالًا بعد برادلي، ومن الواجب أن يدرج في الحركة المثالية العامة، ضمن الفئة الهيجلية. صحيح أنه كان، في نواحٍ متعددة، أبعد بكثير عن الأصول الهيجلية من برادلي وبوزانكيت، ولكنه كان أقرب إليها بكثير في ناحيةٍ هامة، هي أن فكره نشأ عن دراسةٍ فاحصةٍ متعمقة لفلسفة هيجل، ظلت هي الأساس الذي بُنِيَ عليه مذهبه الخاص، مهما كانت درجة ابتعاده عن هذه الفلسفة في اتجاهاتٍ خاصة به. وتتركَّز مكانته المميزة في الحركة الهيجلية الإنجليزية في أنه خطا الخطوة النهائية الحاسمة في فصم عرى الارتباط مع اللاهوت، وهو الارتباط الذي تميزت به أولى مراحل المذهب، وذلك بتشييده مذهبًا إلحاديًّا على أسسٍ هيجلية. وهكذا فإنه — في داخل المذهب الهيجلي — ينتمي إلى أقصى اليسار، في الطرف المضاد تمامًا لمفكرين مثل سترلنج وجرين كيرد، وهو يتميز عن برادلي وبوزانكيت — اللذين يمكن أن ينسبا إلى اليسار بدورهما، نظرًا إلى اتخاذهما موقف الحياد، إلى حدٍّ ما، من التحالف مع اللاهوت — باستقلاله وأصالته الكاملَين، فأبرز الاختلافات بينه وبين من بحثناهم حتى الآن هو ذلك التحول إلى مذهب الكثرة، الذي أدخله على اتجاههم الذي سار بقوة في طريق الواحدية.
وأيًّا ما كانت نتيجة الخلاف حول كون ماكتجارت هيجليًّا أو غير هيجلي، فمما لا نزاع فيه أنه بذل جهدًا لا يكاد يكون له نظير في سبيل فهم هيجل، وأن فلسفة هيجل تحكَّمت في تفكيره في نقاطٍ متعددة، ولكنه لا يمكن أن يسمى هيجليًّا إلا مع تحفظات هامة. والفكرة التي يخرج بها المرء عنه هي أن طرق التفسير المتكلَّفة المتعمدة التي طبقها على هيجل لو كانت قد طُبِّقت على مفكرين آخرين — أو على أية حال على أفلاطون وليبنتس واسبينوزا وباركلي — لأتت بنتيجةٍ مماثلة أو مشابهة، أعني بناء فلسفةٍ خاصة به وهدم أية فلسفةٍ أخرى. فالانتقال من أيٍّ من هؤلاء المفكرين إلى مذهب ماكتجارت ليس أصعب قطعًا من الانتقال من هيجل إليه، ولقد لوحظ أن تعاليمه، وإن كانت ترفع راية هيجل وتمخر عباب المياه الهيجلية، إن جاز هذا التعبير، قد أسفرت مع ذلك، بطريقة لا شعورية، عن نوع من المذهب الأفلاطوني، كما قيل عنه إنه «اسبينوزا حديث». وكان لهذه التسمية ما يبررها، كذلك أكد البعض تقاربه الوثيق مع مذهب الذرات الروحية عند ليبنتس والمذهب الروحي عند باركلي، وهذا التقارب بالفعل واضح. غير أن هذا كله، على صحته، لا يدل إلا على أن مذهبه مذهبٌ شخصي إلى حدٍّ بعيد، لم يتخذ من أفكار الآخرين مادة له، وإنما استخدمها وسائل وأدوات فحسب. وأيًّا كان الرأي في قيمة هذا المذهب أو أهميته، فهو قطعًا من أجرأ وأروع وأصدق المحاولات التي بُذلت في إنجلترا للتفكير في العالم في مجموعه، وهو يحتل ضمن بناة المذاهب الإنجليز المحدثين، مكانة لا يشاركه إياها سوى برادلي وألكسندر وهويتهد. ولقد أظهر، في صياغة مذهبه المقفل الجامد، قدرة على التفكير الرائع الواضح، وعلى الدقة في التعبير، ومنطقًا حتميًّا صارمًا، وقوةً بناءة، وعمقًا تأمليًّا، وبصيرةً صوفية.
ولقد كان ماكتجارت يرى أن قلب فلسفة هيجل، ومصدر قيمتها الدائمة في تاريخ الفكر، هو منطقها والديالكتيك المتصل به، غير أنه كان يرى أن التطبيقات العديدة للمنطق على الأجزاء الجانبية من مذهبه، كالفن والدين والتاريخ والقانون والدولة، كانت متوقفة على ظروف عصر هيجل الخاص، ولم تكن لها أهميةٌ كبيرة، وإن كان قد اعترف بتلك الثروة الكبيرة من الأفكار وتلك القوة الدافعة الهائلة التي أتت منها. وكان همه الأساسي في هذا الصدد هو الدفاع عن هيجل ضد الفكرة الباطلة، التي كانت لا تزال شائعة على نطاقٍ واسع، والقائلة إن هيجل قد نسج العالم من الفكر المحض، ولم يتحرك إلا وسط تجريدات وتركيباتٍ شكليةٍ خالصة، دون أي اعتبار للمضمون العيني للتجربة، فهو قد أكد مرارًا أن تفكير هيجل عيني، وأن الديالكتيك لا يتناقض مع التجربة، وإنما يفترضها مقدمًا في كل الأحوال. فالتجربة ترتكز بطبيعة الحال على المعطيات المباشرة للحسِّ، التي لا يمكن أن تنتج عن الفكر الخالص، وإنما هي شروط وجوده. ولقد كان هيجل، في رأي ماكتجارت، يدرك هذا كله تمامًا، وكان يعلم ويعني أن حركة الفكر الديالكتيكية لا يمكن أن تتحقق إلا داخل الكل العيني للتجربة الذي تكون فيه المعطيات الحسية عواملَ مستقلةً متضايفة مع الفكر.
ولقد أدت دراسات ماكتجارت الخاصة للديالكتيك الهيجلي إلى رأيه القائل إن تصاعد المقولات ليس عملية تجريدٍ متزايد، وإنما هو عملية اقترابٍ متزايد من الكل العيني، فقد بين أن المركب الأخير، الذي يتم الوصول إليه في «الفكرة» المطلقة، هو الشرط والأساس المنطقي لكل المقولات السابقة، وأن الأزواج العديدة من الأضداد والأفكار العليا التي تستوعب فيها هذه الأضداد وتتجاوز على التوالي، كل هذه تنتج بالتجريد من تلك المقولة العليا، التي هي أغنى المقولات، والتي تنتهي عندها الأخريات وتجد فيها اكتمالها. وهكذا فإن الانتقال من مقولة إلى أخرى ومن مركب إلى آخر ليس تقدمًا بمعنى وضع مضمونٍ جديد لم يكن موجودًا من قبلُ، وإنما هو قلب لعملية التجريد، واستعادة للوحدة العينية التي استمدت منها التجريدات. وبهذا المعنى يكون الديالكتيك هو المنهج الوحيد الصحيح والمثمر في الفلسفة. صحيح أن بعض انتقالات هيجل الجزئية ليست ضرورية منطقيًّا ولا مقنعة، غير أن هذا لا ينطوي على أي حطٍّ من قيمتها؛ إذ إن الانتقال من مقولة إلى أخرى لا يقتصر في الواقع على اتجاهٍ واحد محتَّم منطقيًّا، وإنما هو يترك مجالًا لإمكانياتٍ أخرى. ومن الواضح أن ماكتجارت يتخذ في هذه الفكرة الأخيرة موقفًا غير هيجلي على الإطلاق، وفضلًا عن ذلك فليس المنهج الديالكتيكي جامدًا، محددًا على نحوٍ نهائي، بل إنه هو ذاته معرض للنمو، وهو نمو يمكن رده إلى قانونٍ عام. وأخيرًا فإن ماكتجارت يذهب إلى أن مرحلة السلب تلعب دورًا ضئيلًا جدًّا في العملية الديالكتيكية من حيث هي كلٌّ، فلها أهمية في الأطوار المبدئية فقط، وهذه الأهمية تقل بالتدريج كلما ازدادت الحركة صعودًا. وهذه المرحلة عرضية، لا أساسية، ففي التفكير، لا تنبثق كل مقولة من مقابلها السابق، وإنما تعبر عن الدلالة الحقيقية للمقولة الأدنى، وتحقق هي ذاتها طبيعتها الحقة في مقولةٍ أعلى. وحيث لا يوجد تقابل لا يكون ثمة حاجة إلى التوفيق، أو إلى مركب تنحلُّ فيه المتناقضات، وإنما تدعو الحاجة فقط إلى كشف وإظهار ما ترك ضمنيًّا، فالديالكتيك مثل النمو العضوي، إذ تنمو فيه المراحل العليا من الدنيا مثلما ينمو النبات من البذرة. فمرحلتا التقابل والسلب توضحان ما هو ناقص باطل في العملية، ومرحلة النمو الإيجابي هي التي تعبر عن الطبيعة الحقة للفكر. وعلى ذلك فإن معنى المنهج الديالكتيكي أو غايته تتحقق بقدر ما يحل العنصر الإيجابي محل العنصر السلبي. ولقد كان ماكتجارت يرى أن هذا التفسير للديالكتيك يمكن أن يوجد لدى هيجل أو يستمد منه، ولكنه كان هنا — كما كان في مواضعَ أخرى — واقعًا في خطأٍ لا شعوري، فقد انزلق — دون وعيٍ تام منه — إلى مواقف لم تكن دائمة قابلة للاندماج في مذهب هيجل، بل كانت أحيانًا مناقضةً له على نحو مباشر.
ولو نظرنا إلى دراسات ماكتجارت لهيجل في ضوء عمله الفلسفي العام، لَبَدَتْ لنا هذه الدراسات مجرد استطراد كان ينبغي له القيام به لكي يصل إلى ذاته. ومن الصعب تحديد السبب الذي تعين عليه من أجله أن يقوم بهذا الاستطراد، ففي خلال السنوات التي تكوَّنت فيها شخصيته، كان هيجل قد بلغ قمة الشهرة في إنجلترا، وكانت قراءته قد أصبحت موجةً سائدة. ولكن ربما كان السبب الرئيسي هو حاجة ماكتجارت إلى تجربة قواه وممارستها على واحد من أعظم أعلام الفكر، والتسلق على أكتافه. ومع ذلك فإن هذا الاستطراد لا يبدو ذا ضرورةٍ باطنة، إذ إن الميل إلى تكوين نظرة إلى العالم خاصة به كان يتملكه منذ البداية، وكانت الخطوط الرئيسية للنظرة التي عرضها فيما بعدُ، ظاهرة بوضوح في كتبه الأولى، فمن الواضح أنه لم يكن يحتاج إلا إلى ما يجلبه للزمن من مزيد من التفكير ومن النضوج، لكي يُكوِّن نظرته الخاصة إلى العالم ويتمَّها، فتطوره الفلسفي سار فيما يمكن أن يقال عنه إنه أنموذج ديالكتيكي؛ فقد كان مذهب هيجل يمثل مرحلة التقابل التي تَعيَّن عليه مواجهتها لكي يرتفع إلى تفكيره الخاص الصحيح، ويمثل المقولة الدنيا التي كان ينبغي فهمها أولًا، ثم تجاوزها بعد ذلك في مذهبه الخاص.
والفارق الأساسي بين تفكير هيجل وتفكير ماكتجارت هو أن الأول عيني مشبع بالتجربة، بينما الثاني مجرد، بعيد عن التجربة. فقد كان ماكتجارت على الدوام حريصًا على أن يحتفظ لتحديداته الصورية بنقائها الأوَّلي الذي لا تشوبه أية شائبة من المادة التجريبية، ومن الطبيعي أنه لم يستطع أن يحقق هذا الهدف على طول الخط؛ إذ يبدو أن من الضروري الالتجاء إلى التجربة على وجهَين، من أجل دفع عجلة العملية الاستنباطية، فمن الممكن في البداية تأكيد الوجود الخالص، واستنباط صفاته بطريقةٍ أولية، غير أن كون أي شيء موجودًا بالفعل في الواقع هو أمر لا يعرف إلا بالرجوع إلى التجربة، فالقضية القائلة إن ثمة شيئًا يوجد، ترتكز على الإدراك الحسي، وهي المقدمة الأساسية لكل استنباط تالٍ؛ لذلك فإن بداهتها تجريبية، غير أن يقينها لا يقل عن يقين البداهة الأولية. على أن القول بأن ثمة شيئًا يوجد، يعني في رأي ماكتجارت، أن ثمة جوهرًا يوجد، وهنا تثار مسألة ما إذا كانت توجد كثرة من الجواهر أو جوهرٌ واحد، أو بعبارةٍ أخرى: ما إذا كان الجوهر متنوعًا أم لا. هذه، في رأي ماكتجارت، مسألة يمكن البتُّ فيها بالاستنباط المحض؛ إذ إن تنوع الجوهر يتلو من اليقين الأولي القائل إن الجوهر لا يمكن أن يكون بسيطًا، غير أنه يؤثر أن يلجأ إلى البرهان التجريبي، ويبين أن إدراكًا حسيًّا واحدًا كفيل بإثبات أن الجوهر متنوع، وإذن فالجوهر موجود، وهو ليس واحدًا بل كثير.
ولكن «ما هو» الجوهر؟ ينبغي، عند تعريفه، أن يضاف الكيف إلى الوجود، فكل ما يوجد ينبغي أيضًا أن يكون له كيف، غير أن الكيف لا يعرف، وكل ما يمكننا أن نفعله هو أن نشير إلى أمثلةٍ خاصة له، كذلك ينبغي إضافة العلاقة، وهي بدورها لا تعرف. فلما كان ثمة كثرة من الجواهر، فلا بد أن تقوم بينها علاقات، وإذن فالعلاقات أساسية الوجود. وقد علق ماكتجارت أهميةً كبيرة على تصور العلاقة، وقام ببحثٍ دقيقٍ عميق للعلاقات الخاصة. فالعلاقات تختلف عن الكيفيات أو الصفات في أن الأخيرة تكمن في الأشياء، بينما الأولى تقوم بينها. وهكذا فإن الجوهر يوصف (ولا نقول يُعرَّف) بأنه ما له كيفيات أو صفات، وما يدخل في علاقات، دون أن يكون هو ذاته كيفًا أو علاقة. وفضلًا عن ذلك فكل جوهرٍ مختلف عن كل جوهرٍ آخر، فلا يمكن انطباق وصفه على أي جوهرٍ آخر، وتنظم الجواهر في فئات يمكن أن تتكون من أية مجموعة من جواهر. مثال ذلك (والأمثلة مستمدة من ماكتجارت نفسه) أن رؤساء جمهورية الولايات المتحدة أو مواطنو إنجلترا، يؤلفون فئة، وليس هذا فحسب، بل إن من الممكن تأليف فئة من أشياء لا متجانسة تمامًا، كالمكتب الذي أجلس إليه، وأَقدم أرنب في أستراليا، وآخر دواء تناوله لويس الرابع عشر، هذه الأشياء يمكن إدراكها في نوع من الوحدة، على الأقل وحدة كونها ثلاثة، أو وحدة جمعي الاعتباطي بينها، وليس لنا أن نتساءل فيما إذا كانت الفئة فئة بحق، وإنما يجب أن نكتفي بالسؤال عما إذا كانت مناسبة أو لها أية قيمة، ولهذه النقطة — إلى جانب كونها استنباطًا شكليًّا — دلالةٌ ميتافيزيقية، بمعنى أن كل شيء في الكون يرتبط على نحوٍ ما بكل شيءٍ آخر، ويؤثر في كل شيءٍ آخر، مهما كان من ضآلة هذا التأثير.
