الفصل الثالث
الواقعية القديمة
يَنبغي أن نُنبه إلى أن المُفكِّرين الذي سيَرِد ذكرُهم في هذا الفصل لا يُكوِّنون
مدرسة محدَّدة أو يسيرون في اتجاهٍ مُعيَّن، وكل ما نَرمي إليه من إدراجهم تحت عنوان
«الواقعية القديمة» هو الإشارة إلى أنهم يَرتبطون تاريخيًّا أو مذهبيًّا بالواقعية
المُتأخِّرة أو الجديدة، التي ستُناقَش في الفصل التالي، كما أنهم على وجه العموم
لا
يرتبطون بعضهم ببعض؛ إذ ليس لهم أصل فلسفي مُشترَك، وليس لهم — كالواقعية الجديدة
—
خصمٍ مشترك يتعيَّن عليهم أن يُواجهوه صفًّا واحدًا، ولما كانوا قد خرجوا من مُعسكَرات
مُتباينة، فإنهم يُعارضُون خصومًا مختلفِين، كما أن وجهات النظر والاهتمامات التي
كانوا
يتَّخذونها من آنٍ لآخر كانت متباينة. وهناك نوع من الارتباط يجمع بينهم، وإن يكن
ذلك
ارتباطًا خارجيًّا، هو أنهم جميعًا يُمكن أن يَندرجُوا تحت فئة مُشترَكة من بين الفروع
المتعدِّدة للتفكير الواقعي، وأن مُعظمَهم قد اتخذ الموقف المثالي (ولا سيما النقد
الكَانْتِي) في وقتٍ ما، أو تأثَّر به تأثُّرًا قويًّا على الأقل. وهذه الصفة الأخيرة
على التخصيص هي التي تُظهر بوضوحٍ تامٍّ مدى الفارق في الزمان وفي الرأي بينهم وبين
مُمثِّلي الجماعة الأقرب عهدًا، الذين لم يمرَّ مُعظمهم بهذا الموقف المثالي؛ فعند
هؤلاء الأخيرين يظهر عنصر فكري جديد. أما عند الآخرين فلا نجد إلا استمرارًا وامتدادًا
لخيوط قديمة، ومع ذلك فمن الواجب أن نَترك كلًّا من المُفكِّرين التالين يَروي لنا
قصته.
(١) شادورث ﻫ. هدجسون Shadworth H. Hodgson
(١٨٣٢–١٩١٢م)
لم يَحترِف مهنةً معيَّنة، عاش في لندن، واشترك في تأسيس الجمعية الأرسططالية،
التي كان أول رئيس لها، من ١٨٨٠م إلى ١٨٩٤م.
مؤلَّفاته: «الزمان
والمكان Time & Space» ١٨٦٥م، «نظرية
السلوك العمَلي The Theory of Practice» في مجلدَين، ١٨٧٠م، «فلسفة التفكير The Philosophy of Reflection» في مجلدَين،
١٨٧٨م، «ميتافيزيقا
التجربة The Metaphysic of Experience»، في أربعة مجلدات، ١٨٩٨م، ومقالات مُتعدِّدة في مجلة
Mind وفي «أعمال الجمعية الأرسططالية».
يَنتمي نشاط هدجسون الفلسفي إلى العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر. وقد ظهر أول
كتبِه في نفس السنة التي ظهر فيها كتاب جون ستورت مل «اختبار لفلسفة هاملتن» وكتاب
سترلنج «سر هيجل». أما آخر وأنضَج تعبير عن مذهبه فقد ظهر قبل نهاية القرن الماضي،
وهو كتاب «ميتافيزيقا التجربة» المكوَّن من أربعة مجلَّدات، والذي يعدُّ — من بعد
كتاب «مذهب في الفلسفة التركيبية» لسبنسر — أشملَ مؤلَّف في الفكر الإنجليزي
الحديث. أما الكتابات التي نشَرَها بعد ذلك فليسَت إلا تكملات وإضافات ذات أهمية
ثانوية نُشِرَت في مجلات دورية.
ولقد كانت حياة هذا المُفكِّر غير عادية، واختلفَت كثيرًا عن التطور المألوف
لأساتذة الجامِعات ومُعلِّمي الفلسفة؛ فقد اندفع إلى الفلسفة نتيجةً لضربة قاسية
أنزلها به القدر في أواسط العقد الثالث من عمره، ومنذ ذلك الحين أصبحَتِ الفلسفة
له
مُنقذًا ومواسيًا في حزنه العميق، ومنذ ذلك الحين حتى نهاية حياته الطويلة عكف
بإخلاص غير عادي وتفانٍ لا يَكلُّ، على حياة تأمُّلية كُرِّسَت كلها للبحث النزيه
عن الحقيقة، ولم يَشغل أبدًا منصبًا أكاديميًّا، ولم يطمع أبدًا فيه، بل لم يَحترف
أيةَ مهنة أخرى. وعلى الرغم من ذلك لم يكن دخيلًا، بل كان يرتبط بالحياة والأعمال
الفلسفية في عصره ارتباطًا مُتعاطِفًا وثيقًا، بفضل تلك السنوات المتعدِّدة التي
قضاها رئيسًا للجمعية الأرسططالية وعضوًا فيها، وهي الجمعية التي كان له دور بارِز
في تأسيسها، وبفضل مساهماته المنتظِمة في مجلة
Mind، التي لم تكن لتظهر لولا مساعدته السخية لها
في ذلك الوقت (في عام ١٨٧٦م). وهكذا لم يكن هدجسون محبًّا للحِكمة فحسب، بل كان
أيضًا معينًا كريمًا لها. ولقد كان له دور حاسِم في إحياء الحياة الفلسفية في الربع
الأخير من القرن الماضي، لا بآرائه وكتاباته فحسب، بل باتِّصالاته الاجتماعية
وتبادُل الآراء، وبخلق هيئة فتَحت أبوابها لجميع المدارس الفِكرية وضمَّتها
إليها.
ومن الصعب إلى حدٍّ بعيد أن نُحدِّد مكانة هدجسون في التطور الفلسفي لعصرِه؛ ذلك
لأن تفكيره، الذي تكوَّن في وقتٍ كان المذهب التجريبي يسود فيه بلا منازع، والذي
لم
يستطع فيما بعد أن يُوصِد أبوابه تمامًا في وجه المؤثِّرات الجديدة؛ هذا التفكير
يسير — مثل تفكير جيمس — إلى الأمام وإلى الخلف، ويقف تارةً في معسكَر، وتارةً أخرى
في مُعسكَر آخَر، وتارة ثالثة دون مُعسكَر على الإطلاق. وهناك دلالة رمزية للواقعة
التي ذكرناها الآن، وهي أن كتاب هدجسون الأول قد ظهر في نفس الوقت الذي ظهر فيه
كتاب «اختبار لفلسفة هاملتن»، الذي اختتَمَ عهدًا للفكر، وكتاب «سر هيجل» الذي
افتتح عهدًا آخر؛ فمن الممكن تعريف مذهبه سلبيًّا، كما أوضح هو ذاته بالنسبة إلى
مشكلة خاصة (انظر كتاب «فلسفة التفكير»، المجلَّد الثاني، ص١٧٣) على أساس أنه لا
يَرتبط بمدرسة هاملتن ومانسل، ولا بمذهب سبنسر التطوُّري، ولا بوضعيةِ كونت أو
الوضعية الإنجليزية، ولا بالهيجلية الإنجليزية، ولا بأية فلسفة تغلغلَ فيها اللاهوت
أو ارتبطت به، وهو يُطلق على هذه الفلسفات الأخيرة، التي لم يكن يُعارضها عداء منه
للكهنوت أو كراهيةً منه للدِّين، وإنما تحمُّسًا منه لكشف الحقيقة فحسب، يُطلق
عليها اسمًا صحيحًا هو «فلسفة
الكنيسة Church Philosophy».
أما المُكوِّنات الأساسية التي تتبقَّى بعد هذا كله في فلسفة هدجسون؛ فهي المذهب
التجريبي التقليدي وصورة معدَّلة للمذهب الكَانْتِي. ومن جهة أخرى لا يَرتبط هدجسون
بالواقعية الجديدة، التي لم تظهر إلا بعد أن كفَّ عن الكتابة، ولا يُمكن الزعم بأنه
كان سلفًا لهذه الحركة، وأفضل تعبير عن موقف هدجسون هو «التجريبية النقدية»؛ فهذا
اللفظ يعبر عن موقفه المذبذب بين فلسفة التجريبية الإنجليزية وبين النقدية
الكَانْتِية، ويؤكد غلبة الطابع التجريبي عليه وموقعه الأساسي فيه؛ ففي هذه الفلسفة
نظرية ظاهرية Phenomenalist في المعرفة، وعناصر
أخرى تُوضِّح ارتباطها الوثيق بتراث الفكر الإنجليزي، ولا سيما هيوم، على أنه أخذ
بآراء كانْت بطريقة أقرب إلى أن تكون خارجية، بدلًا من أن يُفكِّر فيها من جديد
ويَدمجها في مذهبه. ومن العسير أن نُحدِّد بدقة موقف هدجسون الحقيقي من كانْت، وهو
الموقف الذي مرَّ بتغيرات متعدِّدة؛ فقد أسماه أحد النقاد كانتيًّا ضعيفًا غير
متحمِّس. ومن المؤكَّد أنه كلما تقدم به العمر كان يزداد تباعُدًا عن كانت، وعند
نهاية حياته التأليفية كان قد نفَضَ عن نفسه آخر آثار المذهب الكَانْتِي؛ فالروح
«النقدية» التي كانت واضحة في كتاباته الأولى تَذوي على الدوام، وتكون النتيجة هي
قبول تامٍّ للنزعة النفسية غير النقدية، بل للنزعة الفسيولوجية ذاتها. وهناك صفة
أخرى يَرتبط فيها بكانت، هي وجود نوع من المَيل لدَيه إلى التصنيفات والتفريعات،
والتعريفات والتقسيمات، وإلى التنظيم والتبويب، وهو ميل ينبعث عن حبٍّ شكلي صرف
لهذه الأمور أكثر مما ينبعث عن ضرورة فكرية باطنة، أو شعور واضح بأهمية النظام،
كما
هي الحال عند كَانْت.
والأمر الجدير بالملاحظة — من الوجهة التاريخية — هو أن هدجسون — في كتابه الأول
— قد نظَر إلى هيجل بدوره بعين التبجيل، بوصفه رجلًا عظيمًا. وقد درَسه هدجسون
دراسة دقيقة، كما تدلُّ على ذلك الاقتباسات المتعدِّدة والقسم الخاص الذي أفرَدَه
لمنطِق هيجل (انظر كتاب «الزمان والمكان»، ص٣٦٤–٤٠٢)، ولكنه في الوقت ذاته قد أساء
فهمه تمامًا، وصححه بطريقة مُفتعَلة، وأدخل أفكاره سرًّا في إطارات هدجسون الفكرية
الخاص. ولكنه اعترَفَ بفضله وأشار إليه بإعجاب واحترام. وليس لسوء الفهم، والتشويه
والاتهام بالتجديف — في هذا الصدد — أهمية تعادل كون هيجل قد دخل في الأفق الذهني
للإنجليز، ولم يختفِ منه بعد ذلك قط، وقد تغيَّر موقف هدجسون فيما بعدُ، عندما أصبح
هيجل وقتًا ما قوة حية في الفلسفة الإنجليزية، فأصبح هذا الموقف أشد نقدًا وعداءً
بكثير، واتخذ موقف المعارضة الواضحة للمدرسة الهيجلية الجديدة المتزايدة الأهمية،
وأصبح عندئذٍ ينظر إلى مذهب هيجل على أنه إسراف فلسفي، وتركيب للعالم من الفكر
المحض، دون أية صلة بالتجربة؛ فهيجل كان في رأي هدجسون آخر المدرسيِّين وربما
أعظمهم، ولم يكن منطقه «المزعوم» إلا الاكتمال الملائم لطريقة التفكير
المدرسية.
ومن الواجب — من أجل تقدير هدجسون تقديرًا عامًّا — أن نُلاحظ النقاط الآتية؛
فليس من السهل الإلمام بكتابات هدجسون الطويلة؛ إذ لن يكاد القارئ يجد ما يُجازى
به
على جهده إذا ما عرف كيف يشقُّ طريقه خلال هذه المجلدات السميكة، ذات الأغلفة
البيضاء البديعة. فليس ثمَّة علاقة بين محتواها الفلسفي وبين طولها الهائل وتشتُّت
أفكارها وثرثرتها اللفظية، ولا يَملك المرء — وهو يمرُّ خلال امتدادها الهائل —
إلا
أن يشعر بأن الكاتب يذرو قشًّا فارغًا، وأنه مجرد لاعب ماهر بالألفاظ الفلسفية،
لا
حلَّال حقيقي للمَشاكل؛ فهو يظلُّ صفحات طويلة يدفع الألفاظ الفنية جيئة وذهابًا
بينما يظلُّ البحث ذاته حيث هو أو يلفُّ في دوائر، وتُكوَّر المشكلات وتغدو هزيلة
مائعة، بينما تضيع النقطة الحقيقية في غياهب التفاهات اللفظية والمُشكِلات الجانبية
والاستطرادات، ولستُ أعني أن هذا الحكم ينطبق على كل كتابات هدجسون؛ فهو أحيانًا
يتصدَّى للمُشكِلات بمزيد من الدقة، ويقوم بتحليلات جيدة سليمة؛ غير أن الانطباع
الأغلب هو ذلك الذي وصفته، لكل هذه الأسباب لم يَستطِع مذهب هدجسون، الذي استقبله
مُعاصرُوه بجفاء، أن يَجتذِب تلاميذ أو يترك أثرًا ملحوظًا (فيما عدا بعض آثار
خلَّفها تفكيره في وليم جيمس)، أو أن يؤثر في الأجيال التالية. أما في الوقت الحالي
فيكاد يكون منسيًّا تمامًا؛ فقد تلقَّتْه مقبرة تاريخ الفلسفة الرحبة، وخصصت له
مقرًّا أخيرًا مشرفًا.
ونستطيع أن نبدأ عرض فلسفة هدجسون بمذهبه في الوجود والوعي؛ ففي بداية كتابه
الأول نراه يرفض بشدة فكرة الموجود المُطلق المُنفصِل عن كلِّ وعي. فكل وجود هو
وجود بالنسبة إلى وعي، والاثنان متَّفقان تمامًا بحيث يَمتدُّ أحدهما بقدر ما
يَمتدُّ الآخر، ولا يتجاوَزُه قطُّ، فإذا شئنا أن يكون للوجود معنًى معقول، فمِن
الواجب أن يكون موضوعًا للوعي ولا شيء غير ذلك. هذه الظاهرية المتَّسقة مع ذاتها،
والتي تَرتكِز على أسُس هيوم ومل، وتَرفُض فكرة الشيء في ذاته عند كانْت وكل الصور
الأخرى للمُطلَق، هي الدعامة الرئيسية لمذهب هدجسون، وفي مرحلة لاحِقة سنَرى كيف
تتَّحد فكرة المادة مع مبدأ الوعي، أو تُؤدِّي بنا إلى تجاوُزِه.
ويرى هدجسون أنَّ أول وأهم وظيفة للفلسفة هي وصف الوقائع أو الظواهر التي توجد في
الوعي وتحليلها. ولقد دعَت المدرسة التجريبية الكلاسيكية في القرن الثامن عشر إلى
ما يشبه هذا، على الرغم من أن وسائلها إلى تنفيذ ذلك لم تكن كافية، فتحليلات
هدجسون، التي قام فيها بأفضل أعماله، تتجاوز كثيرًا تلك المحاولات الساذجة التي
قام
بها المُفكِّرُون السابقون في فصْل مُحتويات الوعي وترتيبها وتصنيفها وربطها، وهي
تَنتقِل بالمسألة خطوة كبيرة إلى الأمام بفضل تمييزاتها العميقة وأوصافها الدقيقة.
ولقد أخذ هدجسون على عاتقه في هذا الكتاب — ونفذ بالفعل — عملًا مشابهًا
للفينومينولوجيا التي بدأها هوسرل بعد إتمام مذهبه، وإن يكن قد فعل ذلك دون أيِّ
نقد وتبرير نظري لعملِه؛ فقد أراد أن يَنتقِل إلى ما وراء تجربة الحياة اليومية،
وأن يَكتشِف ويَقتصِر على وصف العناصر الأصلية للوعي وهي نقية لم يَمسَّها الفكر
والعرف والتجربة والنَّظرية، ولا بدَّ للوصول إلى الظواهر من حيث هي مُعطاة على
نحوٍ خالصٍ مباشر، من استبعاد كلِّ وظيفة للأنا، وكل نشاطٍ تركيبي توحيدي انتقائي
تشكيلي أو غيره، تقوم به الذات، ومما يدلُّ على حدوث تقدم في تفكير هدجسون أنه حاول
من كتابٍ إلى آخر أن يقوم على نحوٍ أدق بهذا الاستبعاد أو العزل للعنصر الذاتي الذي
يتدخَّل في المعطيات الخاصة للوعي.
ويُمكِن القول إن ما أَطلق عليه هدجسون في كتابه الرئيسي اسم ميتافيزيقا التجربة
— وهو تشويه متعمَّد للمُصطَلح المُعتاد — ليس إلا فينومينولوجيا للوعي، أو تحليلًا
وصفيًّا لمُعطيات الوعي، وهو نفسُ ما أطلق عليه في كتاب أسبق اسم «فلسفة التفكير».
وهنا تعني الفلسفة مواجهة الوعي للوعي، بوصفها الوسيلة الوحيدة التي يُمكن بها جلب
الوجود — الذي لا يُمكن مواجهته مباشرةً — إلى معرفتنا، وللوعي نفس معنى التجربة؛
إذ إن مجالَيهما وحدودهما متَّفقة، وما يتجاوَز التجربة هو شيء لا تستطيع الفلسفة
أن تربط به فكرة معقولة، أو لا يُمكن أن يكون لها به أي اهتمام. وهكذا فإن كل تفكير
فلسفي يبدأ بالتجربة، ويظلُّ مُنحصِرًا في حدودها. ومن هنا فإن مذهب هدجسون هو
فلسفة للتجربة أو مذهب تجريبي، وإن يكن ذلك بمعنًى يَختلف إلى حدٍّ ما عن المعنى
الكلاسيكي للفظ.
وعلى حين أن كتابَي هدجسون الأولين: «المكان والزمان» و«نظرية السلوك العملي»،
وهما كتابان مُضطربان إلى حدٍّ ما، يَبحثان بخطوات مُتعثِّرة عن الطريق الذي
سيَكتشفُه فيما بعدُ، فإنا نهتدي لأول مرة في كتاب «فلسفة التفكير» إلى مواقف
هدجسون الأساسية وإلى مذهبه في مجموعه، هذا الكتاب الذي اعتقد هدجسون — مُفرطًا
في
ثقتِه بنفسه — أنه قد افتتح به عهدًا جديدًا في تاريخ الميتافيزيقا في إنجلترا،
يتميز بأن هدجسون قد أعلن فيه ولاءه لرجلَين كان ينظر إليهما بإخلاص شديد؛ هما
الشاعر الفيلسوف كولريدج الذي أهدى إليه الكتاب بوصفِه «أبي في الفلسفة»،
وسالومون ميمون
Salomon Maimon،
١ الذي امتدحه بعبارات مبالَغ فيها، فوصفَه بأنه الخليفة والوريث الحقيقي
لفلسفة كانْت وللمثالية الألمانية بوجهٍ عام. ولقد كان يَدين لكولريدج بفكرة عظيمة
الأهمية، هي فكرة الارتباط الباطن بين العنصر العَقلي والعنصر الانفعالي في الطبيعة
البشرية. أما ميمون فقد تمكَّنَ، بفضل مبدئه القائل بقابلية التحدد
determinability، من أن يشجع الروح النقدية
ويَمضي إلى الأمام بالمدرسة النقدية في الفكر، التي كان مُؤسِّساها هيوم وكانت،
وكان يعتقد أن الآخَرين جميعًا — أي فشته وشلنج وهيجل وشوبنهور — قد اكتفوا بأخذ
نتائج كانت دون تصرف، وبنوا عليها مذاهبهم الأنثولوجية غير النقدية، ولم يكن
لهدجسون ذاته من هدف سوى الاستمرار في التفلسُف في الطريق الذي بدأه هيوم وكانْت
وواصلَه ميمون؛ غير أن تحمُّس هدجسون لكانْت وميمون لم يَدُم طويلًا؛ ففي كتابه
الأخير الذي صدر في ١٨٩٨م، والذي يُلخِّص تفكيره، حرص على قطع كل الجسور التي تربطه
بكانْت، بينما يبدو أن ميمون، الذي لم يَرِد ذكره مرة واحدة، قد نُسيَ تمامًا، ومن
جهة أخرى ظلَّ تأثير هيوم قويًّا حتى النهاية، وإن يكن قد تنازَلَ عن عناصر هامة
في
مذهبه.
