الفصل الرابع
الواقعية الجديدة
ليست الواقعية الجديدة حركة متكاملة الأطراف كالمثالية الجديدة، أو كالبرجماتية بمعنى
معيَّن، وإنما هي حركة ما زالت في دور التغير، وما زالت تتصف بإمكانية النمو التدريجي،
وما زال مجال مشكلاتها مفتوحًا في جميع الاتجاهات؛ فهي فلسفة الوقت الحاضر، وبقدر
ما
يُمكننا أن نتكهَّن بالمستقبل، فستظلُّ هي السائدة في التطور المقبل، أو ستلعب فيه
—
على الأقل — دورًا رئيسيًّا. وإذن فلم يَحِن بعدُ وقت كتابة تاريخها، وليس أمامنا
إلا
أن نقتصر على تحديد مجال الحياة العقلية الذي سيطر عليه هذا المذهب، وبيان خصائص
أهم
النتائج التي أنجزتها، ووضعها في إطارها الخاص.
ولسنا بحاجة إلى الإطناب في رواية تاريخها؛ فهي أقرب التطورات عهدًا في الفلسفة
الإنجليزية، ورغم أنها ظهرت في وقت مُقارب لظهور المذهب البرجماتي؛ فقد كان لهذا
المذهب
الأخير تاريخ أسبق في الأرض الأمريكية، وهو في عمومه ينتمي إلى ما وراء المحيط الأطلسي
أكثر مما يَنتسِب إلى أوروبا؛ فهو لم يلعب في إنجلترا إلا دورًا قصيرًا، بوصفه مذهبًا
أجنبيًّا، ولم تتغلغل جذوره فيها. أما الواقعية الجديدة فهي نبتة إنجليزية أصيلة،
كانت
في نموِّها متمشية تمامًا مع تراث الفلسفة الإنجليزية الأصيلة أو القومية، ورغم أنها
قد
تغلغلت أيضًا عبر المحيط، فإن إنجلترا هي تربتها الأصيلة، والصفة التي تفرق بينها
وبين
الحركة المثالية الجديدة أو الحركة البرجماتية، هي أنها قد انبثقت من هذه الأرض
الإنجليزية، على حين أن الأخريين مُستوردتان، مهما كان الأمر، الأولى من ألمانيا
والثانية من أمريكا. ومن المؤكد أن مُعظم الإنجليز أنفسهم لا يعترفون بصحة هذا القول،
ولا سيما فيما يتعلَّق بالمثالية، فهم يذهبون إلى أنها تكملة لما يُسمونه بالتراث
المثالي، الذي يرجع إلى عهدٍ سحيق في القدم، والذي لا تعدُّ المثالية الجديدة الراجعة
إلى أصول كَانْتية وهيجلية إلا آخر حلقة فيه؛ غير أن الوقائع التاريخية لا تؤيد هذا
الرأي. صحيح أنه لا يمكن القول إن التفكير المثالي غريب عن الإنجليز. ولكن كل ما
يمكن
قوله هو أن هذا الفكر، حيثما بدأ نتاجًا محليًّا أصيلًا، كان يصطبغ (ولا بدَّ أن
يظلَّ
يصطبغ) بتلك الصبغة الخاصة الملائمة للطبيعة الإنجليزية، وأوضح مثل على ذلك: فلسفة
باركلي؛ غير أن الطبيعة الإنجليزية لا تتناسَب مع ذلك الأسلوب الألماني الذي كان
هو
الطريقة الكلاسيكية للتعبير عن المثالية في العصر الحديث، كما أنها أقل تناسبًا بوجه
خاص، مع ذلك الأسلوب الهيجلي الذي آثر الفكر الإنجليزي أن يأخذ به في عهد إحيائه
في
نهاية القرن الماضي. ومما له دلالته العميقة، أنه قد ظهرت على التو، حتى بين صفوف
الهيجليين الإنجليز، قوى تهدف إلى استبعاد هذا الأسلوب، والمناداة بحقيقة مثالية
على
صورة أكثر ملاءمة للشعور القومي.
وبفضل الواقعية الجديدة عادت الفلسفة الإنجليزية إلى ديارها من جديد، ورجعت إلى تراث
كان له طريقه المتَّصل من أيام عصر النهضة، وظل حيًّا حتى يومنا هذا، وإن يكن قد
أُقصيَ
حينًا عن مركزه الرئيسي (في الثلث الأخير من القرن الماضي، على يد المثالية الجديدة).
وينبغي أن نلاحظ أن هذه العودة إلى المسالك القديمة لم تَحدُث بفضل حركة استئناف
واعية
صريحة للتراث، وإنما اتخذت شكلًا مستقلًّا عن الأفكار القديمة في كل مظاهرها. وعلى
ذلك
فإنا لا نكون متناقضين مع أنفسنا إذا نظرنا إلى الواقعية الجديدة على أنها تجديد
أصيل
في الفكر الإنجليزي؛ ذلك لأنها عندما ظهرت، كان التراث القديم قد دخل طريقًا لا مخرج
منه، وإن لم يكن ذلك التراث قد انقطع تمامًا، ولما لم يكن أحد من أصحاب الحركة الجديدة
يُفكر في ربط آرائه بالماضي (وأعني بالماضي: الفلسفة التطوُّرية قبل كل شيء) ولما
لم
يكن هناك إحياء للصور القديمة للتراث، فإنا نجد أنفسنا بالفعل إزاء اتجاهٍ فكري جديد
مُشابه لما حدث قبله بثلاثين عامًا، عندما ظهرت الحركة المثالية فجأة. ولقد كان استئناف
التراث الإنجليزي راجعًا إلى أسباب داخلية أكثر مما كان راجعًا إلى أية قوة دافعة
خارجية، وانبثق بالسليقة أكثر مما انبعث عن قصد متعمَّد؛ وهكذا فإن التفكير الذي
بعثت
فيه الواقعية الجديدة نشاطًا متجددًا، لم يرجع بأنظاره إلى أصوله السابقة ويدرك عن
وعي
كامل ارتباطه بالماضي إلا فيما بعدُ. ومن هنا نجد أن الإحياء قد استلهمَ رُوح العصر
الكلاسيكي للفلسفة الإنجليزية أكثر مما استلهم روح مُقلِّديه في القرن التاسع عشر.
وعلى
ذلك فإن الواقعية الجديدة تنطوي على إعادة للتراث الإنجليزي الحقيقي، واستمرارٍ لما
تجسم بأنقى صوره في المذاهب الكلاسيكية الكبرى التي امتدت من لوك إلى هيوم وريد،
وإن لم
تكن هذه الحركة قد أدركت ذلك عن وعي في البداية (بل إنها في بعض الأحيان لم تُدركه
حتى
فيما بعدُ)، وبعبارة أخرى: فقد كانت هذه الحركة استمرارًا لما يسمى ﺑ «الفلسفة
الإنجليزية»، ويفهم بهذا الاسم، الذي هو أوجز تعبير عنه. وينبغي أن يُفْهَم مما قلناه
أن هذه الحركة إحياء فعليٍّ ونهضة فلسفية أصيلة، وليست مجرد معالجة لمادة قديمة أو
تنميق لها، وسوف يظهر هذا بكل وضوح في بحثنا التالي لها.
وهناك نقطة أخرى ينبغي تذكُّرها إذا ما شئنا تكوين فكرة واضحة عن الموقع التاريخي
لهذه الحركة، فلم يكن مِن قبيل المصادفة أن الفكرة الجديدة قد ظهرت بوضوح في نفس
الوقت
الذي توقفت فيه الحركة المثالية الإنجليزية بعد أن استنفدت معظم إمكانياتها، وتزداد
أهمية هذه الحقيقة إذا أدركنا أن الواقعية الجديدة كانت تهاجم صراحةً في تصريحاتها
الأولى (وكذلك في كثير من تصريحاتها التالية أيضًا) روح المثالية ومنهجها، وحاولت
أن
تستبدل بها شيئًا جديدًا كل الجدة، مختلفًا كل الاختلاف؛ فقد تزعمت الجبهة الجديدة
التي
شنَّت، بالتحالف مع المذهب البرجماتي ومُؤثرات أجنبية أخرى، هجومًا عامًّا على المواقع
المثالية، وأرغمتها على التقهقر باستمرار، وقهرتها آخر الأمر قهرًا يكاد يكون كاملًا.
وقد بدأ هذا الهجوم المركز على القوة الأجنبية الدخيلة، كما كان أعضاء المعسكر الفلسفي
الجديد ينظرون إلى المثالية الألمانية، ولا سيما في فرعها الهيجلي، عند حوالي نهاية
القرن الماضي، فإلى جانب الكتابات الأولى التي ظهرت لبرتراند رسل في حوالي ذلك الوقت،
ظهر مقال لمور بعنوان «تفنيد المثالية» (في مجلة Mind،
عام ١٩٠٣م) كان هو الذي أطلق صيحة الحرب من جانب الواقعية الجديدة، وكان هذا العنوان
أشبه بكلمة السر التي سرعان ما تداولها المفكرون الآخرون. ورغم أن حدة التضاد بين
الواقعية والمثالية قد خفت على الدوام بمُضيِّ الوقت، وأن الحركة الجديدة لم تتفرغ
للخلاف والجدل (كما فعلت البرجماتية) بقدر ما كرست جهودها لبحث المشكلات؛ فقد استمرَّ
الاتجاه المعادي للمثالية وما زال واضحًا حتى وقتنا هذا.
واليوم تُسيطِر الواقعية الجديدة، والقوى التي أطلقتها من عقالها، على ميدان الفلسفة،
غير أن الحركة لا تخضع اليوم لمبدأ موجَّه أو لقيادة واحدة. فلا يُمكن القول إنها
مطَّردة من أية ناحية، سواء في منهجها أو في ميدان بحثها أو في أهدافها أو في ترابطها
الباطن، فقوتها لا تتركز في مناعة تحصيناتها، وإنما في تفتحها لما هو جديد، ولا تنحصر
في وحدتها، وإنما في تعدُّد ألوانها وتنوعها، وهي حافلة بالتوتُّرات والتعارضات
الباطنة، وبمظاهر التباين والافتقار إلى الاطراد، وهي ما زالت سائرة في الطريق من
كل
ناحية، وإن كنا لا نزال غير واثقين من الاتجاه الذي تسير إليه، ومما إذا كانت اتجاهاتها
ستتشعَّب أم لا.
ولزام علينا — قبل أن نتحدَّث عن مختلف ممثلي هذه الحركة الفكرية الجديدة — أن نعرض
بإيجاز خصائصها العامة؛ إذ إن العنوان المقتضب ﻓ «الواقعية الجديدة» لا ينبئنا عنها
بشيء، ﻓ «الواقعية الجديدة» تعبير يُطلَق أساسًا على نظرية المعرفة الجديدة، التي
أعطت
الحركة قوتها الدافعة وما زالت تكون أساسها حتى اليوم. ولقد كانت المشكلة التي عولجت
من
جديد هي مشكلة الإدراك الحسي التي تركَّز حولها اهتمام المفكرين الإنجليز بوجه خاص،
فكانت النتيجة أن ظهرت — وما زالت تظهر — سلسلة من المحاولات الفردية الأصيلة لحل
هذه
المشكلة، ويتضح الاتفاق بين شخصيات هذه الحركة في هذه النقطة أكثر مما يتَّضح في
غيرها،
وقد عالجها كل مفكر تقريبًا معالجةً مفصلة لكي يثبت مقدرته الفلسفية، ومن خصائص هذه
الحركة أن اهتمامها بالمسائل النظرية كان أغلب، وأن لنقد المعرفة فيها مكانة تعلو
على
كل المباحث الفلسفية الأخرى، وسوف نبين في الصفحات المقبلة إلى أين أدَّت هذه الأبحاث،
وما الحلول التي توصَّلت إليها.
ومن السمات الأخرى المميزة للفلسفة الواقعية الجديدة، اهتمامها الشديد بالعلم، وهي
في
هذا تختلف عن المثالية، التي هي نظرة إلى العالم قبل كل شيء، وتتفق مع الاتجاه الفكري
الذي سار فيه دارون وسبنسر، والذي كان له بدوره أساس علمي؛ غير أن هذا الاتفاق عرضي
أكثر منه ضروري؛ إذ إن اتجاهيها مُتباينان تمامًا؛ فأحدهما فلسفي في المحل الأول،
والآخر علمي بوجه خاص، ويُؤدي الطابع العلمي للواقعية الجديدة إلى رفضها اتباع منهج
فلسفي مستقل؛ فمنهجها هو المنهج المشترك مع كل علم، ولا تتحقَّق المعرفة الفلسفية
في
رأيها إلا بنفس الوسائل المطبقة في مجالات البحث المتخصِّصة؛ غير أن هذا لا يعني
أن
الفلسفة خاضعة لهذا الفرع الخاص من الدراسة أو ذاك؛ فالفلسفة، التي تقف في مقابل
كل هذه
الفروع، لها مركز السيادة، وهي لا تستعين بنتائج العلوم إلا بقدر ما يتسنى لهذه
مساعدتها في مهامها وأغراضها الخاصة. ورغم أنه لا يوجد، من حيث المبدأ، خطر من أن
تطغى
العلوم الخاصة في نموها على مشكلات الفلسفة، فلا يُمكن استبعاد هذا الخطر دائمًا
من
الوجهة العلمية.
وهناك أساسًا عِلمان استفادت منهما الفلسفة الجديدة في مسائل أساسية، هما الرياضة
والفيزياء الحديثة (كما استفادت أيضًا، ولكن بدرجة أقل، من علم الحياة وعلم النفس)،
وكان تأثير الرياضة أسبق زمنيًّا من تأثير الفيزياء، فلم يظهر تأثير هذه الأخيرة
إلا
بعد حدوث التغيرات الكبرى، وهي نظرية النسبية ونظرية الكم
(quantum) والفيزياء الذرية … إلخ؛ فقد لعبت هذه
التغيرات دورًا أساسيًّا في تكوين صورة جديدة للعالم، ولم يُبدِ بلد آخر من الاستعداد
لتقبلها، أو من القدرة على استغلالها استغلالًا كاملًا، مثلما أبدت إنجلترا. وهكذا
تركت
الفيزياء الحديثة آثارها في جميع حركات الفكر الإنجليزي المعاصر، غير أن الفضل يرجع
إلى
الواقعية الجديدة في السبق إلى فتح أبوابها على مصراعَيها لتيار المعرفة الجديد.
وهكذا
لعبت الفيزياء في الواقعية الجديدة نفس الدور الذي لعبه علم الحياة في المذهب
التطوُّري. ولقد حلت المعرفة الجديدة أرضًا خصبة، وأصبحت خَلاقة خصبة في التفكير
الجديد، وأدَّى استيعابها — ولا سيما في حالة هَوَيتْهِد — إلى نتائج فلسفية هامة،
لا
يمكن تحديد نطاقها بصفة نهائية بعدُ.
كذلك كانت الرياضة — كالفيزياء — عنصرًا هامًّا في تكوين المذهب الجديد؛ غير أن من
المُمكِن تمييز هذا العنصر وعزله بسهولة أكبر مما يُمكن تمييز العنصر الآخر؛ فهو
ليس
مرتبطًا بكل جوانب الفلسفة مثل هذا الارتباط الوثيق، وإنما يمتدُّ فقط إلى مجال خاصٍّ
يمارس تأثيره فيه، هذا المجال هو المنطق؛ فقد قام مُفكِّرون ينتمون إلى الحركة الواقعية
بوضعِ المَنطِق على أساس جديد كل الجدة، وجعلُوا منه منطقًا رياضيًّا أو رمزيًّا.
وقد
كاد المنطق الجديد — الذي كان يحتلُّ مكانة هامة فيما دار خلال العقد الماضي من مناقشات
فلسفية — أن يحطم كل ما كان يربطه بالمنطق في صورته التقليدية من الجسور، وسار مكتسيًا
رداءً من الصيغ الرياضية، التي لا يفهمها إلا القليل من المُتخصِّصين، ويرتبط هذا
المنطق بالواقعية الجديدة ارتباطًا شخصيًّا، غير أنه مبحثٌ بلغ من التخصُّص حدًّا
جعله
لا يدخل بسهولة في التصنيفات الفلسفية المعتادَة، ورغم أن أنصاره كثيرًا ما ذهبوا
إلى
أنه حل لجميع الصعوبات الفلسفية، فإن أولئك الذين يقفون خارج الحركة لا يَقبلون هذا
الحكم على الإطلاق، ومن رأيي أن المنطق الرياضي ليس عاملًا هامًّا في حل المشكلات
الفلسفية؛ وبالتالي فإنه ليس عاملًا هامًّا في المذهب الواقعي الجديد، الذي يمكن
أن
يُعْرَض ويُفْهَم مستقلًّا عنه. وهكذا يبدو أن لنا الحق في أن نبحثه في فصل مستقل،
(انظر [الباب الثاني: المدارس الفكرية المتأخرة – الفصل الخامس: المنطق الرياضي]
فيما بعد).
ومن النتائج التي أدَّى إليها تقريب المنهج الفلسفي من المنهج العلمي أن الفلسفة
الجديدة أصبحت تهدف إلى معرفة الأجزاء أكثر من الكل، وتحرص على القيام بأعمال تفصيلية
دقيقة متينة أكثر مما تهتمُّ بالآراء الشاملة، أو هي — على حدِّ التعبير الموفق الذي
نجده لدى أشهر ممثليها — لا ترمي إلى إصدار أحكام على الكون في مجموعه، ولا إلى تشييد
مذهب شامل لكل شيء؛ فالعالم في نظرها ليس عضويًّا بمعنى أن الفهم الكافي لأي جزء
منفصل
منها يمكننا من الاستدلال على الكل، وهي لا تُحاول — كما فعلت المثالية الألمانية
— أن
تَستنبِط طبيعة العالم في مجموعه من طبيعة المعرفة، وإنما هي تنظر إلى المعرفة بوصفها
واقعة طبيعية ضمن غيرها من الوقائع، ولا تعزو إليها دلالة صوفية أو أهمية كونية (انظر
مقال رِسل، «فلسفة القرن العشرين» في كتابه «مقالات متشكِّكة
Sceptical Essays»، ١٩٢٨م، ص٧٠)، ومن المُمكِن وصفها بأنها فلسفة
تتَّجه إلى حلِّ المشكلات أكثر مما تتجه إلى بناء المذاهب، وهي تؤثر التحليل والوصف
على
البناء التركيبي والنظر الخالص،
١ وهي تفضل أن تَعكف على بحث مشكلة خاصة تتابعها وتشرحها من جميع أوجهها؛ غير
أنها أقل اهتمامًا بالارتباط بين المشكلات وترتيبها في كل منظَّم، وهي في هذا وريثة
حقيقية للتراث الإنجليزي الكبير؛ فالواقعية الجديدة — في الاتجاه الغالب عليها —
نقدية
لا تأمُّلية، وكثيرًا ما تكون شكَّاكة مُرتابة، وهي عادة رزينة جافة، وهي تتميَّز
بتحرُّرها من التغرُّض والتزامها الدقيق للوقائع، وبوضوح التفكير ونزاهته، وموقفها
من
الميتافيزيقا مُتشكِّك، بل عدائي أحيانًا، كما أنها ترفض الاقتراب من الدِّين عادة،
فتنظر إليه تارة على أنه مُحايد، وتارةً أخرى على أنه خصم، وهي لا تُبدي اهتمامًا
بأي
شيء يتجاوَز التجربة، أو لا يُمكن فهمه بالبحث النقي النزيه، وهنا نجدها تمثل بوضوح
ذلك
الموقف الذهني اللاأدري الذي نُصادفه كثيرًا لدى الفلاسفة الإنجليز.
ولقد تعمَّدنا أن نعبر عن هذا التحديد لخصائص هذه الفلسفة بأعم تعبير مُمكن. ومن هنا
كان هذا التحديد في حاجة إلى التخصيص في نواحٍ كثيرة، ولا سيما فيما يتعلَّق بأقرب
مراحل هذه الحركة، وهي المرحلة التي ظهرت بوضوحٍ بعد الحرب العالمية الأولى تقريبًا،
وحسبُنا هنا أن نُشير إلى عنصر واحد هو نمو الاتجاه التأمُّلي، واتخاذ موقف إيجابي
من
المسائل الميتافيزيقية الكبرى، ومن المسائل الدينية بوجهٍ خاص. وهكذا تحوَّل الاهتمام
مرةً أخرى إلى مجموع الأشياء، وفتح الطريق ثانيةً لبناء المذاهب بطريقة إيجابية،
ومن
أمثلة هذا الاتجاه: المذهبان الميتافيزيقيان الكبيران عند ألكسندر وهَوَيِتهِد. وليس
من
المُهم أن تُؤدي هذه الميتافيزيقا الجديدة التي انبثقَت عن الحركة، والتي كانت لها
على
خلاف الميتافيزيقا المثالية، جذور عميقة في الرياضة والعلم الطبيعي؛ ليس من المُهم
أن
تُؤدِّي إلى نتائج تعدُّدية أو واحدية (وإن تكن الأولى أكثر اتفاقًا مع رُوح الواقعية
الجديدة من الثانية)، بقدر ما يُهمُّنا أن الميتافيزيقا أصبحت مرةً أخرى موضوعًا
للاهتمام؛ ذلك لأنَّ التحليلات الدقيقة لنظرية المعرفة، أو التمرينات الشكلية غير
العِلمية في المنطق الرياضي، لا تُفيد طويلًا في تغذية حركة فلسفية، مهما كان لكلٍّ
منهما من قيمة في موضعه الخاص. وهكذا فإن الموجة الميتافيزيقية الجديدة تزحف إلى
الأمام، وتستهدف إكساب الفلسفة الواقعية الجديدة طاقة جديدة، وتأمينها من خطر الركود
والصياح في الخلاء، ورغم أن هذا أمر لا يُمكن أن يتحقَّق دون تغيرات مُتعدِّدة، وأنه
ينبغي أن يكون مصحوبًا ببعض التغيُّرات الباطنة. فلا بد أن يُؤدي إلى نفع الواقعية
الجديدة، بل إلى نفعٍ عامٍّ للفلسفة الإنجليزية التي يُعدُّ هذا المذهب ممثِّلها
الرئيسي، وإلى جانب الميتافيزيقا والدين، ينبغي أن تبحث مرة أخرى تلك المشكلات
الأخلاقية الكبرى، التي هي ميدانٌ تجاهلته الفلسفة الجديدة بلا داعٍ، إذا استثنينا
بعض
الأبحاث الشديدة التخصُّص عند مور وغيره، ولا بدَّ أن يُؤدي هذا التطوُّر، سواءٌ
أعاد
إلى الماضي أم تطلَّعَ إلى المستقبل، إلى مواقف مِثالية، كما تدلُّ بعض الاتجاهات
الراهنة بوضوح. مثال ذلك أن مشكلة الوجود الرُّوحي، التي لم يكد أحد يسبر أغوارها
(لأنها كانت دائمًا معرَّضة لخطر التفسير الطبيعي)، قد بُحثَت من جديد، ولا بد أن
تستردَّ الرُّوح حقوقها ثانيةً؛ فمن شأن تقدُّم الفكر أن يُؤدي، كما يُمكننا أن نُلاحظ
في المعسكرين الواقعي والمثالي، إلى الاتجاه إلى القضاء على الحدود الفاصِلة وتخفيف
التوتُّرات السابقة، أو كما لاحظ ذهن بوزانكيت اللماح، إلى تقابُل الأضداد في نقطة
وسط،
وعندئذٍ سوف يبدأ فصل جديد في حياة النزوع المثالي، الذي لم يَخب أُواره حتى في أيامنا
هذه، وإن تكن الحركة المثالية قد انتهَت.
ونظرًا إلى عدم اكتمال الواقعية الجديدة، فإني لم أرتِّب مُمثِّليها من المفكِّرين
ترتيبًا تاريخيًّا أو مذهبيًّا، وإنما رتبتُهم ترتيبًا خاصًّا راعيت فيه البدء
بالشخصيات البارِزة والانتقال منها إلى الآخَرين.
(١) جورج إدوارد مور George Edward Moore (وُلد في ١٨٧٣م)٢
تعلَّمَ في «ترينتي كوليدج» بكيمبردج، ثم أصبح زميلًا في نفس الكلية، ومُحاضرًا
في علم الأخلاق بجامعة كيمبردج، وهو أستاذٌ للفلسفة بها منذ سنة ١٩٢٥م.
٣
مؤلَّفاته: «مبادئ علم
الأخلاق Principia Ethical» ١٩٠٣م، الطبعة الثانية، ١٩٢٢م (نشرة جديدة سنة ١٩٢٩م)،
«الأخلاق Ethics»، ١٩١٢م وطبعات أخرى في سلسلة
Home University Library، «دراسات فلسفية Philosophical Studies» ١٩٢٢م (وتَحوِي
بحثَه المشهور، «تَفنيد
المثالية Refutation of Idealism» الذي نُشر لأول مرة سنة ١٩٠٣م)، «دفاع عن الموقف الطبيعي A Defence of Common Sence» في
كتاب «الفلسفة الإنجليزية المعاصرة»، نشره مويرهيد، المجلَّد الثاني.
لا يُعدُّ ج. إ. مور رائد الحركة الواقعية الجديدة فحسب، بل هو أيضًا القوة
المحرِّكة لها والشخصية البارزة في جميع مراحل تطوُّرها التالي. وقد عبَّر عن كل
ما
هو مُميز للحركة بأنقى صورة وأقلِّها امتزاجًا بعناصر وعوامل أجنبية، ولا تكمن
أهميته في أنه عبَّر عن رأي واقعي في المعرفة وأثبت هذا الرأي، بقَدر ما تَكمن في
أنه استحدث منهجًا جديدًا للجدل، وموقفًا فلسفيًّا فريدًا في نوعه تمامًا، قد يكون
نتيجةً لهذا المنهج أو سببًا له، ويجوز لنا أن نقول: إنه أدخل نمطًا فلسفيًّا
فرديًّا جديدًا، له أوجه شبه مُتعدِّدة مع المفكِّرين السابقين، ولا سيما مُفكِّري
التراث الإنجليزي الكلاسيكي. ولكنه يختلف عن كل من جاءوا قبله إلى حدٍّ يُبرِّر
النظر إليه على أنه نموذج فلسفي أصيل. وبهذا المعنى أثَّر مور في سلسلة من
المفكِّرين الآخرين الذين ترسَّمُوا خُطاه.
وقد أتى مور من بيئة عقلية مختلفة تمامًا عن تلك التي أتى منها مُعظَم معاونيه
وأتباعه من الفلاسفة؛ فقد بدأ هؤلاء الأخيرون بالرياضة والعلوم الطبيعية. أما هو
فقد بدأ من الدراسات الكلاسيكية القديمة. وقد خلفت الدراسة الفيلولوجية الدقيقة
للأعمال الكلاسيكية من الآثار في مؤلَّفاته المتأخِّرة بقدر ما خلفت دراسته
الفلسفية لأفلاطون وأرسطو، كما تعلم من منهج التوليد عند سقراط بقدر ما تعلَّم من
أيِّ منهج آخر. أما عن موقفه من المُشكلات التقليدية؛ فقد كان تفكيره مُتغلغلًا
في
التراث الإنجليزي القومي، فتأثَّر بباركلي من حيث أنه عارضه ووقف منه موقفًا
سلبيًّا، وتأثَّر بِريد في حلوله الإيجابية، وتأثَّر بهيوم في الاتجاهَين معًا.
كذلك أثر فيه برادلي وماكتاجرت من بين المُفكِّرين المُحدَثين، على أنحاء شتى، وإن
كان قد دأب على مُهاجمتهما بعنف، كما تعلم الكثير، من حيث المادة والمنهج معًا،
من
برنتانو ومينونج، غير أن كل هذه الاتصالات بتفكير الآخَرين كانت ضئيلة الأهمية
بالقياس إلى النصيب الأصيل المُستقل الذي ساهم به، والذي ينبغي أن يُقدر تبعًا
لصفاته الخاصة.
ومما له دلالته أن إنتاج مور التأليفي شحيح. فإذا استثنَينا كتابًا طويلًا إلى
حدٍّ ما، مكتوبًا بلغة فنية، في الأخلاق، وكتابًا أقصر في سلسلة شعبية، نجده لم
ينتج إلا سلسلة من المقالات لمجلات دورية، جمع مُعظمها في كتابه «دراسات فلسفية»،
وتتعلَّق كل هذه المقالات تقريبًا بالمنطق ونظرية المعرفة والأخلاق؛ إذ إن تفكيره
كان مُثمرًا في هذه الفروع الثلاثة أساسًا. أما الميتافيزيقا وما يُشبهها من
الموضوعات؛ فقد استبعدها في أبحاثه من حيث المبدأ.
وقبل أن نتحدَّث عن تعاليم هذا المُفكِّر، ينبغي علينا أن نُعرب عن رأينا في
طريقته الخاصة في التفلسُف، وفي أسُس منهجه. وهنا يتعيَّن علينا أن نبدأ بالكلام
عن
كيفية تفكيره لا عن مضمونه، وأن نتحدَّث عن طريقته لا عن هدفه؛ فقد كان تفكيره
دائمًا «سائرًا في الطريق»، لا يُحاول أن يرسو على مرفأ آمِن أو أن يجنيَ من الثمار
بقدر ما يستطيع، وإنما يقنع بشق التربة الفلسفية وصهر المشكلات، فتفكيره غير قطعي
غير مذهبي غير تأمُّلي، وهو مُتشكِّك إزاء جهودِ بُناة المذاهب في سبيل بعث الوحدة
في آرائهم، ومرتاب من أيِّ مبدأ نهائي يتعيَّن على كل شيء أن يخضع له، «فالمهمة
الحقة للفلسفة ليست السعي وراء الوحدة والمذهَب على حساب الحقيقة، وإن كان ذلك هو
ما درَجَ عليه الفلاسفة بالفعل.»
وهكذا فإنَّ الاتجاه الأساسي لفلسفة مور يَنطوي على أقوى ردِّ فعل على مدرسة
هيجل، ويتضمَّن بوجهٍ خاصٍّ احتجاجًا على نزعتها القطعية ومذهبها الطاغي
وتأمُّلاتها المحمومة؛ فهو يرى أن من واجبنا أولًا، وقبل أن ندرك وحدة الأشياء
وارتباطها، أو نتأمَّل المشكلات والتصوُّرات في علاقاتها المُتبادَلة، وفي علاقتها
بكل مذهبي شامل، أن نُفصِّل هذه المشكلات بدقة، الواحدة عن الأخرى، حتى نفحص كيانها
المُستقِل وخصائصها المميزة أكمل الفحص، ونكون عنها فكرة واضحة. وهكذا فإن المبدأ
الموجَّه الذي يتحكَّم في تفكير مور بأسره، هو عبارة بطلر، التي صدر بها كتاب
«مبادئ الأخلاق»، «كل شيء هو على ما هو عليه. وليس شيئًا آخر.»
وهناك صفة أخرى لا تقلُّ أهمية في تمييز هذه الفلسفة عن صفة الدراسة المنعزلة
للأشياء، تلك هي صفة اتخاذها موقف التساؤل من الأشياء؛ فالتساؤل هو عنصرها الأصيل،
الذي فيه وُلدت وتحيا وتَكتسِب وجودها، وبالتساؤل يحدُث كل ما له أهمية وقيمة في
تفكير مور؛ فهو مفتاح سرِّه الأعمق. فكل شيء، بالنسبة إلى هذا التفكير، موضوع
للتساؤل بالمعنى الحرفي للكلمة؛ أي إنه يستحق أن يسأل عنه، وكل شيء يتوقَّف على
وضع
السؤال بطريقة صحيحة في البداية. وعلى المُضيِّ في عملية التساؤل بطريقة صحيحة حتى
النهاية، «ففي كل الدراسات الفلسفية، تكون الصعوبات والاختلافات راجعة أساسًا إلى
سبب غاية في البساطة، هو محاولة الإجابة عن أسئلة قبل أن يَكتشِف المرء بالضبط ما
هي الأسئلة التي يرغب في الإجابة عنها.»
٤ فهنا يَكمُن أصل أخطاء لا نهاية لها، كان من المُمكن التغلُّب عليها
بسهولة «لو حاول الفلاسفة أن يكتشفوا المعنى الحقيقي للسؤال الذي يُوجِّهونه، قبل
أن يَشرعوا في الإجابة عنه.»
٥ وفي فقرة أخرى يقول مور: «لقد اتَّجه جهدي إلى محاوَلة إيضاح معنى
السؤال بدقة، وبيان الصعوبات التي يَنبغي بالتالي مُواجهتُها في الإجابة عنه، أكثر
ممَّا اتجه إلى إثبات صحة أية إجابة خاصة عنه.»
٦
ورغم أنه يجوز للمرء أن يَعدَّ مور أعظمَ وأدقَّ وأبرع مُتسائل في الفلسفة
الحديثة؛ فمن الواجب أن نُضيف إلى ذلك أنه كان مجيبًا ضعيفًا غير مقنع على الإطلاق؛
فمن الطبيعي — عندما يكون التساؤل فياضًا أكثر مما يَنبغي — أن تكون الإجابة شحيحة.
وهكذا لا يكاد المرء أن يتوقَّع حلولًا ونتائج من مور، وإذا ما ظهرت هذه من آنٍ
لآخر، فإنها تكون أشبه بالفُتات المُتخلِّفة من مائدة الفيلسوف، والإجابات عنده
عادة حوافز لأسئلة جديدة؛ وبالتالي فهي ليست إلا أسئلة مُقنعة، لا إجابات بالمعنى
الصحيح. ولكن ينبغي في كل الأحوال ألا يكون السؤال مجرَّد مُنطلَق نحو جواب محدَّد
مقدمًا، فمعنى السؤال مُستقِل بذاته تمامًا، وهو لا يتوقَّف على الجواب في شيء.
ولكن يجوز أن يَنطوي السؤال في ذاته على الجواب، وأن يَنبثِق الجواب منه عند انتهاء
رحلة طويلة. وهكذا نجد مور يقف في كثيرٍ من الأحيان موقف الحيرة التامة إزاء حلِّ
مُشكلةٍ ناقَشها بالتفصيل بدقَّته وذكائه المعتاد، أو يتوقَّف إزاء عدة حلول
مُمكنة، ويترك للقارئ مهمَّة اختيار ما يرى أنه هو الأفضل. ومن هنا لم يكن لنا أن
ندهش حين نراه، على حين غرة، يقول عن نتيجة توصل إليها بعد بحث شاق: إنها قد تكون
لغوًا محضًا، ما دامت قد تراكمت، عند لحظة الحل، صعوبات جديدة يُمكن أن يعترض بها
على هذه النتيجة.
ومن الواضح أن هذا النوع من التفلسُف معرَّض إلى حدٍّ بعيد للسقم من فرط التفكير،
وللشك الزائد الذي يستبدُّ به ويستهلكه. إن أحدًا لا يُنكر أن مور؛ إذ أعاد إلى
التساؤل الفلسفي معناه الحقيقي، قد أسدى إلى الفلسفة خدمة لا تُقدر، كما أنه حد
بقوة من شطحات المفكرين الهيجليِّين والتطوُّريين، وعبَّد الطريق للتفكير العملي
الرزين النظيف؛ غير أنه لما كان قد اتخذ من التساؤل غاية في ذاته، ورفعه من مرتبة
أداة إلى مرتبة الفن الرفيع، ولما كانت مهمة التساؤل هي توضيح المشكلات لا حلها،
فإنه قد يُثير إعجابنا. ولكنه لن يرضينا فكريًّا. وهكذا يصدق على مور ما قاله هيوم
عن باركلي، من أن كل حُججه شكاكة خالصة، لا تقبل جوابًا ولا تبعث اقتناعًا،
٧ فهي تُحير الذهن وتهزُّه بعنف. ولكنها لا تبعث فيه الطمأنينة، وهي تثير
الغبار المحيط بالمشكلات. ولكنها لا تُنقيها بصورة نهائية.
وهكذا فإن تفلسف مور يُسفر عن سلسلة لا تنتهي من الأسئلة التي تُحيط بالمشكلة
وكأنها أسراب من النحل، وتفصل المشكلة وتشرحها وتُفككها وتُحللها، وتكسبها دقة،
وتتعقبها وتُتابعها حتى آخر مخابئها، وبالفعل كان هذا المُفكِّر المفرط في دقته
وفي
نقديته يتصف بالأمانة القاسية مع نفسه؛ فهو لا يأخذ شيئًا مأخذ الثقة، ويُحلِّل
أبسط القضايا وأتفهها، ويقطعها إربًا بمبضعه الذهني، وكان من نتيجة هذه النقدية
المفرطة عدم إدراك أية مشكلة من حيث هي كلٌّ، وفي علاقاتها المنظمة؛ فهي تفكك إلى
أجزاء أصغر فأصغر. ولكن لا توجد رابطة روحية تجمعها في وحدة عضوية. وهكذا نكون إزاء
عملية تفكيك نقدية تحليلية مُفرطة، تؤدي آخر الأمر إلى سحق المشكلات إلى ذرات لا
رابط بينها.
وأفضل ما يوصف به منهج مور في التفكير هو أنه «ميكروسكوبي» (مجهري)، مقابل منهج
الهيجليين «التلسكوبي»، فمور يدرس كل شيء بعدسة مُكبِّرة، بحيث تظهر تفصيلات
مُتعدِّدة كانت تَختفي عن العين المجرَّدة، وعيب هذه الطريقة هو أنه حيثما وجه
المِجهر المنطقي، لم يكن في وسعه أن يفحص إلا سطحًا ضئيلًا، بينما يظلُّ كل ما عدا
ذلك غامضًا. وهكذا لا يتسنَّى له إلا دراسة مُشكلات مُنفصِلة، وكثيرًا ما تختبر
هذه
المشكلات نفسها من مختلف الأوجه حتى تضل طريقها في زحام التفاصيل، أو نقف نحن
عاجزين إزاء عدد من الحلول الممكنة. وهكذا فإن مستوى الحقيقة التي نصل إليها على
هذا النحو لا يتجاوز نطاق الإمكانيات والاحتمالات؛ ذلك لأن العملية الدينامية للفكر
لا ترتوي أبدًا، وهي تعمل على زعزعة النتائج التي تبدو يقينية بتوجيه اعتراضات
جديدة، أو على دعم نتائج غير مؤكَّدة بأدلَّة جديدة، لم يكن مور في اختياره بين
الحلول المختلفة، يتَّخذ قرارًا واضحًا في وصف أحدها أو ضده، وإنما كان يزن الحُجج
والحجج المضادة، وكان عادة يعرب عن تفضيله لأحد الحلول. ولكنه لا يرفض أحدها أو
يَقبل الآخر على نحو نهائي. وهكذا ينشأ تعارض غريب بين الجهود الصارمة التي بذلك
من
أجل تحقيق الوضوح، وبين افتقار النتائج إلى اليقين، وكلما ازداد وضوح المُشكلات
ازداد حله لها تردُّدًا. ومن الواضح أن التفكير النقدي غارق في هذه النقيضة إلى
أذنَيه، وأنه يجد لزامًا عليه أن ينبذ الحل النهائي؛ لأنه لا يستطيع التضحية
بالدقة، ومعنى ذلك أنه لن يجد ما يُرضيه، وإنما يتعيَّن عليه أن يستنفد ذاته أبدًا
في عملية لا يقرُّ لها قرار.
وهكذا فإن أهمية فلسفة مور تتوقَّف على المنهج الذي ابتدعه واستخدمه بكل هذه
البراعة الفائقة، ولو قارنَّا هذا المنهج بمضمون تعاليمه لما كان لهذا الأخير من
أهمية كبيرة، وكثيرًا ما نجده هو ذاته ينبذ «النتائج» السابقة، ويودُّ لو أعاد
تأليف كتبه من جديد، وهو يدفع بها في طبعة جديدة. وعلى ذلك فلا جدوى من تتبُّع
«مراحل في تطوره الفكري»، والتمييز بين «فترات» مُختلفة في تفكيره، تُمثل كلٌّ منها
وجهة نظر جديدة،
٨ صحيح أن من المُمكن — قطعًا — الاستدلال على هذه التغييرات في وجهات
النظر من كتابات مور، والإتيان بشواهد من هذه الكتابات لإثباتها. ولكن أهمية هذه
التغييرات ثانوية فحسب؛ ذلك لأنَّ التغيير في آراء مور ليس راجعًا إلى اتخاذ وجهة
نظر جديدة، نتيجةً للخضوع للوقائع ذاتها، وإنما هو يرجع إلى منهجٍ دقيق متَّسق،
وإلى تزايد إحكامه وبراعته واكتماله. ولو عزونا هذه الصعوبة إلى مادة تفكير مور
لا
إلى منهجه، لكان في ذلك إساءة لفَهم أعمق ما في هذا التفكير من معانٍ.
وليس معنى هذا أن تعاليم مور لم تُؤثر في تطور الفلسفة الإنجليزية تأثيرًا حاسمًا
قُرب نهاية القرن الماضي؛ إذ إن تعاليمه كانت، على عكس ذلك، من أقوى العوامل في
الحركة الفكرية الجديدة التي ظهرت في بداية القرن الجديد بوصفها ردَّ فعل على
الاتجاهات المثالية والتطورية، والتي دفعتها إلى العمل جهات مُتعدِّدة. فرغم قلة
إنتاج مور، ورغم تحفُّظه الشديد، فقد أعطى قوة دافعة ضخمة للفلسفة الأكاديمية،
وساهَمَ في إخصابها على أنحاء مُتعدِّدة، وهو لا يزال إلى اليوم من أقوى المفكرين
الإنجليز تأثيرًا؛ إذ يمتدُّ هذا التأثير إلى أمريكا، لا إلى إنجلترا وحدها، ويظهر
بوجهٍ خاص في الجيل الجديد. أما داخل القارة الأوربية فهو يكاد يكون مجهولًا خارج
نطاق الأوساط المتخصِّصة. وقد اشترك مع برتراند رسل في تأسيس المدرسة التي ظهرت
في
كيمبردج والتي اتَّخذت منها مركزًا لها، كما أعان كل من رسل وبرود
Broad ولاءه له، فكان الأول أكثر تأثرًا بمضمون
تعاليمه، والثاني أكثر تأثرًا بمنهجها. وهكذا فإن مقدرته المنطقية الدقيقة، وأمانته
ونزاهته الفلسفية المُطلقة، وسعيه إلى تحقيق الوضوح والتحدُّد كامل، وطريقته
البسيطة المباشرة في التعبير، التي تكاد تخلو من المُصطلحات الفنية المعقدة؛ كل
ذلك
قد جعل منه مدرسة أثرت في جيل كامل من باحثي الفلسفة، الذين تجمعوا حوله عن كتب،
أو
التقطوا على الأقل قبسًا من روحه.
ولقد كان أقوى آراء مور تأثيرًا في مُعاصريه هو النظرية الواقعية في المعرفة،
التي وضع أسسها، والتي كان هو أفضل مُمثليها. وقد عرض هذه النظرية أولًا في مقاله
«تفنيد المثالية»، الذي نُشر في مجلة Mind سنة
۱۹۰۳م. ولم يكن يقصد من هذا المقال أن يكون تفنيدًا للنظرة المثالية إلى العالم
بما
هي كذلك، وإنما كان تفنيدًا للنظرية الذاتية في المعرفة كما يُمثلها باركلي.
وتؤرَّخ بداية الحركة الواقعية الجديدة عادةً بهذا المقال التاريخي. ولقد كان
بالفعل حجر الأساس فيها. ورغم أن مور قد ابتعد كثيرًا عن الآراء التي نادى بها في
هذا المقال، فقد ظلَّ مُتمسكًا بقضية الواقعية الأساسية عنده، وحاول أن يزيدها
دعمًا وقوة بأبحاث أوسع نطاقًا.
ويبدأ البرهان في هذا المقال من صيغة باركلي «وجود الشيء هو كونه مُدركًا
esse est percipi»، وهي الصيغة التي تنطوي
عليها كل النظريات المثالية في المعرفة صراحة أو ضمنًا. هذه الصيغة تؤكِّد أن كل
ما
هو موجود لا يوجد إلا بقدر ما هو مجرَّب (أي مُدرَك حسيًّا، أو معروف، أو مفكَّر
فيه … إلخ) أو بقدر ما يكون ضمن محتويات الوعي. وعلى ذلك، فهناك ارتباط ضروري لا
يَنقصِم، بين الوجود وبين كون الشيء مدركًا حسيًّا (ويركز مور بحثه حول مشكلة
الإدراك الحسي). وعندما يُصبح الموضوع ضمن محتويات الوعي، يزول كل تمييز بين الذاتي
والموضوعي. ويُحاول مور أن بكشف المغالَطة الخطيرة التي تُبنى عليها هذه الحجة.
ففي
كل مثول presentation أو إحساس ينبغي أن نُميز بدقة
بين عنصرَين؛ أولًا الوعي الذي توجد كل الإحساسات بالنسبة إليه. وثانيًا موضوع
الوعي، الذي يختلف بالنسبة إليه كل إحساس عن كل إحساسٍ آخر. فالوعي هو العنصر
المشترك بين كل الإحساسات، وهو مصاحب لها دائمًا. أما الإحساس بالأزرق فيختلف عن
الإحساس بالأحمر، وهما معًا يختلفان عن الوعي الحاس الذي هما معًا، على حدٍّ سواء،
مُعطيان إليه بوصفهما موضوعين. فأمامنا إذن الإحساس بالأزرق (أي الوعي أو الشعور
بشيء أزرق) والموضوع الأزرق، اللذان تعدُّهما المثالية شيئًا واحدًا. وفي هذا
التوحيد يَكمُن الخطأ الأساسي الذي تَرتكِز عليه نظرية المعرفة المثالية بأسرها.
فالإحساس بالأزرق، والأزرق نفسه، ليسا شيئًا واحدًا؛ لأنَّ الأول يحوي أكثر ممَّا
يحويه الثاني، أعني أنه يحوي عاملًا مُتضمنًا بدوره في إحساسنا بالأحمر والأصفر.
فموضوع الإحساس ليس مماثلًا للإحساس بالموضوع، وبالتالي فإن طريقة وجود أحدهما
ليسَت مماثِلة لطريقة وجود الآخر. وإذن فمن الواجب أن تُدرك أن وجود الأزرق مُختلف
تمامًا عن وجود الإحساس بالأزرق، وهذا يعني أن الأزرق يُمكن أن يوجد دون أن يقتضي
ذلك وجود الإحساس بالأزرق.
والعامل الذاتي في عملية الإحساس هو الوعي. وما الإحساس إلا حالة خاصة من حالات
الوعي، شأنه شأن المعرفة، والتجربة، أو كما يقول مور بوجهٍ عام الشعور
(being aware) بشيء. وهناك علاقة فردية تمامًا،
تجمع بين الشعور بالشيء، وبين ذلك الشيء الذي يكون شعورًا به (الأزرق). هذه العلاقة
ليسَت علاقة شيء بمضمون، أو جزء من مضمون بجزء آخر من مضمون، وإنما هي علاقة خاصَّة
تمامًا، لا بدَّ منها في كل معرفة، ولا تتمثَّل إلا في المعرفة فحسب. فهي نوع أصيل
تمامًا من العلاقة، لا يقبل مزيدًا من التحليل؛ وإذن فلا يُمكن القول إننا عندما
نعرف الأزرق، يكون لدينا في وعينا «شيء» أو «صورة» مضمونها هو الأزرق. فالشعور
بإحساس الأزرق لا يعني الشعور بصورة ذهنية، وبالتالي «بشيء» يكون الأزرق وعنصر آخر
ما أجزاء مُكونة له بنفس المعنى الذي يكون به اللون والصلابة أجزاء مُكونة لموضوعٍ
خارجيٍّ ما، وإنما هو لا يعني إلا الشعور بالشعور بالأزرق. وعلى ذلك فالأزرق موضوع،
وليس على الإطلاق مجرد مضمون لتجربتي، بنفس المعنى الذي يكون به أكثر الأشياء
الواقعية استقلالًا موضوعًا أشعر به. وليس لنا بعد الآن أن تشعر بالحيرة حول
الطريقة التي تخرج بها من دائرة التمثُّلات والإحساسات إلى الأشياء في واقعيتها.
فوجود إحساس، هو في ذاته خروج عن هذه الدائرة. وهو يعنى معرفة شيء ليس جزءًا من
تجربتنا نظارًا إلى كونه واقعيًّا. وعلى ذلك فالمعرفة، بمعنى الشعور بشيء، من شأنها
أن يكون موضوعها على ما هو عليه سواء شعرنا به أم لم نَشعُر. فلدينا بوجود الأشياء
المادية نفس الوعي المباشر الذي يكون لنا بمشاعرنا الخاصة. وكلاهما له نفس القدر
من
الوضوح. وهكذا ينتهي تفنيد مور المشهور للمثالية إلى فكرة شائعة لا جديد فيها، هي
أننا عندما نعرف، نعرف شيئًا، وأن ما نعرفه لا يُمكن أن يكون مماثلًا لمعرفتنا.
ورغم ذلك، فإن هذه الحجة الواضحة البسيطة قد قُدر لها أن تكون مُثمرة إلى حدٍّ بعيد
في المستقبل. ورغم أنه قد ظهرت قرب نهاية القرن الماضي مقالات واقعية متعدِّدة
(انظر الفصل الثالث)، فقد كانت فكرة مور هي أول محاولة أدَّت إلى انطلاق تلك الحركة
الجديدة التي سرعان ما سار في ركابها رسل وكمب سمث Kemp
Smith وألكسندر وبرود وليرد
Laird وغيرهم، ومضوا بها قدمًا بقدرٍ كبير من
الاتِّساق ووحدة الهدف.
ولقد حاول مور في دراسات أخرى أن يدعم ويُعمق القضية الواقعية التي سُميت
بالواقعية الجديدة، تمييزًا لها من المظاهر الأخرى للمذهب الواقعي. وهناك فكرة كانت
لها قيمة كبرى في نظرية المعرفة التي بدأ مور بالقول بها واستلهمها الآخرون منه،
هي
فكرة شفافية الفعل الذهني، الذي نتمكَّن به من إدراك الواقع الموضوعي. فعلاقة
المعرفة، كما رأينا من قبل، علاقة فريدة تختلف عن كل العلاقات الأخرى اختلافًا
تامًّا. والمقصود بلفظ «المعرفة» وظيفة نفسية محضة نشعر فيها بأيِّ شيء نُدرك
بوساطته مباشرة ما هو معطًى موضوعي، دون تدخل صور تمثيلية أو محاكية، كتلك التي
كانت تدعو إليها نظرية المعرفة القديمة، والتي كان يزعم أنها تتدخُل، وكأنها وسيط،
بين الفعل والموضوع؛ فالوعي يُضيء الموضوعات (الإحساسات، والتمثُّلات، والأشياء
المادية) من الداخل، إن جاز هذا التعبير، ويَلمع من خلالها، بحيث تُصبح شفافة أو
لامعة من داخلها. وبه نتَّصل بها مباشرة، وتُعطى لنا بلحمها ودمها. وعلى ذلك
فالمعرفة تعني إدراك ما هو واقعي موضوعيًّا بما هو كذلك.
ولقد كان القضاء على النظرية التمثيلية
(
representationist) أو نظرية الصورة
(
image-theory) الشائعة خطوة حاسمة في الاتجاه
الجديد. وقد تعيَّن، نتيجةً لذلك، إدخال تغيير حاسم في فكرة المُعطيات الحسية. فلم
يَعُد المُعطى الحسِّي هو الصورة الذاتية الموجودة في الذهن لشيء مُطابق له
موضوعيًّا، وإنما أصبح هو الشيء الموضوعي ذاته. فهو يدخل الذهن مباشرة، ويَلمع
الذهن من خلاله. وهكذا فإن كل حُجة، تجريبيةً كانت أم أولية، تزعم أنها تُثبت أن
المحسوسات
sensa٩ لا يُمكن أن توجد في الأوقات التي لا تكون فيها مجرَّبة، هي حُجة
باطلة. فلم لا تظل المحسوسات موجودة عندما نُغلق أعيننا أو نُغادر الغرفة، طالما
ظلت الشروط المادية على ما هي عليه؟ هذا الرأي لا يرتكز فقط على اعتقادٍ غريزي
راسخ، بل لا يُمكن الإتيان ضده بحجج منطقية، أو غيرها من الحُجج. وعلى ذلك يُمكن
النظر إليه على أنه مُؤكد، وإن لم يكن له إلا ذلك اليقين النسبي الذي ينتمي إلى
كل
معرفة فلسفية.
ولقد أجرى مور عدة تحليلات فينومينولوجية دقيقة وعميقة المشكلة الإدراك الحسي،
وخاصة المشكلة المعطيات الحسية وعلاقاتها بالذهن العارف من جهة وبالأشياء المادية
من جهة أخرى. وعن طريق هذه التحليلات التي هي أشبه بأشغال الحفر الدقيقة، كشف عن
مجموعة من الأوجه الجديدة للمُشكلة، وساهم بذلك بدور هام في إيضاحها، وإن لم يَصِل،
جريًا على عادته، إلى نتيجة نهائية. ولو قارنَّا جميع الدراسات السابقة للمُشكلة
بهذا البحث الذي تعمَّق في الموضوع إلى حد التدقيق المُضني، لبدَت لنا الأولى
خَشِنة بدائية. ولنضرب لطريقته في مناقشة الموضوع، مثلًا بالحُجة الآتية: فعندما
أصدر حكمًا إدراكيًّا حسيًّا فأقول: «هذه يدي»، أصدر أولًا تصريحًا بشأن المحسوس
(sensum) الذي يُعطي لي مباشرة، وثانيًا بشأن
شيء في العالم الخارجي أسميه «يدي». على أن مِن الواضح أن المُعطى الحسي والشيء،
حتى لو نظر إلى الأول على أنه لا يقلُّ انتماءً إلى الواقع الموضوعي عن الثاني،
ليسا شيئًا واحدًا؛ ذلك لأن المحسوس (sensum) الذي
يرتبط به الحكم، بمعناه الدقيق، أولًا، ليس يدي كلها، وإنما ذلك الجزء من السطح
العلوي لليد، الذي أدركه مباشرة فحسب، وعلى ذلك فهو ليس الشيء بما هو كذلك، وإنما
هو وجه جزئي له، محدَّد تمامًا. إلى هذا الحد يمكن التسليم بالحُجة بوجه عام.
وفضلًا عن ذلك، فإن مور يرى أن من المؤكد أنني لا أدرك «يدي» مباشرة، بل إنني عندما
أقول إني أدركها، أكون مُدركًا لشيء يُمثلها فحسب؛ أي لجزء معين من سطحها العلوي.
وعلى ذلك، فلو شئت الدقة في التعبير، لوجب أن أقول: «هذا جزء من السطح العلوي
ليدي»، لا أن أقول «هذه يدي». وعلى أية حال فإن اسم الإشارة «هذه» له معنًى مختلف
في كلٍّ من هاتين القضيتَين ولكن يظهر هنا السؤال «عما» أعرفه حقًّا عن المُعطى
الحسي موضوع البحث عندما أقول إنه جزء من السطح العلوي ليدي. فهل أغنى أنه «هو
ذاته» جزء من هذا السطح العلوي، أم أنه ليس كذلك؟ وإذا كانت الحالة الأخيرة هي
الصحيحة، فهل تكون لهذا المعطى علاقة محددة بالجزء الذي تكلَّمنا عنه من السطح
العلوي فقط، وهي علاقة قد تكون أشبه بالعلاقة القائمة بين جانب جزئي وبين الشيء
(أي
علاقة تمثيلية representative)؟
يرى مور أنَّ كلًّا من هذه الإجابات مُمكنة، ولا يبتُّ برأي قاطع بينها، وإن كان
من المُمكن تقدير مزايا كلٍّ منها وعيوبه بدقة. فالجواب الأول، الذي أشرنا إليه
من
قبل، هو أن المحسوس ذاته جزء من السطح العلوي لليد، أو هو ذاته ذلك السطح. وإذا
صحَّ هذا فإنَّ معناه أني لا أدرك «يدي» مباشرة، وإنما أدرك جزءًا من سطحها العلوي،
وبالتالي أن المُعطى الحسي هو ذاته هذا الجزء، وليس مجرد شيء يدلُّ عليه أو يُمثله.
على أن هذا الرأي، الذي يراه مور معقولًا جدًّا، ويفضله إلى حد ما، يلاقي صعوبات
فيما يتعلَّق بظاهرة الرؤية المزدوجة. ففي هذه الحالة يكون لدينا قطعًا مُعطيان
حسيان، يدَّعي كل منهما أنه جزء من السطح العلوي، على حين أنهما لا يُمكن أن يكونا
معًا هما «نفس» السطح الخارجي اللذان هما مُعطيان حسيان «له». وهكذا نصل إلى الرأي
الثاني الذي هو أقرب إلى النظرية التمثيلية القديمة. وتبعًا لهذا الرأي لا يكون
المُعطى الحسي هو ذاته جزءًا من السطح العُلوي ليدي، وإنما تربطه به علاقة ما يرى
مور أنها علاقة أصيلة لا تقبل مزيدًا من التحليل، ولا يقول عنها سوى أن من شأنها
أن
يكون المُعطى الحسِّي مظهرًا للسطح العلوي للشيء. وعلى ذلك فإنَّ نظرية مور ليسَت
تمثيلية إلا بقدر ما يكون الشيء المدرك مباشرة ممثلًا للشيء كله (وبالتالي لأوجهِه
غير المُدركة)؛ ولكنَّها ليست تمثيلية فيما يتَّصل بعلاقة المحسوس بالشيء أو وجه
الشيء. فهذه العلاقة إما أن تكون علاقة هُوية (أى هوية وجه الشيء والمحسوس)، وإما
علاقة لا هوية. وفى الحالة الأخيرة لا يُمكن إجراء مزيد من التحديد للعلاقة؛ لأنها
علاقة أصيلة، ولو رفضنا الجوابَين الأول والثاني، لبقي أمامنا جواب ثالث يتَّفق
أساسًا مع فكرة مِل في الإمكانيات الدائمة للإحساس. وتبعًا لهذا الرأي نجد أنَّ
قضية «هذا جزء من السطح العلوي ليدي» لا تعني، فيما يتعلَّق بالمُعطى الحسي، أن
هذا
المُعطى هو ذاته هذا الجزء، أو أنه يرتبط في علاقة محدَّدة بهذا الجزء، وإنما تعني
فقط سلسلة من الحقائق المشروطة التي يُمكننا التعبير عنها كما يلي: «لو تحقَّقت
شروط مُعيَّنة لم تكن متحقِّقة في الماضي، لأصبحت لدى إدراكات معيَّنة، لم تكن لدى
من قبل؛ أو إذا كانت شروط معيَّنة، قد تتحقَّق في المستقبل أو لا تتحقَّق، من هذا
النوع، لوجب أن تكون لدى تجارب معيَّنة». ويُمكن أن توجه إلى هذا الرأي اعتراضات
على جانب كبير من الأهمية؛ بحيث إنَّ أقصى ما يُمكن أن يقال عنه هو أن له قدرًا
من
الاحتمال، ولكن ليس له يقين غير مشروط. وهكذا يظلُّ حل المشكلة مفتوحًا على الرغم
من التحليل الشديد التعمُّق، ولا يتوصَّل إلى قرار حقيقي، باستثناء إيضاح المسألة.
فقوة عملية الإيضاح لا تعجز فقط عن مساعدتنا في الوصول إلى حلٍّ، بل إنها تحول
بيننا وبين ذلك.
ولنُلخِّص ما قُلناه، فنذكر فيما يلي أهم النقاط في أبحاث مور في نظرية المعرفة،
وهي النقاط التي يتوقَّف عليها أساسًا تأثيره العميق في التفكير المعاصر؛ أولاها
هي
القضاء على مُعادلة: وجود الشيء = كونه مُدركًا (أو إدراكه)، وهي المعادلة التي
ينكشف فيها الخطأ الأساسي للمثالية، «فوجود الشيء» يُحرِّر من أغلال «كونه مدركًا»،
كما أن «كون الشيء مدركًا» لا ينطوي على الوجود بالضرورة، وبالأحرى لا يشمله، وإنما
يتمُّ الإدراك الحسي بطريقة مباشرةً تمامًا، بالوصول مباشرةً إلى ما هو واقعي
موضوعيًّا، لا بتوسُّط صور نفسية تُمثل الشيء «في الذهن»؛ غير أن ما نُدركه مباشرةً
على هذا النحو ليس الأشياء ذاتها، بل المحسوسات أو أوجهًا جزئية شاحبة للأشياء،
نستخلص منها نتائج بشأن الشيء كله أو الموضوعات الواقعية بما هي كذلك. فكل أحكام
الإدراك الحسي تتضمَّن أكثر كثيرًا من الموضوع المدرك والمُعطى حسيًّا فحسب؛ إذ
إنها بالإضافة إلى ذلك كشف لما هو غير مُعطًى، أو لما هو مُعطًى بالقوة، بوساطة
ما
هو مُعطًى مباشرةً، وكشف للكل بوساطة الوجه الجزئي، أو للشيء بوساطة المُعطى الحسي،
وأخيرًا ينبغي ألا نَنظر إلى الوعي على أنه نوع من الوعاء الذي يُمكن إلقاء
التمثلات والإحساسات فيه وكأنها حبات البندق تُلْقَى في زكيبة، وإنما ينبغي النظر
إليه على أنه فعل وظيفي محض، يُدرك به الموضوع مباشرةً ويغدو فيه شفَّافًا، ورغم
أن
مور قد التزم مبدأ الواقعية طوال مجرى أبحاثه، فإن أساس هذا المبدأ كان يزداد ضيقًا
كلما ازدادت دراسته عمقًا وإحكامًا. فكلما ازداد البحث الرئيسي تركزًا حول المعطيات
الحسية، ازدادت الإشكالات المحيطة بفِكرة واقعية الأشياء، فتكون النتيجة أن يَزداد
مور بالتدريج اقترابًا من مذهب الظواهر الحسِّي (Sensationalist
Phenomenalism) المُرتبط بباركلي وهيوم، وهو المذهب الذي أخذ
على عاتقه مهاجمته عند بداية عهد اشتغاله بالفلسفة، وإن كون الظواهر المحسوسة قد
احتلَّت في مناقشته مكان الصدارة، لأهمُّ كثيرًا من اختلاف التفسير الذي أصبح
يُعْزَى إلى طريقتها في الوجود. وهكذا يعود تفكير مور إلى التراث الإنجليزي القديم،
ممَّا يوحي بأن نقطة بدايته لم تكن بعيدة عنه بقدر ما يتوهَّم، والواقع أن حركة
الواقعية الجديدة بأكملها، رغم ما تنتهي إليه من نتائج تفصيلية مُخالفة للتراث
القديم، ورغم ما تُبديه في كثير من الأحيان من معارضة مؤكَّدة له، لا تنطوي في
تركيبها الباطن على انشقاقٍ عن ذلك التراث، وإنما تُواصل السير فيه بمزيدٍ من القوة
والوعي.