والجوهر الذي يشتمل على كل الجواهر الأخرى بوصفها أجزاء له هو الكون، ولتصور الكون ضرورته، بوصفه الوحدة التي ينبغي أن تردَّ إليها كثرة الجواهر. ولما كان يشمل المضمون الكامل لكل ما يوجد، فلا يمكن أن يكون هناك سوى كونٍ واحد؛ إذ إنه لو وُجِدَ جوهران كليان لكان لهما نفس المضمون تمامًا، ولما أمكن بالتالي تصورهما. وهكذا فإن كل ما يوجد داخل في وحدة نسقٍ محدد تمامًا، وكل جوهر يرتبط بكل جوهرٍ آخر، بفضل علاقتهما المشتركة بالوحدة الشاملة للكون، وعلاقة أجزاء الكون بعضها ببعض، وكذلك علاقتها بالكل، هي علاقة تبادل أو تعاون، فالكون وحدة عضوية.
ومن الممكن بصفةٍ متساوية — من الناحية النظرية الخالصة — أن يُعَدَّ مذهب ماكتجارت مذهب وحدة أو مذهب كثرة، وذلك تبعًا لتركيز اهتمامنا على وحدة الجوهر أو على كثرة أجزائه. ولا شك في أن ماكتجارت، حين نظر إلى هذه الأخيرة على أنها هي الأهم، لم يكن يستطيع أن يُبرِّر اختياره هذا على أسسٍ أولية، فقد تحكمت فيه اعتباراتٌ تجريبية وعملية، كما سنرى فيما بعدُ، ومن الواضح أن الأجزاء المبدئية تُعْزَى إليها، في داخل الكثرة، أهميةٌ ميتافيزيقية تفوق أهمية الأجزاء الثانوية لجميع الأنواع، وتفوق أهمية الكل المبدئي نفسه.
أما أولئك الذين لا يرضيهم التعامل الشكلي مع التصورات بقدر ما يرضيهم التبصر الميتافيزيقي الأصيل، فإنهم يجدون في المجلد الثاني من مؤلفه الرئيسي (وفي كتاب «بعض المعتقدات الدينية» الذي أحرز شهرةً نسبية، والذي يستبق هذا المجلد الثاني) أكثر مما يجدون في الأول.
ففي المجلد الثاني نزل ماكتجارت أخيرًا من الجو الأثيري للفكر الخالص إلى عالم تجربتنا الواقعي، وربط بين نتائجه العامة وبين مشكلات تجريبية معينة، وطبقها نظريًّا وعمليًّا. وهو يعرض الأفكار الميتافيزيقية الهامة التي توصل إليها، والتي تؤلِّف معًا نظرةً كاملة إلى العالم، على أنها النتائج الضرورية للأساس الأوَّلي. وبإدخال المشكلات الجديدة والمادة الجديدة، يكتسب الجهاز التصوري مزيدًا من النمو والتدعيم، بحيث يتعين علينا مرةً أخرى أن نجتاز قفارًا شاسعة قبل أن نستطيع أن نجني ثمار شجرة الحياة. ولما كانت بعض أفكار ماكتجارت الميتافيزيقية قد ظهرت بوادرها في أول كتبه، كما أن كل أفكاره الأساسية قد ظهرت في كتابه عن الدين، على نحوٍ مستقل تمامًا عن الأساس المنطقي الذي كنا نبحث فيه حتى الآن، فربما كان لنا الحق في أن نستدل من ذلك على أن الجهاز التصوري قد صمم تصميمًا لاحقًا، وإذا كان الأمر كذلك، فليس في وسعنا أن نقر ماكتجارت على رأيه القائل إن خطته الأولية هي التي تحكمت في استنتاجاته المنطقية، وإنما ينبغي أن نقول، على العكس من ذلك، إن استنتاجاته هي التي تحكمت في هذه الخطة، وإن هذه الخطة قد رسمت فيما بعدُ لإيجاد أساس لاستنتاجه ولدعمها. وبعبارة أخرى، فإن لمواقفه الميتافيزيقية الرئيسية قيمةً مستقلة عن الخطة المجردة، ولها أساسها في ذاتها.
وليس في وسعنا أن ننتقي من المشكلات المتعددة التي عرض لها في المجلد الثاني إلا عددًا قليلًا لكي نوضح الاتجاه العام لتفكيره على الأقل.
وأشهر هذه المشكلات هي نظرية الزمان، فهو يميز أولًا بين نوعَين من التعاقب الزمني، ينتقل أحدهما من الماضي إلى المستقبل مارًّا بالحاضر، ويتألف الآخر من علاقتَي «قبل» و«بعد». ففي الأول، الذي يسميه بالسلسلة أ، تتغير الحدود دوامًا، وينتقل بعضها إلى البعض. أما في الثاني، الذي يسميه بالسلسلة ب، فإن هذه الحدود تكون ثابتة، وترتكز على علاقاتٍ دائمة؛ إذ إنه عندما يقع حادث قبل حادثٍ آخر وبعد حادثٍ ثالث، فإن الترتيب الزمني يكون نهائيًّا غير قابل للتغيير؛ لذلك فإن السلسلة أ هي السلسلة الحقيقية للزمان، ما دامت تشتمل على صفة التغير التي هي العلامة الأساسية المميزة للزمان. ومع ذلك يبدو، بعد مناقشةٍ طويلةٍ مفرطة في التعقيد، أن السلسلة أ تنطوي على تناقض، وأنها بالتالي لا يمكن أن توجد من وجهة نظر الواقع الحقيقي، وإذن فلا شيء واقعي هو ماضٍ أو حاضر أو مستقبل، أو معرض لأي تغير. إننا حقًّا ندرك الأشياء في الزمان، ولا نملك إلا ذلك، غير أن كل ما يثبته هذا هو أن الإدراك الحسي لا يصل إلى الأشياء في طبيعتها الحقة، فكل ما في الزمان هو بهذا الوصف مجرد مظهر.
ويستخلص ماكتجارت من عتاده التصوري إضافةً أخرى يعبر بها عن هذه الفكرة المميزة للمثالية تعبيرًا إيجابيًّا، فهو يضيف سلسلةً أخرى، هي السلسلة ج، إلى السلسلتَين أ، ب. وتمثل السلسلة ج العلاقات الحقيقية بين الأشياء، وهي تتضمن الحقيقة التي كان يعبر عنها باطلًا في العلاقات الزمنية للسلسلتَين الأخيرتَين، وكذلك في كل وصف للعلاقات المكانية أيضًا، إذ إن المكان بدوره مجرد مظهر، هذه السلسلة تعبر عن العلاقات بين الأشياء على أنها علاقات تضمُّنٍ منطقي، فهي سلسلة تضمنات لها اتجاهٌ محددٌ أعم بشكلٍ واضح من الاتجاه المضاد، من حيث إنها انتقال مما له محتوًى أكثر فراغًا إلى ما له محتوًى أكثر امتلاء، ففي أحد الطرفَين لا يكون ثمة شيء، وفي الطرف الآخر يوجد الكل، وهنا يستعاض عن علاقة «قبل» في السلسلة ب، بعلاقة «متضمن في»، وعن علاقة «بعد» بعلاقة «متضمن ل»، ونظرًا إلى أن الطرف الأخير في السلسلة غير متضمن في أي شيء، فإنه متضمن لكل شيء، ولا يمكن أن يضاف إليه شيء، وواضح أنه هو «الفكرة المطلقة» عند هيجل، وواضح أيضًا أن تزايد التضمن في السلسلة ج يناظر التقدم الديالكتيكي للمقولات عند هيجل.
وهكذا فإن نظرية ماكتجارت في الزمان تؤدي إلى نفس النتيجة التي تؤدي إليها فلسفة برادلي، وإن تكن ترتكز على مقدماتٍ مختلفة تمامًا، هذه النتيجة هي التمييز بين المظهر والواقع، وفي هذه النقطة تكمن الأهمية الخاصة لنظرية ماكتجارت. ومعيار التمييز بين المظهر والواقع هو الإطار الأوَّلي للتطابق المحدد، فكل ما لا يمكن إدخاله في هذا الإطار، ينزل توًّا إلى مرتبة المظهر، بينما يعدُّ واقعًا كل ما يمكن إدخاله فيه، وبهذا المعيار تنحط المادة، وكل المعطيات الحسية، إلى مرتبة المظهر، فلو كانت المادة موجودة، لكانت قابلة للانقسام إلى ما لا نهاية، ولكانت أجزاؤها اللامتناهية في الصغر خاضعة لمبدأ التطابق المحدد. ولكن يبدو أن مثل هذا التقسيم للمادة إلى ما لا نهاية أمر لا يمكن القيام به، وعلى ذلك لا يمكن أن تكون المادة موجودة.
أما بالنسبة إلى العلوم الطبيعية فسيان أن توجد المادة أو لا توجد؛ إذ إن الأمرَين معًا فرضان ميتافيزيقيان لا يمسان العلم ولا الحياة اليومية. وهكذا فإن ماكتجارت، مثل برادلي الذي استعان كثيرًا بحججه في هذا الموضوع، يرفض التسليم بوجود المادة، لا لشيء إلا لأن في هذا استخدامًا غير سليم للميتافيزيقا.
والآن نصل إلى لُبِّ ميتافيزيقا ماكتجارت، أعني المذهب القائل إن الواقع روحي في أساسه، فكل ما يوجد روح ولا شيء غير الروح، بالمعنى الميتافيزيقي الخالص الكامل للجوهر الروحي كما فهمه باركلي مثلًا. وعند هذه النقطة تتلو كل التحديدات الأخرى للطبيعة الميتافيزيقية للعالم من الاستنباطات الأوَّلية للباب الأول من الكتاب، فمساواة الجوهر المبدئي بالواقع في ذاته أو بالمطلق، تعني إيجاد تناظر بين الأجزاء المبدئية وبين تلك الكائنات الروحية التي نسميها أشخاصًا أو ذوات. ولما كانت الذوات هي قبل كل شيء مدركة للأجزاء الثانوية، فإن هذا التناظر يمتد إلى إدراكات هذه الذوات.
وهكذا فإن للذوات منزلةً ميتافيزيقيةً خاصة، صحيح أن من الواجب تصورها على أنها متجمعة في وحدة الجوهر المطلق، وعلى أنها هي التنوع الأولي له، ولكن الرد على ذلك هو أن طبيعة الواقع تتكشف في التنوعات على نحوٍ أعمق مما تتكشف في الوحدة العليا. والمثل الذي يفضل ماكتجارت أن يضربه لإيضاح العلاقة بين الكل وأجزائه هو تشبيهها بعلاقة مجمع وأعضائه، فكلاهما كيانٌ روحي، غير أن الأعضاء وحدهم هم الأشخاص بأي معنًى أصيل لهذه الكلمة، بينما المجمع ليس هو ذاته شخصًا، وإن يكن وحدة روحية لأشخاص. ففي آخر الأمر لا يوجد بالفعل إلا الأشخاص، وهم وحدهم الذين يؤلفون مكونات الكون، مفهومة بالمعنى الميتافيزيقي. وهكذا نجد أن الوجه التعددي يُعَدُّ هنا، كما يعدُّ في الجزء الأول من الكتاب، أهم من الوجه الواحدي، وإذن فالمطلق وحدة من أشخاص، ونسق من الذوات، ترتبط بعضها ببعض كما ترتبط أجزاء الجوهر التي أوضحها في الجزء الأول.
والواقع أن طبيعة الشخصية المتناهية وقيمتها لم تدرك وتدعم، في أي مذهبٍ معاصرٍ آخر، بقدر ما أدركت ودعمت في مذهب ماكتجارت. ومن الممكن أن توصف الفكرة القائلة إنه لا شيء حقيقي بالفعل إلا الأشخاص المتناهون، بأنها هي الاقتناع الفلسفي الأساسي عند ماكتجارت، فمذهبه كله يدور حولها، واستنتاجاته الأخرى تتلو كلها منها، ومن هنا كان ذلك الإحساس الذي يتملَّكنا بأن من وراء كل ذلك الدرع السميك من الاستنباطات الأولية، يوجد ذهن يضطرم في باطنه بالانفعال؛ مما يدل على وجود طبعةٍ عميقة من التفكير غير الشكليات والتجريدات التي تسود كتاباته، ومما يزيد هذا الشعور قوة، تلك الصفات الأخرى التي ينسبها إلى الشخصية، فالذات كيانٌ مستقل، له خصائصه الفريدة، وهي جوهرٌ روحي يوجد لذاته تمامًا، ولها فرديةٌ كاملة، بحيث تختلف كل ذات اختلافًا أساسيًّا عن الأخرى، ومن هنا كان من اليقينيات النهائية المطلقة أن الذات لا يمكن إدماجها في أية ذاتٍ أخرى، أو في جزء من ذاتٍ أخرى، لا سيما في تلك الوحدة العليا التي تسميها الفلسفة بالمطلق، ويسميها الدين بالله. وترجع المكانة الميتافيزيقية العليا للذات إلى أنها في أساسها لا تتعرض للتغير، ولما كانت توجد بهذا الوصف أزلًا، ولا بداية لها ولا نهاية في الزمان، فلا يمكن أن تكون قد خلقت في وقتٍ ما، ولا يمكن أن تفسد أبدًا. فإذا سلمنا بفكرة الذات، كانت فكرة الخالق مستحيلة، وإن كان ثمة إله، فلا يمكن أن يكون قد خلق الذات؛ إذ إن هذه توجد بنفس الأزلية التي يوجد الإله بها. وهكذا فإن الذات خالدة، بمعنى أنها توجد في أزلية لا زمانية، فلا بد إذن أن يكون وجودها قديمًا مثلما هو دائم؛ ذلك لأن هويتها لا تكون في استمرار الوعي أو في الذاكرة، وإنما في ثبات جوهريتها الروحية. والواقع أن الوعي ليس جزءًا من الطبيعة الأساسية للشخصية، ومن الممكن أن يختفي دون أن تتأثر هذه. كما أن فقدان الذاكرة لا يؤثر في الخلود بحال؛ إذ إن حياتنا الحاضرة تبدو لنا حينئذٍ ذات قيمةٍ كاملة، على الرغم من أننا لا نؤكد حياةً سابقة وليست لدينا أدنى فكرة عن حياةٍ مقبلة. كما أن هذا القول لا تدحضه الحجة القائلة إن من الممكن أن نكون قد مررنا في الماضي، وأن نمر في المستقبل، بمراحلَ متعددةٍ تناظر تلك التي تبدأ، في حياتنا الراهنة، بالميلاد وتنتهي بالموت. ففكرة تعدد الحيوات، وتكرر الموت، ليست خلوًا من المعنى، بل هي مرجحة إلى حدٍّ بعيد.
وتؤدي فكرة الخلود عند ماكتجارت إلى اتخاذه موقفًا مميزًا إلى حدٍّ بعيد، يبدو ممتنعًا لأول وهلة، ولكنه يتلو بالضرورة من مقدماته، وأعني به أن الإيمان بالخلود، على الرغم من شيوع ارتباطه في الدين والفلسفة بالإيمان بالله، يمكن أن يوجد ويظل قائمًا دون هذا الأخير، فليس بينهما ارتباطٌ منطقي. وبالمثل لا يوجد ارتباط كهذا بين المثالية ومذهب الألوهية، فلا يمكن أن يكون للشخصية، كما رأينا، مستوًى أعلى من مستوى الذوات المتناهية، التي يمكن أن تتضمن فيها، أما المطلق، فهو قطعًا لا شخصي، مهما كانت طبيعته الإيجابية، ومن المؤكد أن تسمية هذا المبدأ اللاشخصي بالإله هي تسمية غير صحيحة، ولكن إذا لم نوحد بين المطلق وبين الإله، فما هي الأفكار التي تتبقى لدينا لكي نلحقها بهذا الأخير؟ إن من المحال تبرير صفات الخيرية الكاملة والقدرة الشاملة للإله، نظرًا إلى ما في العالم من شر، وإلى أسبابٍ أخرى. والسبيل الوحيد إلى المحافظة على الطابع الأخلاقي للإله هو أن نفترض أن قدرته محدودة، وستكون الفكرة الناجمة عن ذلك، أعني فكرة إله يصبو إلى الخير ويصل إليه ظافرًا، مرضية للذهن إلى حد يفوق بكثير فكرة إلهٍ كامل الخير، وأقوى منها احتمالًا. كذلك لا يمكن أن يكون الإله هو الخالق؛ إذ إن الشخصيات المتناهية — كما لاحظنا من قبلُ — أزلية. وهكذا فإن النظرة الوحيدة التي يمكن تبريرها هي تلك التي لا يكون فيها الإله ذا قدرةٍ شاملة ولا خالقًا، والسبب الوحيد الذي لا ينبغي من أجله أن نؤمن بوجود مثل هذا الإله هو أنه لا يوجد أساسٌ معقول يبرر ذلك. وهذا أنموذج واضح لطريقة ماكتجارت في البرهان، ونتيجته — كما هو واضح — أن فكرة وجود إله، وإن لم تكن بالطبع متناقضة، هي مسلَّمة غير ضرورية على الإطلاق. وهكذا استخلص ماكتجارت النتيجة الإلحادية لمذهبه، بكل ما تميز به فكره من صلابة وجرأة، وما عُرِفَ عنه من إحجام عن أية تضحية بالمعقولية وأي تراجع أمام الآراء السائدة. غير أن إلحاده بطبيعة الحال مختلف تمامًا عن المذاهب التي تتباهى عادةً بهذا الاسم، فمن المستحيل مثلًا أن يسمى إلحاده لا دينيًّا، وإنما هو يتمشى مع بعض صور الدين، كالبوذية وبعض المذاهب الشرقية الأخرى. ومما يثبت ذلك أن مقدماته الأولى — وهي النظرة المثالية إلى الطبيعة الروحية للعالم، والإيمان بخلود النفس البشرية — كانت ترتبط دائمًا بفهم للعالم في ظل الألوهية.