وعلى حين أن المبدأ الأول للميتافيزيقا قد تخلَّى عن فكرة الشيء في ذاته
الكَانْتِية، فإن التفكير في المعطيات الأصلية للوعي يدلُّ على أن من الواجب
التنازُل عن الخليط المُضطرِب للإحساسات بدورها؛ فمثل هذا الشيء المادي البحت، الذي
لا يمسُّه أي عنصر صوري، هو تجريدٌ محضٌ لا يُمكن — بهذا الوصف — أن يوجد في الوعي؛
فالعنصر المادي الأصلي الذي يقول به هدجسون ليس «هيولى» أرسطو، التي هي غير محدَّدة
على الإطلاق، ولا تُضفي عليها المقولات أية صورة، وإنما هو شيء نعرفه جيدًا؛ أي
الإحساسات؛ فالمشاعر أو الإحساسات — بوصفها المادة التي توجد في الوعي — ليست
مُضطربة أو مختلطة، وإنما يتَّضح — حتى للتحليل الأوَّلي — أن المقولات الزمانية
والمكانية تُنظِّمها في تعاقُبها وفي تلازُم وجودها. ولكنا لا نستطيع أن ننظر إلى
المكان والزمان على أنهما صورتان أوليتان للحدس بالمعنى الذي قال به كانت، وهي
الصور التي تنتجها الذات لتُنظِّم بها خليط الإحساسات، وإنما الواجب أن نَنظر إليها
على أنها عناصر صورية موجودة في الوعي منذ البداية، تُواجه التحليل مع العناصر
المادية، وترتبط بها ارتباطًا لا يَنفصِم. وإذن فليس ثمَّة خليط مُضطرِب للحواس،
وإنما يتمثَّل النظام المكاني الزماني، أو النظام الزماني على الأقل، في الحسِّ
المادِّي قبل أيِّ تدخُّل أو تغلغل للذهن؛ فالعناصر المكانية الزمانية إنما توجد
في
جانب الموضوع، بقدر ما يُمكننا أن نتحدث، في هذه المرحلة البدائية للتجربة، عن
انفصالٍ بين الجانبَين الذاتي والموضوعي للوعي. وإذن فتحليل العناصر الأصلية
للتجربة، أو أدنى حدٍّ من عناصرها، يكشف — في داخل الاتصال الدينامي للوعي — عن
ثلاثة عوامل مُجتمِعة نستطيع أن نُميِّزها الواحد عن الآخر، على أنها تضمُّ عاملًا
ماديًّا هو الإحساس، وعاملَين صوريَّين هما المكان والزمان، أو الامتداد والمدة.
ولكنا لا نستطيع تفرقة هذه العوامل بعضها عن البعض.
غير أنَّنا لا نستطيع أن نتكلَّم عن أيِّ وعي موضوعي بالإحساس؛ إذ لا يظهر شيء
كهذا قبل مرحلة الإدراك الحسي. فليس ثمة مرحلة قبل الإدراك الحسِّي يُمكن تجريد
الإحساس نقيًّا منها؛ فالإدراك الحسي هو بالنسبة إلى الوعي أول حقيقة يستطيع
التحليل الوصول إليها، والمدركات الحسية percepts
هي العناصر الأساسية الحقيقية للواقع، وهي تُناظر تمامًا ما أسماه هيوم ﺑ
«الانطباعات»، وفي مُقابلها يضع هدجسون التمثُّلات representations أو التصوُّرات concepts (وهي الأفكار عند هيوم) بوصفها فئة مُنفصِلة
للمُعطيات، تختلف عن الأخريات لا في مضمونها، وإنما في الطريقة التي تُعطى بها؛
فالمدركات الحسية تتميَّز بمزيدٍ من الحيوية والشدَّة، وبازدياد قوة «تمتُّعنا»
بها
وبحضورها المباشر، على حين أننا نَشعُر بالتمثُّلات على أنها مشتقَّة وثانوية. وعلى
أن «تمتُّعنا» بها أقل؛ غير أن كل محتويات الوعي ترتكز آخر الأمر في تُربة الإدراك
الحسي الأصلية؛ فالإدراك الحسي هو الذي يُقرِّر أخيرًا صحتها ومشروعيتها. وليس
ثمَّة شكل من أشكال الوعي لا يمكن ردُّه إلى الإدراك الحسي. ومن الواضح أن فكرة
الإدراكات الحسية والتمثلات هذه هي في أساسها إحياء لفكرة هيوم في الانطباعات
والأفكار، وفي خلال كل هذه الأبحاث اللفظية في المعطيات الأصلية للوعي ومُشتقاتها،
يُمكننا أن نهتدي إلى خيطٍ واحد يمرُّ بها كلها، هو مبدأ هدجسون الأساسي، الذي
يَسري في كل أرجاء نظرية المعرفة عند هدجسون، وهو أن كل محتويات تمثُّلاتنا
وتصوراتنا وأحكامنا وتجريداتنا … إلخ لا يُمكنها أن تدَّعي لنفسها الصحة إلا إذا
رُدَّت إلى تلك الانطباعات الأصلية التي تَكمُن في أساس كل معرفة وتفكير
لنا.
وهكذا رأينا أن «فلسفة التفكير» — وإن كانت قد أعلنَت عن ولائها للروح النقدية
عند كانْت — قد تنازَلَت عن عناصر هامَّة في مذهبه، وسارت على وجه العموم في الطريق
التجريبي الذي سلكه هيوم، وفي نفس هذا الاتجاه يَسير كتاب «ميتافيزيقا التجربة»،
وهو بناء ضخم في أربعة مجلدات، جمع فيه هدجسون ثمار حياته الفكرية الطويلة
المُتفانية؛ غير أن هذا الكتاب يضيف إلى الصورة المألوفة بعض التصويبات والزيادات
الهامة، ويجمع كل ذلك بصورة متكاملة في مذهبٍ يدعو إلى الإعجاب.
وهو يُكرِّس تحليلاته الدقيقة أولًا لمشكلة الحقيقة، فهدجسون يُطلِق اسم «الإدراك
الحسي البسيط» على مجرَّد وجودِ مضمونٍ في الوعي. وعلى فعل المعرفة الإدراكي الموجه
إليه، أو على الأصح: على تملُّك هذا المضمون في الإدراك الحسي، ففيه يكون محتوى
الإدراك الحسي (أو المدرك حسيًّا percept) وفعل
الإدراك الحسِّي perceiving وحدة واحدة لا تَنفصِم.
وهناك فكرة هامة يُميِّزها من هذَين، هي فكرة الإدراك الحسي المُنعكِس reflected perception؛ فعندما
يَنساب مجرى الوعي، يستبقي الإدراك الحسي محتويات هي في اللحظة الراهنة حاضِرة
بالفعل. ولكنه لا يَستبقيها بوصفِها حاضِرة مباشرةً، وإنما تكون ماضية أو داخلة
في
عامل زمني محدَّد. وهنا يَنفصِل الفعل عن المضمون، ويُدرك المدرك الحسي على أنه
أسبق من فعل الإدراك الحسي. وعلى أنه يظلُّ قائمًا في لحظة الإدراك الحسي، ومن
الطبيعي أن الإدراك الحسِّي البسيط ليس إلا حالةً محدودة من حالات الإدراك الحسي
المنعكِس، فالأخير هو الواقعة الأولية العامة التي يكون لدينا على أساسها وعي بأيِّ
شيء. وهكذا فإن كل إدراك حسِّي انعكاسي أو رجوعي
retrospective، وله خاصية الاحتفاظ وقتًا ما
بمُحتويات تمرُّ مرورًا عابرًا بمجرى الوعي. ولكنا لا نستطيع أن نقول: إنَّ الذات
تمارس أيَّة فاعلية أو أي مجهود في هذا كله، وتلك نقطة يُعلِّق عليها هدجسون أهمية
خاصة، صحيح أن اللغة تُضلِّلنا دائمًا فتُوقعنا في افتراض كهذا، عندما نقول: «أنا
واعٍ وأنا أدرك … إلخ.» غير أن الأنا في هذه الحالة لا يَشترك ولا يتدخَّل. وفضلًا
عن ذلك فلا يُمكنُنا أن نقول — كما قال هدجسون في مرحلة أسبق: إنَّنا في الانتباه
ننصرف إلى محتويات الوعي الجديدة الظهور، وكأن من الضروري حدوث فعلٍ جديد في كل
مُناسَبة نلاحظ فيها أشياء جديدة، وهو بوجهٍ خاصٍّ يَرفض هنا رفضًا قاطعًا فكرة
الوعي الذاتي الترنسندنتالي عند كانْت، من حيث هو النشاط التركيبي للوعي، ويتخلَّى
عن فكرته القديمة في الانتباه، على أساس أنها تَنتمي إلى كانْت. فلا يَنبغي أن يدرج
في التحليلات الوصفية سوى ما يعرض للوعي نقيًّا خالصًا، وما يمرُّ خلال مجرى الوعي،
ولا يستطيع أحد أن يُنكر أن هدجسون يَقترب في مقصدِه كل الاقتراب من طريقة
الفينومينولوجيا الحديثة، وإن يكن في تنفيذه لهذا المقصد عمليًّا قد عاد — بعد بضعة
تحليلات جيدة — إلى التركيبات والعادات الفكرية القديمة، وبذلك زيف ما هو مجرَّد
مُعطًى فحسب.
وتُؤدِّي النظرة الجديدة، التي اكتسَبَها بفضل الأوصاف الدقيقة التي قام بها في
ميدان الوَعي الخالص، إلى تصحيحٍ هامٍّ لمذهَب الانفصال
المُطلَق Atomism عند هيوم؛ فمن المُمكِن تشبيه الوعي بمجرًى دائم
التدفُّق، لا تستقر عناصرُه مُنفصِلة وكأنها حبات من البندق في زكيبة، وإنما تكون
أشبه بعمليات في حركة دينامية، ويَدفع بعضُها بعضًا إلى الأمام، ويتوقَّف الطابع
الدينامي للوعي على العامل الزمني الذي يرتبط ارتباطًا لا يَنفصِم بكل واحد من
محتوياته وبها جميعًا، والعنصر الزمني عامل يدخل في تركيب كل ما هو مُعطًى، ويكسبه
مدةً وبقاءً؛ فمن المُمكن القول عنه أنه محمَّل بالامتداد الزمني، ويبدو الزمن هنا
في صورة عملية باقية بمعنى يقرب من معنى المدة durée عند برجسون، وإن لم يكن يبدو أن لأفكار برجسون تأثيرًا
مباشِرًا عليه، على الرغم من أن هذا مُمكِن من الوجهة الزمنية. ومن الواضح أن
هدجسون يتخلَّى هنا تمامًا عن مذهب هيوم في الكثرة المُطلَقة، كما تتضمَّنه فكرة
«المحسوسات الصغرى minima sensibilia». فليس
في تجربتنا المتصلة مثل هذه المحسوسات الصغرى، من حيث هي كيانات مُستقلة أو ذرات
مفكَّكة في الوعي، بل إن هذه نواتج للتفكير التجريدي. وليست لها حقيقة فِعلية. فإذا
كان لكل حالة للوعي حدٌّ أدنى من الكثافة والمدة. فليس لنا أن نَستنتِج من ذلك أن
الوعي في مجموعه يتألف من حالات أو مُحتويات لا تتجاوَز هذه الحدود، وبدلًا من تلك
الذرَّات المُفكَّكة المُنفصِلة الكونية للوعي — التي قال بها هيوم — نجد لدى
هدجسون مُحتويات لعملية مستمرَّة، دينامية، محملة بالامتداد الزمني، وأخيرًا نجد
في
هذا السياق نفسه تصحيحًا لفكرة المثول والتمثل presentation and representation (المناظرة للانطباعات والأفكار عند هيوم)،
يتلخَّص في أن من الواجب أن يَنظر، حتى إلى أبسط مُعطًى حسِّي، على أنه إدراك محفوظ
أو مُستبقًى؛ وبالتالي على أنه نوع أوَّلي من التذكر؛ وبعبارة أخرى: فكل انطباع
هو
فكرة أيضًا، وينتج عن إزالة الحد الفاصل بين مُعطيات الوعي الأصلية ومُعطيات الوعي
المشتقَّة على هذا النحو، تفسير بسيط وطبيعي لظاهِرة الذاكرة.
وفضلًا عن ذلك؛ فمن الواجب أن يُفهم مثول الموضوعات الخارجية أو العالم الخارجي
أمامنا على أنه قبل كل شيء مُعطًى في ميدان الوعي، يَنبغي تفسيره أو وصفه عن طريق
تحليل الوعي؛ فعلى حين ينبغي النظر إلى المدة على أنها صفة داخلة في تكوين جميع
الظواهر، فإنا نرى أنَّ عنصر الامتداد المكاني يدخل في تكوين فئة معيَّنة من
الظواهر فحسب؛ أعني تلك التي نُسمِّيها في حياتنا اليومية بالأشياء أو موضوعات
العالم الخارجي، فكيف يَنتقِل الموضوع الخارجي إلى الوجود؟ يَستخدِم هدجسون هنا
حُجةً سبق أن لجأ إليها ذهنُ باركلي اللماح، قبل أيام البحث السيكولوجي الدقيق
بوقتٍ طويل، هي أن الموضوع الخارجي مركَّب من مزيجٍ من الإدراكات البصرية
واللَّمسية؛ ففي البداية تكون مُدركات هاتَين الحاستَين مُنفصِلة، وتكون في
انفصالها مُتجزِّئة غامِضة تمامًا، ولا يُمكنُنا أن نُدرك حضور جسم ثابت، يَشغل
حيزًا في المكان ذي الأبعاد الثلاثة، ويُحيط به المكان من كل جانب، إلا إذا ارتبطت
مُدركات هاتَين الحاستَين بحيِّز واحد في المكان؛ أي إذا اندمجَت المُدركات البصرية
واللَّمسية في كل واحدٍ كامل، عندئذ فقط يُمكنُنا أن نُميِّز بين السطح والأعماق.
وليس الإدراك الحسي المباشر إلا عاملًا واحدًا من العوامل التي تُؤدِّي إلى حدوث
هذه العمَلية. أما العامل الآخر فهو الاستِدلال عليها أو التفكير فيها بمُناسَبة
إدراكات هذه الحواس أو في صددها. ويَنبغي أن يُلاحظ أنَّنا هنا أيضًا لا نستطيع
الكلام عن أي مدرك أو عن فاعلية جامعة للذات؛ وبالتالي لا نستطيع الكلام عن انفصالٍ
بين الفعل الإدراكي والأشياء المدركة؛ فهذا التكوين للموضوعات يتمُّ على أنه مجرَّد
مرحلة داخل المجرى الواحد المتَّصل المعقد للوعي. وهنا أيضًا يظلُّ الأنا
مُستبعَدًا تمامًا.
فكيف نصلُ بالتحليل إلى فكرة الذات؟ يرى هدجسون أن أُولى بوادِر الذات تظهر في
شعور المرء بجسمِه، الذي يَتميَّز عن كل الأشياء الأخرى المُعطاة في الوعي بأنه
حاضرٌ دوامًا، يصل إليه الإدراك باستمرار؛ وعلى هذا النحو يَصلُ المدرك إلى تحديد
موضعٍ لمجرَى الوعي كله بكل مُحتوياتِه في جسمه. وهذه العملية أساسية وحاسِمة
بالنسبة إلى كل تجربة لاحِقة؛ فهي الخطوة الأولى. ولكنها ليسَت الأخيرة، نحو إدراك
الذات على أنها كائنٌ واعٍ أو مُدرِك، يكون فيه جسمنا مُعطًى بوصفه موضوعًا ماديًّا
حقيقيًّا، ونقطة ثابتة تتَّصل بها كل الأشياء الخارجية الأخرى؛ غير أن التفكير قبل
الفلسفي — الذي يقول بهذه الأشياء على نحوٍ مُطلَق — يَرتكِب خطأً القول بفرضٍ لا
أساس له، وبذلك يقع في تحيُّز وتغرُّض لا يُمكِن استئصاله. وهنا نجد هدجسون — كما
نجده في سائر المواضِع — يُبدي أقوى معارضة للموقف الطبيعي، ولا سيما لكل فلسفة
تتَّخذ دعامة لها من هذا الأساس غير النقدي، المُفعَم بأخطاء وتغرُّضات لا حصر لها،
ويتناول هدجسون فكرة خاطئة أخرى يقع فيها الإنسان المُعتاد، ويُشاركه فيها مُعظم
الفلاسفة؛ وذلك في بحثِه لتصوُّر العلَّة الشائع، وهو يَستبدِل به تصور «الشرط
الحقيقي»، وهو تصور له أهمية عُظمى بالنسبة إلى ما يَلي ذلك من الأبحاث، ويعرفه
بأنه شيء إذا ظهر ظهر شيء آخر لم يكن ليَظهر لولا الأول، أو بالاختصار شرط لا غناءَ
عنه، سابق على ما هو شرط له أو مُقترِن به، ويرى هدجسون أن الموجود الوحيد الذي
نَعرف إيجابيًّا أنه شرط حقيقي هو المادة؛ فهي المصدر الوحيد المعروف لنا للشرطية
الحقيقية في مَجرى الطبيعة. ومن الواضح أننا هنا قد قفَزْنا من مجال الوعي الخالص،
الذي كان هدجسون يَلتزمه بدقة من قبل، إلى العالم المستقل عن الوعي، ولا بدَّ أن
يكون الفشل مصير محاولة هدجسون تفسير هذه القفزة وإثباتها عن طريق تحليلٍ للوعي؛
فهو يقول: إنَّ هذه الفكرة القائلة إن المادة شرط حقيقي؛ وبالتالي حقيقة تعلو على
الوعي، هي النتيجة النهائية التي يُؤدِّي بنا إلى تحليل الإدراك الحسي؛ وبالتالي
فإن هذا الضمَّ الهائل الذي ظلَّ الفهم البشري السليم يؤمن به دائمًا، يُجسِّد له
تبريرًا كاملًا في وقائع التجربة كما تَتكشَّف في تحليل الوعي، ولسْنا بحاجة إلى
مزيدٍ من النَّقد لنُدرِك أن هدجسون يَهدم هنا الأرض التي تَرتكِز عليها قدماه،
ويدمر مذهبه الخاص؛ فهو أشبه برجل ظلَّ سنوات مُتعدِّدة حبيسًا، يهرب عنوةً من سجنِ
الوعي، ويقف الآن حرًّا في العالم الخارجي الرحب.
ويُمكن القول: إنَّ التحليلات الفينومينولوجية التي يتضمَّنها المجلَّد الأول من
«ميتافيزيقا التجربة» تُمثِّل أفضل أعمال هدجسون، وهي بالفعل الشيء الوحيد الذي
يَضمَن له مكانًا مشرفًا في الفلسفة الإنجليزية المُتأخِّرة. وليس في وسعنا أن
نتحدَّث إلا باختصار عن المناقشات المطوَّلة المتضمَّنة في المجلَّدات الثلاثة
الأخيرة، وهي المجلَّدات المبنية على هذا الانتقال المُفاجئ لذلك الميتافيزيقي
المزعوم إلى العالم الحقيقي؛ فعلى أثر بحث هدجسون في فكرة المادة، بدأ مذهبُه في
العالم يتَّخذ صورة ثنائية؛ فالمادة والوعي يقفان كل في مواجهة الآخر بوصفهما
العاملَين الأساسيَّين لكل وجود، ويُكوِّنان معًا مجموع العالم، وقوام علاقتهما
المتبادَلة هي أن المادة، التي نشأت في البداية من قلب الوعي، تُصبحُ الشرط الحقيقي
الذي يتوقَّف عليه وجود الوعي بكل أحواله، أو على حدِّ التعبير المألوف، تُصبح
المادة علَّةَ وجود الوعي أصلًا، ولا يكون هذا التبادُل بين الإحداث والحدوث
مُمكنًا إلا لأن ذات الوعي (thatness of
Consciousness) متميِّزة عن صفاته
(whatness)، أو لأنَّ الوعي من حيث هو وجود أو
كينونة مُنفصِل عن الوعي من حيث هو معرفة أو ماهية؛ فالمادة لا تكون شرطًا أو علَّة
إلا للأول، أما الثاني، الذي لا يتقيَّد بأيَّة شروط مادية؛ فهو نفسه الوجه الذاتي
لكل وجود مُمكن، وضمنه الوجود المادي. ومن الواضِح أن هذه التمييزات المدرسية
المبالغ فيها هي ذاتها عاجزة عن سد الثغرة التي تَشطُر فلسفة هدجسون شطرَين.