ولقد ربط مور تفكيره بهذا التراث مباشرةً، وكذلك بتلك الصورة الاسكتلندية التي
تتفرَّع عن خط التطوُّر الرئيسي، وتتجسَّم في فلسفة توماس ريد ومدرسته، وهو — مثل
ريد — يأخذ على عاتقه في أحد مقالاته مهمَّة «الدفاع عن الموقف الطبيعي»؛ أي
الاعتراف بتلك المعرفة الأصيلة التي تَسبق كل معرفة مُستمدة نصل إليها بالاستدلال،
والتي يرتبط بها الفيلسوف، ويُسمِّيها معرفة خاصة به، بقدر ما يرتبط بها رجل
الشارع، ويعدد مور سلسلة من هذه الحقائق البديهية أو المألوفات commonplace، التي يؤمن بها الفهم البشري السليم
إيمانًا لا يتزعزع، وإن يكن الفيلسوف يتحداها في كثير من الأحيان ويُندِّد بهما
على
أساس أنها خطأ، ويرى مور أنه من أولئك المُفكِّرين الذين يرون أن صورة العالم التي
نُكوِّنها في الموقف الطبيعي صحيحة صحة مُطلقة؛ وذلك في سماتها الأساسية على الأقل.
وعلى أية حال فمن الواجب أن تُؤخذ القضايا التي ترتكز عليها هذه النظرة إلى العالم
بمعناها المعتاد أو الشائع بين الناس عندئذ، وعندئذٍ فقط يزول كل شك حول حقيقتها.
وهكذا يبدو أن هناك قضايا مُتعدِّدة نعرفها ونفهمها، ويكون معناها واضحًا في ذهنِنا
تمامًا، دون أن نتمكَّن من إيجاد تفسير لها؛ فالتحليل السليم لهذه المألوفات commonplaces وإثباتها العقلي مُختلَف عن فهمها
المباشر وعن الإيمان بحقيقتِها، صحيح أننا نفهم معنى هذه القضايا؛ غير أننا لا نعرف
على أي نحو، ولأيِّ الأسباب، نعرفها. فليس في وسعنا أن نُحلِّلها، وكل محاولة
لتشريحها بدقة تصادف أكبر الصعوبات. ومن هنا كان علينا أن نَقبلها كما هي، دون أن
نُجهد أنفسنا كثيرًا في تبريرها فلسفيًّا، ويرى مور أن الكلام عنها بازدراء — كما
يفعل كثير من الفلاسفة — هو قمة السخف. وهنا نجد نوعًا من الرجوع إلى فلسفة الموقف
الطبيعي عند ريد، ومن دواعي العجب أن هذا الرجوع قد حدث على يد مُفكِّر لم تكن
قُدراته النقدية والتحليلية والشكاكة أقل من قدرات هيوم، الذي كانت مهاجمته لآراء
الموقف الطبيعي هي التي حفزت ريد على الدفاع عن هذا الموقف.
أما في ميدان الأخلاق فقد أحرزت أفكار مور نجاحًا أقل مما أحرزته في الفلسفة
النظرية، وإن يكن — في الكتابَين الوحيدَين اللذَين نشرهما
١٠ — قد أبدى اهتمامًا خاصًّا بها، وعرضها بطريق أكثر منهجية واتساقًا مما
عرض فلسفته النظرية. وهنا أيضًا نجده مُحللًا دقيقًا صارمًا، يسير في طريقه
مُستقلًّا عن جميع وجهات النظر وعن جميع المذاهب الشاملة والآراء التقليدية، ورغم
أنه لم يُشيِّد مذهبًا؛ فقد حاول جادًّا — بالتحليل النَّقدي الدقيق — أن يبسط أسس
التفكير الأخلاقي ويكشف عن مشكلاته. وقد عبَّد طريق علم الأخلاق من أساسه، وقام
بجهد رائع في تطهير الأرض، دون أن يعبأ كثيرًا بالنتائج الإيجابية. وفي الحالات
التي تظهر فيها مثل هذه النتائج نجدها — على وجه العموم — تتفَكَّك بفضلِ النقد.
وقد كان مور في هذا الميدان حريصًا على الامتناع عن كل إصرارٍ قَطعي على
آرائه.
ويعني مور بلفظ الأخلاق: البحث الذي يَدُور حول السؤال «ما الخير (أو الشر)؟»
فطريقة تعريف الخير هي المشكلة الأساسية في أي مذهَب أخلاقي يستطيع أن يدَّعي لنفسه
الصبغة العِلمية، وموضوع الأخلاق هو التنقيب عن الأسباب الصحيحة التي تجعلُنا نعدُّ
هذا الشيء أو ذاك الخير، وجواب مور الذي تُدهشُنا بساطته، هو أن الخير هو الخير
ولا
شيء غيره. وهكذا أعلن بلهجة حاسمة: «إنَّ الخير لا يُمكن أن يعرف. وهذا كل ما
أستطيع أن أقوله بشأنه.» وهذا يعني أن الخير اسم لصفة بسيطة غير قابلة لتحليل، شأنه
شأن «الأصفر»؛ فكلاهما خالٍ من كلِّ تركيب أو تعقيد، ولما كانت الأشياء المركَّبة
هي وحدها التي يُمكِن أن تعرف، فإن القدرة على التعريف تقف عاجزة إزاء هذه الأفكار
التامَّة البساطة؛ فالخير هو ذاته ولا شيء غيره، وهو يتكشَّف بماهيته الباطنة، ولا
يُمكن أن يُدرك بتحديدات مستمَدة من أي مصدر آخر؛ غير أن محمول «الخير» هو وحده
الذي لا يُعَرَّف، لا «الخير»، أو كل ما يتصف بهذا المحمول.
ويُطلِق مور على محاولة تعريف «الخير» من الخارج، أو بتحديدات ليست مستمَدَّة من
ماهيته الخاصة، اسم «مغالطة النزعة
الطبيعية the naturalistic fallacy»، ومن أمثلتها تلك النظريات التي تعرف الخير بأنه ما هو
نافع أو مرغوب فيه أو مُسبِّب للذة. وعلى ذلك فمن الواجب إيجاد تفرقة دقيقة بين
الخير من حيث هو وسيلة، والخير في ذاته؛ فالأول يعني أن الموضوع الذي نكون بصددِه
هو مجرَّد وسيلة للخير أو يحدث آثارًا خيِّرة، والثاني يعني أن الخير غاية في ذاته،
وأن الموضوع نفسه له صفة «الخير»، وهي الصفة التي عزَوناها في الحالة السابقة إلى
آثار الموضوع؛ فالسؤال عما هو أفضل في ذاته، والسؤال عما يُؤدِّي إلى أفضل النتائج،
هما سؤالان مختلفان تمامًا، ومن الواجب الإبقاء على انفصالهما كاملًا.
وهكذا يوجه مور نقدًا عميقًا مدمرًا إلى جميع المذاهب الأخلاقية التي تشوبُها
مغالَطة النزعة الطبيعية، وهو يُدرج ضمنها النظريات المرتكزة على المذهب الطبيعي،
والنظريات الميتافيزيقية معًا، ويُطلق مور اسم النظريات المُرتكِزة على المذهب
الطبيعي، على تلك النظريات التي تضع مكان «الخير» صفة لشيء طبيعي، وبذلك تستبدل
بالأخلاق علمًا طبيعيًّا، ومن الأمثلة الكلاسيكية على ذلك: المذهب التطوُّري عند
سبنسر، فسبنسر يرى أن الخير يكون فيما هو أعلى تطوُّرًا، ويُوحِّد بينه وبين ما
يَجلب اللذَّة. ولكن مور يلاحظ بعمق أنه لا شأن «لما هو أعلى تطورًا» «بالأفضل
أخلاقيًّا»، وأن فكرة التطوُّر لا يُمكنها أن تُلقيَ ضوءًا على المسألة الأساسية
في
علم الأخلاق. وهذا يَصدُق بالمثل على كل الفروع الأخرى لمذهب اللذَّة؛ وبالتالي
على
كل النظريات المبنية على المبدأ القائل إنَّ اللذة هي الشيء الوحيد الخير في ذاته،
ولا يُوجِّه مور نقده إلى مذهب اللذة التطوُّري عند سبنسر فحسب، وإنما إلى مذهب
اللذة النَّفعي عند مل، ومذهب اللذة الحدسي عند سدجويك، وكذلك إلى جميع المذاهب
الأخلاقية التي يُمكِن أن تُبْنَى على هذا الأساس؛ ذلك لأنه كان يجد لذةً خاصة في
عرض وجهة نظر خصومه نقية تمامًا، ومُستقلةً عن أيِّ تعبير تاريخي فِعلي عنها،
ويُفنِّدها بعد ذلك. وهكذا نجده في الفصل العظيم الذي كتبه بعنوان «مذهب اللذة Hedonism» (في كتاب «مبادئ علم الأخلاق»)،
يُسوِّي حسابه بوجهٍ عامٍّ مع كل أشكال الأخلاق الإنجليزية التقليدية، بطريقةٍ
تُماثِل تلك التي قام بها المثاليُّون في كثيرٍ من الأحيان. ولكن مع فارق هو أن
التفنيدات المثالية تطبق على هذه المذاهب معيارًا غريبًا عنها، هو الموقف المثالي
الخاص. أما شرح مور النَّقدي فينتقل من الداخل إلى الخارج، ولا يَرتكِز إلا على
معيار الاستقلال الذاتي للمبدأ الأخلاقي الأساسي.
أما المذاهب الأخلاقية المرتكِزة على مسلَّمات ميتافيزيقية (وهي مذاهب الرواقيين
واسبينوزا وكانْت وهيجل والهيجليين)، فإن مور يحاول أن يثبت أنها لا تستطيع تقديم
جواب عن السؤال: ما هو الخير في ذاته؟ فهي بدورها تجعل للأخلاق أساسًا معتمدًا على
غيره؛ إذ تقيس الخير في كل حالة بمعيار مبدئها الميتافيزيقي الأعلى، الذي يتضمَّن
عادة علاقة بحقيقة تعلو على الحس؛ لذلك يَرفض مور أن يسمح للميتافيزيقا — مثلما
رفض
أن يسمح للنزعة الطبيعية — بالتدخُّل في الأخلاق، فكتاب «المقدمة إلى علم الأخلاق»
عند جرين، شأنه شأن كتاب «مُعطيات الأخلاق» عند سبنسر، عاجز تمامًا عن المساهمة
بأيِّ نصيب في حل المشكلات الأخلاقية.
ولقد كانت النتيجة التي توصَّلنا إليها حتى الآن سلبية فحسب، وهي تَنحصِر في
القول: إن ماهية الخير يَنبغي ألا تُفْهَمَ عن طريق اللذة أو عن طريق أيِّ مبدأ
ميتافيزيقي. ولكن علينا هنا أن نتساءل: ما هو الخير في ذاته؟ يَربط مور هذا السؤال
بمشكلة القيمة التي عالجها في بحث مُنفصِل (انظر «دراسات فلسفية» ص٢٥٣ وما يليها)؛
فالقيمة وصفات القيمة هي قبل كل شيء غير ذاتية، وهي لا تَنبثِق عن موقفٍ ذِهني
للفرد تجاه الأشياء التي تُوصَف بأنها ذات قيمة، وإنما تنتمي إلى الأشياء ذاتها
وتُعطي معها؛ ومن ثَم فهي موضوعية؛ غير أن فكرة الموضوعية ليسَت كافية لتحديدها،
وإنما يرى مور أن للقيَم صفة خاصة مميزة، يُطلَق عليها اسم صفة التأصُّل intrinsicality فيها؛ فعندما نقول عن نوع من
القيمة إنه مُتأصِّل، نعني بذلك أن مسألة كون الشيء يَملك هذه القيمة، ومدى امتلاكه
لها، تتوقَّف تمامًا على الطبيعة الباطنة لهذا الشيء؛ غير أن صفات القيمة تتميَّز
عن الصفات المتأصِّلة الأخرى للأشياء في أنها ليست بذاتها صفات متأصِّلة، وإنما
هي
تتوقَّف على هذه الصفات فحسب. وإذن فعلينا — لكي نُحدِّد إيجابيًّا ما هو خير أو
قيم بتأصُّل — أن نبحث عن القيمة التي تكون للأشياء موضوع البحث عندما توجد
مُستقلَّة تمامًا عن جميع الأشياء الأخرى، والطريقة التي يتمُّ بها ذلك هي طريقة
العزل المُطلَق.
ويُدافع مور عن الرأي القائل إن أكثر الأشياء التي نعرفها قيِّمة، هو حالات معينة
للوعي نُعانيها في تعاطفنا الشخصي مع أقراننا من الناس. وفي التمتُّع بالجمال في
الفن والطبيعة، هذه الأشياء قبل غيرها هي التي يَنبغي أن تُنْسَب إليها قيمة
متأصِّلة، وهي التي تستحق، أكثر من كل ما عداها، أن تُطلب لذاتها، صحيح أن مجرد
حضور أي شيء جميل هو أمر له قيمة مُتأصلة معينة؛ غير أن الشيء لا يَكتسب قيمة بأعلى
معاني الكلمة، حتى يرتبط به «الوعي» بالجميل والتمتُّع به. هذه الحقيقة البسيطة
—
التي يعمُّ الاعتراف بها على هذه النحو — هي التي يرى مور أنها الحقيقة الأساسية
في
كل فلسفة أخلاقية، والأمور التي ذكرناها الآن هي التي يعدُّها المعيار الوحيد لكل
تقدُّم اجتماعي، والمعنى الأخير لكل فعل بشري؛ فهي الغاية من وجود كل الفضائل وكل
الواجبات العامة والخاصة، ويشمل التعاطف الشخصي والتمتُّع الجمالي — في ذاتهما —
كل
خير أعلى حالي أو مُتخيل، ويُسميها مور أيضًا وحدات عضوية عظيمة التعقيد، ويُدرجها
تحت مبدأ خاص يلعب دورًا هامًّا في فلسفته الأخلاقية، فمبدأ الوحدات العُضوية يعني
أن القيمة المتأصِّلة لأي كلٍّ لا تكون مساوية لمجموع قِيَم أفراده ولا مُتناسبة
معه. ومن هنا فمن الممكن أن نقوم بين صفة ذات قيمة، وصفة أخرى ذات قيمة، علاقة من
شأنها أن تكون القيمة الكلية للكل المكون من هذَين الجزأين أعظم بكثيرٍ من مجموع
قيمة الجزأين، وبالعكس قد يكون هذا الكل أقلَّ في قيمته من مجموع أجزائه أو من واحد
منها. وهكذا يضع مور الجمال، أو على الأصح تذوَّق الجمال، في علاقة مباشرة مع الخير
الأخلاقي، وهو يُعرِّف الجميل (أو القبيح) بأنه تأمُّل ما هو خير (أو شر) في ذاته
بإعجاب، فما هو دائمًا جميل، هو أيضًا خير؛ غير أن الخير هو القيمة الأكثر أصالة،
والجميل ليس مُساويًا تمامًا للخير، وإنما يَرتبط به ارتباطًا وثيقًا. وهذا يصدق
على التعاطف الشخصي بوصفِه القيمة الأساسية في كل العلاقات الاجتماعية بين الناس
بعضهم ببعض، ويجد مور — على عكس الأخلاق المثالية — مكانًا للكيفيات المادية
للأشياء في نسق القيم. فهذه الكيفيات بدورها — رغم أنها قد لا تكون لها قيمة في
ذاتها — هي مُكوِّنات أساسية في المجال الأخلاقي، بقدر ما يتسنَّى للوعي البشَري
معرفتها. كذلك تساهم المعرفة وفعل المعرفة — وإن لم يكونا في ذاتهما قيمًا — بدور
كبير في تحقيق القيمة، فما نصل إليه نحن، من حيث إننا شخصيات أخلاقية — بجهودنا
الخاصة — هو الخير في ذاته وسيظلُّ كذلك، وما المثل الأخلاقي الأعلى إلا الخير
الأقصى أو أعلى تحقُّق للخير.
وهكذا نرى أن هذه الأخلاق الواقعية تجمع إلى ميلها السليم نحو الحياة الواقعية،
نظرة رفيعة إلى القيم الأخلاقية؛ فهي تَرتفِع في موقفها واتجاهها العام أعلى من
جميع المذاهب الأخلاقية الطبيعية، وتقترب في نواحٍ كثيرة من الأخلاق المثالية؛ غير
أنها تظلُّ متحرِّرة من الحماسة والانفعال، كما أنها تحرص — بنفس المقدار — على
تجنب قسوة المذهب الصارم، وذلك في استهدافها غاية شديدة الترفُّع، هي بناء أخلاق
خالصة للواجب.
(٢) برتراند رسل Bertrand A. W. Russell (وُلد في
١٨٧٣م)
تلقَّى تعليمًا خاصًّا، وكان من ١٨٩٠م طالبًا في «ترينتي كوليدج» بكمبردج، وفي
عام ١٨٩٥م كان زميلًا بالكلية، ثم مُحاضِرًا في عام ١٩١٠م، ونظرًا إلى ما كان ينشره
من دعاية ضد الحرب وتأييده للعصيان العسكري إذا ما أملاه الضمير؛ فقد أعفي من
منصبِه في التدريس في ١٩١٦م، ثم قُدِّمَ للمحاكمة لنفس الأسباب وحُكِمَ عليه
بالسجن، واشتغل رسل بالسياسة، وقام برحلات طويلة إلى الصين وروسيا وأمريكا، وافتتح
مدرسة خاصة في ١٩٢٧م، وكان هدف التكسُّب من أسباب نشاطه التأليفي العظيم في ميادين
مُتعدِّدة، وفي عام ١٩٣١م عندما تُوفِّي أخوه الأكبر، خلفه في لقب «إيرل
رسل».
مؤلفاته: «الديمقراطية الاشتراكية
الألمانية German Social Democracy» ١٨٩٦م، «بحث في أسس علم
الهندسة An Essays on the Foundations of Geometry»، ١٨٩٧م، «عرض نقدي لفلسفة
ليبنتس A Critical Exposition of the Philosophy of Leibniz»، ١٩٠٠م، وأُعيد طبعه ١٩٣٧م، «مبادئ الرياضيات The Principles of Mathematics»، المجلَّد
الأول، ١٩٠٣م، «المبادئ
الرياضية Principia Mathematica» (بالاشتراك مع هَويِتْهِد)، في ثلاثة مجلدات،
١٩١٠–١٩١٣م (الطبعة الثانية ١٩٢٥–١٩٢٧م. وقد ترجم ﻫ.
موكري H. Mokre التصدير والمقدمتَين إلى الألمانية بعنوان، «مدخل إلى المنطق
الرياضي Einführung in die Mathematische Logik» ١٩٣٢م)، «مقالات فلسفية Philosophical Essays» ١٩١٠م، «مشكلات الفلسفة Problems of Philosophy» ١٩١٢م (ترجمه
هرتس P. Hertz إلى الألمانية في ١٩٢٦م)،
«معرفتنا بالعالم
الخارجي Our Knowledge of the External World»، ١٩١٤م (ترجمه روتشتوك W. Rothstock إلى الألمانية في ١٩٢٦م)، مبادئ الإصلاح
الاجتماعي Principles of Social Reconstruction ١٩١٦م (ترجمه هيتي H. Hethey إلى الألمانية في ١٩٢١م)، «العدالة في زمن الحرب Justice in War-Time»، ١٩١٦م،
«سبل إلى الحرية، الاشتراكية، والفوضوية، والنقابية Roads to Freedom: Socialism Anarchism and, Syndicalism»، ١٩١٨م
(ترجمه جومبل E. Gumbel إلى الألمانية بعنوان،
«مُثُل عُليا سياسية Politische Ideale»،
١٩٢٢م)، «الصوفية والمنطق
ومقالات أخرى Mysticism and Logic and Other Essays»، ١٩١٨م، «مدخل إلى الفلسفة
الرياضية Introduction to Mathematical Phil.» ١٩١٨م (ترجمه إلى الألمانية أ. جومبل وجوردن W. Gordon في ١٩٢٣م)، «البلشفية تطبيقًا
ونظرية The Practice and Theory of Bolshevism»، ١٩٢٠م، «تحليل
الذهن The Analysis of Mind»، ١٩٢١م (ترجمه جرلنج H. Grelling إلى الألمانية في ١٩٢٧م)، «مشكلة الصين The Problem of China»، ١٩٢٢م (ترجمه إلى
الألمانية م. هيتي ١٩٢٥م)، «ألف باء
الذرات The ABC of Atoms»، ١٩٢٣م (ترجمه بلوخ W. Bloch إلى الألمانية، ١٩٢٥م)، «نزعة الانفصال المطلق في المنطق Logical Atomism» (مقال في
«الفلسفة الإنجليزية المعاصرة»، المجلد الأول)، «إيكاروس، أو مستقبل
العلم Icarus, or the Futur of Science» ١٩٢٤م (ترجمه أرنس F. Arens
إلى الألمانية في ١٩٢٦م)، «مستقبل الحضارة
الصناعية The Prospects of Industrial Civilization»، ١٩٢٤م (ترجمه مارجولين C. Margolin إلى الألمانية في ١٩٢٨م)، «إيماني What I Believe»، ١٩٢٥م (ترجمه جرلنج إلى الألمانية
في ١٩٢٨م)، «في التربية On Education» ١٩٢٦م
(ترجمه شنابل F. Schnabel إلى الألمانية بعنوان،
«الأهداف الدائمة
للتربية Ewige Ziele Der Erziehung» في ١٩٢٨م)، «تحليل المادة The Analysis of Matter»، ١٩٢٧م (ترجمه جرلنج إلى الألمانية في ١٩٢٩م)،
«مقالات شكاكة Sceptical Essays» ١٩٢٨م (ترجمه
فولفسكيل K. Wolfskehk إلى الألمانية بعنوان
«المعرفة والوهم Wissen und Wahn» في ١٩٣٠م)،
«عرضٌ عامٌّ
للفلسفة An Outline of Philosophy» (ترجمه جرلنج إلى الألمانية بعنوان، «الإنسان والعالم Mensch & Welt» في ١٩٣٠م)،
«الزواج والأخلاق Marriage and Morals» ١٩٢٩م
(ترجمه كان M. Kahn إلى الألمانية في ١٩٣٠م)،
«المظفر بالسعادة The Conquest of Happiness»
١٩٣٠م، «النظرة العلمية The Scientific Outlook»
١٩٣١م، «التعليم والنظام
الاجتماعي Education and the Social Order» ١٩٣٢م، «الحرية والتنظيم Freedom and Organization» ١٩٣٤م، وكذلك مقالات متعدِّدة في مجلات دورية،
وكتب مشتركة … إلخ.
إنَّ أحدًا من المُفكِّرين الإنجليز في الوقت الحاضر أو في الماضي القريب لم
يَدفع الناس إلى الكلام عنه بقدر ما دفعهم إلى ذلك برتراند رسل، ولم يُثِر واحد
منهم من الغبار بقَدر ما أثار رسل؛ فمنذ أن نشأ وهو يحتلُّ نقطة مركزية من الاهتمام
والبحث الفلسفي الإنجليزي؛ فهو — في الفلسفة الإنجليزية أو الأنجلوسكسونية المعاصرة
— أكثر الشخصيات قومية وبروزًا ودلالةً، كما أنه أكثرها إثارة للمُشكلات والجدل،
وهو المثل الرئيسي للفكر في الأعوام الثلاثين الماضية، وأقوى مُتحدِّث باسم الروح
الفلسفية في العالم الناطق بالإنجليزية في الوقت الحاضر، ولم يُحرِز أحد تقدمًا
أعظم ممَّا أحرزه خارج حدود بلاده، أو يُوطِّد دعائم شهرته مثله في العالم الخارجي؛
فهو المفكِّر الإنجليزي الوحيد في هذا العصر، الذي أحرَز شهرة دولية، وهو الوحيد
الذي أصبح اسمه معروفًا في جميع البلدان، هو — بهذا الوصف — قد خلف سبنسر، النجم
الأخير ذا الشهرة العالَمية في سماء الفلسفة الإنجليزية، وإن يكن ضوء هذا النجم
الأخير قد أخذ يَخبُو بالتدريج. وليس أدلَّ على ذلك من الترجمات المُتعدِّدة لكتب
رسل باللغات الأجنبية، وشيوع الاعتراف بمُؤلفاته وتقديرها حيثما يشتد الاهتمام
بالفلسفة. وقد اشتهر اسم رسل في ألمانيا بوجه خاصٍّ، وذلك داخل الأوساط المُتخصِّصة
وخارجها، ورغم أن بعض المدارس الفكرية تصمُّ آذانها عنه، فإن تعاليمه تغدو — بقدر
مُتزايد — واحدًا من العناصر المكوِّنة للفكر الألماني. فهناك الآن ما لا يقلُّ
عن
سبعة عشر من كتبه مترجمة إلى الألمانية، تكون مجموعة رائعة تطغى على أعمال أي
مؤلَّف آخر، وذلك إذا تذكرنا أنه لا توجد إلى الآن ترجمات ألمانية إلا لعدد قليل
جدًّا من كتب مشاهير الفلسفة الإنجليز،
١١ وهذا هو الدليل الحاسِم على قوة تأثيره ولمعان اسمه. ولكن يَنبغي ألا
ننسى أن جزءًا كبيرًا من هذا النجاح راجع إلى قوة الدعاية التي أحاطت به، والتي
ساهم هو ذاته فيها بنصيبٍ غير قليل.
ولا مفرَّ للمرء، عندما يتحدَّث عن رسل ويُحاول تحديد خصائص شخصيته وأعماله، من
أن يستخدم صيغ المبالغة؛ فهو يفوق كل مُعاصِريه من الفلاسفة في قدرته الإنتاجية
وفي
استمرار إنتاجه التأليفي بلا كلل. وقد سطَّر قلمه حتى الآن حوالي ثلاثين كتابًا
مُستقلًّا، كان بعضها كبير الحجم. وينبغي أن نُضيف إلى هذه الكتب مجموعة هائلة من
الكتابات العابرة ومقالات المجلات، والأبحاث التي كتَبَها في مجلات دورية علمية
وشعبية، والأبحاث الأكاديمية والتعليقات والمساهمات في مؤلَّفات جماعية والمحاضرات
… إلخ؛ فهو أنموذج للكاتب والصحفي العالمي، وهو يمتاز بموهبة أدبية فائقة، ومقدرة
على التحدث والكتابة بيُسر وسهولة، والتمتُّع بالخلق والنزوع إليه، ورحابة الصدر
بلا حدود؛ فهو على استعدادٍ دائم للاستماع إلى ما يقوله الآخَرون ولتغيير موقفه
ونشاطه مُتعدِّد الجوانب، لا يستقر على حال، حتى ليصلَ إلى حدِّ العصبية التامَّة،
وهو من أكثر العقول تحرُّرًا في إنجلترا اليوم؛ فهو مؤمن كل الإيمان بآرائه، وهو
لا
يتسامَح فيها، ويتعصَّب لها إلى حد التضحية بنفسه من أجلها، وهو شجاع وصريح إلى
حدٍّ عدواني، مُتحرِّر من أية مراعاة للسلطة أو العقيدة الراسخة، حافل بالتناقُضات
والألغاز، عميق وسطحي في آنٍ واحد، مخلص تمامًا لمُعتقداته. ولكنه في الوقت ذاته
ليس مخلصًا لنفسه، وهو نشيط، ومكافح واثق من نفسه، بارع في جميع أنواع الكر والفر،
وكتاباته ليست مملَّة على الإطلاق؛ فهو ذو أسلوب مُتدفِّق مُثير في الكتابة، هو
حقًّا مُهمل ميَّال إلى الغرابة والمبالغة. ولكنه دائمًا رائع وساخر، وهو يَهوى
كل
ما يبدو مُمتنعًا مثيرًا، ويحدث التأثير الذي يُريده بأيِّ ثمن. ومن العسير أن
يأخذه المرء مأخذ الجد في كل الأحوال، كما أنَّ من المشكوك فيه أنه هو ذاته يؤمن
بكل ما يكتب؛ فعلى المرء أن يحترس لئلَّا يقع في حبائله، وهو شكَّاك يتلاعَب
بالأشياء متخذًا مظهرًا مُتعاليًا، وروحه لمَّاحة لمَّاعة تهوى فقدان ذاتها في
ابتكارات أصيلة، وتتسلَّى بالألعاب النارية التي تُكونها أفكارها. ولكنه قد يكون
أيضًا مُتعصبًا، يطلع على حين غرة بفكرة، ولا يتردَّد في التضحية الشخصية من أجل
نصرتها؛ فهو على استعدادٍ للمخاطَرة، ويسعى أحيانًا بنفسه إلى مغامرات مخيفة،
وشجاعته تدعو إلى الإعجاب، وكذلك الاستماتة التي يدافع بها عن موقع خطير. ولكنا
هنا
أيضًا نفتقد الجدية اللازمة للفيلسوف، فتثُور لدينا الشكوك في إخلاصه.
ومن الصعب في الوقت الحالي إصدار حكم نهائي على رسل الرجل والفيلسوف؛ وذلك لأن
أعماله لم تنتِه بعدُ. وفضلًا عن ذلك فهذه الأعمال مُشتبكة أكثر مما ينبغي في
الخلافات الدائرة اليوم، وشخصيته قد لقيت من التحيُّز لها أو التعصب ضدها ما جعل
معالمها غير واضحة، وكل ما يُمكننا أن نقوله عن ثقة، هو أنه قد تخطَّى منذ وقت طويل
نقطة القمة في تطوُّره، وأنَّ مُنحنى قدرته الروحية سائر إلى الهبوط. ولقد كانت
شخصيته ومؤلفاته: حتى نشوب الحرب الأولى، أكثر توحُّدًا واتساقًا بكثير. وكانت أهم
في جميع النواحي ممَّا أصبحت عليه بعد ذلك، ويُمكن القول إن أعماله الهامة قد كتبت
كلها تقريبًا قبل هذه الفترة، وإن ما أنتجه بعد ذلك يكاد يكون كله من مستوًى أدنى
بكثير، ولو صدر عليه حكم في وقت متأخِّر ما، لكان الأرجح أن يُميز تمييزًا قاطعًا
بين مؤلفاته المتقدِّمة والمتأخِّرة، فينسب إلى الأولى مكانة فلسفية رفيعة، وقيمة
تاريخية كبرى، بينما يُقدر الثانية تقديرًا أقل، فلن يَغيب عن بال المرء أنه قد
استنفد منذ وقتٍ طويل رصيده الفلسفي، ولم يَعُد يعيش على موارده الخاصة، وإنما أصبح
يعيش — إلى حدٍّ بعيد — على أفكار غيره من الناس، وهي الأفكار التي يجمعها بلا
تمييز ويدمجها بتفكيره الخاص، وهو يَمتاز بقدرة على التغيير لا نظير لها؛ فهو في
كلِّ سنوات قلائل يأتي بإطار جديد من الأفكار، يُرسله إلى أعلى وكأنه أحد «بالونات»
التجارب، ويُثير حب الاستطلاع في العالم الفلسفي، ويُقدم إليه ألغازًا جديدة يحلها،
وكما يستطيع أن يدهشنا بعمق تفكيره وأصالته، فإنه أيضًا يستطيع أن يدهشنا بسطحيته،
فكثيرًا ما يُخفق في نفس اللحظة التي يَحتاج فيها سؤالٌ حاسم إلى جوابٍ حاسِم، وأن
ما قاله ترولتش
Troeltsch١٢ ذات مرة عن شيلر
Schelor، من أن
فلسفته مزيج غريب من الدقة والعمق والسطحية، لينطبق أيضًا على رسل، الذي يَلتقي
مع
شيلر في نواحٍ أخرى أيضًا. فإذا أخذنا هذا كله بعين الاعتبار، كان من العسير أن
نعدَّه فيلسوفًا عظيمًا أصيلًا بحق، وإنما هو يبدو أقرب إلى أن يكون وميضًا باهرًا
يُلقي على الأشياء ضوءًا براقًا لوقتٍ قصير. وسرعان ما يَخبو بعد ذلك. ومن الواجب
ألا يُقلِّل المرء من قدر الخدمات التي أداها؛ غير أن المُستقبَل سيثبت أن من
الواجب، في حالة رسل، أن نَبذل من الجهد في فصل الغثِّ من السمين أكثر مما نَبذل
في
حالة مُعظم الفلاسفة المعاصرين الآخرين الذين يحتلون مكانة مماثلة لمكانته أو قريبة
منها.
ونستطيع أن نعرف كل ما يَستحق أن يَعرف عن تطوُّر رسل العَقلي من فصل كتبه هو
نفسه في كتاب «الفلسفة الإنجليزية المعاصرة» (المجلد الأول، ص٣٥٩ وما يليها)، وكذلك
من فقرات أخرى في كتبه؛ فهو لم يَتلقَّ ذلك التعليم المألوف في إنجلترا، والمؤلَّف
من الدراسات الكلاسيكية والإنسانية، وإنما وصَل إلى الفلسفة عن طريق الرياضيات،
وبالتفكير في الأسس النظرية لهذا العلم. ولقد رأى — منذ وقتٍ مُبكِّر — أن الرياضة
البحتة هي الوسيلة المثلى، وربما الإمكانية الوحيدة لكشفِ الحقيقة، وللمعرفة
العِلمية الدقيقة، وقرأ وهو في الثامنة عشرة كتاب «المنطق» لمل، دون أن يقتنع
بالأساس التجريبي للحساب والهندسة، وبعد ذلك بوقت ما، عرف كتابات هيوم، الفيلسوف
التجريبي الكلاسيكي، فتأثَّر بتعاليمه تأثرًا كبيرًا، ورغم أنه سلك في البداية
طرقًا تختلف عن الطريق التجريبي تمامًا، فإن كل ما حدث لهذا التأثر هو أنه انزوى
فترة لكي يظهر فيما بعدُ بقوَّة أعظم، ويظهر تأثير هيوم في كتابات الفترة الثانية
بوضوح؛ غير أن رسل لا يعزو إليه أفكارًا تجريبية أو وضعية، وإنما يعزو إليه موقف
الشك فحسب، ونستطيع أن نرى في رسل مجددًا للآراء الرئيسية في فلسفة هيوم، ونرى فيه
أيضًا إعادة تجسد لذلك النمط الفلسفي الذي كان الفيلسوف الاسكتلندي يُمثل أنموذجه
الكلاسيكي. ولقد عاد هيوم إلى الظهور في شخص رسل بكل قدراته الذهنية، بل إن الصفات
المميزة لعصر التنوير تتمثَّل فيه في صورة متجدِّدة.
ولقد عرف رسل المذاهب المثالية وهو طالب في كيمبردج، فعكف على دراسة كانْت وهيجل،
كما درس بوجهٍ خاصٍّ كتاب «المنطق» لبرادلي، وبلغ من تأثير هذا الكتاب فيه أنه ظلَّ
بضع سنوات من أتباع برادلي، وأضيف إلى ذلك فيما بعدُ تأثير ماكتجارت، الذي كان
مُعاصرًا له في كيمبردج، والذي كان أقرب الهيجليِّين إلى تفكيره، بما له من تكوين
رياضي دقيق، ومن المؤثِّرات الحاسمة في تطوره الفلسفي التالي، معرفته لمور
G. E. Moore واطِّلاعه على منهجه الفلسفي الجديد، وهي
معرفة بدأت في ١٨٩٨م، وأدَّت إلى تغيُّر تامٍّ في طريقته في التفكير. وقد اعترف
رسل
بذلك دون تحفُّظ، في مقدمة كتابه «مبادئ الرياضيات»، فقال: «إن موقفي — في جميع
المسائل الأساسية في الفلسفة — مستمد في أهم معالمه من ج. أ. مور»، وبفضل مور، الذي
لم يكن قد كتب عندئذٍ إلا بضعة مقالات في مجلات، أصبح رسل من أتباع نظرية المعرفة
الواقعية الجديدة، بل تأثَّر به كثيرًا فيما يتعلَّق بالمنهج. كذلك لفتت نظره في
ذلك الحين كتابات ليبنتس، وأثارت اهتمامه إلى حدِّ أنه كرَّس لليبنتس أول كتاب
فلسفي له. وقد أعطى هذا الكتاب صورة جديدة تمامًا لليبنتس؛ إذ إن اهتمام رسل قد
اتَّجه، بطريقة واضحة التحيُّز، إلى ناحية معيَّنة من نواحي فلسفة ليبنتس، هي تلك
التي سبق تجاهلها، والتي تتَّفق مع آراء رسل الخاصة؛ أعني الناحية الرياضية
المنطقية عنده.
١٣
كانت تلك أهم العناصر الفلسفية التي تحكَّمت في تعاليم رسل المقبلة، وأصبح الآن
في حاجة إلى قوة دافعة تأتيه من خارج مجال الفلسفة، لكي يوجه أفكاره صوب ذلك
الاتجاه الذي قدر له أن يقوم بأهم أعماله فيه؛ أعني المنطق الرياضي، وأتاه التأثير
الحاسم من اشتراكه في المؤتمر الرياضي في باريس، الذي عُقِدَ سنة ١٩٠٠م، والذي حضره
معه هويتهد، ففي هذه المناسبة عرف رسل أعمال الرياضي الإيطالي بيانو
Peano وتلاميذه، الذين كانوا يهدفون إلى بناء المنطق
على أساسٍ جديد، أعني أساسًا رياضيًّا، مع الاستعانة بالأساليب الفنية الرياضية.
ولقد كان تفكير بيانو يتَّجه إلى ميدان عظيم من ميادين البحث، بدا الآن مفتوحًا
على
مصراعَيه لأبحاث مُثمرة دقيقة؛ أعني ميدان استطلاع الأسس النظرية للرياضة البحتة،
بمُساعدة المنطق الرمزي الجديد، ومن هذه القوة الدافعة الحاسمة، التي دعمها صديقه
هويتهد، وعمَّقتْها الكشوف الرياضية الجديدة التي توصَّل إليها فيرشتراس
Weierstrass، وكانتور
G. Cantor، وكلاين
F. Klein،
وديديكند
Dedekind، وفريجه
Frege، وغيرهم، من هذه المؤثرات كلها نما كتاب رسل الذي فتح
عهدًا جديدًا، والذي عالج فيه مشكلات المنطق الرياضي وجمعها في نسق واحد رائع. وقد
دُوِّنَت هذه الأبحاث أولًا في كتابه «مبادئ الرياضيات
Principles of Mathematics»، ثم واصلها
بالتعاون مع هويتهد، وختمها مؤقتًا في كتابه «المبادئ الرياضية
Principia Mathematic» المؤلَّف من ثلاثة مجلدات.
١٤
في ذلك الحين كان نمو رسل العقلي قد اكتمل تقريبًا؛ فقد كشف — عندما ردَّ الرياضة
إلى المنطق وكوَّن نظامًا رمزيًّا في الحساب المنطقي — عن ميدان جديد للبحث وصلت
فيه مواهبه العقلية إلى أعلى مداها. وفي هذا الميدان وحده كانت أعماله الهامة
والأصيلة بحق، غير أن أعماله في هذا الميدان — كما سنرى فيما بعدُ — ليست فلسفية
بالمعنى الصحيح، ولما كانت جميع أعماله اللاحقة من مُستوى أدنى بكثير، فإن أحقيته
بالشهرة بوصفه فيلسوفًا تتضاءل إلى حدٍّ بعيد. ومن الواجب ألا ينخدع المرء بقُدرته
الإنتاجية الهائلة في ميدان التأليف، وهي القدرة التي نماها فيما بعد، والتي لا
تتناسَب مع القيمة الكامنة لهذه المؤلفات، مثلَما ينبغي ألا تنخدع بالانتشار الهائل
لكتبه والمديح المبالغ فيه من جانب أتباعه.
وليس في وسعنا هنا إلا أن نُشير باختصار إلى الميادين العقلية الجديدة التي غزاها
رسل في العقدَين الأخيرَين، والعوامل المتعدِّدة التي تأثر بها ذهنه القلق غير
المستقِر، فهو قد انجرف أولًا، مثل الكثيرين من مُعاصريه من الفلاسفة، في تيار
الفيزياء الحديثة، وتمكَّن من أن يُلمَّ بجميع أطراف الموضوع، بفضل قدرته المعهودة
على تلقِّي الأفكار واستيعابها. وقد تتبع هذا العلم في جميع مراحله، منذ بداياته
الأولى حتى آخر كشوف دي بروليي
de Broglie
وشرودنجر
Schrödinger وهيزنبرج
Heisenberg، وبسطها، وحاول أن يجعل لها قيمة
وفائدة فلسفية، ومع ما قد يتَّصف به عمله هذا من أهمية. فلا يُمكن مقارنته بما ندين
به للحكمة الفلسفية الأصيلة لهويتهد، وفيما يتعلق بنظرية المعرفة ومنهجها، تأثر
رسل
بالنظريات الوضعية الجديدة عند أفناريوس وماخ وفاينجر
Vaihinger١٥ وغيرهم، بوصفهم الورثة الشرعيين للمذهب التجريبي عند هيوم، إلى حدٍّ لا
يكاد يقلُّ عن تأثره بهيوم نفسه، كما تعلم رسل الكثير من المدرسة الفينومينولوجية
الألمانية، ولا سيما من مينونج
Meinong، الذي دخل
معه في مناقشات نقدية، والذي كان رسل واحدًا ممَّن لفتوا إليه أنظار الإنجليز، كما
تأثر ببرنتانو، بل بهوسرل
Husserl، الذي يقترب منه
في نواح هامة متعدِّدة، ويرجع الطابع الواقعي الجديد الخاص لنظريته في المعرفة
مُباشرةً إلى مور، ولكنه تأثر من بعيد بألكسندر، وبيرسي نن
Percy Nunn، أما في الميتافيزيقا؛ فقد قبل رسل، بعد تردُّد طويل،
النظرية المسماة بالواحدية
المحايدة
Natural Monism، كما تمثلت لأول مرة عند جيمس ثم عند جماعة الواقعيين
الجدد الأمريكيِّين (ولا سيما عند ر. ب.
بيري
R. B. Perry وإ. ب. هولث
E. B. Holt)
كذلك كان لجيمس، في ناحية أخرى، تأثير قوي على رسل، من حيث وجود صلات وثيقة بين
آراء رسل وبين مذهبه التعددي
Pluralism، ومذهبه
التجريبي الجذري
Radical Empiricism، ومذهبه
البرجماتي، وآرائه في علم النفس، ورغم اختلاف رسل الصريح مع المذهب البرجماتي؛ فقد
كان يُصرح من آنٍ لآخَر بتسليمه بآراء هامة لهذا المذهب، بحيث اعتقد شيلر ذات مرة
أنه قد يُعلن تحوله الكامل إلى المذهب البرجماتي؛ غير أن رسل لم يستقرَّ على موقف
نهائي في هذا الموضوع، جريًا على عادته، وإنما ظل محتفظًا بموقفه الدبلوماسي
المعهود، واحتفظ لنفسه بخط الرجعة حيثما رأى ذلك لازمًا. وقد استوعب رسل بوسائل
أخرى، أفكارًا متعدِّدة، قديمة وحديثة، مستمدة من الفلسفة. ومن العلوم الخاصة، ومن
مصادر أخرى، دون أن يعبأ، في كثير من الأحيان، بقدرة تفكيره على استيعابها. وليس
للمرء أن يستغرب لتأثره بالتحليل النفسي، وتعاطفه مع «البحوث الروحانية
psychical research»، بقدر ما يحق له أن
يدهش لاستسلامه التام، دون مقاومة تقريبًا، لجاذبية المذهب السلوكي
Behaviourism في علم النفس. فليس مما يدعو
إلى الدهشة إذن إنه لم يفهم المثالية الألمانية، وأنه لم يبحَث الفلسفة اليونانية
ذاتها بعمق أو يُقدرها حق قدرها، مع أن الدراسة المتعمِّقة لهذه الفلسفة كثيرًا
ما
تعدُّ في إنجلترا شرطًا لا غناء عنه للتعليم الفلسفي، ولما كان يَفتقر إلى كل حاسة
تاريخية وإلى احترام للعمل في الميدان التاريخي، فإنه كان يفضل إضاعة معالم الماضي
الفلسفي كله دفعة واحدة والبدء من جديد، بل لقد بلَغ به الغرور حدًّا جعله يعتقد
أن
في وسعه أن يلعب دور ديكارت جديد، وفي أحيان أخرى، عندما يكون أقل ميلًا إلى هذه
الهرطقة، تكون صيحة الحرب التي يُنادي بها هي: «عودًا إلى القرن الثامن عشر!»
وبالفعل كان أنموذجه الفلسفي يتمثَّل في ذلك القرن، ولا سيَّما في هيوم. وهناك تكمن
جذور قدرته العقلية؛ فهو في أساسه ابن لعصر التنوير، وإن يكن ابنًا مُتأخرًا. وهكذا
فإن تفكيره، رغم ما يدَّعيه لنفسه من ثورية وتجديد، يسير في الطريق الكبير للتراث
الإنجليزي، ويُمثل آخر حلقة هامة في سلسلته.
١٦
وسوف نقتصر هنا على عرضٍ موجز لأعماله العقلية؛ فقد كان مُعظَم نشاطه الجم، في
الفترة التي سبقت نشوب الحرب العالمية الأولى، مُستنفدًا في بحث الرياضة البحتة
والمنطق؛ أي في أبحاث في أسس الرياضيات ونقد المبادئ الرياضية وفي الحساب المنطقي
والرمزية، وما إلى ذلك؛ أي بالاختصار في الفلسفة الرياضية، وإلى هذه المرحلة تنتمي
كتاباته الأولى عن أسس علم الهندسة، وفلسفة ليبنتس، وأعماله المشهورة في «مبادئ
الرياضيات» و«المبادئ الرياضية»، وكلاهما لم يتمَّ، أو يمكن القول إن الثاني
يُتمِّم الأول، وأخيرًا كتابه «مدخل إلى الفلسفة الرياضية»، وهو عمل تكميلي رأى
النور خلال وقت فراغ أرغم على قضائه في زنزانة أحد السجون، وبعد ذلك تخلَّى عن هذا
الميدان على نحوٍ شبه تام، ولم يعد إليه إلا لمامًا. وهنا بدأ لأول مرة يعالج
المشكلات الفلسفية بمعناها الضيق في كتبه المنشورة، وتجلَّى تغيير اهتمامه هذا في
كتاب صغير ولكنه هام، هو «مشكلات الفلسفة»، الذي ظهر في سلسلة شعبية في وقتٍ كان
فيه كتابه «المبادئ الرياضية» ما زال تحت الطبع، ويُمكن أن يوصف هذا التغيُّر —
باختصار — بأنه يتمثَّل في خروج رسل من ميدان التفكير الأولي الخالص، وهبوطه إلى
عالم التجربة الفعلي، فأصبح يهتم الآن بالمشكلات التي وضعتها التجربة أمامه نظريًّا
وعمليًّا؛ ففي الميدان النظري، أعقبت ذلك سلسلة من المؤلَّفات حول نظرية المعرفة،
وعلم النفس، وفلسفة الطبيعة والذهن، والنظرة العامة إلى العالم، … إلخ، بدأت بكتابه
«معرفتنا بالعالم الخارجي»، وسلسلة هامة من المقالات، استمرَّت عدة سنوات، في مجلة
The Monist («حول طبيعة التعرف المباشر On the Nature of Acquaintance»
«تعريفات ومبادئ منهجية في نظرية المعرفة Definitions & Methodological Principles in Theory of Knowledge» ١٩١٤م، «في تجربة الزمان On the Experience of Time» و«الإحساس والتخيل Sensation & Imagination»
و«المكونات النهائية
للمادة The Ultimate Constituents of Matter»، ١٩١٥م و«وفلسفة مذهب الانفصال المطلق في
المنطق The Philosophy of Logical Atomism»، ١٩١٨م)، وتحتوي هذه المقالات على مُعظم ما كرَّره رسل
فيما بعد بصورة موسَّعة. ولكن دون أن يُضيف ماديًّا إلى مضمونها؛ إذ إن مؤلَّفاته
الأخيرة تتجه أساسًا إلى التوسع في معالجة المسائل وتبسيطها. وينبغي أن نذكر أولًا،
من بين هذه المؤلفات، الكتابين المتوازيَين، «تحليل الذهن» و«تحليل المادة»؛ فالأول
يعالج كل سلسلة مشكلات المعرفة وعلم النفس، والثاني يستعرض النظريات الفيزيائية
الحديثة في ضوء الفلسفة، ويرتبط بهذَين الكتابَين ارتباطًا وثيقًا، كتابان شعبيان
هما، «ألف باء الذرات» و«ألف باء النسبية» وأخيرًا نجد كتابًا ضعيفًا هو «عرض عام
للفلسفة»، وهو تكرار هزيل لكتابي «تحليل الذهن» و«تحليل المادة»، وفي الوقت ذاته
محاولة لتلخيص الفلسفة كلها بطريقة منهجية، وكذلك واحد من آخر مطبوعاته، «النظرة
العلمية»، وبالإضافة إلى هذه الكتب، جمع رسل أهم ما في العدد الهائل من مقالاته
المنشورة في مجلات، الأكاديمية، ومحاضراته … إلخ، في ثلاثة مجلدات، نشرت على فترات
تفصل بين الواحدة والأخرى حوالي عشر سنوات، هي «مقالات فلسفية» و«الصوفية والمنطق»
و«مقالات شكاكة»، وهي كتب نوقشت فيها موضوعات شتَّى، لا سيما الموضوعات
النظرية.
ولكن هذه ليست على الإطلاق القصة الكاملة لنشاط رسل في ميدان التأليف؛ فقد انتقل
إلى الميدان العملي وأظهر فيه من الخصب والذكاء ما أظهره في الميدان النظري. ولقد
تناول رسل جميع المسائل التي تُثير العالم الحديث تقريبًا، وأعرب عن رأيه فيها
بحماسة. وهنا بوجهٍ خاصٍّ نجده محاربًا مُتعصِّبًا وناقدًا صارمًا، فروحه الحرة
لا
تدع شيئًا ممَّا هو مقدَّس نتيجة للسلطة والعرف والإيمان والتعصُّب إلا وناقشته؛
فهو من أقوى موقظي النيام في عصرنا، وهو مُصلح لا تفتر همته، وهو قد قلب جميع القيم
الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والدينية، كل ذلك مع إيمان لا يتزعزع برسالته،
وثقة مُطلقة بشخصيته. وليس في إمكاننا هنا أن نصف هذا الجانب من أعمال رسل
بالتفصيل، وإن يكن ذلك لازمًا لإتمام رسم صورة شخصيته، ويكفينا أن نقول: إن شخصية
رسل لا تبدو مُطردة متَّسقة مع ذاتها في هذا المجال أيضًا، بل تبدو مُنفصِمة لا
مُتجانسة في نواحٍ كثيرة؛ فهو أحيانًا يدفعنا إلى الإعجاب بمثاليته الرفيعة، وبسعيه
بشجاعة إلى الحقيقة وبجرأته وجلده، وغير ذلك من الخلال المُمتازة، وأحيانًا أخرى
يخيب أملنا بافتقاره إلى الجدية، وتهكُّمه اللاذع، وطريقته الهوائية السطحية في
معالجة الأمور، ولو نظرنا إلى آرائه هذه في عمومها؛ لبدا لنا، رغم حماسته إلى
الإصلاح ورغبته الصادقة في التجديد، أقرب إلى الرجعية منه إلى التقدمية، لا لشيء
إلا لاهتمامه بأفكار عصر التنوير في القرن الثامن عشر والمذهب الليبرالي في القرن
التاسع عشر، وهو يُعرب عن ولائه للمُثُل العليا في العالمية والدولية والفردية
والنزعة السلامية pacifism. وعندما ناضل
بحماسة ضد الحرب في وقتٍ كان وطنه فيه يمرُّ بمحنة، برفضه أداء الخدمة العسكرية،
جعل من قضية النزعة السلامية قضيته الخاصة، وأيدها بكل قواه. وينبغي أن نقول —
إنصافًا له: إنه لم يكن مدفوعًا إلى ذلك بمصلحة شخصية، بل رأى في حرية الضمير مثلًا
أعلى أرفع من الواجب المألوف للفرد في خدمة بلاده في أيِّ وقتٍ تُناديه فيه، ولأية
مهمَّة تُكلفه بها. ومن جهة أخرى كان رسل من القلائل الذين طالبوا — وسط الحقد
القومي والتعصُّب الوطني الأعمى — بمعاملة العدو معاملة عادلة. وكما جهر في البداية
بسخطه على رُوح الحرب القاسية؛ فقد عارض — فيما بعدُ — جنون معاهدة الصلح المفروضة
وقسوتها، والزعم الباطل بأن المهزوم هو المذنب في الحرب، والحصار الذي أعقب الحرب
وغير ذلك.
وتنتمي أوجه النشاط هذه كلها تقريبًا إلى الفترة الثانية من حياته، التي تبدأ بعد
الانتهاء من «المبادئ الرياضية»، وتتميَّز بأن اهتمامه بالمسائل العمَلية في الحياة
أصبح هو الغالب عليها، وبأن فلسفته النظرية قد هبطَت بدورها من علياء التفكير
الخالص إلى «أعماق التجربة المثمرة»، وبدأت هذه الفترة تظهر مُكتملة بعد نشوب الحرب
العالمية الأولى، التي هزَّت رسل بعمق وحوَّلت طاقاته الروحية إلى اتجاه جديد. ولقد
سبق أن اشتغل رسل بالسياسة حتى في سنواته السابقة، وعمل مدة قصيرة ملحقًا بباريس
وهو في الثانية والعشرين من عمره، بل إنه قد اهتمَّ بالمسائل الاجتماعية اهتمامًا
كبيرًا حتى قبل ذلك العهد، فقضى في وسط العقد الأخير من القرن الماضي بضعة أشهر
في
برلين، درس خلالها الحركة الديمقراطية الاشتراكية الألمانية، التي انسحبَت فيما
بعد
من المسرح السياسي خائبة، وكَرَّسَ لها أول كتبه «الاشتراكية الديمقراطية
الألمانية». أما في الحرب الأولى؛ فقد ألَّف — إلى جانب نشاطه الضخم في الصحافة،
وكتاباته العابرة المتعدِّدة — ثلاثة كتب كبيرة حدد فيها موقفه من الحركات الشائعة،
وسجَّل فيها أفكاره السياسية والاجتماعية، وهي: «مبادئ الإصلاح الاجتماعي»
و«العدالة في زمن الحرب» و«سبل إلى الحرية»، فضلًا عن كتيب بعنوان «مُثل عليا
سياسية» (١٩١٨م)، وأعقبت ذلك في فترة ما بعد الحرب رحلتان إلى روسيا البلشفية
والصين، كانت ثمرتها كتابي «البلشفية تطبيقًا ونظرية» و«مشكلة الصين» (وقد ألَّف
الأخير بالاشتراك مع زوجته)، وفيما بعدُ اهتمَّ بمشكلات العصر الصناعي (في كتابه
«مستقبل الحضارة الصناعية») واهتمَّ — فوق هذا كله — بمسائل التعليم («في التربية»
و«التعليم والنظام الاجتماعي» ومقالات متعدِّدة)، وهو مجال خبرةٍ بالتجربة في
المدرسة الخاصة التي أسَّسها. كذلك كتب نوعًا من الاعتراف الشخصي بإيمانه الخاص
في
كتيب عنوانه «إيماني»، وفي تلك القطعة المشهورة التي تهزُّ النفوس، وعنوانها:
«عقيدة رجل حر A Free Man’s Worship» (كتبها
عام ١٩٠٢م، ونُشِرَت في مجموعتَي «مقالات فلسفية» و«الصوفية والمنطق»). وهناك
كتابان سابقان ينتميان إلى مجال فلسفة الحياة والحِكمة العملية، نستطيع أن نختتم
بهما هذه القائمة الطويلة، هما «الزواج والأخلاق» و«الظفر بالسعادة». وفي هذَين
الكتابَين حلقت مواهب رسل الأدبية عاليًا وكأنها ألعاب نارية براقة.
ولقد تحكَّمت التغيُّرات التي مرَّ بها تفكير رسل في موقفه من الفلسفة وطبيعتها
ومنهجها ووظائفها وأهدافها. ولكنه ظلَّ طوال هذه التغيرات مُتمسكًا بالطابع العلمي
للفلسفة، وكان يتخذ من فكرة العلم هذه نبراسًا له في أي موقف يتعين عليه معالجته؛
ولهذا السبب استبعد من الفلسفة كل نزعة خيالية وصوفية، وكل عاطفية وبطولية، وأخيرًا
كل المقاصد الأخلاقية والدينية، فقال في إحدى الفقرات:
١٧ «في رأيي أن على الفلسفة أن تستمدَّ الوحي من العلم، لا من الأخلاق
والدين»، وقال في فقرة أخرى: «لقد أخطأَتِ الفلسفة إذ عالجت صعوبات عقلية بوسائل
عاطفية … وهكذا وصلت إلى الشك في أن الفلسفة، من حيث هي مبحث مُتميز من العلم، له
منهجه الخاص، قد لا تكون إلا تراثًا غير موفَّق خلفه لنا اللاهوت»،
١٨ فالفلسفة إذن شيء جافٌّ، رزين إلى أقصى حد، لا مكان فيه للانفعال على
الإطلاق، وهي مسألة مُتعلِّقة بالذهن لا بالقلب، وهي بحث موضوعي نزيه عن الحقيقة
بوسائل العلوم الدقيقة ومناهجها، ويقتفي رسل عن كثب أثر مور، الذي يدين له فلسفيًّا
أكثر ممَّا يدين لأي شخص آخر، في فهمه للفلسفة عن أنها قبل كل شيء نقد للمعرفة،
ويرى أن قيمتها لا تنحصر في الإجابة التي تستطيع تقديمها عن أسئلة محدَّدة، بقدر
ما
تنحصر في نفس الأسئلة التي تحفز العقل وتدفعه إلى السير قدمًا: «فالفلسفة. إن لم
يكن في وسعها أن تجيب عن أسئلة بالقدر الذي تريد، لها على الأقل القُدرة على أن
تسأل أسئلة تزيد من اهتمامنا بالعالم، وتكشف عن الغرابة والعجب اللذين يَكمُنان
وراء السطح مباشرةً، حتى في أكثر الأمور اليومية شيوعًا بيننا.»
١٩
ويُمكننا أن نُسمي هذا الرأي بالرأي السقراطي، ما دام هذا المُفكِّر اليوناني
القديم قد عبر عنه أول وأرفع تعبير. ولكن سرعان ما يأتي — مقابل ذلك — رأي آخر لا
يتَّفق معه تمامًا، وتُصبح له الغلبة، ويغدو هو الحاسم بالنسبة إلى الفترة الأولى
لتفكير رسل بأسرها، هذا الرأي تتحكَّم فيه فكرة الطابع العِلمي المحض، الذي يتمثَّل
أنموذجه قبل كل شيء في المعرفة الرياضية ومنهجها. فكل فلسفة علمية تنضوي تحت لواء
الرياضة، أو كما يعتقد رسل في النهاية، تحت لواء المنطق، وكل فلسفة أخرى، كتلك التي
نجدها في مذاهب أفلاطون واسبينوزا وهيجل، قد نشأت نتيجة لدوافع أخلاقية أو دينية؛
فهي تُمثل رأيًا ذاتيًّا، لا حقيقة موضوعية، ويطرح رسل هذا النوع من الفلسفة
جانبًا؛ إذ يرى فيه عقبة في طريق التفلسُف العلمي الأصيل أكثر منه معينًا لنا فيه،
وتتحكَّم هذه النزعة الرياضية في موقف رسل حتى نهاية «المبادئ الرياضية»، وبعد هذا
الكتاب أيضًا إلى حدٍّ ما. فإذا شئنا تنظيم الفلسفة وفقًا لأفكار الرياضيات، أو
أفكار منطق جديد يتعيَّن الإتيان به، وربطها ربطًا وثيقًا بطرق التفكير الرياضية.
فلا بدَّ عندئذٍ أن تكون نسقًا استنباطيًّا من الأفكار أو العلاقات العامة التي
تتوقَّف على عدد قليل من المسلَّمات أو البديهيات غير القابلة للتحليل، وفيما عدا
ذلك فإنها تَمضي تبعًا للقوانين الصارمة للرياضة والمنطق، اللذَين تَستخدم الفلسفة
مناهجهما. وهذا يعني أن الفلسفة، شأنها شأن الرياضة البحتة، هي علم أوَّلي بالمعنى
الدقيق، وأنها لا تهتم إلا بتصوُّرات وتركيبات عامة مجرَّدة تمامًا، وأنها لا تفترض
مقدمًا وجود أي شيء واقعي؛ فالصفة الرئيسية التي يتميَّز بها هذا الرأي في الفلسفة
هي الاستبعاد التام لما هو موجود واقعيًّا أو للعالم التجريبي من ميدانها، ويُعبِّر
رسل عن هذه الصفة بقوله: إنها ليست علم الواقع وإنما علم المُمكن. وليست علم
الوجود الفعلي existence وإنما علم
الوجود المجرَّد being.
وهكذا تَنفصِل الفلسفة عن كل وجودٍ تجريبي فعلي، وعن كل علاقة بالتجربة الفعلية؛
فهي لا تكترث بالوجود الفعلي، شأنها شأن الفينومينولوجيا (مبحث الظاهريات) عند
هوسرل؛ أي إن كل موجود فعلي «يوضع بين قوسين» (وهو اصطلاح استخدمه هوسرل) أو يُقصى
عنها. وهنا يقوم رسل بنوع من إجراء الحكم أو تعليقه
(
Epoché)
٢٠ مُشابه لذلك الذي نجده عند هوسرل، وإن كان ذلك عند هوسرل نتاجًا للفكر
ومبنيًّا على فكرة الفلسفة ذاتها بدرجة أكبر مما كان عند رسل؛ فالفلسفة هي البحث
في
الشروط الأولية
a priori التي تصحُّ عامةً على كل
عالم ممكن. وإذن فنتائجها تَسري على عالَمنا الفِعلي مثلما تسري على أي عالم آخر
يُمكننا تصوره، وإذن فهذه الفلسفة الأولية المستقلَّة عن أيِّ افتراض للواقعية،
والمعادلة للمنطق الخالص، ليسَت من خلق التفكير الذاتي الخالص، وإنما هي ضرورة
فكرية لا مفر منها، تقوم موضوعيتها على حقيقة كونها في غير حاجة إلى أن تفترض
مقدمًا أي عالم فعلي أي عرضي، وإنما هي تحتاج فقط إلى افتراض مجموع العوالم
المُمكنة التي يُمكن تصوُّرها على أنها فعلية. ومن الواضح أننا هنا إزاء أفكار
مُستعارة من ليبنتس، الذي يَنبغي أن يُعدَّ الأب الروحي لكل المحاولات الحديثة لخلق
فلسفة رياضية أو فلسفة مبنية على المنطق الرياضي.
