في المذهب البرجماتي الحديثِ اتجاهاتٌ مختلفة أشبه بالألوان المتعدِّدة البراقة،
كما
أن تأثيره قد تجلَّى في مجالاتٍ للحياة والثقافة متباينة كل التباين، وهو يُمثل اتجاهًا
عامًّا في التفكير، كما يمثل مذهبًا فلسفيًّا خاصًّا؛ فمن حيث هو اتجاه عام، نراه
قد
تغلغل في مجالات واسعة من حياتنا وأعمالنا وفكرنا على صُورٍ شتى، وبدرجات متفاوتة،
وهو
بهذا الوصف يهتم بالشعور أكثر مما يُحاول إيضاح معالم مذهب محدد. وهكذا يكاد يستعصي
على
الوصف التاريخي. أما من حيث هو مذهب فلسفي؛ فقد ظهر أولًا في بلدٍ كان الشعور البرجماتي
فيه مسيطرًا على الحياة أكثر مما هو مسيطر في بلد آخر؛ أعني في أمريكا. وهناك نما
بالتدريج من بداياته البسيطة التي يمكن تتبُّع أصولها حتى العقد الثامن من القرن
الماضي. ويشيع الاعتراف اليوم عامةً بأن بيرس C. S. Peirce هو الأب الرُّوحي للبرجماتية الحديثة وأول مُبشِّر بها؛ غير أن
الدعوة الجبَّارة التي قام بها وليام جيمس هي التي أضفَت على المذهب كل ما كانت تتَّصف
به شخصيته القوية العظيمة من عزمٍ، ونقلَت المذهب من حجرة مكتب المُفكِّر إلى العالم
أجمع، فجيمس لم يجعل من المذهب البرجماتي مذهبًا أكاديميًّا، وإنما رفعه إلى مرتبة
قوة
روحية من الطراز الأول، ونظرًا إلى أن المذهب البرجماتي كان تعبيرًا عن شعور عام،
فإنه
لم يُسفِر عن تفكيرٍ فلسفي متخصِّص فحسب، بل أصبح أيضًا قوة فعالة في المجالات الأخرى
للحياة العقلية؛ ففي خلال حياة جيمس أصبح للبرجماتية — بوصفها فلسفة — تأثير قوي
في
الفكر الأمريكي، وإن لم تكن قد سيطرت عليه سيطرة كاملة. وهو اليوم — على الرغم من
المؤثرات العديدة المعارِضة له، وتدفُّق الأفكار الأوروبية بقوة — يُمثل الفلسفة
الأساسية للعالم الجديد.
أما في إنجلترا فلم يلقَ المذهب البرجماتي مثل هذه الاستجابة الودِّية؛ ففي حوالي
نهاية القرن الماضي ظهر هذا المذهب، ولم يكن ظهوره راجعًا إلى قوته الخاصة بقدر ما
كان
راجعًا إلى عدم الارتياح إلى اتجاهات الفكر السائدة، وكان أولَ تعبير عنه مؤلَّفٌ
مشترك
نشره هنري ستيرت Henry Sturt في ١٩٠٢م بعنوان
«المثالية الشخصية Personal Idealism». وقد اشترك
في تأليف هذا الكتاب ثمانية من الأعضاء الشبان، أو مُتوسِّطي العمر، في جامعة أكسفورد،
كانوا قد كوَّنوا قبل ذلك بسنوات قليلة (في ١٨٩٨م) «جمعية أكسفورد الفلسفية». وكان
مُؤلِّفو الكتاب في ذلك الحين مجهولين نسبيًّا، ولم يُساهم منهم بنصيب هام في الفلسفة
منذ ذلك الحين إلا ثلاثة؛ هم: ستوت Stout وشيلر
وراشدال. أما الباقون فحسبنا أن نذكر أسماءهم؛ فمنهم ناشر الكتاب، وبويس جبسون W. R. Boyce Gibson (الذي ترجم فيما بعدُ مؤلفات
أويكن Eucken إلى الإنجليزية وأذاعها هناك)، كما
أنه هو الذي أصدر الترجمة الإنجليزية لكتاب هوسرل «أفكار لفينومينولوجيا
خالصة Ideen zu einer reinen Phänomenologie»، وأندرهيل G. E. Underhill
وماريت R. R. Marett (الذي أصبح فيما بعدُ عالمًا
بارزًا في الأنثروبولوجيا) وف. و. بسل F. W. Bussell.
هذه الجماعة لا يُمكن أن تُسمَّى مدرسة فلسفية بالمعنى الدقيق، كما أن أفرادها لم
يُعلنوا عن ولائهم المشترك للمذهب البرجماتي، بل إنَّ كل ما كان يجمع بينهم ميل مشترك
في التفكير والعمل، ولم يتبدَّ لديهم إلا هدف إيجابي واحد، هو تنمية مبدأ الشخصية
ودعمه، على أساس التجربة، ومع نظرة مثالية إلى العالم، بل إنَّ الرابطة الجامعة بينهم
كانت أقرب إلى الطابع السلبي، وكان قوامها تحديًا صريحًا لأقوى جبهتين فلسفيتين سائدتين
في ذلك الحين؛ أعني الآراء المادية من جهة، والمذهب الهيجلي في أكسفورد من جهة أخرى،
وهو المذهب الذي هاجموه تحت عنوان «المذهب المطلق». وكما أوضح «ستيرت» في مقدمته،
فإن
ما هو مشترك بين هذَين الخصمَين هو تفنيدهما الكامل لفكرة الشخصية والفردية؛ فعلى
حين
أن المذهب الطبيعي يذهب إلى أن الإنسان نتيجةٌ عارضة للعمليات المادية، فإنَّ مذهب
المطلق يصفه بأنه مظهر غير حقيقي للمطلق، وكلا المذهبين لا يقدر الشخصية الحرة
الأخلاقية المستقلة حق قدرها. وهكذا كان العنصر المشترك في العقيدة الفلسفية لمؤلِّفي
كتاب «المثالية الشخصية»، هو اعترافهم بهذه الشخصية وتقديرهم لها.
ومن الضروري أن يحدث الهجوم على مثل هؤلاء الأعداء المُتباينين بأسلحة مختلفة وبقوة
مُتفاوتة. ومن الأمور ذات الدلالة البالغة أن الجانب الأكبر من هذا الهجوم لم يكن
موجهًا ضد المذهب الطبيعي، الذي طالما هاجمته الأوساط الفلسفية واللاهوتية هجومًا
شاملًا كاملًا، وإنما ضد المثالية، التي كان غيرهم خَليقًا بأن يتَّخذ منها حليفًا
في
الهجوم على المذهب الطبيعي. وهكذا ففي نفس الوقت الذي بدأت فيه الواقعية الجديدة
تتقدم (إذ إنَّ كتاب مور «تفنيد المثالية Refutation of Idealism» قد ظهر في العام
التالي)، حدث انشقاق من أوائل الانشقاقات التي تعرَّضت لها جبهة المدرسة الكانْتية
الهيجلية، التي كانت تبدو راسخة لا تتزعزع. وعلى الرغم من تأكيد ستيرت أن المذهب
الشخصي
الجديد لم يكن إلا مرحلةً في تطور الفلسفة التي ظلَّت سائدة في أكسفورد منذ ثلاثين
عامًا؛ فقد وُضِعَ خط فاصل قاطع بين المثالية القديمة والجديدة. ثم ظهر فيما بعدُ
انفصالٌ أوضح بين الاتجاه الذي ظهر الآن للمرة الأولى، وبين الاتجاه الفِكري القديم
في
أكسفورد، ودار الجدل الهائل الحار المتحمِّس بين البرجماتية والهيجلية، وهو الجدل
الذي
قضى على الفلاسفة المُحترفين بالانقسام سنوات طويلة إلى مُعسكرَين مُتضاربَين. وكان
مجيء الهجوم من جامعة أكسفورد، حيث كانت المثالية الألمانية مُسيطرة بلا مُنازع،
عاملًا
على زيادة النزاع إثارة، وزيادة الاهتمام به من جميع الجهات.
وعلى الرغم من أن المذهبَين المثاليَّين في أكسفورد كانا متفقَين في صراعهما مع
المذهب الطبيعي، وفي الاعتقاد الأساسي بأنَّ العالم رُوحيٌّ آخر الأمر، فإنهما سارا
بعد
ذلك في طريقَين تفصل بينهما مسافة واسعة. ومن الجدير بالملاحظة — على وجهٍ خاص —
أن
ستيرت قد كرَّر مرارًا الدعوة إلى الالتجاء إلى التجربة في مجموعة المقالات التي
أشرف
على نَشرِها؛ ولهذا السبب أعرب عن إيثاره لتعبير «المثالية التجريبية»، ولم يتردَّد
في
أن يجمع في مركَّب مفيد بين لفظين كانا — حسب الآراء السائدة — متضادَّين؛ فقد وجه
اللوم إلى الهيجليِّين الجدد لأن مذهبهم لم يقدر التجربة حقَّ قدرها، ولا يُمكن التوفيق
بينه وبين الوقائع. وخص ستيرت نقطتين بالذكر تمثلان عيبين أساسيين في مذهب المطلق؛
الأولى: هي الطريقة التي نقد بها ذلك المذهب التجربة البشرية لا من وجهة نظر بشرية،
وإنما من وجهة نظر لا تُتصوَّر، هي التجربة المطلقة. والثانية: هي تحيزه إلى جانب
العقل
وحده؛ مما أدَّى إلى استبعاد أي فهم كافٍ للجانب الإرادي للطبيعة البشرية. هذان العيبان
كان من شأنهما النظر إلى تصوُّر الشخصية على أنه وهم؛ وبالتالي تجاهُل ما رأت المثالية
الجديدة أنه هو الهدف الرئيسي لتفلسُفها.
وهكذا فإن الإهابة بالتجربة وتأكيد مبدأ الشخصية كوَّنا الأساس المُشترك الذي بنى
عليه المشتركون في هذا الكتاب ما ساهموا به من أبحاثٍ كانت مُتفرقة إلى حدٍّ ما؛
فعلى
حين نجد ستوت يبني مقاله الهام المشهور عن «الخطأ Error» على مذهبه الإرادي الخاص في علم النفس، فإن جبسون قد عرض
مثاليته الروحية، وعرض راشدال مذهبًا ميتافيزيقيًّا ألوهيًّا يسير في اتجاه باركلي
(في
مقاله عن «الشخصية الإلهية والإنسانية، وهو المقال الذي يبشر بأفكاره اللاحقة»).
وهناك
مقالات أقرب إلى الطابع البرجماتي؛ هما: مقال ستيرت عن «الفن والشخصية Art and Personality»، وأهم مِن ذلك مقال شيلر
الأساسي عن «البديهيات بوصفها
مُصادرات Axiomsas Postulates»؛ فهذا المقال يُمثل البداية الحقيقية للمذهب البرجماتي في
صورته الإنجليزية الخاصة؛ ومِن ثَم فهو الجزء الرئيسي في الكتاب، وفيه نستطيع أن
نلمَح
جميع الأفكار الرئيسية التي أثبتَت قيمتها في التطور الهائل للبرجماتية الإنجليزية،
الذي حدَث بعد ذلك بوقت قصير.