وعندما تغدو المادة مستقلَّة، ندخل مجال العلوم الوضعية أو عالم الشروط الحقيقية،
فالفلسفة تبحث في المادة بقدر ما تبدو لنا. أما العلم فيبحث فيها بقدر ما تبدو لنا
موجودة في الواقع، على حين أن المادة في ذاتها نتاج للخيال؛ وبالتالي لا شأن لها
بالفلسفة ولا بالعلم.
ويُواصِل هدجسون أبحاثه ليضع أساسًا فلسفيًّا للعلوم الدقيقة، ولتصوُّراتها
الأساسية، كالمكان والزمان والمادة والعدد والقوة والحركة، وهو يَسير هنا في مسالك
تجريبية تمامًا، ويُحاول دائمًا أن يستعيض عن التفسير العلِّي بمبدأ الشروط
الحقيقية.
وبعد ذلك يَنتقِل هدجسون إلى عالم الذهن الموضوعي. وهنا تزداد دقة الجزء التحليلي
من مذهبه وضوحًا؛ فالجزء الأول يتناول تحليل المُعطى حسيًّا (أي المعطيات الحاضرة
والانطباعات)، والثاني يتناول تحليل الشروط الحقيقية (أي العالم المادي، وهو مجال
العلم)، والثالث يَتناول تحليل المشتقات الحسية (أي التمثُّلات أو الأفكار بالمعنى
الذي قال به هيوم)، ويصف الجزء الأخير من الفلسفة التحليلية، تركيب العالم المعقول،
أو عالم الفكر والشعور والإرادة. وهذا هو موضوع ما يُسمَّى بالعلوم العِلمية؛ أي
المنطق، والأخلاق، والشعر، التي يَجمع بينها هدجسون جمعًا غريبًا؛ فالمنطق هو العلم
الذي يُوضِّح الطريقة التي ينبغي أن نفكر بها إن شئنا أن نتجنَّب الخطأ، وهو فرع
من
الأخلاق، من حيث إن كل العمليات الفكرية هي في آخر الأمر فعلٌ غرضي، ويؤكِّد هدجسون
الطابع الانفعالي والإرادي للفكر، ويَصف الحكم بأنه فعلُ انتباه انتقائي، والمنطق
بأنه أداة للوصول إلى حقيقة واقعة، ويؤكِّد أهمية منفعته العِلمية في الحياة
والعلم. وهكذا اتجهت أفكاره في نفسِ اتجاه الحركة البرجماتية الناشئة، التي يَنتمي
هو إلى مُمثليها الأوَّلين، والتي استبق انقلابها في ميدان المنطق (عند أ. سدجويك
وشيلر) في نقاطٍ هامة، بل حتَّى في صيغها المتأخِّرة المعروفة، ومع ذلك لا يبدو
أن
البرجماتيين قد تنبهوا إلى هذا التحالف بينه وبينهم، ويبدو أن خصمه الخاص في هذا
الصدد لم يكن المنطق الصوري الأرسطي بقدر ما كان المنطق الميتافيزيقي
الهيجلي.
وفي ميدان الأخلاق يعود هدجسون إلى الاقتراب من كانْت، مُبتعِدًا عن الفلسفة
الأخلاقية التقليدية الإنجليزية القائلة بمذهب السعادة، ومذهب المنفَعة، ومذهب
اللذَّة في صورتَيه الأنانية والغيرية، فهدف الأخلاق ليس تحقيق سعادةٍ فردية أو
شاملة، وإنما تكوين شخصية مُنسجِمة متَّسقة مع نفسها، وأساس الأخلاقية هو الواجبات
لا الحقوق، وهو يأخذ في مذهبه في الحرية موقفًا وسطًا بين اللاحتمية وبين
الحتمية القهرية compulsive determinism كما
يُسمِّيها؛ فالحرية لا تعني التحرُّر من القوانين الطبيعية، وإنما تعني الحرية في
ظلِّ هذه القوانين؛ أي الحرية بمعنى التحكُّم في الذات self-determination، فللشخصية الأخلاقية القدرة على الاختيار بين
طرق السلوك المختلفة التي تعرَّض لها؛ وبالتالي القدرة على أن تسلك سلوكًا حسنًا
أو
سيئًا، والإرادة تعني الإرادة الحرة في ذاتها وبذاتها؛ فالإرادة غير الحرة هي تناقض
ذاتي، ويتَّضح لنا مبلغ تذبذب موقف هدجسون وافتقاره إلى الاتساق إذا أدركنا أنه
يستخدم في دعم فكرة حرية الإرادة وقائع في فسيولوجيا الأعصاب بطريقة مُضطربة غير
نقدية على الإطلاق؛ فهو يقول: إنَّ العملية التي تقدر فيها أسباب تأييدنا لفعل ما
أو معارضتنا له، تتوقَّف على ازدياد أو نقص قوة العمليات العصبية التي تتحكَّم على
نحو حاسم في تحديد اختيارنا. كذلك يقول: إنَّ الوعي الذاتي — الذي يلعب في هذا
دورًا — يتوقف بدوره على هذه العمليات العصبية. وهكذا فإن هدجسون حين أرجع البواعث
الأخلاقية إلى العلية الغامضة للمادة العصبية، قد تخلَّى تمامًا عن تفسيره الفلسفي،
ونبذ الآراء السليمة التي استمدَّها من كانْت. وهنا يظهر هدجسون متخلفًا كثيرًا
عن
هيوم، الذي كان يتصف بحرصٍ نقدي حال بينه وبين اتِّباع هذه الطريقة المشكوك فيها
في
التفسير.
ويؤدِّي الجزء التحليلي من المذهب — آخر الأمر — إلى الجزء الإيجابي البنَّاء،
الذي يقوم بدوره — رغم ذلك — على التحليل، فهنا يَجمع المؤلف كل نتائجه السابقة
في
مركب شامل واحد، وهو يتساءل: هل المادة — بوصفها شرطًا لكل وجود حقيقي — هي ذاتها
غير مشروطة، أم إنها خاضعة لشروط أخرى غير مادية؟ ربما لم يكن العالم المادي إلا
مَظهرًا واحدًا لنظام فيه شرطية حقيقية، ولا نَعرف عنه غير ذلك المظهَر. هذه الفكرة
تفتح آفاق العالم غير المنظور، بوصفه الموضوع الصحيح للفلسفة البنَّاءة، ومهما كان
تصوُّرنا لطبيعة العالم غير المنظور. فلا مفرَّ لنا من أن نعتقد أنه مُكمِّل للعالم
المنظور، فهما معًا يكونان نظامًا واحدًا للوجود، صحيح أن المادة لها قطعًا بداية
في الزمان، من حيث إنها تتوقَّف على شروط حقيقية ولكنها غير مادية؛ غير أن هذا لا
يحول دون امتدادها في المستقبل بلا حدود؛ لذلك كان وجودها مُقترنًا بوجود العالم
غير المنظور الذي خلقها ويَحفظها. وفضلًا عن ذلك فليس العالم غير المنظور مُصادرةً
للعقل النظري بقدر ما هو مصادرة للعقل العملي. وبهذا المعنى لا يكون علَّة ودعامة
للعالم المادي، وإنما للعالم الأخلاقي أو الواعي، وبالمثل فإن الخلود مصادرة
أخلاقية، وأخيرًا يميل هدجسون إلى افتراض أن النفس قد تنتقل بعد الموت أولًا إلى
المناطق المجهولة في العالم المادي، ما دام الوعي — بوصفه طابعها الأساسي — يظلُّ
متوقفًا على المادة، لا على الشروط غير المادية للمادة؛ غير أننا لا نعلم شيئًا
عن
انتقالها إلى العالم غير المنظور. أما الله — من حيث هو الموجود الأزلي الأعلى —
فإنا نتصوَّره وعيًا مماثلًا لوعينا. ولكنه غير مُقيَّد بقيودنا، ولديه قوة وقدرات
تفوق قدراتنا إلى حدٍّ لا يوصف، ورغم أنه بلا حواس، فلدَيه بصيرة حدسية واحدة شاملة
لكل شيء.
وهكذا يُكمل هدجسون أطرافَ هذه التأمُّلات الغامضة المتردِّدة بتكوين صورة
موحَّدة للعالم، فإذا ما نظرنا إلى مذهب هدجسون الفلسفي في كليته وجَدنا فيه ضعفًا
وافتقارًا إلى الاتِّساق، ونقصًا في التبصُّر، ونزعة لفظية مُفرطة. ولكنه رغم ذلك
كله عمل يدعو إلى الاحترام والإعجاب لمفكِّر دخل في صراع مُخلِص مع المشكلات
الفلسفية، وثابَرَ على ذلك بقوة، ولم تكن قُدراته كفئًا لمساعيه على الدوام. ولكنه
كان دائمًا يسير في هذه المساعي بكلِّ ما أوتيت شخصيته من قوة.
(٢) روبرت آدامسون Robert Adamson
(١٨٥٢–١٩٠٢م)
«درس في جامعة إدنبرة، واشتغلَ بعد ذلك مساعدًا لكالدروود ثم مساعدًا لفريزر،
وقضى صيف عام ١٨٧١م في هيدلبرج، وانضمَّ في سنِّ الثانية والعشرين إلى هيئة تحرير
«دائرة المعارف البريطانية»، وفي سنِّ الرابعة والعشرين (أي في ١٨٧٦م)، اختير
أستاذًا للمنطق والفلسفة بكلية أوينز Owens
بمانشستر، وفي ١٨٩٣م أصبح أستاذًا للمنطق في أبردين، ثم في جلاسجو في
١٨٩٥م.»
للمنطق في أبردين، ثم في جلاسجو في ١٨٩٥م.»
مؤلَّفاته: «روجر
بيكن، فلسفة العلم في القرن الثالث عشر Roger Bacon: The Philosophy of Science in the XIII th Century» ١٨٧٦م، «حول فلسفة كانْت On the Philosophy of Kant» ١٨٧٩م (ترجمة
شارشمت Schaarschmidt إلى الألمانية في
١٨٨٠م)، «فشته Fichte» ١٨٨١م في (مجموعة كلاسيكيات
بلاكوود الفلسفية)، «النظر والعمل في
الأخلاق Moral Theory & Practice»، ١٩٠٠م (مقال في كتاب «الديمقراطية الأخلاقية Ethical Democracy» نشره
س. كويت S. Coit). وقد ظهَرت له بعد وفاته
المؤلَّفات الآتية «تطور الفلسفة الحديثة مع محاضرات ومقالات أخرى The Development of Modern Philosophy, with Other Lectures & Essays» نشَرَه
و. ر. سورلي Sorley في مجلدَين، ١٩٠٣م (ظهرت
طبعة مستقلَّة للمجلد الأول في ١٩٠٨م و١٩٣٠م)، «تطور الفلسفية
اليونانية The Development of Greek Philosophy» نشره سورلي وهاردي Hardie في ١٩٠٨م، «الموجز في تاريخ المنطق A Short History of Logic» نشره سورلي في ١٩١١م (والجزء الأكبر منه
إعادة طبع لمقاله «المنطق» في الطبعة التاسِعة من دائرة المعارف البريطانية
(١٨٧٥–١٨٨٦م)) وفي مجلة Mind (ملاحظات وتعليقات في
السنوات من ١٨٧٦م إلى ١٨٩٨م)، وفي مُعجَم السِّيَر القومية، (من ١٨٨٥م فصاعدًا)،
وفي «معجم
الفلسفة وعلم النفس Dictionary of Philosophy & Psychology» ﻟبولدون Baldwin (١٩٠١-١٩٠٢م)، وغيرها.
تَنتمِي أهم أعمال آدامسون إلى ميدان تاريخ الفلسفة. ولقد كان بلا نزاع أعظم عالم
في الفلسفة عرفته الأمة الإنجليزية من بعد السِّير وليام هاملتن، فلم يكن يُعادله
أحد من مُعاصِريه في سعة اطِّلاعه وشُمول علمه، أو في اتساع نطاق قراءاته، ومعرفته
الوثيقة الدقيقة المؤكَّدة لموضوعه، الذي يمتدُّ عبر ميدان الفكر الغربي بأسرِه،
ولم تتوافر لواحد منهم تلك النظرة الشاملة التي تنتظِم التطور الفلسفي بأكمله،
وحركة الفلسفة كلها منذ اليونانيِّين حتى يومنا هذا. ولقد أصبح — بفضل تعطُّشه
البالغ إلى المعرفة — قارئًا مهمًّا في كل ميدان منذ شبابه. وليس أدلَّ على طبيعته
هذه من أنه كان يُشرف، وهو في الحادية والعشرين من عمره، على القسم الفلسفي من
«دائرة المعارف البريطانية»، بوصفه محرِّرًا مُستقلًّا، وساهَمَ فيها بسلسلة طويلة
من المقالات التي كشف فيها عن معرفة عميقة مُفصَّلة بموضوعه. وقد وزَّعَ معرفته
الموسوعية فيما بعدُ — باختياره — على مطبوعات جامعة ومعاجم ومجلات دورية، دون أن
يُبديَ القدرة على جمعها في عمل واحد ضخم، وزيادة الفائدة المستمَدَّة منها. وقد
حال موته المبكِّر دون تنفيذ خطتِه في كتابه تاريخ شامل للفلسفة، وكان نشاطُه
التأليفي يَفتقِر على وجه العموم إلى التركيز؛ إذ إنه توزَّعَ بين أعمال مُتعدِّدة
مُنفصِلة، بدلًا من أن يتركَّزَ في واحد منها؛ لذلك فإن ما أنجزه يقلُّ كثيرًا عن
قُدرته الفعلية، بل إنَّ محاضراته — التي نُشِرت بعد وفاته من مذكِّرات سماعية —
لا
تُقدِّم بديلًا كافيًا لما يَحق لنا أن نتوقَّعَه على أساس قدرته الفذَّة في
الكتابة التاريخية.
هذا الافتقار إلى التركيز يَجعَل من العسير علينا أن نُدرِك ماهية تفكيرِه الخاص.
وليس المقصود بهذا أن سعة اطِّلاع آدامسون والوفرة الهائلة لمعلوماته، جعلتْه
يَلتزم المواد التاريخية وحدَها، ويقنع بأن يكون مُفسِّرًا لأفكار الغير؛ فقد كان
نزوعُه إلى تشكيل الأشياء على طريقته الخاصة لا يقلُّ عن ذلك قوة، ولم تكن أبحاثُه
التاريخية غايةً في ذاتها (وإن كان فيها هذا العنصر أيضًا) بقدر ما كانت مُناسبة
للتفكير في المشكلات ذاتها؛ غير أن الجزء الأكبر من عرضه لمساهماته الخاصة في حلِّ
هذه المشكلات، قد قدم خلال تفسيره النقدي لأفكار الفلاسفة الكبار السابِقين، لا
في
عرض منهجي خاصٍّ به؛ لذلك كان من المُحال في كثير من الأحيان إدراك اتجاه تعاليمه
مباشرةً، وكان علينا أن نستخلصها من مبارزاته النقدية مع المُفكرين الآخرين. وهناك
صعوبة أخرى في تحديد موقفه الفلسفي، ترجع إلى أن هذا الموقف قد طرأت عليه عملية
تبدُّل وتغيُّر مُستمِر على مرِّ السنين، صحيح أن المراحل المتعدِّدة لتفكيره لا
تَختلِف إلى حدٍّ كبير؛ غير أن هناك مسافة كبيرة تفصل بين بداية التغيير ونهايته،
ولم يكن هذا التبدُّل أو التبايُن يَحدث طفرةً واحدة، بل كان يحدث تدرجًا وباتصال،
بحيث لا يُمكن القول في كثير من الحالات إنه قد حدث تغيير في وجهة النظر، وإنما
الذي حدث هو مجرد تعديل متفاوت الأهمية، داخل اتجاهٍ فِكري واحد.
هذا الاتجاه، الذي يُمكننا بفضله أن ننظر إلى مذهب آدامسون، رغم كل ما طرأ عليه
من تغييرات متعدِّدة، على أنه وحدة متَّسقة في ذاتها نسبيًّا، هو اتجاه «كانْتي».
فإذا استثنَينا تعلُّقَه في وقتٍ مُبكِّر — خلال سنيِّ دراسته — بفلسفة مل، فإنا
نجدُه قد اتَّخذ من هذا الاتجاه نُقطة بداية له، وكان يعود إليه على الدوام؛
فالمنهج «النقدي» الذي افتتحَه كانْت كان يُمثل — طوال حياته — الأساس الراسخ
المتين الذي ينبغي ألا يتجاوَزه الفكر الحديث. ولكن لما كانت الفلسفة قد اكتسبت
—
منذ عهد كانْت — ثروة أوسع كثيرًا من الخبرة والتجربة، تزيدُها العلوم الدقيقة
اتساعًا على الدوام؛ فمن الواجِب أن يُعاد على الدوام تشكيل هذا الأساس وتوسيعه،
رغم أن كل هذا التطوُّر لا يعرضه لأيِّ خطر أساسي. وهكذا اتجهت جهود آدامسون
الرئيسية، ولا سيما في الفترة المتأخِّرة من حياته، إلى التوفيق بين المنهج النقدي
وبين المعرفة التجريبية الجديدة المُكتسَبة من العلوم الطبيعية والذهنية، حتى لو
اقتضى ذلك التضحية ببعض المواقف الأساسية في المذهب الكانْتي، ولا سيما موقفه
المثالي. وهذا هو الذي يُفسِّر ويُبرِّر تحوُّل آدامسون — الذي أكَّده مُفسِّرُوه،
والذي كان باديًا للعيان — من موقف مثالي أصلي إلى موقف يَزداد واقعيةً على الدوام،
فمهما كانت المسافة الفاصِلة بين بداية تفكيره وبين نتيجتِه النهائية، فينبغي أن
نردَّ على أي تفسير آخر بقولنا إن الطريق الذي سلكه لم يخرج به فعلًا عن نطاق
التعاليم الكَانْتِية، وإنما ظلَّ على الدوام منحصرًا فيها، وأنه رغم تبايُن وتغير
التفسيرات التي حاول الإتيان بها لهذه التعاليم، لم يتخلَّ عنها أبدًا بصفة قاطعة.
وعلى ذلك فإذا كان من الصحيح القول: إنَّ آدامسون قد بدأ بالمثالية وازداد تحوُّلًا
إلى الواقعية كلَّما مضى به العمر، فإنَّ هناك حقيقة أهم من هذه، هي أنه كان
كانتيًّا طوال حياته، ولما كان اهتمامه قد انصبَّ على المسائل النفسية
والإبستمولوجية أكثر مما انصبَّ على المسائل النظرية التأملية، فإن هذا لا يعني
إلا
أنه جعل من التحليل النقدي للتجربة أساسًا لأبحاثه الفلسفية، وطبقه حتى في الحالات
التي لم يكن يستطيع فيها قبول نتائج كانت، وبذلك وجد نفسه مضطرًّا إلى الانحراف
عنها كثيرًا في تصحيحه لها؛ لذلك سوف نُطلِق على المرحلة الأخيرة من تفكير آدامسون،
وهي المرحلة التي عبَّر فيها عن أنضجِ آرائه، اسم «الواقعية النقدية Critical Realism»، تمييزًا لأفكاره من
الواقعية الجديدة عند مور ورِسل وألكسندر وغيرهم، وهي الواقعية التي ظهَرَت بعد
وفاته. ولقد كان الأصل الفلسفي لهذَين المذهبَين الواقعيَّين من التبايُن،
والاختلافات في المضمون بينهما من الأهمية، إلى حدٍّ لا يعود من المعقول معه أن
يُحاول المرء إقامة علاقة بينهما لا وجود لها بالفعل، فواقعية آدامسون تسبق الحركة
الواقعية الجديدة في الزمان؛ غير أن الأخيرة لم تضمَّ صفوفها إلى واقعية آدامسون،
ولم تتأثَّر به إلى أي حدٍّ يستحق الذكر.