على أن تنظيم الفلسفة بالمنطق الخالص والرياضة البحتة، والطابع الأولى العام الذي
تتَّخذه، ومنهجها التحليلي الاستنباطي، واقتصارها على عالم الوجود الفكري الخالص؛
كل هذا لا يُمثِّل إلا وجهًا واحدًا من مهمَّة الفلسفة؛ فقد ضيَّق هذا النوع من
الفلسفة الخناق على رسل أكثر مما يَنبغي، ورغم أنه كان يتَّفق مع مثله الأعلى؛ فقد
كان أكثر شكلية وتجريدًا، وأبعد عن الحياة، وأشد افتقارًا إلى النبض والحيوية، من
أن يَسمح له بالمضيِّ فيه طويلًا. وهكذا اضطرَّه التعطُّش إلى التجربة، والرغبة
في
الاتصال الحي بالعالم، إلى إيجاد حلٍّ وسط، وأنزله من قِمَم الفكر الخالص الشامخة
إلى وهاد التجربة المُعتمة. ولقد اعترف هو ذاته فيما بعدُ بأنه لا يستطيع أن يعزو
أهمية عُظمى للأبحاث التجريدية التي قام بها في شبابه. وهكذا حدَثَ انفصالٌ قاطع
بين أعماله المتقدمة وأعماله المتأخِّرة، وتغيرت نظرته إلى الفلسفة تبعًا لذلك،
ويُمكن وصف هذه النظرة بإيجاز بأنها أصبحت تقليدية، تتعلَّق بالمشكلات المألوفة
والموضوعات المُعتادة للبحث. ولكن من الصحيح أنها ظلَّت تُعطي الأولوية للمجال
النظري، وحيثما ازدادَت تحوُّلًا إلى ميادين أخرى (كالأخلاق والتربية والسياسة
والمسائل المدنية والاجتماعية والقانونية والدينية وغيرها)، لم تفعل ذلك لأغراض
فلسفية خالصة، وإنما عالجت هذه الموضوعات بطريقة أدبية مُتحرِّرة، خالية من الضغط
الناشئ عن أي مذهب بعينه؛ فهو — مثل نيتشه — يسخر من عبودية الفلاسفة المحترفين
للمذهب، ويرفض بناء أي مذهب مفصَّل، على أساس أن ذلك تزييف للحقيقة يُخالف واقع
الأمور، وهو ذاته لم يشغل نفسه أبدًا بمثل هذه الأمور؛ لأنه لو فعل ذلك لتعيَّن
عليه أن يُبدل مذهبه مرارًا؛ فهو ينظر إلى التفلسُف على أنه بحثٌ نزيه، على حين
بدا
له بناء المذهب شركًا ومغامرةً، لا يجد له تبريرًا أمام الضمير العِلمي. وهكذا
ازداد في أعماله المتأخِّرة تحولًا إلى جانب التجربة، وكان معنى ذلك ازدياد
تعاطُفِه مع العلوم ومع الفلسفة التجريبية، فتفكيره قد سلك نفس طريق التراث
الإنجليزي الذي أصبح الآن يُواصلُه في خطٍّ مُستقيم، كما أنه أصبح نقديًّا شكاكًا
لا أدريًّا، وكان في ذلك مُتمشيًا تمامًا مع هذا التراث، وهو في هذا كله يستمدُّ
عناصره من تراث هيوم ومل، ويُواصلُه في ضوء التقدُّم الذي أحرزته العلوم. وفي الدقة
المتزايدة التي اكتسبتها المناهج الفلسفية الجديدة؛ غير أنه قد فقد — في هذا الشكل
الجديد — ما كان له من قبل من الأصالة والإبداعية، فرسل المنطقي الخالص يستحقُّ
مكانة تعلو على رسل التجريبي، والعمل الذي قام به الأول هو وحده الذي فتح عهدًا
جديدًا في تاريخ الفكر الإنجليزي، وسيظلُّ حيًّا فيه مهما كان مِن ابتعاد رسل عنه
في الوقت الحاضر.
ويَنبغي أن نُشير هنا إشارةً موجزة إلى طبيعة ميدانه الأول، وإلى الطابع المميز
للدور الذي ساهم به في هذا الميدان، وسوف نتحدَّث فيما بعدُ عن الارتباطات
التاريخية لكشوفه (انظر بداية الفصل الخامس بعنوان، المنطق الرياضي)، فبعدَ سلسلة
من المساهمات المتفاوتة في أهميتها، والتي قام بها مُفكِّرُون آخرون، أرسى رسل
وهويتهد دعائم المنطق الرياضي الجديد، الذي يُسمى أيضًا بالمنطق الخالص ومنطق
العلاقات والحساب المنطقي والمنطق الرمزي، أو بتعبير مُختصَر: الرمزيات symbolics، وأتمَّا معًا أهم أجزائه، ويمتدُّ عمل
رسل في هذا المجال من سنة ١٩٠٠م إلى ١٩١٣م، عندما نشر المجلد الأخير من كتاب
«المبادئ الرياضية»، ويَنعقِد الإجماع على أن هذا الكتاب هو المرجع الرئيسي في هذه
الدراسة الجديدة، وهو يضمُّ ألفَي صفحة، ويكون دون شكٍّ جهدًا من أعظم الجهود التي
يحقُّ لعصرِنا أن يفخر بها.
فمنطق رسل الجديد منطق رياضي. وهذا يُعبر عن الفارق النوعي (الفصل) بينه وبين كل
نوع آخر من ذلك المنطق الذي يُمكن تسميتُه بالمنطق الفلسفي. ومن الصحيح أنه يُبدي
في كثير من الأحيان ميلًا إلى الخروج عن أساسه وتكوين علم مُستقِل نسبيًّا، يتَّسم
بأنه علمٌ خاصٌّ أكثر مما هو عام. وفي هذه الحالة يكون المنطق الرياضي قد خَطا
الخطوة الأخيرة وحلَّ جميع الروابط التي تجمع بينه وبين الفلسفة، وأصبح دراسة
مُستقلَّة تمامًا؛ فهو فرع من الرياضيات، ومكانه الصحيح وسط مجموعة من العلوم
الرياضية. وهذا راجع إلى أن أهم المشتركين فيه كانوا من علماء الرياضة، وإذا كان
هناك فلاسفة قد اهتمُّوا به — مثل رسل وهويتهد وبرود Broad وغيرهم — فقد كان ذلك ارتباطًا شخصيًّا عرضيًّا لا ارتباطًا
ضروريًّا. ومن المؤكد أن عودة مثل هذا العلم فيما بعدُ إلى إقامة روابط بينه وبين
الفلسفة — كما هي الحال عند رسل — هي أمر ليس بالهيِّن، ولكن هذا بدوره ليس أمرًا
ضروريًّا، وهو عندما يحدث يكون مُتناقضًا مع الفكرة الخالصة لهذا المنطق أكثر مما
هو تطوُّر يتمشَّى مع معناه الصحيح. وقد اعترف رسل نفسه بهذه الحقيقة مرارًا. ولكن
بتحفُّظات معيَّنة، فقال: «إن المنطق الرياضي، حتى في أحدث صوره، ليست له أهمية
فلسفية مباشرة إلا في بداياته الأولى، وبعد هذه البدايات يغدو مُنتميًا إلى
الرياضيات أكثر منه إلى الفلسفة.» (انظر، «معرفتنا بالعالم الخارجي» ص٥٠). وهو
يُواصل كلامه قائلًا: إنَّ التطورات التالية، وإن لم تكن فلسفية على التخصيص، لها
فائدة غير مباشرة عظيمة في التفلسُف، وأوضَحُ من ذلك اعترافه الآتي في مقدمة كتاب
«مدخل إلى الفلسفة الرياضية»: «إن الكثير ممَّا هو وارد في الفصول الآتية ينبغي
ألا
يُسمَّى «فلسفة» بالمعنى الصحيح، وإن تكن الموضوعات التي تتعلَّق به قد أدرجت في
الفلسفة طالَما أنه لم يكن يوجد لها علم مُلائم … وهكذا فإن الكتاب الذي يتناول
هذه
الأجزاء يحقُّ له أن يعدَّ نفسه مدخلًا إلى الفلسفة الرياضية، وإن لم يكن له أن
يدَّعي أنه يَتناول بالفعل جزءًا من الفلسفة إلا حيثما يخرج من نطاقه الخاص.» (الخط
من وضعنا نحن)، وهو يستطرد قائلًا: إن المنطق الجديد لا يهتمُّ بالفلسفة إلا بقدر
ما يُعلن أنَّ قدرًا كبيرًا من الفلسفة التقليدية عقيم، ويوضح عدم كفاية مناهجها
واستحالة قبول عدد كبير من حلولها. وعلى ذلك فهو يسحب من مجال الفلسفة سلسلة من
المشكلات التي ظلَّت الفلسفة تُعالجها طويلًا بطريقة غير مرضية (كمشكلة اللانهائية
والاتصال) ويُقيِّدها لحسابه الخاص. ومن الواضح أن لنا كل الحق — بعد هذه التأكيدات
القاطعة — في أن نَنظر بعين الارتياب إلى كل محاولة لإثبات أن الدراسة الجديدة
مُرتبِطة بالفلسفة.
وعلى ذلك فإنَّ المنطق الرياضي، بقدر ما يظلُّ مُتمسِّكًا بمجاله الخاص، لا يرتبط
بالبحث الفلسفي بمعناه المألوف إلا ارتباطًا واهيًا، أو لا يَرتبط به على الإطلاق.
ولكن هذا المنطق الرياضي يرسم أيضًا حدًّا فاصلًا قاطعًا بينه وبين أقرب الدراسات
إليه، أي المنطق المألوف. فكلُّ ما كان المنطق المألوف يهتمُّ به من قبل، هو إما
خارج عن مجال المنطق الرياضي، أو يتَّخذ فيه صورة مُغايِرة تمامًا، ويعاد التعبير
عنه من خلال الأفكار الخاصة لهذا المنطق الجديد. وهذا يَنطبِق على منطق أرسطو
الصوري (بكلِّ تطوُّراته حتى يومنا هذا)، وعلى المنطق الترنسندنتالي عند كانت. وعلى
المَنطِق الميتافيزيقي عند هيجل وبرادلي، والمنطق التجريبي عند مل، وأي منطق آخر
نتصوَّره، والأقرب إليه من هؤلاء جميعًا هو المنطق الصوري، مهما كان من قوة مهاجمة
المنطق للأشكال السابقة التي اتخذها هذا المنطق؛ ذلك لأنَّ المنطق الرياضي هو ذاته
صوري تمامًا من كل الوجوه، وهو لا يتحرَّك إلا في عالم الصور والعلاقات الخالصة،
ولا شأن له بما يملأ هذا العالم من مضمون؛ ولهذا السبب كان يُسمَّى أيضًا بمنطق
العلاقات؛ فهو إذن يتَّفق في هدفه العام مع المنطق الكلاسيكي التقليدي. ولكنه
يَتجاوز المنطق القياسي بكثير، ولا يَبحث في العلاقة بين الموضوع والمحمول وحدها
(ومن هنا كان رسل في كثير من الأحيان يُطلِق على المنطق القديم اسم منطق الموضوع
والمحمول)، وإنما يبحث مجال العلاقات المنطقية بأسره، ويردُّها إلى عناصرها الشكلية
الخالصة، أو إلى ثوابتها
المنطقية
logical constants، كما يقول رسل. وعلى ذلك فالمنطق الرياضي يَنطوي على
امتدادٍ هائلٍ لمجالِ المنطق الصوري، وهو قد أعطى طاقة جديدة للمنطق التقليدي، الذي
اعتاد أن يدور دائمًا حول محورِه الخاص، وأصبح جامدًا عقيمًا، وفتح الطريق لآفاق
علمية جديدة، وإمكانيات جديدة للبحث. وهكذا قال رسل — في لهجة فخورة لها ما
يُبرِّرها: «إن المنطق القديم قد قيَّد الفكر بالأغلال، بينما المنطق الجديد قد
أعطاه أجنحة.»
٢١ وقد حقَّق هذا المنطق تقدمًا في المجال النظري يُوازي التقدم الذي
حقَّقته أعمال جاليليو في المجال الفيزيائي؛ إذ إنه أول منطقٍ علَّمنا ما هي
المشكلات القابلة للحل، وما هي تلك التي ينبغي أن يَضرب بها عرض الحائط؛ لأنها
مشكلات وهمية، وهو فضلًا عن ذلك يمدُّنا بمنهج يُمكن من إيجاد حلول حقيقة للمُشكلات
الأصيلة. وهكذا ينبغي — بالنسبة إلى رسل وغيره من المناطقة الرياضيِّين — أن يعدل
حكم كانْت القاطع، القائل: إن المنطق لم يحرز تقدمًا أساسيًّا منذ أيام أرسطو؛
فالمنطق الرياضي قد حقَّق بالفعل مثل هذا التقدم، وبدأ عهدًا جديدًا في البحث
المنطقي.
ولقد قلنا من قبل: إنَّ المنطق الجديد ليس فرعًا للفلسفة بقدر ما هو فرع للرياضة،
وعكس هذه القضية الأخيرة صحيح أيضًا؛ فالرياضة نوعٌ من هذا المنطق؛ أي إنَّ الرياضة
البحتة (الحساب والتحليل والهندسة البحتة ونظرية العدد … إلخ) فرع من المنطق
الخالص، فآراء رسل في هذا الصدد قد نشأت من التفكير في الأسس النظرية للرياضة؛ وعلى
هذا النحو وصل إلى فكرته الحاسمة القائلة: إنَّ الرياضة والمنطق هما في أساسهما
شيء
واحد، وإن كل البديهيات الرياضية بلا استثناء يُمكِن أن تردَّ إلى مبادئ منطقية.
وقد أسفرت طريقة التفكير هذه بأسرها عن صبغ الرياضة بصبغة منطقية. وهذا بدوره
يؤدِّي — على عكس ذلك — إلى صبغ المنطق بصبغة رياضية؛ غير أن المنطق هو الأسبق
دائمًا، والرياضة ثانوية بقدر ما يُمكن استخلاصها من المنطق. وفضلًا عن ذلك فإنَّ
الخط الفاصل بين العِلمَين يزول إلى حد أن المرء لا يستطيع — كما يقول رسل — أن
يتأكَّد أين ينتهي المنطق وأين تبدأ الرياضة في كتاب «المبادئ الرياضية». وهكذا
فإن
الفكرة الأساسية في هذه النظرية الجديدة هي أن من المُمكن استنباط الرياضة البحتة
كلها، بمُساعدة منطق العلاقات، من بديهيات وقضايا منطقية صورية معيَّنة، دون افتراض
أية أفكار جديدة غير معرفة، أو أية قضايا غير مبرهَن عليها؛ فالرياضة البحتة ينبغي
ألا تشمَل أية عناصر غير قابلة للتعريف، فيما عدا الثوابت المنطقية، وبالتالي ينبغي
ألا تشتمل على مقدمات أو قضايا غير مبرهن عليها، فيما عدا تلك التي ترتكز على
الثوابت والمُتغيرات المنطقية وحدها، ولكل الثوابت الرياضية طابع منطقي، بحيث إنه
عندما يقبل النسق، يُمكن استنباط بناء العلم الرياضي بأسره منه.
ونتيجةً لهذا الاعتراف الأساسي بهوية الرياضة والمنطق، يُمكن تحديد ماهية الرياضة
بطريقة لا لبس فيها ولا غموض. وهنا نجد أن رأي رسل يُعارض بوجه خاص الرأي
الكَانْتِي، الذي يرى رسل أنه وقع في خطأ أساسي. وينبغي أن يرد في نقاطه الهامة
إلى
ليبنتس؛ ذلك لأن كانْت قد أنكر الطابع الشَّكلي الخالص للرياضة، وقال: إن المعرفة
الرياضية تتألف من أحكام تركيبية أولية، كما أنه جعل للإدراك الحسِّي دورًا هامًّا
في الحساب والهندسة؛ إذ بُنِيَ الأول على الصورة الخالصة لإدراك الزمان، والثانية
على الصورة الخالصة لإدراك المكان، ومقابل هذا يؤكِّد رسل الطابع التحليلي الخالص،
والشَّكلي المحض، للقضايا الرياضية؛ فهي — كالقضايا المنطقية — ذات صحة مستقلَّة
عن
كل وجود فعلي، وبالنسبة إليها يستوي تمامًا الوجود الفِعلي أو الواقعي وعدمه، وهي
لا تَحتاج إلى مضمونات أو موضوعات، وتظلُّ صحيحة حتى لو لم يكن ثمَّة عالم فعلي،
أو
بتعبير آخر: فمن المُمكن انطباقها على كل العوالم أو الموضوعات الممكنة، وهي عامة
مجرَّدة تمامًا. ومن الممكِن استنباط كلٍّ منها من الأخرى بوسائل منطقية خالصة،
دون
أية معونة من الإدراك الحسي، فللعلاقات المنطقية الشَّكلية الخالصة، التي تسود بين
القضايا الرياضية، والتي يُمكِن استخلاصها أو استنباطها منها، أهمية حاسمة على
الدوام، وصورتها الأساسية شرطية. فإذا تحقَّقت هذه المقدمة أو تلك، فإن هذه النتيجة
أو تلك تتلُو منها بالضرورة، أو إذا صحَّت قضية، صحت قضية أخرى أيضًا، كذلك ردَّد
رسل تعبيرًا لفتجنشتين
Wittgenstein، فتحدث عن
الاستدلال والبرهان الرياضي على أنه تحصيل
حاصل
tautological (وهذا يقرب كثيرًا من القول إنه تحليلي
analytical)، وكل ما يعنيه هذا هو أن كل برهان
رياضي يسير وفقًا لإجراء منطقي خالص، وأنه ليس بالتالي إلا تحويرًا قائمًا على
تحصيل الحاصل، لما هو مُتضمن في المقدمات. فلا يُمكن أن يستخلص من أي نسق من
المقدمات إلا ما يحويه هذا النسق من علاقات منطقية. وعلى ذلك فإن الرياضة لا تزيد
من معرفتنا أو تضيف إليها محتويات جديدة؛ لأن تحديداتها القائمة على تحصيل الحاصل
خالية تمامًا من المحتوى؛ أي إنها تصحُّ من أجل صورتها فقط؛ غير أن هذا كله ينطبق
على الرياضة البحتة وحدها، لا على الرياضة التطبيقية التي يُميزها رسل عن النوع
الأول تمييزًا دقيقًا. وفي هذا كله نرى أن التمييز القديم بين الرياضة والمنطق قد
أزيل تمامًا، أو أن المنطق — كما يقول رسل — يزداد تحولًا إلى الصبغة الرياضية،
مثلما تزداد الرياضة تحولًا إلى الصبغة المنطقية، «فالاختلاف بينهما كالاختلاف بين
الشاب والرجل؛ فالمنطق هو شباب الرياضة، والرياضة رجولة المنطق.»
٢٢
وحسبُنا الآن أننا أوضحنا المبدأ الأساسي في المنطق الرياضي؛ ألا وهو ردُّ جميع
البديهيات الرياضية إلى عدد قليل من الأفكار المنطقية الأساسية. فكل ما عدا ذلك
ينتمي إلى ميدان التطبيق المفصل، وهو خارج عن نطاق بحثنا، ويكفينا أن نُنبه بعد
هذا
إلى نقطتين؛ إحداهما هي فكرة النقائض antinomies،
والأخرى فكرة الرمزيات أو الحساب المنطقي؛ فمن الأعمال الهامة التي ينجزها المنطق
الرياضي الجديد، القضاء على تلك المتناقضات التي تظهر في مواضع متعدِّدة من البحث
في أسس الرياضة (كما في نظرية العدد مثلًا)، والتي لا يُمكن حلها بالوسائل الرياضية
الخالصة، ويتضح آخر الأمر أن هذه المتناقضات ليست رياضية على الإطلاق، بل يُمكن
ردُّها إلى نقائض منطقية عامة. وهكذا فإن المشكلة تنتمي إلى مجال المنطق، الذي لم
يكن في البداية قادرًا على حلها، وقد أوضح رسل سبيلًا جديدًا إلى حلِّها، فنجح بكشف
وتطبيق إجراء عظيم الدقة والتعقيد، في إزالة التناقُضات (إزالة تامة في رأيه،
وإزالة جزئية في رأي آخرين)، وفي إرساء المنطق (وبالتالي الرياضة بدورها) على أساس
راسخٍ متين؛ ذلك الإجراء هو النظرية المعروفة في تسلسل الأنماط، وهي الطريقة التي
يتحرَّر بفضلها المنطق من النقائض، ويرد إلى مجموعة قليلة من البديهيات الخالية
من
التناقض، والتي لا تستنبط من أي شيء (كبديهيات اللانهائية والانتقاء selection والقابلية للرد reducibility). وهكذا يتَّضح في النهاية أن الرياضة نسق خال
تمامًا من التناقض، لا يُمكن الاعتراض عليه، ويتمُّ رد كل قضية رياضية إلى بديهيات
المنطق.
غير أن علمًا كالمنطق الرياضي، يرمي إلى بلوغ أقصى درجة ممكنة من الدقة والنقاء
والضبط، لا يُمكنه أن يستخدم المُصطلح المألوف، بل لا بد له أن يصطنع أداة اصطلاحية
خاصة به، تفي بأغراضه الخاصة؛ فالمُصطلح المألوف أكثر جمودًا وخشونة وغموضًا وأكثر
امتلاءً بالمسلمات والأخطاء من أن يصلح للاستخدام أداةً للتعبير عن تلك الفروق
العظيمة الدقة في المعنى، داخل العلاقات والاستدلالات المنطقية التي تُعْنَى بها
هذه الأبحاث. وهنا أيضًا تغدو الرياضة — بلغة الرموز الصارمة الدقيقة التي تستخدمها
— أنموذجًا للمنطق الجديد. وهكذا اصطنع المناطقة الرياضيون طريقة للتعبير عن
التصورات المنطقية، مماثلة لتلك التي تُستخدم في الرياضة. ولكنَّها تُلائم أغراضهم
الخاصة، إذا ابتدعوا عددًا كبيرًا من العلامات والصورة الرمزية التي تُتيح
لاستنباطاتهم وبراهينهم أن تصل إلى نفس درجة اليقين والوضوح التي يصل إليها
الرياضيون. هذه الطريقة في التدوين — وهي الحساب المنطقي — هي نوع من العمليات
الحسابية عن طريق رموز. كذلك النوع المألوف في الرياضة. وهكذا تبدو كتابات المناطقة
الرياضيِّين، في صفحات مُتعدِّدة، أشبه بالكتب المدرسية في الرياضة. وقد اشتغل رسل
بجد (مع زميله هويتهد) من أجل تكوين لغة للعلامات الرمزية، فأخذ عن «بيانو
Peano»
٢٣ عمله المبدئي الذي سار فيه شوطًا غير قليل، وأكمله بنظامَي فريجه
Frege٢٤ وشرودر
Schröder،
٢٥ غير أن جزءًا كبيرًا من نظامه الرمزي كان من اختراعه هو؛ إذ إنه قد وسع
ميدان البحث — بالقياس إلى السابقين عليه — إلى حد أنه اضطرَّ إلى التفكير في
علامات جديدة لتصوُّرات متعدِّدة لم تعالج من قبل بطريقة رمزية. وعلى أية حال فإن
رسل من أعظم الخبراء في تكوين الحساب المنطقي ومعالجته. وقد صاغ هذا الحساب صياغة
كلاسيكية لم يتجاوزها أحد. وفي هذا الميدان بدوره ساهم في تلبية رغبة ليبنتس في
وضع
مصطلح مطلق الصحة للأفكار المنطقية، أو «لغة عالمية
characteristica universalis» بأكثر مما ساهم
به أيُّ واحد ممن سبقوه أو أعقبوه، وبفضل هذا المصطلح الكامل منطقيًّا، الذي يقول
عنه إنه يتألَّف من نظم
syntax فقط، بلا
مفردات
vocabulary ينبغي أن تتحرَّر الأفكار
العلمية من كل غموض؛ فالاختلاط والافتقار إلى التحدد في اللغة المعتادة ينبغي أن
يفسح الطريق لتحديدات قاطعة دقيقة. وينبغي أن ينزل عن مجموعة من المشكلات قناع
الغموض الذي ظلَّ يغلفها قرونًا طويلة. فلا بد أن تنتزع من شباك الجدل الذي لا يقف
عند حد، وأن يؤتى لها بحلٍّ نهائي دقيق.
ولقد كان المثل الأعلى لتفكير رسل وأبحاثه في جميع الأوقات هو وضوح الرياضة
ونقاؤها ودقتها وتحدُّدها ونزاهتها وصحتها المطلقة. وهكذا نراه يبدي من آنٍ لآخَر
إعجابًا متحمسًا بهذا العلم الجاف الهادئ، كما هي الحال في النص الآتي: «إن الرياضة
— منظورًا إليها على النحو الصحيح — لا تتَّصف بالحقيقة فقط، بل بالجمال الأسمى
أيضًا، فجمالها بارد زاهد كجمال النحت، لا يجتذب أيًّا من العناصر الضعيفة في
طبيعتنا، ولا ينطوي على تلك الجاذبية الرائعة التي يتَّصف بها التصوير أو الموسيقى؛
ومع ذلك ففيه نقاء علوي، ويمكن أن يكون له من الكمال التامِّ ما لا يتبدَّى إلا
في
أعظم الفنون، وإن المرء ليجد في الرياضة قَطعًا ما يجده في الشعر من رُوح التمتُّع
الحقيقي. ومن النشوة ومن الشعور بأنه يعلو على الإنسان، وهو الشعور المُميز لأرفع
الأحوال السامية» (الصوفية والمنطق، ص٦٠).
أما بقية فلسفة رسل، التي تمتدُّ في جميع أرجاء المعرفة النظرية (علم النفس
ونظرية المعرفة، ونظرية العلم، وفلسفة الطبيعة، والميتافيزيقا)، فتَفتقِر إلى ذلك
التصميم، وذلك التحدُّد القاطع في مقصد، وذلك الطابع المباشر الذي تتميَّز به
أبحاثه المنطقية، ولما كان يغير موقفه في كثير من الأحيان، ويسمح لنفسِه بأن
يتأثَّر بكل مُؤثر خارجي مُمكن، فإن المسالك المتقاطعة لتفكيره، بما فيه من افتقار
إلى الاتصال، ومن تغييرات واستطرادات، لا يُمكن أن توصف إلا ببحث مفصَّل يُوضح
تاريخ تطوره؛ غير أنَّ مثل هذا البحث يتجاوَز بكثير نطاق هذا الكتاب. ومن هنا علينا
أن نكتفي بإيضاح الاتجاهات الفكرية الأساسية من خلال بعض وجهات النظر التي اختيرت
اختيارًا مقصودًا.
فهناك أولًا مشكلة المعرفة، التي تشغل الموقف المركزي فيها مشكلة الإدراك الحسي،
تمشيًا مع التراث الإنجليزي، والسؤال الذي يُثار هنا هو: كيف نُشيد العالم الخارجي
أو المادي الذي لا يُعطى لنا مباشرةً، وإنما تتوسَّط فيه حواسُّنا؟ إن رسل لا يعني
بلفظ العالم الخارجي: عالم الإنسان العادي، وإنما يعني عالم الفيزياء أو العلم
الطبيعي، ولا يُبدي رأيًا في المركز الميتافيزيقي لهذا العالم. فكلُّ ما تعنيه كلمة
«الفيزيائي» عند رسل هو «ما يبحث فيه علم الفيزياء». وهكذا ترتد المشكلة آخر الأمر
إلى مسألة العلاقات المتبادلة بين عالم الحواس وعالم العلم الطبيعي، أو مدى انطباق
الفيزياء الرياضية على الواقع المحسوس.
وإذن ينبغي أن نبدأ ممَّا هو مُعطى في الإدراك الحسي، أو من المعطيات الحسية،
التي تتوقَّف عليها وحدها معرفتنا بالعالم الخارجي، ويعني رسل بالمعطيات الحسية
كل
ما يوجد مباشرةً في الوعي، أو ما يُسمَّى عادةً «بالشعور feeling»، بالمعنى الموضوعي لهذه الكلمة؛ أي معنى ما نشعر به. ومن
المُهم في هذا الصدد أن تكون هذه مُعطاة، وأن تكون موجودة بقدر ما هي مُعطاة،
وطالَما هي معطاة. وينبغي أن نميز منها المحسوسات sensibilia التي لا تختلف عن المعطيات الحسية إلا في أنها لا
تُعطى لوعي أو لذهن، فللفئة الأولى صفة كونها مُعطاة. أما الفئة الثانية فليسَت
لها
هذه الصفة، ويُصبح المحسوس sensibile مُعطًى
حسيًّا بالدخول في علاقة كونه مُعطًى، أو كما يقول رسل، في علاقة الوعي أو
التعرف المباشر acquaintance، وإلى هذا الحد
تكون كل المعطيات الحسية محسوسات أيضًا. ولكن في حالة كونها معطاة. وهنا ينشأ
السؤال عن طريقة وجود فئتي الموضوعات هاتين، ويبت رسل في هذه المسألة بقوله: إنهما
معًا يكونان العناصر النهائية المُكوِّنة لعالم العلم الطبيعي. ومن هنا فقد وصفهما
بأنهما خارجان عن الذهن أو فيزيائيان (بحيث تفترق المعطيات الحسية عن المحسوسات
في
أننا نشعر بها مباشرةً بطريقة عارضة). وإذن فهما ليسا ذاتيَّين متوقفين على وجود
ذهن أو وعي، رغم أنهما مُتوقِّفان عِليًّا على أعضاء الحس وعلى الأعصاب والمخ؛
وبالتالي على جسم الشخص المدرك لهما. وعلى ذلك فإن بينهما وبين الكائن العضوي
الجسمي علاقة ضرورية، وكل ما يُضيفه الذهن إلى المحسوسات هو الوعي فحسب. أما ما
عدا
ذلك فكله فيزيائي أو فسيولوجي. وعلى ذلك فلا يمكن أن توجد المحسوسات لو كان هناك
جسم بلا ذهنٍ فقط؛ غير أن المعطيات الحسية بدورها توجد إذا ارتبط ذهن بجسم، ويُمكن
القول: إن المحسوسات مُعطيات حسية ممكنة ولكنها ليست واقعية؛ أي إنها تمثل تلك
المظاهر التي تنشأ إذا دخل وعي مدرك في علاقة محدَّدة مع موضوع، ورغم أن المعطيات
الحسية الفيزيائية في رأي رسل؛ أي إنها عناصر في تركيب عالم الفيزياء، فإنه لا يعزو
إليها وجودًا دائمًا بعد ألا تعود مُعطاة؛ غير أنه يذهب إلى أنَّ عدم دوامها ليس
دليلًا على أن وجودها ذهني، وإنما هو يتمشى تمامًا مع طابعها الفيزيائي، ويقول رسل
عن هذه النظرية (مثلَما يقول عن مُعظم ما عرضه من النظريات): إنها نظرية مُؤقَّتة
لم تثبت نهائيًّا على الإطلاق، وإن يكن يعتقد أنَّ لها مزايا تتفوَّق بها على كل
النظريات المنافسة، ومن الواجب في نظره أن تعدَّ مجرَّد نقطة بداية لمزيد من
الإيضاح للمُشكلة، وكثيرًا ما نراه يقترح للمُشكلة الواحدة فروضًا مُؤقتة
مُتعدِّدة، دون أن يبت فيما بينها، وإنما يكتفي بتقدير مزايا كلٍّ منها. وهكذا
يحتفظ لنفسه بمرونتها إذ يمتنع عن الالتزام بموقف نهائي.
فما الذي ينبغي أن تعنيه كلمة «الشيء» تبعًا لهذا الرأي؟ إن ما هو مُعطًى لنا هو
سلسلة من المعطيات الحسية، أو كما نستطيع أن نقول: مظاهر appearances للشيء، والرأي المألوف هو القول: إن الشيء أمر مختلف عن كل
هذه المظاهر، يكمن من ورائها. وهكذا ينظر إلى الشيء وحده على أنه هو الواقعي، على
حين تُعد مظاهره غير واقعية، إنما نفسية أو ذهنية فحسب. أما رسل فيرى أن العكس هو
الصحيح، فالمظاهر أو المنظورات المختلفة للشيء هي وحدها الواقعية، على حين لا يكون
للشيء نفسه وجود فعلي، وما هو إلا النسق الكامل لكلِّ المظاهر التي تكون الأوجه
المتعدِّدة جوانب منها، ويُسميه رسل تركيبًا منطقيًّا له شيء من الأهمية بقدر ما
يكون محايدًا بالنسبة إلى مختلف أوجه الشيء. أما افتراض جوهر شيئي فهو لغو باطل،
رغم أنه ليس مُتناقضًا منطقيًّا؛ لأنَّ من الممكن إيجاد تفسير مُرْضٍ للشيء إذا
نظرنا إليه على أنه مُساوٍ لمجموع مظاهره. وهكذا يُضحِّي رسل بالشيء والجوهر
والمادة وما يشبه ذلك من الكيانات في سبيل مبدأ منهجي غاية في الأهمية، يستشهد به
مرات لا حصر لها، هو مبدأ الاقتصاد في الفكر، أو كما يُسمَّى عادةً في إنجلترا
«سكين أوكام Occam’s Razor»، وهو المبدأ
القائل بوجوب الامتناع عن تعديد الكيانات أكثر مما تدعو إليه الضرورة
(entia non sunt multiplicata praeter
necessitatem). وقد تحكَّم هذا المبدأ في أحوال متعدِّدة في
نظرة رسل إلى الأمور، وكثيرًا ما كان هو الذي يُقرر قبوله أو رفضه لقضية ما.
وهناك موضوع آخر مُماثل لذلك الذي عرضناه في صدد فكرة الشيء، يؤدي بنا إلى مزيد
من التعمُّق في نظرية المعرفة عند رسل، ويؤدي إلى اتباع مسالك في التفكير وثيقة
الصلة بنظرية الإبصار عند باركلي، وبفكرة الذرات الرُّوحية عند ليبنتس، ذلك هو
موضوع المكان والمنظورات المكانية، فما قيل عن الأشياء يقال أيضًا عن المكان؛ فمن
المُمكن أن يعطى لنا الموضوع الذي يشغل مكانًا عن طريق حواس مُتعدِّدة؛ أي عن طريق
الإبصار واللمس، ويفترض الإنسان العادي أن المكاني الذي يوجد فيه الموضوع مكان
واحد، سواء رأى هذا الموضوع أو لمس؛ فالمكان البصري والمكان اللمسي واحد بالنسبة
إليه. ولكن رسل يرفض هذا الرأي، فللحواسِّ المختلفة أمكنة مختلفة، والمكان البصري
يختلف تمامًا عن المكان اللَّمسي، ونحن لا نجمع بين الاثنين سويًّا إلا بعد خبرة
طويلة بارتباط إحساسات لمسية معينة بإحساسات بصرية معينة؛ فالمكان «الواحد» الذي
يجتمع فيه نوعا الإحساس معًا، ليس من معطيات التجربة، وإنما هو تركيب منطقي، وكل
ما
تُقدمه إلينا التجربة هو الأماكن المختلفة للحواس المختلفة، التي تتجمَّع وفقًا
لقوانين؛ فالمكان المشترك قد يكون طريقة مريحة في التعبير، وكذلك أداة مُفيدة في
الأغراض العلمية. ولكن ليس له وجود فعلي.
هذه الحُجة تؤدي إلى نتائج أخرى أعم، فما قيل لا يسري فقط على مختلف الأمكنة
الحسية، بل على كل ما هو مكانيٌّ أيضًا. فإذا ما وُجِدَ شخصان في غرفة، وأدركا نفس
الموضوعات، فليس من الصحيح — كما يفترض الذهن العادي — أنهما يُوجدان في نفس المكان
ويدركان نفس البيئة. إن كل مُدرك يحيا في عالَمه الخاص، ولا يرى العالم إلا من وجهة
نظره الخاصة أو من منظوره الخاص، هذا المنظور مُغلق تمامًا بالنسبة إلى منظورات
كل
الأشخاص الآخَرين؛ فهو كالذرات الرُّوحية عند ليبنتس، بلا نوافذ تطلُّ على الخارج.
وهكذا يقول رسل: إن لكل فرد عالَمه الخاص الذي يقتصِر على المنظور الذي يُدركه.
وهذا يصحُّ أيضًا على المكان؛ فالأمكنة الحسِّية المختلفة لملاحظ ما، يمكن أن
تتجمَّع في مكان إدراكي عام؛ غير أن هذا ليس هو المكان الفيزيائي، كما أنه ليس هو
المكان العام كما يوجد في ذهن الإنسان العادي، وإنما هو المكان الخاص للمُلاحظ الذي
نعنيه فحسب. فكل شخص يأخذ مكانه الخاص معه. وهناك من الأمكنة الخاصة بقدر ما يوجد
من المنظورات؛ أي من الكائنات المدركة. ولكن من المُمكن أن ترتبط الأمكنة للأشخاص
المختلفين بعضها ببعض؛ فمن المُمكن أن نُبين أن مواضع مكانية معينة في إدراك
مُلاحِظ ما، مشابهة تمامًا لمواضع مكانية معيَّنة في إدراك مُلاحِظ آخر (كرجلَين
في
غرفة واحدة)، وعندئذٍ يُمكن القول: إنهما قريبان الواحد من الآخر مكانيًّا، أو
متَّفقان الواحد مع الآخر؛ غير أن هذا المكان الذي نقول عنه: إنه مشترك بين كلا
الملاحظَين مختلف كل الاختلاف عن المكان كما يعرفه كل فرد من منظوره الخاص؛ فهو
لا
يُمثل إلا التضايف بينهما. وليس مُتضمنًا في أيٍّ منهما، ونستطيع أن نُسميه بالمكان
المشترك بين المنظورات (interperspective space)،
ويُمكننا أن نتصوره مكونًا من منظورات فردية لكلٍّ منها مكانه الخاص؛ فهو نسق أو
مضمونات جميع المنظورات أو الأمكنة الخاصة. وهذه الأخيرة هي نقاطه أو عناصره، هذا
المكان الشامل لكل شيء، المشترك بين المنظورات، الذي هو «واحد» فقط، هو المكان
الموضوعي أو الفيزيائي، الذي هو أساس أبحاث العلم الطبيعي. ومن الواجب التمييز
بدقَّة بينه وبين الأمكنة الإدراكية التي تُعْطَى لنا من خلال الحواس؛ فهو لا يُمثل
واقعة فعلية، وإنما يستدل عليه فقط من الأمكنة الحسية التي هي وحدها الحقيقية
تجريبيًّا، إنه تركيب منطقي يرتكز على اصطلاحنا عليه. وهكذا يستبدل رسل بالمكان
المُطلق الذي يستبعده بوصفه فرضًا باطلًا، التركيب المنطقي للمكان، الذي نصل إليه
باستنباط دقيق من التجربة.
ولسنا بحاجة إلى تتبع بقية النتائج الفلسفية العامة التي تتلُو من فكرة مراكز
المنظورات هذه، والتي تؤدِّي إلى نوع جديد من مذهب الذرات الروحية، كما أننا لسنا
بحاجة إلى تتبع البحث الموازي الذي يقوم به «رسل» في صدر تصوُّر الزمان، ويكفينا
أن
نُشير إلى المبدأ العام الذي تُؤدِّي إليه هذه الأبحاث وغيرها؛ ففي هذا كله يسعى
رسل إلى عبور الهوَّة بين عالم الإدراك الحسي، الذي يبدأ منه دائمًا، وبين عالم
الفيزياء والرياضة الذي يتَّجه إليه دائمًا. وقد عرض هويتهد المشكلة ذاتها فيما
بعد
تحت عنوان مُماثل هو «الإحساس والرياضة»، وأتى لها بحلٍّ أهم وأعمق كثيرًا من حلِّ
رسل، والمسألة هي: هل توجد أيَّة علاقات بين العالمين؟ أو بتعبير أدق: هل هناك
مُبرِّر منطقي للاستدلال من المعطيات على التصوُّرات التي يستخدمها العلم الطبيعي؟
لقد رأينا من قبل أن عالم الإدراك الحسي هو وحده المُعطى مباشرةً، وهو وحده الذي
يُمكن أن يُجرب. أما العالم الفيزيائي فهو عالم مُستدل عليه أو مركَّب؛ غير أن هذا
التركيب ليس مُعلقًا في الهواء. وليس مبنيًّا على أية حقيقة عالية مستقلة عن
الحواس، وإنما هو مبنيٌّ فقط على المحتويات الإدراكية للحواس؛ فالحواس تُمدُّنا
بالمادة الخام التي تُركب منها التصورات المنطقية، ولهذه نفس الصفات التي يعزوها
العلم الطبيعي إلى الذرات والإلكترونات والجزئيات … إلخ. ولقد أجرى رسل هذا البحث
بالتفصيل، وحاول في تحليلاتٍ دقيقة أن يستمدَّ أهم أفكار الفيزياء الرياضية —
كفِكرة الشيء والمادة والمكان-الزمان، والاتصال واللانهائية والعِلية — من
المُعطيات الحسية، وباستخدام الأداة المنهجية للمنطق الجديد على هذا النحو ساهمَ
بدورٍ كبير في إيضاح هذه التصورات فلسفيًّا. ومن جهة أخرى فقد أسفر ذلك عن بعض
النتائج الهامة التي تعود بنا ثانيةً من العالم المُستدَل عليه إلى عالم التجربة،
وهي نتائج تُضفي على نظريات التجريبيِّين القدامى معنًى جديدًا عميقًا، كان في
مُعظَم الأحيان أشد تعقيدًا وأكثر تنوعًا.
ولقد كانت المشكلات السابقة هي أهمُّ ما اختار «رسل» أن يُعالجه من بين مشكلات
المذهب التجريبي، وإذا استثنَينا «ليبنتس» فإنا لا نجد مُفكرًا سابقًا أثر فيه بقدر
ما أثر فيه باركلي وهيوم (ولوك في بعض الأحيان. ولكن بدرجة أقل). ولقد كان تأثيرهما
فيه هائلًا إلى حد يشعر معه المرء في كثير من الأحيان — وهو يقرأ فقرات طويلة من
كتبه — أنها مجرَّد تلخيص لأفكارهما، ورغم أن هذه الأفكار مُغلفة في كثير من
الأحيان بثوب الفيزياء الحديثة والمنطق الحديث، فإن أصلها واضح تمامًا من خلال
قناعها الظاهري. وفي هذه الناحية كان «رسل» مُتأثرًا تمامًا بتراثه القومي، كما
تدلُّ على ذلك شهادته حين يقول: «إنني أجد في كتابات هؤلاء الثلاثة [لوك وبركلي
وهيوم] أفكارًا أستطيع أن أقبلها، وأعدها أفكارًا ما زالت لها أهميتها حتى اليوم،
أكثر مما أجده في فلسفة أسلافهم من مُفكِّري القارة الأوروبية، وربما كان ذلك
تحيُّزًا مني لأبناء وطني، أو اشتراكًا معهم في المزاج القومي» (عرض عام للفلسفة،
ص٢٥٥)، ولنُكثف هنا بذكر نقاط قليلة؛ فهو يُشارك باركلي وهيوم مذهبهما الظاهري Phenomenalism، ويتَّخذ منه نقطة بداية،
ومبدأ منهجيًّا أساسيًّا، كما أنه يتَّفق معهما في بناء التجربة على المُعطيات
الحسية، ورغم واقعيته الجديدة فإنه يقترب في كثير من الأحيان من مذهب الذات الوحيدة Solipsism عند باركلي، وهو يلعب مع هذا
المذهب لعبة خطيرة، فيخضع لإغرائه أحيانًا، ويسارع بالهروب منه أحيانًا أخرى، وهو
—
مثل باركلي — يشن حروب إبادة على فكرة الجوهر والمادة وغيرهما من الأوهام
الميتافيزيقية، ويُشاركه مذهبه الأسمى فيما يتعلَّق بالأفكار المجرَّدة. وهناك
روابط متعدِّدة تجمع رسل بهيوم، منها نظرية الانفصال
المطلق Atomism في المعرفة، وهي النظرية التي يسميها الآن مذهب الانفصال المطلق المنطقي Logical Atomism ومنها ميله
القوي إلى عالم النفس الترابُطي، الذي حاول — بروح رجعية واضحة — أن يُحييه ويمضي
فيه أبعد من المذهب السلوكي، وهو أيضًا يتَّفق مع هيوم في طريقة معالجته لمشكلة
العِلية، وفي فكرته عن الإحساسات والصور، وهي الفكرة التي تكاد تتفق تمامًا مع
نظرية الأفكار والانطباعات عند هيوم، وإنا لنجد لدى كل من رسل وهيوم معًا، وصفًا
مماثلًا للعلاقة الأساسية بين فئتي المعطيات هاتَين، وتطبيقًا لمعيار «الحيوية»،
وتأكيدًا للدور الهام الذي يلعبه الاعتقاد والتعود، وغير ذلك من العناصر الأخرى
المتعدِّدة. وفضلًا عن ذلك ففي فكرة الاسترجاع والتذكر علامات واضحة ترجع إلى هيوم،
وإن يكن يُغلفها بنظرية سيمون في التذكر Mneme،
وهو أيضًا يرث من هيوم موقف الشك واللاأدرية، والمزاج الفلسفي المعروف لهيوم
والمأثور عنه، ومن هذا كله انبثق نفور رسل من الميتافيزيقا على الرغم من خوضه هذا
المجال من آنٍ لآخَر.
غير أنَّ العلاقة بينهما لا تبلغ في موضع من الوضوح — أو على الأصح من البروز —
ما تبلغ في نظرية الذهن، فهنا تستبدُّ أفكار هيوم برسل تمامًا، فنظرية الحزمة
Bundle-Theroy تعود دون إدخال أيِّ تحسين
عليها، ويسير بها إلى حتفها في النهاية، والاتِّفاق بينهما هنا لا يقتصر على
الأفكار فحسب، بل يمتدُّ إلى التعبيرات ذاتها، كقوله: «فعندما نُحاول النظر إلى
أنفسنا يبدو أننا نصادف دائمًا فكرة أو شعورًا، ولا نُصادف ذلك «الأنا» الذي تكون
لديه هذه الفكرة أو هذا الشعور»،
٢٦ وقوله: «الذِّهن فئة من الحوادث الذهنية التي تكون جزءًا من تاريخ جسمٍ
حيٍّ ما.»
٢٧ ومثل: «الواقع أن «الأنا» يبدو مجرَّد خيط من الحوادث، التي يكون كلٌّ
منها على حدة أكثر يقينًا من «الأنا كله».»
٢٨ وكذلك قوله: «من المُمكن تركيب الخصائص المميزة لما نُسميه «بالذهن»؛
فالذهن خيط من مجموعات من الحوادث الحاضرة معًا في منطقة من الزمان والمكان فيها
مادة لها قدرة خاصة على تكوين عادات.»
٢٩ وأخيرًا: «الذات وهم منطقي»، في هذه الأمثلة — التي جُمِعَت اعتباطًا —
نجد أن رسل كان «هيوميًّا أكثر من هيوم»، ونجده يُطبق بطريقة قطعية، في جميع
الاتجاهات، فكرةً تقدَّم بها هيوم على أنها فرض حذر، مع تحفُّظات مُتشكِّكة، ولسنا
نجد موضعًا آخر بلغ فيه من الإخفاق بقدر ما بلغ في تحديد طبيعة الذهن. وليس في
وسعنا أن نجد لدَيه، في أي موضوع، فهمًا أصيلًا عميقًا للعالم الرُّوحي والقيم
الروحية. وفي هذه الناحية يهبط تفكير رسل في مُعظم الأحيان، إلى درك أقبح صور
المادية، وأبشع إرجاع لكل شيء إلى مستوى ميِّت. وعلى أيَّة حال، فلم يَعُد هناك
داع
للعجب وقد أصبحت الصورة الفوتوغرافية تؤدي الآن في أحوال كثيرة، نفس الخدمة التي
يُؤديها الذهن البشري، وأصبحت تحل محلَّه بكل بساطة.
٣٠
ولنَنتقل إلى موضوع أو موضوعين رئيسيين من المجموعة الكبيرة من الموضوعات التي
عالجها رسل، فينبغي أن نعزو أهمية إلى التمييز بين نوعَي المعرفة، المعرفة بالاتصال
والمعرفة بالوصف Description &
Acquaintance. فنحن نكون على اتصال بالشيء عندما نشعر به مباشرةً،
دون تدخُّل عمليات وسيطة للفكر والحكم والاستدلال … إلخ، بين الفعل وبين موضوع
المعرفة. أما الوصف فيقصد به كل معرفة غير مباشرة؛ وبالتالي كل معرفة «عن شيء»،
وكل
معرفة تقول: إن الشيء هو كذا، وكل من نوعي المعرفة موجه إلى الجزئيات وإلى الكليات
معًا. فنحن أولًا نتَّصل بمُعطيات الحواس الخارجية، التي تأتينا منها معرفتنا
بالعالم الخارجي. ولكنَّا لا نتَّصل بالموضوعات ذاتها، التي هي نتاج أنواع مختلفة
من المعرفة غير المباشرة أو المتوسِّطة، كما أننا نتَّصل عن طريق الاستبطان،
بمعطيات ما يُسميه لوك بالحس الباطن؛ أي الأفكار والمشاعر والرغبات والإرادات،
وكذلك بالأشياء التي كانت من قبلُ مُعطيات، إما للحس الخارجي وإما الباطني، أعني
بالذكريات والصور المستعادة. ومن الجائز — وإن لم يكن من المؤكد — أن يكون هناك
أيضًا اتصال بالأنا الذاتي، بوصفِه ذلك العامل الذي يشعر بالأشياء، ويوجه رغباته
إليها، وتكون لديه مشاعر نحوها … إلخ (وإن لم يكن ذلك يتَّفق مع نظرية «الحزمة»
التي يلتزمها رسل دائمًا في المواضع الأخرى)، وأخيرًا فإننا نتَّصل مباشرةً
بالكليات أو الأفكار العامة، كالأزرق، والتنوع، والإخاء، وهو نوع من الاتصال يُسميه
رسل «بالتصور العقلي conceiving». أما معرفتنا
بالوصف فهي معرفتنا بموضوعات الحياة اليومية، التي نُسقطها على العالم الخارجي،
ومعرفتنا بالموضوعات الفيزيائية التي هي — كما أوضحنا من قبل — تركيبات غاية في
التعقيد، تتوسَّط فيها عمليات فكرية متعدِّدة، وهي أيضًا معرفتنا بالنفوس الأخرى
وبكل شيء نتمكَّن به من تجاوز الحدود الضيقة لتجربتنا الشخصية، ولا بدَّ أن ترد
كل
معرفة بالوصف. إن شئنا أن تكون معرفة أصيلة، إلى تلك المعطيات المباشرة التي نعرفها
بالاتصال دون توسُّط؛ أي إن كل شيء لا يُجرب، أو لا يمكن أن يُجرب مباشرة، مبني
على
محتويات تجربة مباشرة هي التي تجعله مشروعًا.
ولقد رأينا من قبل أنَّ المعطيات الحسية أو محتويات الإدراك الحسي تكون عنصرًا
حقيقيًّا داخلًا في تركيب العالم الفيزيائي، كما رأينا أن التصوُّرات الأساسية
للعلم الطبيعي — كالبروتونات والإلكترونات والذرات والجزئيات — لا تُعد في نظر رسل
مكوِّنات نهائية للعالم المادي، وإنما تركيبات منطقية معقَّدة يستدلُّ عليها من
المعطيات الحسية. وليس لها طابع الواقعية؛ فمِن أية مادة يتألَّف العالم المادي؟
ترك رسل هذا السؤال دون جواب، تمشيًا مع الاتجاه غير التأمُّلي لكتاباته الأولى.
ولكنه كان يميل إلى الرأي الذي يتمشى مع مذهب الظواهر
(Phenomenalism) الذي كان يقول به باتساق، وهو
أن المعطيات الحسية ذاتها تمدُّنا بالمادة (stuff)
التي يتكوَّن منها العالم، على أنَّ هذا الميل قد تضاءل فيما بعدُ، وأخذ رسل
بالجواب الذي قدَّمته إليه الفيزياء الحديثة وميتافيزيقا ألكسندر وهويتهد وغيرهما؛
أعني فكرة «الحادث Event»، وتمتاز هذه الفكرة
بأنها لا تلزمنا بأي رأي عام عن العالم، بقدر ما تمتنع عن البتِّ بشيء في مسألة
كون
العالم روحيًّا أو ماديًّا؛ فهي محايدة تمامًا من الوجهة الميتافيزيقية.
فالمواد التي يتألَّف منها العالم الفيزيائي هي الحوادث. وهنا يظهر السؤال عن
تركيبها، وقد دأب رسل على تسميتِها بالمضمونات الإدراكية الحسية perceptual contents تمشيًا منه مع آرائه السابقة،
ويُوسِّع رسل مجال هذه الفكرة، على عكس المعطيات الحسية السابقة، من حيث إنه يُدرج
فيها، بالإضافة إلى المعطيات التي يتلقَّاها المدرك، وتلك المرتبطة بأجسام الأشخاص
الآخَرين، مُعطيات أخرى لا نعلم إن كانت قد أدركت أم لا. وهذه هي الوسيلة الوحيدة
التي يتمكَّن بها من صبغ المعطيات الحسية بصبغة موضوعية، وإدماجها تمامًا في نسق
العالم الفيزيائي، فلم يَعُد من المُمكن الآن النظر إليها على أنها شيء يتميَّز
أساسًا من العمليات التي يبحثها علم الفيزياء؛ وعلى هذا النحو يصل إلى النتيجة
القائلة إن العالم الفيزيائي يتألَّف من حوادث، وأن من الواجب النظر إلى هذه أولًا
على أنها محتويات إدراكية حسية، وثانيًا على أنها ما يمكن أن يستدل عليها منها،
على
أنه يتحدَّث أيضًا عن الحوادث الفيزيائية التي تختلف اختلافًا واضحًا عن الأخريات،
والتي تنتمي إلى الفئة الثانية (أي تلك التي يستدل عليها من المحتويات الإدراكية
الحسية)، وإن كان من الواجب ألا ننظر إلى الإلكترونات والبروتونات على أنها توجد
ضمنها؛ فالحوادث الفيزيائية — التي ينبغي ألا نخلط بينها وبين دقائق المادة — ترتبط
فيما بينها بعلاقات مكانية زمانية، وتخضع لقوانين عِلية. أما طابعها الباطن فغير
معروف، ونستطيع أن نفترض أيضًا أن الحوادث المدركة حسيًّا ترتبط بها، أو قد تظهر
معها في آنٍ واحد في علاقة اقتران
زمني compresence، ويستطيع المرء أن يُدرك مدى تذبذب موقف رسل من محتويات
الإدراك الحسي، إذا تأمَّل عبارة لها دلالتها عنده، قصد منها أن تتضمَّن آخر نتيجة
انتهى إليها، «ليس ثمة أساس سليم لاستبعاد المدركات
الحسية percepts من العالم الفيزيائي، ولكن هناك عدة أسباب قوية لإدراجها
فيه»، («تحليل المادة» ٢ ص٣٨٤).
وإن اتجاه رسل الفكري السابق ليُوضح مدى زوال كل الحدود عنده بين الفيزيائي
والنفسي، وبين المادي والذهني. وقد استهدف هو ذاته هذه الغاية عن وعي، وكان من
الظواهر المُتناقضة في فلسفته أنها حيثما تناوَلَت الذهن كانت مُهدَّدة بالوقوع
في
المادية، وحيثما عالجت المادة كانت تتقرَّب إلى الأفكار المثالية. ولقد قال هو
ذاته: «إنني أعتقد أن المادة أقل مادية والذهن أقل ذهنية مما يظنُّ عادة». ولقد
تحدَّثنا من قبل عن صبغ الذهن بصبغة مادية. أما صبغ المادة بصبغة ذهنية فيسير جنبًا
إلى جنب مع اتجاهات مماثلة في الفيزياء الحديثة، وإن يكن للمرء أن يشكَّ فيما إذا
كان ما يحدث في هذا العلم من إزالة لصفة الجوهرية من المادة الصلبة، أو صبغ لها
بصبغة أثيرية لا قوام لها، يُؤدي بنا إلى المجال الذهني، أم إنه مجرَّد شكل آخر
للوجود المادي غير الشكل المألوف لدينا. ولقد خاض رسل هذه المُشكلة وارتكب تلك
المغالطة، فقطعة المادة هي في رأيه تركيب منطقي مكون من حوادث، والجسم الفيزيائي
يعرف بأنه مجموعة من الحوادث المنظمة حول مركز، ولا أهمية على الإطلاق لوجود لبٍّ
جوهري في هذا المركز أو عدم وجوده. وهكذا ينحلُّ كل ما هو صلب إلى حوادث، ويُنكر
كل
نوع من الجوهر الدائم، ولا بدَّ من التعبير عن القانون العِلي الذي يكمن في مثل
هذه
السلسلة المترابطة من الحوادث بمُعادلات تفاضلية، وما يتبقَّى من المادة الآن لا
يعدو أن يكون صيغة مختصَرة مريحة لوصف قوانين عِلية مُعينة تتعلَّق بالحوادث. وهكذا
فإن المادة؛ ذلك الخطأ الأكبر في الفيزياء الكلاسيكية، وبؤرة الفساد في كل
ميتافيزيقا سابقة، تختفي نهائيًّا من العالم. أما إن ذلك سيُؤدي إلى اختفاء المذهب
المادي بدوره من العالم، فتلك مسألة أخرى لا يُمكن أن يكون الجواب عنها إيجابًا
قاطعًا، نظرًا إلى طريقة معالجة رسل لفكرة الذهن.
ويصل المرء إلى النقطة الحاسمة في فلسفة رسل عندما يُؤدي عبور الهوة بين النفساني
والفيزيائي، أو بين عالم الإدراك الحسي وعالم الفيزياء، إلى عبور الهوة
الميتافيزيقية السحيقة القدم بين المثالية والمادية، وتُسمى النظرية التي تقوم بهذه
المهمة، والتي تتضمَّن أيضًا ميتافيزيقا رسل التي كانت، إلى حدٍّ ما، هزيلة تفتقر
إلى الأصالة، باسم «الواحدية
المحايدة neutral monism» ويظهر مدى ضآلة قدرته التأمُّلية بالقياس إلى قدرة
برادلي وألكسندر وهويتهد إذا أدركنا أنه أخفق في بلوغ موقف ميتافيزيقي خاصٍّ به،
وإنما اكتفى باستخلاص آرائه من الآخَرين، وعرضها على أنها مجرَّد امتداد لتفكيره
السابق. ولقد جاءت الصورة الحديثة لمذهب الواحدية المحايدة، الذي كان رسل ينظر إليه
في البداية نظرة نقدية، وبدأ بعد ذلك ينظر إليه بعين الرضا، ثم قبله أخيرًا قبولًا
تامًّا، جاءت هذه الصورة من العالم الجديد؛ حيث كان يمثله أولًا جيمس وديوس، ثم
تطور فيما بعدُ على يد الواقعيين الجدد الأمريكيِّين، مثل بري Perry وهولت Holt اللذَين خضعا
لتأثير جيمس، وتقول هذه النظرية إن المادة (stuff)
التي يتكوَّن منها العالم ليس ذهنية تمامًا ولا مادية تمامًا (لأنها لو كانت كذلك
لأدَّت إلى مذهبٍ واحدي ذهني أو مادي)، كما أنها لا تنقسم ثنائيًّا إلى ذهن ومادة،
على أساس التقابُل البدائي (ولو كانت كذلك لأدَّت إلى مذهب ثنائي ما). ولكن مادة
(stuff) العالم واحدة في كل الأحوال، ولها
علاقة محايدة بجميع هذه الأضداد (الواحدية المحايدة). ولقد رأينا من قبل أن رسل
لا
ينظر إلى الذهن والمادة على أنهما كيانان واقعيان، بل يعدُّهما مجرَّد تركيبَين
منطقيَّين. وعلى ذلك ينبغي أن ينظر إلى مادة
(stuff) العالم على أنها شيء أسبق من هذين بكثير،
شيء انحدر من سلالته وكأنه جدٌّ مشترك لهما، أو شيء يقع بينهما موقعًا وسطًا،
ويُمكن القول أيضًا: إنَّ الواحدية المحايدة مضادة للواحدية المثالية والطبيعية
معًا، من حيث إنها هي النظرية القائلة: إن الأشياء التي تعدُّ عادة ذهنية أو جسمية
لا تتميَّز فيما بينها بطبيعتها الباطنة، وإنما تتميَّز فقط من حيث ترتيبها
وتكوينها الظاهري. وهكذا تختفي ثنائية الذهن والمادة، ولا يكون هنا إلا مادة
(stuff) واحدة للعالم تكمن من ورائهما، أو
تشتمل عليهما معًا، تُسمَّى إذا ما نظمت تنظيمًا محدَّدًا معينًا بالذهنية، وتُسمى
إذا ما نُظِّمَت تنظيمًا آخر بالمادية، وعند فكرة المادة
(stuff) المحايدة الأصلية هذه تتلاقى كل خطوط
تفكير رسل تقريبًا، وكأنها تتقابَل في نقطة مركزية.
(٣) ألفرد نورث هويتهد Alfred North Whitehead
(وُلد في ١٨٦١م)٣١
كان زميلًا في «ترينتي كوليدج» بكيمبرد من ١٩١١م إلى ١٩١٤م، ومحاضرًا في الرياضة
التطبيقية والميكانيكا في «يونيفرستي كوليدج» (الكلية الجامعية) بلندن من ١٩١٤م
إلى
١٩٢٤م، ثم أستاذًا للرياضة التطبيقية في كلية العلوم والتكنولوجيا
Imperial College of Science and Technology في
لندن، وهو منذ ١٩٢٤م أستاذ للفلسفة في هارفارد.