(٦) القسم السادس: أصحاب مذهب المثالية الشخصية
ساهم برنجل باتيسون — وهو اسكتلندي كان نشاطه الفلسفي معاصرًا لبوزانكيت — بدورٍ ملحوظ في استيعاب التراث المثالي المستمد من ألمانيا، وفي نشره وتدعيمه، وكان من أقدر مفكري الجيل الثاني من المثاليين الإنجليز، على أنه لم يكن يتميز بأصالةٍ ملحوظة، فقد كان يفتقر إلى المقدرة العقلية العميقة التي كان يتميز بها برادلي، وإلى مزاج ماكتجارت الجريء الصريح، وإلى إلمام وورد بالعلوم الطبيعية، فكان مدينًا إلى هؤلاء جميعًا، غير أنه لم يرتبط بواحد منهم ارتباطًا كاملًا، وإنما سلك طريقًا خاصًّا به، مر بهؤلاء جميعًا عن طريق نقده لمذاهبهم وتوفيقه بينها. وكانت النتيجة ما يمكن تسميته بمذهبٍ مثاليٍّ عادي، جمع بين الاتجاهات المختلفة، وتجنب من آرائهم ما ينطوي على المزيد من الجرأة ويثير المزيد من الجدل. وبفضل هذا التكيف مع عناصر المدرسة ذاتها، والمواجهة النقدية لخصومها، والأبحاث الواسعة في تاريخ الفلسفة، وتوصل برنجل-باتيسون إلى العالم، وكان ذلك راجعًا إلى دافعٍ خارجي، هو تعيينه لإلقاء محاضرات جيفورد، ودافعٍ باطنٍ حفزه إليه ذهنه النقدي، أكثر مما كان راجعًا إلى رغبةٍ عميقة في التأمل وبناء مذهب خاص به. فنظرته إلى العالم تبعث على الاحترام، غير أن تجنبها للواحدية والتعددية، ولمذهب المطلق والمذهب الشخصي، وكل المذاهب الثابتة والأخرى، كل ذلك جعل منها محاولةً تلفيقية، لا خلقًا أصيلًا.
وهناك اثنان من كتبه الأولى، التي ترجع إلى العَقْد التاسع من القرن الماضي، لهما أهمية تزيد على كونها أهميةً عابرة فحسب. فكتاب «مقالات في النقد الفلسفي»، الذي نشره بالاشتراك مع صديقه هولدين، هو بيان أو إعلانٌ مشترك لعدد من الشبان، الذين كانوا في ذلك الوقت يفتقرون إلى الشهرة، والذين انضموا إلى الحركة الجديدة، وكانوا يمثلون أول تعبئة لقوى المثالية. وقد ساهم برنجل باتيسون بالبحث الافتتاحي، فعرض الخطوط العامة لفلسفة هي في أساسها فلسفة هيجل، ولكنها ليست مقيدة تمامًا به، وإنما تتحرك بحرية في جميع الاتجاهات الفكرية التي امتدت من كانت إلى هيجل. وكان قد بيَّن في كتابه الأول، الذي ظهر قبل ذلك بعامٍٍ واحد، أن تطور هذه الفلسفة من الكانتية إلى الهيجلية قد سار وفقًا لضرورةٍ منطقيةٍ كامنة.
ولما كان برنجل باتيسون قد ظهر، عندئذٍ، بمظهر حامل راية المذهب الهيجلي، فقد أثار دهشةً غير قليلة عندما نشر بعد سنواتٍ قلائل كتابًا تعرضت فيه الهيجلية لنقدٍ شديد، وأعلن فيه أنها غير مرضية في نواح مُعيَّنة، على أن هذا الكتاب — وهو «المذهب الهيجلي والشخصية» — لم يكن موجهًا ضد الحركة الهيجلية بقدر ما كان موجهًا ضد تطوراتٍ نظرية مُعيَّنة لها، تمت على يد جناحها المناصر لفكرة المطلق. ومع ذلك فقد كان الكتاب يمثل نوعًا من الثورة داخل قيادة المعسكر، وأدى إلى قيام حركةٍ معارضة انضم إليها — على مر الأيام — كل من رفضوا تأييد المذهب المطلق عند برادلي وبوزانكيت، وكان هدف هذه المعارضة هو تنقية المثالية من عناصر هيجلية مُعيَّنة، بالتطلع قدمًا إلى لوتسه، ورجوعًا إلى كانت، وفي الوقت ذاته كانت تعني إعادة إحياء مذهب الألوهية بوصفه جزءًا لا يتجزأ من المثالية. وبذلك كانت تعني العودة إلى المدرسة الهيجلية القديمة وتحالفها مع الدين. ولا شك في أن ميول برنجل باتيسون الدينية القوية كانت في هذه الحالة عاملًا حاسمًا، ولم يكن من المستغرب أن يجد كتابه صدًى عميقًا في حلقة مارتينو.
وكان مركز هذا النقد لهيجل هو مشكلة الذات أو الشخصية، فقد ذهب إلى أن من الواجب فهم فكرة الذات عند كانت بمدلولها الإبستمولوجي (المعرفي) الأصلي، فالوحدة الترنسندنتالية للوعي الذاتي ليست إلا الوحدة المنطقية للتفكير، والعامل الصوري المحض في المعرفة. ولقد كان فشته هو الذي بدأ عملية تحويل الإبستمولوجيا عند كانت إلى ميتافيزيقا للمطلق، وواصل هيجل هذه العملية، كما واصلها الكانتيون الإنجليز والهيجليون؛ إذ إن هذه الإبستمولوجيا ليست أوضح ظهورًا عند فشته منها في تحويل جرين للوحدة التركيبية للوعي الذاتي إلى مبدأٍ روحيٍّ كلي أو وعيٍ إلهي، كما أن المنطق والميتافيزيقا ليسا منفصلَين بوضوح عند هيجل، فالتصور يجمد في ماهيةٍ واقعية، والمقولات تحدد هويتها بصور لأشياءَ موجودة، والعالم يشيد منطقيًّا من الفكر المحض. غير أن هذه المحاولة الطموحة لا تفلح أبدًا في الوصول إلى المعطيات الحقيقية للتجربة، أو إلى العيني والفردي، ولا تتجاوز أبدًا عالم التصورات الشكلية المجردة، على أن الواقع لا يمكن أن ينتج بالفكر، وإنما هو يُعْطَى له، والفكر لا يمكنه أن يصف إلا ما يمكن الاهتداء إليه نظرًا إلى كونه موجودًا بالفعل، وهذا الأخير يكون على الدوام فرديًّا وفعليًّا، وبالتالي يكون لا منطقيًّا ولا عقليًّا. وهكذا فإن إصرار هيجل على تجاهل ما هو فعلي قد جعل عالمه ينكمش في حدود العملية المنطقية التي لم يعد فيها الفرد العيني سوى مركز تجمع المقولات الصورية.
ولسنا بحاجة إلى أن نبحث في مدى صحة فقد برنجل باتيسون لفلسفة هيجل، ولا سيما اتهامه إياها بأنها مجرد إطارٍ شكلي، ولقد رأينا من قبلُ أن ماكتجارت، الذي كانت له معرفةٌ أوثق بنصوص هيجل، قد اتخذ بعد عشر سنوات موقفًا مضادًّا تمامًا، وإن يكن من الطريف أن نلاحظ أنه قد وصل على الرغم من ذلك، مع برنجل باتيسون، إلى نفس النتيجة في تفكيرهما في مشكلة الشخصية. غير أن نقد برنجل – باتيسون له أهميةٌ تاريخية، هي أن ما يبرره لم يكن التطور السابق للهيجلية الإنجليزية بقدر ما كان تطورها اللاحق، أي ذلك العزوف التام الذي أسفر عنه مذهب برادلي وبوزانكيت المطلق فيما يتعلق بالشخصية، فقد وضع إصبعه على جرح لم يبدأ في الظهور إلا فيما بعدُ، ورأى مقدمًا خطرًا مقبلًا، فشيد للدفاع عنه حصنًا احتمى به كل أولئك الذين لم يقبلوا أن ينتقص أحد من حق الشخصية المتناهية وقيمتها أو ينكره. وهكذا قسم المعسكر الهيجلي إلى جماعتَين متعارضتَين، هما جماعة المطلق وجماعة الشخصية، وهو تقسيم ظل قائمًا طوال التاريخ، وبذلك كانت الخدمة الخاصة التي أداها برنجل باتيسون في تطور المثالية الإنجليزية هي أنه كان أول مفكر في هذه المدرسة أكد عن وعي وبإصرار قيمة الشخصية التي لا يمكن أن تسلب، وبذلك بدأ اتجاهًا فكريًّا كانت له ثمار من أنواعٍ شتى فيما بعدُ.
ولا تكتمل أطراف مذهب برنجل باتيسون بحيث تتكون منه نظرةٌ كاملة إلى العالم، إلا عندما نصل إلى المجموعتَين اللتين ألقاهما من محاضرات جيفورد، وهما «فكرة الله» و«فكرة الخلود»، وهما المجموعتان اللتان كانت أولاهما هي الأهم من جميع النواحي، وهنا — كما في المواضع السابقة — يتركز اهتمامه في المسائل الميتافيزيقية. فمهمة الفلسفة في نظر غيره من بناة المذاهب من الهيجليين، هي التفكير في الواقع في كليته، وتتبع مركبه المعقول بوصفه نسقًا مقفلًا مترابطًا، وتفسير كل أجزائه ومراحله في ضوء مبدأٍ واحدٍ أساسي، بناءً على افتراض لا يمكن إثباته، ولكن لا مفر من تأكيده، هو أن الواقع معقول تمامًا، وأن الأشياء تلتزم نظامًا، وأن هذا النظام قابل لأن يُعْرَف من حيث المبدأ. ففكرة الارتباط العضوي للأجزاء بعضها ببعض وبالكل، هي الفكرة الأساسية في مذهب برنجل-باتيسون، وهي مظهر تأثره بهيجل. وفي ضوء هذه الفكرة يناقش العلاقة بين الطبيعة والإنسان، والفرد والمجتمع، والعالم والله، والمتناهي والوجود الإلهي وما شابهها من الأفكار.
فالطبيعة أداة بالنسبة إلى الإنسان، والإنسان أداة بالنسبة إلى الله، ولا وجود للطبيعة بوصفها حقيقةً مستقلةً تامة في ذاتها، كتلك التي يقول بها العلم الميكانيكي، بل إن كل حادثٍ طبيعي هو، على العكس من ذلك، يوجه إلى الإنسان بوصفه كائنًا عاقلًا. إن الإنسان حقًّا ابن الطبيعة وفلذة كبدها، وإليها ترجع جذوره، ومنها ينمو عوده، غير أنه أداة ذلك الشيء الذي نماه، وهو الوسيلة التي وصلت بها الطبيعة — لأول مرة — إلى وعيها بذاتها وتمتعها بوجودها، فكلٌّ منهما أداة للآخر.
فإذا ما تبيَّن لنا ذلك، أمكن خوض مشكلة المعرفة وحلها. فالإنسان بوصفه كائنًا عارفًا، هو مع ذلك فرد في الكون أو عضو فيه؛ لذلك كان علينا أن نزيل الهوَّة التي أقامها الفلاسفة بين العارف والمعروف، بين الذات والموضوع، وأن ننظر إليهما معًا في وحدتهما بوصفهما أعضاء في نسقٍ واحد. فالإنسان، من حيث هو ذاتٌ عارفة، داخل في العالم الذي يعرفه، وهو يقف جنبًا إلى جنب مع موضوعاته، ويستتبع ذلك ألا يكون قوام حقيقة الشيء هو فعل المعرفة، بل إن ذلك الفعل يفترضها مقدمًا، وهي بهذا المعنى مستقلة عنه؛ أعني أنها مستقلة بالمعنى الميتافيزيقي، أي معنى أنها موجودة بذاتها، خارج كل علاقة لها بالذهن، كما يزعم الكثيرون بالنسبة إلى المادة، وكما يقال على تلك الخرافة الأخرى التي لا يمكن تبريرها، أعني الشيء في ذاته. وإذن فمشكلة المعرفة لا يمكن أن تُحَلَّ بمذهبٍ مثالي من نوع مذهب باركلي، ولا بمذهبٍ مادي من النوع المرتبط بالعلم الطبيعي؛ إذ إن الأول يمحو الموضوع في الذات، والثاني يمحو الذات في الموضوع. كما أنها لا تُحَل بثنائية الظاهرة والشيء في ذاته عند كانت، ما دامت هذه تؤدي إلى اللاأدرية. والحل الوحيد الذي يمكن إيجاده هو القول بمذهبٍ واقعي يعطي كلًّا من العاملين المتضايفَين حقَّه. وما دام مثل هذا المذهب الواقعي يتفق في جميع النقاط الأساسية مع الرأي الساذج، فإن برنجل-باتيسون يطلق على مذهبه اسم الواقعية الطبيعية. وهذا الموقف لا يتعارض أبدًا — بطبيعة الحال — مع القضية المثالية الأساسية القائلة إن طبيعة العالم روحية، ويمكن أن يندمج عضويًّا في مذهب المثالية الميتافيزيقية.
وبهذا المعنى يكون مذهب برنجل — باتيسون متركزًا حول الإنسان، فهو يرتكز، لا على الأصل أو نقطة البداية، وإنما على الغاية أو الهدف. وهذا الطابع الغائي يزداد وضوحًا في مذهبه في الإنسان أولًا، ثم في مذهبه في الله، الذي بلغ فيه هذا الاتجاه قمته. فهو يعمل على توسيع وتعميق تصوره للإنسان كما عرضه في كتابه «الهيجلية والشخصية»، دون أن يغير أيًّا من نقاطه الأساسية. وهنا تظهر مرةً أخرى معارضته للمذهب المطلق، ولكنها تظهر هذه المرة عن طريق نقده، لا لهيجل ذاته أو للهيجليين الإنجليز الأوائل، وإنما للهيجليين المتأخرين، ولا سيما برادلي وبوزانكيت. أما وجهة نظر برنجل باتيسون فهي، على خلاف هؤلاء، أقرب إلى آراء ماكتجارت وسورلي وراشدال. ويمكن تلخيصها على النحو الآتي: فكل ذاتٍ متناهية هي فرد لا نظير له، ويقع مركزها في داخلها، وتكون عالمًا لنفسها، وهي مركز للكون غير قابل للتكرار. وليست الذات، كما قال برادلي، مجرد معبر يوصل إلى حقيقةٍ مطلقة تلتهمها وتبدلها، بل إن لها، على العكس من ذلك وجودًا وقيمةً خاصة بها، وطبيعتها هي ما تكون عليه في الزمان والمكان الراهنَين، لا ما يمكن أن تكون عليه في المستقبل. ومن المحال إغراق الذات في كلٍّ أعلى، أو تحقيقها لذاتها بالفناء في غيرها، فهي ليست نعتًا للمطلق، على حد تعبير برادلي، وإنما لها كيان الاسم القائم بذاته (وإن لم يكن هذا الكيان جوهريًّا)، وهي مركز يكتسب فيه مضمون متعدد الأوجه وحدةً باطنة هي وحدة ذاتٍ فريدة. أما من وجهة النظر الأخلاقية فإن الذات تعدُّ إرادةً متكوِّنة، مستقرةً، محددة، ومصدرًا لأفعالها الخاصة، التي تضطلع تبعًا لذلك بالمسئولية الكاملة عنها. وليست الذات نقطة التقاء أو مفرق طرق بالنسبة إلى قوةٍ غريبة عنها، بل إنها هي التي تتحكم في مصيرها، وهي حرةٌ خلاقة وتنتمي الحرية إلى قلب طبيعتها؛ إذ إنها هي الشرط الأساسي لأية حياةٍ أخلاقية. فكوننا أحرارًا هو حقيقة لا تُفَنَّد، ولا تتأثر بجميع الصعوبات التي تعترض طريقنا عندما نحاول إيضاح الطريقة التي نكتفي بقبولها. فالفردية، ومعها الحرية التي تكوِّن مركزها، هي المبدأ الأساسي للعالم الحقيقي.