وعلى ذلك ففي تطوُّر آدامسون الفلسفي مرحلتان رئيسيتان؛ مرحلة مثالية مُتقدِّمة
ومرحلة واقعية مُتأخِّرة، الأولى تتَّفق على وجه التقريب مع الفترة التي قضاها في
كلية أوينز بمانشستر، ويُعبر عنها كتاباه الأوَّلان عن كانت وفشته (١٨٧٩م و١٨٨١م)
ومقاله عن «المنطق» في دائرة المعارف البريطانية. ولكن حتى هذه المرحلة ذاتها تنطوي
على نوع من التمهيد للتغير اللاحق. وليس في وسعنا أن نُحدد بدقة هذه الأطوار
المتوسِّطة؛ إذ لا توجد مطبوعات منشورة تحددها بدقة، باستثناء محاضرات السنوات
١٨٨٦–١٨٨٨م (انظر مقال دويس هكس G. Dawes Hicks
«المحاضرات
الفلسفية للأستاذ آدامسون Professor Adamson’s Philosophical Lectures» في مجلة
Mind، المجلد الثالث عشر، ١٩٠٤م، ص٧٢ وما
يليها). أما المرحلة الثانية فتشمل على وجه التقريب الفترة التي قضاها في أبردين
وجلاسجو، وتُعبر عنها لأول مرة مُحاضرته الافتتاحية في جلاسجو، سنة ١٨٩٥م (وقد وردت
في كتاب «تطور الفلسفة الحديثة»، المجلد الثاني، ص٣–٢٢)، ثم عُرِضَت بالتفصيل في
مجموعتي المحاضرات اللتين ألقاهما بين عام ١٨٩٧م وعام ١٨٩٩م، وتعرض إحدى هاتين
المجموعتَين المبادئ الرئيسية لنظرية في المعرفة، في صدد عرض عام للفلسفة الحديثة
من ديكارت إلى هيجل. أما المجموعة الأخرى فتَعرض مبادئ علم النفس (انظر المرجع
نفسه، المجلَّد الأول، ص٢٨٣–٣٥٨، والمجلَّد الثاني، ص١٦١–٣١٧)، وممَّا يؤسَف له،
في
صدد هذه المرحلة الأخيرة، أنه لا يوجد لدينا نصٌّ أصلي بقلم آدامسون نفسه؛ فهو لم
يَستطِع أن يكرس جهده لطبع مؤلَّفات تُعبِّر عن أفكاره الخاصة، كما لم يكن من عادته
أن يُدوِّن هذه الأفكار كتابةً ليُلقيها في محاضَرات؛ لذلك كان علينا أن نَعتمِد
على المذكرات التي أخذها تلاميذه، والتي عرضها سورلي في نشرته النموذجية لهذه
المؤلَّفات.
ولقد تحرَّر آدامسون، حتى في كتابه المُتقدِّم عن كَانْت، من خطأ كان واسع
الانتشار في إنجلترا في ذلك الحين، هو خطأ التوحيد بين فلسفة كَانْت وبين نظريتِه
في المعرفة، والاعتقاد بأن هذه الأخيرة لا تُسفِر إلا عن لا أدرية ظاهرية تمنع
الفكر من التساؤل عن مُعطيات التجربة على الإطلاق؛ فقد أدرك منذ البداية أن مثل
هذا
الرأي باطل تمامًا، ما دام يَفصل عن بقية أجزاء فلسفة كانت وجهًا واحدًا لنظرية
المعرفة الكَانْتِية، ليس وجهًا جديدًا أو هامًّا لها. وبهذا الفصل زيفها وشوهها.
أما آدامسون فقد وضَع نصب عينَيه تعاليم كانت بأكملها، وحاول أن يَنظر إلى نقد
كانْت للمعرفة في ضوء هذا الكل؛ فاللاأدرية
البادية ليسَت إلا جزءًا من تلك الفكرة الميتافيزيقية الأساسية القائلة بوحدة
العقل، وهي فكرة تسود مذهب كانْت بأسره، وتجد أهم تعبير عنها في غائية الأخلاق
عنده، ويسير تفسير آدامسون، على وجه العموم، في الاتجاه العام للشرح الهيجلي، الذي
أخذ به جرين ووالاس وإدوارد كيرد في العقد الثامن؛ أي إنه تأثَّر بدوره بالحركة
العقلية القوية التي بدأها هؤلاء المفكِّرون. ولكن لما كانت طبيعة آدامسون واقعية
رزينة إلى حدٍّ بعيد، ولما لم يكن ميالًا إلى الكلمات البراقة واللغة المهوشة،
فإنَّ الانفعال المثالي عند الهيجليِّين لم يُدِر رأسه، وإنما ظلَّ مُحتفظًا بصفة
ضبط الأعصاب والفِطنة النقدية التي رآها موجودة في كانت أكثر ممَّا توجد في
تأمُّلات أتباعه بكثير. ومن هنا فإنه لم يُصبح أبدًا هيجليًّا نموذجيًّا، وإن كان
قد اعترف بصحَّة انتقاد هيجل لكانت، ولم يَستطِع أن ينكر أن ذهن كانت التحليلي
الدقيق قد مضى في عملية النَّقد أبعد مما يَنبغي، وأن إفراطه في التحليل الدقيق
وفي
التمييز ووضع المُتقابلات، قد جعل الوحدة الأساسية والكلية الشاملة تغيب عن
أنظارِه، غير أنه أحسَّ بالنفور من الشطحات النظرية الساذجة التي كانت تتمثَّل لدى
بعض الهيجليين المتأخِّرين، كتلك التي يجوز أنه صادفها لدى زميله في جلاسجو، السير
هنري جونس؛ ذلك لأن الفلسفة قد فقَدَت تمامًا — لدى هؤلاء — تحفُّظها المعهود،
وانحطَّت إلى مرتبة البلاغة اللفظية المريحة، أو الإثارة الفارغة.
ورغم أن آدامسون لم يكن يَميل — حتى في شبابه — إلى اقتفاء أثر كانْت بطريقة
عمياء، فقد كان مُقتنعًا كل الاقتناع بما للفلسفة النقدية من أهمية فائقة؛ إذ بدا
له أن المنهج النقدي هو الأساس الوحيد السليم والمُثمر لأيِّ نظر فلسفي آخر. وفي
هذا يقول: «علينا أن نستأنف البحث في مشكلة الفلسفة كما أتَتنا من بين يدَي كانْت.
فليس لأيِّ منهج سابق جدوى في الوقت الحالي، ولا يحقُّ لأيِّ منهج لم يتأثَّر
بالنقد أن يُحاول خوض مشكلات الفكر الحديث.»
٢ ولهذا السبب دعا إلى عودة الفلسفة إلى كانْت، وأراد أن يَنظر إلى عمله
الفلسفي الخاص على أنه «تطوير مشروع لما هو مُتضمَّن في أعمال كانت»، وإنا لنراه
—
حتى في كتاباته الأولى — يُؤكِّد وثوق الارتباط وتبادُل التأثير بين الفكر النظري
والمعرفة التجريبية. فكل تقدُّم في البحث العِلمي يفتح آفاقًا
جديدة للتفكير الفلسفي، ويخلق له مُشكلات جديدة،
ويَقتضي إعادة النظر في أسسِه القديمة، ولا يُمكِن أن تَنجح فلسفة لا تُتابع عن
كثب
الأحوال العامة للمعرفة العِلمية التي تمَّ الوصول إليها، ويُطلِق آدامسون على هذه
الظاهرة اسم التوتُّر بين الواقعية العِلمية والمنهج الفلسفي، فكثيرًا ما يُواجِه
كلٌّ منهما الآخر بعداء أو عدم اكتراث، وهما ميَّالان إلى السير كل في طريقه الخاص
دون أن يعبأ أحدهما بالآخر؛ غير أن تلك المُحاوَلات التي بذلها العلم لوضع مذهبٍ
فلسفي عن العالم (كمُحاوَلات سبنسر والداروينيِّين) كان مصيرها الفشل منذ البداية؛
لأنها أضفَت على جانب واحد فقط — هو الطبيعة — صبغة مُطلَقة؛ وبالتالي لم تَستطِع
إدراك ماهية الروح. وإذن فمن الواجب أن تتولى الفلسفة هذه المهمَّة، على أن تكون
هذه فلسفة تفتح صدرها لتيار المعرفة. وهذا هو السبيل إلى إزالة التوتُّر الطبيعي
القائم بين البحث التجريبي والتفكير الفلسفي.
هذه الآراء تظهر عند نهاية كتاب آدامسون عن فشته في ١٨٨١م، ثم تعود المحاضرة
الافتتاحية التي ألقاها في جلاسجو سنة ١٨٩٥م — وهي المحاضَرة التي تُؤذن ببداية
المرحلة الثانية لتفكيره — إلى تناول هذه المشكلة عند نفس هذه النقطة، وتدعو بشكل
قاطع إلى إعادة النظر في المذاهب المثالية على أساس المعرفة الجديدة التي أمدَّنا
العلم في القرن التاسع عشر بقدرٍ وفير منها، وأول مظهر يتبدَّى فيه التغيُّر الذي
طرأ على تفكير آدامسون في السنوات الواقعة بين هذَين العهدَين، وهو تغيير يُسمِّيه
هو ذاته انتقالًا من المثالية إلى الواقعية، أو من العقلية إلى التجريبية أو
الطبيعية؛ هو معارضتُه الصريحة للنزعة الذاتية عند كانْت؛ فهو يَنظُر إلى هذه
النزعة على أنها هي الطابع الغالب على نظرية المعرفة عند كانْت، وإن يكن كانْت ذاته
قد حرص فعلًا على تفنيد وجهة النظر هذه؛ غير أنَّ هذه النزعة أعمق تأصُّلًا في
تفكيره من أن يستطيع التحرُّر منها نهائيًّا؛ فقد لا يكون صحيحًا أن شروط إمكان
التجربة هي الصورة التي تفرضها فاعلية الذهن على المادة المُختلطة الآتية من
الخارج، وربما لم يكن الذِّهن — في المعرفة — هو العامل المُتحكِّم الوحيد الذي
يتولى — بذخيرتِه الكاملة من الأسلحة المعرفية — إخضاع الوقائع المُعطاة لسيطرته،
وإنما الواجب أن نَنظر إلى الوجهَين المُتضايفَين للعمَلية؛ أي الحياة الذاتية
للروح الواعية بذاتها والموضوعات المدركة موضوعيًّا، على أنهما معًا قابلان
للتطوُّر. وعلى أن كلًّا منهما يتحكَّم في الآخر. وإذن فكانْت لم يضَع التأكيد في
محلِّه؛ فقد أكَّد العامل الذاتي أكثر مما ينبغي، وتجاهل الجانب الموضوعي، ولو شئنا
أن نَبحث في ماهية المعرفة بحثًا دقيقًا؛ لوجب علينا أن نتحوَّل من الأفكار
المجرَّدة إلى التجربة العينية، «فليس ثمَّة طريق ملَكي يُوصِّل إلى الحقيقة
الفلسفية، والطريق الوحيد الذي يُمكِن اتِّباعه هو طريق الوقائع الطويل الشاق.»
٣
وهكذا يتمُّ تغيير مركز الاهتمام، من الجانب الذاتي إلى الجانب الموضوعي للمعرفة،
ومن الوعي إلى الوجود. ومن المجرَّد إلى العيني، وأيًّا ما كان الجانب الموضوعي؛
فهو قطعًا ليس ذلك الخليط من الإحساسات، الذي قال به كانْت، والذي يتعيَّن على
الذات أن تبعث فيه النظام والارتباط. ومن الواضح أن المُتقابِلات والتمييزات
الشائعة التي نضعها بين الذات والموضوع، والصورة والمادة، والحياة الباطنة
والخارجية، والرُّوح والطبيعة، لا يُمكنها أن تَصمُد للتحليل العميق، وأن الواقع
الأساسي لا يَنطوِي على شيء مُناظر لها، ومبرِّر لهذا الفصل. فهذه المُتقابِلات
ليسَت وقائع أصيلة، وإنما هي تجريدات لاحقة فحسب، وتركيبات للفكر أو لذلك العامل
الذي لا يظهر إلا في مرحلة مُتأخِّرة في التطور، فما نقوم في تفكيرنا أو إدراكنا
الحسِّي بفصلِه وعَزلِه، يكون متَّحدًا مُترابطًا في الواقع الفِعلي، ولا يُمكننا
أن نُصادِف في النظام الطبيعي للأشياء أي أثر لهذه الأضداد والمُتقابِلات
المُطلَقة. فهناك دائمًا إمكانية لتوحيد أجزاء تجربتنا وإظهار اعتمادِها المتبادَل؛
فالواقع كل عيني أو وحدة لم تَنفصِم أو تتنافَر بعدُ، تسبق كل تجريدات الفكر، ولا
يكون الذاتي والموضوعي قد انفَصلا فيه بعدُ، وأصبح كلٌّ منهما مُستقلًّا عن الآخر.
فكل هذه التمييزات الحادَّة والفواصل القاطعة التي يتميَّز بها تفكير كانْت ثانوية
مُشتَقَّة، ولا بدَّ لكي يتسنَّى أي إدراك لها من حدوث عمليات نفسية عظيمة التعقيد.
ومن هنا كان المبدأ المنهجي القائل أنه لا يُمكن قبول أيَّة تقسيمات مُطلَقة كهذه
في الواقع الأصلي، وأن التقابل بين الذات والموضوع، والنفس والبدن، والحقيقة
والواقع، والتفكير والإدراك الحسِّي وما شابَهَ ذلك؛ هذا التقابُل لا يَنطبِق على
الواقع الفِعلي. ومن الواجب — في كل الأحوال — أن نَمتنِع عن تأكيد هذه الأضداد
على
نحوٍ مُطلَق، أو عن وضعِ كلٍّ منها مقابل الآخر بوصفِها مجالات مُنفصلة للوجود
الفعلي، فما هذه إلا أسماء لأطوار مُتعاقِبة يتميَّز بعضُها عن البعض في تطور حياة
النفس، صحيح أن من المُمكِن — بالتأكيد — التمييز بينها من حيث وظائفها. أما من
حيث
تركيبها النفسي فهي في أساسها واحدة، وربما لم يكن التقابُل بين الواقع الفِعلي
والحقيقة ناشئًا عن تضادٍّ حقيقي بينهما، وإنما عن التقابُل بين جزء مُنعزِل
مُنفصِل وبين كل منظَّم مُترابط.
وعلى ذلك فإن عالم الذهن الذي نُشيِّده خاصة في التفكير العلمي والفلسفي هو عالم
مُتقطِّع مُنقسِم مجرَّد؛ وبالتالي ناتج مُشتق ومكوَّن بطريقة مُصطنعة؛ غير أننا
لا
نستطيع التوقف عند هذه النقطة، وإنما يَنبغي أن نزيل — على نحو ما — تلك الحدود
والفواصل والتجريدات والمُتقابلات. وعلينا أن نعيد تأليف الأجزاء المنفصلة في
الوحدة المتصلة للكل، ومن الممكن أن يحدث هذا على نحوَين؛ فمن المُمكن أولًا أن
يحدث عن طريق الفلسفة النظرية (speculative)
والميتافيزيقا التي تتجاوَز نطاق انقسامات الذهن وتفرُّقاته، فتضع كيانات جديدة
وتُحاول إيجاد مركبات جديدة؛ غير أن الوحدة لا توجد فقط من وراء الكثرة، بل توجد
قبلها أيضًا؛ وبالتالي كان من المُمكِن وجود طريقة أخرى، هي طريقة الرجوع إلى
الحالة الأصلية للواقع عن طريق القضاء التدريجي على التركيبات التي يقوم بها
الذِّهن التجريدي، هذا هو طريق إعادة إقامة التجربة الأصلية باستبعاد كل ما
أقحَمناه نحن وأدخلناه عمدًا خلال تجربتنا الروحية في إطار الواقع. وهكذا أخذ
آدامسون — في هذه المرحلة — يسير في هذا الطريق الأخير، الذي ليس طريقًا تركيبيًّا
وإنما هو طريق تحليلي، وأخذ يتبعه منذ ذلك الحين بنشاطٍ واتِّساق دائبَين، وأصبحت
المشكلة التي عرضت له عندئذ، والتي تناوَلها من جانبَي نظرية المعرفة وعلم النفس،
هي الموضوع الرئيسي لتفكيره الناضج كما يتمثَّل في الأجزاء المذهبية من مؤلَّفاته
المخلفة. وقد سبق أن قام ريشارد أفناريوس — في فلسفة التجربة الخالصة — بمهمة
مُماثلة. ولكن يبدو أن آدامسون لم يكن على علمٍ بذلك.
ولقد رأينا أن التضايُف بين الذات والموضوع من خلق التفكير المجرَّد، الذي لا
يعطي فيه العامل الموضوعي في نقائه الأصلي، وإنما يكون قد مرَّ بتعديلات أدخلتها
عليه الذات، هذا الموضوع، الذي يُوضع في مقابل الذات، والذي خلقَتْه الذات وشيَّدته
في الوقت ذاته، ينبغي أن يخلص من شوائبه الذاتية، ويسترد طابعه الأصلي، طابع
المُعطي غير الذاتي؛ فمن الواجب أن نكتشف السمات والخصائص الحقيقية للمُحتويات
المعطاة، والتي تَمكنَّا على أساسها — أول الأمر — من وضع هذا التمييز التقابُلي
داخل الوعي، فمُهمَّتنا هي تحديد الطابع المُتغيِّر للموضوعية، من خلال سلسلة
المراحل التي يمرُّ بها هذا التصور، ابتداءً من أكثر التجارب أولية، إلى أشد أنواع
التفكير تعقيدًا، وإن يكن اهتمام آدامسون ينصبُّ في المحل الأول على المراحل
الدنيا. وهناك أمر واحد لا سبيل إلى الشك فيه، هو أن ما يبدو موضوعيًّا في المذاهب
الفلسفية يتألَّف من تركيبات تلعب فيها الأفكار الذهنية والتجريد دورًا هامًّا.
فهذه التجريدات مُتضايفة مع الذاتية ومُتوقِّفة عليها في كل الأمور، وهي بهذا الوصف
خالية من كل محتوًى عيني، ومن أمثلة ذلك: الشيء في ذاته عند كانْت، والوجود المحْض
عند هيجل، والمطلق عند سبنسر، وهي تصورات محضة فيها من العمومية ومن الذاتية قدر
يكاد يَقضي تمامًا على معنى الموضوعية الأصلي فيها.
فإذا عُدنا القهقرى إلى التجربة الأصلية البدائية، ظهَر لنا السؤال الآتي: عند
أيَّة نقطة يَفترق مجالًا الذاتي والموضوعي لأول مرة، ويُصبح اختلافهما واضحًا
للعيان؟ يرى آدامسون أن هذا يحدث عند الوعي بالمكان؛ فالمكان أو المُمتد، يبدو في
نظره أسبق صفة يتَّسم بها ما هو موضوعي، ويُمكِن التحقُّق من أسبقيتها زمنيًّا،
فقبل أن نستطيع القيام بأية تمييزات أخرى في ميدان الوعي، نُمارس نوعَين من
المحتوى، تتَّصف فئة منهما بصفة الامتداد، على حين تتميز الثانية سلبيًّا بالافتقار
إلى هذه الصفة. ولكنَّها فيما عدا ذلك تظلُّ غير مُتحدِّدة على الإطلاق، باستثناء
وجود عنصر من الشعور فيها. وهنا يُمكننا أن نُفسِّر ما في العالم الموضوعي من
مُحتويات لها صفات مكانية، ونُميِّزها من الصفات غير المكانية التي هي أحوال للذات.