مؤلفاته: «بحث في علم الجبر
الشامل A Treatise on Universal Algebra»، ١٨٩٨م، «بديهيات هندسة
المساقط The Axioms of Projective Geometry»، ١٩٠٧م، «بديهيات الهندسة
الوصفية The Axioms of Descriptive Geometry»، ١٩٠٧م، «مدخل إلى الرياضة An Intr. to Mathematics»، ١٩٠٨م، «المبادئ الرياضية Principia Mathematics» في ثلاثة مجلدت،
١٩١٠–١٩١٣م (الطبعة الثانية، ١٩٢٥–١٩٢٧م) (بالاشتراك مع رسل)، «تنظيم الفكر The Organization of Thought»، ١٩١٧م،
بحث في مبادئ المعرفة الطبيعية An Enquiry Concerning the Principles of Natural Knowledge، ١٩١٩م (الطبعة الثانية ١٩٢٥م)،
«تصور الطبيعة The Concept of Nature» ١٩٢٠م
(الطبعة الثانية ١٩٢٦م)، «مبادئ النسبية، مع تطبيقها على العلم الفيزيائي Principles of Relativity, with Application to Physical Science» ١٩٢٢م،
«العلم والعالم
الحديث Science and the Modern World»، ١٩٢٦م، «الدين في تكونه Religion in the Making»، ١٩٢٦م، «الرمزية، معناها
وتأثيرها Symbolism; Its Meaning and Effect»، ١٩٢٨م، «العملية والواقع، بحث في
الكونيات Process and Reality: An Essay in Cosmology» ١٩٢٩م (محاضرات جيفورد)، «وظيفة العقل The Function of Reason» ١٩٢٩م، «أهداف التربية ومقالات
أخرى The Aims of Education and Other Essays» ١٩٢٩م، «محاضرات
الأفكار Adventures of Ideas» ١٩٣٣م، «الطبيعة
والحياة Nature and Life» ١٩٣٤م.
انظر دراسة دوروثي إيميت Dorothy M. Emmet عن
هويتهد، بعنوان، «فلسفة الكائن
العضوي عند هويتهد Whitehead’s Phil. of Organism» ١٩٢٩م.
إذا كنا قد انتقلنا مباشرةً من فلسفة رسل إلى فلسفة هويتهد، فما فعلنا ذلك إلا
لسبب خارجي لا داخلي؛ أي لأنَّ اسمَيهما قد ارتبطا ارتباطًا وثيقًا بفضل اشتراكهما
في تأليف كتاب «المبادئ الرياضية»، وهو الكتاب الأساسي في المنطق الرياضي؛ غير أن
شركتهما تنتهي عند هذا الحد، ومنذ ذلك الحين افترق طريقاهما بحيث فصلت بينهما مسافة
واسعة، ولا سيما في ميدان الفلسفة؛ حيث تتبايَن موضوعات اهتمامهما إلى حدٍّ بعيد،
ويزدادان تباعدًا على الدوام. وفي هذا الصدد تقترب آراء هويتهد مع آراء ألكسندر
أكثر مما تقترب من آراء زميله السابق بكثير، ولا تلتقي بهذه الأخيرة إلا في مواضع
قليلة غير هامة … ولو قِسْنا عملهما بمقياس الأهمية الفلسفية؛ لبدا لنا عمل هويتهد
أهم بكثير من عمل رسل، وهو أيضًا يفوق أعمال مُعظم المُفكِّرين الإنجليز الآخَرين
في الوقت الحاضر وفي الماضي القريب، ورغم أن الحكم النهائي ينبغي أن يترك للأجيال
القادمة؛ فمن الممكن القول — حتى في يومنا هذا — أن عددًا قليلًا جدًّا من
المعاصرين هو الذي بلغ مستوى هويتهد الرفيع، ولا يكاد يوجد أحد تجاوزه، وحتى لو
نظرنا إلى فلسفة هويتهد من منظور تاريخي أبعد؛ لظهر لنا بوضوح أنها من أعظم ثمرات
الفكر الإنجليزي، ويمكن أن تقف على قدمِ مُساواة مع المذاهب الكلاسيكية الكبرى
الماضية؛ غير أن المستقبل وحده هو الكفيل بأن يُبين إن كان لهذا الحكم الذي أصدرته
عن قيمتها صحيحًا أم لا، وإن كان من الواجب بالفعل أن ينظر إلى هويتهد على أنه
كلاسيكي جديد في الفلسفة أم لا.
ولقد كان تطور هويتهد العقلي غير عادي، وغريب بالنسبة إلى فيلسوف؛ فهذا التطور
ينقسم إلى ثلاث فترات يُمكن تمييزها بوضوح، ويفرق بينهما خطان فاصلان واضحان، فأحد
هذين الخطين يظهر في طريقته الخارجية في الحياة واستبداله أستاذية الفلسفة بأستاذية
الرياضة، وهو أمر لا يحدث حتى أصبح في الثالثة والستين من عمره. أما الآخر فيتمثَّل
في التغير الذي طرأ على اهتمامه الأساسي؛ فالفترة الأولى رياضية، وهي من الوجهة
الزمنية أطول الفترات، وتمتدُّ حتى العام الستين من عمره؛ ذلك لأن هويتهد هو أولًا
وقبل كل شيء رياضي، وقد أكسبت الرياضة شخصيته طابعها الأساسي، الذي ظلَّ على الدوام
قويًّا حاسمًا، حتى عندما انزوى هذا الطابع في ركنٍ قصيٍّ فيما بعد. ولكن ينبغي
أن
نكتفي في هذا الكتاب بعرض مذهب هويتهد في صورته الفلسفية الخالصة مُنفصلة عن
ارتباطاته الرياضية.
ولقد بلغت الفترة الأولى، التي تتميَّز بسلسلة هامة من الكتب والأبحاث ذات
الأهمية الرياضية الخالصة، بلغَت قمَّتها في كتاب «المبادئ الرياضية» الذي ألَّفه
بالاشتراك مع رسل، وهو كتاب ضخم من حيث التفكير والبحث، بُنِيَ عليه نظام المنطق
الرياضي، وارتكن بفضله على أساسٍ عريض راسخ، ويُعدُّ هذا الكتاب نقطة الانتقال إلى
الفترة التالية، ورغم أن هذه الفترة بدورها، التي تركز فيها اهتمام هويتهد في أحد
العلوم المتخصِّصة، ليست وثيقة الصلة بالفلسفة بمعناها الدقيق، فإنها قربت هويتهد
من الموقف الفلسفي. ولكن هذا الاقتراب لم يحدث بعملية تطور داخلي، وإنما فرضه عليه
شريكه رسل، واقتبسه منه هويتهد اقتباسًا، وكان لا بدَّ أن تأتي قوة دافعة خارجية
أخرى لكي تنتقِل به نهائيًّا إلى مجال الفلسفة تحرُّره من قيود طريقة رسل في
التفكير، ونتجت يقظته من سباته القَطعي، كما اعترف هو ذاته، من التغيُّرات الهائلة
التي طرأت على ميدان الفيزياء الرياضية، والتي أحدثتها بوجهٍ خاصٍّ نظرية النسبية
عند أينشتين، بما فيها من نقد للنظرية التقليدية في المكان والزمان؛ فقد أدرك
هويتهد على التوِّ ضرورة وجود أساسٍ فلسفي للآراء التي أصبحت الفيزياء الجديدة
تُنادي بها، وهو أساس لم يكن من الممكن أن يقدمه العلم الخاص نفسه، فأدَّى به ذلك
إلى الدخول في تلك المناقشة التي احتدمت بعد الحرب العالمية الأولى، حول المعنى
الفلسفي للمعرفة الجديدة التي أمدَّتنا بها نظرية النسبية ونظرية الكم والنظرية
الذرية. ولقد كان النصيب الذي ساهم به هويتهد في فهم الفيزياء الرياضية الحديثة
فهمًا فلسفيًّا صحيحًا، وفي استغلالها في ميدان الفلسفة، يفوق في قمَّته واستقلاله
وأصالته نصيب كل من ساهموا في هذا الموضوع. وهكذا كرست الفترة الثانية من تفكيره
لبناء وإيضاح معالم فلسفية طبيعية نمت بطريقة عضوية تمامًا (لعدم تقيدها بأيَّة
نظرية سابقة) من تربة المعرفة الخاصة المُكتسبة حديثًا، واستخدمت — من بين المعارف
والمناهج الفلسفية الموجودة — تلك التي يُمكن إدماجها بيُسر وبطريقة طبيعية في هيكل
هذه الدراسة. ولقد بدأ عهد اهتمامه بالفيزياء والعلم الطبيعي هذا خلال الحرب الكبرى
الأولى، واشتمل بوجهٍ خاصٍّ على كتاباته في الفترة الواقعة بين عامي ١٩١٩م و١٩٢٢م،
وأولها «بحث في مبادئ المعرفة الطبيعية»، الذي عرض فيه الأفكار الرئيسية بطريقة
منهجية لأول مرة، ثم «تصور الطبيعة» الذي عبر فيه عن الآراء الجديدة تعبيرًا
فلسفيًّا أكمل، وأخيرًا «مبدأ النسبية» الذي نُوقشت فيه النظرية من الناحية
الفيزيائية. وهكذا استطاعت الفلسفة أخيرًا أن تضمَّ هويتهد إلى صفوفها، واستيقظ
فيه
«الحب» الفلسفي، واستطاع منذ ذلك الحين أن يسير في طريقه بلا قيود. وفي الوقت ذاته
فإن الفترة التي ختمت عندئذ قد أمدَّته بكل المقدمات التي استخدمها فيما بعد أساسًا
لكل أعماله اللاحقة في ميدان الفلسفة.
وقد انتقل تفكير هويتهد من الفلسفة الطبيعية — التي ينبغي أن تُفْهَمَ في هذه
المرحلة بالمعنى التجريبي البحت لا بالمعنى التأمُّلي — إلى الميتافيزيقا؛ ففي
الفترة الثالثة من فترات تطوُّره (أو على الأصح، من فترات تكشف مواهبه الروحية
العظيمة) طوى صفحة اتجاهه الفكري السابق، وأخذ في الوقت ذاته يرسم إطار فلسفة
بنَّاءة تكاد تفوق في جرأة التأمُّل وعمق البصيرة واكتمال الرؤية واتساع الثقافة
كل
ما حقَّقته الفلسفة الإنجليزية بأسرها من قبل؛ غير أن هويتهد لا ينتمي إلى ذلك
النمط من «بناة العوالم المتعدِّدة الخيالية»، أو من «الحالمين في مجال الشعور أو
العقل» أو من المتأمِّلين بطريقة جامحة تفتقر إلى الشعور بالمسئولية، أو صنَّاع
المذاهب اعتباطًا، بل إنَّ ميتافيزيقاه تنمو باطراد صارم من الأساس المتين لطريقته
الرياضية في التفكير، ومعرفته بالعلوم الطبيعية، وبصيرته الفلسفية التي اكتسبها
من
قبل، وهي تملأ ذاتها في الوقت نفسه بتلك الذخيرة الكاملة من المعرفة الميتافيزيقية
المُمتدة من أفلاطون وأرسطو إلى برجسون وألكسندر، ولا جدال في أن هذه حالة فريدة
في
تاريخ الفلسفة لباحثٍ اكتسب خبرة في أدقِّ الدراسات (الرياضة والفيزياء)، ثم ارتفع
عندما تقدم به العمر إلى مُستوى بناء مذهب ميتافيزيقي عن العالم ينسجم مع هذه
الدراسات ويتَّخذ منها مقدمات ضرورية له، والواقع أن تفكير هويتهد قد تجاوز حتى
الآن حدوده السابقة إلى حدِّ أنه أصبح ينصبُّ حاليًّا على مشكلات العلم الذهني،
ويعالج مسائل الحضارة وتاريخ الفلسفة والتربية وغيرها.
ويشمل نشاطه التأليفي في هذه الفترة الكتب التي نشرها منذ ١٩٢٦م حتى يومِنا هذا
(١٩٣٤م)، فهناك أولًا كتابه الرائع «العلم والعالم الحديث» الذي يظهر فيه الاتجاه
الجديد لأول مرة، ثم كتابان أصغر حجمًا، مُؤلفان من محاضرات، هما «الدين في تكونه»
و«الرمزية»، ثم أعظم هؤلاء جميعًا، وهو «العلمية والواقع»، وهو أعمق كتب هويتهد
وأصعبها وأغناها وأكثرها تركيزًا، ويحوي هذا الكتاب ميتافيزيقاه أو أبحاثه في
الكونيات، معروضة بطريقة تصورية دقيقة، وبلغة صاغها خصوصًا لهذا الغرض، تتميَّز
بأنها معتمة وغامضة إلى حد بعيد، فهو كتاب عليه أختام سبعة في نظر مُعظم مُعاصريه،
وفي نظر كل قارئ لا يبذل أعظم جهد فكري ويتصبَّب جبينه عرقًا من أجل فهمه. وهناك
أخيرًا تلك الكتب الثلاثة التي ينبغي النظر إليها على أنها إضافة أو تكملة، وهي
«وظيفة العقل» و«مخاطرات الأفكار» و«الطبيعة والحياة»، وهي الكتب التي أكمل فيها
—
من نواح متعدِّدة — تعاليم الكتاب الرئيسي ووسعها، وعلَّق عليها وشرحها بطريقة
موفَّقة. ومن هنا كانت تصلح مفاتيح لكتاب «العملية والواقع»، وإن لم يكن في
استطاعتها فكُّ جميع طلاسم هذا الكتاب التنبؤي.
والسبب الذي يجابه المرء من أجله صعوبة غير مألوفة في فهم آراء هويتهد هو أن كتبه
قد أُلِّفَت بلغة فنية شديدة الصعوبة، تخفي معانيها أكثر مما تكشفها. وفي هذا يختلف
هويتهد عن الغالبية العُظمى من الفلاسفة من مواطنيه، ويقترب من النمط الألماني،
بمُصطلحه الشديد الغموض، الحافل بالألفاظ الفنية، وحتى حيث لا يستخدم هويتهد الرموز
الرياضية، كما في كتبه المتأخِّرة، فإن كتابته تحمل بوضوح طابع التفكير الرياضي؛
فهي ضنينة صارمة جادَّة عملية تمامًا، وتفتقِر إلى كل زخرف بلاغي وكل رشاقة أدبية،
وهي تزخر بكلمات منحوتة حديثة، تكون قائمة مفرداتها الخاصة، التي لا تأبه كثيرًا
للمعاني الشائعة للألفاظ، وهي المعاني التي تغيرها وفق مشيئتها من أجل خدمة
أغراضها. ومن الأسباب الأخرى في صعوبة فهمه، أن ألفاظه معرضة للتغير، حتى خلال
استخدامه الخاص لها، وكثيرًا ما يتغير معناها فجأة من كتاب إلى آخر دون أن يعتقد
المؤلف بضرورة تنبيه القارئ إلى ذلك، فألفاظه تصل إلى معانيها عندما تستخدم بالفعل،
ولما كان تفكيره يسير في حركة دائمة، دون أن يستقر أبدًا بصورة قطعية، فإن أفكاره
بدورها تفتقر في صياغتها اللفظية إلى التعريف المستقر، وتشارك في الحركة التي يندفع
بها فكره قدمًا نحو مواقف تتجدد دوامًا، ومن أوضح الأمثلة على هذا التغير المستمر
للمعاني: لفظ أساسي هو لفظ «الحادث event»، الذي
يَمتلئ كلَّما تقدم تفكير هويتهد بمعانٍ جديدة تتغيَّر في كثير من الأحيان تغيرًا
عظيمًا من كتابٍ إلى آخر. وهكذا تعكس لغة هويتهد عمق أفكاره، وهو عمق لا يُمكن أن
يغوص في أغواره ذهنه هو ذاته إلا بصعوبة، وما أشبهه في ذلك بسحابة رعدية غائمة
يُضيئها من آنٍ لآخر وميضُ برق يجعل خطوطها مرئية. ولكن لا يُوضح ما هو مخبَّأ في
وسطها. وهكذا تبدو لنا فلسفة هويتهد (مثلما تبدو لكل من تناولها من النقاد والشراح)
طلسمًا هائلًا ستعمل أجيال كاملة على حل رموزه؛ لأنه نتاج عبقرية رفيعة، وأصالة
حقيقية وتعمق شديد، ولا بأس من أن يصدر حكم رفيع كهذا عنه حتى من أولئك الذين
يتخذون منه موقعًا قريبًا في الزمان؛ فهو قد أثرى الفكر البشري بآراء جديدة، وأوصله
إلى ارتباط جديد، وبذلك مضى به قُدمًا في طريقه، ونظرًا إلى الصعوبات التي أشرنا
إليها الآن؛ فمن الواجب أن نكتفيَ في العرض الذي سنقدمه فيما يلي بتلخيص موجز وعام
تمامًا لفلسفته، لا نزعم أبدًا أنه يلم بجميع أطرافها أو يتضمَّن أي حكم نهائي
عليها.
وفي وسعنا هنا أن نترك الجانب الرياضي والمنطقي الرياضي من أعمال هويتهد جانبًا؛
لأنه ينتمي إلى المرحلة قبل الفلسفية في تفكيره. أما كتب المرحلة الثانية فهي أولى
الكتب التي كانت لها صلة بالفلسفة. وقد أطلقنا على هذه المرحلة اسم مرحلة الفلسفة
الطبيعية. ولكن لما لم يكن في هذه المرحلة يُعالج الميتافيزيقا التأملية للطبيعة،
فالأفضل تسميتها فلسفة للعلوم الطبيعية؛ ومع ذلك ينبغي أن يلاحظ أن ما سبق ذلك من
فلسفة للطبيعة، وما تلاه من بحث في الكونيات، ليست أبحاثًا مُنفصلة كلٌّ منها عن
الأخرى انفصالًا تامًّا، بل إن هناك روابط متعدِّدة تجمع بين الواحدة والأخرى،
وتحفظ هذين الطورَين في تفكيره. ولقد رأينا من قبل أن أفكار هويتهد الفلسفية قد
انبثقت عن الفيزياء الحديثة. وينبغي أن نضيف إلى ذلك أن هذه الروح مُتغلغلة في جميع
أطوارها وفي كل آرائها الرئيسية. وعلى ذلك فإنَّ العرض الذي نقدمه سيبدأ بالنقد
الذي يوجهه هويتهد على الدوام، من وجهة نظر الفيزياء الجديدة، إلى الفيزياء القديمة
أو الكلاسيكية، وإلى ما نجم عنها من عادات فكرية.
ويوجه نقد هويتهد أولًا إلى تصور المحل
البسيط simple location؛ فعلى هذا التصوُّر تُبْنَى الصورة الميكانيكية للعالم في
القرن الثامن عشر، كما حدَّد معالمها نيوتن، وهي الصورة التي ظلَّت سائدة حتى عهد
قريب، والمقصود بها — في نظر هويتهد — الرأي القائل: إنَّ جزءًا معينًا من المادة
يشغل محلًّا في المكان محددًا بوضوح، بحيث نكون قد قدمنا عنه وصفًا كاملًا إذا
قلنا: إنه يوجد في موضع أو منطقة متناهية محدَّدة من المكان، ويدور خلال فترة
محدَّدة أيضًا من الزمان، وتبعًا لهذا الرأي، يمكن تحديد علاقة جسم مادي معيَّن
بالمكان-الزمان بالاكتفاء بالقول إنه يكون حيث هو، مُستقلًّا عن أيَّة علاقة بأية
مناطق أخرى في المكان أو أية فترات أخرى في الزمان، فهذا الجزء من المادة يظلُّ
مُنعزلًا في موقع من المكان-الزمان، ولا حاجة من أجل تفسيره إلى الإشارة إلى مواقع
أخرى من نظام المكان-الزمان. وقد أوضح هويتهد أننا نكون في هذا الرأي إزاء إطار
فكري تجريدي ومُصطَنع إلى حدٍّ بعيد، لا يناظره أي واقع في التجربة العينية. فلا
يُمكن أبدًا الاهتداء، ضمن العناصر الأولية لتجربتنا للطبيعة، إلى أي عنصر له صفة
المحل البسيط؛ غير أن هذا لا ينقص بأية حال من فضل نيوتن على العلم؛ إذ إن قوة
الفيزياء الكلاسيكية إنما ترتكز على هذا التجريد الشديد ذاته، كما أن التقدُّم غير
المتوقَّع، الذي أحدثته في التفكير العِلمي، إنما يتوقَّف على هذا التجريد، والخطأ
الوحيد في نظام نيوتن يَنحصِر في أنه نظر إلى هذه الأجسام المادية ذات المحل البسيط
على أنها أشياء عينية، مع أن بينها في الواقع وبين هذه الأشياء فارقًا هائلًا.
وهكذا استبدلت المحلات المجرَّدة بالوقائع العينية، وكان لهذا قيمته الكبرى في
ميدان العلم. أما في ميدان الفلسفة فقد كان تأثيره مدمرًا، ويطلق هويتهد على هذا
الخطأ اسم «مُغالطة وضع
العينية في غير موضعها The Fallacy of Misplaced Concreteness»، وهو خطأ شائع بالضرورة عن فكرة المحلِّ
البسيط. وعلى ذلك فإن من أولى مهامِّ الفلسفة نقد هذه التجريدات العلمية. وقد كان
لهويتهد نفسه فضل كبير في هذا المضمار.
وفي سلسلة أخرى من الأفكار الموازية للسلسلة السابقة، ينتهي هويتهد إلى نقد
التجريدات الفلسفية. وهنا يهتدي هويتهد إلى خطأ مُماثل لذلك الذي ذكَرناه الآن،
في
المذهب الحسِّي عند هيوم، والواقع أن اسم هيوم يتكرَّر في كتبه دوامًا، وهو يعدُّ
هذا المفكر الاسكتلندي واحدًا من أعظم العوامل التي أثَّرت في تكوين العقل الحديث.
ولكنَّه يتخذ منه عادة موقفًا نقديًّا. وقد ساهم في زعزعة طريقة التفكير التي
يُمثلها هيوم وفي التغلب عليها بأكثر ممَّا ساهم به نقاده الآخرون العديدون؛ وذلك
لأنَّ نقده لهيوم لا يطبق من الخارج وإنما من الداخل، ولأنه نما من تربة مذهب هيوم
ذاته. وقد بين هويتهد أن «الانطباعات البسيطة» عند هيوم هي تجريدات عقلية، شأنها
شأن الأجسام المادية في الفيزياء، وأوضح أن ما يرى المذهب التجريبي أنه هو
المُكونات العينية النهائية للتجربة، لا يمكن التحقق منه بالتجربة؛ فهو ينزع عن
الإحساسات الخالصة عند هيوم جميع العلاقات المكانية والعلاقات الأخرى بغيرها من
الإحساسات، وحيثما يقوم ارتباط بينها وبين العوامل الباقية في التجربة، فإنَّ هذا
الارتباط يكون خارجيًّا عرضيًّا، صحيح أن الانطباع يُمثل — من الوجهة المنطقية —
أبسط عنصر يُمكن التفكير فيه، في مُعطًى فيزيائي، وإلى هذا الحد يكون هيوم قد قام
بعمل رائع في تكوين التصورات بطريقة مجرَّدة؛ غير أن من الخطأ أن تُعْزَى إلى هذا
الانطباع — الذي نتَج عن التجريد بطريقة شديدة التعقيد — أسبقية فيزيائية، كما فعل
هيوم وخلفاؤه، بل إن من الواجب، على العكس من ذلك، أن يوضع كل مُعطى تجريبي في سياق
تجربتنا العينية كلها، وأن يُدرك مقترنًا بها. فلا مكان في التجربة للإحساس الخالص،
ومن ثم فإنَّ الفلسفة التجريبية — وإن كانت تزعم أنها مبنية على التجربة — هي في
أساسها غير تجريبية، وسوف نرى كيف تُؤدي هذه النتيجة — التي تبدو للوهلة الأولى
سلبية تمامًا — إلى كشف إيجابي رائع.
والهدف التالي الذي يُوجه إليه هويتهد هجومه العنيف على العادات الفكرية البالية
والتجريدات الباطلة، هو مبدأ فكري آخر مُتأصِّل بعمق يُسميه «بنظرية التشعب المزدوج
للطبيعة bifurcation of nature»، ولا
جدال في أنه أحرز هنا نجاحًا هائلًا، وشاع الاعتراف بصحَّة نقده في هذا المجال،
ويرجع أصل مبدأ التشعب المزدوج للطبيعة إلى نظرية المحلِّ البسيط، وهو ينشأ —
تمامًا مثل نظرية الإحساس التي فسَّر بها هيوم الإدراك الحسي — عن الصورة التي
ترسمها الفيزياء الميكانيكية للعالم، ويعني هويتهد بهذا المبدأ النظرية القائلة:
إن
نظام الطبيعة ينبغي ألا ينظر إليه على أنه كل عضوي موحد، وإنما هو يَنقسِم إلى
جزئَين منفصلين لا رابط بينهما؛ أحدهما هو ذلك الذي يُطلعنا الإدراك الحسِّي على
حقيقته، والآخر هو الذي تعدُّ حقيقته سببًا لعالم الإدراك الحسي عندنا؛ ففي إحدى
الحالتين تعد الطبيعة سببًا، أو ما نُسميه بالكيفيات الأولى للطبيعة (الجزيئات
والإلكترونات والذرات والمادة والأثير … إلخ) وفي الحالة الثانية تعدُّ نتيجة، أو
ما نُسميه بالكيفيات الثانية (الألوان، الأصوات، الأحاسيس … إلخ)، ويقف الذهن عند
مُلتقى طريقَي هاتَين الحقيقتَين، بحيث ينظر من خلاله إلى الطبيعة العِلية على أنها
رافد يُصيب فيه، بينما ينظر إلى الطبيعة المدركة حسيًّا على أنها فرع ينبع عنه.
ومن
هنا ينشأ التشعُّب المزدوَج إلى حقيقة ظاهرة وحقيقة غير ظاهرة، إحداهما تحل في
الذهن أو الوعي، بينما تستمرُّ الأخرى في وجودها المُنفصل الكامن في عالم يعلو على
الوعي؛ وبعبارة أخرى: فنظرية التشعُّب المزدوج تقسم الوجود الكُلي إلى حقيقة لا
تظهر وإلى مظاهر غير حقيقية، ومقابل ذلك يرى هويتهد أن الطبيعة العِلية وهم
ميتافيزيقي، وأن الطبيعة الظاهرة تجريد مُصطنع، ويقول — بدلًا من هذا التشعُّب
المزدوج — بنسق واحد من العلاقات المترابطة التي تجمع — دون تمييز — بين الكيفيات
الأولى والثانية، والجزيئات والأحاسيس Feelings.
وليس من مهمَّة الفلسفة أن تبحث في عِلة الأشياء المعروفة، بل يكفيها أن تحدِّد
صفاتها؛ وبالتالي صفات الطبيعة الظاهرة، وعلى ذلك فمن المُمكن حذف الصفة الأخيرة،
وهي صفة «الظاهرة»، ما دامت هناك طبيعة واحدة فقط، هي التي تُعطي لنا في الإدراك
الحسي؛ فمن الإدراك الحسي تبدأ نظرية هويتهد الجديدة، وفيه تظل مُنحصِرة حتى
النهاية؛ ذلك لأنَّ معرفة الحقيقة واحدة، ابتداءً من أبسط الإحساسات حتى أعلى
الفروض العِلمية. وهذه الأخيرة مبنية على معطيات الإدراك الحسي، وكل ما يدرك حسيًّا
يوجد داخل حدود الطبيعة، فمهمة الفلسفة هي البحث في ترابط الأشياء بقدر ما تُدرك
حسيًّا. وليس ثمة أشياء أخرى سوى تلك التي نُصادفها في المعرفة الإدراكية الحسية،
وواضح أن نقطة بداية هويتهد قريبة الصلة جدًّا من الموقف الظاهري phenomenalist عند باركلي وهيوم ومُعظَم التجريبيِّين، وأن
اعتماده على الإحساس feeling مماثل لقول هيوم
بارتكاز جميع مُعطيات المعرفة وتركيبها على الانطباعات (على الرغم من اختلاف الدور
الذي يلعبُه العامل الأساسي في كل حالة).
ومن المُهم أن نوضح بقدر الإمكان موقف هويتهد في مرحلة الفلسفة الطبيعية. فهذه
المرحلة لا تتضمَّن بعد مناقشة لأية مسائل ميتافيزيقية، وهي لا تبحث في مسألة ما
هو
في الذهن وما هو في الطبيعة، ولا تبحث في العلاقة النفسانية، أو غيرها من العلاقات
القائمة بين الذات والموضوع، ولا في مركزها في عالم الواقع، وإنما تكتفي بمُحاولة
عرض مختلف أنواع العلاقات والارتباطات السائدة بين الكيانات التي ندركها على أنها
موجودة بوصفها أمرًا واقعًا في الطبيعة؛ فالألوان والأصوات وآلام الضرس تقف — من
حيث طابعها الواقعي — على قدم المساواة مع الجزيئات والأمواج الكهربية، وكلها لا
تُعْطَى لنا إلا بالإدراك الحسي، وإلى هذا الحد تكون موجودة — بصفة مُتساوية — «في
الطبيعة»، أو كما يقول هويتهد في تعبير مجازي: «كل ما نعرفه عن الطبيعة موجود في
نفس القارب، بحيث يغرق كله أو يطفو سويًّا.»
٣٢ وهكذا يرفض هويتهد ما يُسمَّى بنظرية الإضافات النفسية، وهي فرع أقل
أصالة لنظرية التشعب المزدوج؛ أي إنه يرفض إدراك الذهن في فلسفة الطبيعة بوصفه
عاملًا يغير طابع المعطيات المدركة حسيًّا بإضافات ذاتية. فليسَت للذهن (أو الذات
أو الوعي) أية أسبقية على الكيانات الأخرى؛ وعلى هذا الأساس يرى هويتهد في مذهبِه
قلبًا لأوضاع المذهب الكَانْتِي، وهو يرى في تمييز كانْت بين المظهر والشيء في
ذاتِه مثلًا بارزًا لفرض التشعُّب المُزدوج، كما يرى في مذهب كانت القائل بأن الذهن
هو المشرع للطبيعة، أنموذجًا واضحًا لخطأ الإضافة النفسية؛ فالعالم في نظر كانت
يَنبثِق عن الذات،
٣٣ أما في نظر هويتهد فإن الذات هي التي تنبثق عن العالم (ومن هنا استخدم
لفظ
superject بدلًا من لفظ
subject)،
٣٤ فالذِّهن يرتفع بنفسه من وسط العالم المُعطى له، ويشيد تصوراته الخاصة
بالتدريج، وفقًا للعلاقات التي يجدها فيه. وهكذا يتَّخذ هويتهد، من حيث هو فيلسوف
طبيعي (ولهذه الكلمة في هذا السياق معنى يعادل تقريبًا معنى الباحث في نظرية
المعرفة) وجهة نظر واقعية طبيعية
naturalistic
واضحة، رغم أن هذا لا يؤثر مقدمًا على الإطلاق في موقفه المُقبل عندما يُصبح
ميتافيزيقيًّا. وفضلًا عن ذلك فإن هويتهد يمثل مركبًا غريبًا، لا يكاد يكون له
نظير، بين الواقعية والظاهرية
Phenomenolism؛ إذ
يضفي طابعًا موضوعيًّا على مبدأ الظاهرية
Phenomenality أو الكمون
الإدراكي
perceptual immanence، وينزع عنه المعنى الذاتي الذي يُنْسَب إليه عادة،
فمذهبه لا يكون ذاتيًّا إلا بقدر ما يمتنع عن أن يدرج في المذهب الفلسفي أي شيء
لا
يكون حاضرًا بوصفه عاملًا في التجربة الذاتية (وهنا أيضًا يتَّفق مع هيوم)، ويُسمي
هويتهد هذا الموقف، جريًا على عادته في استخدام المصطلحات الفلسفية بطريقة خاصة
به،
بالموقف الأنتولوجي، ويُلخِّصه بالتعبير الآتي: «إلى جانب تجارب الذوات لا يوجد
شيء، لا شيء، لا شيء، مجرَّد عدم محض»،
٣٥ ويُمكننا الآن أن نفهم ما يقصده هويتهد عندما يضع مقابل نقد العقل
الخالص نقدًا للإحساس
feeling الخالص؛ أي نقدًا
للإحساس بالمعنى الذي يكون فيه هو العامل الأساسي في الانطباعات من حيث هي نقطة
بداية كل معرفة لنا بالطبيعة.
وفي فلسفة هويتهد الطبيعية تتشابك النزعتان؛ الذاتية والموضوعية بطريقة غريبة
حقًّا. فهذه الفلسفة تبدأ من الإدراك الحسِّي؛ وبالتالي من تجربة حسية. ولكنها مع
ذلك تحرص على استبعاد كل ما هو ذاتيٌّ من مجالها؛ فالذِّهن داخل في الفلسفة
الطبيعية وخارج عنها في آنٍ واحد. إن جاز هذا التعبير. وفي هذا تختلف الفلسفة
الطبيعية أساسًا عن الميتافيزيقا، التي لا يخرج عنها الذهن على النحو السابق. وهكذا
تَفترق الدراستان كل عن الأخرى بوضوح. وقد عبر هويتهد عن هذا بقوله: إنَّ الفلسفة
الطبيعية تقتصر على البحث في المدرك حسيًّا، على حين تشتمل الميتافيزيقا على بحث
المدرك والمدرك معًا. وهكذا تتولى هذه الأخيرة مهمة البحث في مشكلات الذهن التي
ليس
لها مكان في الفلسفة الطبيعية، وربما أحسَّ المرء هنا بالميل إلى اتهام هويتهد
بتشعُّب مُزدوج من ذلك النوع الذي اتهم به غيره من المُفكرين، وذلك في القضية التي
أصبحت منذ ذلك الحين مشهورة، والقائلة: إن الطبيعة تغلق أبوابها في وجه الذهن، أو
حسب تعبير هويتهد. إن الطبيعة محتوية على ذاتها أو مُكتفية بذاتها تمامًا؛ غير أنه
لا يقدم إلينا ردًّا شافيًا على السؤال عن الطريقة التي يتسنَّى بها للفلسفة
الطبيعية أن تقطع جميع علاقاتها بالذهن، في الوقت الذي تتحكَّم فيه الذات المُدركة
في كل معرفة لها؛ ذلك لأنَّ تصور «الحادث
المدرك percipient event»، الذي يضعه محل المبدأ الذاتي، إنما ينطوي على تسلَّل، من
الباب الخلفي، للذهن الذي سبق استبعاده. وهكذا تخفق كل الجهود التي بذلها لإدماج
هذا العامل — الذي يُسمِّيه أيضًا، على نحو له دلالته، باسم «الموضوع المدرك percipient object» — في نظام الطبيعة؛
وبالتالي لصبغه بصبغة موضوعية، وسبب الإخفاق هو أن الذاتي لا يُمكن أن يتحوَّل إلى
موضوعٍ بحيلة من حِيَل «خفة اليد» الفلسفية. وهكذا يعجز هويتهد إزاء نظريته هو،
عن
المضيِّ بطريقة متَّسقة في عملية استبعاد الذهن، وكثيرًا ما يقع في خطأ التفكير
بطريقة «مُتغايرة»، بدلًا من أن يُواظب على طريق التفكير «المُتجانسة» التي دعا
إليها.
ولنَعُد إلى بعض الأفكار الرئيسية في فلسفة الطبيعة عند هويتهد؛ فقد بيَّنَّا من
قبل أن المستحيل قبول تلك النظرة إلى الطبيعة على أنها مجرَّد حشد من الكيانات التي
يستقل كل منها عن الآخر ويستطيع أن يقف بمعزل عنه، فمثل هذا النظام لو حدث لكان
عارضًا تمامًا، وبمُقتضاه يمكن وجود مكانٍ بلا زمان، وزمان بلا مكان، ورغم القول
بوجود علاقات تربط بين المكان والمادة، فإنَّ هذه النظرة تحرص على فصل الزمان
عنهما، على أن كل شيء يتوقَّف على النظر إلى تلك العناصر والعوامل، التي فصلت بعضها
عن البعض على هذا النحو، على أنها أجزاء متَّحدة اتحادًا باطنًا داخل كل شامل لها،
هو عالم الطبيعة. وهكذا لا يمكن أن يوجد في الطبيعة شيء موجود بذاته، أو شيء يُمكن
أن يكون على ما هو عليه، إلا من حيث هو جزء من تركيب الطبيعة الكلية. فلا يُمكن
أن
يوجد مكان بلا زمان، أو زمان بلا بمكان، مثلما يستحيل وجود المكان-الزمان دون مادة
أو جوهر يملؤه. فلا بد أن يشتمل كل كيان طبيعي على هذه العوامل كلها مجتمعة، ولا
يُمكن أن تكون العلاقات بينها خارجية فحسب، بل يجب أن يتغلغل كلٌّ منها في الآخر
تغلغلًا باطنًا. وهنا ينبغي أن نتساءل عن تركيب مثل هذا الكيان، ولا سيما تركيب
العوامل الأساسية النهائية لعالم الواقع، والجواب عند هويتهد هو أنَّ الطبيعة
تتألَّف من شبكة أو نسيج من «الحوادث evnts»، هذا
هو اللفظ الذي يستخدمه بدلًا من تصور الجوهر أو المادة القديمة، بحيث يطرأ على
الأخير تحوُّل أساسي، أو يُلقي به عرض الحائط تمامًا، فتصور «الحادث» هو أساس
الفلسفة الطبيعية ومحورها، وهو الذي يتحكَّم في كل ما عداه ويوضحه. ولقد سبق أن
استخدم آخرون هذا التصور بمعنى زاخر فلسفيًّا؛ غير أن هويتهد كان أول من جعل له
مكانة مركزية، وأضفى عليه دلالة جديدة، بوصفه واحدًا من أهمِّ وأنجح الأفكار في
النظرة الجديدة إلى العالم الفيزيائي. ولكني أودُّ في العرض الذي سأُقدمه فيما يلي
أن أطرح هذا جانبًا، لكي أوضح المكانة التي يعزوها إليه في معناه الفلسفي الخالص،
بوصفه النقطة المركزية لعرضِه الفلسفي.
إنَّ الحادث — كما يُشاع فهمه — هو كل ما يقع أو يحدث، وهو بهذا الوصف أمر واقع
أو أمر فِعلي؛ أي إنه ما يكونه هنا والآن، ولا شيء غير ذلك، وهو يحدث في مكانٍ ما،
وفي وقتٍ ما، وبالتالي فهو ليس زمانيًّا فحسب، كما يُفْهَم عادةً. وكما كان يفهمه
هويتهد ذاته في الأصل، وإنما هو مكاني أيضًا، فله امتدادٌ مكاني، وامتداد زماني
أو
مدة زمانية أيضًا، ومكانيته وزمانيته لا يواجهاننا كأنهما عاملان مُنفصلان، بل
يُواجهاننا متشابكين. وإذن فتسميَتُنا له بأنه وحدة مكانية زمانية أفضل من
تَسميتِنا له بأنه وحدة مكانية وزمانية، والحادث هو أكثر الكيانات المتناهية عينية،
وهو مُنطوٍ على ذاته، مُميَّز عن غيره من الحوادث؛ أي إن له طابع الانفصال المطلق،
٣٦ ولكن هذا لا يعني أنه مُنعزل عن أمثاله أو يرتبط بهم ارتباطًا خارجيًّا
فحسب (كالأجسام المادية في الفيزياء القديمة، وكالانطباعات عند هيوم)، وإنما هو
يرتبط أوثق الارتباط بجميع الحوادث الأخرى، وبالكون كله في النهاية. ولقد عبر
هويتهد عن هذا المبدأ، مبدأ الاهتداء إلى مكان لأصغر الحوادث وأقلها أهمية في
المجموع الكلي للأشياء، كما عبَّر عن هذا الارتباط المتبادَل بين جميع الأشياء التي
تحدث في العالم، تعبيرًا رياضيًّا اتخذ صورة غاية في الدقَّة والإحكام الرياضي،
فقال: إنه هو مقولة «الامتداد» الأساسية. فكل حادث يمتدُّ عبر الحوادث الأخرى
المتضمنة فيه بوصفها أجزاءً له، وهو ذاته مُتضمن بوصفه جزءًا من حوادث أخرى تمتد
عبره. مثال ذلك: إن مسيرة عربة يجرها حصان في شارع، هي جزء من الحياة الكاملة لهذا
الشارع، وحياة الشارع تمتدُّ عبر رحلة العربة، وبالمِثل فإنَّ دوَران العجَلة في
هذه العربة هو جزء من الحادث الذي تُكوِّنه مسيرة العربة، والذي يمتدُّ عبر دوَران
العجلة؛ غير أن نفس العلاقة تسري على الموضوعات الثابتة التي لا تبدي حركة ولا
تغيرًا، ويُطلق هويتهد على هذه أيضًا اسم «الحوادث»، مخالفًا بذلك الاستخدام
الشائع. ومن الأهمية بمكان أنه ينظر إليها، لا على أنها ممتدَّة مكانيًّا فحسب،
بل
على أنها أجسام تمتد خلال مدة زمانية محدَّدة؛ أي على أنها حوادث. مثال ذلك: إن
الوجود المستمر لبيت يمتدُّ عبر وجود حجر من أحجار البيت، كما أن وجود البيت خلال
عام يمتدُّ عبر وجوده لمدة يوم واحد، ووجوده لمدة يوم يمتدُّ عبر وجودِه لمدة ثانية
واحدة. وإذن فطبيعة الحادث تتحدَّد بصفه «الامتداد عبر» هذه، والحوادث بتجاوز بعضها
بعضًا ويتداخل فيه. وهذه العلاقة الأساسية التي تسري على الحوادث يُمكن أن ينظر
إليها على أنها تمتدُّ إلى ما لا نهاية في كلا الاتجاهين. فكل حادث مُتضمن في غيره
له — مهما قل امتداده — القُدرة على أن يمتدَّ عبر غيره. وفضلًا عن ذلك. فكل حادث
تُضمن فيه حوادثُ أخرى، مهما كان من عِظَم امتداده، يدخل بدوره ضمن حوادث أخرى،
ويكون مُتضمنًا فيها. فليس لهذه القُدرة على «الامتداد عبر» حدود، وهي تسير قدمًا
في كلا الاتجاهَين إلى ما لا نهاية. وهذا هو مبدأ العلاقة المتصلة للامتداد.
ولتصوُّر الامتداد، مثل تصور الحادث، أهمية عُظمى في فلسفة هويتهد، كما أن له
علاقة بالميتافيزيقا (وإن يكن تصور العملية
process يستبدل به في الميتافيزيقا فيما بعد)؛ ذلك لأنه هو مصدر
الوحدة والاتصال في الطبيعة، والتداخُل بين أجزائها، كما أنه أكثر أصالة من المكان
والزمان، اللذَين يفترضان الامتداد مقدمًا؛ فالامتداد بما هو كذلك، هو أساس
الامتداد المكاني والزماني معًا، وهو بالتالي ليس مكانيًّا ولا زمانيًّا؛ فهو
العلاقة بين الحوادث، وما المكان والزمان إلا تعبيران جزئيان خاصَّان عنه. وقد
اصطنع هويتهد لدراسة علاقة المكان والمشكلات المتصلة به أدق دراسة ممكنة، منهجًا
غاية في الصعوبة والتعقيد، أسماه منهج التجريد الامتدادي
method of extensive abstraction،
٣٧ ويُذكرنا هذا المنهج، في نواحٍ كثيرة، بمبدأ التناظر المحدَّد
determining corres pondence عند
ماكتجارت، هذا المنهج — الذي يستخدم لغة الرياضة والمنطق الرياضي، والذي لا يُمكن
أن يفهمه غير المتخصِّصين في الرياضة فهمًا مباشرًا — يلقى تقديرًا كبيرًا من
الخبراء في هذا الموضوع، ويعدُّ ذا أهمية كبرى بالنسبة إلى فلسفة الطبيعة الجديدة،
فبرود
Broad يرى فيه «مقدمة لكل ميتافيزيقا
مُقبلة في الطبيعة»،
٣٨ وهو يُحدِّد الغرض منه بأنه يفيد في «سد الثغرات بين وقائع الحسِّ
الخَشِنة والتصورات الدقيقة للفيزياء الرياضية»،
٣٩ والواقع أن فلسفة هويتهد مزيج غريب من الإدراك العيني والتصور العقلي
الرياضي الفيزيائي (أو الرياضي المنطقي)، فهنا نجد أقوى تشابُك بين الرياضة
والإدراك الحسِّي. ومن الواضح أن هويتهد يرى أن العلاقات الرياضية تتكشَّف مباشرةً
في الإدراك الحسي، ويُمكن أن تستخلص منه، فهنا تُصبح للرياضة وظيفة الوسيط بين
معطيات الإدراك الحسي وبين التصورات الدقيقة للفيزياء، بوصفها حليفة للمذهب
التجريبي الجذري الذي مثَّله هيوم حين اشترط إثبات مشروعية كل ما هو تصوري مجرَّد
بردِّه إلى أصله في الانطباعات. وهكذا يمكن أن يقال: إن قدرة هويتهد على الإدراك
الحسِّي قد ازدادت كثيرًا بفضل معرفته الرياضية وقدرته على التفكير في علاقات
رياضية دقيقة. ولكنَّا ما زلنا غير موقنين إن كان من المُمكن جمع طرق التفكير
المُتغايرة هذه سويًّا في تعاون مُثمِر، أم إنَّ الفيلسوف يستسلم لوهمٍ من الأوهام
حين يعتقد أن في وسعه القيام بذلك؛ ومع ذلك فليس في وسعنا أن نقضي مزيدًا من الوقت
في بحث تلك المسائل الشديدة التخصُّص، التي ترتبط بمشكلة التجريد الامتدادي، وكل
ما
نريده هو أن نلفت الأنظار إلى هذه السِّمة الأساسية في فلسفة هويتهد.
٤٠
ولنَعُد إلى فكرة الحوادث؛ فقد رأينا أن الحوادث كيانات مكانية-زمانية؛ غير أن
هذا لا يعني أنها تُوجد في زمان معيَّن ومكان محدَّد، ويكون قوامها تغيرات في مادة
باقية معينة، فهذا الرأي يطرأ عليه تحول كامل، ولا يعود المكان والزمان إلا علاقات
بين حوادث متَّصلة الامتداد، وعنصرين مصاحبين للحوادث، لا عنصرَين يكونان ماهيتها.
وعلى ذلك فمن الخطأ القول إن الطبيعة تكون في المكان والزمان، بل إن العكس هو
الصحيح؛ أي إن المكان والزمان في الطبيعة، وكلاهما لا يوجد إلا لأنَّ الأشياء تحدث.
وهذه الأشياء الحادثة هي الأصيلة، وهي التي تُكون الطبيعة، وللحوادث صفة أخرى
تتعلَّق بطريقتها في الوجود، هي أنها لا تسكن أبدًا، بل تتحرَّك دائمًا إلى الأمام،
وتمر أمامنا بقدر معين. ولكنها لا تتغير بالمعنى الصحيح، وهي إنما تتغير فقط في
علاقاتها بالحوادث المُقبلة، التي تستوعب فيها هذه، ولا تتغيَّر في ماهيتها، ويُسمي
هويتهد هذا التغير بالتحول passage. وهكذا فإن
الحوادث تتحوَّل إلى حوادث أخرى أو تفنى فيها، ولكنها لا يُمكن أن تتغيَّر، فإما
أن
تكون على ما هي عليه، وإما أن تكف عن الوجود، وهي ليست دائمة، وإنما هي في حركة
أو
صيرورة دائمة؛ وبالتالي فإن العالم ليس راسخًا؛ فهو لا يظلُّ ثابتًا، وإنما يسير
في
حركة مُستمرة إلى الأمام، ويطلق هويتهد على هذه الصفة اسم «التقدم الخلاق»؛ إذ لا
تتكرَّر أية حالة في العالم أبدًا، وإنما تنبثق على الدوام، من قلب الطبيعة،
إمكانات جديدة.
وعلى هذا النحو تستبق الميتافيزيقا، التي تتغلغل على نحو ملحوظ في الفلسفة
الطبيعية ذاتها بفضل فكرة التقدم الخلاق للطبيعة. ولكن ينبغي أن نلاحظ أولًا وجود
تصور هام يُقابل الحادث. فنحن نشعر في الإدراك الحسِّي بمقولة ثانية إلى جانب
الحوادث هي الموضوعات. وهذا يعني أن كلتا المقولتَين ضرورية لتكوين الطبيعة؛ غير
أن
الوعي بالموضوعات يختلف عن الوعي بالحوادث، ويُسمِّيه هويتهد «بالتعرف recognition»، على حين أننا ندرك الحوادث مباشرةً
في فعل التجربة الإدراكية. وإذن فمن المستحيل التعرف على حادث؛ لأنَّ تحوله الدائم
يجعل من المحال عليه أن يعود ثانية، وما التعرف إلا شعور بهوية. وهكذا لا نستطيع
أن
نتعرَّف إلا على تلك العناصر التي لا تكتفي بأن تمرَّ بنا وتختفي، وإنما ترجع؛ أي
تستطيع دخول الإدراك الحسِّي ثانية بحيث تكون في هوية مع حالتها الأولى. ولكن ينبغي
أن نُلاحظ أن التعرف الحسي المباشر ليس إلا حالة هوية، وأن العمليات العقلية
(كالمقارنة والحكم … إلخ) تتدخَّل في كل تعرف فعلي.
وعلى ذلك فالموضوعات عوامل دائمة في الطبيعة، وهي بذلك مضادَّة للحوادث التي
تختلف عنها اختلافًا دائمًا. ولكن لكلٍّ منها علاقة بالأخرى. فليس في وسعنا أن ننظر
إلى الطبيعة العينية على أنها مجرَّد حوادث عابرة دون موضوعات، ولا على أنها مجرَّد
مجموعة من الموضوعات التي لا تتَّصل بحوادث، وكل من هذين الفرضين ليس إلا تجريدًا
غير مقبول، ويُسمي هويتهد علاقة الموضوعات بالحوادث باسم «التداخل ingression». وهناك أنواع مختلفة من التداخل تناظر
الأنواع المختلفة من الموضوعات، ولا يلزم أن تكون الموضوعات مختلفة بعضها عن البعض،
كما هي الحال في الحوادث، وإنما يُمكن أن تظهر من جديد، بوصفها نفس الموضوع، في
مواقع مختلفة من الزمان والمكان؛ غير أنها يُمكن أن تتغير دون أن يتعرَّض دوامها
للخطر، وهي في هذا تختلف عن الحوادث، وهي لا تدخل في علاقة إلا مع حوادث عابرة،
ويستتبع دوام الموضوعات أيضًا، وقوفها خارج المكان والزمان بأدقِّ معاني الكلمة.
فلا يُمكن القول إنها تنتمي إلى المكان-الزمان إلا بمعنى غير مُباشر أو مشتق بفضل
علاقاتها بالحوادث. وهذا يعني أنها تفتقر إلى الصفة الأساسية للحوادث وهي الامتداد؛
فالامتداد علاقة لا تقوم إلا بين حادثَين. ولكنها لا تنطبق على الموضوعات. فلا
يُمكن القول إذن إن الموضوعات تتألف من أجزاء؛ إذ لو كان الأمر كذلك لتمكَّنت
كالحوادث من الامتداد عبر موضوعات أخرى، وهو ما يستحيل عليها بحكم ماهيتها. وفضلًا
عن ذلك فإن ماهية الموضوع لا تتوقَّف على علاقاته، فهذه قد تختلف دون أن تؤثر
جديًّا في الهوية الذاتية للموضوع. أما بالنسبة إلى الحادث فإن علاقاته أساسية،
وهي
تنبثق من باطنه. إن جاز هذا التعبير؛ فالحادث لا يكون إلا كما يدخل في علاقات،
وبغير هذه العلاقات لا يكون شيئًا.
ومن الملاحظ أن التفكير العادي لا يقوم بتَفرقة بين هذين الكيانين الأساسيين في
الوجود الطبيعي، أو هو يُفرق بينهما على نحو يفتقر تمامًا إلى الوضوح؛ غير أن من
المُمكن — حتى بالنسبة إلى ذهن الشخص العادي — أن يفهم هذا التمييز؛ فالموضوع
الخارجي الذي يدخل مجالَنا البصري يكون أولًا تلك التجربة المنتمية إلى حاضره
المباشر، والتي حدثت مرة ولن تتكرَّر أبدًا. ولكنه أيضًا ذلك الشيء الذي يتَّصف
بالهوية الذاتية، والذي كان يُمكننا تكراره على الدوام في تجربة إدراكية ورؤيته
على
أنه هو ذاته ما تمثل لنا في التجربة السابقة (على الرغم من تغيُّره بدرجات
مُتفاوتة)، فبقدر ما يجرب الموضوع يكون هو الحادث الذي يختلف في كل فعل جديد من
أفعال التجربة؛ إذ إن الطبيعة تكون في هذه الأثناء قد سارت قدمًا وانتقلت إلى
علاقات مكانية زمانية مغايرة. أما الشيء الماثل أمامنا، بقدر ما يتكشَّف في التجربة
الجديدة على أنه في هوية مع نفسه، ويعود من جديد بهذا الوصف فهو الموضوع. وعلى ذلك
فمِن المُمكن أن تعود الموضوعات من جديد في كل المناسبات المُمكنة، وفي هذا يكون
بقاؤها؛ غير أن هذا ينبغي ألا يفهم على أنه ديمومة زمنية؛ إذ إنَّ الموضوعات لا
تربطها بالزمان (أو بالمكان-الزمان) علاقة مباشرة.
وعلى أية حال. فليس من السهل أن يكون المرء فكرة واضحة عن تصوُّر الموضوع عند
هويتهد؛ ذلك لأنَّ انتزاعه من الموضوع صفة الامتداد؛ وبالتالي القُدرة على
الانقسام، أي نفس تلك الصفة التي اعترف — منذ عهد ديكارت في فكرته عن الشيء المُمتد res extensa — بأنها تنتمي إلى ماهية كل
واقع طبيعي، قد جعل الموضوع غير واقعي إلى حدٍّ يصعب معه الجمع بينه وبين فكرة
الموجود الطبيعي. ومِن هنا كان من الصحيح ما لاحظه البعض (انظر «وند Wind» المقال المشار إليه من قبل، ص٢٥٣) من أنه كان
الأفضل كثيرًا لو سمح لنا بتفسير فكرة الموضوع عند هويتهد من وجهة نظر التصور
الكلي. وفي هذه الحالة تختفي على الفور سلسلة من الصعوبات، والواقع أن هويتهد نفسه
قد فضل هذا التفسير بطرقٍ شتى في كتاباته الميتافيزيقية. فلا جدال في أنَّ ما أسماه
فيما بعدُ «بالموضوع الأزلي» يقترب كل الاقتراب — كما سنرى فيما بعد — مما يُفْهَم
عادةً من المثال الأفلاطوني؛ غير أنَّ من الواجب رفض هذا التفسير هنا — في مجال
الفلسفة الطبيعية — بوصفه مُضادًّا لمعنى هويتهد؛ إذ إنه يعني بالموضوعات هنا أشياء
عينية موجودة واقعيًّا (أو طبيعيًّا)، أشياء تُعْطَى في التجربة وتحقق في حوادث،
ولا يمكن أن يقوم في هذا الصدد أي لبس إذا اختبرنا عن كثب أنواع الموضوعات التي
يميزها بعضها عن البعض.
فمن المُمكن تقسيم الموضوعات إلى ثلاث فئات رئيسية: (١) موضوعات الحس. (٢)
الموضوعات الإدراكية. (٣) الموضوعات العِلمية. فالأولى هي المعطيات الحسية البسيطة،
كالألوان والأصوات والروائح والإحساسات اللمسية والبقعة اللونية الزرقاء، والشيء
المرتفع الصوت … إلخ. وهذه تناظر إلى حدٍّ ما فكرة الانطباعات عند هيوم. وقد كان
هويتهد يعني بها — مثل هيوم — العوامل الأساسية لعالم الأشياء الخارجي، والهيولى
أو
الأساس الأول لمعرفتنا بالطبيعة، وعليها يرتكز كيان المعرفة الطبيعية بأسره؛ فهي
أساس البناء بأكمله، أو هي الأحجار التي يُمكن أن يشيد بها هذا البناء في أي
وقت.
وعلى حين أن من المُمكن الجمع بين موضوعات الحسِّ وبين نظرية هويتهد في الموضوعات
بسهولة نسبية، فإنَّ الموضوعات الإدراكية تُثير مصاعب أكبر، ويعني هويتهد بهذا
اللفظ الموضوعات المُعتادة للحياة اليومية كما تُعطى لنا في الإدراك الحسي،
كالمناضد والكراسي والأشجار والجبال، وهي نتيجة التجربة المألوفة أو الجمع المألوف
بين موضوعات حسية محددة في موقف محدَّد، وهو يميز بين فئتين؛ موضوعات الإدراك
الوهمية، وموضوعات الإدراك غير الوهمية أو الفيزيائية، والأخيرة تجد لها تبريرًا
عمليًّا أكثر منه نظريًّا؛ ذلك لأنها هي الموضوعات التي نستخدمها يوميًّا، وهي بهذا
الوصف نافعة مُفيدة للحياة. أما من الناحية النظرية؛ فهي أقل من ذلك إقناعًا؛ إذ
إن
حدودها غامضة أكثر مما ينبغي، وهويتها في مُعظم الأحيان غير محدَّدة، مختلطة. ومن
المحال أن يظلَّ النقد الفلسفي مُكتفيًا بهذه الأشكال غير النقية المختلطة؛ فهو
عندما يوجه إليها بتركيز، يجدها تنزلق من بين أيدينا، وتنحلُّ إما إلى معطيات حسية
خالصة، وإما إلى موضوعات للتفكير العلمي الدقيق، والأهم من ذلك أن التمييز بين
الموضوع والحادث يختفي فيها؛ لأنَّ فيها صفات لا تنتمي إلا إلى الحوادث، فطالما
أننا نضعها نصب أعيننا، فإنا لا نستطيع القيام بهذا التمييز، بطريقة دقيقة منظمة؛
فهي مختلطة منطقيًّا. ولكنها حاضرة واقعيًّا؛ لأنها مُعطاة في الإدراك الحسِّي ولا
غناء عنها للحياة العملية. وهكذا تقف نظرية هويتهد — عند هذه النقطة — حائرة أمام
إشكال خطير يدلُّ على وجود مصدر للخطأ، فإما أن يكون تصور الموضوع باطلًا، وإما
على
الأقل أضيق ممَّا ينبغي؛ لأن هذه الفئة الهامة لا يُمكن إنكارها عمليًّا — من
الموضوعات — لا تجد فيه مكانًا، أو أن هذه الموضوعات ليسَت موضوعات حقيقية؛ لأنها
تتعارض مع هذا التصور، وربما كان الخطأ أعمق حتى من هذا كله؛ أي إنه ربما كان يكمن
في التمييز الأساسي بين الموضوع والحادث.
٤١
أما في الفئة الثالثة، وهي الموضوعات العلمية، فإن نظريته تسلك سبيلًا أيسر. فهذه
الموضوعات هي الذرات والجزيئات والإلكترونات … إلخ، وهي موضوعات الفيزياء التي لا
تُدْرَك مباشرةً، وإنما يستدلُّ عليها بفضل قدرتها على التعبير عن الطابع العلي
للحوادث، ولكل موضوع عِلمي علاقة خاصة بكل حادث في الطبيعة؛ فهو يُعبر عن طابع
الموضوع — كما يقول به هويتهد — تعبيرًا خالصًا صادقًا؛ إذ إنَّ من الواضح أن
الإلكترون — مثلًا — ليس له أجزاء ولا امتداد، وإن يكن يحدثهما معًا عندما يدخل
في
حادث. وعلى أية حال فإن هويتهد، عندما يقول بأن للتركيبات العلمية التصوُّرية
وجودًا في طبيعة الأشياء يُماثل وجود الموضوعات الأخرى، يبتعد عن النظرية (التي
قال
بها بيرسن وماخ
٤٢ وبوانكاريه
٤٣ وغيرهم) القائلة بوجوب تفسير هذه التركيبات على أنها تعبيرات اختزالية
ابتدعها العلم، أو صيغ حسابية لا تُناظرها حقيقة تجريبية.
وهكذا يُمكننا أن نقول بإيجاز: إنَّ الطبيعة، على مستوى الفلسفة الطبيعية، تبدو
ذات تركيب مُماثل لتركيب الاتصال ذي الأبعاد الأربعة في نظرية النسبية. ومن المهم
في هذا الصدد أن البُعد الرابع، أو عامل الزمان، تغدو له أهمية فائقة ويطبع الكل
بطابعه الخاص، وفضلًا عن ذلك فإنَّ هذا العامل يتداخل تداخلًا وثيقًا في نسيج
المكان — وفي هذا يتَّفق مع النظرية النسبية أيضًا — ويكون معه وحدة، هي وحدة
المكان-الزمان، التي تُصبح بذلك عنصرًا مكونًا لنظام الطبيعة، ويتمثَّل هذا الرأي
بصورة رئيسية في التصور الأساسي عنده، وهو تصور الحادث. وفي هذا الموضوع كانت آراء
هويتهد أقرب — من وجهة النظر الفلسفية — إلى موقف ألكسندر منها إلى موقف برجسون،
الذي تحتلُّ فيه الصفة الزمانية موقعًا رئيسيًّا أيضًا، وإن لم تكن الصفة الزمانية
عنده مُقترنة بالصفة المكانية، وإنما تقف في مقابلها وتنعزل عنها. أما في النواحي
الأخرى فإن هويتهد يقترب — من الناحية العقلية — من هذين المفكِّرين الميتافيزيقيين
المعاصرين الكبيرين، اللذين انضم إليهما بوصفه حليفًا ثالثًا، ويتبدى ذلك في
الميتافيزيقا أكثر بكثير مما يتبدى في الفلسفة الطبيعية، التي كانت ميدانه الخاص،
والتي أثبت فيها أن جذوره مُتغلغلة في طرق التفكير الرياضي والفيزيائي؛ غير أنَّ
الميتافيزيقا — التي ستجيء فيما بعد — تلقي ظلها مقدمًا حتى على الفلسفة الطبيعية،
التي يعدُّ استبعاد الأوهام الميتافيزيقية منها من ألزم اللوازم، ويتمثَّل ذلك بوجه
خاص في فكرة التقدم الخلاق للطبيعة. وفي الفكرة القائلة: إن طابعها الحقيقي هو
الصيرورة، أو كما يفضل هويتهد أن يقول: طابع الصيرورة becomingness، وفي كونها تجد نفسها في تحول مستمر وتدخل بلا انقطاع
في مواقف جديدة. فإذا ما وجدناه يُشير، في معرض الكلام عن الموضوعات، إلى طابعها
الدائم أو الكوني، فإن ذلك إنما يكون بلهجة أقل تأكيدًا بكثير، وتكون دلالته
الميتافيزيقية أقلَّ إلى حدٍّ بعيد، وإذا قال شيئًا عن ثنائية الطبيعة، فإن المفهوم
— مع ذلك — هو أن العنصر الحركي يغلب على العنصر الكوني، أو الحادث على الموضوع،
وهما اللذان يتمثَّل فيهما هذان الوجهان المعارضان والمتكاملان في نفس الآن؛ غير
أن
كل خيوط فلسفة هويتهد وكل مراحل تطوُّرها، تتلاقى في التصور الأساسي فيها، وهو تصور
الحادث، ولو نظرنا إلى هذا التصور من الموقع الذي نحن فيه الآن؛ أعني موقع الانتقال
من الفلسفة الطبيعية إلى الميتافيزيقا، لوجدناه «مُثقلًا بالماضي ومُنطويًا بالقوة
على المستقبل»؛ ذلك لأنه لما كان هو الذي يحمل بناء نظرية الطبيعة بأسرها، فإنه
لا
يمثل فقط نقطةً تتلاقى فيها طرق التفكير الرياضية والفيزياء الحديثة بأسرها، وإنما
يَحمل في طياته أيضًا بوادر الميتافيزيقا التي ستعقبه.