وتحتل فكرة الشخصية الإنسانية هذه — باستقلالها وحريتها وعدم قابليتها للفناء — موقعًا مركزيًّا في مذهب برنجل-باتيسون؛ إذ إن كل شيء آخر يرتبط بها ويتحدد بوساطتها، بل إن فكرة الله ذاتها، مهما كان بحثها أساسيًّا بالنسبة إلى كل ميتافيزيقا، مستمد من هذه الفكرة ضوءًا وتكتسب مكانتها بفضلها. فالله، كالطبيعة، ليس نقطة بداية بالنسبة إلى الإنسان، وإنما هو يُعرَّف بأنه نقطة النهاية بالنسبة إليه، وذلك على خلاف معظم مذاهب الألوهية. وهكذا فإن المبالغة في تأكيد الشخصية المتناهية، الذي أدى عند ماكتجارت إلى الإلحاد، قد أدى عند برنجل – باتيسون، الذي كان شعوره الديني أقوى بكثير، إلى تكييف فكرة الله مع فكرة الإنسان. أما عن العلاقة بين العالم والله، فإنه يرى أن كلًّا منهما وسيلة للآخر، فليس الله خالقًا عاليًا أوجد العالم ثم تركه لمصيره، أي تركه ليسير في طريقه آليًّا، وإنما هو كائن في العالم، وهو خالق بمعنى أنه يتكشف أزلًا فيه، ويضفي أزلًا على تناهي العالم وعرضيته فيضًا من طبيعته اللامتناهية التي لا ينضب معينها. فالمتناهي والإلهي لا يوجدان إلا وبينهما مبادلة، وتغلغلٌ عضويٌّ متبادل.
وبالمثل، فليس الإنسان والله حقيقتَين مستقلتَين، وإنما يستمد كلٌّ منهما معناه من الآخر. فالله يحتاج إلى الإنسان بقدر ما يحتاج إليه الإنسان، ولا يكون لله معنًى إذا ما استبعدت عنه كل علاقة بحياتنا الشخصية، وبالمثل لا يكون للإنسان معنًى إذا ما عزل عن أساسه الخالق. ولا يمكن أن يكون معنى الكون وقيمته منحصرًا في تنازل الأفراد المتناهين عن ذواتهم لكي يستوعبها اللامتناهي، الذي لن يستمد من ذلك أي تعميق أو إثراء لطبيعته، بل إن وجود مراكزَ فردية للتفكير والفعل هو ذاته إثراء وإعلاء للكل في هذا العالم الحالي، وكلما ازداد لهيب الحياة الفردية لمعانًا ونقاءً، كان ذلك الإثراء أعظم وأعمق، ولو دُمِّرَت حياة فرديةٌ واحدة لكان في ذلك إقلال من قيمة الكون، فالقيم العليا لا تتحقق إلا في حياة الأشخاص ومجموعات الأشخاص، أي في اتصال الأفراد المتناهين بعضهم ببعض وبالله. ولهذا السبب كان من المستحيل على المطلق أن يصبح بنفسه ذاتًا حقيقية. ولا يتحقق المطلق أو الله بمعناه الكامل، ولا يغدو إلهًا حقًّا إلا عندما تترك للأفراد سلامتهم الكاملة إلى جانبه، وعندما يدخلون في اتصال معه، وبذلك يعلون من قيمته.
ولقد كان الشقيقان يجمعان، إلى أواصر القربى ووحدة المهنة، تشابهًا في المذهب، فقد كانا متفقَين في جميع النقاط الأساسية، ولكن بينما كان الاهتمام الأساسي لأندرو منصبًّا على الميتافيزيقا، فقد اتجه اهتمام جيمس إلى الأخلاق. وهكذا طبق أفكار شقيقه على نطاقٍ واسع في هذا الميدان، وصاغها في كثير من الأحيان صياغة أدق وأضبط، ففي بحثه — الذي أحرز في وقته مكانةً عالية — عن «الحرية بوصفها مصادرةً أخلاقية»، دافع عن استقلال الشخصية الأخلاقية وسلامتها ضد الاتجاه الهدام لدى الهيجليين، وبذلك ألَّف ما يمكن أن يُعَدَّ ملحقًا أخلاقيًّا لكتاب أخيه «الهيجلية والشخصية». وإذا كان هناك جانبان يهددان بالخطر استقلال الشخصية، الذي هو أساس كل حياةٍ أخلاقية ومقدمتها الأولى، أعني المذهب الطبيعي، الذي يذيبها في الطبيعة، ومذهب المطلق، الذي يذيبها في الله، فإنه كان يعدُّ الجانب الثاني أخطر. غير أن كلا هذين قد تخلى عن الحرية، التي ترتبط بفكرة الشخصية ارتباطًا يبلغ من العمق حدًّا يجعل الوجود المتميز للإنسان متوقفًا تمامًا عليها.
ومهمة الأخلاق هي تحديد مركز الإنسان الخاص بالنسبة إلى الأحداث الطبيعية من جهة وإلى القوة الإلهية من جهةٍ أخرى؛ لذلك لا يمكن أن تكون الأخلاق علمًا وضعيًّا فحسب، أو بحثًا تجريبيًّا في الظواهر الأخلاقية وأصولها، مثلما يقول أنصار المذهب الطبيعي والمذهب التطوري (الذي يُعدُّ «لسلي ستيفن» ممثلًا نموذجيًّا لهما)، وإنما ينبغي أن تمتد من ناحيةٍ أخرى إلى الميتافيزيقا واللاهوت. وفي هذه الميادين الأخرى كان مذهب جيمس مماثلًا، على وجه العموم، لمذهب أخيه، فالفلسفة هي المركب الأعلى للحقائق الميتافيزيقية الثلاث: الطبيعة والإنسان والله. ولكن عليها أن تكشف، في عملية التركيب، عن الفروق القائمة بينها، فضلًا عن علاقاتها الإيجابية. وعليها أن تحذر بوجهٍ خاص طغيان إحدى هذه الحقائق على الأخرى؛ فعليها أن تعطي كلًّا منها ما تستحقه بالفعل من قيمة ومكانة. والمشكلة الميتافيزيقية الحاسمة هي علاقة الإنسان — بوصفه شخصًا أخلاقيًّا حرًّا — بالله، غير أن حل هذه المشكلة، دون تهرب من أية صعوبة من الصعوبات المتضمنة فيها، هو أمر يتجاوز نطاق قدرة الفكر، فيبدو أن كلًّا من العاملَين لا يتمشى مع الآخر، ومع ذلك لا يمكن التخلي عن أحدهما لصالح الآخر، كما تفعل الصوفية، مثلًا، لصالح الدين، أو كما تفعل المثالية المطلقة لصالح الفلسفة. فالإنسان لا يصل إلى فكرة كائنٍ أعلى إلا عن طريق اقتناعه بسموه على الطبيعة وبحريته واستقلاله الأخلاقيَّين؛ لذلك كان النظر باحترام إلى الطبيعة البشرية هو الضمان الصحيح الوحيد للنظر إلى الطبيعة الإلهية باحترام، أي إن إفناء الشخصية الإلهية ليس إلا إفناءً لعظمة الله بدورها. ولهذه الأسباب لا يمكن النظر إلى الإنسان على أنه مجرد أداةٍ سلبية في يد الله، فالصفة الأساسية المميزة لحياة الإنسان، من حيث هي تحكمٌ حر في مصيره، هي الفاعلية الإيجابية. وأرفع رأي يمكن أن يتخذه الإنسان عن علاقته بالله هو القول بالتعاون الإيجابي، الذي يتخذ فيه الإنسان لنفسه الغايات الإلهية، ويغدو هو ذاته مساهمًا في تقدم العملية الكونية. ويرتبط بهذه الفكرة الجذابة، الرأي القائل إن الشر قوةٌ إيجابيةٌ حقيقية، ينبغي أن نعترف بكل ما لها من خطورةٍ أليمة، وهنا أيضًا يُظهر سث، كما أظهر في مسألة الشخصية، معارضته للهيجليين، الذين كان في تفاؤلهم السطحي تهرب من مشكلة الشر أكثر مما كان فيه حل لها.
وبعد تحديد سث للمثل الأخلاقي الأعلى على هذا النحو، ينتقل إلى تطبيقٍ مفصَّل له على الحياة الفردية والاجتماعية، وهكذا ينتهي بميتافيزيقا للأخلاق يتحدث فيها عن الحرية والله والخلود. وهو في هذه الموضوعات لا يتجاوز — كما ذكرنا من قبلُ — البرنامج الذي وضعه في كتابه الأول، ولا يفترق في أية نقطةٍ أساسية عن آراء أخيه.
انضم سورلي إلى الحركة الجديدة في وقتٍ مبكر؛ إذ نجد في كتاب «مقالات في النقد الفلسفي» مناقشة أجراها للمنهج التاريخي. وقد كان الموضوع الرئيسي لكتاباته التالية هو المسائل الأخلاقية، التي نقدها ونظمها من وجهة النظر المثالية، وقد بحث مشكلات فلسفة القيمة على نحوٍ أدقَّ وأعمق، مما بحثها معظم أفراد المدرسة، وأحرز في مذهبه نتائج أعظم. وكان بحثه مرتبطًا بدراساته الأخلاقية ارتباطًا وثيقًا، وكان تعلقه بكانت وهيجل، على وجه العموم، أقل مما كان شائعًا بين زملائه من المثاليين. غير أنه استبق تمييز كانت للوجود إلى عالمين: عالم الطبيعة وعالم الغايات، وكان يماثل هيجل في سعيه إلى بناء مذهب وتعلقه الدائم بالكل، وبهذا كان يواجه كل أنواع الثنائية بمحاولة تجاوزها في وحدةٍ أعلى.
وقد تضمن كتاباه الأولان: «أخلاق المذهب الطبيعي» «والاتجاهات الأخيرة في علم الأخلاق» نقدًا عميقًا لمختلف صور الأخلاق الطبيعية، فبيَّن أولًا أن أصل الأفكار والأحكام الأخلاقية لا يمكن أن يُقرِّر شيئًا بشأن مشكلة قيمتها؛ إذ لا يوجد طريق يؤدي من الواقع إلى القيمة، ومما هو كائن إلى ما ينبغي أن يكون، وهي فكرة استمدَّها من لوتسه، كما بيَّن ثانيًا أن المراحل الدنيا، في العملية التطورية، ينبغي أن تُفهَم في ضوء المراحل العليا وليس العكس. وقد عرض فيما بعدُ مذهبه كاملًا في كتابه الرئيسي «القيم الأخلاقية وفكرة الله»، ولخَّصه في مقال «القيمة والواقع».
فالوجود في كليته، الذي تكون مهمة الفلسفة هي الوصول إليه، يشمل عالمَين مختلفَين كل الاختلاف، عالم ما هو واقعي فحسب أو موجود، وعالم ما له قيمة. فالتقويمات شأنها شأن الإدراكات الحسية، من بين المعطيات الأصلية للتجربة، وصحيح أن فعل التقويم، وكذلك فعل الإدراك، هما فعلان ذاتيان، غير أن الموضوعات التي يتجه إليها هذان الفعلان ليست ذاتية، فبأي معنًى إذن تكون القيم موضوعية؟ يرد سورلي على هذا السؤال قائلًا إنها تكون موضوعية بقدر ما تكون علامةً مميزة للشخصية، فالأشخاص ينتمون إلى النظام الموضوعي للأشياء، وهم في نفس الوقت حملة القيم التي تظهر في حياتهم وشخصياتهم. وهكذا فإنهم ينتمون إلى كلا العالمَين اللذين أشرنا إليهما.
وعندما أخذ سورلي يضع تفاصيل نظريته الخاصة في القيم، ازداد اهتمامًا بالقيم الأخلاقية، وجعل لها آخر الأمر مكان الصدارة بالنسبة إلى كل القيم الأخرى، بوصفها أنقاها وأشملها، ومن حيث إنها ترتبط بالقيم الأخرى جميعًا. وهو يميز بين القيم من حيث هي أداة، والقيم من حيث هي كامنة، فالأولى تنتمي حتى إلى الأشياء المادية، بقدر ما تدخل في علاقات مع الأشخاص، أما الثانية — وهي القيم بمعناها الصحيح — فلا تنتمي إلا إلى الأشخاص بوصفهم حَمَلتها، ولا تدخل هذه القيم الأخيرة في تركيب الكون عن طريق ارتباطها بالأشخاص.
ولقد شيد سورلي على نظرية القيم هذه مذهبه الخاص في الميتافيزيقا، الذي كانت مهمته الرئيسية، الرامية إلى تحقيق غايته الرابطة الجامعة، هي تجاوز ثنائية نوعَي الوجود، أعني الوجود الفعلي أو الطبيعي، والوجود ذا القيمة أو الأخلاقي. فعلى الميتافيزيقا أن تهتدي إلى المصدر الموحد الذي نشأ عنه هذان العالمان، والذي قد يعودان إليه ثانية. ولما كان العالمان يلتقيان في الإنسان، فلا بد من تصور هذه الوحدة العليا، وهي المطلق أو الله، من خلال مقولة الشخصية. فإذا شئنا أن نحقق النظرة المتكاملة التي تعطي كلًّا من القيم والوقائع الطبيعية حقها الكامل، فإنا لا نستطيع الاستغناء عن فكرة الله؛ فالله ضروري ليس فقط من حيث إنه خالق الكون الموجود، بل أيضًا من حيث إنه ماهية كل قيمة ومصدرها.
وحسبنا هنا أن نشير من بعيد إلى النتائج الميتافيزيقية لهذا الرأي، فقد وضع سورلي مصادرتَين ميتافيزيقيتَين، هي الحرية الفردية للإنسان، والغرضية الكونية للطبيعة. أما الأولى فتثير مشكلةً خطيرة هي علاقة الإنسان بالله في علمه الشامل وقدرته الكاملة. فوجود الشر وتلك الأحداث التي لا يجوز أن تُنْسَبَ إلى الإرادة الإلهية، وقدرة الإنسان على أن يسلك على نحوٍ مضاد للقانون الأخلاقي، هذه الحقائق وغيرها لا يمكن تفسيرها إلا على أساس افتراض أن الله يضع لقدرته الشاملة حدودًا، وأن تحديد الله لذاته هو جزءٌ أساسي من طبيعته. ويفضل سورلي هذا الموقف على محاولة الهيجلية الجديدة رد الأشياء والأشخاص إلى مجرد أحوال يظهر عليها المطلق، الذي يفقدون فيه — من وجهة النظر النهائية — كل ما يجعلهم يَبْدُون على ما هم عليه.