وعلى ذلك فإن الطابع المكاني الذي يَرتبِط بمحتويات مُعيَّنة لتجربتِنا الحسية يقدم
إلينا أول وسيلة لتمييز العالمَين، فوعينا بوجود ذات؛ وبالتالي تمييز العالم الباطن
من الخارجي، والأنا من اللاأنا، لا يكون ممكنًا إلا على أساس تجربتنا أو إدراكنا
على هذا النحو للتقابل بين المُمتد وغير المُمتد. وإذن فالمكان هو الشرط الأصلي
للوعي ولنمو الذهن. ولكن ينبغي ألا نَستنتِج من ذلك أنه من البداية (أو بصفة أولية a priori) شرط ذاتي للتجربة الحسِّية، أو أن
المحتويات المُعطاة لا تُصبح موضوعية إلا به، فآدامسون — الذي يَعكِس في هذه الحالة
ترتيب موقف كانت — يرى أن الصفة المكانية، وإن تكن قد تَكتسِب فيما بعد أهمية ذاتية
في الوعي النامي، لا تكون في البداية إلا صِفة مُرتبِطة بالموضوعية ومكوَّنة
لها.
أما جميع التحديدات الأخرى للموضوعية فهي ثانوية بالقياس إلى التمييز الأساسي بين
المحتويات الممتدة وغير المُمتدَّة. وقد أعرب آدامسون عن رأي مُماثِل في صدد فكرة
الزمان، فبيَّن أن الصورة الأصلية لإدراك الزمان تَختلِف كل الاختلاف عن الصورة
العظيمة التعقيد لتصور الزمان كما تستخدم في الفلسفة والعلم الطبيعي. فهناك من جهة
التجربة العينية للمرور الزمني للحوادث، التي يُعبر عنها على أفضل نحو بلفظ
التغيُّر. وهناك من جهة أخرى تصوُّرات ربما كانت مناظرة للمكان الخالي في الفيزياء،
وهي تصوُّرات مجرَّدة عظيمة التعقيد خلقها الفكر التصوُّري، وتَفتقِر إلى كلِّ
الخصائص العينيَّة التي يتَّصف بها ما هو مُعطًى أصلي، فالأولى شيء يَنتمي إلى
المجال الموضوعي للأشياء، والثانية محمَّلة بالذاتية؛ أي إنها نواتج نصلُ إليها
بتحديدات مُقابلة من الجانب الذاتي. وعلى ذلك فإن آدامسون لا يقبل نظرية كانْت في
الزمان، التي لا ترى في التغيُّر إلا صفةً للتجربة الباطنة للذات، ومثل هذا يقال
على العِلِّية، فهنا أيضًا تتعقَّد التجربة البسيطة للارتباط الأصلي للحوادث،
بإضافات معقدة آتية من الفكر، تسلب هذا الارتباط معناه الأصلي؛ فالعناصر الأساسية
فيما نطلق عليه — بتفكيرنا المعقَّد المتطوِّر — اسم العلَّة، متضمنة أصلًا في أبسط
أشكال الإدراك الحسِّي، وهي بالتالي مُتغلغلة بعمق في التمييز الأصلي بين الداخلي
والخارجي والذاتي والموضوعي. ولكن مهما كان مدى الأهمية الفلسفية لمذهب كانت، فإن
الترتيب الطبيعي لظهور تجربتِنا يعكس فيه؛ إذ إن هذا المذهب يُعطي الأسبقية
والأولوية دائمًا للعناصر المجرَّدة العامة على العناصر العينية الخاصة، ومُقابل
هذا يرى آدامسون أن النظام المحدَّد الذي يحتلُّ أولًا مكان العنصر الموضوعي في
تطوُّر معرفتنا هو في صورته الأصلية ذلك الارتباط الخارجي للعوامل العينية للإدراك
الحسِّي، وهو الارتباط الذي وصفناه من قبل؛ فالموضوع في الحالة الأولى هو تلك
الأشياء المتجمِّعة، التي تكون محدَّدة تمامًا، ومُستقلَّة استقلالًا كاملًا، والتي
نلقى منها مُقاوَمة، والتي نَشعُر في تجربتِنا لعلاقات الموضع المكانية أنها
مُرتبطة بعضها ببعض وبنا؛ فمن حيث ترتيب ظهور تجربتنا الواعية، يكون أول شيء
نُصادفه هو العيني دائمًا وفي كل الأحوال.
ويُوزاي نظريةَ المعرفة هذه بحثٌ أقرب إلى الطابع النفسي، يلقي على الأمور ضوءًا
من زاوية مُخالفة إلى حدٍّ ما. ولكنَّه يصل إلى نتائج مُماثلة إلى حدٍّ بعيد،
والواقع أن الحد الفاصل بين نظرية المعرفة وعلم النفس يزداد تضاؤلًا عند آدامسون
على الدوام؛ فعلى حين أنه عَرَّفَ علم النفس من قبل بأنه دراسة تجريبية بحتة، تتبع
مناهج العلم الطبيعي، فإن هذا العلم يبدو في نظرِه الآن مبحثًا فلسفيًّا إلى حدٍّ
بعيد؛ فهو علم للتجربة، تَرتبِط مشكلاته بمُشكلات المنطق ونظرية المعرفة — بل
والميتافيزيقا — ارتباطًا يبلغ من الوثوق حدًّا يؤدي به مباشرةً إلى الاقتراب من
حدود هذه الدراسات، التي تستخدم نتائج علم النفس من أجل توسيع نطاق أبحاثها.
ويتَّصف علم النفس عند آدامسون — كنظريته في المعرفة — بأنه بحث في تاريخ مراحل
التجربة والوعي، مع الاهتمام الخاص بالظروف الأولية الأصلية، وهو يرفض كلًّا من
مذهب الملكات ومذهب الانفصال المطلق (Atomism) في
علم النفس، ويقوم بوجهٍ خاصٍّ بتطبيقٍ مُثمِر لفكرة النمو
(development)؛ فهو ينظر إلى الوعي على أنه
عملية دائمة النمو والتطور، تُمثِّل صورها المُتغيِّرة مراحل هذا النمو؛ ففي
المرحلة الأصلية أو البدائية، نجد أولًا كثرة من المُحتويات المرتبِطة، التي يَختلف
بعضها عن البعض اختلافًا واضحًا. ولكن لا يُمكِن القول: إنَّ هذه المحتويات
المختلفة كيفيًّا تُمثِّل أية كيانات موضوعية؛ ذلك لأننا لا نصلُ إلى تصوُّر
الموضوع إلا بعد تجربة أكثر تقدمًا بكثير؛ أي عندما نُواجه عالمًا للأشياء،
مُستقلًّا عن الوعي، مع ذات تعرفه، فمُحتويات الوعي البدائي تَرتبط بعلاقات؛ غير
أن
تفسير هذه العلاقات يكون مستحيلًا إذا قَبِلنا فكرة الموضوعات في مثل هذه المرحلة
المبكِّرة. فليسَت للعلاقات موضوعية بالتأكيد، ولا يُمكن — فضلًا عن ذلك — أن
تُنْسَب إلى نشاطٍ تركيبي غير حسِّي للذهن، وإنما هي تتمثَّل في الأصل بطريقة
مباشرة تمامًا في الحدود المُعطاة ومعها، وهي أقل منها جدارة بأن تُعدَّ ذات وجود
موضوعي، فافتراض صفات موضوعية في هذه المراحل المتقدمة هو إضافة مُقحمة لا
يُبرِّرها شيء، وبالمثل فإن الإحساسات والمشاعر — وهي مُتضايفات مبكِّرة — لا تكاد
تتميَّز بعضها عن البعض في هذه المرحلة، فانفصالها عن الكثرة العينية للمُعطى لا
يكون واضحًا بعد، وإن تكن هناك بالفعل دلائل مُعيَّنة تشير إلى اختلافها بعضها عن
البعض؛ فالاثنان يتَّصفان بفروق كيفية وبالتفاوت في الشدة، ولا يحدث تميُّز
لمحتويات معيَّنة، بوصفها مدركات حسية percepts،
ولمحتويات معيَّنة أخرى بوصفِها مشاعر feelings،
إلا في مرحلة مُتأخِّرة، وعندئذٍ فقط نستطيع أن نُسمِّيَ إحدى الفئتَين عوامل
موضوعية والأخرى عوامل ذاتية في وعينا؛ ففي كل هذه الأبحاث يَحرص آدامسون على ترك
كل الإضافات اللاحقة جانبًا، والوصول إلى الحالة الخالصة للتجربة؛ فهو مثل
أفناريوس، كان يهدف إلى إعادة تكوين الفكرة الطبيعية للعالم. كذلك أبعد الوعي
الذاتي — في مذهبِ آدامسون — عن الموقع المركزي الذي يحتلُّه في المذاهب المثالية؛
فهو — مثل أفكار كثيرة أخرى عرَضنا لها من قبل — نتاجٌ متأخِّر نَنسبه خطأً إلى
المراحل البدائية للحياة الواعية؛ ففي هذه المراحل البدائية لا تكون هناك ذات
تُنْسَب إليها المحتويات وكأنها تُنْسَب إلى عامل يتَّخذ منها موقفًا خارجيًّا،
صحيح أن علينا أن ننظر إلى المُحتويات المُتغيِّرة للوعي على أنها مُغلَّفة بوحدة
على نحوٍ ما؛ غير أن هذه الوحدة لا تختلف أو تَنفصِل عن المحتويات. وإذن فهي ليست
وحدة الذات التي تُنْسَب إليها هذه المحتويات. إنَّ الوعي عملية مُستمرة توجد
داخلها محتويات تتغيَّر دوامًا وتتنوع كيفيًّا، غير أن هذه المحتويات ليست كتِلك
التي يقول بها هيوم؛ أي إنها ليست تلك الحزم
(bundles) المؤلفة من «انطباعات» محكمة مصقولة،
تروح وتجيء، كالمُمثلين على المسرح. ومن الخطأ تشبيه الوعي بمسرح ساكن، وإنما
الواجب تشبيهُه بمجرًى يَتغيَّر ماؤه دوامًا، وإن يكن يظلُّ يحتفظ بوحدته، الأمر
الذي يُتيح هذا الاتصال هو أننا نحتفظ بمُحتويات حالات الوعي السابقة في حالاته
اللاحقة، ونتمكَّن بذلك من استعادتها وإحيائها، كما أن الوعي الذاتيَّ خاضع للنمو،
وهو يتقدَّم تدريجيًّا وعلى مراحل من التجربة المباشرة؛ فهو ليس أصليًّا ولا
بسيطًا، وإنما هو صورة نامية معقَّدة إلى حدٍّ بعيد للحياة الروحية، لا تتبدَّى
إلا
عندما يُعرِّج الفكر على ذاته ويغدو انعكاسيًّا. هذه الوحدة الانعكاسية ليست صورة
أولية a priori، وإنما نشأت عن العمليات
المُتطورة زمنيًّا للروح، بنفس الطريقة التي تنشأ بها تلك الهوية الحيوية للذات،
التي هي، من حيث هي وعي بدائي، أساس الأولى وسابقة عليها في الزمان. وهنا نرى إلى
أيِّ حدٍّ افترقَت أبحاثُ آدامسون في ترتيب ظهور الظواهر النفسية psychogenetic inquiries عن نُقطة بدايتها
في الفلسفة الكَانْتِية، وإلى أيِّ حدٍّ تغيَّر موضعُ المشكلات عنده في اتجاه بعيد
تمامًا عن كانت، ورغم رفضه لمذهب الانفصال المُطلق في علم النفس، وللنظرية
الترابطية السائدة، فإنه يقترب هنا اقترابًا خطيرًا من هيوم، الذي اتَّفق معه في
نقاطٍ هامة من رأيه في الوعي، وإن لم يتَّفق معه في كل النقاط.
وهكذا رأينا أن من الجهود الرئيسية التي بذَلَها آدامسون، النظر إلى جميع العناصر
التي نعتقد — نتيجة للنشاط التجريدي للذِّهن — أنها مُنفصِلة أو مُتضادَّة، على
أنها وحدة واحدة، ومن المُمكن أن نُسمِّي هذا بالسِّمة الهيجلية لتفكيره، ويتحكَّم
هذا المبدأ أخيرًا — ولكن بصورة غير هيجلية على الإطلاق — في آرائه في علاقة
الطبيعة بالروح؛ فالطبيعة والروح أيضًا ليسا كيانَين مُطلقَين يُواجه كلٌّ منهما
الآخر وكأنه غريب عنه أو مُعادٍ له، وإنما هما عُضوان مُتضايفان في وحدة تشملهما
معًا. هذه الوحدة هي الواقع ذاته، أو الكل العيني الذي يضمُّهما معًا على نحوٍ ما،
والذي يُكونان مظهرَين له، وإن لم يكن من المُمكن تحديد طابعه بمزيد من الدقة. ولكن
ينبغي أن نَفترِض أن آدامسون كان ينظر إلى طبيعة الواقع أساسًا من خلال جانب
الطبيعة؛ فالرُّوحي يبدو لنا في البداية مُضادًّا للطبيعي. ولكن هذا يدلُّ بوضوحٍ
على أنه لا الروح ولا الطبيعة يكون لها وجود مُستقل إذا ما وضع كلٌّ منهما مقابل
الآخر على هذا النحو في الوعي؛ فالرُّوح لا تستطيع أن تعرف الطبيعة إلا بقدر ما
تكون جزءًا من الطبيعة؛ فهي لا تكون عضوًا حيًّا في الوجود الطبيعي — وبالتالي في
الواقع من حيث هو كل — إلا بقَدر ما تتمكَّن من معرفة شيء آخر كما تعرف ذاتها. ولكن
الطبيعة — بما هي كذلك — لا يُمكن أن يقال: إنها هي الواقع كله، وإنما هي جانب منه
فحسب، وإن تكن هي الجانب الأهم، فحياة الرُّوح ليست أقل أهمية لتَكملة الكل من حياة
الطبيعة، وهما تنموان معًا وتتحكَّم كلٌّ منهما في الأخرى من أجل تحقيق كلٍّ
لوجودها الخاص، ونمو الطبيعة يتضمَّن أيضًا نموًّا للروح. وهكذا فإنَّ هذا الرأي
الميتافيزيقي يُؤيِّد أيضًا نتائج أبحاثه في نظرية المعرفة وعلم النفس، ونستطيع
أن
نُسمِّيَه مذهبًا طبيعيًّا مُعتدلًا، يتَّسم بالحرص النقدي، ابتعد كثيرًا عن أساسه
المثالي.
(٣) جورج دويس هكس George Dawes Hicks (وُلد في ١٨٦٢م)٤
تعلَّم في كلية أوينز Owens بمانشستر، وبكلية
مانشستر بأكسفورد، ودرس من ١٨٩٢م إلى ١٨٩٦م على فنت وهينتسه Heinze في ليبتسج، حيث حصل على درجته العِلمية، وكان من ١٨٩٧م
إلى ١٩٠٣م قسيسًا في كنيسة الوحدة Unity Church،
في أيلنجتن Islington، ثم محاضرًا في مدرسة
الأخلاق وعلم الاجتماع بلندن من ١٩٠٤م إلى ١٩٠٦م، وعُيِّن أستاذًا للفلسفة في
«يونيفرستي كوليدج» بلندن من ١٩٠٤م إلى ١٩٢٨م، وتقاعد في ١٩٢٨م، وكان يُقيم منذ
١٩٠٤م في كيمبردج؛ حيث كان يُلقي محاضَرات.
مؤلفاته: «تصوُّر الظاهرة والشيء في ذاته في علاقتهما الواحد بالآخر عند
كانْت Die Begriffe Phänomenon und Noumenon in Ihrem Verhältnis Zueinander bei Kant» وهي الرسالة التي تقدَّم بها في ليبتمج، ١٨٩٧م،
«الفلسفة
الإنجليزية Die Englishe Philosophie» في المجلد الخامس من كتاب أوبرفك Uberweg، «معالم تاريخ
الفلسفة Grundriss der Geschichte der Philosophie»، ١٩٢٨م، «باركلي» (في سلسلة «قادة الفلسفة Leaders of Philosophy») ١٩٣٢م، مقالات في
مجلات دورية، أهمها، «المثول الحسِّي والفكر Sense-presentation & Thought» ١٩٠٦م، (أعمال الجمعية الأرسططالية)،
«العلاقة بين الذات والموضوع من وجهة نظر النمو النفسي The Relation of Subject & Object from the Point of View of
Psychological Development» ١٩٠٨م،
(نفس المرجع)، «طبيعة الانتباه ونموه The Nature & Development of Attention» ١٩١٣م (المجلَّة الإنجليزية لعلم
النفس British Journal of Psychology)، «طبيعة
الإرادة The Nature of Willing»، ١٩١٣م (أعمال الجمعية الأرسططالية)، «المظهَر والوجود
الحقيقي Appearance & Real Existence»، ١٩١٤م (المرجع نفسه)، «في طبيعة الصور On the Nature of Images» ١٩٢٤م (المجلة
الإنجليزية لعلم النفس)، «الوجه
الدينامي للطبيعة The Dynamic Aspect of Nature»، ١٩٢٥م (أعمال الجمعية الأرسططالية)،
«من المثالية إلى
الواقعية From Idealism to Realism» ١٩٢٥م (في كتاب «الفلسفة الإنجليزية المعاصرة»، نشَره
مويرهيد، المجلد الثاني)، «نظرية
المعرفة Theory of Knowledge» ١٩٢٩م (دائرة المعارف البريطانية، الطبعة الرابعة عشرة،
المجلد الثالث عشر.
مؤلَّفات أخرى: (نُشِرَت منذ البدء في طبع الترجمة الحالية) «الفِكر والوجود الحقيقي Thought and Real Existence»
١٩٣٦م، «الأسس الفلسفية
لمذهب الألوهية The Philosophical Bases of Theism» ١٩٣٧م، «الواقعية النقدية،
فلسفة للذهن والطبيعة Critical Realism; A Phil. of Mind & Nature» ١٩٣٧م.
كان جورج دويس هكس معنيًّا إلى حدٍّ بعيد بمُشكلات علم النفس ونظرية المعرفة،
ويُعدُّ موقفه تَكملة مباشرةً لموقف روبرت آدامسون، الذي درس عليه في مانشستر. وقد
اتَّصل فيما بعد اتصالًا مباشرًا بالحركة المثالية في أكسفورد، ثم تلقَّى دراسة
دقيقة دامت عدة سنوات في معهد علم النفس الذي أنشأه فنت في ليبتسج، وختم هذه
الدراسة برسالة عن كانت. وقد كان آدامسون هو الذي عرَّفه بفلسفة كانت بطريقة تدعو
إلى الإعجاب، فلعبَت هذه الفلسفة في تفكير هكس دورًا يُماثِل دورها في تفكير
أستاذِه؛ فهي عند كلٍّ منهما نقطة بداية وأساس يُبنى عليه، رغم أنه توصَّل إلى
نتائج يبدو أنها تُؤدِّي به — أو أدَّت به فعلًا — بعيدًا عنها. ولكن الأهم من ذلك
أن الموقف الفلسفي لكلا الرجلَين قد تأثَّر تمامًا بالروح النقدية عند كانْت (لا
بتعاليمه الحرفية)، ويعدُّ دويس هكس واحدًا من أعظم المُتخصِّصين في كانت في
إنجلترا اليوم، ولا يُمكن فهم نظريته في المعرفة وتقديرها إلا إذا تأمَّلناها من
حيث هي متسلسلة عن كانت، وأفضل تسمية لنظريته هذه — شأنها شأن نظرية آدامسون — هي
«الواقعية النقدية». وهذا يُميِّزها من الواقعية الجديدة التي تختلف عنها نظرية
هكس
في أصلها ومضمونها، والتي كانت تقف منها موقف المعارضة الشديدة في نَواحٍ
مُتعدِّدة. فهذه النظرية تكملة مباشرةً للجهود التي بذلها آدامسون ولم يَستطع السير
فيها إلى تمامها، من أجل تقديم حلٍّ نقديٍّ سليم — من وجهة نظر علم النفس — لمشكلة
المعرفة.