وعلى حين أن مِن الواجب النظر إلى الحركة التي بدأت على هذا النحو على أنها قبل كل
شيء ردُّ فعلٍ على المذهب الهيجلي الإنجليزي، وعلى أنها تفسر على هذا النحو تفسيرًا
مباشرًا، فإن سوابقها التاريخية ترجع إلى عهد أسبق من ذلك بكثير. ولكن ينبغي أن نلاحظ
أن البرجماتية ليست هي الاستمرار المباشر لأيَّة حركة أو مدرسة فلسفية خاصة، وإن
يكن من
المُمكن الاهتداء إلى نقاط التقاء محدَّدة مع هذه الحركة أو تلك. والأصح أنها طريقة
جديدة بالفعل في التفكير، مُستمَدة من مصادر متعدِّدة، رفضَت كثيرًا من الأفكار القديمة
واستوعبت غيرها. ولكن أصلها كان يرجع إلى موقف رُوحي محدد تمامًا، وإلى تكيُّف خاص
مع
ظروف استثنائية. ولسنا بحاجة إلى البحث في العوامل الفعلية أو غير الفلسفية، التي
مهَّدت لظهور البرجماتية؛ فموقعها — في ميدان الفلسفة — واضح تمامًا بين الأضداد
النظرية الهائلة التي تمتد طوال تاريخ الفلسفة. فإذا ما وضعنا تقابلًا بين كل زوج
من
الأضداد الآتية: الاسمية والشيئية أو الواقعية، والتجريبية والمعقولية Rationalism، والإرادية Voluntarism والعقلية Intellectualism،
والتعدُّدية والواحدية، والفردية والكلية، واللاتحددية Indeterminism والحتمية، والنظرتين؛ الدينامية والآلية إلى العالم،
والتفاؤلية والتشاؤمية، والتمتُّع بالمعرفة واللاأدرية، والنظرتين الإيجابية الفعالة
والتأمُّلية إلى الحياة، والموقفين العملي والنظري؛ فإن البرجماتية تكون منتمية إلى
الفئة الأولى من كل من هذه الأضداد، ومعارضة للفئة الثانية. ولست أعني من ذلك على
الإطلاق أننا هنا إزاء اختيار تلفيقي لوجهات نظر أو مواقف فكرية متَّسقة فيما بينها
بدرجات مُتفاوتة، وإنما نعني أننا إزاء مركَّب ضروري أصيل، انبثَقَ عن اتِّساق باطن،
كما أننا لسنا هنا إزاء تركيب مذهبي كامل الأطراف مُتوازن بانسجام، ولا تشوبه من
الناحية المنطقية شائبة، وإنما نحن إزاء طريقة متفتحة للتفلسف، متحررة نسبيًّا من
قيود
المذهبية؛ فالبرجماتية ليست مجموعة ثابتة من التعاليم (وبالأحرى ليسَت مذهبًا) بقدر
ما
هي موقف أو تكيف خاص يمكن أن يتمشَّى مع أي شكل مذهبي ممكن، ولما كانت تشمل — بحكم
طبيعتها — عنصرًا جدليًّا، فإنها تستمد غذاءها من صد القوى المعادية بقدر ما تستمدُّه
من جذب القوى الصديقة؛ وبعبارة أخرى: فهي تنتفع من المؤثرات السلبية التي تُثير التناقض
بقدر ما تنتفع من المؤثرات الإيجابية.
كل هذا يتضح إذا ما تناولنا بإيجازٍ بعض المؤثرات التاريخية التي كان لها صدًى فيها.
فمن الممكن أولًا أن نجد بعض أوجُه الشبه الهامة مع المثالية الألمانية — إذا ما
شئنا
ألا نرجع في المقارنة إلى عهدٍ أقدم من ذلك — ولقد كان البرجماتيون أنفسهم يعقدون
أحيانًا مثل هذه المقارنات. فهناك، في نظرية المعرفة، بعض الاتفاق مع كانْت؛ وذلك
في
الرأي القائل إن الذهن يفرض قوانينه على الطبيعة، وإن المعرفة تشيِّد عالمًا منظمًا
من
الخليط المضطرب الذي يتمثَّل عليه المعطى. ولكن هذا الاتفاق يظهر أوضح ما يكون في
فكرة
علو العقل العملي على العقل النظري. أما العلاقة بين فلسفة الفاعلية activist philosophy عند فشته فهي أوثق؛ ففشته
قد ذهب في إخضاع فكرة الحقيقة لفكرة الخير أبعد كثيرًا مما ذهب إليه كانْت، وجعل
العقل
النظري يحقق ذاته في العقل العملي. وهذا يتفق تمامًا مع التعاليم البرجماتية، كما
أن
الاثنين يتفقان اتفاقًا كاملًا في الفكرة القائلة إن العالم ليس إلا المادة المرنة
التي
تُشكِّلها فاعليتنا (أو بتعبير فشته «المادة الحسية لواجبنا»)؛ ولهذا السبب كان
شيلر Scheler على حق حين لاحظ أن من المُمكن تسمية
فشته بالمثالي البرجماتي. ومن جهة أخرى أحست البرجماتية بنفور شديد من هيجل وكل ضرب
من
ضروب المذهب الهيجلي؛ غير أن هذا النفور كانت له ثماره العديدة، وساهم — من حيث هو
حافز
سلبي — في البناء الإيجابي مساهمة غير عادية؛ ومع هذا كله فإن الهوة بين المثالية
الألمانية البرجماتية الأنجلوسكسونية كانت هائلة، ولا يمكن عبورها على الرغم من المساعي
الحميدة المتعددة التي بُذِلَت للوساطة بينهما.
وهناك أيضًا ارتباطات عديدة بطرق فكرية قومية، كبعض تعاليم التجريبية القديمة مثلًا
(ولا سيما هيوم) وفلسفة الموقف الطبيعي؛ فالأساس التجريبي الذي بُنِيَت عليه
البرجماتية، واتخاذها نقطة بدايتها من الفهم السليم للناس الفاعلين، تدل على هذا
الارتباط. غير أن نقاط الاختلاف — على وجه الإجمال — أعظم كثيرًا من نقاط الاتفاق.
وليس
ثمة أهمية كبيرة لذلك الاتفاق الذي يظهر من آنٍ لآخر؛ إذ إنَّ بين طريقتَي التفكير
فارقًا كبيرًا في تركيبهما العقلي العام، وفي ارتباطاتهما الانفعالية، واتجاهاتهما
الأخلاقية، والأمر على خلاف ذلك في حالة بعض اتجاهات القرن التاسع عشر، التي يُمكن
أن
تُعدَّ ممهِّدات روحية مباشرةً لها، ونخص منها بالذكر: مذهب المنفعة عند جون ستورت
مل،
ونظرية الانتقاء الطبيعي في المذهب الدارويني (وهي أهم العناصر الداخلة في تركيب
البرجماتية الإنجليزية)، والمذهب التطوُّري عند سبنسر، وكذلك — وبدرجة كبيرة — فكرة
التطور الخلاق عند برجسون، وفلسفة الحياة والقوة، بما فيها من فاعلية متطرفة، عند
نيتشه، ومحاولات بيرسون وماخ تفسير العمليات الفكرية على أساس مبدأ الاقتصاد، وجميع
المذاهب الفكرية ذات النزعة الإرادية والحيوية. كذلك ساهمَ علم النفس بقوة دافعة
كبيرة؛
وذلك أولًا من حيث هو رد فعل على النظرية الآلية في التداعي والملكات، ثم من حيث
إنه
اتبع إيجابيًّا المذاهب الإرادية الحديثة عند زيجفرت وفُنت وبولسن Paulsen وعلماء النفس الإنجليز والأمريكيين من أصحاب الآراء المماثلة،
مثل ج. وورد، وستوت، وجيمس؛ فالمذهب البرجماتي ينطوي على تقارب وثيق في تركيبِه
ومضمونه، وعلى اشتراك في الغاية، والمزاج الفلسفي، مع كل هذه المؤثِّرات وغيرها مما
ظهر
في العشرات الأخيرة من السنين. وكان هدف المذهب البرجماتي هو الانتفاع من جميع هذه
الأفكار، ثم تحويرها بحيث يجمع بينها في مركب روحي أعلى؛ فالمذهب إذن ليس بدعة تامة،
كما يزعم. وليس مجرد تحوير لأفكارٍ قديمة، كما يزعم خصومه، وإنما هو مركَّب أصيل
بين
القديم والحديث، ونقطة تجمَّعت فيها قوًى بعضها جاذب وبعضها صادٌّ، وحركة لم تظهر
بناءً
على اهتمامٍ نظري بحت، بقدر ما ظهرت من العلاقة المباشرة بالحياة ذاتها ونتائجها
بالنسبة إلى الوجود الإنساني. وهكذا تستطيع البرجماتية أن تسدي خدمة جليلة إلى الحياة؛
إذ تعلي الحياة على الفكر، والحياة العملية على الحياة التأمُّلية، والإنسان المُكتمل
النشاط بما فيه من خطأ وسعي وإرادة ومُعاملات على الإنسان الذي ينمِّي جانبًا واحدًا
منه، بحيث يغدو كائنًا عقليًّا فحسب، وعلى التفاني في سبيل مُثلٍ عُليا خيالية لا
يحيط
بها كيانه الكامل.
(١) فرديناند كاننج سكوت
شيلر Ferdinand Caning Scott Schiller (١٨٦٤–١٩٣٧م)
من أصلٍ ألماني، نزل إنجلترا في سنوات عمره الأولى، وتعلَّم في «رجبي Rugby» وكلية باليول بأكسفورد، وأصبح فيما بعدُ
زميلًا ومدرسًا بكلية «كوربس
كريستي Corpus Christi» في أكسفورد. وقد عمل وقتًا ما محاضرًا في المنطق
والميتافيزيقا بجامعة كورنيل في إيثاكا (بولاية نيويورك)، وفيما بعد عُيِّنَ
أستاذًا بجامعة كاليفورنيا الجنوبية في لوس أنجيلوس.
مؤلفاته: «ألغاز أبو الهول، بقلم واحد من سكان الكهوف
Riddles of
the Sphinx, by a Troglodyte»
١ (ظهر الكتاب دون اسمٍ للمؤلف) ١٨٩١م (الطبعة
الثانية وعليها اسمه، ١٨٩٤م، طبعة جديدة ١٩١٠م)؛ «البديهيات بوصفها مصادرات
Axioms as Postulates»؛ ١٩٠٢م
(مقال في كتاب «المثالية الشخصية» نشره ﻫ. ستيرت)؛ «النزعة الإنسانية، أبحاث
فلسفية
Humanism: Philosophical Essays» ١٩٠٣م (الطبعة الثانية ١٩١٢م)؛ «دراسات في النزعة الإنسانية
Studies in Humanism» ١٩٠٧م
(الطبعة الثانية، ١٩١٢م) «أفلاطون أم
بروتاجوراس؟
Plato or Protagoras?» ١٩٠٨م؛ «المنطق
الصوري
Formal Logic» ١٩١٢م (الطبعة الثانية، ١٩٣١م)؛ «مشكلات الإيمان
Problems of Belief» ١٩٢٤م؛ «لمَ النزعة الإنسانية؟
Why Humanism?» (مقال في «الفلسفة
الإنجليزية المعاصرة»، نشره ج. ﻫ. مويرهيد، المجموعة الأولى، ١٩٢٤م)؛ «تانتالوس،
أو مستقبل
الإنسان
Tantalus, or The Future of Man»،
٢ ١٩٢٤م (تُرجم إلى الألمانية في ١٩٢٦م)؛ «مذهب تحسين السلالات والسياسة
Eugenics & Politics»
١٩٢٦م؛ «كاساندرا، أو مستقبل الإمبراطورية البريطانية
Cassandra, or
The Future of the British Empire»
٣ ١٩٢٦م؛ مقال بعنوان «المذهب البرجماتي» في «دائرة المعارف البريطانية»،
الطبعة الرابعة عشرة، ١٩٢٩م؛ «المنطق مطبقًا: مدخل إلى النظرية الإرادية في المعرفة
Logic for Use: An Introduction to the Voluntarist Theory of Knowledge» ١٩٢٩م؛
«التحلل الاجتماعي،
والإصلاح الذي يُحدِثه علم تحسين السُّلالات
Social Decay & Eugenical Reform» ١٩٣٢م؛ «هل
اختلاف الفلاسفة واجب؟ ومقالات أخرى في الفلسفة الشعبية
Must Philosophers Disagree and Other Essays in Popular Philosophy» ١٩٣٤م؛
وقد ظهرت بعض المقالات من كتابي «النزعة الإنسانية» وكذلك من «دراسات في النزعة
الإنسانية»، وكذلك بحث «البديهيات بوصفها مصادرات»، في ترجمة ألمانية قام بها
رودلف أيزلر
Rudolf Eisler بعنوان
«النزعة الإنسانية، مساهمات في فلسفة برجماتية
Humanismus, Beiträge zu Einer Pragmatischen Philosophie» مكتبة الفلسفة
وعلم الاجتماع، ١٩١١م.