ومن الممكن أن تسمى مثالية سورلي مثاليةً أخلاقية، ما دامت ترتكز على مذهب للقيم تحتل القيم الأخلاقية مكان الصدارة فيه، ولما كان يعزو إلى الأشخاص — بوصفهم حملة القيم ووسطائها — مكانةً ميتافيزيقية تعلو على مكانة العالم الطبيعي، عالم الوقائع المادية الخالصة، فإن موقفه أقرب إلى مثالية باركلي منه إلى مثالية أفلاطون، فهي مثالية أشخاص فرديين يندرجون تحت روحٍ إلهية تتصور بدورها على أنها شخص، فهي مثاليةٌ ألوهية، أقرب إلى تفكير «راشدال» منها إلى أي مذهبٍ معاصر. وبالمثل يرجع مذهب راشدال إلى باركلي، وإن يكن ارتباطه، داخل هذا المذهب، بالجانب الروحي على وجه التخصيص من ميتافيزيقا باركلي، أقوى بكثير من ارتباط سورلي به؛ فمثاليته موجَّهة ضد المثالية المطلقة عند المفكرين الأقوى تمسكًا بهيجل، وهي تتأثر بكانت أكثر ما تتأثر بهيجل. ولما كان اهتمام سورلي قد اتجه أساسًا إلى الأخلاق والميتافيزيقا، فإنه لم يعرض مذهبًا خاصًّا به في نظرية المعرفة.
ولقد وضع راشدال، مقابل المثالية المطلقة، مثاليةً شخصية، فقد انبثقت فلسفته عن اقتناع بالطابع الفردي والفريد للشخص، سواء أكان ذلك الشخص إنسانيًّا أم إلهيًّا، وظلت مرتبطة بهذا الاقتناع ارتباطًا وثيقًا. ولقد أدت الحماسة التي دافع بها عن هذا الاعتقاد، والتي كادت تبلغ حد التعصب، إلى جعله يغمض عينَيه عن حقوق أو مزايا أية نظرية تقول بكيان فوق الفردي، أو كلي، قد يهدد قداسة الذاتية الشخصية وطابعها المطلق، وجعلته يستهل نشاطه الفلسفي في صحبة جماعة من الكتاب كانت تشمل بعض البرجماتيين، الذين لم يكن يجمع بينه وبينهم شيء إلا معارضته للمذهب المطلق. ويعبر المقال الذي ساهم به في مجموعة الأبحاث التي نشرها «هنري سترت» بعنوان «المثالية الشخصية»، عن الخطوط الرئيسية لتفكيره، الذي طبقه فيما بعدُ ووسعه في الميدانَين اللاهوتي والأخلاقي، وإن لم يكن قد تجاوزه في أية نقطةٍ أساسية.
فهو قد أعلن — متفقًا في ذلك مع باركلي اتفاقًا وثيقًا — أنه لا يمكن وجود مادة بلا ذهن، ولا أشياءَ جسمية موجودة في ذاتها، والذهن يوجد على صورة أشخاصٍ عارفةٍ مريدة، وكل ما ليس بذهن — بهذا المعنى — لا وجود له إلا في علاقته بذهن، فعالم الحقائق الأصيلة يتألف من أذهانٍ متناهية، ومن الذهن اللامتناهي الذي هو الله؛ إذ إن هذا الأخير ضروري لإعطاء أساسٍ موضوعيٍّ كامل للأشياء الخارجية التي تبدو أولًا (في ترتيب المعرفة) في وعي الأذهان المتناهية، والذهن فردي على نحوٍ مطلق، وهو يتحقق دائمًا في وعيٍّ مستقل، دون أن يكون من الممكن نفاذ أي وعيٍ آخر فيه، أي إن الأشخاص يستبعد كل منهم الآخر. وقد طبق راشدال هذه الفكرة التي هي الأساسية في تفكيره، على علاقة الأشخاص المتناهين بالشخصية الإلهية، وانتهى من ذلك إلى استحالة استيعاب الشخصية الإلهية للأشخاص المتناهين. وهنا أعرب عن معارضته لأية صورة من المعاناة الصوفية لله أو الإدراك الحدسي له، على أنها تنطوي على قضاء على حدود الشخصية أو إذابة لها. والأمر الذي كان يود أن يصل إليه، هو إقامة الدين على برهانٍ عقليٍّ محض، ولم يتردد آخر الأمر في قبول النتائج المنطقية لمبدئه القائل باستقلال الشخصية واستحالة نفاذ غيرها فيها؛ وأعني بهذه النتائج، الفكرة القائلة إن الله متناهٍ، فقدرة الله تُحَدُّ بوجود الأشخاص الإنسانيين، والحقيقة المطلقة ليست هي الله، وإنما هي مجالٌ مشترك للأرواح الشخصية التي يكون الله واحدًا منها، وإن يكن هو الروح الرئيسية. وهذا الرأي مشابه لرأي ماكتجارت.
وهكذا فإن فلسفته، التي تشبه فلسفة سورلي أكثر مما تشبه أية فلسفةٍ أخرى، يمكن أن توصف في عمومها إيجابيًّا بأنها إحياءٌ متأخر لمذهب باركلي، مع اهتمامٍ خاص بذلك الرأي في الشخصية، الذي كان من الواضح أن باركلي يقول به، ولكنه تركه في صورةٍ ضمنية. كما يمكن أن توصف سلبيًّا بأنها رد فعل على المذهب المطلق عند برادلي، الذي يهدد قداسة الشخصية بخطرٍ كبير. ولقد تأثرت الأخلاق عنده بالتراث الإنجليزي في نواحٍ هامة، واتجهت أساسًا نحو مذهب المنفعة التجريبي عند مل وسدجويك ومور. وهكذا فإن القوة الفلسفية الدافعة التي تلقَّاها أصلًا من هيجلي أكسفورد قد عادت القهقرى إلى تراثه الفكري القومي، ولكن مع تأثره بالعناصر المثالية في هذا التراث إلى جانب عناصره التجريبية.
(٧) القسم السابع: أصحاب مذهب الألوهية وفلاسفة الدين
اتخذت المثالية عند وورد — وهو مفكر كان مشهورًا ذا مكانةٍ رفيعة في انجلترا، ولكنه كان شبه مجهول خارجها — صورةً تختلف اختلافًا أساسيًّا عن أي مذهب بحثناه حتى الآن، وذلك بعد أن تخلصت من ارتباطاتها القديمة، فهي مثالية أكثر تحررًا ومرونة من هذه المذاهب. ولم تكن مرتبطة لا بالمذهب الهيجلي كما عرضه القدامى المتمسكون بالأصل، ولا كما عرضه المحدثون والمدرسة المتحررة، ولا بأية مدرسة أو أي مذهب على الإطلاق. فقد كان لمثاليته هذه صدرٌ رحب، يستجيب لمؤثراتٍ متعددة متنوعة، ولكنها، على الرغم مما اكتسبته من هذه النزعة التلفيقية من عمق، قد فقدت الاتساق المتين والوحدة الراسخة التي اتصفت بها المذاهب الأخرى. وهكذا كان هذا المذهب من أوضح المذاهب تعبيرًا عن تزايد انفصال المثالية الإنجليزية عن مصدرها ووحيها الهيجلي الأول. فنقطة البداية الأساسية في تفكير وورد لم تكن قوةً فلسفيةً دافعةً أصيلةً ملزمة، وإنما كانت أبحاثًا علميةً متخصصة، وصراعًا دينيًّا باطنًا أحسَّ به، واعترف بوجوده منذ وقتٍ مبكر، وكان هذان العاملان: العلم التجريبي واللاهوت، خليقَين بإحداث تأثيرٍ حاسم في النظرة التي كوَّنها في سنواته المتأخرة عن العالم.
كل هذا ينطوي على هدم لأسس النظريتَين اللتين كانتا شائعتَين عندئذٍ، أعني النظرية الترابطية ونظرية الملكات الذهنية، فالترابط ليس عمليةً سلبية شبه آلية تتداعى فيها محتويات الوعي وتدخل في علاقاتٍ جديدة بعضها مع البعض بطريقةٍ آلية، وإنما تتحكم فيه من البداية إلى النهاية ذاتٌ غرضية تنتقي وتختار هذه التجربة أو تلك نظرًا إلى ملاءمتها لغاياتها الخاصة. وقد أدى اهتمام وورد هذا بالانتقاء الغرضي إلى قوله بأن الانتباه هو الوظيفة الرئيسية للوعي، واتخاذه منه فكرةً رئيسية في علم النفس. ولقد ذهب وورد إلى حد بحث كل نشاط ذهني على حدة، ناظرًا إليه من خلال فكرة الانتباه، ووسع نطاق هذا اللفظ بحيث يشمل كل ما كان يندرج قبل ذلك تحت مفهوم الوعي. فالوعي هو دائمًا مقدارٌ أعظم أو أقل من الانتباه إلى ما هو جديد في الاتصال المثولي. وهو كما لاحظنا من قبلُ، ليس ذا طابعٍ معرفيٍّ بحت فحسب، وإنما هو إدراك وانتقاء مقصود للمعطيات اللازمة للنشاط الغرضي للذات. وهكذا يحل الانتباه محل الملكات القديمة، التي كانت متميزة ومنعزلة في معظم الأحيان، ويغدو هو الوظيفة الأساسية الواحدة التي تتحكم فيها، أما التمييز في داخل الانتباه فإنه تمييز في الدرجة، وكل أوجه نشاطه إنما تهدف إلى خدمة اهتمامات. فإذا ما عبَّرنا عن التصور النفساني الناتج عن هذا كله بصورةٍ عامة، كان تصورًا لذاتٍ إيجابيةٍ منتبهة، بوصفها الرابطة الضرورية التي تجمع بين مختلف أنواع التمثل.
ولقد استُمدَّ مذهب وورد في الفلسفة من مصادرَ متعددة؛ من ليبنتس وباركلي وكانْت ولوتسه (الذي تأثر به تأثرًا قويًّا خلال السنوات التي قضاها طالبًا في جوتنجن)، وكل الاتجاهات الفلسفية المعاصرة في وطنه.
وقد تناول في أول كتابٍ ميتافيزيقيٍّ رئيسي له: عالم الطبيعة، والمذهب الطبيعي واللاأدرية اللذين نشآ عن تأمل هذا العالم. وكان موضوع كتابه الثاني هو عالم الغايات، ومذهب الكثرة ومذهب الألوهية اللذان نشآ عن تأمل عالم الغايات هذا. ومن الواضح أن هذا التقابل مستمَد من الثنائية المماثلة التي وضعها كانْت، وأن تفكير وورد هو في عمومه أقرب إلى كانت بكثير منه إلى هيجل.
ومن الواضح أن وورد — في نقده القاسي هذا للمذهب الآلي — قد أخفق في الاحتفاظ بتمييز العلم الطبيعي بما هو كذلك، والنظرة الطبيعية إلى العالم، التي تقوم عليه عادةً، وبذلك «أفرغ الطفل مع تفريغه مياه الحمام.» بل وحمل على التفكير العملي بمعناه الدقيق على أساس أنه أدى بالفعل، في كثير من الأحيان، إلى نتائجَ فلسفيةٍ مشكوك في صحتها إلى حدٍّ بعيد، وهذا يبدو غريبًا، إذا أدركنا أن وورد نفسه قد بدأ حياته الأكاديمية عالمًا، واستخدم مناهج العلم بنجاحٍ كبير. غير أن لهذه الغرابة دلالتها الخاصة، فقد تعين عليه أن يتخذ موقفًا نقديًّا شديدًا من وجهة النظر والمناهج المميزة للعلم الطبيعي، حتى يتمكن من أن يُدخل في مجال الاهتمام الفلسفي ميدانًا آخر للمعرفة كانت الفلسفة الإنجليزية حتى ذلك الحين تتجاهله تجاهلًا غاشمًا، وأعني به التاريخ. ففي العلوم التاريخية، على عكس العلوم الطبيعية، نصادف كائناتٍ فردية عينية، ينطبق عليها ما نعنيه بالحقائق، من حيث إنها تضع لنفسها غايات، وتحقق قيمًا وتكون جزءًا لا يتجزأ من عينية الحياة وواقعيتها، ولقد كان وورد — مثل سورلي — مدينًا بهذا الرأي للأبحاث التي قام بها هينريش ريكرت في مناهج المعرفة، وهي الأبحاث التي لا يبدو أن أي فيلسوفٍ إنجليزيٍّ آخر قد أبدى بها أي اهتمام.
فلدينا إذن، داخل الوجود من حيث هو كل، تقابلٌ حاد بين عالمَين، فهناك من جهة الطبيعة، وعالم الحوادث الآلية، الذي يسوده الاطراد والضرورة التجريبية، وهو عالم من العموميات والتجريدات، ليس فيه مكان للأفراد العينيين أو للتلقائية والابتكار والقيم والغايات، ولدينا من جهةٍ أخرى عالم القيم والغايات، عالم التاريخ، والعيني والفردي، الذي لا يكون الفعل الأخلاقي ممكنًا إلا فيه، والذي تحل فيه الغرضية والحرية البشرية محل قيود العِلِّية الآلية. غير أن هذا التمييز القاطع ينبغي ألا يؤخذ على أنه يعني انفصالهما التام؛ إذ يتضح من وجهة نظر أعلى أنهما منظوران جزئيان إلى عالمٍ واحد، وينبغي بالتالي أن يجمعهما الفكر في وحدة، ومهمة الفلسفة هي كشف هذه الوحدة، وكذلك تحديد أي وجهيها هو الأعمق والأشمل.
وتنشأ هذه الأخيرة من أصلٍ مشترك بين جميع الذرات الروحية (ربما كان اتصالًا لا تنوُّع فيه) يكوِّن البيئة التي تعيش فيها هذه الذرات، إن جاز هذا التعبير. ومن الواجب النظر إلى جميع الذرات الروحية على أنها أفراد؛ إذ ليس فيها واحدة تشبه الأخرى، ومع ذلك فهي لا تكون منعزلة أبدًا، وإنما تمارس دائمًا — بعضها على البعض — أفعالًا وردود أفعال، وتشكل نفسها في صورة جماعاتٍ اجتماعية، ولا سيما في المستويات العليا للذات الروحية، ومن الواجب النظر إليها أيضًا على أنها تسعى أساسًا نحو غايات، بحيث إن غايتها العليا أو قانونها الأعلى هو حفظ الذات.
والموقف المكمِّل لمذهب الكثرة هو مذهب الألوهية، وقد بلغ وورد هذه النقطة المتوِّجة لمذهبه بقفزةٍ تأمليةٍ جريئة من الذرات الروحية المتناهية الكثيرة نسبيًّا، إلى وحدةٍ لا متناهيةٍ مطلقة، فوجود الكثرة يرتكز على الألوهية ويستهدفها، أي إن الله مصدر الكثرة وتتويج له.
وهكذا فإن الكون عند وورد يختلف عنه عند برادلي وبوزانكيت في أنه ليس كونًا سكونيًّا، وإنما هو يصعد من مرحلة إلى أخرى حتى أعلى ذرةٍ روحية وهي الله. ولقد اجتذبته — مثل معظم معاصريه — فكرة التطور، وأدمجها في مذهبه إدماجًا وثيقًا. غير أن المعنى الذي تكتسبه هذه الفكرة في مذهبٍ ألوهي يختلف تمامًا عن معناها في مذهبٍ طبيعي أو مذهب للكثرة؛ إذ لا يعود معناها هو التكشف التدريجي لما كان موجودًا منذ البداية، وإنما هي تعني النشوء الجديد، والتركيب الخلاق، والظهور المستمر لإمكانياتٍ جديدة، وهي تدل على وجود انسجام عند نقطة البداية فضلًا عن نقطة الهدف، وليس فقط عند نهاية عملية تسير قدمًا، وقد لا تكون لها نهاية على الإطلاق.
فإذا ما عدنا بنظرتنا إلى مذهب وورد في مجموعه أمكنا أن نرى المثالية فيه وقد اتخذت صورةً جديدة، استُوعبت فيها — على نحوٍ يفوق بكثير ما سبق أن عرضناه من المذاهب — كثرةٌ زاخرةٌ متنوعة من الأفكار، بعضها لا تربطه صلةٌ وثيقة بوجهة النظر المثالية. صحيح أنه ظل يحتفظ بالنزوع إلى التأمل فيما وراء حدود التجربة، ويسعى إلى بلوغ وحدةٍ نهائية، غير أننا لا نشعر لديه بأن المركب منبثق عن اتساقٍ فكريٍّ أصيل، فالعناصر أكثر عددًا وأشد تنوعًا من أن تُكوِّن وحدة حقيقية، وكثيرًا ما تظل منضمة بعضها إلى بعض على نحوٍ خارجي فحسب. غير أن هذا ليس إلا دليلًا آخر على قوة الدافع التأملي الذي أحدثه ميتافيزيقي لدى شخص كانت مواهبه أقرب إلى مجال متابعة الأبحاث العلمية واختبار المشكلات الفلسفية في طابعها الجزئي.