وتطلُع علينا الميتافيزيقا للمرة الأولى، باستثناء هذه التلميحات التي استُبِقَت
فيها، في كتاب «العلم والعالم الحديث»، وإن لم تكن هنا قد عُرِضَت بعدُ بطريقة
منهجية، وإنما في خليط معقَّد من الأفكار العميقة الحافلة بالمعاني، في كل الأمور
وجميع الموضوعات؛ فهو هنا يدمج التأملات في فلسفة التاريخ والمدنية، وآراءه في
تاريخ التطور العقلي، مع نظرياته الخاصة، أو إن شئت يُدمج نظرياته الخاصة معها،
وهو
يعرض هذه النظريات من وجهات نظر متعدِّدة ومن زوايا مُتباينة، وسوف نتناول أولًا
بإيجاز عرضه للفلسفة الطبيعية، التي تبدو هنا في ثوب جديد مُتغير، فهويتهد يُكيِّف
مذهبه في هذا الكتاب تبعًا لتصور أدخله حديثًا، هو تصوُّر «العضوي organic»؛ وبالتالي يطلق على هذا المذهب اسم
النظرية العضوية في الطبيعة أو «فلسفة الكائن
العضوي phil. of organism»؛ فهو هنا يستعيض بالكائن العُضوي عن المادة التي عرفَتها
الفيزياء القديمة، وعن الحوادث أو الموضوعات التي قال بها في مرحلته السابقة، (إذ
إنَّ التمييز بينَهما لا يزال قائمًا، وإن لم يكن بنفس الحدة السابقة)؛ فالطبيعة
تبدو عضوية، سواء في مجموعها وفي مختلف أجزائها وعناصرها، والتركيب العضوي ينطوي
في
ذاته على عنصر القدرة على النمو أو التطور؛
بمعنى إيجاد ما هو جديد أو منبثق على نحو خلاق، ولا تتمثَّل فكرة العضوية في
الكائنات العضوية البيولوجية أو المخلوقات الحية فحسب، وإنما تتمثَّل أيضًا في
المادة غير الحية حتى أصغر أجزائها، فللإلكترون ذاته تركيب عضوي، وله فردية محددة
المعالم، بل ينبغي أن ننسب إليه حياة تاريخ يمتدُّ عبر سلسلة من الحوادث، ويختلف
عن
تاريخ حياة الإلكترونات الأخرى، ويطلق هويتهد على هذه الكيانات الأولية التي لا
تقبل بعد ذلك مزيدًا من التقسيم: اسم «الأوليات primates». ومن الممكن بسهولة إدراك طابعها العضوي، وإن يكن
تاريخ حياتها وتركيبها الفردي يكاد يكون مُستغلقًا علينا تمامًا، وإذن فالذرات
والجزيئات كائنات عضوية من نوع أعلى، يمكن إدراك وحدة عضوية محددة المعالم تمامًا
فيها. أما في التجمُّعات الأكبر حجمًا للمادة؛ أي في تلك التي يطلق عليها العلم
اسم
الأجسام غير العضوية، فيحدث اختلال للمبدأ العضوي، ويتوارى إلى الصفوف الخلفية لكي
يعود فيما بعدُ على أكمل صورة في المستوى الأعلى للمخلوقات الحية. هذه الكائنات
العضوية الأخيرة يُمكن تتبُّع تاريخ حياتها في جميع مراحله، كما أنَّ فرديتها
تتميَّز بوضوح، الواحدة عن الأخرى.
ومن المُمكِن تمييز وجهَين مُتباينَين لعملية التطور أو النمو في الطبيعة: هما
التكيُّف والقُدرة الخلاقة. فنحن من جهة نجد بيئة فيها كائنات عضوية تُكيف أنفسها
معها. وهنا تكمن حقيقة المذهب الدارويني التي هي — مع ذلك — حقيقة جزئية؛ إذ إننا
نجد — من الجهة الأخرى — كائنات عُضوية لها القُدرة على صنع بيئتها الخاصة وتشكيلها
بطريقة خلَّاقة؛ غير أن الكائن العضوي الفردي عاجز تمامًا في هذا المجال. ومن هنا
فهو يحتاج إلى صحبة كائنات عضوية أخرى تتعاوَن معه على تحقيق هذا الهدف. وهنا لا
تعود البيئة ثابتة راسخة، وإنما تبدو مَرِنة أو قابلة للتشكيل. وهكذا فإن المذهب
التطوري الآلي المألوف يُخفِّف بقدر ما يتجاهل هذه الناحية الثانية، التي هي الأعمق
والأشمل، ويُلقي ضوءًا جديدًا على فكرة التطور، تتكشَّف به حقيقتها الكاملة لأول
مرة ولا يرفض هويتهد النظرة الآلية تمامًا، وإنما يخضعها للنظرة العضوية، ولما كان
يُوفي كلًّا من الرأيَين حقه، فإنه يسمي نظريته أحيانًا آلية عضوية؛ غير أن هذه
النظرية لا تسري فقط على الكائنات العضوية بالمعنى الضيق، وإنما تسري على مجموع
الكائنات الطبيعية؛ وبالتالي على التركيبات الأولية أيضًا، فرغم أنه قد يكون لنا
أن
نسلم بأنَّ الإلكترونات تسير في طريقها تبعًا لقوانين آلية، فإن هناك فارقًا كبيرًا
بين حدوث ذلك داخل جسم حي وبين حدوثه خارجه. وعلى ذلك فالإلكترونات والجزيئات
والذرات تختلف في طبيعة تركيبها تبعًا للموقف الذي تسير فيه بطريقة آلية، ويتبدى
المبدأ العُضوي في الكيانات التي تبدو لنا آلية في المحل الأول، في ارتباط هذه
الكيانات عُضويًّا بالموقف الذي توجد فيه.
كذلك يُعدل هويتهد النظرية العضوية تبعًا للفيزياء الحديثة، ويرى أنها تُعبر
مباشرةً عما تقول به الفيزياء الحديثة بشأن الكيانات النهائية في الطبيعة، وهو
يربطها ربطًا تاريخيًّا فلسفيًّا بنظرية الذرات الروحية عند ليبنتس، وهي النظرية
التي يرى فيها تأييدًا لنظرته العُضوية الخاصة؛ فالكيانات الأولية عند هويتهد،
شأنها شأن الذرات الرُّوحية، وهي وحدات واقعية نهائية لها تنظيم عضوي دقيق؛ غير
أنها تختلف عن الذرات الروحية في أنها ليست موصَدة الأبواب في وجه الكيانات الأخرى،
بل إن أبوابها مفتوحة على مصراعَيها، نظرًا إلى ما ينبثق عنها من علاقات داخلية
تُوحد بينها وبين بقية العالم. وهكذا يرفض هويتهد فكرة الذرات الرُّوحية الخالية
من
النوافذ، وفكرة الانسجام
المقدَّر pre-established harmony؛ إذ لا حاجة لانسجام يتقرَّر من الخارج، أو يفرضه إله
خارج عن العالم، ما دام كل ما يتعيَّن على هذا الانسجام أن يبعث فيه وحدة مُتوافقة
ينبثق من الماهية الباطنة للذرات الروحية. وينبغي أن يُفْهَم من خلال طبيعتها
الخاصة، والواقع أن هويتهد قد اغترف من كنوز فلسفة ليبنتس ونبه الأذهان إليها من
جديد، أكثر ممَّا فعل أي مُفكر إنجليزي آخر في القرنين التاسع عشر والعشرين (مع
جواز استثناء ولدن كار Wildon Carr من هذا الحكم)،
وكان ذلك تمشيًا مع ميله العام إلى الاسترشاد ببقية المذاهب الميتافيزيقية الكبرى
والتركيبات الفكرية في العصر السابق على كانْت، من ديكارت إلى اسبينوزا ولوك وهيوم.
وهكذا افتتح عهدًا في إحياء الفلسفة السابقة على كانْت، وكان ذلك يَنطوي، في الوقت
ذاته، على نبذ لكانْت وللمثالية الألمانية كلها، على أساس أن روح العلم الطبيعي
لا
تتغلغل فيها، ورغم ذلك فإن هذه الحركة المثالية العظيمة (شأنها شأن كل حركة أخرى
في
تاريخ الفلسفة تقريبًا)، لم تمرَّ دون أن تترك آثارها في تفكيره، رغم أن تأثيرها
يتبدَّى في نفوره منها أكثر مما يتبدى في ميله إليها.
وعلى أساس الفلسفة الطبيعية يشيد هويتهد مذهبًا تأمليًّا لا يرمي إلى أقل من بناء
نظرية كاملة شاملة في الكونيات، ينظر فيها إلى العالم على أنه كلٌّ موحَّد،
فالميتافيزيقا بالنسبة إليه جهد ضخم في سبيل التفكير البنَّاء أو الفهم التأمُّلي،
الذي يهدف إلى إيضاح أن من المُمكن الجمع بين كثرة الأفراد وبين وحدة الكل، وأن
العالم يسعى إلى وحدته بالله، والله إلى وحدته بالعالم. وهكذا تتحدَّد معالم القضية
الأساسية التي كرس هويتهد لدعمها كل جهوده
التالية في ميدان الفلسفة، وهي جهودُ عقلٍ تأمُّلي أظهر في حالته (وفي حالة
ألكسندر) من القوة ما لم يكَد أحد قبله يتوصَّل إليه في تاريخ الفكر الإنجليزي؛
ذلك
لأن الفكر الإنجليزي — على الأغلب — غير تأمُّلي مُعادٍ للميتافيزيقا؛ وذلك لأسباب
أهمها أنه يرتكز على التجربة ويقتدي في مناهجه وأهدافه بأنموذج العلم الدقيق. أما
عند هويتهد فإنا نجد جهدًا يرمي إلى تجاوُز هذا التضاد القديم المتأصِّل في الأذهان
بين التجربة والتأمُّل والعلم والميتافيزيقا، من حيث إن تفكيره يقبل كلا الطرفَين
المتقابلين ويدعو إلى التوفيق بينهما بطريقة منهجية. فهذه المرحلة الأخيرة من فلسفة
هويتهد لا تنطوي على انبثاق على تعاليمه السابقة، إنها حقًّا ميتافيزيقا بأكمل
معاني الكلمة، وبأهداف تأملية واعية. ولكنها مُمتلئة بالتجربة، تتغلغل فيها الروح
العِلمية من كل جانب، بل إننا نستطيع أن نقول: إن التفكير التأمُّلي لا ينبثق عن
نزوع أعمى، وإنما هو واع بذاته وبقيمته إلى حدٍّ بعيد؛ فهو ليس نزوعًا تأمليًّا
بقدر ما هو عقل تأملي؛ أي إنه يتَّخذ موقف التفكير الانعكاسي نحو ما يُحققه بحكم
الضرورة الباطنة، ولا يتبدى في ميتافيزيقا هويتهد ذلك الخجل الذي يُبديه المفكرون
الإنجليز في كثير من الأحيان عندما يخوضون الميدان التأمُّلي؛ فهي ميتافيزيقا
تتحدَّث بلهجة قوية هي لهجة الاقتناع الكامل، وهي ميتافيزيقا كلها ولاء وإخلاص
لموضوع بحثها، والواقع أننا لا نكاد نجد حالةً أخرى لقيَ فيها العقل التأمُّلي مثل
هذا التقدير من كاتب إنجليزي، أو فهم على نحو أفضل ممَّا فهمه عليه هويتهد، كما
يتَّضح لنا من كتابه الصغير «وظيفة العقل»؛ فهو هنا يبدو مرتبطًا أوثق الارتباط
بأعلى وظائف الذهن البشري؛ فهو ليس مجرَّد اكتمال جميع جهودنا في العلوم الخاصة
والفلسفة، وإنما هو أيضًا العنصر الذي يدفعها إلى الأمام، ويكشف لنا عن إمكانات
جديدة للتفكير، ولولاه لدبَّ الركود في الحياة الذهنية بأسرها، ووظيفته هي جعل
التفكير خلاقًا، والإبقاء عليه في عملية خلاقة. وبهذا المعنى يخاطر بالتصريح بهذه
العبارة الجريئة المنطلقة: «إن رفض أي مصدر للبداهة، هو دائمًا خيانة لتلك
المعقولية القصوى، التي تدفع بالعلم والفلسفة معًا إلى الأمام.»
٤٤ وعلى هذا النحو أصبح رغم إرادته حليفًا لهيجل، الذي احتقر هويتهد
فلسفته لأسباب أهمها أنه لم يستطع أن يتحرَّر من النظرة الخاطئة إلى هيجل على أنه
قد تعالى على العلم في عصره، وغاص بالتالي في بحر من الفراغ.
ومن المُهم — لكي نفهم فلسفة هويتهد الإيجابية — أن نُلاحظ أنها ليست بناءً
منهجيًّا له أجزاؤه الواضحة وخطوطه المحدَّدة وتقسيماته الفرعية التماثلية؛ إذ إنَّ
هذا يتناقض مع طريقته المرنة تمامًا في التفكير، التي لا تستقر أبدًا على حال دائم،
وإنما تظل دائمًا مرنة متفتِّحة متحرِّرة، تتخذ موقفًا شخصيًّا كاملًا من الوجه
الإشكالي للأشياء، وهو لم يكن من بُناة المذاهب العظام، بقدر ما كان مُتأملًا
عبقريًّا. وقد لقيَ افتقاره إلى القوة المذهبية تعويضًا كاملًا في عمق بصيرته
واتساعه وامتلاء أفكاره والنشاط الدائم العميق لتفكيره، وإنَّ ما قاله عن أفلاطون
—
أستاذه الفلسفي الذي كان يكن له أعظم التبجيل — من أنه كان أعظم الميتافيزيقيِّين
ولكنه كان أضعف المُفكِّرين المذهبيِّين، لينطبق — مع الفارق — عليه هو
ذاته.
ولن نُقدِّم هنا إلا عرضًا موجزًا لميتافيزيقا هويتهد، بحيث نُوضح نتائجها
النهائية الهامة. ولكن دون إيضاح المسلك المؤدِّي إليها، والذي لا يقلُّ عنها
أهمية. هذه الميتافيزيقا تدور — شأنها شأن كل ميتافيزيقا عظيمة تقريبًا — حول
المشكلة الأساسية: مشكلة العلاقة بين الكثير والواحد، والتغيُّر والديمومة
والصيرورة والوجود، والوقائع والصور، والشر والخير، والضرورة والحرية، أو
بالاختصار: بين العالم والله، وهي تتناول — في أرفع أبحاثها الكونية — الطابع
التقابُلي الأساسي لكل وجود، ووسيلة العلو عليه. وعلى ذلك فإن هدفها الأساسي هو
الجمع بين الأضداد، ويُمكن القول: إن فلسفته بأسرها تدور في إطار فكرة التضاد أو
القُطبية، فمهما تعدَّدت الصور المُعبرة عنها، فإن هذه الفكرة ماثلة دائمًا، ومعها
حرص المفكِّر على تجاوزها في وحدة نهائية، لا بمعنى إيجاد اطِّراد رتيب يسفر عن
القضاء على أحد القطبَين، بل بمعنى إقرار حقوق مُتساوية للاثنين معًا؛ فالعلو على
التضاد لا يعني القضاء على أحد العاملين، أو استيعاب أحدهما للآخر، وإنما يعني
التوفيق بين توترهما، وتحقيق التعادُل بين الطرفين المتنازعَين، وإيجاد توازن
بينهما، وبالاختصار: فهو يعني إيجاد مركب منهما.
ولقد رأينا من قبلُ أن ثنائية العالم هذه تتمثَّل — في مجال الفلسفة الطبيعية —
في التقابل بين تصوُّري الحادث والموضوع، وفي علاقة التوتُّر بينهما، وفي
ميتافيزيقاه تبدو هذه الثنائية أولًا — معبرًا عنها بمُصطلح مختلف — في التقابل
بين
الكيانات الفعلية
actual entities، وبين
الموضوعات الأزلية
eternal objects، ويعدُّ
هذان نظيرَين ميتافيزيقيَّين للأولين؛ أي إنَّ لهما على مستوى الميتافيزيقا نفس
المعنى الذي كان للأولين على مستوى الفلسفة
الطبيعية. وعلى ذلك فإن ما يظهر هنا من تغيُّرات مميزة في المعنى، إنما يرجع إلى
تغيُّر وجهة النظر. وقد عرف هويتهد الكيانات الواقعية، التي يُسمِّيها في كثير من
الأحيان بالمناسبات الواقعية
actual occasions،
بأنها «الأشياء الفِعلية النهائية التي يتألف منها العالم»،
٤٥ وهي من حيث حقيقتها كلها «في نفس القارب»، وإن كانت تكشف عن فوارق هامة
من حيث وظيفتها وقيمتها. وليس هناك جدوى من البحث فيما وراءها من أجل محاوَلة
الاهتداء إلى شيء أكثر حقيقة منها؛ فهي تشمل عالم الحقيقة أو الواقع كله، وإليها
ينتمي الله مثلَما ينتمي أتفه جزء في الوجود في أية بقعة من المكان، وهي كما يقول
في أحد المواضع «قطرات من التجربة»،
٤٦ تتَّصف بأنها معقَّدة؛ لأنَّ كلًّا منها يشتمل في ذاته على الأخريات
جميعًا، أو يتضمَّن فيها بوصفه جزءًا منها، والكيانات الفِعلية لا تكون أبدًا
منتهية أو مقفلة، وإنما هي في حالة عملية مستمرة، أو كما يعبر عنها هويتهد، فإنها
تجمعات نامية
concrescences؛ أي انضمام أشياء
كثيرة في وحدة جديدة؛ فهي أشياء حقيقية فردية منفصلة، لا بمعنى أنها موضوعات
محدَّدة، بل بمعنى أنها حوادث متحركة، وهي تنتقل إلى مجرى الأحداث من كيانات أخرى،
وتدوم مدة ثم تنتقل إلى غيرها، وكل واحد منها يأتي بشيء جديد إلى العالم؛ فهي تُغير
العالم وتكسبه ثراءً خلاقًا، مهما كانت ضآلة مقدار هذا التغيُّر والإثراء؛ غير أن
اختفاءها لا يعني القضاء على شيء كان موجودًا من قبل أو إبادته، فحالة العالم لا
تزداد فقرًا؛ إذ إنه عندما تنهار كل مناسبة فعلية، تعود فتتمثَّل موضوعيًّا في
مناسبة أخرى تستوعبها، وتكون منذ ذلك الحين عاملًا إيجابيًّا في نموِّها المتجمِّع.
وهكذا فإن وجودها الخاص لا يضيع حتى بعد انقضاء واقعيتها، وإنما يحفظ أزلًا في إطار
العالم، ويُطلق هويتهد على هذا اسم الخلود الموضوعي للكيانات الفِعلية الذي هو
أساسي لها، بقدر ما يكون طابعها المتغيِّر العابر أساسيًّا لها، والذي لا يتعارض
مع
هذا الأخير في شيء.
وتنطوي فكرة الكيانات الواقعية على العنصر الهرقليطي في كونيات هويتهد. فكل شيء
سيال، والعالم صيرورة، وهو عملية أزلية؛ غير أن مجرى الحدوث لا يكتفي بالانسياب
فقط، ولا يكتفي بأن يمرَّ أمامنا لكي يكف عن الوجود ويخلي
المكان لانسيابٍ جديد، وإنما هو يجمع الماضي كله
ويحمله معه، وبفضل هذا الماضي يغدو أوسع وأعمق، ويرتفع في انسيابه على الدوام.
وهكذا يرتبط العنصر المُستمد من ليبنتس بالعنصر المستمد من هرقليطس ارتباطًا لا
يَنفصِم. فكل حادث يقع الآن في العالم هو كالذرة الروحية، محمَّل بكل ما حدث في
الماضي، ويحمل في طياته المستقبل الذي يكمن فيه بالقوة مُنتظرًا خروجه إلى حيز
الفعل، وترتبط بالعنصرين معًا، القضية الأساسية عند برجسون، من حيث إن العملية
خلاقة، تحدث إمكانيات تتجدَّد دوامًا، كما ترتبط بها نظرية الطفرة عند ألكسندر،
التي هي مجرَّد تفرُّع عن نظرية برجسون.
ولا يُستنفَد طابع عالم الوجود في مجال الواقعي والفِعلي أو في انسياب الأشياء؛
إذ ينشأ بالإضافة إليه ومن داخله وخارجه، عالم المُمكِن أو الدائم، الذي هو المجال
الأصلي للميتافيزيقا، ولما كان كل شيء فِعلي لا يكون واقعيًّا أو مُتحقِّقًا إلا
بقدر ما ينشأ عن الممكن ويُنْتَقَى منه، فإن هذا يستتبع أن يكمن التفسير الأخير
للطابع المميز للمُناسبات الفعلية في تحليل الطابع المميز لعالم الإمكان، وهو يصف
هذا العالم الأخير بأنه عالم الكيانات العالية أو الموضوعات الأزلية. وليس من السهل
تقديم تعريف وتفسير دقيق لما يعنيه هويتهد بهذه التعبيرات، فضلًا عن أن مثل هذه
المُحاولة ستذهب بنا أبعد مما ينبغي. وعلى أية حال فإن تصوُّر الموضوع عندما يقارن
بالتصور المُناظِر له في الفلسفة الطبيعية، يتَّضح أنه قد اكتسب توسعًا وتعمقًا
هائلين، وإن يكن ذلك على حساب وضوحه؛ فهو معبَّأ بالمعرفة والبصيرة الميتافيزيقية
إلى حدٍّ يكاد يُتيح فصل جميع الخيوط المتشابكة فيه أو تفسير كل الحكمة المتضمَّنة
داخله. ومن المؤكد أن قدرًا غير قليل من الأفلاطونية يدخل في فكرة الموضوعات
الأزلية، بل في كونيات هويتهد بأسرها، وهو المبحث الذي كان — باعترافه هو — مدينًا
بالكثير للتأمُّلات الأسطورية في محاورة «طيماوس»؛ غير أن الطابع الفردي لفلسفة
هويتهد، الذي لا يقتبس مذهبًا غريبًا إلا ويُعيد تشكيله من جديد، يجعل علاقته
بأفلاطون تظلُّ غامضة تمامًا، كما أن الموضوعات الأزلية لا يمكن أن تعدُّ في هوية
تامة مع الأفلاطونية، بل إن لها طابعها المميز؛ غير أن في وسع النظرة الأفلاطونية
أن تُقدم إلينا إيضاحًا لا بأس به لمعنى هذه الموضوعات، كما أننا لو فسَّرناها
بأنها تعني الكليات، أو الأفكار عند لوك أو أعم الصور المنطقية الرياضية، أو
المقولات أو العوامل الأولية بالمعنى الكَانْتِي، لكان كل تفسير ينطوي على قدر من
الحقيقة، قلَّ أو كثر، ومن هذا كله يتضح أن هويتهد يعني بتصور الموضوع الأزلي،
الصوري في مُقابل الفعلي، والمثالي في مقابل
الواقعي، والعام في مقابل الخاص، والمجرَّد في مقابل العيني، والثابت في مقابل
المُتغير، والوجود في مقابل الصيرورة، وبالاختصار: ما هو بالقوة في مقابل ما هو
بالفعل. وهذا الوجه الأخير هو الأهم، لا سيما فيما يتعلَّق بالميتافيزيقا، وهو
ينطوي في ذاته على الأوجه الأخرى؛ فالموضوعات الأزلية تكون فئة من مقولات الوجود،
وتُعَرَّف بأنها «إمكانيات خالصة للتحديد النوعي للواقع أو صور للتحدُّد»،
٤٧ فمركزها الميتافيزيقي هو مركز إمكانات لتحقيقه الواقعي أو الفعلي. وعلى
ذلك فإن بين عالمَي الإمكان والفعل علاقة ضرورية. وهذه العلاقة هي علاقة التداخل
ingression؛ أي إن الإمكان ينتقل إلى الفعل
أو يجعل تحقُّقه ممكنًا؛ وبالتالي فهو شرط ضروري لانتقال الواقع إلى الوجود. وهكذا
فإن المبدأ الميتافيزيقي المعروف بمبدأ «الكُمون المتبادَل
mutual immanence»، وهو مبدأ أساسي في الفلسفة العُضوية، يتحكم
أيضًا في العلاقة بين الموضوعات الأزلية والكيانات الفعلية.
ولم تكن ميتافيزيقا هويتهد — مثل ميتافيزيقا برادلي وألكسندر — مذهبًا منظمًا
يمكن عرضه في تسلسل فكري متَّصل، وإنما هي أشبه بمتاهة يسهل أن يفقد المرء حاسة
الاتجاه لديه في شعابها التي لا تُعَد ولا تُحْصَى، أو أشبه بعقدة بالغة التعقيد،
لا تُحَل إلا بصعوبة شديدة، وسوف نحاول فك هذه العقدة بأن نعرض في الختام تلك
الفكرة التي تلتقي فيها كل خيوطها تقريبًا، والتي تجد فيها — في الوقت ذاته —
اكتمالها المتوج لها؛ أعني فكرة الله، فلفِكرة الله جذور عميقة في مذهب هويتهد
بأكمله، وهي ليست إضافة مُكملة يمكن لهذا المذهب الاستغناء عنها دون خسارة كبيرة.
وهكذا فإن فلسفة هويتهد تنطوي على عنصر ديني قوي، ورغم أنها مُتحرِّرة من جميع
الروابط القطعية، وتسير حتى نهايتها على أساس مسلَّماتها الخاصة وحدها، فإنها قد
جهرت بميلها إلى المدارس الفكرية الصريحة التديُّن، وهي المدارس التي تعترف —
بدورها — بفلسفة هويتهد وتقدرها، وهي في هذا الصدد إنما تواصل التراث المثالي
السابق، من حيث إنها تهدف — كالمثالية — إلى التوفيق بين الفلسفة والدين، وتستطيع
أيضًا أن تُرضي الروح المؤمنة، وحتى لو استبعدنا هذا العنصر، للاحظنا فيها عناصر
مثالية أخرى مُتعدِّدة. وقد كان موقف هويتهد
الذهني العام متمشيًا تمامًا مع هذا الاتجاه. ومن هنا نستطيع أن نفهم كيف أن البعض
قد رأى فيه داعية إلى مثالية جديدة، تنهج طريقًا مخالفًا تمامًا لطريق كانت
والهيجليِّين الجدد. ولكنها تصل في النهاية إلى نتيجة تقرب كل القرب ممَّا وصلوا
إليه. وقد كان هويتهد نفسه يدرك ذلك عندما قال في تصديره لكتاب «العملية والواقع»
إنه يجد نفسه مُعارضًا لتعاليم برادلي بشدة؛ غير أن النتائج النهائية التي وصَل
إليها الطرفان لم تكن متباعدة كثيرًا.
ولقد رأينا أن ميتافيزيقا هويتهد تدور حول مشكلة العلاقة الاستقطابية المزدوجة
بين الواقع والمُمكن، والصيرورة والوجود، والكيانات الفِعلية والموضوعات الأزلية،
ففي مُقابل الإمكانية اللامحدودة للصور الأزلية، توجد الواقعية المحدودة للحادث
المتحقِّق أو الزمني، ويستمد الأخير من الأول عن طريق عملية انتقائية لا يتحقَّق
فيها — من بين الإمكانيات الوفيرة — إلا واقع محدود، هو الذي يدخل في العملية
الزمنية، ولو تحقَّقت كل الإمكانيات، لما وُجِدَ عالم منظَّم، ولدبَّت الفوضى في
كل
شيء. وهكذا يظهر السؤال عن السبب الذي من أجله لم تنتج العِلية الخلاقة للوجود سوى
هذا العالم ولا شيء سواه، والذي من أجله لم يتحقَّق — من بين الإمكانيات ذات الوفرة
اللامحدودة — سوى هذا الحادث وحده، ويُطلق هويتهد اسم «الإبداعية creativity» على العلة الخلاقة الأولى التي
ينبثق عنها كل كون والتي تدفع كل ما تحقَّق إلى اتخاذ صور وحوادث تتجدَّد دوامًا،
وتعبر هذه الفكرة عن مبدئه الميتافيزيقي الأساسي. ومن الطبيعي أن نفترض أنها هي
والله شيء واحد في نظره؛ غير أن الأمر على خلاف ذلك؛ ذلك لأنَّ معنى الإبداعية عند
هويتهد هو الفاعلية الجوهرية الخالصة الكامنة في أساس الأشياء، والتي تفتقر تمامًا
إلى التشكُّل، وتخلو من أي طابع محدَّد، ومن أي تحدد، وإنما تكون عامة مجرَّدة
تمامًا؛ فالإمكانية الخالصة للموضوعات الأزلية تقف مقابل هذه الإبداعية الفعالة
الخالصة التي تسبق كل حادث حقيقي؛ وبالتالي كل خلق، ولو تعيَّن علينا أن نسأل عما
إذا كان من المُمكن أن ينشأ عالم الأشياء من تضافُر هذَين العاملين؛ أي الإمكان
اللامحدود والإبداعية المجرَّدة، لكان جواب هويتهد بالنفي، ولأوضح أنَّ الاثنين
معًا لا يمكنهما أن ينتجا شيئًا محددًا أو شيئًا واقعيًّا، وإنما الواقعية تفترض
تقييدًا أو حدًّا من الإمكانيات اللامحدودة ومن الإبداعية غير المقيَّدة، وعند هذه
النقطة يظهر هويتهد المبدأ الإلهي على المسرح، فما الوظيفة الأساسية لله إلا نفس
هذا التقييد للإبداعية العامة؛ أي ما يُسميه هويتهد «بالطبيعة الأصيلة primordial» لله؛ فالله عند هويتهد ليس
تلك الإبداعية الأولية التي خلت من الصورة والتحدُّد، وإنما هو الخلق الأصلي الأول
الذي ينشأ عنها. وبهذا الوصف يكون المبدأ الإلهي ذاته إبداعيًّا؛ فهو السبب
الميتافيزيقي لكل الأشياء، الفِعلية منها والمُمكنة، والمتحقِّقة منها وما تنتظر
التحقق؛ غير أن الله يفترض مقدمًا الطابع الميتافيزيقي العام للإبداعية بوصفه علَّة
«له»؛ فهو أول ما تتجسد فيه هذه القوة، من حيث إنه أول شيء يحد منها أو يُضفي عليها
صورة. وبهذا المعنى لا يكون الله مجرد إمكانية فكرية، ولا قُدرة خلَّاقة بلا هدف
وبلا قيد، وإنما هو «وجود» فِعلي مُتحقق، وهو خالق الأشياء جميعًا، وسبب وجود
العالم أصلًا، وعِلة انتقاله من الإمكان إلى الواقع، وسبب انتقال عالم محدود إلى
مجال الصيرورة، من بين الإمكانيات الهائلة الوفرة للصيرورة الكونية، وعلة سير هذا
العالم في طريق الصيرورة. وعلى ذلك فإنَّ الله في طابعه الأصلي هو العلة الكافية
للعالم، أو كما يقول هويتهد: هو مبدأ
التعين principle of concretion.
وكما بيَّنَّا من قبل، فإنَّ هذا هو الذي يُوضح الطابع الحقيقي لكل شيء يوجد
فعلًا؛ فهو يذكر أن كل ما يوجد يشتمل في وجود على كلية الوجود بأسره. وهذا ينطوي
على القول بعدم وجود شيء مُنعزل أو مُستقل في العالم، وإنما يشارك كل شيء في كل
شيء
آخر، ويرتبط به ارتباطًا لا يَنفصِم، ذلك هو الكمون الشامل للأشياء؛ أي كون الواحد
منها يكمن في الآخر، ويُحقِّق الآخر تحقيقًا مُتبادلًا. وفي هذا يكون طابعها العيني
إلى أقصى حد، على أن تُفْهَم كلمة العيني هنا بمعناها الأصلي وهو «النمو معًا»،
٤٨ فالأشياء تنمو سويًّا، بعضها مع البعض، وكلٌّ منها ينمو مع كل المضمُون
الباقي للعالم. وبهذا المعنى القطعي يكون للعينية
concrection نفس معنى «الانضمام
concrescence»،
٤٩ وإنَّ وجود مثل هذا التنظيم للأشياء، وكون العالم مرتبًا — أي كونًا
منظمًا
Cosmos لا خليطًا مُضطربًا — ليرجع إلى
الطبيعة الأصلية لله، الذي هو أصل كل تحقيق عيني ومصدره، وإن لم يكن هو ذاته
عينيًّا.
والله في طبيعته الأصلية، أو التصورية Conceptual — كما يقول هويتهد — عال على العالم؛ فهو المبدأ الذي
لا يتبدَّل، الكامل في ذاته والأزلي. وفي هذا
الطابع الأصلي لا يُشارك الله مباشرةً في صيرورة العالم، ولا يشتبك معها مباشرةً؛
غير أن الطبيعة الإلهية ليست لها صفة أصلية فحسب، بل لها أيضًا صفة مثالية أو
لاحقة؛ فهي ازدواجية. وبهذا المعنى الثاني تتغلغل في العالم وتدخل في عملية
الصيرورة الخلاقة. وهكذا يكون الله، في وظيفته المشتقَّة هذه، كامنًا في العالم.
فكل منهما معيَّن للآخر. وكما أن العالم لا يستطيع أن يحفظ ذاته، فكذلك لا يستطيع
الله الاستغناء عن العالم. وعلى ذلك فمن المُمكن الكلام عن «تدخل» الله في العالم
أو «تدخل» العالم في الله، وللعمليتَين معًا معنى واحد؛ أي إن الإبداعية التي هي
أصل كل وجود، وتتَّخذ من الله نقطة بداية لها، تتدفَّق إلى العالم وتعود إلى الله.
وكما كان الله في وظيفته الأصلية هو المبدأ الذي يروض الإبداعية الأولية ويحدُّها،
فإنه في وظيفته الثانية المبدأ المنظم المشكل للعالم، ولما كان كل نظام — في رأي
هويتهد — هو أولًا نظام جمالي، فإن الله مقياسه؛ وبالتالي فهو يُسمى أيضًا شاعر
العالم. إن هذا الإله ليس شيئًا سكونيًّا تامًّا. وليس مجرَّد تأمل للصور الخالصة،
وإنما هو صيرورة لا تتوقَّف، وقُدرة عاملة ونزوع خلاق، وهو أداة التجدُّد الأزلي
للعالم، والقوة الدافعة الخلاقة التي لا تتوقَّف في عملها، والتي تتشكَّل بفضلها
كل
صيرورة في العالم، وتدفع إلى الأمام. ومن الواضح أن هذه الأفكار تقترب اقترابًا
وثيقًا جدًّا من التصور الدينامي لله، كما يتمثَّل لدى برجسون ألكسندر
والبرجماتيِّين.
ونستطيع الآن أن نُعبر عما قيل عن الله والعالم وعلاقتهما المتبادَلة، بنظرة
نهائية إلى الكون من خلال سلسلة من المُتقابلات التي تتناقض بعضها مع البعض
ظاهريًّا. ولكنها لهذا السبب ذاته تنطوي على الحقيقة الكاملة، ويلخص هويتهد
ميتافيزيقاه في العبارات الأخاذة الآتية: «سيان من حيث الحقيقة أن يُقال: إن الله
دائم والعالم متغيِّر أو سيَّال، أو أن يقال: إنَّ العالم دائم والله مُتغير أو
سيال، وأن يقال: إن الله هو الواحد والعالم هو الكثير، أو إن العالم هو الواحد
والله هو الكثير، وإنَّ الله، بالقياس إلى العالم، متحقِّق إلى درجة رفيعة، أو إن
العالم، بالقياس إلى الله، مُتحقِّق إلى درجة رفيعة، وإن العالم كامن في الله، أو
إن الله كامن في العالم، وإن الله عالٍ على العالم، أو إن العالم عال على الله،
وإن
الله خالق العالم، أو إن العالم خالق الله!» (العملية والواقع، ص٤٩٢)، ولنقتبس
نصًّا أخيرًا يُضيء لنا معالم مذهب هويتهد في الكونيات ويلخصه كله: «لا الله ولا
العالم يصل إلى الاكتمال الكوني. فكلاهما يسري عليه المبدأ الميتافيزيقي النهائي،
وهو التقدُّم الخلاق نحو التجدد، وكل منهما — أعني الله والعالم — هو وسيلة تجدد
الآخر.» (المرجع نفسه، ص٤٩٣ و٤٩٤).
(٤) صمويل
ألكسندر Samuel Alexander (وُلد في سيدني بأستراليا في ١٨٥٩م)٥٠
درس في ملبورن وأكسفورد، وأصبح في ١٨٨٢م زميلًا في كلية لنكولن بأكسفورد، وفي
١٨٨٣م عُيِّنَ أستاذًا للفلسفة بجامعة فكتوريا في مانشستر، وتقاعَد في ١٩٢٤م. وقد
نال وسام الاستحقاق في ١٩٣٠م.
مؤلفاته: «النظام
الأخلاقي والتقدم، تحليل للمفاهيم الأخلاقية Moral Order and Progress: An Analysis of Ethical Conceptions» ١٨٨٩م (الطبعة
الثالثة، ١٨٩٩م)، «لوك Locke» ١٩٠٨م، «أساس الواقعية The Basis of Realism» (مقال في «أعمال
الأكاديمية البريطانية» المجلد السادس، ١٩١٤م)، «المكان والزمان والألوهية Space, Time, and Deity» في
مجلدين، ١٩٢٠م (الطبعة الثانية، ١٩٢٧م)، «اسبينوزا والزمان Spinoza and Time» ١٩٢١م، «الجمال وصور أخرى للقيمة Beauty and Other Forms of Value»
١٩٣٣م، وكذلك مقالات متعددة في مجلات دورية متخصصة، انظر، عن ألكسندر، كتاب
«مذهب ألكسندر Le Système d’Alexander» تأليف
«ديفو P. Devaux»، ١٩٢٩م.
يُعَدُّ ألكسندر — في مؤلَّفاته وتأثيره — أكبر قوة فلسفية عرَفها الفكر الأنجلو
سكسوني منذ الحرب الأولى بعد هويتهد؛ فهو — في نواحٍ متعدِّدة — يعني بالنسبة إلى
الفلسفة الإنجليزية نفس ما يعنيه برجسون بالنسبة إلى الفلسفة الفرنسية؛ غير أنه
لا
يرقى إلى نفس المكانة البارزة في بيئته، كما أنَّ وصوله إلى النُّضج وارتفاعه إلى
مركز ذي نفوذ جاء في وقتٍ مُتأخِّر بالنِّسبة إلى معاصره الفرنسي الأشهر، الذي وُلد
في نفس العام. وفضلًا عن ذلك فإن تأثير ألكسندر قد اقتصر حتى الآن على العالم
الأنجلو سكسوني. وعلى الأوساط الفلسفية في هذا العالم؛ فهو لم يَتجاوَز المجتمع
الناطق بالإنجليزية، ولم يؤثر في جوانب أخرى للحياة العقلية. وهكذا لم يتحقَّق
لتفكيره ما تحقَّق للفلسفة البرجسونية من امتداد على نطاق عالمي، ومن تأثير متعدِّد
الأطراف في مختلف مجالات الثقافة العامة، ورغم أنَّ قوة تفكير ألكسندر وأصالته أقل
من نظيرتها لدى برجسون، كما أنه يقلُّ عنه كثيرًا في تحكُّمه في اللغة وفي نصاعة
أسلوبه الأدبي، فإن قُدرته التأمُّلية على الاستبصار والتفكير كبيرة جدًّا، ومذهبه
الفكري لا يختلف كثيرًا عن مذهب معاصره الفرنسي؛ فهو من أعظم وأجرأ بُناة المذاهب
بين الفلاسفة الإنجليز، ولا يُضارعه بين المُحدَثين في النزوع إلى تكوين مذهب عالمي
شامل سوى هويتهد وبرادلي وماكتجارت.
وهو ينتمي في تكوينه الفلسفي إلى مُعسكرَين مختلفين، المثالي والطبيعي naturalist؛ ذلك لأنه لم يستطع — خلال السنين
المتعددة التي قضاها في أكسفورد طالبًا وزميلًا بكليته — أن يتخلَّص من تأثير حركة
إحياء المثالية لدى الكَانْتِيين والهيجليين المحدَثين، رغم نفوره داخليًّا من هذه
الحركة؛ فقد شعر بقوة تأثير جرين وبرادلي، اللذَين تظهر آثار لهما حتى في تفكيره
الناضج، رغم أنه كان يتحرَّك في اتجاه مخالف تمامًا. ولكن موجة المذهب التطوري
الدارويني قد لحقَتْه وجرَفته أخيرًا، وانتهَت به آخر الأمر إلى موقف طبيعي naturalistic، ومن ذلك الموقف عرج على الماضي،
فتعلَّق بالتراث القومي القديم؛ أي بتجريبية هيوم أولًا، ثم بالفيزياء الرياضية
الحديثة وبفلسفة برجسون ونظرية المعرفة عند الواقعيِّين الجدد (أي عند مور ورسل
والأمريكيِّين)؛ غير أن الأمر الذي كانت له أهمية خاصة بالنسبة إلى مذهبه، والذي
أضفى على هذا المذهب طابعًا خاصًّا تمامًا، هو أن هذه هي المرة الأولى والوحيدة،
منذ سبنسر، التي استغلَّ فيها ذهن تأمُّلي رفيع ذو قُدرة حقيقية على بناء مذهب،
أفكار المدرسة الواقعية الطبيعية التجريبية، ليكون منها خطة موحَّدة لتفسير العالم،
وبناءً فكريًّا رائعًا محدَّد المعالم، وربما كان ألكسندر يدين للمثالية بشمول
نظرته الفلسفية بحيث امتدَّ دون قيود إلى كل شيء، وبرغبته في تكوين مذهبه، وميله
الشديد إلى التأمُّل، غير أنه — على خلاف معظَم المفكِّرين المُماثلين له في طريقة
التفكير — لم يكتفِ بتجاهُل الحركة المثالية، بل مرَّ عبرها مُباشرةً؛ فقد كانت
الحركة المثالية — ولا سيما الهيجلية — هي التي أطلقت في بداية الأمر القوى
التأمُّلية الجديدة في إنجلترا، وهي القوى التي أصبحت الآن تتجمَّع في المعسكر
المضاد. وهكذا أخذ ألكسندر عن هيوم فلسفته التجريبية. ولكن ليس نزعته في الشك، وأخذ
عن سبنسر فلسفته التطورية. ولكن ليس لا أدريته، وأخذ عن الواقعية الجديدة نظريتها
في المعرفة، دون أن يتوقَّف عندها، بل اتخذها مجرد أداة أو أساسًا لميتافيزيقاه،
كما استمدَّ عناصر من النظرية الفيزيائية للنِّسبية. ولكن مع تقويم فكري لها،
وإخضاعها لمذهبه الخاص. ولقد مُزِجَت جميع العناصر التي دخلَت مذهبه في نسق موحد،
قد يكشف عن هفوة هنا أو هناك. ولكنه — إذا ما نظر إليه كاملًا — يُمثل واحدًا من
أقوى المذاهب الفكرية التي ظهرت في إنجلترا، ومن أعظمها اتساقًا.
ولم تصل آراء ألكسندر إلى مرحلة النُّضج إلا في وقتٍ متأخِّر. وقد عرضها في كتاب
عظيم واحد، ظهر في مجلدَين، هو «المكان والزمان والألوهية»، ويتألف هذا الكتاب من
محاضرات جيفورد التي أُلْقِيَت خلال الحرب الكبرى الأولى، وكان له تأثير عظيم منذ
نشره في ١٩٢٠م، ففي المناقشة الحية التي أثارها ظهوره، هلَّل له المؤيدون والخصوم
معًا، بوصفه حدثًا فلسفيًّا من الطراز الأول، وتغلغل منذ ذلك الحين بعمق في أشد
مدارس الفكر الأنجلو سكسوني تباينًا، وتُعَد كتابات ألكسندر الأخرى، بالنسبة إلى
هذا الكتاب، ذات أهمية ثانوية، ومعظمها يُمثل مقدمة أو تكملة لكتابه الرئيسي،
باستثناء كتابه المبكر «النظام الأخلاقي والتقدم»، الذي كُتِبَ قبل ذلك بجيل كامل،
والذي كانت له بعض الأهمية المستقلة في تطوره الفلسفي. وقد عالج في هذا الكتاب
الأخير مشكلات الأخلاق قبل تكون مذهبه الخاص بوقت طويل، ودون ارتباط ضروري معه.
وعلى ذلك فمن الواجب تقديم عرض موجز له، لا سيما وهو يكشف بوضوح عن تطور الفلسفة
الإنجليزية بتأثير المذهب الدارويني.
إن مهمة الأخلاق هي تحليل التصورات والتمثُّلات الأخلاقية، ومشكلتها الأساسية هي
بحث معنى الخير والشر والصواب والخطأ، ولما كانت الأخلاق اجتماعية في أساسها، فإنها
تختص أيضًا بالعلاقة بين الفرد وبين العالم المحيط به، وبمكانه داخل الطائفة
الاجتماعية التي هو عضو فيها؛ غير أنَّ الأخلاق لا تقتصر على وصف الظواهر والوقائع
الأخلاقية، بل هي أيضًا علم معياري يقوم بمهمة تحديد قيمة الوقائع الأخلاقية على
أساس المثَل الأخلاقي الأعلى، وبدراسة مسألة التقدم الأخلاقي. ولقد كان مذهب
ألكسندر الأخلاقي، في أفكاره الأساسية وفي شروحه التفصيلية معًا، تطبيقًا دقيقًا
للمقولات التطورية على الحياة الأخلاقية، وهو ينحاز إلى جانب النظريات الأخلاقية
البيولوجية المتعدِّدة التي سارت في ركاب المذهب الدارويني، والتي ظهر أقوى تعبير
عنها في كتاب لسلي ستيفن «علم الأخلاق» (١٨٨٢م)، ويتفق ألكسندر مع هذا الكتاب في
مُعظم النقاط الهامة، وإن يكن قد عرض حججه بطريقة مستقلة عنه (انظر [الباب الأول:
المدارس الفكرية المتقدمة – الفصل الثالث: المدرسة التطورية الطبيعية]).
وقد أخذ ألكسندر بفكرة الانتقاء الطبيعي، وحاول تطبيقها على ميدان السلوك
الإنساني بوصفه المجال الصحيح للأخلاق. وهنا يتعيَّن علينا ألا ننظر إلى هذه الفكرة
على أنها — كما هي بين الحيوانات — صراع في سبيل الحياة بين الأفراد، ينتهي بإبادة
الأفراد الأضعف وبقاء الأفراد الأقوى في نوع معيَّن، بوصفهم الأفضل تكيفًا مع
البيئة، وإنما الواجب أن ننظر إلى هذا الانتقاء على أنه صراع بين الأفكار الأخلاقية
التي يتنافَس بعضها مع البعض، وهو الصراع الذي تتغلَّب فيه الأفكار التي هي أكثر
فاعلية وحيوية — تبعًا لقانون الانتقاء — على الأفكار الضعيفة وتقضي عليها، فإبادة
المُنافس في هذه الحالة لا تعني إهلاكه ماديًّا، بل تعني قهره روحيًّا بقوة الإقناع
التي يتمتَّع بها المثل الأخلاقي الأقوى. وهكذا فإن القانون الذي يسير تبعًا له
ظهور الأفكار الأخلاقية ونموها وبقاؤها أو زوالها، هو نفس القانون الذي تسير تبعًا
له العمليات المناظرة في الأنواع الحيوانية، أعني قانون الانتقاء الطبيعي. ولكن
ما
معنى هذا القانون في العالم الأخلاقي؟ وبأيِّ معيار يُمكننا أن نميِّز الأفكار
الأخلاقية الأقوى من الأضعف، والخيِّرة من الشرِّيرة آخر الأمر؟ يهتدي ألكسندر إلى
هذا المعيار في فكرة التوازن، التي كانت لها أهمية حاسمة بالنسبة إلى موقفه، وتعني
هذه الفكرة أن خيرية الفعل الأخلاقي وصحَّته تنحصِر في أن العناصر المتعدِّدة (من
بواعث ونوازع وميول) التي تجتمع سويًّا، ويكون بينها تضارب، تتعادَل بعضها مع
البعض، ويتكيَّف بعضها مع البعض، وبالاختصار: فإنها تكون في حالة توازن. فليس المثل
الأخلاقي الأعلى إلا تكيف العناصر مع النظام الأمثل داخل كل تحقق فيه التوازن. وعلى
هذه الحقيقة ذاتها يرتكز استحساننا لفِعل ما أو تقديرنا له في حكم أخلاقي مُنفصِل،
والحاسة الأخلاقية إنما هي الحاسة الطبيعية التي تجد نفسها في توازن مع المثَل
الأخلاقي أو في توحُّد معه، ولو نظرنا إلى الأمر من وجهة نظر الفاعل الأخلاقي، لكان
لنا أن نقول: إن المشاعر التي ينبثق عنها الفعل الأخلاقي ليسَت فئة خاصة من
المشاعر، وإنما هي مجرد مشاعر عادية في حالة تكيُّف مُتوافق. وهذا يعني — عندما
يطبق على الحياة الاجتماعية — أننا وصلنا إلى توازن بين أنفسنا وأقراننا، أو بين
الفرد والجماعة، مُشابه لذلك الذي يقوم بين عناصر وجودنا.
وهكذا فإن الغاية الأخلاقية هي توازُن السلوك الأخلاقي. وهذا هو هدف الفعل
الإنساني ومعياره معًا، وهو في رأي ألكسندر هدف أرفع من جميع المثُل العليا الأخرى
التي تفترضها الأخلاق، من حيث إنه يشتمل في ذاته عليها كلها؛ فهو يشتمل على المثل
الأعلى للكمال ولتحقيق الذات ولمبدأ تحقيق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس
ولمبدأ الحيوية الاجتماعية؛ ففي كل هذه المثُل العليا نستهدف تحقيق توافق منسجم
بين
قُوى الحياة الأخلاقية والاجتماعية، وحيث لا يوجد هذا التوازن، لا يبلغ المثل
الأعلى للخير، ويعرف ألكسندر الشر بأنه ما يرفض أو يختفي في الصراع مع الخير؛
فعندما نذمُّ فعلًا قبيحًا، لا نعني سوى أن المعيار الذي يخضع له هذا الفعل ليس
هو
السائد في الوضع الراهن للمجتمع، وأنه بالتالي يقلب التوازن الاجتماعي لهذا الوضع.
وقد يتحوَّل ما كان من قبل خيرًا إلى شر الآن، إذا كان المعيار الأخلاقي قد تغيَّر
في هذه الأثناء، ورفض فعل يعني هزيمة مثل أعلى انهار في الصراع مع مثَلٍ أعلى ناجح،
وما الأخير إلا النوع الجديد الذي انتصر، والذي أقام بانتصاره هذا المعيار السائد
حاليًّا. ولكن مُشكلة التقدم الأخلاقي تثار في هذا الموضع بعينه؛ فالتقدُّم أساس
للأخلاقية، ولا يُمكن أن توجد مبادئ أخلاقية مطلقة لا تتغير، ما دامت الحياة — التي
تَنبثِق عنها المعايير الأخلاقية — في حالة تطور مُستمر. وليس كل مثل أخلاقي أعلى
إلا وقفة قصيرة في عملية الانتقال من مثَلٍ أعلى إلى آخر، ولما كانت تظهر على
الدوام ظروف وعلاقات جديدة. فلا بد من إعادة تحقيق التوازن الأخلاقي بدوره من جديد
على الدوام. وعلى ذلكَ فليسَت ماهية الأخلاق سكونية، وإنما هي حركية، وهي تطور لا
ينقطع، وقد أكَّد ألكسندر هذه الفكرة تأكيدًا أقوى من تأكيد سبنسر نفسه لها؛ إذ
إنَّ هذا الأخير قد ذهب إلى أن الأخلاق تزداد اقترابًا من الطابع المُطلق بقدر ما
يتقدَّم تكيف الإنسان مع بيئته، بحيث يتوصَّل عند نهاية النمو أو التطور إلى حالة
من التكيف التام التي تسود فيها معايير أخلاقية مُطلقة (انظر [الباب الأول: المدارس
الفكرية المتأخرة – الفصل الثالث: المدرسة التطورية الطبيعية]). أما عند ألكسندر
فالتكيف يعني عملًا مشتركًا بين الفرد وبيئته، يتوافق فيه كلٌّ من الطرفَين مع
الآخر، ولما كانت البيئة تتغيَّر كالفرد، فإن عملية التكيف لا تكون من جانب واحد،
بل هي عملية انتقائية من كلا الجانبَين؛ غير أن هذا يعني أن كل تكيُّف هو تكيف
كامل، وأن ما هو خير في هذه اللحظة هو خير مطلق. فكل سلوك أخلاقي، بقدر ما يكون
خيرًا في ظروف معيَّنة، هو خير بصفة مطلقة. وليس في وسعنا أن نتخيل له طابعًا
مطلقًا من درجة أعلى من هذه، ومن هذه الاعتبارات يستخلص المبدأ الأخلاقي الأعلى،
وهو فكرة الخدمة المتحرِّرة أو التعاون الاختياري بين أعضاء المجتمع لصالح الكل،
كما تستخلص القاعدة الأخلاقية التي يعبر عنها الأمر البسيط: «اجعل العالم أفضل مما
وجدته».
وهكذا فإن تفكير ألكسندر، في هذه المرحلة المتقدِّمة، يتحرَّك تمامًا في إطار
مبادئ دارون وسبنسر التي كانت شائعة في ذلك الحين؛ فهو قد اعترف — مثل نيتشه
وزمل
Simmel٥١ وكثير من مُعاصريه الآخَرين — بفضل هذه الحركة في تعاليمه الأخلاقية،
ولا يعني التطور التالي لمذهبه خروجًا تامًّا عن هذه المبادئ، بل يعني تحررًا من
معناها الحرفي، تحقُّق بتأثير البيئة الفلسفية التي أصبحت سائدة، والتي أطلقت في
ظلها قواه الخلاقة لأول مرة، فبين كتابه المتقدِّم هذا وبين كتابه الرئيسي فترة
تبلغ الثلاثين عامًا لم يكتب فيها، بالإضافة إلى كتاب صغير عن لوك، سوى سلسلة من
المقالات الصغيرة، وفي بعض هذه المقالات ظهرت تلك الأفكار الجديدة التي جمَع بينها
فيما بعدُ بطريقة منهجية في كتاب «المكان والزمان والألوهية». وهكذا لم تظهَر
مساهمة ألكسندر الكبيرة في الفلسفة ظهورًا كاملًا، ولم تُحْدِث أعمق تأثير لها في
الفلسفة المعاصرة، إلا بعد الحرب الكبرى الأولى، وفي وسعنا أن ندع جانبًا تلك
الكتابات التي تقع بين مرحلتَيه المتقدِّمة والمتأخرة، وأن ننتقل إلى بحث الكتاب
الرئيسي الذي جنى فيه ألكسندر ثمار تأملاته الطويلة المستمرة.
ونستطيع أن نبدأ بتقديم عرضٍ عامٍّ لنظريته في المعرفة، مُحاولين أن نفصلها بقدر
الإمكان عن ارتباطاتها الميتافيزيقية. ولقد كان موقفه — كما ذكرنا من قبل — حلقة
في
سلسلة الحركة الواقعية الجديدة التي بدأها مور ورسل بعد نهاية القرن الماضي بقليل،
وواصلتها جماعة من المُفكِّرين الأمريكيين الذين كوَّنوا جماعة «الواقعية الجديدة»
في عام ١٩١٢م. ولقد كانت نظرية المعرفة منذ لوك تدرس في الفلسفة الإنجليزية بوصفها
علمًا أو مبحثًا فلسفيًّا مستقلًّا، يرتكز على أسسه الخاصة، وإن يكن قد اقترن
كثيرًا — ولا سيما في المذاهب التجريبية والواقعية — بأبحاثٍ فلسفية عامة؛ غير أن
ألكسندر قد أحدث في هذا الصدد تغييرًا ملحوظًا. فلمَّا كان مركز الثقل في مذهبه
هو
الميتافيزيقا؛ فقد رفض القول بأولوية نظرية المعرفة، وعالجها على أنها مجرَّد فصل
يُمهد لأبحاث ميتافيزيقية أوسع منها نطاقًا بكثير. وقد أدَّى ذلك إلى الإقلال من
أهميتها كثيرًا، وجعل أساسها مُتوقفًا آخر الأمر على الفلسفة في مجموعها.
فما هي ماهية المعرفة؟ يصف ألكسندر المعرفة — ببساطة عجيبة — بأنها علاقة بين
كيانَين: ذات وموضوع، أو وعي وشيء، فإن تساءلنا عن نوع هذه العلاقة، لما تمثَّلت
إلا في حضور عنصري المعرفة في وقتٍ واحد، أو على حد تعبير ألكسندر: في اقترانهما
ومعيتهما (compresence or togetherness). هذه
العلاقة هي بالضبط العلاقة التي تقوم بين شيئَين ماديَّين؛ أي بين المنضدة والأرض
التي ترتكز عليها مثلًا، ولا تظهر المعرفة إلا عندما يكون أحد العنصرَين الذي هو
في
معية مع الآخر ذاتًا لها وعي، ولا فارق — من حيث العلاقة — بين مواجهة الذات
لموضوع، وبين مواجهة موضوعَين أو ذاتين كل منهما للأخرى، والمسألة الوحيدة الهامة
هي أن يكون العنصران معًا. وعلى ذلك فليس لعلاقة المعرفة مكانة خاصة أو صفة مميزة،
وإنما هي أبسط ما يُمكننا تصوره من العلاقات؛ أي علاقة المعية فحسب، هذا التعريف
للمعرفة — الذي يرى ألكسندر أن الاستبطان وحده هو الذي يوصل إليه — يتضمَّن
افتراضًا مقدمًا هو أن الذات العارفة ليسَت شيئًا فريدًا في نوعه، يختلف من حيث
المبدأ عن الموضوعات المعروفة، أو يعلو عليها على أيِّ نحو خاص، وإنما هي مجرَّد
شيء موجود ضمن موجودات أخرى، أو شيء وسط أشياء في عالم مشترك، وسوف تظهر فيما بعدُ
النتائج الميتافيزيقية المتضمَّنة في هذا القول.
وها هي ذي النتائج التي يستتبعها هذا الرأي بالنسبة إلى نظرية المعرفة؛ فالموضوع
بما هو كذلك مُستقل تمامًا عن الذات أو الذهن، الذي يُمكن أن يدخل معه في علاقة
معرفة؛ فهو كيان غير نفسي لا يطرأ عليه تغير أو تعديل من جراء حضور وعي أمامه، وهو
موجود أو واقعي سواء دخل في علاقة المعرفة أو لم يدخل؛ فهذا لا يحدث أيُّ فارق
بالنسبة إلى وجوده، ومن جهة أخرى فالذات مُعتمِدة على الموضوع بوصفه مادتها
الأصلية؛ فالوعي دائمًا وعي بشيء وبموضوع، وحرف «الباء» هنا تعبير عن المعية؛
فعندما أدرك شجرة، أكون أنا والشجرة معًا، وأشعر في تجربتي بمعية الشجرة معي على
أنها معيَّتي مع الشجر، وإلى هذا الحد لا تختلف نظرية ألكسندر عن الواقعية
المألوفة، وذلك في صياغتها على الأقل؛ غير أنه يتجاوَزها كثيرًا فيما يلي؛ إذ يسلك
طريقًا مُكملًا ينطوي على تغيير أساسي. فليسَت الموضوعات — بما هي كذلك — أو
الأشياء في ذاتها، هي وحدها التي تُعَدُّ حقائق مادية تتجاوَز الوعي، بل إن
المدركات الحسية percepts أو المحسوسات sense هي أيضًا كذلك، مع أنَّ هذه تُعدُّ عادةً
موجودة في الوعي، وظواهر نفسية تصور أو تُمثل الأشياء الموجودة في العالم الخارجي؛
فمن الخطأ أن نفصل الشيء المدرك حسيًّا عن صورته الإدراكية أو مضمونه الإدراكي،
أو
أن نجعل مقر الأخير في الوعي، ومقر الأول خارج الوعي، بل إنَّ صور الأشياء هي
الأشياء ذاتها أو أجزاء منها؛ فهي إذن ليست نفسية، بل فيزيائية كالأشياء ذاتها،
وهي
المنظورات المختلفة التي تدرك منها الموضوعات؛ ففي الإدراك الحسِّي نختار من مجموع
منظورات الشيء منظورًا واحدًا أو أكثر، تبعًا لموضع الملاحظ بالنسبة إلى الموضوع
الملاحظ، والشيء الواقعي هو مجموع المنظورات المُتضمَّنة فيه، وهو ما تختار منه
الذات المدركة المنظورات. وعلى ذلك فالمنظورات ليست غير واقعية، وإنما هي جزئية
فحسب، وهي في طريقتها الخاصة في الوجود واقعية ماديًّا، شأنها شأن الكل الذي
أُخِذَت منه.