على شخصية ف. ك. س. شيلر وأعماله يتوقَّف مصير البرجماتية الإنجليزية نجاحًا أو
إخفاقًا؛ فقد ظلَّ طوال جيل كامل يرفع رايتها بلا كلل، ويُدافع عنها ضد أي هجوم،
ويدعو إليها بإصرار. ولقد كان — بحكم نزوعه الطبيعي إلى القتال — على استعدادٍ دائم
للعمل، ولتوجيه الضربات في كل الجهات. فكان أحيانًا يشنُّ هجومه على معسكر الأعداء،
وأحيانًا أخرى يتراجع إلى موقفٍ دفاعيٍّ، وأحيانًا ثالثة يخوض ساحة القتال بهجوم
جديد. وكانت له خبرة تامة بجميع الأسلحة اللازمة للقتال؛ من قُدرة على الرد المفحم،
وسرعة بديهية، وجرأة فائقة، وهزء وتهكُّم، وسخرية وذكاء، ومن قولٍ لمَّاح وجدل
صائب؛ فهو، بين مُعاصريه من الفلاسفة الإنجليز، أقدرهم على الجدل، وأسرعهم إلى
القتال، وصاحب أجمل أسلوب حي في الكتابة. ولم تكن الفلسفة بالنسبة إلى شيلر موضوعًا
للتعلُّم، أو للمعرفة الفنية بمعناها الدقيق، أو هدفًا يُبلغ بالتأمل الذاتي أو
باتباع طريقة الصدمات العنيفة، أو إرضاءً لحاجات نظرية أو جمالية أو ما شابهها،
وإنما كانت تعبيرًا عن شخصية متجدِّدة حرة وفيضًا منبثقًا عنها. وكانت أقرب إلى
طبيعة الرياضة أو اللهو منها إلى التعلم أو البحث أو الدعوة إلى الإيمان.
ولقد نشأ شيلر في أكسفورد، واتخذ منها مقرًّا له حتى وفاته، إذا استثنَينا بعض
سفراته إلى أمريكا. وقد بدأ دراساته في الجامعة بعد وفاة جرين مباشرةً، عندما كان
المذهب الهيجلي في صعودٍ؛ غير أن تأثير المذهب الهيجلي لم يَجرفه كما جرف معظم طلاب
الفلسفة في أكسفورد ذلك الحين، بل أبدى له منذ البداية مُقاومةً عنيفة. ولم يَشعُر
بأيِّ اتفاق مع كتاب جرين «المدخل» الذي عُرض عليه بوصفه مدخلًا إلى الفلسفة، وشعر
بالنفور، ليس فقط من الروح الفلسفية الجديدة في أكسفورد، بل أيضًا من كل الطريقة
المدرسية غير العمَلية التي كانت الفلسفة (والمنطق بوجه خاص) تُدرس بها في الجامعة،
وتُوجَّه بها إلى تحقيق أغراض الامتحانات. وسرعان ما غاص في خضمِّ النظرية
الداروينية التطورية، وانزلق في دوامة السيل التطوُّري الجارف. وقد أشاد بفضلها
في
أول كتابٍ نشره، وظهر في ١٨٩١م، بعنوان «ألغاز أبي الهول»، وكان لهذا الكتاب عنوان
فرعي له دلالته، هو «دراسة في فلسفة التطور، كتبها واحد من سكان الكهوف». وينتمي
كتاب «ألغاز أبي الهول» إلى الفترة السابقة على البرجماتية في تفكير شيلر، وإن يكن
يَستبِق أفكاره التالية في نواحٍ مُتعدِّدة. وعلى أية حالٍ فلم يكن موقفه البرجماتي
قد اكتمل عندئذٍ بطريقة واعية، وإنما كان راقدًا في سبات، في غياهب هذا الوعي، وكان
في حاجة إلى التصريح بالانطلاق لكي يبدأ حياته؛ غير أن هذا العمل المبكِّر ينطوي
على برهان رائع على وحدة تطوُّره العقلي واتساقه. وقد اكتشف هو ذاته أنه كان، حتى
في ذلك الحين، برجماتيًّا دون أن يشعر (ويتمثَّل ذلك على نحوٍ أوضح بكثير من «ألغاز
أبو الهول» في مقالٍ ظهر بعدَه بوقتٍ قصير، في ١٨٩٢م، بعنوان «الواقع والمثالية Reality & Idealism» وأُعيد طبعُه
في كتابه «النزعة الإنسانية»، المقال السابع).
ويتَّصف كتاب شيلر — الذي ألَّفه وهو في السابعة والعشرين من عمره — بطابعٍ
تأمُّلي نظري إلى أبعد حدٍّ، وفيه يخوض باندفاع الشباب أخطر مُشكلات الإنسانية.
وهنا نجده يسير على نحو مُخالف تمامًا لطريقته المتأخِّرة التي كان يقف فيها موقف
التحفُّظ الحريص من المشكلات الميتافيزيقية. ومن الميتافيزيقا بوصفها علمًا
إيجابيًّا بنَّاءً بوجهٍ عام؛ فهو يقدم مذهبًا في الفلسفة شيَّدته موهبة تأمُّلية
قوية، وعرض حتى تفاصيله الدقيقة، وتحتل فيه فكرة التطور موقعًا رئيسيًّا؛ فالفلسفة
— من حيث هي نظرية في الحياة — هي مسألة عملية لا مسألة نظر وتأمل. وهذا يصدُق على
النزوع التأمُّلي، الذي هو في أصله وطبيعته عملي بدوره قبل كل شيء. هذه المُحاولة
الجريئة، التي قامت بها رُوح فتيَّة، تكشف منذ البداية عن تلك النظرة الشديدة
التفاؤل إلى المعرفة، التي لم يتخلَّ شيلر عنها أبدًا، والتي وقف يدافع عنها فيما
بعد ضد الاتجاهات الانحلالية في الفلسفة المعاصرة، كاللاأدرية ومذهب الشك والتشاؤم.
وفي الوقت نفسه دخل شيلر في صراع ضد المذهب الهيجلي؛ أي ضد «أبرع مذهب من الأوهام
يزدان به تاريخ الفكر».
٤ فهو يلوم الهيجلية، التي تضع التجريدات محلَّ الواقع لأنها هي ذاتها لا
صلة لها بالواقع؛ يلومها بوصفها احتيالًا عقليًّا، ويزدريها على أساس أنها أكثر
المذاهب الميتافيزيقية المجرَّدة كلها بطلانًا. وعلى العكس من ذلك، ينادي شيلر بأن
تكون الميتافيزيقا والمنهج الميتافيزيقي عينية، وأن تُبنى على أساسٍ من العلوم
الدقيقة والتجربة البشرية. وفيما بعدُ يقول — متمشيًا مع هذا الرأي: إن تفكيرنا
كله
ينبغي بالضرورة أن يكون على صورة الإنسان
(
anthropomorphic) (فلم يكن لفظ «البرجماتي» قد
استُخدم بعدُ)، وإن حقيقة الأنا الشخصي هي أساس الحياة كلها، وإن الفرد مِفتاحُ
لغز
العالم. وهكذا أصبح، حتى في هذا الكتاب الأول، يربط بين المذهب الشخصي والمذهب
التعدُّدي، وأخذ يؤيد — في مقابل الواحدية الهيجلية وغيرها من صور المذهب الواحدي
—
حقوق الأفراد الكثيرين في مقابل «الواحد»، عن طريق الالتجاء إلى شهادة التجربة التي
تَكشِف لنا عن كثرة زاخرة من الظواهر والوقائع، لا عن وحدة مُفتقِرة إلى التمييز،
تستوعب في ذاتها كل شيء.
على هذه الأفكار الأساسية يبني شيلر أنظاره في طبيعة الله، وهو موضوعٌ أفرد له
شيلر مكانًا كبيرًا في الجزء الإيجابي من كتابه. فلا يُمكن أن يكون الله هو الواحد
الذي يكمن من وراء الكثرة، كما لا يُمكن القول إنه هو الطبيعة أو العالم، وإنما
هو
مجرَّد فرد واحد ضمن أفراد كثيرين؛ ومِن ثَم كان وجود الآخرين يحدُّ من وجوده. ومن
شخصية الله وفرديته يستدلُّ شيلر على تناهيه، وهي فكرة صاغها جون ستورت مل مِن
قَبلُ، ونجدها لدى عدة مُفكِّرين لاحقين. ومن الواجب أن ننظر إلى هذا الإله
المتناهي، في علاقته بالعالم، على أنه كامنٌ وعالٍ معًا؛ فهو كامن بقدرِ ما هو قوة
دائمة الفعل، تبثُّ الحياة في كل شيء، وهو عالٍ من حيث إنه لا يُشتِّت ذاته في كلية
الأشياء، كما يقول أصحاب مذهب شمول الألوهية، وإنما لديه شخصية حقيقية؛ أي إنَّ
له
وجودًا عاليًا في مقابل الأفراد الآخرين. والله — من وجهة نظر التطور — هو الغاية
النهائية وأرفع مَثل أعلى، وهو اكتمال الطبيعة الكونية؛ بمعنى أن جميع العوامل
والاتجاهات الجزئية تصل إلى الانسجام والتوافُق الكامل فيه؛ وعلى هذا النحو ينظر
شيلر إلى الشر والعنصر الضار بالعالم؛ فهو ما يُقاوم الإرادة الإلهية؛ وبالتالي
ما
يعوق تقدُّم التطور؛ غير أن الشر عنصرٌ ضروري في العالم، بقدر ما يكون هذا عالمَ
صيرورة وتحول في الزمان؛ فالنزوع إلى تقدُّم العالم يسير نحو الكمال والانسجام
والنظام الكوني. وهذا يعني أن الشر يُقمَع باستمرار التقدم، ثم يُقضى عليه آخر
الأمر. ويضع شيلر صيغته الخاصة لمبدأ التطور على أساس أن مجرى العالم يَنتقِل من
لا
وجودٍ سحيق القدم إلى صيرورة زمانية ثم إلى وجود أزلي. وفي الوجود الأزلي، الذي
تتطوَّر إليه الصيرورة الكونية تدريجيًّا من اللاوجود السحيق القدم؛ حيث يفتقر
الكون إلى النظام ويكون سويًّا مُنعزلًا؛ في هذا الوجود الأزلي تلمح أنظارنا سعادةً
وطمأنينة تعلو على كل عقل، وتُمحى آخر آثار الشقاق الذي يسبق النظام الكوني، والذي
لا تعدُّ معركة الحياة إلا ظلًّا باهتًا له. وفي هذا يكون حل لغز «أبو
الهول».