وهناك مشكلةٌ ثانية كرس لها وب اهتمامًا كبيرًا، هي مشكلة شخصية الله وعلاقتها بشخصية الإنسان المتناهية، وهو هنا يبين أيضًا أن الوعي الديني هو وحده الذي يكشف الطابع الشخصي النهائي للحقيقة؛ إذ إن الإنسان في علاقةٍ شخصية مع المطلق إلا في التجربة الدينية؛ لذلك ينبغي أن تُنْسَب الشخصية إلى الله، ولكن بمعنًى يختلف إلى حدٍّ ما عن معنى شخصية الإنسان؛ إذ إن علاقة الإنسان بالإنسان في التجربة الاجتماعية هي علاقة استبعادٍ متبادل، بينما علاقة الإنسان بالله في التجربة الدينية هي علاقة تضمن متبادل. فلزام علينا — من وجهة النظر الدينية — أن نقول إننا نستقر في الله وإن الله يستقر فينا، وإن الله كامن — على نحو لا نعرفه — في المؤمن، ولكن دون أي تهديد للشخصية المستقلة للكائن المتناهي؛ ذلك لأن وب يدافع عن استقلال الشخصية الإنسانية ضد إنكار حقيقتها وقيمتها في المذهب الطبيعي والمذهب المطلق. ومن هنا فإنه لا ينظر إلى التجربة الدينية على أنها صوفية، وعلى أنها هي فناء النفس المتناهية في اللامتناهي، بل على أنها علاقة يظل الاثنان فيها متميزَين، ويستتبع ذلك أن يكون الله، مع كل كمونه في العالم، عاليًا عليه في الوقت ذاته. وهو يحاول أن يربط ويوفق بين الرأيَين المتضادَين في كمون الله وعلوه، عن طريق إدخال فكرةٍ لاهوتية هي فكرة الوسيط والثالوث. وبذلك استخدم هاتين الفكرتَين استخدامًا فلسفيًّا، وربما كانت هذه المتقابلات المتنافرة وأمثالها في مذهب وب راجعة إلى افتقارٍ باطن إلى التناظر أو الاتفاق بين المذهب المطلق والنتائج الميتافيزيقية التي يستتبعها الدين المسيحي.
وهكذا فإن الشخصية هي الفكرة الرئيسية المسيطرة على تفكير وب، ولا سيما بالصورة المنهجية التي أعطاها لتفكيره هذا في كتابه الرئيسي، وهو مجموعتا محاضرات «جيفورد» اللتان نُشِرَتا بعنوان «الله والشخصية»، و«الشخصية الإلهية والحياة البشرية». وهو في ثاني هاتين المجموعتَين يناقش التعبير عن الشخصية البشرية في مختلف مجالات نشاطها، مبينًا نواحي التميز والاختلاف في المجال الاقتصادي والعلمي والفني والأخلاقي والسياسي والديني. وهو يتخذ على وجه العموم موقفًا وسطًا بين راشدال، الداعية المتعصب إلى الشخصية الفردية من جهة، وبين برادلي وبوزانكيت، اللذين أذابا الشخصية وأفنياها في ظلام المطلق، من جهة أخرى. ولكنه لا يرتفع إلى مستوى الأصالة العظيمة في التفكير، التي تثير فينا الإعجاب ببرادلي، وكذلك ببوزانكيت ولكن بدرجة أقل؛ ففلسفته لم تظهر بفضل قوةٍ باطنة تدفعه إلى وضع مذهب، بقدر ما ظهرت عن طريق عرض آراء المفكرين الآخرين ونقدها. وربما اتضح آخر الأمر أن أكبر خدمة أداها هي أنه خفف من حدة مبالغاتٍ خطيرة معيَّنة في المذهب المطلق الذي كان بطبيعته ميالًا إليه.
وعلى الرغم من ذلك فمن المستحيل القول بأنه كان يتبع بإخلاص تعاليم برادلي أو أي معلمٍ آخر في الفترة المتأخرة، فتيلور لم يكن فقط مفكرًا مستقلًّا، وربما هوائيًّا إلى حدٍّ ما، بل إن ذهنه مرن لا يستقر على حال. ولقد أدت سعة اطلاعه إلى جعله يقيض بالعلم في أشد الميادين تباينًا، وكانت له قدرةٌ مدهشة على استيعاب مجالاتٍ غريبة للمعرفة والأفكار. وتشهد المجموعة الكبيرة من مؤلفاته في تاريخ الفلسفة بالاتساع الهائل في نطاق معرفته التاريخية، واستعداده العلمي العظيم. ولقد كان واحدًا من أبرز الثقات في فلسفة القدماء، ولا سيما سقراط وأفلاطون (فلكتابه الضخم عن أفلاطون، وشرحه الذي يقع في سبعمائة صفحة لمحاورة «طيماوس»، مكانةٌ فريدة وسط ذلك السيل المتدفق من المؤلفات التي تتناول أفلاطون، وذلك بفضل ما اشتملا عليه من معلوماتٍ زاخرة، ودقة في التفسير، وعمق في الفهم الفلسفي). وكان يتمتع بنفس القدر تقريبًا من سعة الاطلاع في التفكير الدنيوي والديني في العصور الوسطى، وفي الكتابات الحديثة والمعاصرة في الأدب واللاهوت معًا.
وأهم الكتابات الفلسفية التي ألَّفها تيلور كتابان: ينتمي أحدهما إلى بداية عهد نشاطه التأليفي والآخر إلى نهايته، وكلاهما يبحث في الأخلاق. ومن الكتب الأخرى التي ألَّفها بين هذا وذاك كتاب شامل في الميتافيزيقا، ينتمي إلى الفترة المبكرة، وبضعة أبحاثٍ هامة إلى حدٍّ ما، كان معظمها مساهمات في حلقاتٍ دراسية أو في كتبٍ مشتركة، وتتناول هذه الأبحاث مشكلات في الأخلاق والميتافيزيقا وفلسفة الدين، وتعبر عن موقفه في الفترة الأخيرة؛ إذ أنها أُلِّفت خلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة على وجه التقريب. وسنبدأ أولًا ببحث مذهبه الأخلاقي؛ لأنه أولًا مركز الثقل في فلسفته، ولأن بحثه له في فترتَين يفصل بينهما زمانٌ طويل، يتيح لنا فرصةً رائعة لإظهار سمة التغير التي اتصف بها تطوره الفلسفي.
وهكذا كان الجزء الأول من كتاب تيلور تحليلًا نفسانيًّا للشعور الأخلاقي بوصفه منبع السلوك وأساس الحكم الأخلاقي، وهو هنا ينضم صراحةً إلى صف النظرية الإنجليزية في الشعور الأخلاقي كما ظهرت في القرن الثامن عشر (على يد شافنسبري وهتشسون وهيوم وآدم سمث)، ويرمي، بإبقائه الأخلاق على مستوًى ثابت هو مستوى الحقيقة اليومية، إلى تشييد حصن يحمي الأخلاق من التركيبات والتجريدات اللاواقعية التي يبينها الأخلاقيون المنتمون إلى المدرسة الهيجلية. وهكذا رأى أن كل محاولة لبناء الأخلاق على الميتافيزيقا تنطوي على خطر تفريغ الحياة الأخلاقية من واقعها العيني، وإثقال دراستها منذ البداية بتركيبٍ نظريٍّ بحت لا يمكن أن يكون فيه مكان لجميع الظواهر المتصلة بالموضوع. مثال ذلك أن الأخلاق لا شأن لها بالذات الأزلية اللازمانية التي قال بها جرين، وإنما هي تُعنى فقط بالذات التجريبية التي تتجسد في لحم ودم، وبالظروف المادية والفسيولوجية والنفسية التي تتحكم فيها. ولعلم الأخلاق مهمةٌ أخرى، إلى جانب التحليل الوصفي للظواهر الأخلاقية، هي تعقُّب الظواهر إلى بداياتها البسيطة، والبحث في أصل الأفكار الأخلاقية وتطورها، وهو ما أصبح يُعْرَف في ألمانيا، منذ أيام نيتشه، بأصل نسب الأخلاق. وفي هذا الميدان أسفرت تحليلات تيلور العميقة المفيدة عن نتائجَ رائعة، فمناقشاته لأصل ودلالة تصورات كالإلزام والضمير والمسئولية والخير والشر والشخصية الأخلاقية، لها قيمةٌ دائمة، ولا ينقص من قدرها على الإطلاق عدم كفاية الأسس النظرية لهذا البحث في مجموعه. ومع ذلك فعلى الرغم من قيمة أفكاره واستنتاجاته — مأخوذة على حدة — فإن عودته إلى المذهب التجريبي في القرن الثامن عشر كانت خطأً كبيرًا، وخاصة بالنسبة إلى مفكر تربى في مدرسة جرين وبرادلي وذاق ثمار كانت وهيجل. وعلى الرغم من كل ما كان يدين به لبرادلي، فإنه أدار ظهره عمدًا لكتابه «دراسات أخلاقية»، الذي عُرضت فيه الآراء الأخلاقية للمثاليين الألمان لأول مرة، وبفهمٍ عميق، في إنجلترا. وهكذا فإن عودة تيلور الانتكاسية إلى المذهب النفسي والنسبي، وكذلك إلى مذهب اللذة كما سنرى فيما بعدُ، كانت تخلفًا عن العصر الذي عاش فيه، لا يكفي لتبريره الاستدلال الدقيق الكامن من ورائه ولا الأفكار القيمة الكثيرة التي ظهرت مقترنة به (ولكنها لم تظهر منه).
ونظرًا إلى رفض تيلور لكل مبدأٍ عقلي، وقصره الأخلاق على وقائع التجربة، فقد أخذت أبحاثه تدفعه، على نحوٍ متزايد، إلى السير في طريق شكاك، وإلى الوقوع في صعوباتٍ ديالكتيكية، ويتجلى تأثير برادلي بوضوح لأول مرة في نقله للديالكتيك التحليلي الذي اتسم به الجزء الأول من «المظهر والواقع»، بطريقةٍ بارعة إلى أبعد حد، إلى مجال الأخلاق.
وكان من المحتم أن يؤدي الحط من عالم التجربة إلى منزلة المظهر البحت، إلى نتائجَ هدامة بالنسبة إلى مذهبٍ أخلاقيٍّ تجريبيٍّ محض، وبالفعل نجد أن نظرية تيلور التجريبية في الأخلاق، شأنها شأن نظرية هيوم التجريبية في المعرفة، تنتهي إلى مذهب في الشك؛ ذلك لأنه ينتهي إلى أن ميولنا الأخلاقية، بمجرد أن تتحرر من الشعور الأخلاقي البدائي الذي هو أساسها المشترك، تتطور في اتجاهاتٍ متباينة، بل إنها تبلغ من التباين، في نظره، في تلك الثنائية القائمة في كل الأحوال بين الأنانية والغيرية.
فكلا هذين الموقفَين قد اكتسب موافقةً أخلاقية وادعى لنفسه قيمةً مطلقة. وهكذا تواجهنا على الدوام فكرتان متقابلتان إلى الأبد، إحداهما فكرة تنمية الذات، والأخرى فكرة خدمة المجتمع، وتعجز النظرية الأخلاقية تمامًا عن البت في أيهما الأفضل، فمن المحال على نحوٍ قاطع إيجاد مركبٍ نهائي يجمع بين تحقيق الذات وبين التضحية بالذات.
والنتيجة التي ينتهي إليها هذا الاستدلال الذي ينطوي على دورٍ منطقيٍّ واضح، هي أن الأخلاق ليست نسقًا من الاستنباطات العقلية من مبدأٍ ميتافيزيقيٍّ واحد، وإنما هي مجموعة من التعميمات التجريبية التي لا يمكن جمعها تحت نسقٍ مترابط من الفروض، ومن هنا فإن الأخلاق، شأنها شأن الفيزياء وكل العلوم الخاصة الأخرى، لها طابعٌ مؤقت فحسب، ولا يمكن أن ترتفع إلى مستوى القول بمعاييرَ باقية لمبادئَ ذات صحةٍ شاملة، فهي في أساسها لا عقلية. وما نسميه بالمثل الأخلاقي الأعلى هو في واقع الأمر موقفٌ وسط بين استقطاب الميول الأنانية والغيرية، وهو الاستقطاب الذي يتمثل في المجال الأخلاقي بأسره. أما فكرة التقدم الأخلاقي فهي وهْمٌ باطل؛ إذ لا يوجد اتجاهٌ واحدٌ محدد للحركة، وكل تقدمٍ ظاهري يقابله تأخر.
وإذن فليس من المستغرب أن نرى تيلور يسير خطوةً هامة في اتجاه ما يسمى بمذهب اللذة الأخلاقي، وذلك مع رفضه مذهب اللذة النفسي، كما فعل جرين وبرادلي وسدجويك وغيرهم. وكان يعني بمذهب اللذة الأخلاقي ذلك المذهب القائل إن اللذة طابعٌ أساسي لما له قيمةٌ أخلاقية، وإننا نستطيع — بالنسبة إلى جميع الأغراض العملية — أن ننظر إلى وجود اللذة على أنه علامة إعلاء طاقات الحياة، فإن اللاذَّ يكون خيرًا بقدر ما يؤدي هذه الوظيفة، غير أن مثل هذه الأفكار — التي تُخضِع الأخلاق للمقولات البيولوجية — ليست لها إلا حقيقةٌ نسبية.
على أن الأرجوحة الديالكتيكية عند تيلور تنتقل بعد ذلك إلى الجانب الآخر، لكي ننصف الفكرة المضادة، وهي فكرة الواجب، صحيح أن أية أخلاقٍ تجريبية تستبعد الأمر المطلق، بالمعنى الذي قال به كانْت، ما دام هذا الأخير يرتبط بفلسفة ترتكز على مبادئَ أوليةٍ مطلقة، ومع ذلك فهناك أوامر، غير أنها دائمًا موجهة إلى أشخاصٍ فرديين في مواقفَ خاصة، وعلى الرغم من أنها يمكن أن تغدو ملزمة أو إجبارية بالنسبة إلى جماعاتٍ معينة من الأفراد والطوائف، فلا يمكن أن تكون لأيٍّ منها صحةٌ أوليةٌ شاملة؛ ذلك لأن المقدمة التي ترتكز عليها الأخلاق هي أن كل ما هو واقعي قابل للرد في آخر الأمر إلى واقعة للتجربة العينية.
ويؤكد تيلور صراحةً اتفاق هذا المبدأ مع المبدأ الأساسي في نظرية المعرفة عند هيوم، وينبغي أن يقال إن تيلور قد عمل في مجال الأخلاق ما عمله هيوم في مجال المعرفة، إذ وجه كل جهوده إلى تطبيق مذهبٍ تجريبي في الشك، أو مذهب شكاك تجريبي، مماثل لمذهب هيوم، على هذا الميدان، ويمكن أن يقال إنه تجاوز هيوم نفسه في هذا الميدان؛ إذ إن هذا الأخير، مع بنائه الأخلاق على أساسٍ تجريبي، قد منعه حسه السليم من بعث الانحلال فيها عن طريق الشك. ومما يزيد الأمر غرابةً أن تيلور رأى — في كتابٍ متعلق بنظرية المعرفة والميتافيزيقا نشره بعد ذلك بسنتَين فقط، هو «أركان الميتافيزيقا» — أن يبتعد تمامًا عن هيوم، ويستبدل بالحجج الشكاكة صيغ المذهب المطلق.
وهكذا فإن المرحلة الأولى في مذهب تيلور الأخلاقي تنتهي إلى نزعةٍ نفسية ونسبية وشكاكة، فليس فيها نتائجُ إيجابية.