ونقطة الاختلاف الأساسية بين نظرية المعرفة عند كلٍّ من كانْت ودويس هكس هي أن
الأولى تَرتكِز على مقدِّمات ذاتية مثالية، والثانية على مقدمات موضوعية واقعية،
فدويس هكس يرفض قبل كل شيء الرأي القائل إنَّ الموضوع المعروف ناتج عن الذهن العارف
أو تركيب له، وهو يرى أن لُبَّ المشكلة هو أن ماهية أي فعل ندرك به الأشياء، هي
علاقة بشيء يختلف فعلًا عن الذات العارفة. وقد وُجِّهت أبحاث دويس هكس أولًا وقبل
كل شيء إلى مُشكلة الإدراك الحسي، التي كانَت أكثر المشكلات تداولًا بين أصحاب
نظرية المعرفة من الإنجليز؛ ذلك لأن فعل الإدراك الحسي يُمثِّل أصدق تمثيل كل الطرق
الأخرى لمعرفة الأشياء أو إدراكها. وقد أكَّد دويس هكس أولًا — مع مينونج وهوسرل
—
الطابع التوجهي intentional للإدراك الحسي،
وكذلك لكلِّ الأفعال الذهنية؛ فالإدراك الحسي هو دائمًا شعور «بشيء»، أو توجه «إلى»
شيء، مثلما يكون الحكم دائمًا منصبًّا «على» شيء، والطابع الأساسي لهذه الأفعال
كلها أنها تتَّجه إلى شيء آخر أو تُشير إليه. وهكذا يُسفر تحليل أفعال المعرفة إلى
رأي أساسي بالنسبة إلى موقف دويس هكس، هو أننا هنا لا نكون إزاء إنتاج للموضوع
بوساطة جهاز كامل من المقولات التي يُقدمها الذهن، وإنما نكون فقط إزاء ما يُسمِّيه
تمييزًا وتنويعًا وتفرقة ومقارنة للسمات والصفات والخصائص التي توجد في الموضوع؛
فعندما نعرف، نُميِّز سمات الموضوع، ونكتشف فوارق فيه لم نكُن قد لاحَظناها من قبل،
ونَستخلِص علاقات لم نُميِّزها من قبل؛ ففي فعل المعرفة يُلقي على الشيء الذي كان
يبدو في البداية غير محدَّد ومختلطًا، ضوء من داخل هذا الشيء، ويبدو مضمونه واضحًا
في اكتمال مفاجئ إلى حدٍّ ما، ويَنتقِل هذا المضمون من الغموض غير المحدَّد إلى
الوضوح الموضوعي، وفي هذا كله لا تتمثَّل فاعلية الذهن في التوليد أو الخلق أو
الإحداث، وإنما في الاهتداء وإماطة اللثام والكشف، صحيح أن في فعل المعرفة توسيعًا
كثافيًّا تقوم به الذات لمادة المعرفة؛ غير أن كل تعامل نقوم به على هذه المادة
ليس
بناءً أو تشييدًا وإنما هو كشف، فمِن المسلَّم به أن المعرفة تنطوي بمعنًى معيَّن
على فعل التركيب synthesis؛ غير أن هذا التركيب
ليس جمعًا بين أجزاء الموضوع، وإنما هو أقرب إلى ضمِّ أطراف مختلفة للوعي سويًّا،
فأساس فعل المعرفة هو عملية تمييز ومقارنة بين سمات هي مركبة من الأصل، بوصفها
مُعطاة. وليس أي نشاط تركيبي خلاق يمارس على الكثرة المُعطاة للتجربة.
وعلى ذلك؛ ففي الإدراك الحسِّي لموضوع خارجي، ينبغي أن نُميِّز — إلى جانب فعل
الإدراك الحسي — بين مضمون الموضوع المُدرَك حسيًّا أو الشيء المادي، وبين المضمون
المدرك أو الظاهرة. فلا يُمكن أن تنطبق صفة الوجود إلا على الفعل المُدرك والموضوع
الخارجي، أما المضمون المُدرَك (الذي يُسمَّى عادةً بالمحسوس sensum أو المدرك
حسيًّا percept أو الكيفية
الحسِّية sensory quality) فليس شيئًا ثالثًا بين الفعل والشيء، أو نسخة موجودة
نفسيًّا أو مُمثلة للشيء أنه ليس موجودًا، وإنما لا يكون له وجود إلا على أساس
الفعل الذي يُدرَك به الشيء، فما الظاهرة الحسية إلا انتقاء من السمات التي تُكوِّن
مضمون الموضوع، وكيان جزئي إذا ما قورن بالمضمون الكامل للشيء المادي، صحيح أننا
نستطيع أن نُميِّز منطقيًّا بين السمات التي هي مدركة أو ظاهرة فحسب، وتلك التي
تكون المضمون الكامل للموضوع. ولكنا لا نستطيع الفصل بينهما في الواقع. فليس بين
الشيء والظاهرة فارق أساسي، وإنما نحن لا نتعلَّم التميُّز بينهما إلا تدريجًا؛
فالأول كل يتألف من كثرة من الصفات ومن الأجزاء، نستطيع أن نميز — وبالتالي أن ندرك
— فيها عددًا كبيرًا؛ غير أن مضمون الشيء يكون دائمًا أكثر امتلاءً وتعقيدًا بكثير
من مضمون السمات التي يصل إليها الإدراك الحسي. ومن هنا كانت إدراكاتنا الحسية
معرَّضة دائمًا للخطأ، وإن لم يكن هناك أساس لافتراض أن العناصر الزائدة في الشيء
تتعارَض مع سماته المدركة. وهكذا فإن التقابل الشائع بين الظاهرة والواقع لا يعدو
أن يكون تمييزًا بين وجه جزئي أو ناقص للواقع، وبين اكتماله وكليته العينية، أو
بين
الإدراك الناقص للواقع وإدراكه الكلي الكامل. إن كان ذلك مُمكنًا. فليست الكيفيات
الحسية (كالألوان والأصوات … إلخ) جزءًا من تركيب الذِّهن أو ملكًا له، وإنما هي
تلك الصفات التي تعزلها المعرفة من الواقع وتميزها فيه، ولو توقَّف فعل الإدراك
فإنَّ المضمون المدرك — أو الظاهرة — لا يعود موجودًا؛ فهو لا يستطيع البقاء في
الذهن؛ لأنه لم يكن أبدًا «في» الذهن بالمعنى الدقيق. ومن هنا لم يكن من المُمكن
إحياؤه وبعثه في الوعي من جديد. وليست تلك العناصر التي يستطيع الذهن الاحتفاظ بها
واستعادتها إذا ما دعا الأمر؛ أي التي دخلت في تركيبه وأصبحت ملكًا حقيقيًّا له،
ليست تلك هي الظاهرة المحسوسة، وإنما هي مضمونات الفعل المعرفي الخاص للذهن، أو
«الشعور عن وعي» بتجاربه.
وهكذا اضطرَّ دويس هكس إلى القول بنوع ثالث من المضمون، هو مضمون الفعل الذهني،
بعد أن وصف المحتويات الظاهرية بأنها ليسَت نفسية ولا مادية؛ وبالتالي بأنها غير
موجودة، وبفضل هذا النوع الثالث تعقدت نظرية المعرفة كثيرًا بالقياس إلى النظريتَين
المثالية والواقعية الجديدة، فموقفه الخاص يَقتضي ذلك من أجل تفسير كل ظواهر الحياة
الذهنية غير المُتعلِّقة بموضوعات ماثِلة مباشِرة، وإنما بإحياء أو استدعاء مضمونات
سابقة؛ ففي التجربة المألوفة في الحياة اليومية، لا يُمكِن القول إننا نشعر مباشرةً
بكل سمات الموضوع، التي نعتقد أننا ندركها مباشرةً في اكتمالها، وإنما نحن نُميِّز
الكثير من هذه السمات عن طريق إحياء وعي سابق بها أو بموضوعات مُماثلة؛ ذلك لأن
إدراكات الذهن الناضج حافلة ومليئة بسلسلة طويلة من أفعال الإدراك تساعد على إتمام
كل إدراك جديد بسرعة، على حين أنه لو كان يتعيَّن علينا إدراك كل السمات مباشرةً
لكانت العملية أبطأ بكثير.
وما يُقال على الإدراك الحسي، يُقال أيضًا على كل نوع من أنواع المعرفة cognition؛ فالمعرفة هي في أساسها واحدة في كل
صورها، وعلى أدنى مُستوياتها وأعلاها، ولو تأمَّلنا طريقة نشأتها، لما وجدنا
انفصالًا في نموها، فهي منذ البداية عملية فصل وتمييز ومقارنة، ومهما رجعنا إلى
الوراء في تعقُّب مراحل النمو الذهني، فسوف نُصادف دائمًا فاعلية مُميزة مشابهة
في
النوع — رغم خشونتها وأوليتها — لما نجده في المراحل العليا للتمييز والمقارنة
والربط، ولما كانت هذه الأفعال تكون الطابع المُميز للحكم، فإن النتيجة هي أن أبسط
أنواع النشاط المعرفي وأكثرها أولية، هي في أساسها أفعال حكم؛ ففي أبسط تجربة
حسِّية يكون الحكم — أي الفكر — موجودًا بالفعل في صورة أولية. وعلى ذلك فلسْنا
بحاجة في هذا السياق، إلى تقديم مزيد من الوصف للأفعال العليا للمعرفة؛ ذلك لأنَّ
نفس الصيغة تَسري — مع اختلافات نوعية خاصة — على التذكر والتصور والتخيُّل، وكذلك
على الأشكال الذهنية كالتفكير والحكم والتعميم واستخلاص النتائج، ولا يعترف دويس
هكس بأن هناك، في أية مرحلة من مراحل النمو، معرفة حدسية أو إدراكًا مباشرًا تمامًا
للمُحتويات لا يتمُّ بتوسط أي فعل للتمييز. ومن هنا فإنه لا يقبل تمييز رسل الأساسي
بين «المعرفة بالاتصال knowledge by acquaintance»
و«المعرفة بالوصف knowledge by description»؛
إذ إنَّ كل معرفة، حتى أبسط إدراك للمُعطيات الحسية، تتمُّ دائمًا بتوسُّط مُتفاوت
الدرجات.
وفيما يتعلَّق بمشكلة الحقيقة يُحاول دويس هكس أن يُبين أن الحقيقة لا تتوقَّف
على إدراك أي ذهنٍ بشريٍّ فردي أو عدم إدراكه لها، ورغم ذلك ينبغي ألا نُسميَها
غير
واقعية، فلها طريقة خاصة في الوجود يُسمِّيها ﺑ «الاستمرار في البقاء subsistence»، تمييزًا لها عن الوجود existence الذي تتَّصف به الأفعال النفسية
والموضوعات المادية، فحقيقة القضية ٢ + ٢ = ٤ تظلُّ باقية حتى لو لم يَقربْها أي
وعي. فليس في استطاعتنا بالتفكير أن نَخلق أيَّة حقيقة أو نغيرها، وكل ما نستطيع
أن
نفعله هو أن ندركها أو نقرها، وفيما يتصل بالعلاقة بين الحقيقة والواقع، يقبل دويس
هكس إلى حدٍّ ما نظريتَي التطابق والترابط؛ فكلتاهما تصل إلى نفس النتيجة تقريبًا،
وكلٌّ منهما تُكمل الأخرى؛ ذلك لأنَّ المهم آخر الأمر ليس تطابق الحقائق الخاصَّة
والوقائع المُفردة، وإنما تطابق نسق الحقيقة بأكمله مع نسق الواقع بأكمله. وهذا
يعني أن كِلا النَّسقَين مُترابط في ذاته. وليس معنى ذلك أن نظام الحقائق وارتباطها
هو بالضبط نظام الأشياء وارتباطها. ولكن الفوارق الهامة التي تظلُّ هنا باقية في
التفاصيل، ينبغي ألا تكون حائلًا دون القول بوجود تطابق عام بين المجالين.
وهكذا فإنَّ نظرية المعرفة عند دويس هكس تحتلُّ موقعًا وسطًا بين نظرية كانْت
ونظرية الواقعيِّين الجدد. فلا بدَّ أنها تبدو — من وجهة نظر الأخيرين — مشوبة
بالمثالية، من حيث إنها تضمَن لفاعلية الذهن في كل أفعال المعرفة نوعًا من حرية
العمل، وإن لم تكن تضمَن لها وظيفة خلاقة. فهناك دائمًا نوع من العملية النظرية
التي تحدُث بلا انقطاع، والتي ندرك بها الموضوع، ولا يُمكن أن يكون الموضوع مُعطًى
فحسب، أو أن يكتفي بالسير إلى الذهن محتفظًا بموضوعيته كاملة، إما بالاتصال المحض pure acquaintance — كما يقول رسل — وإما
بمجرَّد الوجود مع الموضوع — كما يقول ألكسندر — ولكن مذهب دويس هكس يتميز عن مذهب
كانت بطابعه الواقعي؛ إذ إن مقدمته الأساسية هي أن الموضوع يقف قبالة الذات بوصفه
كيانًا مُستقلًّا، وأنه لا يتوقف على واقعة كونه معروفًا، لا في وجوده، ولا من حيث
ماهيته.
(٤) توماس كيس Thomas Case (١٨٤٤–١٩٢٥م)
أستاذ الفلسفة في أكسفورد (من ١٨٨٩م إلى ١٩١٠م)، وعميد كلية «كوربس كريستي Corpus Christi» (من ١٩٠٤م
إلى ١٩٢٤م).
مؤلفاته: «الواقعية في
الأخلاق Realism in Morals»، ١٨٧٧م، «الواقعية الفيزيائية، وهي فلسفة تحليلية تَنتقِل من الموضوعات المادية للعلم
إلى المُعطيات المادية للحسِّ Physical Realism: Being an Analytical Philosophy from the Physical Objects of Science
to the Physical Data of Sense» ١٨٨٨م، «المنهج العلمي بوصفه عملية
ذهنية Scientific Method as a Mental Operation» مقال في كتاب «محاضرات
في المنهج العِلمي Lectures on the Method of Science» نشره ت. ب.
سترونج T. B. Strönge، ١٩٠٦م، مقالات عن «أرسطو» و«المنطق» و«الميتافيزيقا» في
الطبعة الحادية عشرة من دائرة المعارف البريطانية.
يمكن القول: إن توماس كيس قد مهَّد الطريق في وقتٍ مبكر للحركة الواقعية التي
ازدادت قوة بشكلٍ واضح بعد نهاية القرن التاسع عشر، وإن لم يكن قد ارتبط في صلة
مباشرة بالواقعيين الجدد المتأخِّرين، ولم تَلفِت تعاليمه الأنظار بقوة، كما يبدو
أن تأثيره كان ضعيفًا إذا استثنينا تأثيره المحتمَل في نظرية هبهوس الأولى في
المعرفة. وفضلًا عن ذلك فقد ظهر في أكسفورد في وقتٍ كان تأثير هيجل فيه قد بلغ
أَوجه، فكان يمثل هناك نظرية فردية ناشزة إلى حدٍّ بعيد، لم تكن تقف مع الفلسفة
الذائعة عندئذٍ على طرفَي نقيض فحسب، بل لم تَكد تظهر فيها أي نقط التقاء مع
الاتجاهات الأخرى التي كان لها تأثير في إنجلترا في ذلك الحين، ورغم أنه كان شخصية
بارزة في أكسفورد في زمانه، فإن نشاطه التأليفي قد استُنْفِدَ كله — باستثناء بعض
أعمال صغيرة قليلة الأهمية — في كتاب واحد ظهر في بداية عهده بالتأليف.
ويدل عنوان هذا الكتاب، وهو «الواقعية الفيزيائية»، على الاتجاه الذي تسير فيه
نظرية المعرفة عند كيس، ويُسمَّى هذا المذهب بالواقعية لأنه يفترض عالمًا واقعيًّا
للأشياء، مُستقلًّا عن المعطيات الظاهرية للحواس، وقابلًا في أساسه لأن يعرف، هذا
العالم القابل للمعرفة، وإن لم يكن قابلًا للإدراك الحسي، والمؤلَّف من أشياء في
ذاتها، يُساوي في نظره موضوعات العلم الرياضي الطبيعي، وبذلك كان موقفه منه مضادًّا
للواقعية الساذجة ولنظرية الموقف الطبيعي. وإذن فقوام الموضوعية الحقيقية للوجود
هو
الواقعية المعروفة لعالم الفيزياء غير الحسِّي. ومن هنا كان هناك تَقابل بين العالم
المحسوس أو المدرك حسيًّا أو الظاهري من جهة، والعالم العِلمي الحقيقي غير المدرك
حسيًّا من جهة أخرى، وفوق الاثنين يوجد آخر الأمر العالم فوق الطبيعي للاهوت، بوصفه
مجال الوجود الإلهي.
ومن الطبيعي أننا لا نستطيع أن نعرف مباشرةً ذلك العالم الفيزيائي، الذي يضفي كيس
عليه وحده طابع الحقيقة، وإنما ينبغي أن نستدلَّ عليه بطريق غير مباشر، فكيف إذن
تحدث معرفتنا للموضوعات العِلمية العالية على التجربة؟ هنا يقترح كيس نظرية غريبة
خارجة عن المألوف، تبدو في نظري مفتقرة تمامًا إلى الحرص النقدي؛ فهو يعتقد أنه
يستطيع حلَّ مشكلة المعرفة بإقحام الجهاز العصبي الذي يتأثَّر حسيًّا، بوصفِه
وسيطًا بين الموضوعات المادية وبين مُعطيات الوعي. وعلى ذلك فإن ما نُدركه مباشرةً
ليس الموضوعات المادية العالية أو الخارجية، وإنما أجزاء جهازنا العصبي التي
تتأثَّر بها، وتمثلها وتشابهها؛ فاللون الذي نراه ليس إلا الأعصاب البصرية وقد
تلوَّنت بهذا اللون، والدفء الذي نحس به ليس إلا الأعصاب اللمسية التي لها مثل هذه
الحرارة. وهكذا نستدل من المُعطى الحسي الأزرق أو الدافئ فينا على أن هناك شيئًا
ماديًّا خارجًا عنه، له هذا اللون أو هذه الحرارة، ومن هنا فإنَّ المعطيات الحسية
كامنة. ولكنها ليست نفسية؛ فهي الأجزاء المادية للجهاز العصبي، التي تُمثل العالم
الخارجي.
ولقد كان النقيض المباشر لهذه الواقعية الفيزيائية هو المثالية الذاتية أو
النفسية، التي اتخذت نُقطة بدايتها من قول ديكارت إن المعطيات الحسية كلها ظواهر
نفسية، ثم تمثلت في رأي لوك وباركلي عن الأفكار، وفكرة الانطباعات عند هيوم،
والظواهر عند كانْت، حتى آخر صورة لها في فكرة الإحساسات عند مل. أما كيس فكان
يُريد استعادة الواقعية الأصيلة عند بيكن والعلماء الكبار (من أمثال جاليليو وكبلر
ونيوتن)؛ فهو يُريد أن يسير في الطريق المضاد، المؤدِّي لا من الذات إلى الموضوع،
بل مِن الموضوع إلى الذات، أو هو يريد — كما يدلُّ العنوان الفرعي لكتابه — أن
يتقدَّم بالمنهج التحليلي «من الموضوعات المادية للعلم إلى المُعطيات المادية
للحواس»، ومذهبه يدَّعي صراحةً أنه موضوعي وتحليلي تمامًا.
وينبغي أن نلاحظ أن كيس قد عرض في كتابه الصغير «الواقعية في الأخلاق» أفكارًا
مماثلة في ميدان علم الأخلاق. ولكن خوفه من أن يَخلط بين نظريته وبين المذهب
المادي، جعله يحرص بوجهٍ خاص على أن يُوضِّح أن واقعيته لا تَنبثِق عن المذهب
المادي، بل هي تتفق خيرًا من أي مذهب آخر مع اللاهوت المسيحي؛ فهو يرى أن رفض
المثالية النفسية يتَّفق تمامًا مع الاعتراف بالمثالية الألوهية. ولقد لاحظ البعض
عن حق (هازان Hasan) في كتابه «الواقعية Realism» ١٩٢٨م، ص٢٩١ وما يليها) أن وجهة نظر كيس
تكمل مُباشرةً فلسفة الموقف الطبيعي الاسكتلندية، وتكاد تكون مُماثلة تمامًا، من
الوجهة العملية، لموقف هاملتن ومانسل. ولكن مع فارق مميز هو أن العلم الفيزيائي
يحتلُّ عنده مكان الفهم البشري العادي. ولكنا لا نستطيع أن نرى في هذه النظرية
البدائية الخشنة إلى حدٍّ بعيد المفتقِرة إلى كل تفرقة وكل تمييز دقيق، أي تقدُّم
يتجاوز المفكرين المذكورين من قبل، أو يتجاوز واقعية بيكن التي كان كيس يؤثر
الإهابة بها على الدوام.