هذه المرحلة المبكِّرة في تفكيره، وإن تكن تتحرَّك في الجو الذي خلقه دارون
وسبنسر، تتميَّز عن المحاولات المُماثلة في نقطتين أساسيتَين؛ فهي ضد المذهب
الطبيعي، وضد اللاأدرية. وهي تَستلهم حماسةً قوية نحو المثالية؛ فهي لا تتوقَّف
—
كما فعل سبنسر — أمام الأسئلة النهائية، وإنما تجذبها إلى دائرة البحث الفلسفي،
وتُحاول الإجابة عنها بإصرار. وقد تحوَّل شيلر — بعد هذا الاستطراد في مجال
الميتافيزيقا — إلى مجالات أكثر تخصُّصًا، وشغل بالأبحاث المنطقية والنفسية
والإبستمولوجية، وخلال هذه الأبحاث وجد نفسه يزداد اقترابًا بالتدريج من الموقف
البرجماتي. وقد وصَل إلى هذا الموقف في جميع النقاط الأساسية تقريبًا، في مقاله
الرئيسي «البديهيات بوصفها مُصادرات»، وهو المقال الذي ظهر في ١٩٠٢م (انظر من قبل
[الباب الثاني: المدارس الفكرية المتأخرة – الفصل الثاني: المذهب البرجماتي]). وكما
قلنا من قبل، فإنَّ تفكير شيلر كان يسبق هذا الموقف منذ زمان طويل. ولكن
ظهرت بعض المؤثِّرات الخارجية القوية التي أدَّت إلى إخراجه أخيرًا إلى حيز الوجود.
أول هذه المؤثِّرات وأهمها هو اتصاله بالمذهب البرجماتي الأمريكي، ولا سيما بأبلغ
داعية له ومدافع عنه؛ أعني وليم جيمس؛ فقُرب نهاية القرن الماضي، وقَع شيلر تحت
تأثير جيمس، وتمَّت بينهما صداقة وثيقة، وبفضل جيمس اتخذ الخطوة النهائية نحو تكوين
مذهب فكريٍّ برجماتي، ولا سيما الأخذ بما يستتبعه هذا المذهب من نتائج نفسية
وأخلاقية وميتافيزيقية. أما المؤثِّر الثاني، فكان الاتجاه الجديد الذي سار فيه
علم
النفس في العقدَين الأخيرَين من القرن، والذي يتَّسم بالاستعاضة بالنظرة الغائية
الإرادية إلى الحياة الذهنية عن الآراء العقلية الآلية الترابطية؛ ذلك لأن هذه
الحركة، التي بدأت في ألمانيا بقيادة «فُنت» قد وجدت مُمثِّلين رئيسيِّين لها في
البلاد الأنجلوسكسونية؛ وذلك في الأبحاث النفسية التي أجراها وورد وستوت وكذلك
جيمس. وعلى الرغم من أن هذه الأبحاث لم تكن برجماتية؛ فمن الواجب أن نعدَّها حليفةً
قوية للمذهب البرجماتي ولا سيما في صورته الإنجليزية. ولقد تأثَّر شيلر بوورد إلى
حدٍّ بعيد، ليس فقط في علم النفس، بل في آرائه الفلسفية العامة أيضًا، وأما العامل
الثالث فينتمي إلى مجال المنطق، وهو ذو أهمية خاصة بالنِّسبة إلى تطور المذهب
البرجماتي الإنجليزي. وقد اعترف شيلر نفسه بفضل ذلك المنطقي الذي طالَما تجاهَلَه
الناس؛ أعني سدجويك (انظر فيما بعدُ [الباب الثاني: المدارس الفكرية المتأخرة –
الفصل الثاني: المذهب البرجماتي])، بوصفه واحدًا من أول من أعطوا اتجاهًا
جديدًا للمنطق؛ ذلك المبحث الذي ظلَّ، أكثر من أيِّ مبحثٍ آخر، متوقفًا عند أساليبه
ومسالكه القديمة؛ ذلك لأنَّ سدجويك قام، قبل وقتٍ طويل من ظهور الحركة البرجماتية،
بتوجيه نقد دقيق (يُسميه شيلر نقدًا «حوَّل مجرى التاريخ») إلى المنطق الصوري
البحت، الذي اعتمد على التجريد من التفكير الفِعلي، وضيَّع جهوده في أبحاث عقيمة.
وقد دعا سدجويك إلى القضاء على كل هذا الجهاز التجريدي المصطنع، الذي لا يرمي إلا
إلى القيام بنوع من التمرينات الرياضية الذهنية، ودعا إلى تطبيقه عمليًّا وتسخيره
لخدمة الحياة والعلم. وهكذا فإنَّ شيلر، الذي كان يوجه اهتمامًا كبيرًا إلى المنطق
منذ البداية، قد خضع عن طيبة خاطر لهذه المؤثرات، لا سيما وقد كانت تبدو هناك حركة
مُماثلة بين مَناطِقة آخرين (منهم مثلًا زيجفرت وفُنت وبين Bain ومل)، وأدمجها في الحركة البرجماتية.
وكان ذلك هو الذي جعل المذهب البرجماتي عند شيلر يتوطَّد قبل كل شيء في مجال
المنطق، ويتَّخذ من هذا المبحث ميدانًا خاصًّا له. وكانت ميزة هذا الموقف هي أنه
دفع الحركة في طريق أكثر تحددًا، وأتاح لها أن تُبرهن على منهجها وتُثبته في ميدان
محدد المعالم من ميادين البحث. وهكذا لم تَعُد البرجماتية مجرَّد موقف ذهني، كما
كانت أساسًا عند جيمس، وأصبحت أقرب إلى المذهب المحدَّد الدقيق المنهجي (وإن كان
الطابع الغالب عليها، حتى عند شيلر نفسه، هو أنها موقف من الحياة أو نظرة إليها).
وهكذا كان شيلر — بالنسبة إلى جيمس — أدقَّ ذهنًا وأكثر منهجية ونظامًا، فضلًا عن
أنه أجرأ وأكثر اتساقًا. ومن المنطق ونظرية الحقيقة المُرتبِطة به (والتي هي لُبُّ
مذهب شيلر)، يشعُّ ضوء البرجماتية على المجالات الأخرى للفلسفة: على علم النفس،
ونظرية القيمة، ونظرية المعرفة، والأخلاق، والميتافيزيقا، وفلسفة الدين. وهذه كلها
نتائج لمبدئها المنطقي الأساسي، الذي يتغلغل فيها كلها بدرجات متفاوتة. وقد تجاوزت
بعض هذه الدراسات — كالمبحثين الأخيرَين مثلًا — حدود البرجماتية بمعناها الضيق.
ولكنَّها مع ذلك تعالج في ظل تطبيق أكثر تحرُّرًا وأقل تزمتًا لنفس المبدأ.
وتمتدُّ جهود شيلر لإصلاح المنطق (وهي الجهود التي تُمثِّل أهم نطاق برنامجه،
والتي كانت موضوع اهتمامه الأعظم)، تمتدُّ هذه الجهود طوال جميع كتاباته التي
ألَّفها في الأعوام الثلاثين الأخيرة، منذ مقاله في ١٩٠٢م إلى بحثه الأخير للموضوع
في كتاب «المنطق مطبقًا»، بل وحتى بعد ذلك الكتاب (انظر «أعمال الجمعية
الأرسططالية Transactions of the Aristotelian Society» ١٩٣١م، ومقال «قيمة المنطق الصوري The Value of Formal Logic» في مجلة
Mind، المجلد ٤١، ١٩٣٢م)، وفيما بين هذَين
التاريخين دخل في نزاع شامل مع الخصم في كتابه «المنطق الصوري Formal Logic» (١٩١٢م)، الذي سبقته، وتلته مُناوشات صغيرة لا
حصر لها، في صورة أبحاث ومحاضرات وانتقادات ومناقشات وتعليقات.
ويتميَّز المنطق البرجماتي — كما عرضه شيلر وغيره — بأنه جدلي أو خلافي
polemical قبل كل شيء، ولا يرجع ذلك فقط إلى
أنه صادف في بدايته خصمًا عنيدًا ينبغي التغلب عليه، بل لأنَّ الخلاف ينتمي إلى
ماهيته ولا ينفصل عنها. وهكذا يستطيع المرء أن يقول: إنه كان خليقًا بأن يخلق لنفسه
خصمًا، حتى لو لم يكن هناك خصمٌ مُستعدٌّ لمواجهته. ولكن هذا الخصم، وهو المنطق
الصوري التقليدي الذي ظلَّ مُحتفظًا بمركزه في مناهج الجامعات الإنجليزية وقتًا
أطول وبعنادٍ أعظم مما ظلَّ في أي مكان آخر؛ هذا الخصم قد تحوَّل على يد
البرجماتيِّين إلى صورةٍ مشوهة تمامًا، وإلى شبح يتوقع منا أن نَرتعد أمامه، حتى
يبدو المُبرر إلى النقد أقوى، والحاجة إلى الإصلاح أمسَّ. وعلى الرغم من أن الخصم
الذي يُقدمه إلينا المنطق البرجماتي هو في المحلِّ الأول مخلوق وهمي؛ فمن الواجب
ألا ننسى أن نقد شيلر قد وجَّه ضرباته المُميتة، في موضعها، إلى بعض مظاهر المبالغة
والانحلال التي لا يشكُّ فيها أحد، وأن تشويه الصورة التي رسمها لخصمِه ليزيد من
فائدة النقد، وله نفع كبير في إقرار موقفه الخاص ودعمه. وهذا هو تبريره
البرجماتي.
ويدور نقد شيلر للمنطق التقليدي حول نقطة واحدة تمامًا. فليس للمنطق مجال مُنطوٍ
على نفسه ومُكتفٍ بذاته، ومُنفصِل عن جميع الاهتمامات البشرية الأخرى. وليس ثمة
حقيقة يمكن أن ترتبط بمجال من الصحة المحصنة أو القيمة الخالصة التي تعلو على
الواقع بأسره. وإذن فليس ثمَّة حقيقة أزلية، مطلقة الصحة، مستقلة عن كل تجربة بشرية
أو أولية؛ غير أن المنطق الصوري أو الخالص قد اعتكف في هذا المجال اللاحقيقي،
الخالي من كل محتوًى عيني، والمنفصل عن كل العلاقات البشرية. وهكذا فإنَّ المنطق
الصوري، بتجرُّده من كل تفكير فِعلي، واقتصاره على عرض قواعد شكلية محضة تَسري على
ما يُسمَّى بالفكر الخالص، قد تحوَّل إلى تلاعب فارغ بالألفاظ والأفكار، وانحطَّ
إلى مرتبة البهلوانيات والشعوذات العقيمة الخالية من كل معنًى. فهو عملية عقيمة
تمامًا، خلت من كل مضمون حقيقي. ولقد جعل ذلك المنطق من فقره وهزاله هذا فضيلة؛
فهو
يُغلف نفسه بإطار من العزلة المغرورة، ويحرص بدقَّة على الاحتفاظ بأرضه المقدَّسة،
ولكي يُبرِّر ذاته اخترع مثلًا أعلى، شيَّد على أساسه بناءَه الخيالي؛ وأعني به
المثَل الأعلى القائل بالحقيقة من أجل الحقيقة أو بالمعرفة لذاتها. ولكنه مع دعوته
إلى الحقيقة لذاتها والمعرفة لذاتها لا يُجيب عن السؤال عن معنى الحقيقة وعن هدف
المعرفة.