غير أن هذا الوصف وحده غير كافٍ؛ إذ إن دلالة هذه المرحلة السلبية هي أن الفكر الأخلاقي قد أُلْقِيَ به في دوامةٍ ديالكتيكية يضطر فيها إلى الابتعاد عن جميع الارتباطات التوكيدية لكي يعود إلى الحياة العينية ذاتها، ويعترف بتنوعها ومرونتها وتنافرها. والواقع أن تيلور قد فاق جميع المفكرين الآخرين في إظهار المرونة الكامنة في الحياة الأخلاقية، والنقائض والممتنعات التي تنشأ عن دراستها، ففي بوتقة تيلور الديالكتيكية يذوب كل شيء. ولقد كان فكره أكثر مرونةً وليونةً من أن يستقر على موقفٍ واحد، وإنما هو ينتقل بلا انقطاع إزاء الكثرة الزاخرة من المظاهر المرتبطة بموضوعه من قضية إلى نقيضها دون أن يرضى بأيهما. وإذن فنزعة الشك التي تنساب في جميع أرجاء هذا الكتاب المبكر النابض بالحياة، الذي وضع بعد تفكيرٍ عميق، ليست شكًّا هدامًا فحسب، وإنما هي زاخرة بالأفكار القيمة التي لا تنتظر إلا عملية التشكيل.
وهكذا فإن جميع حججه أصبحت تدور الآن حول محور الفكرة القائلة: إن الحياة الأخلاقية، مهما كان من ارتباط مجراها بالزمان، ومن تقيدها بظروف العالم الحالي، لا تكتسب معناها الحقيقي إلا عندما تولِّي وجهها شطر الأزلية وتسترشد في كل نقطة بالإيمان بالله، فهي مغامرة تبدأ بالعالم الطبيعي وتنتهي بالعالم فوق الطبيعي. ولا شك في أن هذه الأخلاق — بالنسبة إلى الدين — غير مستقلة، وإنما هي معتمدة عليه، ولكن تيلور يؤكد استقلالها بالنسبة إلى الطبيعة. ونستطيع أن نضرب لهذا مثلًا إيضاحيًّا بمناقشته لفكرة الذنب، فالشعور الذي نحسُّ به عندما ندرك أن هناك شرًّا ارتكبناه، يختلف عن أي شيء نجده في المجال دون الإنساني إلى حد أنه يجوز لنا أن نعدَّه شعورًا لا نظير له، يختص به الإنسان وحده. على أن هذا الشعور بالذنب يقترن به أساسًا شعورٌ آخر بعدم إمكان محو الذنب، فلا يمكن أن يُمحى الذنب بأي جهد أو فعل، ولا يمكن «تعويضه» أو تغطيته بأي عقاب، غير أن إحساسنا بعدم إمكان التكفير عن الذنب إنما هو دليلٌ مباشر على التشابك الكامن بين الزمان والأزلية، الذي هو العلامة المميزة لكل سعي أخلاقي.
ويدخل تيلور فكرة الخلود في نطاق «برهانه الأخلاقي» العام، فالخلود يعني تحول الذات الزمانية إلى ذاتٍ أزلية، والعملية مستمرة، قوامها في المحل الأول تطهير الذات تمامًا من حالة خضوعها لتحكم الظروف الزمنية، غير أن هذا ليس تطهيرًا يغمر الشخصية الفردية ويغنيها في مطلق لا شخصي (وهنا يتجه تفكير تيلور إلى نظرية الفردية عند بوزانكيت)، وإنما هو تطهير يتركها أغنى مما كانت، فالذات تظل باقية، غير أنها تنتقل من مركزها الأصلي إلى مركزٍ جديد، وكما يقول تيلور، فبقدر ما نتخلى عن ذراتنا، نفنى في شخصيتنا الحقة، ففي المطلق لا تفني الفردية على الإطلاق، بل تحقق أكمل تعبير عنها.
ولكن أليست الأخلاق والحياة الأزلية متعارضتَين تمامًا؟ أيظل للجهد الأخلاقي أي معنًى بعد أن نبلغ هدفنا؟ هنا نواجه مرةً أخرى تلك الصعوبة الأساسية التي تتمثل في أي مذهبٍ أخلاقي، أعني الازدواج بين ما هو كائن، أي ما هو زائلٌ متغير على الدوام، وما يجب أن يكون، أي ما لا يمكن بلوغه أزلًا، وإن يكن يبدو أنه هو ماهية الأخلاقية ذاتها. غير أن الأخلاق لا تختفي عند بلوغ هدفها إلا إذا جعلنا الأخلاق مساوية للصراع ضد الشر، على أن هذا أمر غير مشروع، تمامًا كجعل العلم مساويًا للصراع، ضد الجهل، فمن الممكن أن نتصور مرحلة للحياة الذهنية تنتهي فيها عملية تكوين الشخصية، ومع ذلك يستمر النشاط المنبعث عن الشخصية المتكوِّنة. وحتى «في السماء» يظل هناك مكان للحياة العملية الفعالة، إلى جانب سعادة التأمل الخالص، صحيح أننا لا نعود قادرين على التقدم «نحو» الخير، ولكن سيكون هناك مجالٌ واسع للتقدم «في داخله». ومن الطبيعي أن الحياة الخيرة لن يمكنها عندئذٍ أن تظل تتخذ شكل صراعٍ إيجابي ضد الشر، وإنما ستستمر بوصفها تحقيقًا «للخير» على صور تزداد على الدوام كمالًا وتنوعًا. فانتهاء الصراع بين الخير والشر وبلوغ الغاية لا يمنع من استمرار بقاء النشاط الأخلاقي، وهذا هو حل التناقض العميق بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون في الأخلاق.
ولكن مذهب المطلق، الذي تركه برادلي في صورةٍ مفككة إلى حدٍّ بعيد، قد نظم هنا تنظيمًا دقيقًا صارمًا، والأقسام الرئيسية في المذهب هنا هي الأنتولوجيا أو التركيب العام للعالم الواقع، والكسمولوجيا أو ميتافيزيقا الطبيعة، وعلم النفس العقلي أو ميتافيزيقا الذهن والمجتمع البشري.
فإذا ما تأملنا تفكير تيلور الفلسفي في مجموعه، أمكننا أن نقول إنه أغنى وأعقد من أن يُفهَم فهمًا جامعًا مانعًا، أو يُدرَج تحت وصفٍ واحد، فهو يلمع بألوانٍ متعددة استمدها من المصادر المختلفة التي أضاءته، وكثيرًا ما عمل على حرق سفنه من خلفه، والزحف قدمًا لاحتلال ممالكَ جديدة، غير أنه يفتقر إلى التركيز، بحيث إنه لم يبعث وحدة باطنة في الميادين المختلفة المتعددة التي استمد منها ثقافته واتخذها موضوعًا لبحثه، فتفكيره صورةٌ أمينة لذلك الشقاق العميق، الفلسفي وغير الفلسفي، الذي يتصف به عصرنا؛ هذا العصر الذي اتخذ من الإيمان ملجأً، ولكنه لم يصبح بذلك أقوى تفكيرًا. وربما كان ذلك المذهب أوضح مظهر على مدى إخفاق الفلسفة الإنجليزية، حتى في يومنا هذا، في الوصول إلى أي هدف، واستمرارها في تلمُّس الطريق.
تلقى تمبل تعليمه الفلسفي في كلية باليول بأكسفورد على إدوارد كيرد، وظل يذكر لهذا الأخير أنه أفضل مثل لشخص لا يقتصر على تعليم الحياة الروحية، وإنما يحياها على أكمل وجه أيضًا. وعن طريق كيرد اتصل منذ وقتٍ مبكر بعالم الفكر المثالي، الذي التزمه على الدوام فيما بعدُ في سعيه إلى الوضوح الفلسفي. وهو ينتمي إلى تلك الفئة من اللاهوتيين المتفلسفين التي كان عددها في إنجلترا أكبر منه في أي بلدٍ آخر، والتي كان باركلي ممثلًا متقدمًا وبارزًا لها. ولم تكن فلسفته إشباعًا لحاجةٍ نظرية، بقدر ما كانت تبريرًا لنظريته الدينية واللاهوتية، فمهمتها هي التوفيق بين الإيمان والمعرفة، وإيجاد أساسٍ نظري لمذهبٍ ألوهي ثبت في ذهنه من قبلُ.
وتثير فكرة المستويات الصاعدة مشكلة القيمة، ولا سيما علاقتها بالواقع، فهل تُستنفد ماهية الأشياء في وجودها المحض، بحيث تكون القيم صفات لها فحسب؟ أم أن القيم هي التي لها الأولوية؟ يحاول تمبل أن يبين أن الفرض الثاني هو الصحيح، وسبيله إلى إثبات ذلك هو القول إن القيم وحدها هي التي لها حقيقةٌ جوهرية، وهي تحقق صورها المختلفة بالتجسد في الأشياء، ويتلو من ذلك أن ما هو حقيقي لا يكون كذلك إلا بقدر ما تشكله القيمة، أو بتعبيرٍ آخر: بقدر ما يكون خيرًا. على أن القيِّم أو الخيِّر ليس إلا الطرف المتضايف مع إرادة، وهذه الإرادة هي الإرادة الخلاقة للروح الإلهية، التي هي وحدها الموجودة بذاتها، ومن ثم فإن العالم من خلق إرادة الله، وهو التعبير عنها، فالقول بهوية الجوهر والقيمة يؤدي حتمًا إلى مذهب الألوهية.
وقد عَرض تمبل هذه الأفكار عرضًا مذهبيًّا في كتابه «الذهن الخلاق»، فهو هنا يبحث في سعي الروح إلى تكوين نظرة ترضيها عن العالم، في ضوء الأشكال الثلاثة، العلم والفن والأخلاق، هذه الأشكال الثلاثة معًا تستهدف توحيد الكثرة المختلطة للأشياء، ولكن ليس في وسع أحدها أن يحققها، وإنما في الدين وحده يمكن بلوغ نظرة موحدة إلى العالم، بحيث إن الدين هو اكتمال جميع الصور الأخرى للمعرفة، وهو حجر الرحى في أي مذهب فلسفي. وهكذا أضاف تمبل إلى كتاب «الذهن الخلاق» تكملة في كتاب «حقيقة المسيح»، الذي عرض فيه ما أسماه بحق ميتافيزيقا متركزة حول المسيحية.
وفيما عدا ذلك، فمن الممكن أن يوصف موقف تمبل الفلسفي بأنه مثاليةٌ مطلقة، فإذا ما جردنا هذه المثالية من قيودها اللاهوتية وتعلقها الشديد بالأفلاطونية؛ لوجدناها مدينة لبوزانكيت ولبرادلي من خلاله أكثر مما هي مدينة لأي شخصٍ آخر. وتتضح أولوية هذا التأثير في قوله: إن أمام الفلسفة طريقين متشعبَين يتعين على أية فلسفة أن تختار بينهما، إما أن تفترض المعقولية الكامنة للكون (أو على الأقل إمكان تحديده عقليًّا)، وإما أن ترتد إلى مذهب الشك الكامل. فالمعقولية الميتافيزيقية للعالم تتضمن معها مصادرةً أخلاقية هي خيريته الكاملة، فيسفر ذلك عن نظرةٍ متفائلة إلى العالم. على أن من واجبنا أن نعترض على ذلك قائلين إن هذا التفاؤل لا يتغلغل في قلب مشكلة الشخصية ولا مشكلة الشر، فليس فيه مكان للفرد واللامعقول وكل ما يقاوم القيمة والمعنى إلا بقدر ما يستطيع أن يجمعها كلها بوصفها عناصرَ مرتبطةً بأضدادها أو مظاهر لها. والذي يقدمه إلينا حقيقة هو مطلق تختفي فيه كل هذه التمييزات والأضداد، دون أن تترك أثرًا للعذاب الذي يبعثه اضطراب عالمنا الفعلي، أو للمواقف الأليمة التي تتعرض لها حياتنا، فالمذهب المطلق يدخل هنا في مرفأٍ آمن هو اللاهوت الحرفي المحافظ.
وتتضمن محاضرات جيفورد التي ألقاها تمبل بعنوان «الطبيعة والإنسان والله» أدق وأشمل محاولاته لإيجاد أساس لرأيه في الكون ولعرض هذا الرأي، غير أن ما يقدمه إلينا هنا أيضًا هو محاولة إيجاد تبريرٍ نظري لعقائدَ إيمانيةٍ سابقة، أكثر منه برهانًا دقيقًا مستقلًا على وجهة نظره؛ فليس ثمة تغييرٌ أساسي في موقفه. وتغدو نقطة بدايته هنا واقعية، فهو يرفض جميع الصور الذاتية الإبستمولوجية، التي يرى أن قضيته «أنا أفكر إذن أنا موجود» عند ديكارت هي المسئولة عنها أولًا، ففي المعرفة لا يكون العقل معنيًّا بذاته — وبأحواله الخاصة بوصفها موضوعاتٍ حاضرة — وإنما بعالم يقف في مقابله بالفعل. وهو يصف هذه الواقعية أيضًا بأنها «ديالكتيكية»، ويؤدي تطويره لعمليتها الديالكتيكية، والمكان البارز الذي يوليه للذهن، إلى إضفاء طابعٍ هيجليٍّ متزايد عليه، يعد أوضح مظاهره الخارجية تأكيد تمبل الدائم لصلته الوثيقة بأستاذه القديم إدوارد كيرد، الذي يهدي هذا المجلد إليه، وكذلك إشاراته المتعددة إلى بوزانكيت، الذي يتفق مع ميتافيزيقاه اتفاقًا عامًّا، على الرغم مما بينهما من اختلافات في التفاصيل. وتبلغ العملية الديالكتيكية قمتها في مذهبٍ ألوهي، وفي نظره إلى الكون على أن له «طابعًا مقدسًا». والواقع أن المذهب الذي يعرضه تمبل هنا آخر الأمر هو واحد من أروع ما أنتجه الفكر الإنجليزي الأخير من التعبيرات عن مذهب الألوهية المسيحي، معروضًا من وجهة نظر مثالية قبل كل شيء.
(٨) القسم الثامن: مفكرون قريبون من المثالية
انبثقت فلسفة المفكر الاسكتلندي لوري من ذهنه الخاص كلها تقريبًا، ومن ثم فلا يمكن أن يُدرَج تحت أية فئةٍ عامةٍ مألوفة إلا بشيء من التجاوز، وقد أسماها هو ذاته «عودًا إلى الثنائية»، (وهو العنوان الفرعي لكتابه: الميتافيزيقا). غير أن غموض تفكيره وعدم إمكان النفاذ إليه، يجعل من العسير على المرء أن يُقرِّر إن كان الاتجاه التوحيدي أو الاتجاه الثنائي (وهناك اتجاهٌ تعدُّدي أيضًا) هو الأغلب لديه. كذلك أطلق على مذهبه اسم «الواقعية الطبيعية»، وهي تسمية تصدق على نقطة بدايته الإبستمولوجية، التي تقترب عن وعي من موقف ريد، غير أنها لا تنطبق بحال على بقية تفكيره، أو على تفكيره منظورًا إليه في كليته. ومع ذلك ففي إمكاننا — دون إجحاف — أن ندرجه ضمن الحركة المثالية الجديدة، حتى لو لم يكن من الممكن القول إن لوري ذاته قد انجرف في هذا التيار، فهناك قطعًا روابط تجمعه بكانت وشلنج، وقبل هؤلاء جميعًا بهيجل، الذي كانت له بتفكيره معرفة مباشرة.
غير أن لوري يظل هو نفسه فحسب، ويتسم بصفة الاستقلال هذه أكثر من أي مفكرٍ إنجليزيٍّ آخر في عصره؛ لذلك كان من الواجب فهم مذهبه في ضوئه الخاص. فهذا المذهب أشبه بمناجاةٍ ذاتية، ومحادثة بينه وبين نفسه، بحيث لا يصغي إلى الآخرين ولا يسير بناءً على أي اتصالٍ سابق بالغير، ولهذا السبب لم يكن له صدًى بين شعبه، وإنما تبدَّد صوته في الهواء.