(٥) جون كوك ولسن John Cook Wilson
(١٨٤٩–١٩١٥م)
تعلَّم في كلية باليول بأكسفورد، في ١٨٧٣-١٨٧٤م، ودرس على لوتسه في جوتنجن، وكان
في ١٧٨٤م زميلًا في كلية أورييل Oriel بأكسفورد،
ومن ١٨٨٩م إلى ١٩١٥م أستاذًا للمنطق في أكسفورد، ولم ينشر ولسن خلال حياته شيئًا
ذا
أهمية (باستثناء كتاب «دراسات
أرسطية Aristotelian Studies»، المجلد الأول، ١٨٧٩م). وقد تولى فاركهارسن A. S. L. Farquharson نشر أبحاثه بعنوان،
«التقرير والاستدلال مع أبحاث فلسفية أخرى Statement and Inference, with Other Philosophical Papers»، في مجلدين، ١٩٢٦م،
وأهم أجزاء هذا المؤلف الضخم، الذي يربو عدد صفحاته على الألف، هو محاضراته السنوية
في المنطق، كما يحوي أبحاثًا ورسائل وأحاديث، وبحثًا تذكاريًّا للناشر، وثبتًا
بمطبوعات ولسن.
انظر المراجع الآتية عن ولسن، ﻫ. أ. برتشارد
H. A. Prichard في مجلة Mind المجلد الثامن والعشرين
(١٩١٩م)، جوزيف H. W. B. Joseph في «أعمال
الأكاديمية البريطانية» (١٩١٥–١٩١٦م) ور.
روبنسون R. Robinson، «مجال المنطق، تفسير لكتاب ولسن، التقرير والاستدلال The Province of Logic; An Interpretation of Cook Wilson’s Statement &
Inference»
(١٩٣١م).
كان جون كوك ولسن من أغرب الشخصيات في تاريخ الفلسفة الإنجليزية الحديثة، كما كان
من أصعبها على الفهم. وقد وفد إلى أكسفورد في ١٨٦٨م، بعد أن اجتذبته شخصية جرين
القوية، وهناك جرَفَه تيار الحركة الجديدة، ثم سافر عند نهاية فترة دراسته إلى
جوتنجن ليستمع إلى لوتسه، الذي كان في ذلك الحين أشهر المُفكِّرين الألمان وأعلاهم
مقامًا في الأوساط الفلسفية الإنجليزية، ثم بدأ عودته إلى أكسفورد — حيث عاش حتى
نهاية حياته — يقوم بنشاطٍ ضخمٍ ناجح إلى أبعد حدٍّ في التدريس. ولقد أجمع أتباعه
العديدون على أنه كان أعظم مُعلِّم للفلسفة في أكسفورد منذ جرين، وكان ميدانه
الرئيسي هو المنطق، الذي ظلَّ يلقي فيه بانتظام — لمدة سنوات متعدِّدة — سلسلة
مشهورة من المحاضرات مر بها جيل كامل من التلاميذ، وأبدى في تقديمها قدرًا عظيمًا
من المهارة والحماسة والدقة، وكان حرصه على تقديم مذهب محدَّد المعالم أقل من حرصه
على أن يحفز نفسه، وتلاميذه، على المزيد من التفكير. وعلى القيام فعلًا بهذا
التفكير، فكان أشدَّ اهتمامًا بالسير في الطريق منه بالغاية، وبالحركة الدينامية
للفكر منه بإثباته على نحو قطعي؛ ولهذا السبب كان ينفر من تثبيت أفكاره بشكل نهائي،
ولم يكن أبعدَ عن رُوحه من وضع تفاصيل مذهب تام مُتكامل الأطراف؛ ولهذا السبب لم
ينشر بنفسه شيئًا تقريبًا؛ إذ كان دائمًا يرجع إلى ما كتبه، فيُقومه ويُحسنه، وركز
كل قواه في التدريس، وبذلك أصبح واحدًا من أفضل وأعظم مُربِّي الفلسفة ومعلميها
الذين اشتغلوا في إنجلترا في نصف القرن الأخير، حتى ليستحق عن جدارة اسم سقراط
الإنجليزي الحديث.
كان ولسن يتمتع بذهن منطقي شديد الدقة والعمق، كان أعظم ما فيه من قوة يتبدى في
النقد والتحليل، فحيثما كان يتصدَّى لمشكلة، كان يدور بها ويقلبها في كل اتجاه،
ويتابعها حتى أبعد تفرُّعاتها دون أن يصل فيها إلى حلٍّ نهائي، وكان أكثر ما
يُلائمه من الأعمال هو أدق أنواع النحت والزخرف الدقيق في المنطق، فكان بهذا الوصف
ميالًا إلى خلق الصعوبات، يستطيع الغوص في أدقِّ تفصيلات وفوارق المشكلة وهو يشعر
بسعادة وتفانٍ يبلغ حد الحماسة الشديدة، وكان يُؤثر على الدوام مناقشة المشكلة على
صياغة المذهب ووضع المبادئ. ولكن هذا بعينه كان سبب ضعفه، وعجزه عن أن يرى أي شيء
في كليته، أو يتأمَّله في سياق أوسع؛ فقد كان مُقتنعًا تمامًا بأن لكل شيء ولكل
مشكلة حياتها الخاصة أولًا، وأن من المُمكن فهمها بذاتها، لا من خلال علاقتها
بأشياء ومشكلات أخرى، وبلغ اقتناعه هذا حدًّا جعله يغفل الكل الأوسع ويشتبك مع
التفاصيل وحدها. وهكذا كان ينشغل أساسًا بمهامَّ فلسفية ثانوية؛ أي بالتحليل الحريص
الدقيق للمُشكلات، وهو ميدان قام فيه قطعًا ببعض الأعمال الرائعة. ولقد أدَّت
الشروط الصارمة التي كان يفرضها على نفسه وعلى الآخرين من أجل نقاء الفكر ونزاهته
وبساطته الكاملة، إلى تخليص الجو الفلسفي في أيامه من زوائد مرضية مُتعدِّدة، وكان
فيه تعويض طبيعي سليم لتأثير بعض المبالغات المفرطة والخيالات المُسرفة، ولما كانت
أكسفورد، معقل الهيجلية، هي الميدان الذي مارس فيه تأثيره؛ فقد كان لهذه لحقيقة
دلالتها الهامة.
وأفضل ما تُوصف به وجهة نظر ولسن الفلسفية هو أنها «افتقار إلى وجهة النظر»،
ولسنا نستخدم هذه الكلمة بمعنى نحط فيه من قدره. ولكن بمعنى الحياد إزاء الالتزامات
التي يَنطوي عليها اتخاذ وجهة نظر؛ فقد كان مبدؤه الفلسفي الرئيسي هو الاعتقاد
الراسِخ بأن ليس ثمَّة مبدأ أول على الإطلاق، ورغم أهمية فكرته القائلة أن على
المفكِّر أن يقتصر على متابعة مُشكلات منفصِلة، فإنَّ هذه الفكرة تَنطوي على خطر
لم
يَسْلَم منه ولسن دائمًا، هو خطر غلبة المشكلات على المفكِّر بحيث يُصبح في قبضتها
إلى حدٍّ يعجز معه عن السيطرة عليها، وإنَّما يغدو خاضعًا لسيطرتها. وهكذا لا يَملك
المرء إلا أن يشعر في كثير من الأحيان بأنَّ أداة ذهنه الطيِّعة كانت في عملها أشبه
بالآلة التي ما أن تدفع إلى العمل حتى تسير آليًّا وتستطيع أن تذرو قشًّا فارغًا
مثلما تستطيع أن تجني سنابل كاملة من القمح. ولقد قيل عنه: إنه كان يملك قدرة خارقة
على النقاش إلى ما لا نهاية في أمور عقيمة لا أهمية لها، حتى ينفد صبر مُستمعيه
ولا
يُطيقون الانتباه إليه، بل لقد ذهب بعض المغرضين إلى القول إنه كان يستطيع الدفاع
عن قضية لا يؤمن بها، بنفس البراعة التي يُدافع بها عن عكسها تمامًا، بحيث يَحار
المرء آخر الأمر إن كان يُؤيد هذه أو تلك، ومن خصائصه — فضلًا عن ذلك — أنه كان
يَمتشِق حسام القتال على الدوام، فيتصيَّد دائمًا رأيًا مُعارضًا ببذل طاقة
مُستميتة للقضاء عليه. وعندما كان يعتقد أنه قد كشف مغالطة منطقية، أو سؤالًا
باطلًا أو برهانًا فاسدًا كان يتتبَّع الخطأ وكأنه صياد يَقتفي أثر الفريسة حتى
أبعد مخابئها، ولا يهدأ حتى يُسوِّي الموقف بما يُرضي حسَّه المنطقي المُتطرِّف
في
رفاهة، وحتى عندئذٍ لم يكن يعتقد عادة أن المشكلة قد حُلَّت نهائيًّا؛ إذ كان يُبدي
استعدادًا للعودة إليها في مناسبة أخرى، وكان في وسعه أن يكشف عن جوانب جديدة لها،
رغم ما بدا من أن تحليلاته السابقة قد استنفدَت الموضوع تمامًا. وهكذا عكف دون مللٍ
على تفنيد أخطاء عديدة؛ غير أن استعداده للقتال كان في كثير من الأحيان يبدو وهمًا
أو غرورًا لا عملًا جادًّا. وهكذا نراه قد حارب — بإصرارٍ وعنادٍ هائل — الهندسات
اللاإقليدية والمنطق الرمزي، مثلما حارب نظرية برادلي في الحكم، ونظرية الترابط
في
مجال الحقيقة، والنظرية الذاتية في المعرفة وكثيرًا غيرها، وكان يقتصر في مُعظم
الأحيان على النقد السلبي، ولا يقترح شيئًا إيجابيًّا بدلًا من الآراء التي نقدها،
بل إنَّ انشغاله طوال حياته بمُشكلات المنطق لم يُؤدِّ إلى تجديد في هذا الميدان،
صحيح أنه قد أدرك بوضوحٍ يفوق إدراك أي شخص غيره، نقاط الضعف في النظريات السائدة
وعيوبها. ولكنه لم يكن يَملِك القدرة على إعطاء المنطق قوة دافعة إيجابية، وبنائه
على أساس جديد.
ولما كان تفكير ولسن قد مرَّ بتغيُّر دائم؛ فمن الصعب إلى حدٍّ بعيد أن نهتدي فيه
إلى أية تعاليم محدَّدة، أو نُثبت أية نتائج إيجابية يؤدي إليها هذا التفكير؛ ومع
ذلك ففي إمكاننا الإشارة إلى بعض الاتجاهات الثابتة، التي يُمكن بوساطتها وضع
تعاليمه في سياقها التاريخي. ومن الأمور الهامة في هذا الصدد أن تفكيره قد نما
أصلًا من مثالية أكسفورد، وظلَّ وقتًا طويلًا يسلك نفس طريقها. ولكنه أخذ يبتعد
بمُضيِّ الوقت عن نقطة بدايته، متجهًا إلى الواقعية. وقد حدث هذا التغير — كما يقول
أحد النقاد — «بتردُّد شديد، ودون تأكيد واضح المعالم»،
٥ بحيث يتعذَّر تحديد نقطة التحوُّل زمنيًّا بدقة؛ فحتى العقد الأخير من
القرن الماضي كان ولسن لا يزال خاضعًا لتأثير كانت وجرين إلى حدٍّ بعيد، ولم يظهر
الاتجاه إلى الواقعية واضحًا إلا عند انتهاء القرن الماضي. ولكنَّا لا نستطيع القول
إنه قد حدث عندئذ، أو حتى بعد ذلك؛ أي انشقاق حقيقي عن المثالية من حيث هي نظرة
إلى
العالم، أو أي صراع علَني معها، وإنما الذي حدث فعلًا هو أن ولسن — جريًا على عادته
— قد عكف على بحث بعض النقاط المحدَّدة والمشكلات الخاصة في تعاليم أكسفورد، وحاول
أن يُبيِّن استحالتها وافتقارها إلى الاتساق. ولكنه حتى في هذه الحالة قد اقتصر
على
التفاصيل، ولم يجرؤ على مهاجمة الكل. وهكذا أصبح ولسن يحتلُّ بالتدريج مكانةَ زعيمٍ
لمعارضة لم تُحاوِل أن تقضي على المثالية تمامًا بوضع مذهب في العالم مضادٍّ
للمثالية، ولا يقلُّ عنها شمولًا، وإنما حاولت زعزعتها بسلسلة من الضربات المُنفصلة
المسدَّدة بإحكام، وكان مما زاد من فعالية هذه المعارضة ووَقعها في النفوس، أنها
أتت من مُعسكر المثالية ذاته، ومن داخل جدران أكسفورد.
ولنُوضِّح هذا في حالة نظرية المعرفة عند ولسن؛ فمن الأمور التي كان مُقتنعًا بها
أشد الاقتناع، أن الفلاسفة يُحاولون تفسير أشياء عديدة هي بطبيعتها غير قابلة
للتفسير، فكثير ممَّا هو نهائي ultimate في
تجربتنا معقول تمامًا في ذاته. وهكذا فإنَّنا نكون قد أخَذنا على عاتقنا مهمَّة
باطلة تمامًا إذا حاولنا تفسير مثل هذه الأشياء النهائية بأيِّ نوع من العلاقات
أو
المظاهر التي تتبدَّى عليها؛ فمن المُمكن أن يكون الشيء معقولًا دون أن يكون قابلًا
للتفسير؛ أي إنه يفسر ذاته دون علاقة بأي شيء آخر. وهذا ينطبق بوجهٍ خاصٍّ على
نظرية المعرفة؛ فالمعرفة في رأي ولسن واقعة نهائية لا يُمكننا أن نأتيَ لها بمزيد
من التحليل أو التعريف، وحتى محاوَلة تفسيرها تُخفي مُغالَطة لأنها دائمًا تفترض
مقدمًا ما ينبغي تفسيره؛ فالمعرفة معرفة فحسب، ولا شيء غير ذلك، وليس هناك آخر
الأمر ما يُسمَّى بنظرية المعرفة، أو هي على الأقل لا توجد بالمعنى القائل إن من
الممكن بوساطتها تحديد أو تفسير طبيعة المعرفة. ولقد كان ولسن يرتاب في كل نظرية
من
هذا النوع، وبين أن معنى المعرفة يفوتها كلَّما حاولت أن تفسرها؛ فهي تقول إن
المعرفة تكوين نسخة لموضوع، أو تمثُّله أو تركيبه. ولكن ما الذي نكتسبه من هذا؟
ألا
ينبغي أن تدرك النسخة أو التمثل أو التركيب بدورها في المعرفة، وهلا يُؤدِّي ذلك
إلى مجرَّد تكرار للصعوبة بدلًا من تذليلها؟ وسواءٌ أكنَّا نعرف الصورة أم الشيء
أم
أي شيء آخر، فإنا نَفترض المعرفة في ذاتها مقدمًا على الدوام، ولا نُقدِّم تفسيرًا
لها.
وعلى ذلك فالمعرفة ظاهرة فريدة في نوعها، وهي واقعة نهائية غير قابلة للتحليل.
وهناك تحديدات أخرى مُعيَّنة لها، كالإدراك الحسي والفكر والحكم. ولكن هذه لا
تَستطيع تفسير المعرفة، بل يُمكنها وصفها في نواحٍ معيَّنة فحسب.
ويرفض ولسن أولًا الرأي المثاليَّ القائل إن المعرفة خلقٌ لموضوع؛ فهو يرى أننا
لا نُغير الموضوع على الإطلاق إذا وصلنا إليه بالإدراك الحسي أو المعرفة، فممَّا
يَتنافر مع فكرة المعرفة، أن تُمارس الذات أي نوع مِن الفاعلية على الموضوع، أو
أن
يمرَّ الموضوع بأي نوع من التغيُّر بفضل الذات؛ فمن المستحيل أن تكون المعرفة شيئًا
ذاتيًّا محضًا، ينتج الموضوع من ذاته، ولا يكون إدراك الموضوع مُمكنًا إلا بقدر
ما
يكون لما يُدرك وجود مُستقِل عن فعل الإدراك، تلك مقدمة ضرورية وشرط لا غنى عنه
في
كل الأفعال المعرفية. وعلى ذلك فالمعرفة كشف لعلاقات واقعية وإماطة اللثام عنها.
وليسَت تغييرًا لهذه العلاقات أو إحداثًا لها، ويحدث هذا الكشف بالإدراك المباشر
لما يُوجد حقيقة، لا عن طريق أية صور مُتوسِّطة؛ لذلك يرفض ولسن نظرية النسخ، فأنا
أعرف الواقع لأني أدركه مباشرةً، ولأن الواقعة تقف في مواجهتي بلحمها ودمها. وليس
الحكم المعرفي هو الواقعة ذاتها أو أية صورة للواقعة ولا إدراكًا لمثل هذه الصورة،
وهو أبعد ما يكون عن الإدراك المَحض بوصفه حالة ذاتية خالصة، وإنما هو إدراك
للواقعة من حيث هي حقيقة فحسب. وهذا يوضح أبرز سمات هذه النظرية الواقعية في
المعرفة، وإن يكن علينا أن نُؤكد أن آراء ولسن لا يُمكن أن تثبت في أي مذهب جامد
ضيق الحدود؛ فهو يكتفي بإيضاح الاتجاه الذي تسير فيه آراؤه، والذي وصل إليه بتحليل
المشكلة فحسب، وهو الاتجاه الذي أثَّر به في بعض تلاميذه. وعلى أية حال فإن ولسن
كان يُعَد — في سنواته المتأخِّرة — المقابل الواقعي لمثالية أكسفورد؛ وبالتالي
إحدى القوى التي تَعمل ضدَّها.