عند هذه النقطة يبدأ إصلاح المنطق، الذي يتحقَّق مباشرةً بالنقد؛ فعن طريق النقد
يُبيِّن أن المنطق الذي يستبعد التفكير الحقيقي، ويستبعد العنصر الإنساني بالتجريد،
ينحطُّ إلى مرتبة التعامل اللَّفظي العقيم الخالي من كل معنى. ولكن الإنسان، بوصفه
خالق الحقيقة وكذلك المنطق، لا يُمكنه أن يسمح لنفسه بأن يظلَّ إلى الأبد سجينًا
لشيء خلقه ذهنه هو. وهكذا يُعدل شيلر بيتًا مقتبسًا مشهورًا، بحيث يُصبح:
فليَستبعِد المنطق الإنسان كما يشاء، فسوف يرجع الإنسان على الدوام.
٥ وعلى ذلك فإنَّ أهم الأمور وألزمها هو إيجاد مكانٍ للإنسان من جديد في
نظرية المنطق والحقيقة. ولكن ليس المقصود هنا هو الإنسان الذي يرد إلى الناحية
النظرية فقط، المُشتغل بالفكر والحكم والعمليات المنطقية فقط، وإنما المقصود هو
الإنسان في وجوده المُكتمِل وبجميع عواطفه ورغباته وأحاسيسه ونوازعه وأفعاله
ومعاملاته وأغراضه وأهدافه وغاياته. ومعنى ذلك أن من الواجب إيجاد روابط وثيقة
جدًّا بين المنطق وبين العلوم الإنسانية (كالأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع وعلم
الحياة)، وقبل هؤلاء جميعًا: بعلم النفس. ومن هنا فإن المنطق البرجماتي نفساني
بطريقة واعية مؤكدة، وهو يعلن صراحةً أن المنطق الخالص غير قابل للتنفيذ عمليًّا.
وهو لا يتأثَّر بأيِّ نقد يوجَّه إليه لكونه نفسانيًّا؛ إذ إنه لا يودُّ إلا أن
يكون نفسانيًّا، وصراعه إنما يكون مع أولئك الذين يُوجِّهون هذا النقد إليه.
لذلك ينبغي أن نُصحِّح كل ما فعله أولئك الذين تصدَّوا لمحو الطابع الشخصي من
الحقيقة وإزالة الطابع الإنساني من المعرفة. وعلينا أن نحرر المنطق (والفلسفة عامة)
من لعنة النزعة العقلية، ومِن تخريفات الفكر الخالص. فلا يُمكن فصل المنطق عن علم
النفس؛ لأن جميع التركيبات المنطقية إنما هي نواتج لوظائف نفسية. وكل حقيقة تتقرَّر
تبعًا لظروف الإنسان، وترتبط بوقائع إنسانية. أما الحقيقة التي ليسَت حقيقة للناس،
ولا تخدم أهدافًا ومصالح إنسانية. فليس لها أن تدَّعي لنفسها هذا الشرف الرفيع.
ألم
يحنِ الوقت أخيرًا لتنفيذ «تغيير كانْت الكبرنيكي لوجهة النظر» عمليًّا، وبشكل جدي،
ولوصف الحقيقة — أخيرًا — في جمالها وبساطتها الإنسانية، بدلًا من تقديمها قربانًا
لأصنامٍ والتضحية بها من أجل «مُثُل عليا؟»
٦ يجب أن تكون الحقيقة في خدمة الحياة، وأن تستقرَّ بين ظهرانينا، وألا
تنسحب إلى عالم لا واقعي أو فوق الواقعي، أو إلى مجالٍ ناءٍ عجيب، لا صلة له على
الإطلاق بالحياة ومشاغلها.
فإن كانت الحقيقة أمرًا إنسانيًّا محضًا، فإنَّ السؤال عن ماهيَّتها أو طريقة
وجودها لا تكون له أهمية السؤال عن كيفية ظهور حقائق محدَّدة، وكيفية إقرارها، أو
كيفية صياغتها، كما يقول شيلر. فعلينا أن نتأمَّل الطريقة التي تصنع بها الحقائق
العينية الفردية أو الأحكام الصحيحة. وهكذا فإنَّ نظرية الحقيقة عند البرجماتيِّين
تتركَّز في مسألة خاصة تمامًا، وتتجاهَل عمدًا جميع الأوجه الأخرى للمُشكلة. هذه
المسألة — التي كان البرجماتيون في اعتقادي أول من أثاروها — هي: كيف يتَّضح في
كثير من الأحيان أن القضايا التي تدَّعي لنفسها الحقيقة، هي قضايا باطلة؟ أهناك
أيُّ معيار نُميِّز به بين مجرد ادعاء الحقيقة وبين الحقيقة الأصيلة؟ وهكذا فإن
نقطة بداية النظرية البرجماتية هي الحقيقة القائلة: إن هناك أخطاء تدَّعي لنفسها
الصحة، مقترنة برغبتنا الطبيعية في الكشف عن هذه الأخطاء. فهذه النظرية تتناول
المشكلة منذ البداية من منظورَي الصواب والخطأ، لا من وجهة نظر الصواب وحدها.
وعلينا أن نُميز — داخل أية مجموعة من القضايا المعطاة — بين تلك التي تكون صحيحة
بحق، وتلك التي تكتفي بادعاء الصحة. ومن الواجب — فيما يتعلَّق بهذه الأخيرة — أن
نبحث إن كان ادِّعاؤها له ما يُبرِّره أم لا، وإن كان من الواجب تصنيفها على أنها
أخطاء أم حقائق. وعلى ذلك فإن اختبار وتحقيق ادعاءات الحقيقة (أو إثبات صحتها أو
إقرارها) هي المهمَّة التي تختص بها نظرية الحقيقة، وهي الهدف النهائي للمنطق. ولا
يحقُّ لأية قضية أن تدخل عالم الحقيقة إلا إذا تأكَّدت حقيقةُ ما تقول به أو ثبتت
واجتازت الامتحان.
وهكذا فإن الفصل بين الصواب والخطأ، أو بعبارة أخرى بين الحقائق المُعترَف بها
والادعاءات التي لم تَثبُت بعدُ، يتمُّ على أساس المعيار البرجماتيِّ للحقيقة.
ومعيار الحقيقة هذا هو المبدأ الانتقائي القائل إننا نختار، مِن بين كثرة القضايا
والأقوال والتأكيدات والأحكام … إلخ، ما هو نافع، ونرفُض ما لا فائدة منه. ومن
المُمكن أيضًا أن نقول إننا نُقوِّم مجموعة معيَّنة على أنها باطلة، والأخرى على
أنها صحيحة، بنفس الطريقة التي نُقوِّم بها شيئًا على أنه خير والآخر على أنه شر.
ومن هنا فإنَّ الصواب والخطأ مُرتبطان ارتباطًا وثيقًا بمحمولي القيم الأخلاقيَّين،
الخير والشر، بحيث إن الأولَين هما التعبيران النظريان عن الآخرَين أو المقابلان
النظريان لهما. وهكذا تندمج مشكلة الحقيقة في مشكلة القيمة، والمجال النظري في
العملي. أما القيم النظرية البحتة فلا يمكن أن تعترف بها البرجماتية؛ فجميع القيم
عملية، وأنموذجها هو قيمة الخير. وعند هذه النقطة تظهر الأسبقية المطلق للعملي على
النظري، واستيعاب الأول للثاني استيعابًا كاملًا، وهو الأمر الأساسي بالنسبة إلى
الفلسفة البرجماتية؛ لذلك فالحقائق قيم أو بتعبير أدق: تقويمات، والقضايا الصحيحة
قيمة؛ أما القضايا الباطلة فلها قيمة أقل، أو ليست لها قيمة على الإطلاق.
ولكن على أيِّ أساس نقوم بتقويماتنا؟ إنَّ الإجابة عن هذا السؤال، الذي هو السؤال
عن معيار الحقيقة، توصَّلنا إلى قلب المذهب البرجماتي. ويجيب شيلر عن هذا السؤال
كما يلي، في كل سؤالٍ نُثيره، سواء في العلم أو في الحياة، نستهدف غرضًا خاصًّا
أو
منفعة معيَّنة؛ أي إننا في كل علم نُريد أن نعرف شيئًا ما. فإذا ما كانت الإجابات
مرضية لتساؤلاتنا، وإذا أدَّت إلى تحقيق أغراضنا وإرضاء مصالحنا، فإنا نُقوِّمها
على أنها صحيحة، وإلا فإنا نُقوِّمها على أنها باطلة. ومن هنا فإنَّ الصحة والبطلان
نسبيان بالقياس إلى أهدافنا، وإلى الغرض من وضع السؤال. وعلى قدر ما يكون القول
مُرضيًا للهدف من البحث الذي يَدين القول له بوجوده، أو مساعدًا على تحقيق هذا
الهدف، يكون صحيحًا. وعلى قدر ما يعوق هذا الهدف أو يُخطئه، يكون خطأ. وإذن فمن
الواجب أولًا تقويم الأقوال تبعًا لنتائجها أو آثارها، وحسب تأثيرها في البحث الذي
يكون اهتمامنا مُنصبًّا عليه.
ومن المُمكن أيضًا التعبير عن هذه الفكرة على النحو الآتي؛ فمن الواجب أن يقرَّ
القول أو التأكيد ذاته في السياق الذي يعرض فيه. وينبغي أن يكون مُفيدًا، قابلًا
للتطبيق، نافعًا. ويجبُ أن يُساعد على تحقيق الهدف الذي اتخذته المعرفة لنفسها في
هذه الحالة الخاصة. وينبغي أن تكون له الغلَبة في الصراع من التأكيدات الأخرى الأقل
منه مُلاءمة. وهكذا نصل إلى الارتباط المعروف بين الحقيقة والمنفعة، وإلى الصيغة
المشهورة القائلة بمنفعة الحقيقة (أو قابليتها للاستخدام أو للتطبيق عمليًّا). ولما
كانت هذه الصيغة قد تعرَّضت لسوء فهمٍ لا تُعَد مظاهرُه ولا تُحصى، ودأب خصوم
البرجماتية على مهاجمتها، إما بسوء قصد وإما لعجزهم عن فهمها. فعلينا الآن أن نُقدم
تفسيرًا موجزًا لمعناها الصحيح. ولست أرمي من هذا إلى تبرير البرجماتية، وإنما
سأَقتصِر فقط على شرح الحقائق التي يتركها مُعظم النقاد غامضة.
فمن الواجب أن نُشير أولًا إلى أن أحدًا لا يريد أن يضع الحقيقة والمنفعة على قدم
المساواة، وكأنَّ القول: «إن كل ما هو صحيح نافع» يتساوى مع القول: «إن كل ما هو
نافع صحيح».
٧ فاللفظان — كما يؤكِّد شيلر مرارًا — لا يحلُّ أحدهما محل الآخر.
والمنفعة، بالمعنى الدقيق للكلمة، هي علَّة
وجود
ratio essendi الحقيقة، من حيث إنَّ من المُحال بلوغ أو تأكيد أية حقيقة ما
لم تثبت فائدتها لغرض ما. فكون الشيء نافعًا يعني أن يكون وسيلة لغاية. ومن الواجب
أن نضع في اعتبارنا أشد الغايات تباينًا. وفضلًا عن ذلك؛ فمن الواجب أن تفهم
العلاقة التي تجعل الشيء نافعًا، على أنها علاقة بغرضه الخاص المحدَّد. وأخيرًا
ينبغي أن نلاحظ أن ما يخدم غرضًا محددًا قد لا يخدم غرضًا آخر. ومن هنا فلا يُمكن
لقضية منفعة الحقيقة أن تعني إلا أن كل تأكيدٍ مفيدٌ نافع قابل للتحقيق فعَّال
مُثمر. ولكنها لا تعني العكس؛ أي لا تعني أن كل ما هو مفيد حقيقة؛ فالقول الأخير
لا
معنى له على الإطلاق (وإن يكن قد استُخدم في كثير من الأحيان حُجة ضد البرجماتية)؛
إذ إنَّ مِن الواضح أن الأكذوبة قد تكون نافعة جدًّا. ولكن هذا لا يجعلها صحيحة.