أما آراء لوري في الإنسان فترجع إلى رأيه في المراحل الثلاث للوعي، فليس في وسع الإنسان أن يظل في مرحلة الإحساس المميز، التي يكون فيها الإنسان مجرد مركبٍ حيواني من رغبات ونزعات وإحساساتٍ جزئية. فلما كان الإنسان قد وُهِبَ عقلًا، فإنه يهدف إلى تحوير هذه العناصر غير المنظمة بحيث تدخل في الوحدة العاقلة لشخصيةٍ أخلاقية، فالتجربة البشرية هي ديالكتيك للإرادة، ما دامت تنطوي أساسًا على شوق إلى المثل الأعلى والمطلق. ومن يخفق في مسايرة هذا الديالكتيك الإرادي يهبط إلى مرتبةٍ أدنى، أما من يسايره ويحقق ذاته الحقة، فإنه يشارك — حتى في أثناء خضوعه لقيود الزمان — في الحياة الأزلية لله، ويصطفيه الله ليكون زميلًا له في تحقيق غاياته الأزلية؛ ذلك لأن الله في هذا العمل محتاج إلى الإنسان.
تتحقق في باكس دعوة جرين للجيل الجديد في العَقْد الثامن من القرن الماضي إلى الانصراف نهائيًّا عن تعاليم مل وسبنسر، والتحول إلى مؤلفات كانت وهيجل، ففي شبابه كان يلتزم تمامًا نطاق المذهب التجريبي عند ليويس وبين ومل وسبنسر، كما حضر اجتماعات الوضعيين، وبعد ذلك تعرف إلى إدوارد فون هارتمان في رحلة إلى ألمانيا كان لها أثرها الحاسم في حياته، فأسفر ذلك عن دراسةٍ عميقة للمثالية الألمانية في صورها المتعددة، أقنعته بأن طبيعة الفلسفة الإنجليزية التقليدية سطحية لا أساس لها. هذا التحول الأساسي، الذي نجم عن اتصاله المباشر بخالقي المثالية نفسها، أكثر مما نجم عن اتصاله بأتباعها من الإنجليز، قد حدث في بداية العَقْد التاسع، وقضى باكس بقية حياته مثاليًّا، فمنذ ذلك الحين أصبحت ألمانيا بالنسبة إليه وطنًا روحيًّا، كما كانت من قبلُ بالنسبة إلى كارليل، وكما كانت في نظر معاصره هولدين.
ويتبدَّى التقابل الأساسي داخل الواقع، في مجال الأخلاق، في صورة التقابل بين الخير والشر، ولكن عندما انتقل باكس إلى عرض تفاصيل هذا التطبيق لمبدئه الميتافيزيقي العام، تناقض على نحوٍ غريب مع مذهبه الميتافيزيقي؛ إذ يظهر لنا، في هذا المجال، أن الخير، لا الشر، هو العامل الأقوى. صحيح أن الشر لا يمكن أن يقضى عليه تمامًا، بل ينبغي أن يظل إمكانه على الأقل قائمًا على الدوام، غير أن الشر العيني — كما نعرفه — عابر، ولا بد أن يقهره الخير ويمحوه. وإذن ففي العملية الكونية ميلٌ أصلي نحو التحقيق الظافر للخير، وفي التجربة ترجح كفة الخير على الشر دائمًا، فالهدف هو الخير، بحيث لا يظل الشر قائمًا إلا من حيث هو إمكانية فارغة. وهنا ينزلق باكس على الرغم منه إلى مياه التفاؤل الضحلة عند هيجل وبرادلي، ملتفًّا بسفينته دون اهتمام بما يقع فيها من تناقض حول صخور تشاؤم شوبنهور، وهي الصخور التي لو كان قد استرشد ببوصلته الميتافيزيقية، لتحطمت سفينته عليها تمامًا، ولنتحدث بلغةٍ مجازيةٍ أخرى، فنقول: إنه عقد زواجًا غير موفق تمامًا بين اللامعقولية الميتافيزيقية وبين التفاؤلية، أو بين مبدأ أساسي عند شوبنهور وبرجسون، ومبدأٍ أساسي لا يقل عنه أهمية عند هيجل وبرادلي.
أما نظرية المعرفة عند باكس، التي لا يتسع المقام هنا لعرضها، فتسير في عمومها في اتجاه كانْت، كما أن فلسفته في تحقيق الإنسان لنفسه روحيًّا، ترتكز على نظرية في القيم يلمح إليها أكثر مما يعرضها صراحةً، وهي تلتقي في نقاطٍ متعددة مع أفكار فندلبانت وريكرت. أما فلسفته في المجتمع فهي ترتبط بالماركسية، كما يتوقع المرء من دفاعه الحار عن الاشتراكية، وإن يكن يفسر الماركسية تفسيرًا مثاليًّا، ويرفض بذلك نظرية ماركس المادية في التاريخ.
لا تكاد مثالية «ولدن كار» ترتبط على أي نحو بالكانتيين والهيجليين الإنجليز، فهي تستلهم مصادرَ أخرى وتستمد محتواها منها. ولقد كان مجرى حياته ذاته غير مألوف إلى حدٍّ بعيد، بل يمكن القول إنه كان مثيرًا، فقد كان في البداية كاتبًا في البلدية، ثم في شركة للأسهم والسندات وحضر في هذه الأثناء دراساتٍ مسائية في «كنجز كوليدج» بلندن، فتولد لديه اهتمام بالفلسفة (وكان الكتاب المحببون إلى نفسه هم أفلاطون وباركلي وهيوم). وانضم إلى الجمعية الأرسططالية في السنة الثانية من إنشائها، وسرعان ما أصبح سكرتيرها وواحدًا من أبرز أعضائها. وكان قد تجاوز الخمسين من عمره عندما أدى ظرفٌ عارض إلى تنبهه إلى كتاب برجسون «التطور الخلاق» الذي كان قد ظهر حديثًا، كما وجد أن اهتمامه موزع بين مثالية كروتشه وجنتيلي من جهة، وفيزياء أينشتين الجديدة من جهةٍ أخرى، ومنذ ذلك الحين انفجر نشاطه، وتبدَّى ذلك في سلسلةٍ ضخمة من الكتابات الفلسفية التي شملت ترجمات، ومؤلفات للعرض والشرح، ومحاولاتٍ مستقلة لبناء مذهبٍ بنَّاء، وقد شغل أول منصبٍ أكاديمي له وهو في الحادية والستين من عمره، وهو كرسي الفلسفة بجامعة لندن، ثم انتقل بعد سبع سنوات إلى كرسيٍّ مماثل في أمريكا، وكرس له السنوات الست الباقية من حياته الغريبة الرائعة.
ومن الواضح «أن هذه المثالية الجديدة» — على خلاف القديمة — لم تكد تتأثر بالحركة الفكرية التي بدأت بكانْت وبلغت قمتها عند هيجل، فهي تشابه المثالية القديمة في مهاجمتها للمادية والحتمية والتطورية وغير ذلك من صور المذهب الطبيعي في القرن التاسع عشر، غير أن هجومها كان قائمًا على القول بأن العلم الجديد في القرن العشرين قد هدم النظريات العلمية التي ارتكزت عليها هذه المذاهب، وكان هذا هو السبب الجديد الذي قدمه لاستبدال التطور الخلاق بالتطور الآلي، والحرية والتلقائية بالضرورة، والصيرورة بالوجود، والأفعال بالأشياء، والحياة بالمادة، والحدس بالذهن المقالي.
وهكذا ينبغي إدراج مذهب كار ضمن «فلسفات الحياة» التي يتميز بها وقتنا هذا، والتي أثبت برجسون أنه أروع وأقوى ممثل لها. وتقترب هذه الفلسفة في نواحٍ مُعيَّنة من البرجماتية، وإن لم يكن التقارب معترفًا به. أما الصفات التي ادعتها لنفسها فهي أنها مثالية (على غرار ليبنتس وباركلي) في الميتافيزيقا، وإدارية في الأخلاق، ومجددة في الدين، ونسبية في العلم. وعلى الرغم من كل ما بدا عليها من وحدة، فقد تأثرت بعمق بكثرة مصادرها، التي بلغت من التنوع حدًّا يحول دون إيجاد أي مركَّبٍ أصيل بينها. وهكذا لم يُفلح كار في صهر كل ما وضعه في بوتقته؛ فكانت النتيجة — على أحسن الفروض — خليطًا مركَّبًا. وعلى الرغم مما أداه من خدماتٍ هائلة، كانت تنطوي على إنكار للذات يصل إلى حد التضحية، في سبيل إيقاظ الاهتمام الفلسفي ونشر الثقافة الفلسفية، فمن الواجب النظر إليه على أنه مفكرٌ تلفيقيٌّ متمكن، أكثر منه مفكرًا أصيلًا، غير أنه كان أكثر الشخصيات جاذبية وأحقَّها بالاهتمام من بين أولئك الذين خدموا الفلسفة وهم هواة.
كان مرتس — مثل بلفورت باكس — «دخيلًا»، فبعد فترةٍ قصيرة من التدريس الأكاديمي، دخل عالم الصناعة، غير أنه ظل في ميدانه الجديد مخلصًا للموضوع الرئيسي لاهتمامه العلمي، فكان يقضي في دراسة الفلسفة أوقات الفراغ البسيطة التي سمحت له بها مسئولياته الضخمة في أعماله الاقتصادية. ولقد ذكر هو ذاته أن مؤلَّفه الرئيسي، تاريخ الفكر الأوروبي، الذي يقع في أكثر من ٢٥٠٠ صفحة، قد كتب معظمه في ساعات الصباح الباكر، ما بين الساعة الخامسة والثامنة، قبل أن يبدأ العمل في أعبائه الثقيلة، ولكنه لم ينجُ من المصير المألوف لأي مفكرٍ دخيل؛ فلم يلق من الفلاسفة المحترفين ما يستحقه من الاعتراف، بل إنهم لم ينتبهوا إليه إلا قليلًا، أو لم ينتبهوا إليه على الإطلاق.
ولقد أثبت مرتس في هذا الكتاب أنه مؤرخ ومشيد لمذهب في آنٍ واحد، فهو قد أثبت مقدرته من حيث هو مؤرخ؛ إذ إن الكتاب إنتاج تظهر فيه المثابرة وسعة الاطلاع التيوتونية بكل وضوح، ويجمع على نحوٍ موفق بين دقة البحث وبين سعة الأفق والتبصر التاريخي العميق، فهو عمل من الطراز الأول. وكانت المهمة التي أخذها مرتس على عاتقه هي عرض الحياة الروحية للقرن التاسع عشر، بكل مظاهرها المتعددة، في صورةٍ واحدةٍ جامعة. وعلى الرغم من أنه لم يستطع أن ينجز مجلدَين كان يعتزم إصدارهما عن الأفكار الشعرية والدينية في ذلك القرن، فإن المجلدات الأربعة المنشورة تكون عملًا قويًّا لم يكتمل، ودليلًا بليغًا على مقدرة مؤلفها الفريدة ونشاطه الذي لا يكلُّ.
كذلك وضع مرتس لنفسه، في ميدان الفلسفة، خططًا طموحة، مستهدفًا تشييد مذهبٍ قائم على أسسٍ واسعة، وهنا أيضًا لم يستطع إنجاز خططه وإكمالها، غير أن من الممكن بسهولة إدراك الاتجاه الذي كان يسير فيه تفكيره، من خلال تلك الأسس التي وضعها بالفعل لمذهبه، فقد كان التأثير الحاسم على تفكيره هو تأثير الفلاسفة الألمان، وهو لم يتأثر بكانت وهيجل بقدر ما تأثر بليبنتس وشيلر ماخر ولوتسه، وأهمهم هذا الأخير، الذي اتصل به شخصيًّا خلال الفترة القصيرة التي درس فيها في جوتنجن. وبعد عودته إلى إنجلترا تأثر أيضًا بالاتجاهات الفكرية الإنجليزية المميزة، ولا سيما تلك التي ارتبطت بباركلي وهيوم، والنوع الجديد من علم النفس الاستبطاني الذي استحدثه وورد وجيمس، أما الحركة المثالية الجديدة في إنجلترا فلم تكد تؤثر فيه على الإطلاق.
وكانت أولى الكتب عن كانت في إنجلترا هي، «نظرة عامة وتمهيدية إلى مبادئ الأستاذ كانت General & Introductory View of Professor Kant’s Principles» من تأليف ف. أ. نيتش F. A. Nitach، ١٧٩٦، و«مبادئ الفلسفة النقدية Principles of Critical Phil.». من تأليف ج. س. بك J. S. Beek، ترجمة ج. رتشاردسن J. Richardson، عام ١٧٩٧، و«أركان الفلسفة النقدية Elements of Critical Phil.». تأليف أ. ف. م. ويليش Wilich ١٧٩٨.
أما أولى الترجمات الإنجليزية لكانت فهي، «بحوث ومقالات في موضوعاتٍ أخلاقية وسياسية وموضوعاتٍ فلسفيةٍ متعددة Essays & Treatises on Moral, Political and Various Philosophical Subjects» في مجلدَين، ١٧٩٨-١٧٩٩، و«ميتافيزيقا الأخلاق Metaphysic of Morals» ١٧٩٩، «المنطق Logic» ١٨١٩، «المنطق لكل ميتافيزيقا مقبلة Prolegomena to Every Future Metaphysic» ١٨١٩، وقد أعيد طبع الكتابَين الأخيرَين مع «بحث … في أسس إثبات وجود الله Enquiry … Into The Grounds of Proof for the Existence of God» ١٨٣٦، وكان ج. رتشاردسن هو الذي قام بجميع هذه الترجمات، وظهرت ترجمة «ج. و. سمبل J. W. Semple» لكتاب «ميتافيزيقا الأخلاق Met. of Ethics» لأول مرة في ١٨٣٦، وكانت الترجمة الأولى لأول كتب «النقد» من عمل «فرانسيس هيود Francis Haywood» بعنوان Critic of Pure Reason ١٨٣٨ (الطبعة الثانية ١٨٤٨)، وقد نشر هيود عام ١٨٤٤ «تحليلًا لنقد العقل الخالص عند كانت An Analysis of Kant’s Critick of Pure Reason».
[ملحوظة للمترجم: ظهرت في نيويورك سنة ١٩٥٩ ترجمةٌ إنجليزية لكتاب «دائرة المعارف Encyclopaedia of Phil. By Hegel»، قام بها جوستاف موللر Gustav E. Muoller، وهو ألماني الأصل، ولكن من أهم عيوبها أنها ترجمة مختصرة، تتخللها أحيانًا تعليقات للمترجم خلال النص. وهي تتضمن الأجزاء الثلاثة لدائرة المعارف، ولكن الجزء الثاني (وهو فلسفة الطبيعة) مختصر اختصارًا شديدًا، وربما كان لهذا الاختصار ما يبرره، ولكن العمل قد فقد بذلك طابعه العلمي الصحيح.]
وهناك أيضًا «فلسفة الحق (أو القانون) Phil. of Right» (ترجمة س. ودايد S. W. Dyde) ١٨٩٦، و«محاضرات في فلسفة التاريخ Lectures on the Phil. of Hist» (ج. سيبري Sibree)، ١٨٥٧، و«فلسفة الفن The Phil. of Fine Arts» «ف. ب. أوسماستن F. B. Osmaston» ١٩١٦–١٩٢٠، في أربعة مجلدات، ومحاضرات في فلسفة الدين Lectures on the Phil. of Religion، «أ. ب. سبيرز E. B. Speirs وج. ب. ساندرسن J. B. Sanderson» ١٨٥٩، في ثلاثة مجلدات، و«محاضرات في تاريخ الفلسفة Lectures on the Hist, of Phil.». «أ. س. هولدين E. S. Haldane وف. ﻫ. سيمسون F. H. Simson» ١٨٩٢–١٨٩٥، في ثلاثة مجلدات.
وهناك تلميذٌ مبكرٌ آخر لهيجل، سار في طريق مستقل تمامًا عن سترلنج، هو تشارلس إدوارد أبلتن C. E. Appleton (١٨٤١–١٨٢٩) مؤسس مجلة «الأكاديمية The Academy» ورئيس تحريرها. وقد تلقَّى أبلتن بدوره تعاليم هيجل في هيدلبرج، حيث درس على إدوارد تسلر E. Zeller، ثم على ميشليه Michelet في برلين، كما اتصل «بروج A. Ruge». وكان أبلتن من أوائل مَن ألَّفوا محاضرات عن هيجل في أكسفورد، وكان من أهدافه في ميدان التأليف أن يعيد كتابة «المنطق» لهيجل، ولكن وفاته المبكرة حالت دون ذلك.