وهكذا فإن ألكسندر يسير بالموضوعية أو الواقعية إلى أبعد مداها. فكل ما يواجه
الذات على أي نحو، أو يُعْطَى في فعل المعرفة على أنه في معيَّة معها، يوضع «خارج
الذهن»، ويُنْسَب إلى العالم الفيزيائي للأشياء، فنظريته هي العكس الصحيح لنظرية
باركلي الذاتية في المعرفة، وهو لا يقول: إنَّ وجود الشيء = كونه مُدركًا، بل يقول:
إن كون الشيء مدركًا = كونه موجودًا، ولا يقول إن الأشياء = الأفكار، بل يقول: إن
الأفكار = الأشياء. فليس ثمة أفكار لا تكون أشياء، أو على الأقل لا تَنتمي إلى
الأشياء. وهذا لا ينطبق فقط على المضمونات الإدراكية أو على انطباعات هيوم، بل
يَنطبق أيضًا على كل ما أدرجه هيوم تحت لفظ «الأفكار»؛ وبالتالي على كل ما يتمثَّل
للذاكرة والتوقُّع والتخيُّل والمخيلة وعلى الأوهام والخداع، وأخيرًا على التركيبات
التصورية ذاتها كالتجريدات والكليات والرموز المنطقية والرياضية … إلخ، ولنضرب لذلك
مثلًا بالذكريات وأنواع الخداع؛ ففي الذاكرة لا نكون إزاء تمثُّلات تشير إلى الماضي
أو تمثله، وإنما نكون إزاء الماضي ذاته، لا إزاء صورته أو ما يُمثله في الوعي،
ويدخل الماضي في تجربتنا مباشرةً بوصفه ماضيًا؛ فهو يحمل — كما يقول ألكسندر —
علامة على جبينه تُنبئ بصفة الماضي فيه، فصفة الماضي (أو المضي)
pastness هي مُعطًى للتجربة نُدركه مباشرةً،
وهي بالتالي موضوع في معية منَّا بوصفه ماضيًا، وحتى أنواع الخداع منظورات للعالم
الواقعي، وليس خلقًا خالصًا للروح؛ غير أنها تتميَّز عن المحسوسات بأنها تُشير إلى
الأشياء التي لا تنتمي إليها حقيقة؛ فهي تركيبات لا تقف في مكانها الصحيح، وغُيِّر
مكانها أو وُضِعَت خطأ؛ وبالتالي فهي في غير موضعها، وتغيير الموضع هذا من صنع
الذهن. وعلى ذلك فهي ذاتية من حيث أصلها. ولكنها موضوعية من حيث طريقة وجودها. وهنا
أيضًا لا يخلق الذهن جديدًا، بل يقتصر على ترتيبِ ما هو موجود من قبل، ويضعه في
علاقات جديدة خاصة، ويختار المنظورات بطريقة غير مألوفة … إلخ؛ غير أن العناصر التي
تتألَّف منها كل هذه التركيبات هي الأشياء، أو هي أوجه الأشياء في العالم الواقعي
الفيزيائي. هذه النظرية تتَّفق تمامًا، باستثناء تصحيح بسيط ولكنه عظيم الأهمية،
مع
نظرية هيوم في الانطباعات والأفكار، وهي إحياء لمبدأ هيوم الأساسي القائل: إنَّ
كل
فكرة، حتى لو لم تكن أبدًا من صنع الخيال المحض، أو تجريدًا مُتطرفًا للفكر،
تتألَّف في نهاية الأمر من عناصر انطباعية وتُبْنَى عليها، وفي وسع المعرفة أن تجمع
هذه العناصر في ارتباطات دائمة التجدُّد. ولكن ليس في وسعها من حيث المبدأ أن
تتخلَّص منها، وكل ما أدخله ألكسندر على رأي هيوم هذا من تصحيح، هو أنه يُحدد طريقة
الوجود الخاصة بالانطباعات والأفكار على نحو يختلف عن تحديد هيومٍ لها؛ فهو يرى
أنها ليست ظواهر نفسية، توجد في «الوعي»، وإنما هي واقعية فيزيائيًّا ومُستقلة عن
الوعي، وعلى ذلك يمكن القول: إنه لم يتغيَّر شيء ما عدا طابع وجودها. وهكذا فإن
نظرية المعرفة عند ألكسندر مذهب هيومي بحت؛ غير أنها ليسَت مذهبًا ظاهريًّا Phenomenalism، وإنما هي واقعية مُتطرفة،
ولا أقول غاشمة؛ غير أن المقاصد النهائية لنظريته لا يُمكن أن تُفْهَمَ إلا من خلال
ميتافيزيقاه.
ويقوم ألكسندر بتمييزٍ هامٍّ آخَر في صدد طريقةِ إدراك الأفعال الذاتية والأشياء
الموضوعية. فهذه تأتي إلى وعينا بطريقتَين مختلفتَين؛ فالذات تُدرك أفعالها النفسية
الخاصة بتجربتها أو «معاناتها»، على حين أنها تدرك الموضوعات الفيزيائية حسيًّا
أو
تتأملها، وليس في وسعنا أن نعزل الأنا الخاص بنا، بوصفه موضوعًا للتأمل، ونضعه
قبالة أنفسنا أو ندركه موضوعيًّا بفعل إدراك حسي، وإنما يمكننا فقط أن نحياه ونحيا
أفعاله. وعلى ذلك فمن الواجب التوسُّع في التعريفات السابقة بحيث تعني أن الذهن
—
في كل تجربة — «يعاني» ذاته ويتأمَّل موضوعه في آنٍ واحد، فنكون إزاء موجودين
مختلفَين تمامًا، يرتبطان سويًّا بعلاقة المعية. فكل تجربة قطعة من العالم، الذي
يتألَّف من هذين الموجودين في معيتهما، وأحد الموجودين — الذي يعانَى — يُجرب ذاته
أو يعانيها بوصفها جزءًا من حياته، والآخر — الذي يتأمل — يجرب بوساطة ذلك الذي
يعاني ذاته. وهكذا فمن الواضح، رغم كل الجهود التي تُبْذَل لتحديد نطاق الذاتي في
مقابل الموضوعي. إنَّ الذهن ينزل في النهاية إلى مستوى الموضوعي، وتنتهي نظرية
ألكسندر — عند التفكير فيها باتساق — إلى الاتِّفاق مع هيوم، وتسفر عن نظرية الحزمة
المعروفة، التي يكون فيها الأنا مؤلفًا من مجموع تجاربه ولا شيء غير ذلك.
غير أن نظرية المعرفة عند ألكسندر ليست إلا تمهيدًا لميتافيزيقاه، ولا يُمكن أن
تُفْهَمَ إلا من خلالها، والميتافيزيقا أساس فلسفته كلها؛ إذ إنَّ جمع خطوط تفكيره
تلتقي وتتجمَّع فيها، وهي أعمق موضوع لاهتمام ألكسندر وأهم ما ساهم به، وأكثره
أصالةً وأقواه أثرًا، وهي علم ومنهج وكونيات وتأمُّلات معًا، ولو نظرنا إليها من
الوجهة التاريخية، لكانت استمرارًا مباشرًا لمذهب سبنسر الشامل؛ فهي آخر وأنضج ثمرة
في شجرة الحركة التطورية الكبرى، وربما كانت هي نقطة اكتمال هذه الحركة، وهي بالفعل
تصل إلى أعلى قمة يستطيع التراث القومي بلوغها، ولو قارنَّاها بسبنسر لكانت أشد
تركيزًا وأجرأ تأملًا وأكثر إيجابية في نتائجها. ولكنها لهذا السبب عينِه أضيق
نطاقًا في أساسها التجريبي، وأقل احتواءً على المعارف الدقيقة، وأضعف صلة بالأبحاث
المرتبطة بها. ولقد قيل عن مذهبه الميتافيزيقي: إنه نتاج طموح للخيال. وهذا حكم
صحيح في نواحٍ معيَّنة؛ غير أن ألكسندر يريد أن ينظر إلى مذهبه على أنه بحث علمي
بالمعنى الدقيق، وبالفعل نجد أن «منهج» الفلسفة عنده تجريبي لا يختلف في أية ناحية
عن منهج العلم الدقيق؛ غير أن «مجال» فلسفته أوسع وأشمل، من حيث إنه لا يشمل الواقع
التجريبي فقط، بل يشمل سماته غير التجريبية أو الأولية، فضلًا عن تلك المشكلات التي
تنشأ عن علاقة التجريبي بالأولي. وهكذا تُعْرَف طبيعة البحث الفلسفي بأنها الدراسة
التجريبية لما هو غير تجريبي. وفضلًا عن ذلك فإن الفلسفة بوصفها ميتافيزيقا منهجية،
توجه إلى الكون في كليته، وهي تبحث علته الأولى والغائية، ومهمتها هي النظر بطريقة
نقدية إلى معرفتنا للكون وترتيبها مذهبيًّا، وهي أيضًا بحثٌ في معنى وجودنا ومعنى
العالم.
والعنصر الأساسي في ميتافيزيقا ألكسندر هو نظرية المكان-الزمان التي أصبحت الآن
مشهورة، وهو يعترف بأن هذا التصور يحلُّ محل المُطلق في المذهب المثالي؛ غير أن
هناك فرقًا أساسيًّا، هو أن المطلق عند الهيجليِّين يعني أرفع تعبير عن الكون، على
حين أن المُطلق عند ألكسندر هو أدنى تعبير عنه. وعلى ذلك فإن الميتافيزيقا المبنية
على المذهب الطبيعي naturalistic تُمثل عكس
الميتافيزيقا المثالية على خط مستقيم، ومركز الثِّقل فيها يرتكز كله على المستوى
الأدنى للوجود. وهذه — من الوجهة الميتافيزيقية — هي النقطة الأهم، وهي المركز الذي
يشع منه كل ما عداها وإليه يعود؛ فالمكان-الزمان هو المادة الأولى أو الهيولى
بالنسبة إلى الأشياء جميعًا، وهو الأصل الذي يكمن من وراء كل شيء، ومحدث كل وجود
متناه ومنتجه، وما الأشياء إلا تنوعات لهذه المادة الأولى، ذلك هو الفرض الأساسي
في
هذه الميتافيزيقا.
ولنتساءل عما جعل ألكسندر يصل إلى هذا الرأي الغريب عن المكان-الزمان بوصفه أساس
الوجود، وهو رأي لم يخطر قبله ببالِ أيِّ مُفكِّر طوال تاريخ الفلسفة (باستثناء
حالة واحدة، هي حالة الفيلسوف المجري بالاجيي
Palágyi، الذي سيرد ذكره فيما بعد). وليس من شك في أن هذه الفكرة
مرتبطة بالفيزياء الرياضية الحديثة — وهذا أمرٌ اعترف به ألكسندر نفسه — وأنها لم
تستطع أن تدخل مجال الفلسفة إلا عن طريق هذا الارتباط، ورغم أن ألكسندر نفسه لم
يتلقَّ دراسة في الفيزياء؛ فقد التقط بجرأة تلك التلميحات التي قال بها أصحاب نظرية
النسبية، والتي أحدثت تغييرًا أساسيًّا في فهمنا للمكان والزمان وعلاقاتهما
المتبادلة. ولكنا لا نُصادف هنا اقتباسًا أو استغلالًا دقيقًا للنظريات الفيزيائية
التي وضعها لورنتس
Lorentz ومنكوفسكي
Minkowski وأينشتين، بل مجرد إيحاء عام منقول إلى
مجال الميتافيزيقا، وممزوج بأفكار ألكسندر الخلاقة الخاصة. وقد أعرب ألكسندر نفسه
عن رغبته في أن يفهم تصوره للمكان-الزمان بمعنى ميتافيزيقي كامل. ومن هنا لم يكن
من
المُجدي الخوض في موضوع اتفاقه مع نظيره في الفيزياء أو اختلافه معه، وكل ما
يتعيَّن أن نقوله هنا هو أن ميتافيزيقا المكان-الزمان عند ألكسندر لا تتصوَّر بدون
النظرية النِّسبية، كما أنها لا تتصوَّر بدون رأي برجسون في الزمان بوصفه
مدة حقيقية
durée réelle، وهو الرأي الذي
يُكوِّن أيضًا عنصرًا أساسيًّا في هذه الميتافيزيقا، ومما يَثبُت بشكلٍ قاطع أن
مشكلة المكان-الزمان كانت في الجو «قبل» ظهور النظرية النسبية. وكانت تنتظر من
يصوغها فلسفيًّا، كتابات المفكِّر المجري بالاجيي
Palágyi،
٥٢ فمنذ سنة ١٩٠١م وضع هذا المفكِّر نظرية فلسفية في المكان-الزمان،
استبقت فيها نواح متعدِّدة من أفكار ألكسندر. ولكن في وسعنا أن نغضَّ النظر عن هذا
الموضوع؛ إذ إن من الواضح أنه لم يكن هناك تأثير مباشر لأحد هذَين المُفكرَين على
الآخر (انظر كتاب ج. أ. جن
J. A. Gunn
«مشكلة الزمان
The Problem of Time» ١٩٢٩م،
ص٣٠٨ وما يليها).
فما هو إذن معنى المكان-الزمان حين يجمد بحيث يُصبح مادةً أولية؟ وكيف يرتفع
مُركَّب مؤلَّف من هاتين الصورتَين اللتين تكونان مقولتين نُرتب بهما الظواهر؛ أعني
المكان-الزمان، كيف يرتفع مثل هذا المركَّب إلى هذه المكانة الميتافيزيقية؟ من
الواضح أننا هنا بعيدون عن الرأي المألوف في المكان والزمان، وأبعد عن مجرَّد الجمع
بينهما في كل مُصطنع، وإنما نحن إزاء تبصر تركيبي أصيل لوحدة رفيعة يتَّخذ فيها
العنصران المُكوِّنان لها شكلًا إبداعيًّا جديدًا، ونستطيع أن نتصوَّر أن القول
الآتي، أو ما يُشبهه، لمنكوفسكي قد يكون هو الذي أطلق الشرارة الأول في ذهن
ألكسندر، «من الآن فصاعدًا يهبط المكان في ذاته والزمان في ذاته إلى مرتبة الظلال
المحضة، ولا يبقى هناك وجود مُستقِل إلا لنوع من الاتحاد بين الاثنين»، (انظر مقال
أينشتين «المكان-الزمان» في دائرة المعارف البريطانية، الطبعة الرابعة عشرة، المجلد
الحادي والعشرين، ص١٠٥)، وبالمِثل يرى ألكسندر أن المكان-الزمان، منظورًا إليهما
في
ذاتهما، ليسا إلا تجريدات من مكان-زمان موحد، تجريدات يستطيع الفكر القيام بها
فعلًا. ولكنها في الواقع لا تنتمي إلى الأشياء. فليس في الأشياء مكان مجرَّد، ولا
زمان مجرَّد، بل فيها أوثق تشابُك أو مزج بين الاثنين، ووحدتهما التامة الواحد مع
الآخر وخلاله وفيه. وقد نتساءل عما إذا كان هذا مما يمكن إثباته؛ غير أن ألكسندر
يعلن صراحةً أننا لسنا هنا إزاء أي استنباط أو تركيب، بل نحن فقط إزاء رؤية وكشف
أشياء وعلاقات معطاة في التجربة، وهو إجراء يصحُّ أن يُسمى وصفًا أو تحليلًا
فينومينولوجيًّا بالمعنى المعروف عند هوسرل.
وإذن فالمكان والزمان مُرتبطان ارتباطًا وثيقًا، وكل منهما يعتمِد على الآخر،
ولكي يَكتمل أحدهما فهو في حاجة إلى الآخر، وهو يُرد إليه، وبدونه لا يكون شيئًا،
أو على أكثر تقدير: يكون تجريدًا خاليًا. فليس ثمَّة مكان بلا زمان، ولا زمان بلا
مكان، والمكان زماني في ماهيته، والزمان مكاني في ماهيته، أو كما يقول ألكسندر
أيضًا: المكان مليء بالزمان، والمكان والزمان يتمثَّلان لنا على أنهما كلان لا
مُتناهيان متَّصلان مؤلفان من أجزاء، والأخيرة نسميها نقاطًا ولحظات. فإذا نظرنا
إلى الزمان في ذاته نظرة خالصة؛ أي في طابعه الزماني الخالص — كما في الفيزياء —
فإنه يتبدى لنا أولًا على أنه تعاقب؛ أي على أنه سلسلة من اللحظات المُنفصلة، بعضها
سابق وبعضها لاحق. وليس في وسعنا أن نتحدث عن ربط بين اللحظات المتعدِّدة، أو عن
استمرار لحظة سابقة في لحظة لاحقة أو ماضية في حاضرة، بل إن كل لحظة تختفي وتتلاشى
إلى الأبد في لحظة ظهورها. وهكذا فإن الزمان — بوصفه تعاقبًا — يصبح مجرد حاضر
ينبغي أن يُخْلَقَ من جديد على الدوام، ولن تترك الزمانية الخالصة التي يتَّصف بها
الزمان مكانًا لاتصال الزمان، بل إنها تتعارَض معه. ولكنَّنا في الواقع لا نجرب
الزمان أو نعانيه على أنه تعاقب خالص، بل على أنه لحظات متَّصلة، أو ديمومة لما
هو
مُتعاقب، فالزمان الحقيقي تعاقب داخل الديمومة. وإذن فالزمان بما هو كذلك ناقص،
في
حاجة إلى ما يُكمله، ولتحقيق معية الماضي والحاضر والسابق واللاحق. فلا بد من
متصل continuum لا يكون مُتضمنًا في طابعه
الزمني الخالص، ويكون شيئًا مختلفًا عنه من حيث المبدأ، هذا «الآخر» المُكمل للزمان
هو المكان؛ فالمكان يمد الزمان بالمتصل الذي يتمُّ بوساطته ربط أجزائه سويًّا،
وبذلك ينقذه من «آنيته nowness» المجرَّدة، ولا بد
أن يدعم المكان الزمان لكي يرفع التناقُض بين التعاقُب المحض والاتصال الحقيقي.
وعلى ذلك فالزمان مكاني بقدر ما يكون أكثر من زمانية خالصة؛ أي بقدر ما يكون زمانًا
حقيقيًّا أو مدة duration.
غير أن المكان بدوره لا يستغني عن الزمان، فلو نظر إلى المكان في ذاته لكان كلًّا
من التواجُد coexistence والاتصال لا يمكن تمييز
أجزائه فيه؛ فهو — من حيث هو مكانية خالصة — يُصبح خلاءً محضًا، ويبتلع كل ما
يحويه، ويلتهم في ذاته الأشياء في كثرتها وتنوُّعها. ولكن الاتصال التجريبي للمكان
يبدو متنافرًا مع طابعه التجريبي الثاني، وهو تميَّز الأجزاء التي يحويها، على أن
هذا الطابع الأخير لا يأتي من المعية
الكاملة all-togetherness التي هي الصفة الخاصة للمكان في طابعه المكاني البحت.
وإذن ينبغي أن توجد صورة للوجود تميز أجزاء المكان بعضها عن البعض وتعين حدود كل
منها. هذه الصورة الأخرى للوجود هي الزمان، فالزمان هو الذي يمدُّ المكان بذلك
العنصر الذي يكون المكان بدونه خلاءً تامًّا. وعلى ذلك فبدون المكان لا تتجمَّع
اللحظات سويًّا في الزمان، وبدون الزمان لا توجد في المكان نقاط يتعين جمعها
سويًّا، ومعنى ذلك أنه لا يُمكن وجود لحظة من الزمان دون موقع في المكان، ولا نقطة
في المكان دون لحظة من الزمان، والنقطة في المكان تحدث في لحظة محدَّدة في الزمان،
كما أن اللحظة في الزمان تشمل نقطة محدَّدة من المكان. وعلى ذلك فليس ثمة نقاط أو
لحظات في ذاتها، وإنما هناك فقط نقاط-لحظات أو حوادث خالصة، وبالمثل لا يوجد مكان
خالص ولا زمان خالص، بل هناك فقط زمان-مكان أو مكان-زمان؛ أي اتصال من
النقاط-اللحظات، أو حوادث خالصة.
هذه الآراء تختلف عن نظرية برجسون في الزمان في نقطة حاسمة، فجهد برجسون متجه كله
إلى إزالة الصبغة المكانية عن الزمان، وعرض الزمان في نقائه التام بوصفه
مدة duration. أما ألكسندر فيرى في اصطباغ
الزمان بصبغة مكانية صفة أساسية فيه، «فالمدة الحقيقية» عند برجسون هي نزع كامل
للصفة المكانية عن الزمان، أي إنها تحرير الزمان من القيود المكانية التي تغلله،
وتحقيق لماهيته الخالصة تبعًا لذلك. أما في نظرية ألكسندر فإنه يجعل ماهية الزمان
تَنحصِر في تلك الصفة التي أنكرها عليه برجسون — وهي المكانية — أعني التداخل التام
للمكان والزمان إلى حدِّ تكوين وحدة جديدة، هي المكان-الزمان، ورغم هذا الفارق
الأساسي؛ فقد ساهم برجسون بالكثير في ميتافيزيقا ألكسندر.
ويكون عرض ألكسندر لتصور المكان-الزمان، أساس الميتافيزيقا عنده؛ فالمكان-الزمان
هو الجوهر الأصلي (primal stuff) للعالم، وهو أشبه
بأصل هائل تتولَّد منه الأشياء في كليتها، وهو الوحدة التي تشمل كل نوع من التنوع.
ولكنه أيضًا يكون ماهية الأشياء بعد خروجها من هذا الأصل، وانفصالها في أشكال وصور
محدَّدة متنوِّعة، فحتى عندما ينقسم المكان-الزمان إلى كثرة من الأشياء المتعدِّدة،
نراه يتغلغل في هذه الكثرة ويملؤها بماهيته، ولولاه لما أمكن أن يدوم شيء أو يحدث
شيء، وهو الأساس والشرط الأول لكل ما يوجد تجريبيًّا وكل موجود مُتناهٍ (مادي وذهني
أيضًا)، ليس فقط من الوجهة الواقعية، بل أيضًا من الوجهة المنطقية الأولية. وعلى
ذلك فإنه هو ذاته لا مُتناهٍ يعلو على التجربة، ونستطيع أيضًا أن نُسميه إطار
المقولات بالنسبة إلى العالم، أو الوسط الشامل لكل شيء، أو الكون في صورته الأصلية،
أو الواحد أو المطلق أو الله في نهاية الأمر. فليس من وراء وحدة المكان-الزمان شيء،
ولا بد أن نتصوَّر الله ذاته على أنه داخل في هذه الوحدة.
ويُطلق ألكسندر عادةً على المُطلَق عنده اسم الجوهر
(
stuff) الأصلي (الهيولى). ولكن ما سبق يوضح
بدرجة كافية أن هذا اللفظ ينبغي ألا يفهم بمعنًى حرفي، بل بمعنى مجازي، وأول ما
ينبغي تجنُّبه هو أن نفهمه بمعنى المادة (
matter)،
أو نتصور أن ألكسندر قد جسَّم المادة بحيث تُصبح ماهية للأشياء، وانساق في تيار
المادية المألوفة؛ فالمادة في مذهبه شيء ثانوي تمامًا، ينتمي إلى العالم التجريبي
المتناهي، ولا يصلح ماهية للوجود. ومن جهة أخرى فإن المكان-الزمان، كما سنرى فيما
بعدُ، أقرب كثيرًا إلى ما هو ذهني، رغم أنه يتميَّز عنهما معًا بطابعه الأولي
a priori، وسوف نرى أنه ينظر إلى الذهن على أنه
متوقِّف على المادة، ولا ينظر إلى المادة على أنها متوقِّفة على الذهن. وفضلًا عن
ذلك فإن العنصر المكاني في الجوهر الأصلي (
primal
stuff) هو ذاته الذي يشير إلى صلته الوثيقة بالمادة. وهكذا
يكون من الصحيح تمامًا أن تُسمى ميتافيزيقا ألكسندر طبيعية
(
naturalistic)؛ لأن تنظيمها كله مرتبط بمقولات
العلم الطبيعي، وأن تُعد شكلًا مهذبًا أو معدلًا من أشكال المادية، تمييزًا لها
من
المادية الخشنة المألوفة.
٥٣
ومما يؤيد ذلك كل التأييد، أن العنصر الزماني تُصبح له الغلبة، على حين تصبح
للعنصر المكاني مرتبة ثانوية، في التحديدات الأخرى لصفات المكان-الزمان،
٥٤ ففي إحدى الفقرات يقول إن من الواجب النظر إلى المكان على أنه مُتولِّد
عن الزمان، ما دام الزمان هو أساس الحركة. ومن الممكن التعبير عن هذه العلاقة
بتشبيه نصور فيه المكان بأنه يسير في ركاب الزمان، لا العكس؛ إذ ليس للمكان حركة
في
ذاته، ومما يلقي ضوءًا على المعنى الحقيقي الذي ينبغي أن يفهم به الجوهر الأصلي
(
primal stuff) آخر الأمر، أن لفظ الحركة
يستخدم أحيانًا بدلًا من لفظ المكان-الزمان؛ إذ يقال عن المكان-الزمان إنه نسق من
الحركات، وتُسمى الحركة بالكيفية الوحيدة التي يملكُها الجوهر الأصلي الذي هو، فيما
عد ذلك، خال من الكيفيات؛ غير أن هذه الحركة التي تحدث في المكان-الزمان ينبغي أن
نفهم على أنها حركة خالصة؛ لأنها تسبق أصل الأشياء المادية. وليست مجرَّد علاقة
بين
أشياء توجد من قبل، ويمكن أن يقال عنها إنها متحركة؛ فالحركة الخالصة شيء نهائي،
سابق على كل انفصال، وهي كالمكان-الزمان تُسمى جوهرًا
(
stuff) تصنع منه الأشياء، وتبدو هذه النظرية
أشبه بإحياء للتأمُّلات الكونية للمفكرين الأيونيين القدامى، وهي تذكرنا بالنار
الكونية عند هرقليطس والدوامة الأصلية عند أنبادقليس وأنكساجوراس، بل إن ميتافيزيقا
ألكسندر تبدو، إذا ما نظر إليها من هذه الناحية، على أنها آخر وأعظم تجسد للتفكير
الهرقليطي، فالحركة هي ماهية العالم، ليس فقط في مرحلته الأصلية، بل أيضًا بعد أن
اتخذ الوجود المتناهي صورًا محددة، والحركة الأصلية، التي انبثقت عنها الأشياء
وكأنها مُنبثقة عن دوَّامة دائمة الدوران، تصل إلى الحادث التجريبي بدوره، بوصفهًا
نبضًا أو نزوعًا. فليس ثمَّة وجود ثابت مُستقر عند ألكسندر، ولا شيء ساكن على نحو
مطلق، «ولو كان أيُّ شيء ساكنًا، لكان كل شيء ساكنًا، ولفقد المكان-الزمان معناه»،
٥٥ أما ما نُسمِّيه نحن بالسكون فهو بدوره حركة؛ إذ إنَّ الجسم الساكن في
حركة بالنسبة إلى المكان-الزمان، وكل الأشياء مُنغمسة في حركة الصيرورة الأزلية،
والكون من أقصاه إلى أقصاه تاريخ في المجرى الدائم الانسياب للحوادث. وهكذا ينتصر
الزمان آخر الأمر على المكان.
ولقد وضع ألكسندر أيضًا نظرية مفصَّلة للمقولات، في إطار نظرية المكان-الزمان،
صرح هو نفسه بأنها هي النقطة المركزية في مذهبه الميتافيزيقي، فللأشياء — إلى جانب
كونها تشغل المكان-الزمان — عدد كبير من الخصائص والصفات التي يُمكنُنا أن نميز
بينها فئتين بوضوح؛ تلك التي تتغيَّر من شيء إلى آخر، وتلك التي تنتمي أساسًا إلى
الأشياء جميعًا. أما الأولى المتغيرة فتُسمى بالكيفيات أو الصفات، وأما الثانية
الثابتة فتُسمى بالمقولات؛ فالكيفيات خصائص تجريبية. أما المقولات فنظرًا إلى أنها
هي المكوِّنات الأساسية الكلية لكل ما هو مُعطًى في التجربة، فإنها خصائص أولية
(a priori) غير تجريبية، أو مقولية
categorial، ويُسميها ألكسندر أيضًا — مُقتديًا
في ذلك بكانت — باسم مقولات التجربة؛ وبالتالي فهي أيضًا تجريبية ولكن بمعنى أوسع،
مثلما أطلق على الفلسفة اسم البحث التجريبي فيما هو غير تجريبي؛ فهي الدعامة
الضرورية لكل حقيقة تجريبية، وهي تتشابَك دائمًا في كل شيء وتتغلغل فيه وتملؤه،
وأبرز صفاتها هو قدرتها على التغلغل، التي لا تمتدُّ إلى الأشياء الخارجية المادية
فحسب، بل أيضًا إلى الحياة الروحية النفسية، وهي ليست صورًا ذاتية للذهن، أو مجرَّد
وظائف للذهن تطبق على الأشياء، وإنما هي عوامل موضوعية تكون الأشياء وتُعطي معها
وفيها، وهي ما يتبقى عندما تنزع عن الأشياء صفاتها الحسِّية وغيرها من الصفات. ومن
الحقائق الهامة عنها أنها مُرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالجوهر الأصلي؛ فهي الصور أو
الصفات الأساسية للمكان — الزمان، بقدر ما تسرَّب هذا إلى الوجود المتناهي واتخذ
شكلًا في الظواهر الجزئية، أما المكان-الزمان ذاته؛ فهو بوصفه الأصل اللامتناهي
لكل
شيء مُتناهٍ، لا يكون قد اتخذ شكلًا مقوليًّا بعد. ولكن سرعان ما يبدأ تغلغل
المقولات فيه مع بادرةٍ لظهور الأشياء المنفصلة.
وسوف نختار، من بين عدد المقولات التي تَحدَّثَ عنها ألكسندر، مقولة العِلية
وحدها بوصفها مثلًا لها؛ فقد كان أعظم فضل أسداه هيوم، هو أنه خلَّص تصور العلة
من
كل الارتباطات التي تبعثها الجهالة والنزوع إلى التشبيه بالإنسان؛ غير أن مذهبه
في
الانفصال المُطلق (atomism) قد حال بينه وبين
الوصول إلى لُب المشكلة؛ فقد حلَّ الرابطة التي تجمع العلة بالمعلول، ولم يتمكَّن
بعد ذلك من الاهتداء إلى الوحدة التي قضى هو ذاته عليها منذ البداية، ويقدم ألكسندر
وصفًا غاية في البساطة والوضوح لهذه المقولة، يستعين فيه بتصور الحركة؛
فالمكان-الزمان — بوصفه نسق الحركات — هو نسق متَّصل، تتصل فيه كل حركة بكل حركة
أخرى، وما العلية إلا علاقة الاتصال هذه بين حركتَين مختلفتَين، فما يسبق — في
الترتيب الزمني — الحركة التي يمتد فيها هو العِلة، والآخر هو المعلول. وعلى ذلك
فالعلية هي اتصال جوهرين داخل كل من المكان-الزمان، وهي انتقال للحركة، لا يعني
أن
العِلة تختفي في الجوهر (substance) الذي يقع عليه
الفعل، وإنما يعني فقط أنها تضاف إلى الحركات التي كانت ماثلة فيه من قبل.
ولقد رأينا أن نظرية المكان-الزمان تكون أساس مذهب ألكسندر، وأن نظرية المقولات
هي نتيجتها المباشرة. وبهذه الأخيرة ترتبط نظرية أخرى غاية في الأهمية، هي نظرية
الوجود التجريبي ومشكلاته، ويُواصل ألكسندر الكلام في هذا القسم عندما ينتقل إلى
فكرة الألوهية التي يختتم بها المذهب؛ ففي الباب الثالث ينتقل البحث إلى الميدان
الواسع للواقع المجرَّب، ويسترشد هذا البحث بفكرة جديدة أساسية هي إحدى الدعامات
الرئيسية للمذهب، وقد أثبتت هذه الفكرة في تطوُّراتها التالية أنها مفيدة إلى أقصى
حد، بل أصبحت شائعة متداولة بين الناس إلى حدٍّ ما، تلك هي الفكرة التي ظهرت في
نظرية الطفرة (emergence) أو الظهور الجديد، وتعبر
هذه الفكرة عن صياغة لقانون كوني عام للتطور، وترتيب وجمع بين مراحل الوجود من وجهة
نظر جديدة، وتمثل هذه الفكرة من الوجهة التاريخية استمرارًا لفلسفة سبنسر التطورية
وتعميقًا لها في ضوء آخر تطورات العلم والفكر، مثلما كانت من قبل ذلك فكرة برجسون
في التطور الخلاق، وهي الفكرة التي تلقى منها ألكسندر قوة دافعة مباشرةً، والتي
يُمكن أن تُعَدَّ فكرته الخاصة نظيرًا لها بين الإنجليز. وقد انتهى لويد مورجان Lloyd Morgn قبل ألكسندر، ومعه أيضًا، إلى
نظرية مماثلة بناءً على اعتبارات بيولوجية أساسًا، وكان ألكسندريدين لمورجان بفضل
مباشر عليه. ولكنَّا ندين مع ذلك لألكسندر بفضل تطبيق الفكرة الجديدة في مجال
الميتافيزيقا، عندما أدمجها في مذهبه بعمق.
إن الأشياء التجريبية تجمعات لعناصر داخل مجال محدَّد من المكان-الزمان، هو ذاته
جزء أو قسم من الاتصال اللانهائي للمكان-الزمان بوجه عام، وبعبارة أخرى: فهي مركبات
من الحوادث أو الحركات الخاصة لها درجات متعدِّدة من التعقيد. وفضلًا عن ذلك فهي
تمتلئ بتلك الصفات المقولية التي تتغلغل في كل جزء متناه من المكان-الزمان، وتنبع
من ماهية المادة الأصلية لتصب في العالم التجريبي، ولها أيضًا صفات منفصلة، تتغير
دوامًا، وتجدد ذاتها باستمرار، على حين ينبغي أن ننظر إلى المادة الأصلية على أنها
خالية من الصفات، ما لم نعترف بأن الحركة الخالصة هي صفتها المميزة الوحيدة؛
فالمقولات هي الدعامة أو الهيكل الوحيد للعالم، ولا يكون للأشياء لون أو شكل أو
صوت
أو رنين، إلا من خلال الكيفيات؛ فعندئذٍ فقط ينسج بساط الحياة المتعدِّد الألوان،
الذي يبهجنا بريقه الزاهي بألوانه الكثيرة. وهكذا يبدأ وجود هذا العالم الحي — عالم
الأشياء — منبثقًا على نحو غامض من الأصل الأول عند نقطة محدَّدة من الزمان،
وعندئذٍ تنشأ مركبات الأجزاء أو تجمعاتها، التي ترتبط سويًّا في صور وأشكال موحدة.
وهنا تنشأ مراحل للوجود لكل منها صفاته المميزة الخاصة، وفي خلال التطور تنشأ صفات
جديدة، ومراحل للوجود متجددة دوامًا ومن مرتبة أعلى، وذلك على أساس العمليات
الأولية بترتيب وتجمع جديد للعناصر، ويصف ألكسندر هذه العملية كما يلي، فعمليات
مرحلة من المراحل هي عمليات أ، ولها الصفة أ، ومن هذه العمليات ينشأ تجمع خاص، هو
أ
ب، له الصفة ب، ورغم أن عمليات أ ب هي أيضًا عمليات أ، فإنها ليسَت كذلك فحسب، بل
هي تقف على مستوى مخالف لمستوى عمليات أ، يُمثل المرحلة التالية الأعلى للوجود؛
فالصفة العُليا تنبثق عن المستوى الأدنى للوجود، وترجع جذورها إليه؛ غير أنها ترتفع
أعلى منه، ولا تعود مُنتمية إليه، وإنما تجعل لما يمتلكها مرتبة أعلى في الوجود،
تسري عليها قوانين خاصة في السلوك، ويُسمِّي ألكسندر الصفة الناشئة حديثًا باسم
الصفة «الطافرة emergent»، وعملية النشوء باسم
«الطفرة». وهكذا يظهر الذهن طفرة من مجال الحياة، والحياة من العالم غير العُضوي،
وترتكز هذه العملية على رفع العناصر التي يتألَّف منها المستوى الأدنى إلى مستوى
المزيد من التعقيد والتنوع. أما كيف تحدُث هذه العملية الخلاقة في الفرد فهذا ما
لا
يُمكننا تفسيره، وعلينا أن نقبلها بوصفها حقيقة تجريبية، تستحق الاحترام المُنبعث
عن تقوى طبيعية.
وعلى أساس الأفكار السابقة يضع ألكسندر الخطوط العامة لمذهبه الكسمولوجي في
التطور الطافر
emergent evolution؛ فالعالم
التجريبي ينشأ من أساس أصلي هو المكان-الزمان، الذي تغوص جذوره في أعماقه الخفية،
ويتبدى المكان-الزمان على أنه جوهر العالم، الذي يظلُّ باقيًا بعد طرح جميع الصفات
والمقولات الطافرة؛ فهو اتصال حاضر في كل شيء ومُتغلغل في كل شيء، أو هو سيال من
الحركات الخالصة له طابع المكان-الزمان، ونحن نُسمي أدنى المراحل حركة خلت تمامًا
من كل الصفات، وبين هذه المرحلة وبين المستوى التالي يتَّخذ الكون التجريبي تركيبه
الأساسي، وهنا لا نستطيع الملاحظة أن تُوصلنا إلى أية نتيجة. ولكنا نستطيع أن نفترض
إن الحركة الخالصة تنتقل إلى حركة مليئة بالمادة، وأن المادة الآلية (كالإلكترونات
والذرات والجزيئات) تمثل المستوى الأول لعالم التجربة، وتضاف الآن إلى علاقات
المكان-الزمان الخالصة صفة جديدة هي المادية. ومن الواضح أن الكيفيات الأولى للمادة
تسبق كيفياتها الثانية، ويلي ذلك مستوى الوجود الفيزيائي، حيث تُعَد الصفة
الكيميائية — على الأرجح — صفة جديدة تظهر طفرة من الصفة الفيزيائية. وقد تكون هناك
مراحل وسطى بين كل مستوى من المستويات التي تحدثنا عنها هنا، بل قد تكون هناك مراتب
متصاعدة تدريجيًّا داخل المستوى الواحد، وفي داخل العمليات الفيزيائية الكيميائية
وباتِّصال معها، تظهر صفة جديدة هي الحياة، والحياة ليست ظاهرة ثانوية عارضة
بالنسبة إلى المادة، وإنما هي تظهر طفرة منها، كما يرفض ألكسندر نظرية المذهب
الحيوي الجديد
Neo-Vitalism، التي ترى أن
للعضوي مادة خاصة، كالكمال
entelechy عند
دريش
Driesch،
٥٦ فالمادة العضوية تنتمي بأسرها إلى المجال الفيزيائي الكيميائي، ولو
أمكن معرفة التجمع الخاص الذي ينتج الحياة، لكان قابلًا للتحليل تمامًا إلى عمليات
فيزيائية وكيميائية. وليس ثمة سبب كافٍ لفهم الاتصال بين التركيب المادي والمستوى
الذي يظهر منه طفرة، وهو مستوى التركيب الحيوي. فلا يوجد بين الحياة والمادة فاصل
قاطع لا يعبر. وهنا نجد تعارضًا واضحًا بين الاتصال وبين الطفرة. فإذا كانت المراحل
تَنتقِل دوامًا كل إلى الأخرى؛ فعندئذٍ يصعُب فهم تدخل ما هو جديد على نحوٍ خلَّاق؛
أي العنصر الذي يظهر طفرة بحق، وفضلًا عن ذلك ففي وسعنا أن ندرك بوضوح الميل إلى
تفسير الأشياء من أدنى؛ أي تفسير الصفات العليا بالمستويات الدنيا، بحيث تحدد الصفة
المميزة لما هو جديد وتُفْهَم بطريقة جزئية. وهنا نجد أن تفكير ألكسندر يتأثر
تمامًا بالأفكار المادية في الحركة التطورية بصورتها القديمة.
ويزداد هذا ظهورًا عندما نصل إلى المرحلة التالية الأعلى، التي تطلق عليها تسمية
شاملة هي الوعي أو الذهن؛ فالذهن لا يحتلُّ مكانًا استثنائيًّا في عملية التطور
الطافر، ولا يعلو على عالم الطبيعة، بل هو مُتغلغل فيه بعمق، ومعنى ذلك أن قبضة
المذهب الحديدية ممسكة به، والعمليات الذهنية تتطوَّر من التركيبات العضوية في
المجال الحيوي، وتتطور داخل هذه العمليات من الشروط الفسيولوجية للجهاز العصبي.
وعلى ذلك فإن الحاجة تدعو إلى تجمع خاصٍّ ذي تركيب حيوي أو عصبي، حتى يمكن أن ينشأ
الذهن. وليس ثمة حادث ذهني يناظر كل حادث عصبي، وإنما ينطوي كل حادث ذهني في ذاته
على انبثاق سمة مميزة جديدة. وقد خلقت الطبيعة هذه الصفة الجديدة — وهي الذِّهن
—
من ظروف فسيولوجية معينة، على أن هذه الصفة ليست في ذاتها فسيولوجية، وإنما هي تحيا
وتعمل وتوجد في ظروف فسيولوجية. وإذن فالذهن شيء قديم وحديث معًا، وهو حيوي. ولكنه
ليس حيويًّا فقط، وجذوره متغلغلة في العمليات العصبية، ولكنه يرتفع فوقها. وهنا
أيضًا يؤكد ألكسندر اتصال الحياة الروحية كلها بالمراحل المتقدمة عليها؛ إذ تتصل
مباشرةً بالعمليات العصبية للمخ، وتتصل أيضًا بطريق غير مباشر بالظواهر العضوية
وغير العضوية الدنيا.
وقد ربط ألكسندر فكرة الذهن — في سياق آخر — بأسس مذهبه ربطًا أوثق، وجمع بينها
مباشرةً وبين نظريته في المكان-الزمان، وهو هنا يتقدم كثيرًا في صبغ الذهن بصبغة
طبيعية مادية، ولا يتردَّد في التحدث عن الذهن ذاته على أنه مكاني-زماني، وعن
مكان-زمان ذهني خاص، تتكشَّف فيه نفس خصائص المكان-الزمان المادي، ويكون في هوية
مع
جزء منه؛ فعُنصراه المكاني والزماني يرتبطان ويتداخلان سويًّا على نفس النحو الذي
رأيناه يحدث في حالة المادة الأصلية؛ فالمكان-الزمان الذهني جزء متناهٍ من لا
نهائية المكان-الزمان بوجه عام، ومن الواجب أن ننظر إلى العمليات الذهنية، لا على
أنها تنقضي في زمان فحسب، بل على أنها أيضًا تشغل مكانًا، أو تحل — على الأقل —
في
موقع محدد من المكان. وعلى ذلك فللمكان بالذهن نفس العلاقة الوثيقة التي له
بالمادة، والذهني لا يقلُّ امتدادًا عن المادي، وما الذات الذهنية العليا على جميع
مستوياتها إلا استمرار وتكشف وصقل للذات الجسمية، والمحل الخاص الذي تحدُث فيه
عمليات النفس هو ذاته المادة العصبية في الذهن، والتجارب النفسية تشغل مواضع مختلفة
من المكان الذهني، فتجربة حادث حاضر تحدث في مكان يختلف عن تجربة حادث ماض أو مقبل.
ولكن لما كان من الممكن أن تغير التجارب مواضعها (كما يحدث مثلًا عندما يتحول شيء
حاضر إلى شيء ماض)، فإن المكان المجرب مليء أيضًا بالزمان المجرب، وبالعكس يتوزع
الزمان المجرب على المكان المجرب، ولا يزول الماضي بمجيء الحاضر، بل يترك فيه
آثاره؛ فالماضي يتغلغل في الحاضر. وهذا التغلغل مُطابق تمامًا لتغلغل الزمان في
المكان. وهنا فقط يمكننا أن نفهم ما عرض من قبل في نظرية المعرفة، من أن الذات
العارفة أو الوعي ليست إلا شيئًا واحدًا ضمن أشياء أخرى في عالم مشترك، وأن
المحتويات النفسية (من إدراكات وصور وأوهام وتصورات) تنتمي في طريقة وجودها إلى
العالم الفيزيائي الحقيقي، وهذا يعني — في ضوء الميتافيزيقا — أنها كلها خاضعة
لظروف المكان-الزمان. وهكذا فإن الواقعية التي تتبدى بصورة غاشمة في نظرية المعرفة،
تجد دعامتها وتفسيرها في المادية الميتافيزيقية.
وأخيرًا، فإن الوحدة الوثيقة بين البدني والذهني تبرر نتيجة أخرى موغلة في الطابع
التأملي، يقصد منها القضاء على الفكرة الأساسية في نظرية الطفرة، أو على الأقل
إضعافها كثيرًا؛ ذلك لأنَّ ألكسندر — رغبة منه في تأمل مختلف مجالات الوجود
التجريبي من وجهة نظر واحدة — يتقدَّم بنوع من الصيغة الكلية التي تقوم على مثال
وحدة الذهن بالجسم. هذه الصيغة التي لا تدَّعي لنفسها حقيقة تامة، بل تقدم على أنها
فرض مفيد فحسب، تقول: إن الزمان في مجموعه وفي أجزائه يقف من المكان وأجزائه
المناظرة في علاقة مشابهة لعلاقة الذهن بأساسه الجسمي، أو بالاختصار: إن الزمان
هو
ذهن المكان، والمكان جسم الزمان. وهكذا يفترض ألكسندر أن أصل الوجود بأكمله، وهو
المكان-الزمان، يتضمَّن عنصرًا — هو الزمان — له بالنسبة إلى العنصر الآخر — أي
المكان — وظيفة تشبه وظيفة الذهن بالنسبة إلى مقابله الجسمي. هذه الصيغة تنطبق على
المستويات الأخرى للوجود. وهكذا فإن الصفة الطافرة في مستوى ما، تبدو على أنها ذهن
هذا المُستوى، ويبدو المستوى ذاته على أنه الجوهر الجسمي الذي تنبثق منه الصورة
الجديدة؛ غير أن الوجود المادي لا يعود في هذه الحالة ماديًّا فحسب، بالمعنى الذي
توضع فيه المادة مقابل الذهن، بل إن المادة ذاتها تشمل عنصرًا يناظر الجسمي والنفسي
معًا، ويكون مادية المادة، أيًّا كانت هذه، ورغم أن المادة لا تدب فيها الحياة بنفس
المعنى الموجود لدى الكائن العضوي، فإنها مع ذلك تحوي عنصرًا يلعب فيها دورًا
مماثلًا لذلك الذي تلعبه الحياة في التركيب العضوي أو الوعي في الشخصية الإنسانية.
وهنا يرى ألكسندر نفسه مُضطرًّا إلى استخلاص النتيجة القائلة: إن هناك سلسلة من
القرابة تسري في الكون بأسره، وأنه ليس ثمة وجود لا يُناظر وجوده — على نحو أو آخر
— وجودنا نحن، الذي هو أعلى وجود معروف لنا في نظام العالم. وإذن فليس ثمَّة شيء
ميت أو جماد في الكون. وعلينا أن ننظر إلى المكان-الزمان ذاته على أنه حيٌّ على
نحو
ما. وهكذا ينتهي ألكسندر — آخر الأمر — إلى مذهب في شمول الحياة أو شمول النفس،
يتعارض تمامًا مع الأساس التجريبي البحت الذي أعلن أنه بنى مذهبه الميتافيزيقي
عليه، ورغم أن هذا التأمل بدوره يستلهم — كما هو واضح — أفكارًا مُتطلعة إلى
الأمام؛ فمن الجليِّ أنه يسدد ضربة قاتلة إلى فكرة الطفرة؛ ذلك لأن الحدود بين
المستويَين تختفي الآن إلى حدٍّ بعيد، فضلًا عن أن الفكرة المفيدة، التي تنظر إلى
الطافر على أنه الجديد بصورة خلاقة، تفقد كل ما لها من أهمية.
وبفِكرة الذهن يصل نظام التطور الطافر إلى أعلى مستوى يُمكن أن تبلغه التجربة
البشرية، ولكن يبقى بعد ذلك مجال آخر لا يرتبط مباشرةً بالحجج السابقة؛ وبالتالي
يحتاج إلى بحث منفصل، هذا المجال — الذي ينشأ مباشرةً عن المجال الذهني — هو عالم
القيم. وقد أطلق ألكسندر على القيم — مستخدمًا مصطلحًا لم يسبقه إليه أحد — اسم
الكيفيات الثالثة للأشياء، وهو يقصد بها نفس المعنى الشائع؛ أي إنها هي الحق والخير
والجمال، وأضدادها، ولقد رأينا من قبلُ أنه فصل الكيفيات الأولى والثانية تمامًا
عن
الذات العارفة، وردَّها إلى المجال الموضوعي؛ فهي تنتمي إلى الأشياء بغض النظر
تمامًا عن كونها تدرك في وعي أم لا. وهذا أمر لا مفر منه في مذهب متطرف الموضوعية
كمذهب ألكسندر، بل إن الكيفيات الثانية ذاتها لا تدين بوجودها للذهن ولا للحواس،
وإنما تكمن ماديًّا في الموضوعات الخارجية؛ أي إنَّ اللون مثلًا حاضر إذا ما توافرت
الشروط الفيزيائية اللازمة (كوجود الضوء)؛ غير أن هذا لا يُصدق على الكيفيات
الثالثة أو القيم، فهنا يعترف ألكسندر صراحةً بأن علاقة القيم بالوعي الذي يدركها
ضرورية لها؛ فالوردة حمراء سواء كنت أنا الذي أدركها أو غيري، ولا يختلف الأمر في
شيء إن كان ثمة أعين تدركها أم لم يكن؛ غير أن القضية القائلة إن الوردة حمراء لا
تكون «صحيحة» إلا إذا صرحت بها، أو صرح بها غيري، أو إذا نسبت الصفة «حمراء» إلى
الوردة عن طريق ذات مدركة واحدة أو أكثر من واحدة. وإذن فلا بدَّ من تمييز واضح
بين
الحقيقة والواقعة؛ فالواقعة — بما هي كذلك — تقف بمعزل عن الحقيقة أو البطلان، وعن
كل توقُّف على الذات. أما حقيقة الواقعة فلا تصح إلا بالنسبة إلى الذات التي
تدركها. وعلى ذلك فالقيَم ليسَت صفات للأشياء، وإنما هي من خلق الذهن، وإن لم يكن
هذا يعني أنها غير واقعية، فرغم أنه مُتوقفة على الذات المقومة، فإنها تمكن في
الموضوعات التي توجد واقعيًّا على نحو مستقل عن الذات، وهي صفات جديدة للواقع، وإن
لم تكن كيفيات بالمعنى الصحيح. ولكن مجرَّد قيم تنشأ من اتصال الذهن بموضوعه
واللون، الذي أدركه في تجربتي جميلًا، ينتمي بوصفه لونًا إلى الموضوع؛ غير أني أضيف
جماله إليه بوصفه صفة جديدة، عندما يحدث ذلك الاتصال الذي يعطيني على أساسه لذة
جمالية.
وإذن فالقيَم هي الكيفيات الوحيدة التي لا تُصْبَغ بالصبغة الموضوعية، من بين
جميع الكيفيات الطافرة، ولا يقضي على ذاتيتها كون ألكسندر يجعلها متوقِّفة على
الوعي الجماعي، لا الوعي الفردي؛ فالفرد العارف لا يُمكنه أن يملك الحقيقة لنفسه
فقط، بل توجد الحقيقة فقط عندما يساهم أغلبية من الأفراد بطريقة جماعية في النسق
الكامل للقضايا الصحيحة، بينما يعني الخطأ طرد الفرد المُخطئ من المجتمع العقلي،
والفرد لا يدرك الحقيقة إلا من حيث هو ممثِّل للروح الاجتماعية. وهذا يصدق أيضًا
—
مع الفارق — على المجالات الأخرى للقيمة؛ فالاجتماعية إذن صفة أساسية لكل القيم،
شأنها شأن الذاتية، ولو تأمَّلنا العلاقات المتبادلة بين كيفيات القيم الفردية،
لكان من الواضح أنها مُتضمنة كلها في قيمة الحقيقة، من حيث إن موضوع هذه الأخيرة
هي
الواقع في كليته؛ فالحق يُمثل الواقع كله، والخير هو أعلى تكشف للموجود المتناهي
المعروف لنا، والجمال يحتلُّ موقعًا وسطًا بين الاثنين، من حيث إن الروح الجمالية
لا تساير الواقع، بنفس الطريقة التي تُسايره بها الروح النظرية، ولا تُشكل الواقع
بالطريقة التي تشكله بها الروح الأخلاقية، وإنما تجمعهما سويًّا، وتقدم تصويرًا
حرًّا للواقع، تجعل فيه الجمال صورة له.
ولقد كانت نظرية القيم عند ألكسندر أكثر تحررًا من قيود المذهب من معظم الأجزاء
الأخرى في ميتافيزيقا ألكسندر. ومن جهة أخرى فإن المذهب يعود إلى اكتساب حقوقه
كاملة في فكرة الألوهية. فهذه الفكرة تمثل خاتمة للمذهب الميتافيزيقي وجمعًا
لأطرافه سويًّا أكثر مما تمثل معرفة لله أو تبصرًا به. وليست هذه الفكرة بحثًا فيما
يكونه الله، بقدر ما هي بحث في المكانة والوظيفة المتبقية له في عالم مركَّب على
هذا النحو، وإن أي شخص قرأ مؤلفات ألكسندر بإمعان ليكاد يستطيع أن يتصور رأيه في
هذا الموضوع مقدَّمًا؛ ففي وسعنا استنباطه من نظرية التطور الطافر؛ ذلك لأن الذهن
هو أعلى ما نعرفه حتى الآن من الكيفيات التجريبية التي ظهرت طفرة عن الوجود في
مراحل دائمة الصعود. وعلى ذلك فليس ثمة سبب يدعو إلى افتراض أن تسلسل الكيفيات
يستنفد عند حد الذهن؛ فعندما تتولد من قلب الزمان اللامتناهي، صور دائمة التجدُّد،
وتظهر طفرة كيفيات دائمة العلو، كالمادة من الجوهر الأصلي، والحياة من المادة،
والذهن من الحياة، فإن التطور لا يقف عند هذا الحد، بل ستنشأ كيفيات جديدة تتجاوز
مستوى الذهن، وسوف يمضي النزوع الكوني في التطور إلى مستوى للوجود أعلى من كل ما
مر
به من قبل. هذه الصفة الجديدة التي تظهر طفرة هي التي يسميها ألكسندر بالألوهية،
وهي الصفة التي تتجاوز في العلو أعلى ما ظهر حتى الآن — أي الذهن — ولكن لما لم
يكن
في وسع المستوى الأدنى أن يدرك الأعلى بالمعنى الصحيح، فإننا نحن البشر نكون عاجزين
عن التغلغُل في ماهية الله بوصفه حامل صفة الألوهية، وكل ما يُمكننا عمله هو أن
نُصورها لأنفسنا من خلال تشبيهها بالتجربة المألوفة، وكأننا نحن أنفسنا
آلهة.
هذه الاعتبارات تؤدِّي إلى النتائج الآتية؛ فالله يتميَّز بلا نهائيته من جميع
الموجودات التجريبية التي هي مُتناهية محدودة؛ غير أن لا نهائية الله تجريبية، في
مقابل اللانهائية الأولية (a priori)
للمكان-الزمان، ومعنى ذلك أن الله لا يتمكن بعد من أن يحوز الألوهية على نحو كامل؛
لأنه لو كان كذلك لكان موجودًا مُتناهيًا يُمكن أن يحدث بعده تطور آخر، فطبيعة الله
ليست طبيعية واقعية متحققة كاملة، وهو ليس مُستوى في الوجود انتهى فيه تطور ما،
أو
يمكن أن ينتهي فيه التطور على أي نحو، وإنما الله بوصفه موجودًا فعليًّا، ليس
وجودًا متناهيًا، بل صيرورة أزلية، وهو ليس خاتمة مطاف ولكنه اندفاع أو نزوع، والله
لم يَصِل بعد إلى تألُّهه، ولو كان قد وصل إليه لما عاد إلهًا، وهو لا يمكنه أبدًا
أن يُحقق فكرة ذاته، وإنما يجد نفسه دائمًا سائرًا نحو هذه الفكرة؛ فهو — كما يقول
ألكسندر — الإله الأمثل في مرحلة الجنين. وليس ثمة كيان لا متناهٍ فِعليٌّ تكون
الألوهية صفة مميزة له، وإنما الله لا يعني إلا السعي الأزلي نحو الألوهية، الذي
يملأ الكون بأسره ويتغلغل فيه ويُؤدي صعودًا إلى صور دائمة العلو. وإذن فالله هو
المعنى الصحيح الغائي للعملية التطورية الصاعدة للعالم، والعالم في لا نهائيته
مُثقَل بالألوهية، يسعى نحوها دوامًا، والتغير والحركة المتصلان للأشياء من خلال
النزوع الإلهي، يسيران دائمًا إلى أعلى، نحو صور أرفع وأكثر امتلاءً وكمالًا؛ فالله
هو النزوع الأزلي للعالم، الذي لا يقف أبدًا عند حد، وإنما يمضي بلا انقطاع إلى
الأمام في طريق التطور الطافر.
ويُحاول ألكسندر الإجابة عن السؤال الخاص بكمون الله أو تعاليه عن طريق الصيغة
الشاملة التي تنص على أن كل مستوى للوجود يقف من المستوى الذي يليه علوًّا في علاقة
مشابهة لعلاقة الجسم بالنفس؛ فمن الممكن أن نميز بطريقة مجازية، في الطبيعة الإلهية
بدورها، بين جسم وذهن. وفي هذه الحالة يكون تصور الله منطويًا على الكُمون والعلو
معًا؛ فالله كامن في العالم من حيث جسمه. ولكنه عالٍ عليه من حيث ذهنه أو ألوهيته؛
غير أن هذه الحجة لا تبدو متسقة مع رأي ألكسندر في المواضع الأخرى، وإنما تبدو أشبه
بلعبة للأفكار؛ فاللاهوت عنده مُشبع تمامًا بمذهب شمول الألوهية، وتصور الله عنده
متشابك في نسيج العالم إلى حدٍّ يجعل كل جهوده لإنقاذ علو الله وتبرير مذهب
الألوهية العالية ضد مذهب شمول الألوهية تضيع عبثًا.
وهناك أخيرًا حُجة مُماثلة تسير في الاتجاه نفسه؛ فالله موصوفًا بهذه الصفات لا
يمكن أن يكون هو الله الذي خلق الكون، وإنما هو ذاته من خلق هذا الكون؛ وبالتالي
جزء من الكون فقط، لا كله، وتبعًا لهذا الرأي يكون الخالق الحقيقي للكون هو
المكان-الزمان، أما الله فهو مثل كل موجود آخر، مجرَّد مخلوق للجوهر الأصلي، هو
حقًّا أعلى ما ظهر حتى الآن، غير أنه مع ذلك مخلوق فحسب، ولو نظرنا إلى الله على
أنه ذلك الموجود الذين تدين له كل الأشياء بوجودها، لكان علينا عندئذٍ أن نعكس
ترتيب العالم وننظر إلى العِلة الأصلية للوجود في ضوء أعلى كيفية تجريبية له. وهكذا
فإن تصور إله خلاق، إنما هو خليط مهجَّن بين مكان-زمان خلاق، وبين صفة التألُّه
التي صنعت منه. وفضلًا عن ذلك فليس الله أزليًّا عاليًا على الزمان، وإنما هو كما
قيل في فقرة أخرى، متولِّد عن الزمان، ويوجد في الزمان، ما دامت اللازمانية في رأي
ألكسندر فكرة لا معنى لها، والأزلية ليسَت إلا عدم انقطاع التطور المندفع
قدمًا.
ولسنا بحاجة إلى مُتابعة التفرُّعات الأخرى للاهوت عند ألكسندر، والمُشكلات
المرتبطة به (كمُشكلة الشر والحرية والخلود … إلخ)، لكي نُدرك أن جرأته التأملية
قد
أدت به إلى مسالك تَبعُد بنا كلَّ البُعد عن إدراك هذه المشكلات على حقيقتها،
والواقع أنه لا يكاد يكون من المُمكن المضيُّ في عملية التصرف بالأفكار في سبيل
تحقيق مصالح المذهب، أبعد ممَّا مضى بها هو في الجزء الأخير من ميتافيزيقاه، ورغم
أنه بذل محاولة للتوفيق بين هذه التأمُّلات العقيمة وبين مُقتضايات الوعي الديني
وأفكاره. فليس من شك في أنه عالج المشكلات معالجة قاسية، نتيجة لتحمُّسه المفرط
من
أجل المذهب، على نحو يترك في كثير من الأحيان انطباعًا أليمًا، ويخفق في بلوغ أية
علاقة حية مع الموضوع، ومهما بلغ من إعجابنا وتقديرنا للصفات التأملية الرفيعة لهذا
المذهب الشامل — أعني صفات الجرأة والشمول والإصرار — فلزام علينا أن نرفض مُحاولته
استطلاع مجال هو بطبيعته غير قابل للاستطلاع، على أساس أنها محاولة غير سديدة. ولقد
توقَّف سبنسر — الذي كان ألكسندر أعظم خليفة له في عصرنا هذا — أمام المطلق بخشوع
وتبجيل صامت، ومثل هذا الموقف يبدو في نظرنا أقرب إلى الأمانة والتقوى والشرف من
الاندفاع الأهوج الذي حاول به ألكسندر أن يتغلب على هذه المشكلة.
(٥) كونوي لويد مورجان Conway Lloyd Morgan
(١٨٥٢–١٩٣٦م)
تعلم في مدرسة المعادن الملَكية بلندن، وفيها درس شئون التعدين وإدارة الأعمال،
ثم درس علم الحياة على هكسلي، واشتغل بعد ذلك محاضرًا لمدة خمس سنوات (من ١٨٧٨م
إلى
١٨٨٣م) في إحدى كليات جنوب أفريقيا، واشتغل منذ ١٨٨٤م أستاذًا لعلم الحيوان
والجيولوجيا في «الكلية الجامعية» (يونيفرستي كوليدج) ببرستول، ومن عام ١٨٨٧م إلى
١٩٠٩م عميدًا للكلية، وبعد ذلك وكيلًا لجامعة برستول.
مؤلفاته: «الحياة الحيوانية والذكاء (أو الحياة الحيوانية والذكاء الحيواني)
Animal Life and Intelligence» ١٨٩٠م،
«مدخل إلى علم النفس
المقارن Intr. to Comparative Psych.» ١٨٩٤م، «علم
النفس للمُعلمين Psych. for Teachers» ١٨٩٥م، العادة والغريزة Habit and Instinct ١٨٩٦م (ترجم إلى الألمانية في ١٩٠٩م)،
«تفسير الطبيعة The Interpretation of Nature»
١٩٠٥م، «السلوك الحيواني Animal Behaviour» ١٩٠٨م،
«الغريزة والتجربة Instinct and Experience»
١٩١٢م (ترجم إلى الألمانية في ١٩١٣م)، «فلسفة العلم عند هربرت
سبنسر Harbert Spencer: Phil. of Science» ١٩١٣م، «التطور
الطافر Emergent Evolution» ١٩٢٣م (المجلد الأول من محاضرات جيفورد)، «فلسفة في التطور A Phil. of Evolution» (مقال في كتاب
«الفلسفة الإنجليزية المعاصرة»، نشَره مويرهيد، المجموعة الأولى، ١٩٢٤م)،
«الحياة والذهن والروح Life, Mind and Spirit»
١٩٢٦م (المجلد الثاني من محاضرات جيفورد)، «الذهن في مفترق الطرق Mind at the Crossways» ١٩٢٩م،
«الذهن الحيواني The Animal Mind» ١٩٣٠م،
طفرة التجديد The Emergence of Novelty
١٩٣٣م.