وإذن فالصحيح نافع، ولكن النافع ليس دائمًا صحيحًا.
ولقد انزلق إلى مفهوم المنفعة البرجماتي سوء فهم آخر؛ فمن الواجب ألا تُفهم
المنفعة، في هذا الصدد، بالمعنى الخشن الذي تكون فيه مجرَّد منفعة عملية أو مادية،
وإنما ترتبط المنفعة، في علاقة ضرورية، بالسياق الذي يطلب فيه تحقيق غرض محدَّد
أو
بلوغ هدف معيَّن. مثال ذلك أنه ينبغي — في المجال النظري — أن يكون هناك إثبات نظري
للقضايا، وأن تخضع للهدف العقلي العام الذي نضعه هنا نصب أعيننا. وينبغي أن تُلبي
حاجاتنا من القيم التي نسعى من أجلها إلى القيام بأبحاثنا العلمية مثلًا. وعلى ذلك
فمِن المُمكن — حتى من وجهة النظر البرجماتية — أن نقول: إن الأشياء الصحيحة هي
تلك
التي تكون لها قيمة معرفية، أو تثبت صحتها (أو تحقق) في سياقٍ نظري. وفضلًا عن ذلك
فإن هذا الاتجاه الفكري لا يتَّفق آخر الأمر مع المبدأ البرجماتي الأساسي إلا بقدر
ما يعترف بأن القيمة النظرية ليس لها كيان مُستقل مُتحكِّم في ذاته، وإنما تُعد
قائمة على أساس شروط عمَلية، وخاضعة لأغراض بشرية. وبهذا المعنى تعبُر الهوَّة بين
طريقتَي الكلام اللتَين تبدوان منفصلتَين تمامًا؛ تلك التي تتحدَّث عن الحقيقة
بوصفها منفعة، وتلك التي تتحدث عن الحقيقة بوصفها قيمة منطقية.
ومن الواضح أنَّ النظرية البرجماتية عن الحقيقة، وهي النظرية التي ترى أن قيمة
الحقيقة نسبية تبعًا للإنسان بوصفه مقياسًا للأشياء جميعًا، ولا تعترف بحقيقة لا
يصنعها الإنسان وتسري مُستقلة عنه؛ هذه النظرية ذاتية ونسبية، غير أنها ليست
مُتطرِّفة في فرديتها؛ فهي لا تبني الحقيقة على الاختيار الذاتي الاعتباطي، وإنما
تُحاول أن تجعل لها أسسًا موضوعية معيَّنة؛ فعلى الرغم من أن الفرد هو في البداية
من يَهتدي إلى الحقيقة ويحفظها، فإنه لا يستطيع أن يبتَّ أخيرًا في قيمة الحقيقة
التي اهتدى إليها؛ فالحقيقة نتاج اجتماعي إلى حدٍّ بعيد. ولا بدَّ لضمانها من أكثر
من تقويم فردي؛ أي لا بد أن تُحاول كسب اعتراف المجتمع وتُصبح ملكًا مشاعًا. وهكذا
يتم الاختيار من بين كتلة الحقائق الفردية، وتتكوَّن ذخيرة من الحقائق التي لها
صحة
موضوعية. وينتقل هذا التراث إلى كل فرد جديد باحث عن الحقيقة، فيأخذه هذا الفرد
على
علَّاته؛ لأنه تحقَّق وتأكد. وإذن فالحقيقة الموضوعية هي ما اكتسب اعتراف المجتمع،
بأكمل معاني الكلمة. وهكذا فإن الفهم البرجماتي للحقيقة، الذي هو فرديٌّ في أصله،
يوسع ويُبنى على الرأي الاجتماعي.
وهناك خطوة أخرى نحو صَبغ الحقيقة بصبغة موضوعية، تتمُّ على النحو التالي؛
فالقضايا التي نعترف بصحتها بالنسبة إلى غرض معيَّن، قد يَثبُت عدم كفايتها بالنسبة
إلى غرض عقلي أرفع. وهكذا فإن حقيقتها بالنسبة إلى المستوى الأدنى لا تُلْغَى،
وإنما تُنْقَل إلى مستوًى أعلى، تستخدم فيه سلمًا للوصول. وهذا يصدق أيضًا على
العناصر العِلمية في المعرفة، والنظريات التي كان الناس يُقرون بصحتها وقتًا ما.
ولكن الأبحاث اللاحقة تجاوزتها فيما بعدُ. مثال ذلك: إن من واجبنا أن ننظر إلى
النُّظُم الكونية الثلاثة عند فيثاغورس وبطليموس وكبرنكس على أنها مراحل في الطريق
إلى الاقتراب التدريجي من نظرية مرضية لحركة الأجرام السماوية. فكل منها كان
يُقوَّم بوصفه صحيحًا في عصره، ولا يُمكن أن تسلب منه قيمة الحقيقة. وعندما اكتُشفت
نظرية جديدة فيما بعدُ، أعيد تقويم النظرية القديمة على أنها باطلة. فكشف حقائق
جديدة قد يُؤدي إلى إعادة تقويم الحقائق القديمة. وفي هذه الحالة تطبق الحقيقة
الجديدة على ما مضى، كما لو كانت قد ثبتَت في الماضي؛ وعلى هذا النحو يظلُّ إثبات
الحقيقة داخلًا في المجال البشَري، ولا يُبرر لنا الاعتراف بنظريات مُطبقة على
الماضي، القول بوجود إثباتٍ لصحة النظريات على نحو خارج عن إقرار الإنسان
واعترافه.
ولا بدَّ أنه قد اتَّضح الآن أن الفهم البرجماتي للحقيقة دينامي تمامًا؛ فالحقيقة
ليسَت شيئًا يصحُّ أزلًا، أو ملزمًا على نحو مطلق. وليست شيئًا مقررًا من قبل، ولا
شيئًا يغلبنا على أمرنا، إنها ليست جامدةً قاطعة مُحْكَمة مصقولة، وإنما هي متغلغلة
في عملية الصيرورة، شأنها شأن كل ما هو موجود؛ فهي كشف واختراع، وهي صنع لما هو
جديد وإعادة تشكيل لما هو قديم، وهي خاضعة للصراع من أجل الوجود. وينبغي لها أن
تُداوم بلا انقطاع على العمل من أجل استخلاص حقوقها والاحتفاظ بها؛ ففي المجال
النظري، كما في المجال البيولوجي، نوع من الانتقاء الطبيعي، واستبعاد للأسوأ وبقاء
للأصلح. ولقد كان الحديث عن مبدأ الانتقاء؛ ذلك المبدأ البرجماتي العظيم، وعن قيمة
النظريات من حيث قدرتها على البقاء؛ كان هذا الحديث محببًا إلى نفس شيلر؛ فمن
الواجب أن تكون الحقائق قادرة على البقاء بنفسها. وليس «الحقيقي» آخر الأمر هو ما
يصلح عمليًّا فحسب، بل هو أفضل ما يَصلح عمليًّا. وهنا تظهر نزعة شيلر الداروينية
بوضوح؛ بحيث إن مذهبه إنما هو، إلى حدٍّ بعيد، تطبيق لفكرة الانتقاء الداروينية
على
المنطق. فتارةً يغلب عليه الجانب النفساني، وتارةً أخرى يغلب الجانب البيولوجي،
وتارةً ثالثة يُكمل أحدهما الآخر. وهذا الوجه الأخير أظهر ما يكون في كتابه «المنطق
مطبقًا»، حيث يتأمَّل فكرة الحكم من وجهة النظر هذه فحسب، وحيث لا يقدم منطقًا logic للحكم، وإنما تفسيرًا بيولوجيًّا biologic له؛ فهو هنا يعرض بوضوح رأيه في صبغ
المنطق بالصبغة الداروينية، ويَمضي فيه إلى أبعد مراحله.
وأخيرًا، فإن مشكلة الخطأ، وهي نقطة بداية النظرية البرجماتية، ينبغي أن تُدمج في
هذا المذهب الفِكري؛ فالطابع الدينامي لمفهوم الحقيقة يمنعنا من القول بتضادٍّ شديد
بين الخطأ والصواب، بل يُؤدي بنا أيضًا إلى قضاءٍ شبه تام على التمييز بينهما؛
فطالما أنه لا توجد حقيقة مطلقة، فلا يوجد خطأ مطلق، وإنما هناك مراحل ودرجات لهما
معًا، بحيث ينتقل كلٌّ منهما إلى الآخر، ويتحوَّل الواحد إلى الآخر.
كذلك أضفى شيلر على الخطأ معنى طيبًا، وأعطاه الحق في أن يحتلَّ مكانًا في
العملية الحية لاكتشاف الحقيقة؛ ففي تنافُس النظريات سويًّا على ادِّعاء الحقيقة،
تكون المُنتصرة هي التي تُتجاوَز فيما بعدُ. وعندما يُعترف لها بهذه الصفة، ينبغي
أن تعدَّ خطوة باطلة في سعي معرفتنا إلى بلوغ هدفها؛ أي حقيقة سابقة كانت مقبولة
فيما مضى، واستُعيض عنها الآن بما هو أفضل منها. ولو نظرنا إليها نظرةً راجعة،
لكانت مرحلة مبدئية للحقيقة، تظلُّ لها بهذا الوصف قيمتها الإيجابية في المعرفة.
ولكن الحقائق الناجحة ذاتها قصيرة العمر. فكلَّما كان تقدم العلم أسرع، كان تراكم
الحقائق الجديدة فيه أسرع. وليس لهذه العملية، ولا يمكن أن يكون لها، حدود؛ فالخطأ
سيتحوَّل دائمًا إلى صواب، والصواب ينحلُّ إلى خطأ، ولا يُمكننا أبدًا أن نصادف
في
هذا الصدد قيمة مطلقة.
وإذن فأُولى مهام المنطق هي فهم وإثراء ما اكتسبناه بالفعل من المعرفة، وكشف
معرفة جديدة. أما التعريف والبرهان والاستدلال … إلخ، فهي أمور ثانوية الأهمية،
وهي
خاضعة من جميع الأوجه لهذه المهمة الأولى. إنَّ المنطق البرجماتي، كما يقول شيلر
في
أحد المواضع، هو منطق جرأة ومغامرة. وهو يبدأ من مُستوًى في الوجود مختلف تمامًا
عن
ذلك الذي يبدأ منه كل منطق غير برجماتي. وهذا يُلقي ضوءًا هامًّا على أسسه وعلى
الجذور التي ينبثق منها هجومه العنيف على المنطق التقليدي، ولا سيما مذهب المُطلق.
فهنا يظهر التضاد بين الروح المُغامِرة المتوثبة، المُحبة للتجديد، الجريئة،
المناضلة، والروح المتعبة التي لا تدور أفكارها إلا حول السلام والطمأنينة، والتي
استقرَّت في هدوء داخل مذهب فكري مريح، ورقدت ممدَّدة على أريكة الحقيقة المطلقة.
فبين الاثنين تضاد في المزاج؛ وبالتالي لا يمكن التوفيق بينهما. وهذا التضاد هو
في
أساسه التضاد بين الحياة العاملة
الفعالة vita activa والحياة
التأمُّلية vita contemplativa، بين الإنسان الخلاق، القوي العزم، الطموح، الذي يشكل
الواقع، والإنسان المتأمِّل الناظر الذي يتمتَّع سلبيًّا في سلام.