كذلك خشي ولسن أن يُضفيَ على أفكاره صبغة نهائية في مجال المنطق، وهو مجال نشاطه
الخاص، فسلسلة محاضراته العظيمة في هذا الموضوع، وهي السلسلة التي لم يستطع ناشرُ
أبحاثه أن يجمعها إلا بعدَ جهد جهيد، تتركنا دون أن نكاد نُكوِّن اتجاهًا واحدًا
واضح المعالم، وهي أشبه بتكوينٍ جيولوجي تَمتزج طبقاته المُتعدِّدة بعضها ببعض
أحيانًا، وتتراكَم بعضها فوق البعض أحيانًا أخرى، ونستطيع أن نَلمس في هذه
المحاضَرات تأثير لوتسه، الذي كان ولسن تلميذًا له، وكذلك تأثير أوبرفك، الذي
أكَّده ناشرها فاركهارسن. ومن المؤكَّد أن ولسن — الذي كان عالمًا بارزًا في
الدراسات الكلاسيكية، وخبيرًا بفقه اللغة والتفسير معًا — قد تعلَّم الكثير من
اليونانيِّين، ولا سيما أرسطو، كما تتلمذ في مدرسة كانْت. ولكن هذا كله لا يعني
الكثير في حالة رجل كان مُستقلًّا تمامًا في أفكارِه، وكان يَعتمِد على نفسه
اعتمادًا كاملًا. وعلى أية حال فقد حاول ولسن أن يُحقِّق للمنطق استقلالًا كاملًا
عن علم النفس، أي أن يُحرِّره من كل اعتماد على ذاتية المفكر، أو من أي تداخُل مع
وجهات النظر السيكولوجية، وإن لم يكن قد نجَحَ في ذلك كل النجاح … ومن جهة أخرى
فقد
أكَّد العلاقة الوثيقة بين المنطق والرياضة البحتة (وقد كان هو نفسه رياضيًّا
متعمِّقًا، وكان ذهنه حافلًا بأفكار أصيلة، وإن تكن شاذَّة)، واعترف بالأهمية
العُظمى لصور اللغة في التفكير المنطقي، ورأى أن الاستخدام اللغوي الشائع يَحوي
من
المنطق أكثر كثيرًا ممَّا تحويه عدة نظريات دقيقة محملة بالمصطلحات الفنية؛ لذلك
آثر أن يُعبِّر عن نفسه بلغة الناس العاديِّين، وتجنب كل مباهاة بعلمه، وكل مصطلحات
فنية معقَّدة. وفضلًا عن ذلك فقد كان يؤمن بأهمية وضع الأسئلة الصحيح، وإيضاح
الوقائع، بوصفه شرطًا أساسيًّا لكلِّ بحث منطقي مُفيد، والأهم من هذا كله أنه لم
يُغمَد حسام القتال في هذا الميدان بدورِه، وكان دائمًا يتعقَّب المغالَطات
والأسئلة الباطلة، والتفكير الغامض المُختلَط، وكان الهدف الرئيسي لهجومه هو
المدرسة الهيجلية الجديدة في أكسفورد، وما ابتدعتْه من نظريات. وقد هاجم بإصراره
وتحمُّسه المأثورين: مذهبي برادلي وبوزانكيت في الحكم بوجهٍ الخاص، وكان يُريد
استبعاد لفظ الحكم من مجال المنطق نهائيًّا؛ لأنَّ هذا اللفظ يتضمَّن طريقتَين
مختلفتَين تمامًا في التفكير، هما المعرفة knowing، والظن opining، وفي رأي
ولسن أن هذَين الاثنَين ليسا مُنتمَيين إلى عملية منطقية واحدة تُوجد فيها درجات
أو
مراحل مُتفاوِتة لليقين، تنتقِل الواحدة منها بسهولة إلى الأخرى، وإنما هما
مُنفصلان من حيث المبدأ؛ إذ إنَّ المعرفة ترتبط أساسًا باليقين المطلَق، على حين
يرتبط الظن دائمًا بعنصر من اللايقين تتفاوَت أهميته. وعلى ذلك فلفظ «الحكم» لا
يُؤدِّي إلا إلى الخلط؛ لأنه يَبقى على الاعتقاد الواهم بوجود نوعٍ من الرابطة بين
هاتَين الطريقتَين المُتباينتَين تمامًا في التفكير. وفضلًا عن ذلك؛ فحتى لو أمكن
إيجاد معنًى محدَّد بوضوح لفكرة الحُكم. فليس في وسعنا أبدًا إيجاد تعريفٍ نهائي
للحكم. فإذا قلنا — مثل برادلي وبوزانكيت — إنه علاقة بالواقع. فعلينا أن نتساءل
عن
العلاقة التي يُكوِّنها. وليس لهذا السؤال من جواب سوى أنها علاقة الحكم. وهكذا
فإن
كل ما نفعله هنا هو أن ندور في حلقة، وعلى ذلك فإن ولسن يرى أن المسألة الرئيسية
في
المنطق والمجال الحقيقي له ليس الحكم وإنما الاستدلال، وهو يرى — مثل أرسطو — أن
فكرة التقرير apophansis تسبق فكرة الاستدلال،
فبدلًا من فكرة الحكم، التي هي فكرة لا صلة لها بالمنطق، ينبغي أن تكون لدينا نظرية
في الصورة العامة للتقرير في أنواعه المُتعدِّدة. وهذا هو تفسير عنوان سلسلة
محاضراته «التقرير والاستدلال». أما تفاصيل هذا المنطق فلا مجالَ هنا لبحثها، والذي
يُهمنا هو أن ولسن قد أبدى في هذا المجال بدوره — كما أبدى في كل مجال آخر — قدرة
عظيمة على التفكير الصارم الدقيق، الذي كان حقًّا مفرطًا في التنقيب عن العيوب
وتلمُّسها في كثير من الأحيان. ولكنه كان دائمًا نزيهًا واضح المعالم.
أتباع كوك ويلسون
ترك تدريس كوك ولسن في أكسفورد آثارًا عديدة في الفكر الإنجليزي الحديث. ولكن
ليس من السهل تلخيص تأثيره؛ لأنه لم يترك مذهبًا محدَّد التعاليم، له نتائج
نهائية يسهل نشرُها، وإنما ترك طريقة خاصَّة في التفلسُف فحسب. ولقد ظهر في
أكسفورد ذاتها، حتى في أثناء حياته، نوع من التراث المنسوب إلى ولسن، وما زال
هذا التراث حيًّا. وقد واصلت هذا التراث جماعة صغيرة من المفكرين، ما زال
معظمهم يعلم ويعمل في جامعة أكسفورد، ولكنا لا نستطيع أن نقول: إنه قد تكوَّنت
مدرسة بالمعنى الصحيح؛ إذ لا يوجد هيكل ثابت من المبادئ التي يُمكِن نقلها من
شخصٍ إلى آخر، وأقصى ما يُمكِن أن يُقال بوجوده هو نوع من التفلسُف بطريقة مشتركة sumphilosophein، ما زال
يُواصِل برُوح ولسن وأساليبه في التفكير، وتواجه المؤرِّخ صعوبة أخرى هي أن هذا
النوع من التفلسُف أقوى بكثير في التعليم الأكاديمي منه في الإنتاج التأليفي،
فهؤلاء المُفكِّرون يشاطرون أستاذهم نفوره من صياغة الأفكار وتثبيتها على نحوٍ
نهائي بالكتابة؛ لذلك فإنَّ العرض الذي أقدمه لهم يغدو عسيرًا لقلَّة مؤلفاتهم،
ولا سيما في حالة أولئك الذين يقفُون خارج الحركة، والذين قدَّم هذا العرض من
أجلهم.
ونستطيع أن نذكر — من المُفكِّرين الذين ينتمُون إلى تراث ولسن — الأسماء
التالية — مع التحفُّظات اللازمة: برتشارد
H. A. Prichard (وُلد في ١٨٧١م)
٦ الذي كان أستاذًا للفلسفة الأخلاقية وزميلًا في كلية «ترينيتي»
(وتقاعد في ١٩٣٧م)، وجوزيف
H. W. B. Joseph
(وُلد في ١٨٦٧م)،
٧ وكان زميلًا في «نيو
كوليدج
New College» ومحاضرًا في الفلسفة (وتقاعَد في ١٩٣٢م)، والسير
و. د. روس
W. D. Ross (وُلد في ١٨٧٧م)،
وكان عميدًا لكلية أرييل
Oriel ومحاضرًا في
الفلسفة في أكسفورد، ور. أ. آرون
R. I. Aaron
(ولد في ١٩٠١م)، الأستاذ بكلية ويلز الجامعية في آبريستويث
Aberystwyth.
أما برتشارد — الذي كان ارتباطه بتفكير ولسن أوثق من ارتباط الآخرين — فلم
ينشر حتى الآن سِوى كتاب واحد، هو «نظرية المعرفة عند
كَانْت Kant’s Theory of Knowledge»، الذي عرض فيه نظريته الخاصة في المعرفة، ولم يَنشر غير
ذلك سوى بضع مقالات في مجلات دورية، ومحاضَرة افتتاحية (بعنوان، «الواجب والمصلحة Duty & Interest») ناقش فيها
المشكلات الأخلاقية؛ فالرأي القائل بوجود الأشياء الخارجية مستقلَّة عن الوعي،
وبأنها تعرف بالإدراك الحسي مباشرةً، هذا الرأي يكون الأساس الواقعي الذي اشترك
فيه برتشارد مع ولسن ومع كثير من الواقعيِّين المُحدَثين، وكان موقفه من كل
الأبحاث في المعرفة شكاكًا كموقف أستاذه؛ إذ إنَّ اضطلاع المرء بتكوين نظرية في
المعرفة دون أن يكون قد عرف من قبل ما هي المعرفة، فيه من الحماقة مثل ما في
محاولة تعلُّم السباحة دون النزول في الماء؛ فالبحث في المعرفة يُحقِّق ذاته
دائمًا في فعل المعرفة، وكل نظرية في المعرفة ينبغي أن تأخُذ هذا بعين
الاعتبار، ورغم أن الحذر أمر مُستحب في هذا المجال، فإن برتشارد يُبدي من الثقة
والتأكيد في عرض آرائه أكثر مما أبداه ولسن، ويتَّضح ذلك في تحليله للإدراك
الحسي، وهو التحليل الذي تَنبثِق منه نظرية المعرفة؛ فالإدراك الحسِّي موضوعي
بالمعنى الدقيق؛ أي إنه إدراك مباشر للموضوع لا لمظاهره. فإذا أدركنا «شيئًا
أحمر»، فإنا نعلم أن موضوع الإدراك حقيقي، كما نعلم أنه في طبيعته العامة
مكاني، حتى دون أن تكون لدينا معرفة بعناصره المتعدِّدة. ولكن هل يَنتمي ما
يُسمَّى بالكيفيات الثانوية (كاللون والصلابة والدِّفء) إلى الموضوع أيضًا، كما
يفترض الملاحظ الساذج، أم إنها ذاتية؟ يرى برتشارد أن القول الأخير هو الصحيح،
فليس اللون — مثلًا — صفة حقيقية للشيء، وإنما هو يفترض ذاتًا مدركة. وليس له
وجود خارج هذه الذات، والبرهان الذي يأتي به برتشارد على اعتماده هذا على الذات
برهانٌ منطقي فحسب، فذاتية الكيفيات الحسية جزء لا يتجزَّأ من تصوُّرها؛ أي إن
من المستحيل التفكير فيها إلا على أنها علاقة ما بالذات، ولما كان هذا أمرًا
واضحًا تمامًا. فلا حاجة بنا إلى الإهابة بالتجربة في هذا الموضوع. وهكذا يتمُّ
البتُّ في مسألة هامة من مسائل نظرية المعرفة عن طريق الفكر الخالص، ولما كان
ولسن وأتباعه قد دأبوا على تفضيل مثل هذا النوع من الحُجَج، فإنه يحق لنا أن
نُسمي هذا الاتجاه اتجاهًا إلى المعقولية. وفي هذا نجد فارقًا أساسيًّا بين
الموقف الواقعي لمدرسة ولسن وبين موقف الواقعية الجديدة.
ويستتبع القضاء على موضوعية المُعطيات الحسية وارتباطها الضروري بالإدراك،
نتيجة أخرى تُهدِّد في النهاية بهدم أسس المذهب الواقعي تمامًا؛ فمِن الواضح أن
الشعور بالطابع المكاني للأشياء، وهو الشعور الذي تدرك فيه الكيفية الأولية
(primary) للمكانية على أنها أساسية
لواقعية الشيء، ليس في واقع الأمر مُرتبطًا بالإدراك الحسي، وإنما هو ضرورة
فكرية؛ ففي كل حكم للإدراك الحسِّي يكون للمكانية (وبالتالي للواقعية أيضًا)
دور منذ البداية. وعلى ذلك تكون المكانية مُفترضة مقدمًا، ولو شئنا الدقة في
التعبير لما كان في وسعنا القول إن الأشياء مكانية، وإنما الأصح أن نقول: إن
مِن واجب الفكر أن يعدَّها مكانية، بقدر ما تكون مدركة. وإذن فمكانيتها أولية
(a priori)، وهي ليست معطاة لنا في العملية
الإدراكية أو بطريقة تجريبية، وإنما نصل إليها بالحدس المباشر، ومثل هذا يصدق
على واقعيتها، التي تعدُّ المكانية أهم مميزاتها. وهنا نجد أن برتشارد — حين
اعترف بالأسس الأولية (a priori) للتجربة — قد
تجاوَز موقفه الأصلي كثيرًا، ورغم أنه هنا يَسترشِد بطريقة أعمق في التفكير،
فإنه يُعرض للخطر نفس المبدأ الذي حرصَ على إثباته؛ أعني الحل الواقعي لمشكلة
المعرفة.
وليس في وسعنا أن نخوض تفاصيل بحث برتشارد للمُشكلات الأخلاقية، وكل ما
أستطيع أن أقوله هو أن مقاله: «هل تَرتكِز الفلسفة الأخلاقية على خطأ؟» (في
مجلة Mind، المجلد الحادي والعشرين، ١٩١٢م)، قد
أثار في الآونة الأخيرة نقاشًا حاميًا مُثمرًا إلى أقصى حدٍّ، اشترك فيه أساسًا
مُفكِّرُو أكسفورد، وهو نقاش يبدو أنه قد تبلور في موقف جديد من بعض المشكلات
الأخلاقية الخاصة. ولقد اجتذب «أخلاقيُّو أكسفورد» — الذين كانوا هم مصدر هذه
القوة الدافعة الجديدة — انتباهًا كثيرًا؛ غير أنَّ هذه الأمور لم تَتخذ بعدُ
قوامًا أو شكلًا محددًا، بحيث يصعُب على مُؤرِّخ الفلسفة معالجتها.
كذلك تأثَّر جوزيف بطريقة ولسن في التفكير تأثرًا واضحًا، وظهرَت آثار هذه
الطريقة واضحة فيه؛ غير أنه ابتعدَ عن أستاذه، وعرض أفكاره بطريقة أكثر
استقلالًا من برتشارد، كما أن ذهنه كان أكثر من ذهن برتشارد تفتحًا للمُؤثرات
الخارجية، وأكثر انطباعًا بها، ويتَّضح ذلك في كتابه الأول «مدخل إلى المنطق
Introduction to Logic» (١٩٠٦م، الطبعة
الثانية، ١٩١٦م)؛ فهذا الكتاب المدرسي المُمتاز الواسع الانتشار، الذي يُعَد
أفضل كتاب بين كتب أخرى عديدة مُماثلة، يعرض منطقًا صوريًّا على أساس أرسططالي،
وينتفع من الأبحاث المنطقية المُتأخِّرة التي قام بها زيجفرت ولوتسه وبرادلي
وبوزانكيت، وأخيرًا وليس آخرًا: كوك ولسن، وإذا كان جوزيف يَدين بأعظم الفضل
لأستاذه كوك ولسن، الذي أخذ جوزيف عنه الدقَّة في الاستدلال والبراعة في
التحليل وتوضيح الأفكار، فإنَّ دينه الذي يَلي ذلك مباشرةً في الأهمية كان
للهيجليِّين، ولا سيما فيما يتعلَّق بالمسائل الرئيسية المتعلِّقة بالمبدأ،
ففكرته القائلة: إنَّ المنطق لا يُمكن أن يكون مُستقلًّا، وإنما ينبغي أن يرتبط
آخر الأمر بالميتافيزيقا، هي فكرة تتجاوَز النزعة الشَّكلية عند ولسن بكثير،
وتسير في اتجاه مذهب المُطلق، وإلى هذا الحد يُمكن القول: إن منطق جوزيف كان
مواصلة لتراث أكسفورد القديم، وكان مُقابلًا حقيقيًّا للمنطق الرياضي في
كيمبردج، وهناك أفكار أخرى هيجلية أو هيجلية جديدة نجدها لدى جوزيف، هي مناقشته
لفكرة النمو development التي كانت موجَّهة ضد
النزعة البيولوجية عند سبنسر وخلفائه، ومحاولة تفسير التطور تفسيرًا
مثاليًّا.
ويتبدَّى في نظرية المعرفة عند جوزيف نفس التذبذب الذي يظهر لدى برتشارد بين
الواقعية والمثالية، وهو تذبذُب يُمكن أن يرد بدوره إلى تأثره بولسن سواء في
نقطة بدايته أو في منهجه؛ فهو أيضًا يبدأ بافتراض أن الإدراك الحسي إدراك مباشر
لموضوعات مكانية توجد مُستقلة عن فعل الإدراك؛ غير أن التحليل النقدي المستمر
يظهر استحالة هذا الافتراض بالتدريج؛ فمن الواضح أن الكيفيات الثانوية ليست هي
وحدها التي ترتبط بفعل المعرفة ارتباطًا ضروريًّا، بل إنَّ الكيفيات الأولية
تماثلها في هذا. وهكذا ينشأ صراع بين الاتجاهَين الواقعي والعقلي
rationalistic يظهر بوضوح في مشكلة المكان، كما
هي الحال عند برتشارد، فالواقعية تقتضي مكانية الموضوع واستقلاله عن إدراكنا
حسيًّا له؛ غير أن المعقولية
Rationalism
تُلقي ظلًّا من الشك حول ما يفترض وجودَه في التحديدات المكانية من استقلالٍ عن
الوعي. وهذا يصدق على الكيفيات الأولية الأخرى، كالمقاومة والعظم
magnitude، وهكذا ينتهي جوزيف بدوره إلى هدم
موقف ولسن، ويجد نفسه مُضطرًّا إلى اتخاذ موقف فريد من المواقف الفكرية
المثالية بالتدريج، بل إلى اتخاذ مواقف فكرية أقرب إلى أفلاطون منها إلى كانت.
وهكذا لم يكن أكثر توفيقًا من برتشارد في حل مشكلة المعرفة.
٨
ويتبدَّى نفس موقف جوزيف هذا من رُوح التراث المثالي. ولكن ليس من نصِّه، في
كتاب صغير عن الأخلاق («بعض مشكلات
أخلاقية
Some Problems of Ethics»)، ظهر في ١٩٣١م، ويَرتبط بالمناقشة التي ذكرنا منذ
قليل أن برتشارد قد أثارها بشأن المسائل الأخلاقية. وقد اشترك في هذه المناقشة
إلى جانب برتشارد، جوزيف، وفيلد
G. C. Field،
وقبل هؤلاء جميعًا: العلامة الأرسططالي المشهور، السير و. د. روس
W. D. Ross؛ وذلك في كتاب عنوانه
«الحق والخير
The Right & the Good»
٩ ولم يكن الجهد الذي بُذل في هذه المناقشة مُتجهًا إلى بناء مذهب
أخلاقي، بقدر ما كان متَّجهًا إلى تحليل تصورات أخلاقية أساسية معيَّنة
وإيضاحها، على نحو ما فعل مور
G. E. Moore،
الذي ارتبط به «رُوس» عن طريق الإعراب عن اتِّفاقه معه أحيانًا، واختلافه معه
أحيانًا أخرى، ولكي نُقدم فكرة عن المسائل التي نُوقِشت في دائرة «أخلاقيي أكسفورد
Oxford Moralists» ينبغي أن نذكر بعض
الموضوعات التي عُولِجَت في كتابات جوزيف وروس؛ فهي الأفعال القويمة
rightful والأخلاقية والفعل الباعث
والصواب
rightness والخيرية والواجب
والرغبة ومعنى الحق والخير وعلاقتهما المُتبادَلة، وإلى أي الموضوعات تنتمي هذه
الصفات ودرجات الخير والخير أخلاقيًّا … إلخ، ولو أطلقنا على هذه الأخلاق اسم
الأخلاق الحدسية، لما كان في ذلك وصفٍ دقيق لها؛ إذ إن الصفة المُميزة لها هي
كونها لا تلتزم بوجهة نظر محدَّدة، وإنما تهتمُّ أساسًا بالمشكلات بما هي كذلك؛
أي بإيضاح التصورات ووصف الظواهر.
وأخيرًا ينبغي أن نُشير إلى مناقشة لمشكلة المعرفة، ترتدُّ إلى أفكار ولسن
مباشرةً، وذلك في كتاب «آرون Aaron»
«طبيعة فعل
المعرفة The Nature of Knowing» (١٩٣٠م)؛ ففي هذه الدراسة التي كُتِبَت بدقة وإحكام،
يتناول آرون بوجه خاص الوجه الذاتي للمُشكلة، أي الفعل الذي تحدث به المعرفة،
ويتَّفق مع كوك ولسن على أننا نكون فيه إزاء شيء أصلي فريد في نوعه من كل
الوجوه، لا يُمكن فهمه إلا بذاته. وعلى ذلك فكل تعريف أو تفسير لهذا الفعل
ينبغي أن يدور في حلقة. وينبغي دائمًا أن يرجع إلى ما يستحيل تعريفه، وكل ما
يُمكننا أن نفعله للكشف عن طبيعته هو تقديم وصف واضح دقيق له، ينبغي أن يكون في
البداية خاليًا من جميع التعقيدات الميتافيزيقية أو غيرها، ونتيجة هذا البحث هي
أن المعرفة ليست إلا إدراكًا حدسيًّا للواقع؛ فهي شيء بسيط مباشر تمامًا، متميز
عن كل فعل روحي آخر، ومُتماثل دائمًا حيثما كان. وليس في إمكاننا أن نسمي هذا
الفعل عملية، رغم أنه قد يكون مسبوقًا بعمليات نفسانية من أنواع شتى، وما إن
يبدأ هذا الفعل حتى يكون أشبه بوميض البرق الوضَّاء، الذي ينار به مضمون واقعي
على الفور. وعلى ذلك فليست المعرفة — بما هي كذلك — معرَّضة للخطأ، وإنما هي
معصومة منه فحسب، وحيثما يظهر الخطأ، يكون قد انزلق إليها من مسارب أخرى. وهكذا
فرغم أن «آرون» قد اتخذ نقطة بدايته، في بحث هذه المشكلة، من أفكار كوك ولسن
الأساسية، فإنه قد عرضها بطريقة مستقلة، وأوضح بعض أوجهها الجديدة
الهامة.