ترتبط الأعمال الفلسفية للويد مورجان أوثق الارتباط بأعمال ألكسندر، عن طريق فكرة
التطور الطافر؛ فالعلاقة بين الاثنين هي بحق علاقة اشتراك في التفلسف؛ أي تقارب
في
الفكر مماثل لذلك الذي نجده بين برادلي وبوزانكيت، وهويتهد ورسل، وجيمس وشيلر، ولم
يكن أي منهما تلميذًا للآخر، بل كان كلاهما أستاذًا، يكمل في عمله الآخر ويساعده
ويدفعه قدمًا. ونظرًا إلى التشابك الوثيق بين أفكارهما، وإلى التأثير المتبادل
الدائم لها، فليس من السهل وضع خطٍّ فاصل يُحدد بدقة نصيبهما في النتيجة التي وصلا
إليها؛ فالخيوط تنتقل بينهما أمامًا وخلفًا، وتُنسَج في كلٍّ ينتمي إليهما معًا؛
ومع ذلك فهناك فوارق هامة لها دلالتها، يتمثل فيها اختلافهما في الأصل وميولهما
الشخصية والنقاط التي اهتما بها اهتمامًا خاصًّا؛ فقد نشأ ألكسندر في بيئة فلسفية
خالصة تقريبًا، ولم يكن له إلا اتصال ضئيل بالعلوم الوضعية. ومن هنا كانت جرأة
التحليقات الميتافيزيقية التي قام بها في مجال النظر الخالص الذي لا تجد منه دراسات
دقيقة. أما مورجان فهو عالم متخصِّص بالمعنى الصحيح، شُغل بعدة ميادين دراسية
عِلمية متخصِّصة، وقدم في بعضها مساهمات أصيلة، قبل أن يطلق العنان لمزاجه الفلسفي
الذي تكوَّن في وقتٍ مُبكر، فإلى جانب تعليمه الذي كان المفروض أن يصبح بفضله
مهندسًا، والذي لم يتابعه حتى النهاية، وإلى جانب دراسته الدقيقة لعلم الحياة على
هكسلي، نجد أن عمله المهني قد حتَّم عليه التبحر في موضوعات متباينة كالفيزياء
والأدب الإنجليزي والتاريخ الدستوري والجيولوجيا وعلم الحيوان، وفيما بعدُ تفرَّغ
لأبحاث علم النفس، فأسفر ذلك عن كتابات متعددة أدَّت إلى إعطاء فروع مختلفة لذلك
العلم قوة دافعة وتقدمًا غير قليل. ولقد أدَّت أبحاث مورجان في علم النفس الحيواني
خاصة — وهي الأبحاث التي دعمتها تجارب دقيقة — إلى تقدُّم فتَح عهدًا جديدًا في
ذلك
العلم؛ فمنها تلقت الحركة السلوكية — كما اعترف مؤسسها واطسون صراحةً — قوتها
الدافعة الحاسمة، وإليه ترجع كل الأبحاث المماثلة التي قامت بها المدرسة الأمريكية،
والتي تسير في نفس الطريق الذي رسمه هو؛ غير أننا لا نستطيع المضيَّ أبعد من ذلك
في
وصف الجانب المتخصص من أعمال مورجان في هذا الميدان وغيره، رغم ارتباطه الوثيق
بتفكيره الفلسفي، ومع أن هذا الجانب المتخصص لم يؤدِّ إلى تضييق مباشر لنطاق مواهبه
التأملية، فإنه أدَّى إلى كبح جماحها، وحَماه من التعميم المتسرع؛ فالحرص النَّقدي
والإمعان الدقيق للفكر، الذي نفتقده في كثير من الأحيان عند ألكسندر، يُميز كل خطوة
قام بها مورجان فيما وراء حدود العلم الدقيق في ميدان النظر الفلسفي؛ وعلى هذا
النحو لم يَصِل إلى مركب شامل لأفكاره، باستثناء بعض الخطوات المؤقتة الأولى، إلا
في وقتٍ متأخر من حياته، فبعدَ إعدادٍ ونضوج باطنٍ طويل الأمد، تحقَّق ذلك بنشر
محاضرات جيفورد التي ألَّفها في عامَي ١٩٢٢م و١٩٢٣م، والتي تحوي فلسفته في صيغتها
النهائية وعرضها المذهبي الأخير. وكما هي الحال عند ألكسندر، فإن هذا الكتاب، وكذلك
ما أحدثه من تأثير، ينتميان أساسًا إلى فترة ما بعد الحرب الأولى، رغم أن النشاط
التأليفي للمُفكرين قد بدأ منذ القرن التاسع عشر.
وسوف أُقدم فيما يلي عرضًا عامًّا لمذهب مورجان الفلسفي الناضج كما عرضه في كتب
ما بعد الحرب الأولى، وسأبرز بوجهٍ خاصٍّ تلك النقاط التي تختلف أساسًا عن
الاتجاهات الفكرية المناظرة عند ألكسندر.
فمِن المُهم أولًا أن نلاحظ أن المذهب الطبيعي الميتافيزيقي، الذي يدين في حالة
ألكسندر بالفضل الأكبر لسبنسر، وفي حالة مورجان لهكسلي، يرتبط بنظرية في المعرفة
مختلفة كل الاختلاف، يتخذ منها أساسًا له؛ فعلى حين أن نظرية المعرفة عند ألكسندر
تسير في طريق الواقعية الجديدة، فإن مورجان — الذي كان أقوى تأثرًا بالتراث
الإنجليزي — يرجع القهقرى إلى مبادئ قومية أسبق؛ أي إلى مذهب الظواهر Phenomenalism عند باركلي وهيوم. ولكن رغم أن
نظريتَه تتَّفق في أساسها مع موقف هيوم، فإنه يُعبر عنها بصورة أكثر تنوعًا بكثير
وأوضح معالم من الصورة التي عبر بها مُفكِّرو القرن الثامن عشر عن نظرياتهم، ويمكن
القول: إن مورجان قد كوَّن مُصطلحًا فلسفيًّا دقيقًا ومحددًا إلى أقصى حد، وإنه
استخدمه بمهارة كبرى، وأدخل عدة مصطلحات جديدة رائعة، أتاحت له التعبير عن آرائه
بصورة عظيمة الدقة حافلة بالمعاني، فكان في ذلك مُلبيًا لمطالب العلم الدقيق الذي
تغلغل في مذهبه بأسره ومقتديًا بتراثه.
وهو يرفض بوجهٍ خاصٍّ إلغاء الواقعيين الجدد للتمييز بين موضوع المعرفة وبين
الشيء الفيزيائي الواقعي،
٥٧ فهو يؤكِّد مع هيوم أن كل ما يمكن أن يعرف مُتضمن في ذلك النطاق الضيق
الذي نُسميه وعينا. فنحن في موقف المعرفة نقتصر على عالم الظواهر المعطاة، ولا نعلم
شيئًا عن عالم خارجي للأشياء. صحيح أننا نستطيع أن نقول بوجود هذا العالم على أساس
أنه تسليم افتراضي. ولكن لا يُمكن الإتيان ببرهان دقيق على هذا الوجود؛ فالواقعية
الجديدة ترى أن الشيء، بقدر ما يكون موضوعًا معروفًا، هو ذاته الشيء الذي يقف خارج
علاقة المعرفة هذه، ويوجد بذاته تمامًا؛ فهو — كما يقول ألكسندر — ماثل فحسب للذات
العارفة، أو في معية معها. وهذا المثول أو المعية لا يؤثران أدنى تأثير في طابعه
الخارجي أو تركيبه الباطن، أما في مذهب الظواهر
(
Phenomenalism) عند مورجان، فينبغي أن نفهم
كلمة الموضوع على أنها تعني — على حدِّ تعبير مورجان — كل ما يزيد على الموضوع
الفيزيائي، نتيجة لواقعة دخوله في فعل المعرفة الذي تقوم به الذات. إن الذهن هو
الذي يضيف هذه الزيادة؛ وبالتالي فلا شيء من مشاعرنا وإدراكاتنا وتمثلاتنا … إلخ
ينتمي إلى الموضوع الفيزيائي بما هو كذلك، وهي إذن ليسَت واقعية فيزيائيًّا من حيث
طريقتها في الوجود، وإنما هي تنتمي إلى مجال الظواهر النفسية؛ فالذهن إذن ليس مجرد
ملاحظ يتأمَّل الأشياء كما هي في ذاتها، وإنما هو يتعاون في تشكيل العالم الموضوعي
بحيث يُصبح على ما هو عليه، والموضوع تركيب ساهم الذهن بنصيب بارز في تكوينه، وإلى
هذا المدى يظل مورجان على اتِّفاق صريح مع المثالية؛ فمن الواجب إذن أن نميز في
عملية المعرفة تمييزًا أساسيًّا بين الشيء الموضوعي الذي هو تركيب مؤلَّف من
تحديدات نفسية، وبين ما تسقط عليه هذه التحديدات؛ أي الشيء اللانفسي، الذي يسلم
به
فحسب، أو يفترض دون برهان، والذي يوجد قائمًا بذاته، مُستقلًّا تمامًا عن أي شيء
نضيفه عليه، والذي يمثل مجرَّد هيكل لما تكسوه المعرفة لحمًا ودمًا؛ فالمعرفة عملية
تركيبية قوامها ورود الشيء فيزيائيًّا، وعلاقة الإسقاط النفسي على الموضوع، فضلًا
عن نظام عظيم التعقيد من العمليات التي تتوسَّط بين هذه وتلك. وفي فقرة أخرى يوضح
مورجان عملية المعرفة عن طريق ضرب مثل بسهمٍ يكمن طرفه الذي يحمل الريش في شخص
(الذات) ويتَّجه طرفه المدبب إلى شيء (الموضوع)؛ فالموضوع مركز تتلاقى فيه رءوس
أسهم متعدِّدة، والأسهم هي إشارات الذات إلى الموضوع، والموضوع هو الشيء الذي تشير
إليه الذات. وهناك ثلاثة أنواع من هذه الإشارة: الحسية والإدراكية والانعكاسية أو
الفكرية، فتجربتنا المعتادة تتغلغل فيها إشارات فكرية؛ غير أنَّ هذه ترتكز على
الإشارات الإدراكية، والأخيرة على الحسية، وعن طريق الإشارات الفكرية (أي فاعلية
الذهن)، يطرأ تغيُّر كبير على العالم المعطى لنا مباشرةً في الإحساس والإدراك،
وينزع عنه طابعه الأصلي. ونحن في التفكير العِلمي نستخدم أساسًا أسهمًا فكرية، على
حين تكاد جعبة الأطفال والحيوانات تقتصر على النوعين الآخَرين من الأسهم، وتنغرز
أطراف الأسهم من كل نوع فيما نسميه بالعالم الخارجي؛ غير أن هذا العالم، بقدر ما
يُصيبه سهم أو تشير إليه ذات، هو عالم نفسي. وليس معنى هذا أنه لم يكن يوجد عالم
فيزيائي في الطبيعة قبل أن يظهر موجود عارف، بل يعني فقط أن المجال الفيزيائي لم
يدخل دائرة التجارب إلا في اللحظة التي أمكن فيها القيام بمثل هذه الإشارات. فكل
شيء يدخل في دائرة من العلاقات — كالأشكال والألوان والأصوات والقيَم والأفكار وكل
شيء آخر — له طبيعة ذهنية أو روحية، أما الفيزيائي أو المادي، فيظل خارج هذه
الدائرة، ولا يُمكن أن يعرف بما هو كذلك، وإنما «يُسلَّم به» في وجوده أو يُعتقد
بوجوده.
على أن النظرية الظاهرية في المعرفة عند مورجان — شأنها شأن النظرية الواقعية عند
ألكسندر — لم تكن إلا جزءًا من مذهب الميتافيزيقا الطبيعية naturalistic، هذا المذهب في صورته المركبة هو مذهب التطور الطافر emergent evolutionism بمعنى أشمل مما نجده
حتى عند ألكسندر ذاته، فمورجان لم يقتصر على استغلال فكرة النمو بالطفرة استغلالًا
نظريًّا تأمُّليًّا، بل إنه وضع لها أساسًا علميًّا قوامه حشد كبير من المواد
التجريبية، ونظمها تنظيمًا منهجيًّا تامًّا؛ فالفكرة التي كانت عند ألكسندر فرضًا
تأمليًّا هي عند مورجان برهان دقيق على أساس وقائع تجريبية، وإلى مورجان يرجع الفضل
في تحرير هذه الفكرة المفيدة من أغلال ميل ألكسندر المفرط إلى بناء مذهب مُتكامل،
وجعلها تقف على قدميها، وإن لم يخلُ الأمر من ربطها بعلاقات جديدة أو تحميلها عبء
مذهب من نوع آخر.
ومن المؤكَّد أن هذه الفكرة — في جوهرها — غير جديدة، وإنما الجديد هو النطاق
الفلسفي الذي جعله لها ألكسندر ومورجان. وقد أشار المفكِّران معًا إلى مبتدع لفظ
«الطافر
emergent»، وهو ج. ﻫ. ليويس
G. H. Lewes، الذي استخدم هذا اللفظ لأول مرة
في كتابه «مشكلات الحياة والزمن» (١٨٧٥م) (انظر [الباب الأول: المدارس الفكرية المتقدمة
– الفصل الثالث: المدرسة التطورية الطبيعية]). وقد عرض جون
استورت مل فكرة مُماثلة في كتابه «المنطق»، الذي ظهر قبل ذلك، وإن يكن قد أطلق
عليها تسمية مخالفة، وأخيرًا نجدها عند فنت
W. Wundt وورد
J. Ward وكثير غيرهم.
ولكن فكرة التطور الخلاق عند برجسون هي التي أذاعت نظرية التجدُّد وجعلتها تشقُّ
طريقها إلى إنجلترا، حيث أصبح ألكسندر ومورجان أشهر دعاتها،
٥٨ بناءً على ردِّ فعلٍ مماثل من جانبهما ضد نظرية التطور الآلي؛ فالتطور
الطافر هو تفرُّع جديد هام — إنجليزي على التخصيص — لمذهب التطور الخلاق عند
برجسون.
يبدأ تصور مورجان لهذا المذهب من الفكرة القائلة: إنَّ التقدم في نمو أي كائن لا
يحدث في سير متَّصل مطرد إلى الأمام، بل يحدث في مراحل أو قفزات، بحيث إن هناك نقط
تحول حاسمة يسرع فيها النمو إلى الأمام وتظهر فيها صفات وارتباطات جديدة، لا يُمكن
الاستدلال على وجودها من المجرى السابق للأشياء، هذا التقدم عن طريق مراحل، أو
الظهور المفاجئ لصفات جديدة، عن طريق قفزات، هو الذي يُسميه بالتطور الطافر، وماهية
الطفرة إنما تكون في عدم إمكان استباق صفاتها من المرحلة التي ظهرت منها، وعدم
إمكان إدراك أسباب عاملة كانت موجودة قبل ظهورها، وتستطيع أن تنقلها إلى حيز
الوجود. ومن الجائز — إذا نظرنا إليها من خلال المراحل التالية — أن نستطيع إيجاد
تفسير علمي لها، ووصفها وتفسيرها بدقة إلى حد ما. أما لماذا طفر الطافر فهذا ما
لا
نستطيع تفسيره، حتى ولا في المرحلة الأعلى. وعلينا أن نكتفي بقبول هذه الطفرة على
أنها حقيقة واقعة، متَّخذين ذلك الموقف اللاأدري النزيه الذي يلائم البحث
العلمي.
ونستطيع أيضًا أن نقول: إنَّ الطافر لا ينتج عن عوامل التطور القائمة؛ لذلك يضع
مورجان، مقابل لفظ «الطافر»، لفظ «الناتج resultant» كما فعل «ليويس» من قبل، ويحدِّد العلاقة بين الاثنين
على النحو الآتي؛ فعن طريق النواتج يوجد اتصال في تقدم النمو، وعن طريق الطفرة
يُوجد تقدم في الاتصال. وعلى حين أن الطافر لا يُمكن التنبُّؤ به من قبل، فإن
الناتج يمكن أن يُحدَّد ويُحسَب مقدمًا بدقة، ويتحقَّق التطور في عمليات ناتجة
وطافرة معًا؛ غير أنه لا يتحقَّق في الأولى وحدها قطعًا. فليست الحياة العضوية
شيئًا كان من قبل كامنًا في المرحلة غير العُضوية، ولم يكن يحتاج إلا إلى الخروج
من
مكمنِه والكشف عما فيه، وإنما هي شيء جديد من حيث المبدأ، يظهر فجأةً دون أي سبب
ظاهر لحدوثه. وعلى ذلك فإن نظرية مورجان إنما هي احتجاج قوي متَّصل على النظرة
الآلية القديمة للتطور، التي كانت تقنع بتفسير العمليات التطورية بوصفها نواتج.
وكانت تظنُّ نفسها قادرة على أن تحسب مقدمًا مجرى الحوادث بأكمله، ابتداءً من أدنى
المراحل، عن طريق الجمع الجبري بين العناصر أو المكوِّنات؛ ومع ذلك فقد أوضح أن
نظرية الطفرة التي وضعها محل التفسير الآلي، ليست مجرَّد تأمُّل نظري، وإنما هي
نظرية علمية دقيقة، يُمكن التحقُّق منها بوقائع في التجربة، وهي كما يقول نظرية
طبيعية تمامًا، لا تحتاج إلى مبدأ للتفسير لا يمكن استخلاصه من مجرى التطور ذاته
على أساس الواقع المحض؛ ولهذا السبب لم يكن في وسعه أن يقبل المذهب الحيوي vitalism، ما دام هذا المذهب يقوم على أفكار
تقحم في نظام الطبيعة من الخارج، ولا يُمكن إثباتها من الطبيعة ذاتها، ففي رأيه
أن
أفكارًا مثل «الدفعة الحيوية élan vital» عند
برجسون، أو الكمال (الإنتلخيا) عند دريش، أو الكيان النفسي psychie enity عند ماكدوجال، لا تتمشَّى مع التفكير العلمي؛
وبالتالي ينبغي رفضها.
غير أن مورجان ذاته قد اخترق حاجز الطبيعة الدقيقة، أو الموقف العلمي الصارم الذي
اتخذه هو نفسه، ووسعه ومضى به قدمًا بفضل طريقة خاصة في البحث يعتقد أن المنهج
السالف الذكر لا يستبعدها، وأنها لا تتنافى معه، تلك هي الطريقة الفلسفية أو
الميتافيزيقية، ولا تكاد هذه الطريقة تظهر في كتبه الأولى، التي يظل فيها مورجان
يتحدَّث عن «الضباب الأزرق للميتافيزيقا»، وإنما خطرت بذهنِه هذه الطريقة في وقتٍ
متأخِّر جدًّا، عندما انتخب لإلقاء محاضرات جيفورد، وكان عليه أن يستجمع خيوط
تفكيره بأسرها، وإن كان من الواجب أن نعترف بأن بعض بوادر النظر الفلسفي قد ظهرت
في
وقتٍ سابق على ذلك. وفضلًا عن ذلك فإن المذهب الطبيعي عند مورجان يتحرَّر من أغلاله
اللاأدرية ويغدو تأمليًّا. ولكن بطريقة تختلف عن طريقة ألكسندر؛ ففي حالة هذا
الأخير نجد أنفسنا منذ البداية إزاء ميتافيزيقا طبيعية النزعة؛ أي مركب ناشئ عن
نظرة طبيعية إلى العالم. أما في حالة مورجان فلدينا نزعة طبيعية عِلمية فرض عليها
التأمُّل الميتافيزيقي وكأنه طابق ثانٍ، فهنا يواجه كل من المجالَين الآخر منعزلًا،
ولا يقوم بينهما جسر يؤدِّي من الواحد إلى الآخر، فلنعطِ للعلم ما للعلم،
وللميتافيزيقا ما للميتافيزيقا. ولكن لنحذر الخلط بينهما حتى لا يُصاب كلاهما
بالضرر. وهكذا فإن مذهب ألكسندر قد صُبَّ في قالبٍ واحد، وجمعت بين أطرافه وجهة
نظر
واحدة، على حين أننا نجد عند مورجان انقسامًا إلى جزأين مُتميزين بوضوح: أحدهما
تركيب أساسي substructure والآخر تركيب علوي superstructure.
وينشأ التركيب العلوي عن التركيب الأساسي على النحو الآتي: ففي وسعنا أن نفسر
ظهور حادث من وجهتي نظر متميزتَين؛ الأولى من خلال المجرى الطبيعي للأشياء ذاتها؛
أي من خلال نظام الطبيعة الذي بدأ منه، دون أن نسأل عن السبب الذي ولده. وهذه هي
وجهة نظر التطور الطبيعي، ومبدؤها المنهجي هو مبدأ البحث العِلمي؛ غير أن في وسعنا
أن نستفسر عن هذا السبب، أو الفاعل الذي يَدين له الحادث بوجوده؛ أي إنَّ ننظر إلى
الحادث من وجهة نظر الفاعلية التي ولدته، سواء أكانت بشرية أم إلهية أم غيرها.
وهكذا تكون هناك طريقتان للبحث أو مبدآن للتفسير مختلفان تمامًا، يُميز بينهما
مورجان على أساس أن أحدهما هو العلمي أو الطبيعي، والثاني هو الدرامي dramatic أو فوق الطبيعي، والتفسير الطبيعي لا
يستبعد الدرامي، بل يُمكننا أن نقبلهما معًا دون تناقض، وأن نتابعهما بالتفصيل كلا
مُستقلًّا عن الآخر.
وفي مجال فكري يختلف عن السابق إلى حدٍّ ما، يتَّضح لنا أن ما يُسميه مورجان هنا
بالتفسير الدرامي، إنما هو التفسير الفلسفي للكون بالمعنى الصحيح؛ فعلى عاتق
الفلسفة تقع مهمة تحديد معالم خطة بناءة للعالم، وهي خطة تحتاج إلى أعلى تفكير
انعكاسي يشتمل في ذاته على النتائج التي حقَّقتها وجهة النظر العلمية. ولكنه يؤدي
بنا إلى تجاوزها، دون أن يتعارض مع العلم، ويعرض تلك السمات المكونة للواقع، التي
لا يستطيع التفكير العلمي فهمها، نظرًا إلى نقص هذا التفكير؛ ففي الفلسفة البناءة
لا تستباح الفروض التأملية فحسب، بل تغدو ضرورة لا غناء عنها، ويُبْنَى مذهب مورجان
على ثلاثة فروض أو مسلَّمات مباحة كهذه؛ أولها هو ذلك الذي صادفناه عند بحثنا في
نظرية المعرفة، وهو افتراض عالم فيزيائي غير ذهني، عالم أشياء أو حوادث، يوجد بنفسه
ولا يتوقَّف على إدراك وعي له أو تفكيره فيه، ونستطيع أن نعدَّ هذا العالم نظامًا
من علاقات المكان-الزمان رباعي الأبعاد يسير على مستوى طبيعي، وتتطور مراحله
المتعدِّدة في سلم صاعد تبعًا لقانون التطور الطافر، وتشمل السلسلة الفيزيائية
للمراحل: الإلكترونات والذرات والجزيئات والبلورات والخلايا العضوية والكائنات
العضوية … إلخ.
أما الفرض الثاني فنستطيع تسميته بفرض التضايف، وهو ينصُّ على أنه لا توجد حوادث
فيزيائية لا تكون أيضًا نفسية، ولا حوادث نفسية لا تكون مصحوبة — على نحو ما —
بحوادث فيزيائية. فهناك تضايُف كامل بين العالم النفسي والعالم المادي، ولا وجود
لأحدهما مستقلًّا عن الآخر، كما أن أحدهما لا ينفصل عن الآخر في الزمان ولا في
المكان، فبين الاثنَين علاقة تلازُم أي معية دائمة أو إشارة متبادَلة. وهكذا فبينما
يكون من الممكن تمييز العمليات الفيزيائية والعمليات النفسية بعضهما عن البعض، فإن
الفصل بين النوعين غير ممكن. وليس ثمة عالم فيزيائي فحسب أو نفسي فحسب؛ وبالتالي
ليس ثمة عالمان، وإنما عالم واحد يكون له — إذا ما نظر إليه من أعلاه إلى أدناه
—
طابع نفسي فيزيائي، وصحيح أن هذا الفرض لا يُمكن تحقيقه بدقَّة عن طريق وقائع. ولكن
يكفينا على الأقل أن هذه الوقائع لا تُكذبه، ويستتبع ذلك، بالنسبة إلى النظرية
التطورية، النتيجة القائلة إن الفيزيائي والنفسي حاضران معًا في جميع المراحل، وإنه
لا النفسي يظهر فجأة في مرحلة محدَّدة من مراحل التطور، ولا الفيزيائي يكون غائبًا
تمامًا في أية مرحلة، حتى العليا، ولا هذا يُمكن أن يستدلَّ عليه من ذاك. وعلى ذلك
فهما لا ينتميان إلى الصفات الطافرة، بل هما خاصتان شاملتان، أساسيتان، تحددان كل
الأشياء والحوادث، ولسنا بحاجة إلى تأكيد الفارق بين هذه النظرية وبين نظرية
ألكسندر؛ فهذا الفارق واضح بذاته. ولكن كيف يتسنى التوفيق بينه وبين نظرية التطور
الطافر التي ميَّزت فيها ثلاث مراحل رئيسية للتطور، المادة والحياة والذهن؟
أيُمكننا التحدُّث عن المادة والذهن بأي معنى مكتمل، إذا كانا يفسران تارةً على
أنهما مراحل في التطور، وتارةً أخرى على أنهما صفتان شاملتان لكل وجود وحادث؟ من
الواضح أن فرض التضايف ونظرية الطفرة — وبالتالي الفلسفة والعلم أيضًا — قد دب
بينهما تعارض شديد لا يستطيع مورجان — بكل ما توافَر لتفكيره من الموارد — أن يوفق
بين طرفيه؛ فالتركيب العُلوي والتركيب الأساسي ليسا متفقين، والتجربة تأبى الانقياد
للنظر التأملي.
أما الفرض الثالث، الذي عرضنا له من قبل، والذي هو فرض لا غناء عنه في الخطة
الشاملة للعالم؛ فهو القائل بوجود قوة أو نشاط فعال، يكمن من وراء كل ما يحدث،
ويكون هو عِلة الأشياء جميعًا وقوتها الدافعة، هذا الفرض ينشأ عن السؤال عن العلة
الأولى للوجود وتركيبها، وهو سؤال لن تستطيع أية فلسفية جدية أن تتهرَّب منه أبدًا،
على أن الباحث المتخصِّص، كالفيزيائي أو الفسيولوجي أو عالم النفس، ليس بحاجة إلى
اتخاذ أي قرار بشأن هذه المسألة وإنما هو يقف موقف اللاأدرية. فلا ينفي العِلة
الأصلية ولا يُثبتها؛ غير أن هذا السؤال يلح على الميتافيزيقي طالبًا منه جوابًا،
ويجيب مورجان بقوله: إن عملية التطوُّر بأسرِها تشير إلى فاعل إلهي، وتكشف عن غرض
إلهي شامل للكون؛ فالتفكير البنَّاء يفترض مقدمًا تصور فاعلية أو مبدأ علي، وهو
تصور ليس ضروريًّا بالنسبة إلى الموقف العِلمي الطبيعي، بل هو بالفعل محرج فيه.
ومن
الواجب أن تفهم هذه الفاعلية العلية بمعنى عام تمامًا، على أنها فاعلية تتبدَّى
في
جميع الأفعال والأحداث الخاصة؛ فهي حاضرة في كل شيء، مُتبدية في كل من الصور
الظاهرية phenomenal التي يتَّخذها مجرى
التطور، ومصدر هذه العملية كلها هو النشاط الخلاق لله؛ فالله — تبعًا لذلك — ليس
الطرف الذي ينتهي عنده التفسير التطوري التكوني
(genetic)، وإنما هو الطرف الذي يبدأ منه
التفسير الدرامي، والله هو الجوهر الرُّوحي الشامل، الذي يمكننا أيضًا أن ننظر إليه
على أنه شخصية فهو إذن ليس الصفة التي تحتلُّ قمة الهرم التطوري كما هي الحال في
مذهب ألكسندر. ولكنه هو القوة الفعَّالة التي لا تعد جميع الصفات الطافرة من أدناها
إلى أعلاها، إلا تعبيرًا عنها وتكشفًا لها، ويتحدَّث مورجان في فقرة وحيدة عن هذه
القوة على أنها «اللوجوس logos»، وبذلك يقرب
كثيرًا بين نظريته وبين المذهب الأفلاطوني، وهو في سياق آخر يزداد اقترابًا من فكرة
ألكسندر، حين يتحدث عن مرحلة الألوهية التي تفوق جميع المراحل الأخرى ثراءً
وامتلاءً، ويميزها من الله ذاته الذي يعلو — بوصفه أرفع المثل العليا — حتى على
هذه
المرحلة ذاتها، وبذلك يختم خطة التطور من أعلاها.
وهكذا تتشابك أيدي المذهب الطبيعي ومذهب الألوهية في حلف واحد، ويتضح لنا أن نفس
ترتيب الوقائع، الذي يُمكننا أن نفسره بدقة وفقًا للمذهب الطبيعي، يمدنا أيضًا بمثل
للغرضية الإلهية الكونية، ويكتمل التفسير الطبيعي بتفسيرٍ روحي؛ ومع ذلك فليس هناك
مجالان للواقع، وإنما هناك عالم وجود واحد، هو طبيعي وروحي معًا، ويُبنى على وحدة
جوهرية أخيرة، ومعنى جهر مورجان بإيمانه التوحيدي أن هناك تقدمًا في التطور الكوني،
وأن هذا يعادل في النهاية، القول: إن الله هو الكل في الكل، وإن يكن ذلك تبعًا لطرق
ودرجات مختلفة في التكشُّف. فليس ثمَّة شك في أن تصور مورجان لله يفترض مقدمًا
قدرًا من الإيمان أعظم مما نجده لدى ألكسندر، رغم أن عرضه للفكرة كان أقل اتساقًا،
وأضعف ارتباطًا بالإطار العام لمذهبه.
وإن رحلة مورجان في عالم الميتافيزيقا، كما يُمكننا أن نُسمي نظرية المسلمات أو
الفروض عنده، لتدلَّ على أن العلم الدقيق، أو التفلسف الطبيعي التجريبي الذي ينبثق
عنه، لم يعد يقنع اليوم بالتخلي عن محاولة إيجاد حل للمشكلات التي تنطوي على وضع
صورة عامة للعالم، فالتواضُع اللاأدري — على أية حال — لم يَعُد هو المزاج الشائع.
وقد كان للرياح الصافية التي اكتسحت البلاد مع الحركة المثالية تأثيرها حتى في تلك
المدارس الفِكرية التي ورثت كراهية الميتافيزيقا جيلًا عن جيل، وفقًا لتراث قديم
متأصِّل. وهكذا فإن محاولة مورجان التأملية، شأنها شأن محاولة ألكسندر، التي كانت
الأولى أقل أهمية منها بكثير من الوجهة الفلسفية، وتبدو لنا دليلًا واضحًا على أن
الرُّوح الفلسفية تقوم مرة أخرى بتحليق جريء في نفس المجال الذي كانت فيه قبل ذلك
تكتفي بأن تهتف في تواضع: هذا ما لا نعلمه! أو هذا ما لن نعلمه!
(٦) تشارلي دنبار برود Charlie Dunbar Broad (وُلد
في ١٨٨٧م)
كان طالبًا في «ترينتي كوليدج» بكمبردج، ثم زميلًا في نفس الكلية، وعُيِّنَ بعد
ذلك محاضرًا بجامعة سانت أندروز، ثم أستاذًا للفلسفة في بريستول، وبعد ذلك عاد إلى
كيمبردج محاضرًا للفلسفة في «ترينتي كوليدج»، وهو منذ عام ١٩٣٥م أستاذ للفلسفة
الأخلاقية بالجامعة.
مؤلفاته: «الإدراك الحسي، والفيزياء،
والواقع Perception; Physics and Reality» ١٩١٤م، «التفكير
العلمي Scientific Thought» ١٩٢٣م، «الفلسفة النقدية والفلسفة النظرية
التأملية Critical and Speculative Phil.»، ١٩٢٤م (مقال في «الفلسفة الإنجليزية المعاصرة»، نشره
مويرهيد، المجموعة الأولى)، «الذهن وموقعه في الطبيعة Mind and Its Place in Nature»، ١٩٢٥م (الطبعة الثانية، ١٩٢٩م)،
«خمسة أنماط للنظرية
الأخلاقية Five Types of Ethical Theory»، المجلد الأول، ١٩٣٣م، المجلد الثاني، ١٩٣٨م،
«الحتمية،
واللاحتمية، ومذهب حرية الإرادية Determinism, Indeterminism and Libertarianism» (محاضرة افتتاحية)، ١٩٣٤م،
وأبحاث متعدِّدة في مجلات دورية.
يُعَد «برود» أبرز وأشهر مفكِّر في الجيل
الجديد من الفلاسفة الذين يقع الجزء الأكبر من عهد دراستهم في فترة ما قبل الحرب
الأولى. ولكن لم تظهر مؤلَّفاتهم إلا بعد هذه الحرب، ولقد تلقى برود تعليمه في
البيئة الفلسفية بجامعة كيمبردج، حيث كان التراث السائد أقل وحدة واتساقًا منه في
أكسفورد، وإن كان قد اشتغل فيها في السنوات الأخيرة عدد من الشخصيات الهامة، الذين
كان لهم تأثير حاسم في الأوساط الفلسفية بإنجلترا، وإذا ذكرنا من هؤلاء أهمهم، وهم
سدجويك، وج. وورد، ومور، ورسل، وهويتهد وماكتجارت، وجونسون، فإنا نجد أن برود قد
تلقى منهم جميعًا (ويجوز أن نستثني من ذلك جونسون) انطباعات دائمة، ومعظمهم كانوا
أساتذته المباشرين. ومن المفكرين الآخرين الذين اعترف بعمق دينه لهم، نستطيع أن
نذكر: ستوت Stout، وتيلور وألكسندر ودويس هكس Dawes Hicks. ومن جهة أخرى فقد كان لكبار
الفلاسفة في الماضي، وكبار المفكرين الأجانب في الحاضر، تأثير أقل كثيرًا في تكوين
آرائه، وتكاد هذه الآراء تكون مستمَدة كلها من الأفكار الإنجليزية الحديثة، وهي
نتاج نموذجي للفكر الإنجليزي. وقد كان هناك تأثير أقوى وأهم للعلوم الطبيعية، ولا
سيما النظريات الفيزيائية والبيولوجية الحديثة، التي كانت لبرود معرفة واسعة بها،
وإن لم يكن قد أجرى أبحاثًا في العلوم المتخصصة لحسابه الخاص، ويتبدى تبحره العظيم
في فروع المعرفة هذه وغيرها (ولا سيما في المنطق الرياضي)، في مضمون كتاباته
الفلسفية، كما يتبدى بصورة أوضح في منهجها.
وقبل أن ننظر في محتوى تعاليمه، ينبغي أن نُحاول إدراك السمات الخاصة لشخصيته
الفلسفية ومنهجه؛ ذلك لأنه يُمثل ظاهرة طريفة غاية الطرافة، وجديدة في نواحٍ
متعدِّدة؛ فهو رجل ينبغي — عند الحكم عليه — ألا نكتفي بأخذ مضمون تفكيره بعين
الاعتبار، بل يجب أيضًا أن نتأمل تركيب ذلك التفكير والمزاج النفسي الذي يكشف عنه
هذا النمط من الفلسفة. ولقد أعطانا هو ذاته تلميحات واضحة في هذا الصدد (انظر
«الفلسفة الإنجليزية المعاصرة»، المجموعة الأولى، ص٨٠ وما يليها)، فطبيعته عملية
هادئة باردة على أقصى حد، تَفتقر إلى الشعور العميق نحو نتاج العبقريات الفنية
والموسيقية والشِّعرية، وإلى أية علاقة شخصية بالتجربة الدينية أو الصوفية. فكل
شيء
يرفع همة الرُّوح ويهزها، أو ينبثق عن الإحساس أو الشعور، أو يرتفع على أجنحة
الخيال، غريب عنه تمامًا، ولا مكان عنده لأيِّ علم للحياة الروحية أو لأية فلسفة
يسودها مثل هذا العلم، وهو يشكُّ في المذهب الفلسفي مثلما يشك في أي شيء يمثل نظرة
ميتافيزيقية أو تأملية عامة إلى العالم، وهو يحتقر كل غلو وبلاغة في الفلسفة، وكل
ما يدلُّ على التحمس والسمو الروحي، وهو يفزع من كل تفكير تعبر عنه لغة غامضة
مختلطة مُعتمة، ويضع لنفسه أرفع مثل أعلى الدقة اللغوية، وتحدِّد معالم التعبير
اللفظي، والتطابق التام بين اللغة والفكر، وهو يلجأ كثيرًا إلى استخدام الرموز
الرياضية أو العلامات المنطقية لكي يصل إلى أعلى ما يُمكن أن يصل إليه التفكير
الفلسفي من درجات الوضوح والتحدد في الأفكار. وهكذا فإن الفيزياء الرياضية هي العلم
الذي يتخذه أنموذجًا للمنهج الفلسفي.
فما هي المهام التي تتبقَّى للفلسفة إن لم تكن نظرة عامة إلى العالم أو مرشدًا
للسلوك في الحياة، وإن لم تكن مذهبية ولا تأمُّلية ولا ميتافيزيقية بنَّاءة؟ يحدد
برود مجال الفلسفة على طريقتين: فوظيفتها الأهم هي القيام بتحليل غاية في الدقة
للتصورات التي تُسْتَخْدَم بطريقة غير نقدية في الحياة المُعتادة وفي العلوم، كتصور
الشيء والجوهر والكيف والعدد والتغيُّر والعلة والحركة والشخص … إلخ؛ بغية تحديد
معناها الدقيق بوصفها مُصطلحات، وإيضاح علاقاتها المتبادلة. أما الوظيفة الثانية
فترتبط بالأولى ارتباطًا وثيقًا، وهي القيام باختبار دقيق للتصورات والقضايا بعد
تحليلها على هذا النحو وتطهيرها من الغموض، واستخلاص وبحث أي اعتراض يمكن أن يوجه
إليها، وبالاختصار: إخضاعها لسيل مُنتظم من الأسئلة حتى تثبت أنها اكتسبت مناعة
ضد
النقد، وتطهرت تمامًا من كل التباس أو غموض. ولقد نفذ برود بالفعل ما اشترطه هنا
تنفيذًا كاملًا في أبحاثه الفلسفية، فلم يكن ذلك منه إلا وصفًا للمنهج الذي اتبعه
هو ذاته بأمانة كاملة، وهو يدرج هذا كله تحت مفهوم الفلسفة النقدية التي يعني بها
فلسفته الخاصة، والتي تشتمل في نظره على مجال البحث الفلسفي بأسره. ومن الواضح أن
المنطق — تبعًا لهذا الرأي — هو أهم أجزاء الفلسفة، وأن جميع الفروع الأخرى خاضعة
لتنظيمه الصارم؛ فالأخلاق مثلًا تُعرف على نفس النحو بأنها ذلك الجزء من الفلسفة
النقدية، الذي يختصُّ بتحليل الأفكار المختلفة الموجودة في حياتنا اليومية عن الخير
والشر والصواب والخطأ والواجب والمسئولية … إلخ، وباختبار مسلماتها وتعريفها بدقَّة
وصقلها نقديًّا؛ فهي علم ظاهريات الوعي الأخلاقي، دون أية مسلَّمات أو استنباطات
ميتافيزيقية، ودون وضع أية مثُل عُليا أخلاقية أو معايير للقيمة. وهكذا فإنها ليسَت
علمًا معياريًّا، بل هي علم تحليلي وصفي محض للوقائع والعلاقات التجريبية في الحياة
الأخلاقية. وفي هذا الميدان بدوره — الذي عالجه برود في كتاب تاريخي قبل كل شيء
(خمسة أنماط من النظرية الأخلاقية) — يمارس برود عمله دون تحمس أو انفعال؛ فهو مجرد
ملاحظ هادئ لا ينفعل، يزدري كل سَوْرة وكل شعور عميق أو تحمس في ميدان الأخلاق،
ولا
أدل على البرود الجاف والافتقار التام إلى الانفعال عند هذا الإنجليزي النموذجي
من
الفقرة الآتية: «إنه لشيء رائع أن توجد لدى المرء شهية صحية للاستقامة الأخلاقية،
مع التزامها الحدود الصحيحة بفضل التهذيب السليم. أما أن يكون المرء «نهمًا
ومُتعطشًا» إليها؛ فهذا في أغلب الأحيان عَرَض من أعراض الإصابة بمرض «السكر الروحي».»
٥٩ فلا عجب إذن أنه بالغ في الإشادة بالعمل فوق المتوسط الذي قام به هنري
سدجويك، ورأى أنه هو المفكِّر الأخلاقي النموذجي، ولا عجب أنه لم يفهم شخصية جرين
العظيمة الأهمية، التي كان يكره فيها «مذاق الوعظ الأخلاقي المريح.»
٦٠
ويُطلق برود على الفلسفة — بقدر ما يكون لها أيُّ معنى خارج مجال النقد العِلمي —
اسم الفلسفة التأمُّلية النظرية (speculative)، وهو
على وجه العموم يُقلِّل من أهميتها، وإن لم يكن ينكر أن لها بعض القيمة. فهذه
الفلسفة قد شوَّهت سمعة الفلسفة النزيهة، أو المُحايدة كما يسميها؛ إذ إنها تتوقَّف
على حياتنا الانفعالية، وهي نتاج للخوف والأمل أكثر ممَّا هي نتاجٌ للتفكير النزيه
الدقيق، وهي لا تصل أبدًا إلى دقة الفلسفة النقدية ويقينها. فإذا شاءت أن تكون لها
أية قيمة، فعليها أن ترتكز على النقد وتُشيد بناءها على أساسه، وأقصى ما يمكن أن
يقال عنها هو أنها تخمين يتفاوت في درجة توفيقه. ولكن قد تصبح لها في المستقبل
أهمية أعظم، عندما يحرز التفكير النقدي مزيدًا من التقدم، وهو ينسب إلى هذا المجال
اللاهوت والتصوف، إلى جانب الميتافيزيقا والنظرية العامة للعالم.
ومن الأمور المميزة لموقف برود أن التمييز بين الفلسفة النقدية والفلسفية
التأملية يغدو — على يديه — هو ذاته التمييز بين الواقعية والمثالية. ولكن تأتي
عليه لحظات يضيع فيها حذره، وتكون القوة الموجهة له هي التبصر الحقيقي أكثر مما
هي
الحرص النقدي، ويرتفع فوق مستوى موقفه الخاص، ويعترف بالصحة النسبية لكليهما، وذلك
إذ يقارن بطريقة محايدة بين مزايا وعيوب كلٍّ منهما، وهو يلاحظ في هذا الصدد أن
الخطأ المُميز للمثالية هو أنها تعجز عن رؤية الأشجار مُكتفية برؤية الغابة، بينما
تعجز الواقعية عن رؤية الغابة مكتفية بالأشجار،
٦١ وأيًّا ما كان حكمنا على مدى صحة هذه الحكمة؛ فمن الواضح أن برود يضيء
بها في لمحة واحدة موقفه الفلسفي الخاص، فتفكيره — من حيث هو مُمثل نموذجي لطريقة
تفكير واقعية بهذا المعنى — مكرس كله تقريبًا للتفاصيل، ونادرًا ما يرتفع إلى
الآراء الشاملة الواسعة التي تنتظم مجموعات هائلة من الظواهر، ولا يتضح ذلك في
مضمون تعاليمه فحسب، بل يظهر أيضًا في منهجه الخاص في بحثها، وهو منهج يحمل إلى
حدٍّ بعيد طابع شخصيته الخاصة، وإن يكن يبدو قريبًا في نواح عديدة من شخصية
مور.
إن البحث في أية مشكلة يؤدي أولًا، عن طريق سلسلة من التشريحات والإيضاحات
للتصورات، إلى تحليل وصفي دقيق غاية الدقة، يتابع حتى نقطة يتم فيها الوصول إلى
إيضاحٍ مبدئي للمُشكلة، ثم يبدأ بعد ذلك فيض من الأسئلة النقدية، على هيئة استجواب،
ويلقي بالإجابة التي بدت سليمة من قبل، في بوتقة النقد مرةً أخرى، حيث تحلل في لهيب
شديد الحرارة إلى عناصرها وتجهز لتحليل آخر. وهكذا يتضح أن جميع الإمكانيات
الواقعية والعلمية والمنطقية لم تُسْتَنفد بعدُ على الإطلاق، فتظهر حجج ووجهات نظر
جديدة، وتجلب معها حلولًا ونظريات أخرى، تحيط بالمشكلة وتُغلف باطنها وكأنها شبكة
سميكة، ولا يمكن أن يبذل جهد أكبر من ذلك الذي بذله برود في كشف وعرض مثل هذه
الحلول والمنظورات الممكنة، فذهنه النقدي التحليلي الدقيق يلقي الضوء على أبعد
أطراف المشكلة، ويحللها إلى أقصى نقطة ممكنة، وبعد أن نستطلع جميع إمكانيات المشكلة
واحتمالاتها، وتعرض على القارئ المندهش بتفاصيلها الدقيقة، عندئذٍ فقط يقوم الذهن
النقدي بهجوم أخير حاسم على المشكلة التي أصبحت الآن معَدة للحل، وتبدأ الآن مشكلة
استبعاد نظرية بعد أخرى من بين تلك النظريات الممكنة التي اقترحت حلولًا، والتي
عرضت عرضًا كاملًا، فتختبر الحلول المتعدِّدة مرة أخرى بطريقة أدق، وتقدر نقاط
القوة والضعف فيها بإحكام، وتجري موازنة بين ما يجلبه كلٌّ منها من خسائر ومكاسب،
ويُسجل هذا كله، وترفض بعض الحلول على الفور، ويقبل غيرها بشروط، كما تقبل فئة
ثالثة مؤقتًا، وتُقبل فئة رابعة مع تحفظات معينة، وتنسب إلى البعض درجة أقل من
الاحتمال، وإلى البعض الآخر درجة أكبر وباستمرار طرح حُجَج جديدة في الميزان،
واشتداد حدة طلقات النيران النقدية، يصل هذا الصراع بين النظريات من أجل البقاء
إلى
قمة درامية، وينتهي إلى نوع من السباق يسقط خلاله الكثير منها في المضمار نفسه،
ويخرُّ غيرها منهوك القوى قبل نقطة النهاية بقليل، بينما يمرق القليل منها ظافرًا،
وحتى بين فئة النظريات المنتصرة توجد درجات تتفاوت حسب عدد ما تحصل عليه كلٌّ منها
من النقط، ولا تفي واحدة منها بجميع الشروط التي تتخذ شروطًا مُثلى.
تلك هي عملية الانتقاء التي يستخدمها برود في جميع الأحوال تقريبًا، والتي يطبقها
ببراعة فنية كبرى ومعرفة عميقة، وهو عادةً يقوم بعملية تركيب منطقي للنظريات
المتنافسة، وقليلًا ما يعرضها مستمدة من حالات فعلية أو من تاريخ العلم، ولهذه
الطريقة ميزة هي أنها تفصل هذه النظريات بأكبر قدر مُمكن من الوضوح عن بقية المشكلة
في كل حالة، وسوف نتناول هنا حالة نضرب بها مثلًا للمنهج الذي وصفناه الآن، هي
دراسة العلاقة بين الذهن والمادة. وفي هذه الدراسة عرض برود عددًا من النظريات
المُمكنة يبلغ سبع عشرة نظرية واستعرضها واحدة تلو الأخرى، لكي يحكم آخر الأمر
لصالح النظرية التي يُسميها بالمادية
الطافرة
emergent materialism، وإن لم يخلَّ ذلك من تحفظات وأقواس. ومن الاعتراف
لنظريات أخرى متعدِّدة بحقها المشروع في الوجود بدرجات مُتفاوتة (انظر كتاب «الذهن
ومكانته في الطبيعة»، الفصل الرابع عشر)، وفي وسعنا أن نقول عن هذا النوع من
التفلسف: إنه يعاني من إفراطه في الأمانة، ومن افتقاره إلى روح الحسم والبت؛ فهو
إذ
يحاول أن يختبر كل شيء ليستبقي الأفضل، يغرق في خضم من التفصيلات، ويضل طريقه وسط
العدد الزائد عن الحد من الإمكانيات. وهكذا نجده في أحيان غير قليلة يصل إلى عكس
ما
أراد الوصول إليه، ويزيد المشكلة غموضًا بدلًا من أن يزيدها وضوحًا، ولو حكمنا على
هذا التفكير بنتائجه، فلن يكون للمرء مفر من أن يشعر بأن طاقة كبيرة من التفكير
الدقيق والبحث الأصيل قد ضاع مُعظمها هباءً؛ ذلك لأن معظم المشكلات تترك آخر الأمر
دون أن يبتَّ فيها، إلا إذا كنا نُسمي موقفه حسمًا للأمر حين ينسب إلى إحدى
النظريات معامل احتمال أعلى إلى حدٍّ ما بالنسبة إلى نظرية أخرى، ولا يقتصر الأمر
على الافتقار إلى البتِّ الفعلي، بل إن التصميم على البتِّ ذاته مفقود، وهو يجعل
من
الضرورة التي لا يمكن تجنُّبها فضيلة، وذلك حين يرفع هذا النقص إلى مرتبة المبدأ،
وما أشبه هذه الفلسفة بممارسة الدبلوماسية، حيث يكون الهدف الرئيسي هو عدم تسوية
شيء آخر الأمر، بل ترك الباب مفتوحًا أمام عدد كبير من الإمكانيات على الدوام، ومثل
هذه الفلسفة شكاكة بعمق، كما يعترف برود ذاته. ولكن لا بمعنى الإنكار الهدام، وإنما
بمعنى فقدان العزم على القيام باعترافٍ إيجابي، وهي شكَّاكة لكراهيتها للقطعية،
ومن
فرط حرصها النقدي. وهكذا فإنها تفضل السير في مياه الاحتمال الضحلة، دون أن تصل
أبدًا، أو تريد الوصول، إلى أرض اليقين الثابتة، ويرفع برود الاحتمال صراحةً إلى
مرتبة المبدأ المنهجي، وهو في هذا ممثل نموذجي للمذهب التجريبي، وهو يعلن، معارضًا
بذلك كانْت، أن الفلسفة عاجزةً تمامًا عن الإجابة عن هذه الأسئلة إجابة يقينية،
وعليها أن تقنع بأن تضفي على حججها أعلى درجة ممكنة من اليقين، وكثيرًا ما تخفق
حتى
في ذلك، ويدل هذا التواضع الحذر على الطابع غير التأملي على الإطلاق لفلسفته، التي
تقتصر، كالعلوم الخاصة، على بحث مشكلات جزئية، وتستهدف الوصول إلى حلٍّ مبدئي،
وتعني بذلك في مُعظم الأحيان إيضاح المشكلة، دون أن تتجشم عناء البحث في طريقة
الربط بين المشكلات بطريقة مذهبية، عن طريق تكوين نظرة عامة في الميدان الفلسفي.
وهكذا يقول برود في إحدى الفقرات «إنَّ أقصى ما يُمكنني أن أدعيه هو القدرة
المتواضعة (والمفيدة مع ذلك) على إيراد الأشياء الصعبة بوضوح، دون إفراط في السطحية.»
٦٢ وهذا القول ينفذ بالفعل إلى لُب الموضوع.
وليس في استطاعتنا الاضطلاع بمهمَّة تتبع مسالك البحث المتعدِّدة التي شقَّها
برود لنفسه، فلما كان المنهج المؤدِّي إلى النتيجة أهم دائمًا من النتيجة ذاتها،
ولما كنا قدمنا إيضاحًا عامًّا لهذه النتائج. فعلينا أن نكتفي هنا بالاختبار بينها.
وهنا سنجد أن مشكلة المعرفة تحتل مكان الصدارة من اهتمام برود، كما هي الحال لدى
جميع مُفكري المدرسة الواقعية تقريبًا، وأن مشكلة الإدراك الحسي هي التي تسود في
هذا الميدان، ويميز برود، كما هي العادة، بين ثلاثة عوامل، (١) الإحساسات أو
الأفعال الذهنية التي يسميها عادةً بالحالات
الذهنية state of mind (٢) وموضوعاتها، أو المحسوسات sensa (٣) والموضوعات الفيزيائية. وهناك أهمية خاصة لتحديد
طبيعة المحسوسات بدقَّة وعلاقتها بالذهن من جهة، وبالموضوعات الفيزيائية من جهة
أخرى، وهو يثير أولًا السؤال عما إذا كان من الممكن أن تعد المحسوسات ذهنية، وإلى
أي حد تُعد كذلك، ثم يُبين أن السؤال بهذه الصورة لا يقبل إجابة قاطعة؛ فهو سؤال
شديد التعقيد، ينقسم على التوِّ إلى سلسلة من الأسئلة الأخرى التي تحتاج إلى إيضاح
مبدئي. وعلى أيَّة حال فهو يرفض الرأي القائل إن المحسوسات بما هي كذلك هي أحوال
ذهنية، ومن جهة أخرى فإن السؤال عما إذا كانت على الأقل معتمدة على الذهن يقتضي
تحليلًا دقيقًا؛ فالاعتماد قد يكون من نوع وجودي أو كيفي. ومن الممكن الإتيان بحجج
قوية لتأييد كلا النوعين. وهنا أيضًا يمتنع برود عن اتخاذ قرار قاطع. ولكن يبدو
أنه
يرجح الرأي القائل بالاعتماد الكيفي على الذهن على الرأي القائل بالاعتماد الوجودي؛
فالأخير يعني أن المحسوسات لا يُمكن أن توجد إلا بوصفها مكونات موضوعية للإحساسات،
وهو يقول من جهة أخرى إننا لا نستطيع الإتيان بسبب صحيح يحول دون القول بوجود البقع
اللونية أو الأصوات من غير أن تكون مدركة. وهكذا ينتهي أخيرًا إلى النتيجة، التي
لم
تكن حاسمة رغم كل ما أحاطها به من ضمانات، والقائلة: إنَّ المحسوسات تعتمد جزئيًّا
على موقع الجسم الذي يحس، وتعتمد جزئيًّا على الحالات الذهنية التي تتحكم فيها.
أما
بالنسبة إلى تأكيد اعتماد المحسوسات في وجودها على الذهن. فلا يُمكن الإتيان بعدد
كاف من الأسباب الصحيحة لتأييده، ومن جهة أخرى فهناك وقائع لا شك فيها تؤيد الرأي
القائل إنها يمكن أن تعد معتمدة كيفيًّا على الذهن إلى حدٍّ ما، وتتَّخذ تعبيرات
برود أحيانًا طابعًا أكثر حذرًا وخفاءً، وكثيرًا ما تظهر عنده حجج أخرى جديدة تهدم
موقفًا لم يتخذ إلا بعد عناء شديد؛ فهو دائمًا يفتح مجالًا واسعًا لمزيد من فاعلية
الفكر. وهكذا يكون للمرء في كثير من الأحيان الحق في أن يتساءل عمَّا إذا كان الهدف
هو بلوغ تبصُّر فلسفي حقيقي، أم أنه مجرَّد الدخول في نوع من الألاعيب الدبلوماسية
الماكرة.
وتتعلَّق المسألة الثانية بعلاقة المحسوسات بالموضوعات الفيزيائية، ولهذه المسألة
أهمية كبيرة؛ لأنَّ العالم الفيزيائي أو الطبيعة، بقدر ما يُمكن دخوله في نطاق
معرفتنا، ترجع جذوره إلى عالم الظواهر المحسوس، ولأنَّنا بالتالي لا نستطيع الوصول
إلى الأول إلا عن طريق الأخير، ولهذه المسألة أهمية حيوية بالنسبة إلى كل تفكير
في
العلم الطبيعي، بقدر ما يعرج على ذاته. وقد كرَّس برود للموضوع كتابًا شاملًا (هو
«التفكير العلمي») يشهد بتبحره في المناهج الفيزيائية القديمة والحديثة والأحدث
عهدًا، وهو من أهم الكتب التي أُلِّفَت عن البحث الفلسفي للفيزياء الرياضية
الحديثة، وهو هنا يُحاول إيضاح العلاقات بين الموضوعات المحسوسة وبين الموضوعات
الفيزيائية عن طريق أبحاث مستفيضة متعمقة تأخذ بعين الاعتبار جميع الأوجه المُمكنة
للمشكلة، فضلًا عن المعنى الدقيق الذي ينبغي أن تفهم به ألفاظ: المكان الفيزيائي
والشكل والحجم والحركة والمدة … إلخ، والمتضايفات الحسية التي تُبْنَى عليها هذه
الألفاظ، وهو يُحاول تحديد المركز الأنتولوجي للمحسوسات مستخدمًا قبل كل شيء تصور
المكان-الزمان، الذي لا ينسب إليه — مع ذلك — أية دلالة ميتافيزيقية، وإنما يفهمه
بمعنى تجريبي محض. فهناك إمكانيتان يسفر عنهما كون المحسوسات داخلة على نحو ما في
علاقات مكانية وزمانية، فإما أن تكون المحسوسات داخلة في مناطق من المكان-الزمان،
وإما أن نَفترض أمكنة-أزمنة حسية خاصة توجد فيها المحسوسات. فإذا صحَّ الأول وجب
أن
يكون دخول المحسوسات في المكان-الزمان الفيزيائي مختلفًا كل الاختلاف عن دخول
الموضوعات الفيزيائية فيه؛ أي إنه إما أن يكون لهذا الدخول معنى واحد، وتكون هناك
أمكنة-أزمنة متعدِّدة، وإما أن يكون هناك مكان زمان واحد، ومعانٍ مُتعدِّدة لهذا
الدخول، في الحالة الأخيرة ينبغي أن نفترض أن المكان-الزمان أساسي. وفي الحالة
الأولى ينبغي أن نفترض كثرة الأزمنة-الأمكنة المُختلفة، والمرتبطة مع ذلك فيما
بينها على نحو ما، وممَّا له دلالته أن برود، حين يواجه مسألة هامة كمسألة ارتباط
العالم الظاهري والواقع، يتوقف أمام الحلول المختلفة المُمكنة، ولا يستطيع هو ذاته
تقديم إجابة قاطعة، وإنما يقنع — كما يقول — بعرض بعض الوقائع التي قد تكون مواد
هامة لحل المشكلة.
ويُحاول برود — مستخدمًا طريقة أخرى — أن يحلَّ مشكلة الإدراك الحسي التي تناولها
من جوانب مختلفة؛ فالتحليل الوصفي للإدراك الحسي، إذا ما بحثناه متحررًا من
مضموناته الذهنية والمادية، يكشف لنا عن أربعة عوامل مختلفة. فهناك المحسوس sensum (بقعة لونية، ومضة في المجال البصري، صوت …
إلخ) الذي لا يوصف هنا بأنه مُعطًى فحسب، وإنما يوصف بأنه حادث. وهناك أيضًا الفعل
الإدراكي أو الإحساس المسمَّى الآن بالموقف (مثلًا: هذا الصوت يحس)، ويضاف إلى ذلك
المجال الحسِّي أو الكل الأكبر مكانيًّا، الذي يكون المحسوس بالنسبة إليه جزءًا
ظاهرًا أو مُتفاضلًا على نحو خاص (إذ إن المحسوسات لا توجد كأنها ذرات منفصلة
كالانطباعات عند هيوم)، وأخيرًا: هناك التاريخ الحسي، ما دام كل مجال حسي يمتدُّ
خلال مدة زمنية قد تطول أو تقصر، وله بالتالي تاريخ؛ فالمحسوس — وليكن بقعة لونية
مثلًا — هو شكل يبرز من وسط مجال حسٍّ بصري. وهذا بدوره اتصال ملوَّن حسيًّا
لمحسوسات بصرية مقترنة الوجود، هذا المجال البصري هو قطاع صغير من كل أكبر هو تاريخ
بصري حسِّي. وعلى ذلك فإن الموقف الذي أجد نفسي فيه يمتدُّ في نواح متعدِّدة أبعد
من ذلك الذي تكشفه لي إحساساتي مباشرةً، ويطلق برود على هذا اسم العلاقة الخارجية
للموقف، وهو يُميز بين الموضوع الإبستمولوجي، بوصفِه ذلك الذي يعرض مباشرةً للحواس،
وبين الموضوع الأنتولوجي (أو الفيزيائي) بوصفه نظير الموضوع الحسي في العالم
الفيزيائي. هذه النظرية واقعية بقدر ما يعد كون الموضوعات الفيزيائية مدركة أمرًا
غير أساسي لوجودها، وإنما هو شيء يحدث لها من آنٍ لآخر دون أن يُسبِّب أي تغيير
في
صفاتها، والموقف الإدراكي الحسِّي يشير إلى ما وراء ذاته على ثلاثة أنحاء؛ فهو يشير
إليه أولًا من الوجهة المكانية؛ لأني لا أدرك أبدًا السطح أو الامتداد الكامل لشيء
فيزيائي، وإنما أدرك دائمًا جزءًا منه فقط، ويشير إليه ثانيًا من الوجهة الزمانية؛
لأنَّ الإدراك الحسي لا يصل في كل الأحوال إلا إلى لحظة أو لحظات قليلة من المدة
الكلية للموضوع أو من تاريخه، وهو يُشير إليه ثالثًا من الوجهة الكيفية؛ لأنَّ الذي
يحدث دائمًا هو أن كيفيات معيَّنة من الشيء (كالألوان في الإبصار) هي التي تتبدَّى
لنا، على حين تظل غيرها مختفية أو تتكشف في ظروف أخرى أو في موقف مختلف. وإذن
فالموقف الإدراكي الحِسي يتسم بأن الذي يدخل فيه بالفعل ليس إلا جزءًا زمنيًّا
مكانيًّا ضئيلًا من الموضوع الفيزيائي، وبأن مجموعة صغيرة من كيفيات هذا الجزء هي
التي تنتمي إليه بوصفها ظاهرة محسوسة.