ويكشف تطور المنطق عند شيلر عن العنصر الأساسي في مذهبه البرجماتي. فكل الأوجه
الأخرى في ذلك المنطق إنما هي إشعاعات من المركز إلى المحيط، وهي تشرح نفسها
بنفسها؛ ففكرة الواقع
reality البرجماتية تتَّفق
اتفاقًا تامًّا مع النظرية البرجماتية في الحقيقة، ومُعظم قضاياها التفصيلية تتلو
منها بطريقة طبيعية. وقد جمع شيلر نفسه بينهما على النحو الآتي؛ فالواقع، الذي
يستخدم مادة للعلم أو نظرية المعرفة يتصف بما يلي: (أ) فهو ليس جامدًا، وإنما مرن
قادر على التطور. (ب) وهو ليس واقعيًّا على نحو مُطلَق غير مشروط، وإنما يكون
واقعيًّا بالنسبة إلى تجربتنا، ومتوقفًا على حالة معرفتنا فحسب. (ﺟ) كما أن تصوُّر
الحقيقة عندنا دائم التغير، بحيث (د) إنَّنا كثيرًا ما نعود فنصف باللاواقعية شيئًا
كان يُعترف وقتًا طويلًا بأنه واقعي. وعلى ذلك (ﻫ) فعلينا أن نُميز بين الواقع
الأصلي أو الأوَّلي، الذي يتطلَّبه كل شيء معطًى تجريبيًّا؛ (و) وبين الواقع
الثانوي أو الواقعي (
real reality)؛ ومن هنا كنا
(ز) نحتاج إلى مبدأ للانتقاء نستطيع عن طريقه أن نُميز بين نوعَين من الواقع، وننسب
إلى أعلاهما المرتبة التي يستحقها.
٨
إنَّ الواقع البرجماتي هو الواقع بالمعنى الدقيق للكلمة؛ أي الواقع الذي نتعامل
معه ونؤثر فيه بالفعل؛ فنحن نجد إزاءنا شيئًا تستطيع فاعليتنا أن تبدأ العمل به
(وتشمل هذه الفاعلية، المعرفة؛ إذ إنَّ المعرفة بدورها نوع من الفعل)، ومنه نُكوِّن
أو نخلق شيئًا، بحيث يتغيَّر الموضوع، ونستطيع أن نُسمي ما هو أمامنا، المادة الخام
للواقع، أو الهيولى (بالمعنى الأرسطي). ولكن علينا ألا نتصوَّر هذا على أنه كتلة
جامدة لا حياة فيها، وإنما على أنه مادة قابلة للتغيُّر والتشكُّل والصياغة إلى
حدٍّ بعيد؛ أي على أنه بالاختصار شيء مرن؛ فالعالم، بالمعنى البرجماتي، ليس واقعة
حاضرة جاهزة، مستقلة عنا، وإنما هو مطلب نتقدَّم به إلى المُعطى؛ أي إنه موضوعٌ
للفعل
Tat-Sache٩ بالمعنى الأصلي للكلمة، وهو المعنى الذي تكشف به اللغة عن طابعها
البرجماتي. فنحن لا نقف إزاء موضوعية الوقائع في مذلَّة وخضوع، وإنما نواجه الواقع
(بالمعنى الصحيح للكلمة؛ أي بمعنى ما نُؤثر فيه واقعيًّا) بنشاطٍ واجتهاد، ليس فقط
بوصفنا أشخاصًا فاعلين، بل أيضًا بوصفنا أشخاصًا نتعلَّم؛ فحتى المعرفة تغير الواقع
الذي يُعرف. وإذن فمن الواجب أن يُنظر إلى العالم، لا على أنه كون جامد راسخ
block-universe على حد تعبير جيمس، وإنما على
أنه كيان مرن؛ فالمرونة هي الفكرة الرئيسية في هذا المذهب عن واقع، وهي تتلو
مباشرةً من نظرة البرجماتية إلى العالم على نحو مُتركز حول الإنسان، بحيث يكون
الإنسان هو مركز الأشياء جميعها ومقياسها، ولا ينظر إلى الواقع بدوره إلا على أنه
أحد العوامل المتوقِّفة على الإنسان والمرتبطة به.
وإذن، فلا يمكن أن تعترف البرجماتية بمعناها الدقيق، بواقع موضوعي يكون مستقلًّا
عن الإنسان ولا يُشكله الإنسان. وعلى الرغم من ذلك فإن البرجماتية تجد نفسها مُضطرة
إلى افتراض مثل هذا الواقع؛ إذ لا يُمكن الزعم بأن الإنسان خالق الأشياء جميعًا.
وهكذا تقع البرجماتية في نقيضة غريبة لا يمكنها أن تحلَّها بمبادئها الخاصة. ومن
هنا فإنها تلجأ إلى تفسيرات مُصطنعة ترمي إلى إذابة ما يُعترف بأنه موضوعي، في تلك
العملية البرجماتية التي تصبغ فيها الأشياء بصبغة ذاتية. وكان في وسعها أن تُخلِّص
نفسها من هذا المأزق لو ذهبت إلى أننا لا نخلق الواقع بمعنى ميتافيزيقي. ولكنا مع
ذلك نخلقه بمعنى إبستمولوجي، أو ذكرت أننا نقول عن الواقع إنه ليس من اكتشافنا أو
من خلقنا إذا كان يسلك على نحوٍ لا يكون من المريح عمليًّا معه أن نعزوه كله إلى
فاعليتنا الذاتية. ولكن البرجماتية — بقدر ما تطبق معيارها الخاصَّ على هذا الواقع
الموضوعي — تناقض تعريفها الخاص، وتشوه ثباته الموضوعي بالالتجاء إلى النزعة
الذاتية.
إنَّ المذهب البرجماتي في الواقع والمعرفة هو مذهب فاعلية Activism مُتطرِّف، لا يفترق كثيرًا عن مذهب الذات الوحيدة Solipsism في صورته العمَلية. فإذا ما
وُوجهت البرجماتية بالسؤال القائل: لِمَ لم يكن العالم من فِعلي؟ كان عليها أن ترد
بأنها لا تواجه الواقع بسؤالٍ عن تركيبه أو طريقة وجوده وإنما بالسؤال الآتي: ما
الذي يتعيَّن عليَّ أن أفعله به؟ وما هي المهام التي ينبغي أن أنجزها به؟ هذا
المذهب تعبير عن عصر الصنعة الفنية (التكنيك) والطموح الفاوستي الكامن فيه نحو
تشكيل الأشياء بلا انقطاع، وإخضاع العالم دائمًا — وبالتدريج — لأهداف الإنسان
وغاياته. إنه هو المثل الأعلى القديم الذي وضعه بيكن، مَثَل المعرفة التي يكون
قوامها القسوة. ولكنَّه موضوع في صورة تُلائم عصرنا. وعلى الرغم من أن البرجماتية
مبنية على التجربة، فإنها تفترق إلى حدٍّ بعيد عن نظرية المعرفة عند التجريبيِّين،
وهي النظرية التي يكفيها التقبل السلبي للمعطى، وإنما هي أقرب إلى مثالية كانْت
وفشته، بما فيها من إيمان بالقسوة الخلَّاقة للذهن، وفكرة تشكيل المادة المُختلطة
للحواس بقوة المعرفة؛ غير أنها تُنبه الروح الأخلاقية الخاصة عند المثالية إلى
الاعتدال، وتستبدل بها غرضية واقعية هي فكرة المنفعة الوظيفية. وإلى هذا الحد نراها
تقف على أرض الواقع الصلبة، في مقابل الميل المثالي إلى التحليق بالعالم في
الهواء.
ولم يعرض شيلر مذهبًا أخلاقيًّا للبرجماتية بوضوح؛ غير أن مثل هذا المذهب كامن من
وراء كل جوانب تفكيره. ومن الممكن التوصُّل إليه بسهولة من خلال آرائه في المنطق
ونظرية المعرفة ومذهبه في القيم؛ فالبرجماتية في جميع أوجهها هي في أساسها أخلاقية،
وأخلاقية فقط. إنها فلسفة العقل العملي وأولويته على كل المجالات الأخرى، فآراؤها
في السلوك الأخلاقي العملي هي التي تُحدِّد مواقع الخطوات التي تسير فيها. ولقد
ناقَش شيلر على وجه التخصيص، من بين المشكلات الأخلاقية الخاصة، مشكلة الحرية،
وحدَّد موقفه في الاختيار بين الحتمية واللاحتمية، وللمرء أن يتوقَّع منه، في ضوء
ما قيل من قبل، اعترافًا كاملًا بالحرية الإنسانية، وقبولًا غير مشروط لشكل من
أشكال اللاحتمية. ولكن الذي نجده بالفعل هو أن شيلر لا يعترف بالحرية إلا إلى مدًى
محدود جدًّا، ويُسلم بمذهب الحتمية في أمور كثيرة. وكان جهده منصبًّا إلى التوفيق
بين مُصادرة الحتمية في العلم، ومصادرة الحرية في الأخلاق، وهما المصادرتان اللتان
كانتا دائمًا مُتعارضتَين؛ فالأولى لها من الأهمية للعلم ما للثانية من الأهمية
للإنسان؛ فمن وجهة النظر الأخلاقية، نستطيع أن نتَّخذ لأنفسنا مثلًا أعلى من كائن
أخلاقي تمامًا، له أعلى قدر من الحرية، على الرغم من أن أفعاله يمكن حسابها
وتحديدها بدقة؛ ففي وسعنا أن نستغني عن مُصادَرة الحرية بالنسبة إلى إنسان خيِّر
تمامًا، أما بالنسبة إلى إنسان ناقص أو شرير، فلا يُمكننا ذلك. فعلينا أن نمنحه
حرية الفعل وأن نكفل له إمكانية التحسن؛ أي الإمكانية التي تتيح له، إذا ما كان
عليه الاختيار بين أمرَين؛ أن يختار الأفضل لا الأسوأ منهما. ولكن لما كانت حياتنا
تكاد تكون كلها خاضعة للعادات والظروف الأخرى، ولما كان الاختيار الحر لا يحدث إلا
في حالات قليلة نسبيًّا، فإن شيلر يرى أنه يكفينا قدر قليل جدًّا من الحرية لإثبات
المسئولية الأخلاقية للإنسان. وإذن فمن الواجب أن تَقتصر الحرية على الحد الأدنى؛
إذ إن العالم الذي تسوده الحرية الكاملة، أو الحرية بدرجة كبيرة، يكون مُضرًّا
بأفعالنا، ولن نجد فيه راحة لنا. غير أن من الواجب ألا تتعارَض الحرية مع نظام
الكون ومعقوليته؛ فهي ليست قوة طليقة هوجاء تقلب جميع حساباتنا رأسًا على عقب.
فمسألة «الحرية أو عدم الحرية» لا يمكن أن تسوَّى على أساس القول إما بالحرية
الكاملة وإما بانعدام الحرية تمامًا. وليس للقائل بالحتمية أن يخشى من أن يُؤدي
قدر
ضئيل من الحرية إلى قلب أوضاع نظريتِه بأسرها، كما أن القائل باللاحتمية ليس في
حاجة إلى قدرٍ هائل من الحرية يُؤدي إلى تعريض نظام العالم للخطر.
هذه الهدنة العقيمة التي قُررت بين الطرفَين المُتعارضين، ليست فقط عاجزة عن حل
المشكلة، وإنما هي أيضًا تبدو جسمًا غريبًا في كيان البرجماتية. وهناك فكرة أخرى
تنسجم على نحو أفضل مع اتجاهها الفِكري؛ فمن المُمكن من وجهة النظر المنطقية أن
يُنظر إلى المصادرتَين معًا على أنهما صحيحتان؛ ليس فقط لأنَّ هناك حُججًا عقلية
تؤيدها، بل لأنهما معًا قابلتان للتطبيق عمليًّا؛ فمصادرة الحتمية تثبت فائدتها
ونجاحها التام في العلوم، على حين أن الحرية تنجح في النشاط العملي للإنسان. أما
عن
الحتمية، فإنَّ شيلر يُبين أن أصلها راجع إلى حاجة ذاتية، هي حاجتنا الحيوية
الماسَّة إلى حساب المستقبل. فلما كان استباق المستقبل أمرًا له أهميته العملية
الكبرى؛ فقد تحتَّم اختراع نظرية تُضفي على هذه الحقيقة أهمية، ولا يُمكننا أن نقرر
— على أسس منطقية — أي المصادرتَين يتعيَّن على المرء اختيارها؛ إذ إنهما مُتساويتا
الصحة من وجهة النظر المنطقية، وإنما ينبغي أن يكون اختيارنا حرًّا تمامًا. وهذا
ينطبق بنفس المقدار على من يختار الحتمية. ولكن هذا لا يُؤدِّي إلى إحراج صاحب مذهب
الحتمية؛ فمن المُمكن بالفعل أن نكون حتميِّين؛ لأن «من المحتم» علينا أن نُنكر
حريتنا. ولكن كوننا أحرارًا هو الذي يجعل لنا الحرية في أن نفعل ذلك. وهكذا فإنَّ
الحتمية، بإطارها الكامل، مندمجة في فكرة الحرية. ومن المُمكن آخر الأمر أن نعزو
كل
اعتقاداتنا — وضمنها الاعتقادات النظرية — إلى حقيقة التصديق والاختيار الحر، فهذه
تَسبق — في جميع الحالات — البرهان العقلي على حقيقتها. إن مصادرة الحرية هي في
المحل الأول فعلٌ تصديقي أو إيماني. وفي المحل الثاني نظرية. وهذا يُثبت أن وظائف
عقلنا مرتبطة ارتباطًا لا ينفصم بوظائف إرادتنا وبصفاتنا الأخلاقية، وأن ذهننا يعمل
بالتعاون التام مع مشاعرنا وغرائزنا.
أما علاقة البرجماتية بالميتافيزيقا فهي علاقة حياد مشوب بالعطف؛ فهي لا
تتطلَّبها، ولكنها لا تنظر إليها بعين العداء. ومن المُمكن أن تُعرض البرجماتية
على
نحو مستقلٍّ عن الميتافيزيقا، بوصفها منهجًا لتسوية مشكلات المعرفة البشرية، ولكن
لا يتعين عليها أن تخشى الوقوع في شباكها. ولقد سمح شيلر لقدرٍ غير قليل من الأفكار
الميتافيزيقية بالتسرب — بطريقة ضمنية أو صريحة — إلى المذهب البرجماتيِّ؛ فمهمة
الميتافيزيقا هي أن تُوحِّد في مركب نهائي جميع مُعطيات التجربة وكل نتائج العلم.
ومن الواضح أنَّ القيمة النظرية لمثل هذا المركب لا يُمكن إلا أن تكون مشروطة إلى
حدٍّ بعيد. فالعنصر الشخصي يلعب هنا دورًا حاسمًا يفوق في أهميته دوره في الدراسات
الأخرى. وليس من المُمكن النظر إلى أيِّ مذهب ميتافيزيقي عن العالم مجرَّدًا من
شخصية صاحبه. ومن هنا كانت القيمة الموضوعية لهذه الميتافيزيقا أقل بكثير من قيمة
العلوم. ومن المُمكن القول — بمعنًى مُعيَّن — إنها هي الإغراق المُترف في رغبة
مفرطة في المعرفة، وإنها لن تكون أبدًا أكثر من تخمين شخصيٍّ إلى حد بعيد، عن
الأمور القصوى أو النهائية.
ومن المُمكن تلخيص النتائج الميتافيزيقية المتضمَّنة في مذهب شيلر فيما يلي: فمن
الملاحظ أولًا أنَّ فكرة مرونة الواقع، التي نشأت أصلًا عن اعتبارات مُتعلِّقة
بنظرية المعرفة، تؤدي إلى نتائج ميتافيزيقية، ولا سيما إذا ما تحوَّلت — بوصفها
صفةً للوجود كله — إلى الواقع في مجموعه؛ فالعالم ليس جامدًا صلبًا، وإنما هو قابلٌ
للتحوير والتشكيل، يتكيف تبعًا للإرادة البشرية كما يعبر عنها في المعرفة والنشاط
الخلاق. وفضلًا عن ذلك فإنَّ نظرة شيلر إلى العالم مُرتكزة قطعًا على الإنسان. ومن
هنا فهي ليست مرتكزة حول النظام الكوني ولا حول الإله. وهذا يَستتبِع نتيجتَين
ميتافيزيقيتين: هما مذهب الكثرة Pluralism
والمذهب الشخصي Personalism؛ فمذهب الكثرة،
الذي حاول جيمس إثباته (في كتابه «الكون
التعدُّدي A Pluralistic Universe»، ١٩٠٩م)، يقول بكثرة من الموجودات الروحية بوصفها
واقعية مُستقلة قائمةً بذاتها، ويُدافع عن حقوق الكثرة في مقابل الواحد، سواء كان
هذا الواحد هو الله أو المطلق أو أي كيان واحدي آخر. فهذه الكيانات — تبعًا للمذهب
البرجماتي — تبدو أولًا بوصفها مراكز للقوة والإرادة، ومحاور للنشاط والطاقة والفعل
الواعي. ويرتبط المذهب الشخصي بهذه الفكرة أوثق الارتباط؛ فالشخصية الإنسانية تكون
دعامة نظرية البرجماتيين في العالم. ومن المحال في أي موضوع أن نقوم بتجريدها؛ إذ
إن كل شيء يرتبط بها، وهي مُتغلغلة في كل شيء. وهي غير مُنقسِمة (أي إنها كاملة
الفردية). وهي تمارس فعلها دوامًا في كلية وجودها، وبفضل العلاقة المتبادلة
والتركيب الذي يجمع بين وظائفها المُنفصلة؛ فهي ليست تفكيرًا ولا شعورًا، وهي ليست
إرادة ولا فعلًا، وإنما هي كل هؤلاء معًا. ومن المستحيل الفصل بين واحد من مظاهرها
المتعدِّدة وبين الباقين، والأكثر من ذلك استحالة أن نفصل بين جانبها العقلي
وجانبها الانفعالي والإرادي. ومن هنا لم يكن شيلر يملُّ محاربة النزعة العقلية في
كل صورها، ومكافحة كل محاولة للإقلال من أهمية الشخصية الكاملة أو تبخيرها بحيث
تُصبح نتاجًا مجردًا للعقل، أو مجرَّد آلة مفكِّرة؛ ولهذا السبب عمل شيلر، رغبةً
منه في إعادة المعنى الكامل للإنسانية في الفلسفة، على إحياء تسمية قديمة شائعة
التداول، وأعطى مذهبه عنوانًا رنانًا هو «النزعة الإنسانية» (وذلك أولًا في كتاب
المقالات الذي نشره في ١٩٠٣م، انظر المقدمة) وكان يعني بهذا اللفظ احتجاجًا على
«نزع الصفة الإنسانية» في التفكير الفلسفي، وهو أمرٌ يزداد في رأيه حدوثه على
الدوام، وكذلك احتجاجًا على ما حدث في ميدان الفلسفة من استبعاد للإنسان بوصفه
شخصية تامَّة كاملة، وبوصفه وحدة لنزعاته وغرائزه ومشاعره ومظاهر إرادته وحاجاته
النظرية والعملية والجمالية وغيرها. وفي الوقت نفسه هاجم المناهج التجريدية؛ وذلك
الدجل المعقَّد الذي يشيع في اللغة الفلسفية، وغطرسة التبحر في العلم، وعُقم
التمرينات المنطقية، والانعزالية والغموض المُتكبِّرَين في لغة الأوساط الأكاديمية،
وكل اتجاهٍ إلى تكوين طوائف وجماعات مُقفلة في الفلسفة؛ وبالاختصار، اتجاه مهنة
الفلسفة بأسرها إلى الانصراف عن الحياة وتجاهل العالم.
والهدف الأسمى للنزعة الإنسانية البرجماتية عند شيلر هو «إعادة صبغ الفلسفة بالصبغة
الإنسانية The Rehumanizing of Philosophy». وهو يمتدح — في تاريخ الفلسفة — ذلك القول القديم
لبروتاجوراس، وهو أن الإنسان مقياس الأشياء جميعًا؛ لما فيه من حكمة؛ ولذا نراه
يربط مذهبه مباشرةً بمذهب السفسطائيين، ويُسمِّي نفسه «بروتاجوريا جديدًا». وهو
ينحاز، في كتابه «أفلاطون أم بروتاجوراس؟» إلى صفِّ الأخير، ويُدافع عنه ضد
أفلاطون، الذي أدَّت نزعته العقلية إلى إفساد الفلسفة. وهو يكتب، فيما يُشبه
المُحاورة الأفلاطونية، التي يتحدَّث فيها بروتاجوراس باسم مذهبه الخاص، فصلًا
مضادًّا لمُحاورة «تيتاتوس»، يتضمَّن نقدًا لأفلاطون من وجهة نظر النزعة الإنسانية
التي اتَّصف بها بروتاجوراس (انظر «دراسات في النزعة الإنسانية»، الفصل الرابع
عشر). ولكنه يتجاوز كلمة بروتاجوراس؛ إذ لا يكتفي بجعل الإنسان مقياسًا للأشياء
جميعًا، وإنما يجعله مُشكِّلها ومصوِّرها، ومولِّد الحقيقة وخالق الواقع ومُصوِّره.
وهكذا تصبح كلمة بروتاجوراس، بعد توسيعها على هذا النحو، شعارًا لفلسفة شيلر
بأسرها، كما أنها هي النقطة المركزية في التفرعات الميتافيزيقية التي انبثقَت عن
البرجماتية، وضمنها الأفكار التي أشَرنا إليها من قبل؛ أعني قابلية الواقع
للتشكُّل، ومذهب الكثرة، والمذهب الشخصي. كما نستطيع أن نضيف إلى هؤلاء المذهب
الهرقليطي، ومذهب شمول النفس Panpsychism.
وأخيرًا، فإن هذا المذهب يتضمَّن أيضًا فلسفة في الدين أقل من ذلك أهمية، ظلَّت
في
معظم الأحوال تكرر أفكار عصر التنوير التي ترجع إلى القرن الثامن عشر؛ ذلك لأنَّ
البرجماتية قد تصوَّرت طبيعة الله أيضًا حسب أفكارها الخاصة، واضطرَّت إلى الخضوع
هنا أيضًا للصبغة الإنسانية.
ومن الواجب أن يُدرج المذهب البرجماتي، في الفكر المعاصر، ضمن الفلسفات الحيوية
Vitalist، التي تحييها، على اختلاف صورها، روح
واحدة. وهكذا رحَّب شيلر بكل ما جاء من هذا الاتجاه ورأى فيه تقوية ودعمًا لموقفه
الفلسفي؛ ذلك لأن رغبته كانت تتَّجه إلى العودة بالفلسفة إلى الحياة، التي ترتكز
قوتها فيها وحدها؛ فمن الحياة ينبغي أن تجدد الفلسفة نشاطها إن شاءت أن تُحقِّق
مهمتها العليا؛ أعني خدمة الإنسان.