وينبغي أن نُلاحظ أخيرًا في هذا الصدد الدور الهام الذي يلعبه لفظ «الحادث event» في نظرية برود. وهذا التصور مُستمَد من
فلسفة هويتهد، التي اقتبس منها برود الكثير، وإن يكن قد عالج ما اقتبسه بطريقة
مستقلة في التفاصيل، ويعني برود بالحادث مجموعة من الأمور الشديدة التباين، كبقعة
لونية، ووميض البرق، وحادثة سيارة، وحياة بسمارك، وصخور دوفر الطباشيرية، ولا
يتبدَّى في هذه الحالة ذلك العنصر التاريخي الخاص الذي يرتبط عادةً بهذا التعبير؛
فالحادث أي شيء له أي نوع من المدة الزمنية، ولا أهمية للمدة التي يدومها، أو لكون
المراحل المتلاحِقة زمنيًّا مُتشابهة أو مُختلفة كيفيًّا. فكل محسوس وكل موضوع
فيزيائي حادث: الأول حادث أقصر، والثاني أطول، وهو يلغي تمامًا الحد الفاصل بين
الحادث والشيء أو الموضوع؛ ذلك لأنه لا يوجد موضوع بلا مدة زمنية أو بلا تاريخ؛
فالمدة الزمنية تناظر الامتداد المكاني، وكما أننا لا نستطيع أن نُدرك نقاطًا
ممتدَّة، فكذلك لا نستطيع أن نلاحظ حوادث تقع في لحظة خاطفة فحسب، وكل موضوع في
هوية مع تاريخه كله، وحالما نجعله مساويًا لجزء آنيٍّ من تاريخه، فإنا نَستبعِد
عامل الزمان ذا الأهمية الدائمة، وبذلك نقع في تجريد محض؛ ذلك لأن الموضوع لا
يُمكنه أن يوجد دون مدة على الإطلاق، وإنما المدة تَنتمي إلى ماهيته الأساسية،
فالشيء إذن ليس إلا حادثًا مطولًا ينقضي خلال وحدة مكانية-زمانية خاصة به، ويتميز
مجراه إما بتشابه كيفي وإما بتغير كيفي متصل.
ولقد كانت نظرية المعرفة القديمة، منذ فكرة «الشيء الممتد res extensa» عند ديكارت، تنظر إلى الأجسام المادية من خلال
الوجه المكاني للامتداد فحسب، وأغفلت تمامًا العامل الزمني. أما برود فيولي هذا
الأخير أهمية كبرى؛ وذلك بتأثير كلٍّ من برجسون وهويتهد والنظرية النسبية، وهو إذ
فسر الأشياء على أنها حوادث؛ فقد أعاد إلى البُعد الزماني حقوقه المشروعة بالنسبة
إلى الموضوعات الخارجية، بل جعل له الأولوية على أبعاد المكان الأخرى؛ فالتغير
والدوام يرتبطان ارتباطًا وثيقًا بعنصر الزمان؛ ذلك لأن التغير يعني تعاقبًا
للحوادث في اتجاه محدَّد لا رجوع فيه، واستمرار الاتجاه الذي يُناظر اتصال المجال
المكاني، مهما كان من ضخامة الفارق بينهما، تضمنه المدة التي يحدث فيها الحادث.
وعلى ذلك فالمدَّة تعني الوحدة في التعاقب الزمني، والتفسير يعني التباين فيه،
ولولا التغيُّر أو التحوُّل لما أصبحنا على وعي بالعامل الزمني، مهما كان من تغلغل
هذا العامل في تلك الحوادث التي لا نلاحظ فيها تغيرًا، وللسلسلة الزمنية مجال مميز،
يختلف عن مجال المكان، هو الاتجاه الباطن، ومعنى ذلك أن الزمان ينساب في اتجاه
«واحد» ولا يمكن أن يرجع القهقرى، ومن هذه التعريفات تتلو نتيجة هامة، هي أن الزمان
بوصفه تغيرًا أو صيرورة، يجلب دائمًا حوادث جديدة، وأن مجموع الوجود في الكون يزداد
بالتالي على الدوام، والقدرة على الإتيان بحوادث جديدة هي السِّمة الأساسية للكون
من حيث هو صيرورة، وبقدر ما تسري الصيرورة على الحادث، فإنه يدخل في مجموع الوجود
ويزيده سمة جديدة.
وتؤدي فكرة أولية الزمان على المكان بالضرورة — كما تؤدِّي عند برجسون وألكسندر —
إلى فكرة الظهور الجديد أو الطفرة. وقد أضفى برود على هذه النظرية، التي غرسها لويد
مورجان وألكسندر في الأرض الإنجليزية، فأصبحت تُمثِّل موجة شائعة هناك؛ أضفى عليها
طابعًا خاصًّا به، ومتمشيًا مع الاتجاه العام لفلسفته، كما وصل إلى هذه النظرية
أيضًا بالانتقاء المنهجي، عن طريق مناقشة العلاقة بين الحياة والذهن. فهناك ثلاثة
أنماط من النظريات تظهر أمامنا عندما نبحث في السلوك المميز للكائنات العضوية
الحية: النظرية الحيوية
الجوهرية Substantial Vitalism، والآلية
البيولوجية Biological Mechanism، والحيوية
الطافرة Emergent Vitalism، وهو يستبعد على الفور النظرية الحيوية الجوهرية، التي
تمثلها فكرة «الإنتلخيا» أو الكمال عند دريش Driesch؛ إذ إنَّ من المستحيل التحقق تجريبيًّا من عامل غامض
«كالإنتلخيا»، حيث يستحيل عزله ونقله من جسم حي إلى جسم ميت. وهكذا ينبغي النظر
إليه على أنه افتراض محض، لا نحتاج إليه في تفسير ظواهر الحياة. ومن الممكن الإتيان
بأسبابٍ أهمِّ لتأييد النظريات الآلية؛ فالآلية تُرضي نزعاتنا الجمالية والمنطقية
أكثر من أي حل آخر، من حيث إنها تعرض قانونًا للتأليف بين الظواهر ينتظمها كلها؛
وبالتالي يصل إلى أكبر قدر من وحدة التفسير وبساطته. ولكن هذا هو نفسه مبعث الميل
إلى التبسيط المفرط؛ وبالتالي خطر تحميل الوقائع فوق ما تحتمل. فإذا ظهرت في مراحل
محددة أنماط جديدة من القانون. فلا بد أن نعترف بالواقع بإخلاص.
وهكذا تكون الغلَبة للمذهب الحيوي الطافر في الصراع بين النظريات المُتنافسة، على
أساس أن هذا المذهب محاولة للتوفيق بين التعارض القديم للمذهبَين الآلي والحيوي،
وتجد هذه النظرية في الظواهر الكيميائية تأييدًا أقوى مما تجده في الظواهر الآلية،
والنقطة الأساسية فيها هي أن سلوك مجموع أو مركَّب لم «يخفق»، لا يمكن التنبؤ به
من
مجرد معرفة عناصره كلٍّ على حدة. وعندما يُطبق هذا القانون على الكائن العضوي الحي،
الذي يسميه برود مركَّبًا من المرتبة الثانية، أو جمعًا بين عناصر كانت مركَّبة
من
قبل، يكون معناه أن أية معرفة بالطريقة التي تسلك بها مكوِّنات هذا الجسم على حدة،
أو كليات غير عضوية أخرى، لا تكفي لجَعلنا نتنبأ بالسلوك المميز للكائن العضوي.
فليس لنا الحق في أن نفترض أن القوانين التي كشفت بالنسبة إلى المركبات غير
العُضوية يُمكن نقلها مباشرةً إلى العلاقات العضوية، أو أنَّ هذه الأخيرة يُمكن
نقلها إلى الظواهر الذهنية؛ فالتنفُّس مثلًا هو دليل أساسي على الحيوية، ولا يُمكن
أن يستمد من أية معرفة لكليات غير حية، صحيح أن مِن الممكن أن نفترض — على أساس
هذه
النظرية — أن للمادة مثلًا ميلًا طبيعيًّا نحو ذلك التركيب الذي يعد السلوك الحيوي
هو خاصيته الطافرة. ولكنا لا نستطيع أن نردَّ التركيب الحيوي إلى المكوِّنات
الكيميائية التي يتركب منها فحسب. وهكذا تظهر في كل مستوى صفات جديدة لا ترد إلى
ما
قبلها، ويتبدى في جميع أرجاء الطبيعة ذلك الميل العام الذي يجعل كيانات من أية
مرتبة تتَّحد سويًّا، في ظروف ملائمة معيَّنة، لتكون كيانات من مرتبة أعلى، وبدلًا
مما تدعو إليه الآلية من وحدة تركيبية دقيقة وخضوع شامل للقانون في جميع الظواهر
الطبيعية، يقول المذهب الحيوي الطافر بسلسلة من المستويات والمراتب التصاعدية
العديدة، فيها كيفيات وتركيبات واطرادات متجدِّدة دوامًا، يكون لكل منها طابعه
الفريد الذي لا يستدل عليه من المستويات الأدنى منه.
وقد عمل برود في سياقٍ تالٍ، بحث فيه مشكلة النفس والجسم وحاول تحديد طبيعة
الذهن، على التوسع في البحث التأمُّلي لهذا الموضوع، وانتهى أخيرًا إلى نظرية
المادية
الطافرة Emergent Materialism التي تَنتصِر في مسابقة أجراها بين ما لا يقل عن ست عشرة
نظرية منافسة لها، ولا تختلف هذه المادية الطافرة كثيرًا عن مذهب الظواهر المصاحبة Epiphenomenalism الذي يرى أن الذهن
ظاهرة مصاحبة للجسم؛ فهذا المذهب يفسر جميع الظواهر النفسية والذهنية تفسيرًا
مرَضيًا. ولكنه يحتاج إلى بعض التعديلات في صدد تفسير الظواهر الشاذة والظواهر
الواقعة على هامش علم النفس، كالاستشفاف وتعدد الشخصية والاتصال بالأرواح … إلخ،
وتبعًا لهذا المذهب يعرف برود الذهن بأنه صفة طافرة لمركب يتألف من مخٍّ حي وجهاز
عصبي، يضاف إليهما عنصر مكون آخر لا يفسد مباشرةً بمجرد القضاء على المخ والجهاز
العصبي، هذا العنصر هو الذي يُسميه برود بالعامل النفسي، وهو يعزو إليه القدرة على
بقاء الكائن العُضوي وقتًا ما بعد وفاته، وربما اتضح فيما بعدُ أن هذا العامل
النفسي مادي، وإن تكن مادته مختلفة عن المألوف، وإذا كان من الصحيح أن برود لا يؤمن
بخلود النفس بأيِّ معنًى ميتافيزيقي أو ديني، فإنه يؤمن فقط ببقاء هذا العامل
النفسي وإمكان تجسُّده في كائن عضوي جديد، بعد أن يحيا وقتًا ما حياة حرة بلا جسد.
وهكذا فإنه يعزو قدرًا من الاحتمال إلى المذهب البدائي في تناسخ الأرواح.
ونستطيع أن نقول — دون المضيِّ أبعد من ذلك في هذه الأفكار المفرطة في طابعها
التأمُّلي: إن ذهن برود، الذي كان في بقية نواحيه نقديًّا شكاكًا إلى أبعد حد، قد
ترك نفسه ينقاد — بتأثير الحركات الغيبية والروحانية — إلى موقف خطر، لا يُمكن بأية
حال التوفيق بينه وبين أسس تفكيره وأبحاثه. وهكذا فإن عقله الذي بلغ هذا القدر من
الهدوء والرزانة والحرص، وكراهية كل غموض تأمُّلي انفعالي من فرط مواهبه النقدية
وقوة تكوينه العقلي، قد عجز عن إبداء المقاومة الكافية لأصوات الحركات الغيبية Occultism والأبحاث الروحانية، التي كانت
بالنسبة إليه أشبه بأصوات عرائس البحر المغوية، وتلك ظاهرة بلغت من الغرابة حدًّا
لا نستطيع معه في هذا المقام إلا أن نُسجلها فحسب.
(٧) جون ليرد John Laird (وُلد في ١٨٨٧م)٦٣
درس في إدنبرة وكيمبردج، ثم عُيِّنَ محاضرًا في سانت أندروز وأستاذًا في
نوفاسكوشيا وبلفاست، وهو الآن أستاذ للفلسفة الأخلاقية بجامعة أبردين.
مؤلفاته: «مشكلات الذات Problems of the Self»
١٩١٧م، «دراسة في الواقعية A Study in Realism»،
١٩٢٤م، «كيف تستطيع
أذهاننا تجاوز ذاتها في المعرفة How Our Minds May Go Beyond Themselves in their Knowing» (مقال في «الفلسفة الإنجليزية
المعاصرة»، نشره مويرهيد، المجموعة الأولى، ١٩٢٤م)، «أذهاننا وأبدانها Our Minds and their Bodies» ١٩٢٥م،
«دراسة في النظرية
الأخلاقية A Study in Moral Theory»، ١٩٢٦م، «مشكلات حديثة في الفلسفة Modern Problems in Phil.»، ١٩٢٨م، «فكرة القيمة The Idea of Value» ١٩٢٩م، «المعرفة والاعتقاد والظن Knowledge, Belief and Opinion»
١٩٣١م، «الأخلاق والديانة
الغريبة Morals and Western Religion» ١٩٣١م، «فلسفة هيوم في الطبيعة
البشرية Hume’s Phil. of Human Nature» ١٩٣٢م، «هبز Hobbes»
(في سلسلة «قادة الفلسفة»)، ١٩٣٤م، «بحث في الأفكار الأخلاقية An Inquiry into Moral Notions»،
١٩٣٥م، «الفلسفة القريبة العهد Recent Phil.»
١٩٣٧م.
يرتبط المفكِّر الاسكتلندي جون ليرد، وهو مؤلِّف فلسفي غزير الإنتاج ينتمي إلى
الجيل الجديد، بنظرية المعرفة عند الواقعيين الجدد، ويسير عمومًا في الطريق الذي
حدد معالمه مور وألكسندر؛ غير أن آراءه تتميَّز عن الأنماط المألوفة للواقعية
الجديدة بأنها أوثق ارتباطًا بالتراث الإنجليزي في القرنين السابع عشر والثامن عشر،
وتُحاول صراحة الإبقاء على الاتصال بين التفكير القديم والجديد، وهو الاتصال الذي
بدا في مُستهل الحركة منقطعًا، فآراء لوك وهيوم وريد هي التي حاول ليرد أن يدمجها
—
قبل غيرها — في طريقة التفكير الجديدة، ويجعل لها دورًا هامًّا فيها، ويتمثل في
تعاليمه نفس الامتناع عن خوض المسألة التأمُّلية الذي يكاد يتمثَّل لدى جميع
الباحثين الإنجليز الأصليين في نظرية المعرفة، من لوك إلى مور ورسل وبرود. أما
أبحاثه فتتَّجه قبل كل شيء إلى المشكلات التقليدية للفلسفة النظرية، وهو لا يُبدي
في هذه الأبحاث اهتمامًا كبيرًا، أو لا يبدي اهتمامًا على الإطلاق بالمسائل
الميتافيزيقية، كما أنه يُعارض المذهب الهيجلي المطلق بقدر ما يُعارضه مُعظَم
فلاسفة هذه المدرسة. ولقد أدَّت وفرة إنتاجه وتعدُّد جوانب اهتمامه إلى إعاقة جهوده
في سبيل عرض آرائه بدقة ووضوح بدلًا من أن تُساعد هذه الجهود، وكثيرًا ما كان
المضمون الفلسفي لكتِبه يزدحم بالاستطرادات التاريخية والمناقشات الهامشية، التي
تخرج عن الموضوع وتنعدم فيها رُوح ضبط النفس والصرامة الفلسفية، ورغم ذلك فهو
يحتلُّ مكانة غير قليلة بين المُفكِّرين الذين ظهروا بعد الحرب العالمية
الأولى.
يبدأ ليرد من المسائل التي أثارها لوك وهيوم في نظرية المعرفة، وهو يضع مشكلة
الإدراك الحسِّي في المكانة المركزية، ويُرتب كل آرائه من خلالها، وهو يُنادي منذ
البداية بنظرية في المعرفة ذات طابع واقعي صريح، ويرفض كل حلٍّ مبني على النزعة
الذاتية أو الظاهرية لمشكلة المعرفة، وبذلك يرفض موقف لوك، الذي يتذبذب بين
الواقعية والظاهرية، كما يرفض هيوم الذي كان مبنيًّا على المذهب الظاهري Phenomenalism صراحةً، وعنده أن المعرفة لا
تتحرَّك في النطاق الضيق لوعينا، وإنما تتحكم فيها حقيقة أساسية، هي أننا كلَّما
أدركنا موضوعًا تجاوزنا ذاتنا وأدركنا واقعًا مستقلًّا عنا؛ فالمنضدة التي تتكشَّف
في الإدراك الحسي، ليست، كما قال هيوم، مجرد مدرك perceptum أو مجموعة مُنفصلة من الكيفيات الظاهرية، بل هي موجود حقيقي
مستقل، يتكشَّف في مراحل وسمات محدَّدة، ويستقل عن فعل الإدراك الحسِّي الذي نصل
إليه بوساطته. وعلى ذلك فالمعرفة — وفقًا للمبدأ العام للواقعية — هي نوع من الكشف
الذي ندخل عن طريقه في علاقة مباشرة مع الأشياء الموجودة في العالم الخارجي. وهذه
الأشياء تُعْطَى للذهن مباشرة، وتدخل بهذا الوصف في الوعي، ويُؤكد «ليرد» تأكيدًا
خاصًّا فكرة الطابع المباشر لإدراك العالم الخارجي، ويُحاول أن يحدِّد بمزيد من
الدقة ماهية هذه الواقعة الأساسية في كل معرفة، فما الذي يدرك مباشرة إذن؟ إن
النظرية الحسية القائلة بالانفصال المطلق (Sensationalist
Atomism) تقول: إننا ندرك المعطيات الحسية ولا شيء غيرها. وهذه
النظرية على حق، بقدر ما تذهب إليه. ولكنها تقدم وصفًا ناقصًا لما يُعطي لنا
واقعيًّا في الإدراك الحسي. فنحن لا ندرك فقط معطيات حسية عادية أو وقائع مجرَّدة،
وإنما ندرك أيضًا علامات هامة تُشير إلى ما بعد الواقعية المجردة للمعطيات، وتضفي
عليها معنى وأهمية، وتُرتبها في ارتباطات أوسع، من شتى الأنواع. وهكذا يميز ليرد
بين المُعطيات التي هي هامة أو ذات دلالة، وبين تلك التي هي حسية خالصة، وهو يُسمي
الأولى علامات signs والثانية وقائع facts، وإن يكن ينبغي أن يُلاحظ أن هذا التمييز لا
ينطوي على انقسام فعلي؛ ذلك لأنَّ أية واقعة — بما هي واقعة — تكون محمَّلة
بالمعنى؛ وبالتالي فهي أيضًا علامة تشير إلى ما يتجاوز المعطى المحض، وكل علامة
ليست علامة فحسب، وإنما هي أيضًا شيء فعلي من حيث إنها موضوع يقف قبالة الفعل
الذاتي للإدراك الحسي ويستقل عنه، كما أن ظواهر المعنى هي بدورها مُعطيات موضوعية؛
وبالتالي فهي تُدْرَك مباشرةً، شأنها شأن الألوان والأصوات، ولو شئنا الدقة الكاملة
لقُلنا: إن ما ندركه ليس وقائع خالصة ولا مجرَّد علامات، وإنما هو علامات-وقائع sign-facts، وكل ما يعنيه هو أن كل مُعطى
حسِّي يتلوَّن بمعنى يشير إلى ما يتجاوَزه. وهذا التلون بالمعنى يكون عنصرًا داخلًا
في تركيب كل إدراك حسي، ويذهب ليرد إلى حد صبغ عامل المعنى ذاته بصبغة موضوعية،
بأن
يسميه — بالمعنى الصحيح — جزءًا من واقع الشيء الملاحظ الذي هو مستقل عن
الذهن.
أما موقفه بالنسبة إلى مشكلة الإدراك الحسي، ومشكلة المعرفة بمعنى أعم؛ فهو كما
يلي: الإدراك الحسي هو الشعور عن وعي بمركب حسِّي معقَّد يواجه الذهن مباشرةً، هذا
المركب هو علامة-واقعة لها دلالة أو معنى، فضلًا عما لها من امتداد أو مدة زمنية
أو
لون أو صوت، وهذا المعنى ينتمي إليها بنفس الأصالة التي تنتمي بها إليها الصلابة
والامتداد وكل ما عدا ذلك، وبفضل عامل المعنى يتمُّ تجاوز مذهب الانفصال المطلق
عند
هيوم، من حيث إن المعطيات الحسية العابرة، الدائمة التغير، المتقطعة، تتكوَّن في
موضوعات متصلة باقية، تشير من جانبها إلى مركبات أوسع نطاقًا، تتألف من موضوعات
متصلة أخرى، حتى نصل أخيرًا إلى الاتصال الأكبر، وهو العالم الفيزيائي الذي يشمل
الأشياء الخارجية كلها ويوحدها.
وهكذا تسفر النظرية الفلسفية للإدراك الحسي عن الرأي القائل بالواقعية البسيطة أو
الساذجة، ويدعمها الموقف الطبيعي ويقويها، وممَّا له دلالته أن ليرد يولي أهمية
كبرى للموقف الطبيعي في صدد جميع المشكلات الفلسفية، فحيثما تصل نظرية علمية أو
فلسفية إلى مأزق، أو تحار إزاء حلول متعدِّدة، ينبغي أن يكون القرار للموقف
الطبيعي، وأن يحكم بين الصواب والخطأ، ومهمَّة الفيلسوف هي أن يتابع من بعيد آراء
الإنسان العادي، ويخضع لحكمه، حتى لو وجدت ضده أسباب قوية؛ فالتفكير الفلسفي ينمو
من التدبر النقدي في النتائج التي يكون الذهن البشري السليم قد انتهى إليها من قبل،
وما هو في النهاية إلا الإثبات العلمي لهذه النتائج. وهنا يتابع ليرد تراث مواطنه
الأقرب إليه؛ أي توماس ريد، ويُواصل مباشرةً عمل المدرسة الاسكتلندية، وهو أقرب
أعضاء المذهب الواقعي الجديد إلى مور، الذي كان لدفاعه عن الموقف الطبيعي تأثير
مباشر عليه.
وتتلو جميع النتائج الأخرى من هذه الحقيقة الأساسية في نظرية المعرفة، وهي أننا
ندرك مباشرةً، في الإدراك الحسي، معطيات ممتلئة بالمعنى (علامات-وقائع) هي أجزاء
من
العالم الفيزيائي، وتشير إلى أجزاء أخرى من هذا العالم؛ ففي التذكر والتخيل نكون
إزاء نفس هذا العالم؛ أي إنَّ موضوعات التذكر ليست صورًا حاضرة في الذاكرة لحوادث
ماضية، وإنما تدخل الحوادث الماضية ذاتها مباشرةً في وعينا. وفضلًا عن ذلك فليست
موضوعات الخيال مجرد تركيبات نفسية ذاتية، وإنما هي وقائع موضوعية، شأنها شأن
موضوعات الإدراك الحسي والتخيُّل، وهي بالتالي أجزاء في العالم الفيزيائي، ولهذه
الموضوعات بدورها امتداد ومدة وشكل ولون … إلخ، والفارق الوحيد الذي يميزها من
الموضوعات المدركة هو الفرق في معناها فحسب؛ فهي منفصلة نسبيًّا عن الارتباط
الموجود في مجال الأشياء الذي يكونه الإدراك الحسي، وهي — من حيث هي وقائع خالصة
—
على ما تبدو لنا عليه تمامًا؛ أي إنها مكانية زمانية فيزيائية … إلخ؛ غير أن
مكانيتها وزمانيتها ليست هي مكانية عالم الإدراك الحسي وزمانيته، فمعناها لا يجعل
لها مكانًا دائمًا في هذا العالم، وإنما يضعها خارج هذا العالم في عالم خيالي لا
يقل واقعية في موضوعيته عن الآخر.
وقد تجنَّب ليرد التأمل الميتافيزيقي في مذهبه في الذهن بدوره، وتحول مرة أخرى
إلى الموقف الطبيعي الذي يحاول أن يظهره ويوضحه بطريقة نقدية، وبمعونة علم النفس.
فعلينا أن نأخذ الذهن كما نجده، والذي نجده أولًا هو الوعي، ونحن نشعر بهذا الوعي
مباشرةً على أنه واقع، ونستطيع بحثه خلال ملاحظتنا له، مثل هذه الملاحظة تتم عن
طريق الاستبطان، ويتبع ليرد أساسًا المنهج البسيط الذي اتبعه لوك؛ فمن الواضح أن
وعيي ليس صفة للأشياء التي أُدركُها أو أفكِّر فيها أو أتخيَّلها، وإنما هو مجرد
شعوري بهذه الأشياء وبالمشاعر والجهود المصاحبة له؛ غير أن الوعي هو دائمًا وعي
بشيء، وجهد يبذل نحو شيء … إلخ؛ فهو في وظيفته الأولى يشير دائمًا إلى ما وراء
ذاته؛ أي إلى كيان يقف إزاءه موضوعيًّا، سواءً أكان هذا الكيان شيئًا ألم يكن. ولكن
ينبغي ألا نُوحِّد بين هذا الوعي وبين الموضوع؛ فهو مختلف عنه أساسًا. ومن الممكن
أيضًا أن يتوجَّه الوعي إلى ذاته ويُصبح موضوعًا بالنسبة إلى ذاته، ولكن حتى في
هذه
اللحظة ينبغي التمييز بدقة بين الوعي وبين الشعور بالوعي؛ فعن طريق الاستبطان
نتمكَّن من إدراك الذات في صفاتها الرئيسية، وهي تتمثَّل بوصفها حالات وفاعليات
متصلة للوعي، وإن لم يكن في وسعنا أن ندرك إلا أجزاء منها، وإلى هذا الحد تكون
الذات مماثلة للأشياء التجريبية، وهي مثلها تمتد بالاستدلال على أساس المعطيات
الجزئية التي نصل إليها بالاستبطان، والتي تكشف عن تركيبها الأساسي؛ غير أن الهوية
الشخصية ليست جوهرًا لا يتغيَّر أو وجودًا لا انقطاع فيه، وإنما هي اتصال في
الشخصية والوظيفة، وهي أكثر كيان فردي نُصادفه في دائرة الوجود بأكملها. وليس لنا
أن ننكر أن الذات الشخصية تنتمي إلى كل أكبر وترتبط به؛ غير أن هذه المسألة ليست
ذات أهمية حاسمة بالنسبة إلى فلسفة واقعية، ويكفي في هذا أن نعلم أن الذات وحدة
تظل
باقية من خلال سلسلة من الشروط والعمليات التي يفترض كل منها الآخر ويدعمه، وفيما
وراء ذلك لا تكون بها حاجة إلى توجيه أسئلة.
وفي كتاب لاحق (المعرفة والاعتقاد والظن) وسَّع ليرد نطاق المشكلة التقليدية التي
تتركز في نظرية الإدراك الحسي، وامتدَّ بحثه إلى المجال النظري في نطاق الكامل.
وقد
ناقش بدقة، فيما وراء الميدان المُسمَّى بميدان المعرفة بمعناها الضيق، مجالات
الاعتقاد والظن، وعلاقتهما الواحد بالآخر وبالمعرفة. هذه الميادين الثلاثة —
المعرفة والاعتقاد (بالمعنى المستخدم لدى هيوم) والظن — تشمل كل الجانب النظري
للنشاط البشري، وحتى المستويات الدنيا لليقين، كالاعتقاد والظن والافتراض والاحتمال
… إلخ، ليست متروكة للاتفاق الأعمى، بل تصل إليها قدرة الذهن النفاذة؛ فالمعرفة
تتسم باكتمال الاقتناع أو اليقين الكامل، أما الاعتقاد فهو بدوره تصديق ينطوي على
قدر كبير من اليقين، ويُسمي ليرد يقين الاعتقاد نفسانيًّا فحسب. أما يقين المعرفة
فهو منطقي؛ أي إنه مبني على أسس سليمة، أو له وضوح مباشر ظاهر. وهكذا فإن تحديد
المستوى المتوسط أو الاعتقاد ليس بالأمر الهين، ولا يمكن تحديد معالمه بوضوح
بالنسبة إلى هذا الجانب ولا بالنسبة إلى ذاك؛ فهو يُمثل الحد الأعلى للظن والحد
الأدنى للمعرفة. وقد حدَّد ليرد مكانة الاعتقاد بالنسبة إلى المعرفة، فقال: إنه
هو
تلك الحالات التي لا تقبل، من حيث يقينها، ظلًّا من الشك. ولكنها مع ذلك ليست واضحة
بذاتها ولا قابلة للبرهان، على أن أبحاثه المستفيضة في هذه المسائل لم تُؤدِّ إلى
تفسير مُرضٍ لهذه المسألة؛ فهو لا يصرُّ هنا على الوصول إلى رأيٍ حاسم أو دقيق.
وهذا شأنه في كثير من الحالات الأخرى، ولا تؤدِّي وفرة التفاصيل التي يأتي بها،
أو
توسيعه لمجال البحث، إلى تعويض افتقاره إلى التفكير المنهجي بمعناه الدقيق.
وهذا يَصدُق أيضًا على بحثه للميادين الأخرى، المغايرة للميدان النظري، ولا سيما
ميدان الأخلاق، التي درسها من وجهة نظر فكرة القيمة؛ فهو يُطبق على مجال القيمة
بدوره، الفكرة الأساسية في نظرية في المعرفة؛ فعندما نُسمي فعلًا أخلاقيًّا أو
شخصية أخلاقية خيرًا أو شرًّا، ننسب إليه قيمة إيجابية أو سلبية؛ غير أن القيم
تنتمي إلى الشيء على نفس النحو الذي ينتمي عليه الاحمرار إلى التفاح؛ فالقيم
الجمالية بدورها تَكُمن في أشياء معينة تحت ظروف معينة، بمثل الموضوعية التي تنتمي
بها إليها أية كيفيات أخرى، سواءٌ أكانت أولى أم ثانية. وهكذا فإن نظرية ليرد في
القيم تؤكد الموضوعية المُطلَقة للقيم، وتضعها
على نفس المستوى الذي تضع عليه كل الكيفيات الأخرى للأشياء. وقد حاول ليرد في كتاب
مستقل (هو «فكرة القيمة») أن يحدد مجال القيم في نطاقه الكامل، وأن يُميزه بوضوح؛
غير أن المشكلات هنا تتخذ طابعًا مائعًا مخففًا، ويغدو الافتقار إلى الدقة الفلسفية
وإلى التركيز والقدرة المنهجية ملحوظًا إلى حدٍّ يعطينا الحق في التوقف عن متابعة
الموضوع أبعد من ذلك، فهنا — كما في غير ذلك من المواضع — يحاول ليرد أن يثبت تفوقه
في ميدان لا تكاد قدراته الفلسفية تكون كفؤًا له.
(٨) السير بيرسي نن Sir T. Percy Nunn (وُلد في ١٨٧٠م)٦٤
أستاذ التربية في جامعة لندن (تقاعَد في ١٩٣٦م).
مؤلَّفاته: «هدف المنهج العِلمي ومنجزاته The Aim and Achievements of Scientific Method» ١٩٠٧م، «هل الكيفيات
الثانوية مستقلة عن الإدراك الحسي Are Secondary Qualities Independent of Perception» ١٩١٠م (أعمال الجمعية
الأرسططالية، سلسلة جديدة، المجلد العاشر)، «الموضوعات العلمية والأشياء
في الموقف الطبيعي Scientific Objects and Common-Sense Things» ١٩٢٤م (المرجع السابق، المجلد الرابع
والعشرون)، «التشبيه بالإنسان
والفيزياء Anthropomorphism and Physics» ١٩٢٨م (أعمال الأكاديمية البريطانية، المجلد الرابع
عشر).
وضع بيرسي نن — مشتركًا في ذلك مع رسل ومور — نظرية واقعية في المعرفة أو الإدراك
الحسِّي أهم ما فيها أن السمات المُميزة للفكر الواقعي الجديد تتمثل فيها نقية
خالصة، فآراء نن تُمثل نوعًا من النتاج المتوسِّط بين فروع فكرية متعدِّدة تتمثل
في
أعمال رسل وهويتهد ومور وألكسندر وبرود والفلاسفة الأمريكيِّين. ولكنها أقرب إلى
ذلك الفرع الخاص الذي يمثله ألكسندر منها إلى المفكِّرين الآخرين في المدرسة. ولكن
من الصحيح أنه لم يشارك ألكسندر في الأساس الميتافيزيقي الذي بنى عليه هذا الأخير
نظريته في المعرفة، وأن نن قد عرض أهم أفكاره قبل ألكسندر وعلى نحو مستقل عنه، وأن
بعض صيَغِه المتأخِّرة هي وحدها التي تدين لمذهب ألكسندر بعد التوسُّع الذي
أدخله عليه هذا الأخير فيما بعد، ومثل هذه
العلاقة تربطه برسل، الذي كان يدين لتفكير «نن» بقدر غير قليل، والذي أثرت فيه
آراؤه بعد ما أدخله عليها من التوسع.
وها هي ذي العناصر الأساسية في نظرية «نن»، فجميع الظواهر الحسية تنتمي فرادى
ومجتمعة إلى الوجه الموضوعي للأشياء، والكيفيات الأولى والثانية للأشياء توجد فيها
واقعيًّا سواء أُدْرِكَت حسيًّا أو لم تدرك، وهي توجد كما تدرك في عملية الإدراك
الحسي، وبعبارة أخرى فإن الشروط التي يتم وفقًا لها إدراك الكيفيات لا تُؤثر على
الإطلاق في طبيعة الكيفيات المدركة بأيَّة حال. ومن هنا فإنه ينكر وجود أية كيانات
نفسية لها وظيفة التمثل أو المحاكاة، وتتدخَّل بين فعل المعرفة والشيء، ومعنى ذلك
إنكار النظرية الشائعة، نظرية الصورة أو التمثُّل، وحتى الأحاسيس ذاتها (كوجع الضرس
مثلًا) ينسبها «نن» دون قيد أو شرط إلى المجال الموضوعي؛ فهي بدورها ذات وجود
موضوعي، على نحو مُستقل تمامًا عن كونها تظهر في التجربة الفردية لذاتٍ حاسة أو
لا
تظهر؛ فالألم الذي ينشأ عن وجع الضرس له نفس الوجود الذي يكون للإحساس باللون أو
الحجم، ومهما تكرَّرت مرات تجربة الذات للإحساسات، فإن لهذه الأخيرة أيضًا وجودًا
موضوعيًّا مُستقلًّا عن هذه التجربة، وهي تستطيع أن تسبق التجربة وتستمر بعدها،
وحتى الأوهام والتصورات والخيالات ليست — من حيث مكوِّناتها الأولية — مجرد
اختلاقات نفسية، وإنما هي موجودات واقعية، وإن تكن طريقة الجمع والربط بينها من
عمل
الذهن، فجميع المعطيات الإدراكية خارجة عن الذهن، وهي تستطيع أن تدخل في علاقة
الذات بالموضوع؛ غير أن طابعها لا يتأثَّر بهذه العلاقة على الإطلاق، وحيثما تحدث
هذه العلاقة، تكون الذات المدركة في علاقة مباشرة مع الموضوع بما هو كذلك، أو يكون
هذا الموضوع حاضرًا أمامها بنفسه، لا من خلال وسيط نفسي.
على أن واقعية «نن» — مهما بدت متطرفة — ليست إلا استمرارًا مباشرًا لمذهب
الظواهر الحسِّي الكلاسيكي عند باركلي وهيوم، وهو لم يُدخل على هذا المذهب إلا
تغييرًا بسيطًا، هو أن أضفى طابعًا فيزيائيًّا لا نفسيًّا على المحسوسات التي تكون
المادة الأساسية للواقع، وفيما عدا ذلك فكل شيء يظلُّ على ما هو عليه، ويظهر ذلك
بوضوح في مناقشة منفصلة، يكرسها «نن» للفرق بين موضوعات العلم وأشيائه وبين موضوعات
الحياة المعتادة وأشيائها. فإذا حلَلنا ما نسميه عادةً بالأشياء، فلن نكتشف فيها
إلا معطيات حسية، مقترنة بالصور المتعدِّدة لارتباطاتها؛ غير أن المعطيات الحسية،
التي تُبْنى الأشياء المعروفة في الحياة اليومية من مركباتها، هي العوامل الأولية
للواقع، ولا معنى للتطلع إلى أي شيء وراءها. وهكذا فإننا لا نستطيع أن نتغلغل
بتصوراتنا العِلمية في منطقة تتجاوز العالم المحسوس، وندرك واقعًا من مرتبة أعلى
(ولا واقعًا مطلقًا بطبيعة الحال)، بل إنَّ الموضوعات العلمية — على العكس من ذلك
—
ذات طابع ثانوي تمامًا فيما يتعلق بطريقة وجودها؛ فهي مشتقة من عالم التجربة
المعتادة، تُبْنَى على الأشياء المحسوسة وتُنَظَّم وتُشَكَّل وفقًا لها، ومن الواجب
رفض كل ادعاء لعلماء الفيزياء بأن عالمهم يمثل الواقع الحقيقي الذي لا يعد العالم
المعتاد بالنسبة إليه إلا مظهرًا؛ فالعالم العلمي ليس مجالًا من نوع جديد، يتيح
لنا
أن نخترق الحجاب المحسوس للظواهر، وإنما هو تعامل، له أغراض خاصة، على الأشياء
الحسية التي تكون العناصر الأساسية للوجود الحقيقي. وهذه الأخيرة هي العوامل
الأولية، أما الأولى فهي تركيبات ثانوية.
وهكذا فإن أبحاث «نن» في «هدف المنهج العلمي ومنجزاته» التي قام بها في كتاب أسبق
عهدًا، ظهر عام ١٩٠٧م، ترتبط ارتباطًا مُباشرًا بنظريته الحسية في المعرفة، فهنا
تدخل العناصر الواقعية الجديدة في نظريته في ارتباط مُثمر مع الأفكار المتعلقة
بالمنهج العلمي، والتي ترجع إلى بيرسن وبوانكاريه وماخ، وتُسفر عن بعض آراء هامة
في
طبيعة تصورات وفروض العلوم الطبيعية وتكوينها. فنحن في حالة التفكير العلمي لا
نتعامل مع مجرَّد نسخة للواقع المحسوس، بل نُصبح شاعرين بها عن وعي، ونعيد تشكيلها
وفقًا لمبادئ تضمن الاقتصاد في الفكر، وتبعًا لمُصادرة الموضوعية البرجماتية. وهذه
المصادرة هي أن عالم الحس الأصلي في ثرائه وتنوعه الذي لا يقف عند حد، يحلُّ محله،
عن طريق الانتقاء والتبسيط المُصطَنع، مجال تصوري conceptual للأشياء، وأن هذا التحول يحدث من وجهة نظر برجماتية،
وتتحكم فيه الأغراض الخاصة بالفاعلية الإنسانية؛ فالهدف من تكوين التصورات العِلمية
هو جعل عالم الإدراك الحسي الموضوعي معقولًا عن طريق العوامل المنهجية المساعدة،
من
أجل أغراض البحث، وصبغه بصبغة عقلية تامة، لا رغبة في المعرفة فحسب، بل من أجل
السيطرة على العالم بوساطة الذهن البشري، ولجعله مفيدًا في خدمتنا؛ فالتصورات
والفروض العلمية ليست أبدًا غاية في ذاتها، بل هي دائمًا وسائل ترمي إلى عرض
الوقائع المحسوسة بطريقة اقتصادية، ورغم أنها مبنية على الأحكام المعتادة للتجربة،
فإنها تتجاوَزها كثيرًا وتُكون عالمًا فريدًا في نوعه، يسير وفقًا لقوانينه الخاصة،
ويتَّجه صوب أهدافه الخاصة، ورغم أننا قد نلمس في هذه الأفكار تأثير النظريات
المتأخرة، فإنها ترجع آخر الأمر إلى مطلب «بيكن» القديم، حين رأى أن ماهية المعرفة
إنما تكون فيما تُضفيه على الإنسان من قوة يسيطر بها على الأشياء.
(٩) نورمان كمب سمث Norman Kemp Smith (وُلد في ١٨٧٢م)٦٥
درس في جامعة سانت أندروز، ثم في جامعات زوريخ وبرلين وباريس، وكان من ١٨٩٦م إلى
١٩٠٢م مساعدًا لآدامسون في جلاسجو، ومن ١٩٠٦م إلى ١٩١٦م أستاذًا للفلسفة بجامعة
برنستون بالولايات المتحدة الأمريكية، وهو منذ ١٩١٩م أستاذ للمنطق والميتافيزيقا
في
إدنبرة.
مؤلَّفاته: «دراسات في
الفلسفة الديكارتية Studies in the Cartesian Phil.»، ١٩٠٢م، «شرح على نقد العقل
الخالص لكَانْت A Commentary to Kant’s Critique of Pure Reason» ١٩١٨م (الطبعة الثانية ١٩٢٣م)، «مقدمة لنظرية مثالية في
المعرفة Prolegomena to an Idealist Theory of Knowledge» ١٩٢٤م، «طبيعة الأسماء الكلية The Nature of Universals» (في مجلة
Mind المجلد ٣٦)، «نقد العقل الخالص لكانت Kant’s Critique of Pure Reason»
(ترجمة إنجليزية في ١٩٢٩م، طبعة مختصرة في ١٩٣٤م)، «هل الوجود الإلهي قابل
للتصديق؟ Is Divine Existence Credible?» ١٩٣١م (أعمال الأكاديمية البريطانية، المجلد ١٧)، طبعة
كتاب «مُحاورات
في الدين الطبيعي لهيوم Hume’s Dialogues Concerning Natural Religion» ١٩٣٥م.
أسدى نورمان كمب سمث، بترجمته وشرحه لكتاب «نقد العقل الخالص»، خدمة لا تُقَدَّر
من أجل المساعدة على معرفة وفهم ذلك الكتاب الأساسي بالنسبة إلى الفكر الحديث وإلى
فلسفة كانْت في عمومها، وهو يتَّخذ في نظرية المعرفة موقفًا قريبًا من الواقعية
الجديدة، ويأخذ قبل كل شيء بآراء ألكسندر وستوت. ومن الواجب ألا يُضللنا عنوان
كتابه المنهجي الرئيسي «مقدمة لنظرية مثالية في المعرفة»؛ ذلك لأنَّ آراءه — في
الواقع — تنتمي بأسرها إلى المدرسة الواقعية الجديدة، وما يُسمى في هذه الحالة
«مثاليًّا» هو في الواقع إطار انفعالي في صورة إيمان بعالم من القيَم الروحية، أكثر
مما هو نظرية مرتبطة مباشرةً بآرائه في المعرفة أو ناتجة عنها، ولا شك أن سمث يزداد
اقترابًا من الحقيقة عندما يؤكد مرارًا — خلال عرضه لحُججه — أن وجهة نظره «واقعية
بحق».
ولقد كان الموضوع الرئيسي لاهتمامه، كما كان بالنسبة إلى مُعظم الكتاب الإنجليز
في نظرية المعرفة، هو مشكلة الإدراك الحسي؛ فالسؤال الرئيسي عنده هو: ما نوع
المحسوسات sensa التي تكون مُحتوى أفعال
الإدراك الحسي لدينا؟ إنَّ الإنسان العادي (أي الواقعية الساذجة) يرى أنها صفات
للأشياء الخارجية، وأنها موجودة بذاتها في هذه الأشياء، وهي بهذا الوصف داخلة في
نطاق معرفة الجميع؛ وبالتالي يُمكننا أن نُسميها موضوعية وعامة بين الناس public. أما مذهب الإدراك الحسِّي
التمثيلي، وهو مذهب شائع، فيرى أنها مُعطيات خاصة للوعي، وأنها بالتالي ذاتية
وخاصة، وأما كمب سمث — الذي يرفض الرأيين معًا — فيرى أنها حوادث تتحكم فيها عوامل
فيزيائية وفسيولوجية وربما نفسية أيضًا، ولا يمكن أن يصل إليها عدد من المدركين،
بل
مدرك واحد فقط. وعلى ذلك فهو يُسميها موضوعية وخاصة، ويتلخَّص رأيه في أن
المحسوسات، وإن تكن ملكًا خاصًّا للمدرك، ليست بالضرورة «في الذهن» أو حالات ذهنية،
وإنما هي حوادث موضوعية تنتمي بأكملها إلى نسق العالم الفيزيائي وتظهر داخل الاتصال
المكاني-الزماني، ومن الواجب أن نعزو إليها من الوجود الفيزيائي أكثر مما نعزوه
إليها من الوجود النفسي، وإن يكن ينبغي التسليم بأنها خاضعة لتحكم العوامل النفسية
من نواح عديدة، وهو حين ينظر إلى الموضوع من خلال مقولتَي المكان والزمان، يرى أن
للمحسوسات اتصالًا زمنيًّا. ولكن ليس لها امتداد مكاني. فنحن في الإدراك الحسي لا
نكون إزاء عملية تتوسَّط فيها الصور النفسية، التي تُمثل الموضوعات الحسية أو
تحاكيها، وإنما يكون لدينا إدراك مباشر للعالم الواقعي المادي المستقل عن الوعي.
وعلى ذلك فالمعرفة الحسية موضوعية بالمعنى الصحيح.
وتكوِّن المحسوسات مضمون تجربتنا، وبدونها تكون التجربة مُستحيلة تمامًا؛ غير أن
هناك جانبًا آخر إلى جانب هذا المضمون، لا يقلُّ عنه أهمية بالنسبة إلى وجود
المعرفة، هو العوامل الشكلية أو المتجانسة، وهو العلاقات التي تكونها المقولات،
وكذلك المكان والزمان، وهما صورتا الحدس. وليست هذه مضمونات، وإنما هي صور أولية
لتنظيم مادة الإحساس الشديدة التنوع، ولا تتمُّ المعرفة إلا إذا تضافرت العوامل
الثلاثة سويًّا؛ أي إذا اجتمع الإحساس والتفكير المقولي والحدس من الجانب الذاتي،
والمحسوسات والعلاقات المقولية والمكان والزمان من الجانب الموضوعي؛ ففي فعل
الإدراك الحسِّي نكون إزاء عملية مزدوجة، يتحكَّم كل من عنصريها في الآخر ويتغلغل
فيه ويكمله. وهذان العنصران هما الإحساس والحدس أو الشعور عن وعي بالمادة الحسية
عن
طريق الحدس المكاني-الزماني، وتحدث العمليتان مباشرةً، فكما أننا نتعامل مع
المحسوسات وجهًا لوجه. إن جاز هذا التعبير، ونُدرك فيها مباشرةً، ما هو حقيقي
موضوعيًّا، فكذلك ندرك بالحدس الطابع المميز للمكان والزمان بوصفهما سمتَين
أساسيتَين تُساهمان في تكوين الواقع؛ فالمكان والزمان عاملان حقيقيان في عملية
الإدراك الحسي. ولكن ليس لهما بذاتهما طابع محسوس، وما هما إلا شرطان لإمكان إدراك
المحسوسات؛ وبالتالي فهما أوليان وشكليان. فإذا افترضنا — كما فعل وورد J. Ward — مجالًا حسيًّا يكون اتصالًا، فينبغي عندئذٍ
أن نُلاحظ أن ما هو حسِّي بالمعنى الدقيق ليس متصلًا فحسب، وأن المتصل ليس حسيًّا؛
فالمادة الحسية المتنوِّعة للمحسوسات لا تنظم بحيث تغدو اتصالًا
(continuum) إلا عن طريق الصفات الشَّكلية غير
الحسِّية للمكان والزمان.
في هذه الآراء نستطيع أن نلمَح أفكار كانْت الأساسية، والواقع أن دراسة كمب سمث
المتعمِّقة لفلسفة كانْت النظرية، التي حواها كتابان له لا نظير لهما، قد تركت في
تفكيره آثارًا غير قليلة؛ ومع ذلك فهو يودُّ أو يُفسر مذهب الفيلسوف الألماني بمعنى
واقعي أكثر مما يُفسِّره بمعنى مثالي، وأن يطهره من جميع العناصر الذاتية حتى يضمن
للمعرفة معناها الموضوعي، وهو يعترف بالطابع التلقائي للنشاط الواعي في نواحٍ
معيَّنة؛ غير أنه لا ينظر إلى هذا على أنه إنتاج للموضوع، بل على أنه كشف هذا
الأخير عن نفسه بنفسه، على أنه قد سلك في التطور التالي لتفكيره طرقًا ابتعدَت به
عن الأساس الترنسندنتالي لنظرية المعرفة عند كانْت، وانتهى إلى آراء طبيعة
وبيولوجية ونفسانية وبرجماتية.
ويتَّضح تحيُّزه للنزعة الطبيعية في مُعالجته لمشكلة المعرفة في رأيه القائل: إن
المخ («أو السيكو بلازم psychoplasm»، كما يعبر
عنه أحيانًا، مقتبسًا هذا التعبير عن وورد) يسلك بوصفه ذاتًا في نظرية المعرفة،
ويتعيَّن عليه أن يؤدي وظيفة مزدوجة؛ فهو شرط للوعي عامة، وكذلك شرط لظهور
المحسوسات، ونتيجة للوظيفة الأولى يتكشف العالم على أنه عالم مُشترك بين الأفراد،
في عوامله الثابتة المطردة، ونتيجة للثانية يجرب هذا العالم المشترك في منظور يلائم
الحاجات العملية للفرد، وتثبت عملية المعرفة أنها وظيفة حيوية تؤدِّي في مجموع
الحياة الفردية دورًا مُماثلًا لدور الغريزة، ومن الواضح أن المعرفة لا يُمكنها
أن
تُطابق التعدد والتعقد اللامتناهي للواقع، وأن جزءًا كبيرًا من مضمون عالم الأشياء
الخارجية يفقد في العملية التي يدخل بها هذا العالم في وعينا. فليس في وسعنا أن
ننقل إلى المعرفة سوى جزء ضئيل غاية الضآلة من المضمون العظيم الامتداد لهذا
العالم، وحتى هذا الجزء لا ينقل إلا في صورة متغيِّرة مبسطة عادة؛ غير أن الغرضية
أو المنفعة البيولوجية هي التي تتحكَّم في مبدأ الانتقاء الذي يسلك الذهن بمُقتضاه،
فلسنا بحاجة إلى أن نعرف أكثر مما ينفعنا في معركة الحياة ونضالنا من أجل نوعنا؛
فالانتقاء الذي تشكَّل على أساسه مادة العالم الزاخرة في المعرفة، يستهدف حفظ
الحياة والعلاء بها. وينبغي أن نكون شاكرين للطبيعة؛ لأنها رتبت ذلك لصالحنا؛
فالمعرفة في أدنى مُستوياتها وأعلاها هي مسألة عملية إلى حدٍّ بعيد، وهي تتحدَّد
أساسًا في طابعها ومهمَّتها وحدودها، بحاجات ومصالح غير نظرية.
وهكذا فإنَّ رأي كمب سمث في المعرفة، وإن يكن قد تأثر بكانت في نواح متعدِّدة،
يتمشى إلى حدٍّ بعيد مع التراث القومي، وهو يدخل أفكارًا أقدم وأحدث، مستمدة من
مجال الفلسفة والعلوم الخاصة، لكي يحلَّ المشكلة، ويرجع جزء من هذه الأفكار إلى
هيوم، الذي فسر كمب سمث آراءه، قبل سنوات متعدِّدة من تكوينه لنظريته الخاصة،
تفسيرًا طبيعيًّا (انظر مجلة
Mind، المجلد ١٤،
١٩٠٥م)، ويرجع جزء آخر منها إلى أصل دارويني. وهناك جزء ثالث مُستمَد من الأبحاث
الفسيولوجية الهامة التي قام بها هيد
H. Head،
٦٦ والتي لفَت كلٌّ من شيلر وكاسيرر في ألمانيا وديلاكروا في فرنسا،
الأنظار إلى أهميتها الفلسفية؛ غير أن أفكاره هذه مُستمَدة أساسًا من نظريات علم
النفس الحديثة عند وورد وستوت. ومن الواقعية الجديدة عند مور وهويتهد وألكسندر.
وهكذا فإن كمب سمث بإدخاله أفكارًا قديمة في مجرى الحركة المعاصرة، قد أثرى نظرية
المعرفة بوجهات نظر جديدة مُثمرة.
(١٠) سيريل جود Cyril E. M. Joad (وُلد في ١٨٩١م)٦٧
رئيس قسم الفلسفة بكلية بيركبك Birkbeck بجامعة
لندن.
مؤلفاته: «مقالات في فلسفة
الموقف الطبيعي Essays in Common-Sense Phil.» ١٩١٩م (الطبعة الثانية، ١٩٣٣م)، «أخلاق الموقف الطبيعي Common-Sense Ethics» ١٩٢١م،
«لاهوت الموقف الطبيعي Common-Sense Theology»
١٩٢٢م، «مدخل إلى الفلسفة
الحديثة Intr. to Modern Phil.» ١٩٢٤م، «مدخل إلى النظرية السياسية
الحديثة Intr. to Modern Political Theory» ١٩٢٤م، «فلسفة واقعية في الحياة A Realist Phil. of Life» (مقال في «الفلسفة الإنجليزية
المعاصرة»، نشره مويرهيد، المجموعة الثانية)، «الذهن والمادة Mind and Matter» ١٩٢٥م، «معنى الحياة
كما يتمثل في عملية التطور The Meaning of Life as Shown in the Process of Evolution» ١٩٢٨م، «مستقبل الحياة، نظرية في
المذهب الحيوي The Future of Life, A Theory of Vitalism» ١٩٢٨م، «المادة والحياة والقيمة Matter, Life and Value» ١٩٢٩م،
«حاضر الدين
ومستقبله The Present and Future of Religion» ١٩٣٠م، «الأوجه الفلسفية للعلم
الحديث Philosophical Aspects of Modern Science» ١٩٣٢م، «هجوم مضاد
من الشرق، فلسفة رادا كريشنان Counter Attack from the East the Phil. of The Radhakrishnan» ١٩٣٣م، وكتابات أخرى
متعدِّدة.
ينتمي سيريل جود مع برود وليرد إلى مجموعة المفكِّرين الأصغر سنًّا، الذين احتلوا
مراكزهم في جبهة الواقعية الجديدة، وإن يكن مركزه أقل من مركز الآخرين بكثير، وهو
لا يمتاز إلا بوفرة إنتاجه، الذي يفوق فيه كل الفلاسفة الأحياء ما عدا رسل، فرغم
أنه لم يبلغ الخمسين من عمره بعد، فإنَّ إنتاجه الفلسفي يبلغ حوالي ثمانية عشر
كتابًا؛ أي بمتوسط يزيد على كتاب في السنة. ولكن لا يُمكن القول: إن هذا السجل
الهائل في الإنتاج يتناسب مع القيمة الكامنة لما أنتجه، بل إن إنتاجه يعبر تعبيرًا
نموذجيًّا عن طابع القلق الروحي والسَّوْرة العصبية الذي تتميَّز به فترة ما بعد
الحرب الأولى، وما فيها من تردُّد وافتقار إلى الاتزان وضيق وتعثُّر وتعجل
وتشنج.
وقد حدثنا «جود» نفسه عن تطوره الفلسفي فقال: إنه رغم نشأته في وسط مثالي لكونه
طالبًا في جامعة أكسفورد؛ فقد كان يحسُّ دائمًا بالنفور من هذه المدرسة الفكرية،
وكان في فترة الدراسة هذه نفسها يفضل الواقعية. وهكذا أصبح واقعيًّا؛ ففي البداية
كان «واقعيًّا ساذجًا إلى حدٍّ ما»، على نمط مينونج Meinong، ثم انتقل فيما بعدُ «إلى موقف متطرِّف، هو المعروف
بالواقعية الجديدة». ولقد كان العامل الذي وجهه إلى هذا المذهب هو تأثير رسل، الذي
كان جود يحسُّ نحوه بولاء يزيد على ما يحسُّ به نحو أي شخص آخر، رغم أنه يختلف معه
اليوم في بعض النقاط الهامة. ولقد تأثَّر برسل أولًا وقبل كل شيء في نظرية المعرفة.
ولكن سرعان ما تعقَّد هذا التأثير بفعل سلسلة من المؤثرات الأخرى التي كان لمُعظمها
طابع مخالف، والتي دفعت جود إلى ميدان الميتافيزيقا وأثارت فيه طموحًا إلى أن
يُشيِّد مذهبًا فلسفيًّا عظيمًا ويحلَّ مشكلة العالم من أول وهلة. ولقد كان الفشل
مقدرًا لهذه المحاولة الجريئة المتعجلة؛ إذ إنها بذلت بوسائل غير كافية، وبوساطة
ذهن غير ناضج، ولم يُحاول جود أن يفرض على نفسه النظام الصارم في تفكيره، وأن يبرر
أفكاره بدقة، إلا في السنوات المتأخِّرة، بعد أن مر بأسوأ فترات العاصفة والتوتر
(وتمثل ذلك بوجه خاصٍّ في كتابين طويلين، هما «المادة والحياة والقيمة» و«الأوجه
الفلسفية للعلم الحديث») رغم ما يبدو من أن طبيعته المندفعة لم تُروَّض بعدُ بما
فيه الكفاية، وأنه لم يصل بعدُ إلى إيضاح لتفكيره.
على أن خطته الأساسية واضحة تمامًا، فنظريته في المعرفة تسير كما قلنا في طريق
الواقعية الجديدة. ولكنَّها بدلًا من أن تقتصر على التحليل وحده، تتجاوَز حدودها
الخاصة وتتطور إلى ميتافيزيقا، ويميز جود في كل معرفة بين فعل الإدراك وبين الموضوع
الذي يُدرَك، فالفعل ذاته نفسي، وهو نشاط خالص للذهن بما هو كذلك، دون أي محتوى
محدود، ووظيفته الوحيدة هي الشعور بمُعطًى ما؛ غير أن هذا النشاط — مهما بدا عليه
—
سلبي تمامًا؛ فهو يكتفي بقبول الموضوع ولا يُمكن أن يُغيِّره بحال. ومن جهة أخرى
فإن الموضوع — أيًّا ما كان — مُستقِل عن الفعل، وطريقة وجوده لا تتأثر على أي نحو
بكونه يدرك؛ فهو يظل مستقلًّا عن الفعل سواء أدرك أم لم يُدرك، وبقدر ما يكون
موضوعًا، فإنه يكون موضوعيًّا تمامًا، مختلفًا أساسيًّا عن الفعل الذاتي للذهن.
وهذا يعني أنه غير ذهني. وهنا يمضي جود في الفصل بين الذات والموضوع أبعد شوط ممكن،
ويتم ذلك على حساب الأولى التي يقتصر عملها على مهمَّة ضئيلة هي أن تصبح
واعية.
والجانب الذي تُؤكِّده نظرية المعرفة هذه أكبر التأكيد، هو جانب الموضوع، وأهم
أجزائها هو نظرية الموضوعات التي قال بها جود، والتي هي قطعًا أفضل ما أتى به حتى
الآن من أفكار، ففاعلية الذهن هي في كل معرفة؛ أي إنها مجرَّد توجه نحو الموضوع
في
صورة وعي. وعلى ذلك فهي «توجيهية intentional».
أما الموضوعات التي يتَّجه إليها الذهن فهي شديدة التبايُن، يختلف كل منها أساسًا
عن الآخر، ويميز جود أولًا بين ثلاثة أنواع من الموضوعات، (١) المعطيات الحسية،
(٢)
الموضوعات المادية، (٣) الموضوعات العِلمية، وهو يُطلق على الموضوعات المادية اسم
موضوعات الموقف الطبيعي، ويعني بذلك الأشياء المألوفة في العالم الخارجي، فلدَينا
أولًا التجربة الحسية للعالم المادي، الذي يُمكن أن يدرك مباشرةً عن طريق المُعطيات
الحسية. وهذه وحدها هي التي لها وجود بالمعنى الصحيح؛ فهي توجد بوصفها موضوعات
مادِّية تكون العالم الفيزيائي ولا تتأثَّر على أي نحو بتوجه فعل إدراكي نحوها؛
غير
أن الفعل الإدراكي لا يُمكن أن يوجه إلا إليها، لا إلى الموضوعات المادية والعلمية.
فنحن لا نشعر مباشرةً بهذَين الأخيرين، وإنما نشعر بهما بطريق غير مباشر، ومن خلال
الأولى، (أي المعطيات الحسية)، والعلاقة بين هذَين الموضوعين الأخيرَين وبين
المعطيات الحسية هي أننا — في إدراك المعطيات الحسية — تتاح لنا فرصة التفكير في
الموضوعات المادية والعِلمية؛ وبعبارة أخرى: فإن عالم الحواس المادي يوجه الذهن
إلى
العالم اللامادي للموضوعات التي نفكر فيها. وهكذا تصبح هذه الأخيرة مدركة، ولكن
لا
عن طريق فعل حسي، وإنما عن طريق فعل فكري. وهنا أيضًا نجد للتفرقة القاطعة بين
الذات والموضوع ما يُبررها، ومعنى ذلك أن الأشياء المادية والعِلمية موضوعية على
نفس النحو الذي تكون عليه المعطيات الحسِّية موضوعية، ولا هي تتغير بحال، ولا يضاف
إليها شيء، من جراء الأفعال الفكرية التي تدركها؛ فالعالم الذي نُفكر فيه يوجد
مستقلًّا عن كوننا نفكر فيه، وما التفكير إلا إدراك أشياء غير مادية، مثلما أن
الإدراك الحسي هو إدراك لأشياء مادية. وهكذا فإنا لا نُدرك الأشياء الموجودة في
العالم الخارجي عن طريق الحواس، وإنما ندركها عن طريق التفكير. وقد أصبحت هذه
العملية مألوفة لنا إلى حدِّ أننا لا ندرك ذلك، وإنما نعتقد خطأ أننا ندركها
حسيًّا. وليس الفارق بين الموضوعات المادية والموضوعات العلمية فارقًا من حيث
المبدأ، كما هي الحال في الفارق بين هذَين وبين الموضوعات المحسوسة، فتوجه الوعي
الناجم عن إدراك المُعطيات الحسية إلى موضوعات مادية أو موضوعات علمية لا يتوقف
—
في رأي جود — إلا على مُستوى النمو الذي بلغ أو الغرض المرتبط به؛ ذلك لأن معرفة
الموضوعات المادية لا تستخدم إلا في الأغراض العلمية، وبوساطتها نستعيض عن عوالم
المعطيات الحسية التي يخصُّ كل منها فردًا على حدة، بعالم من الموضوعات العامة
المشتركة بيننا جميعًا. أما عالم العلم فيتكشَّف للذهن البشري لأول مرة في مرحلة
عالية نسبيًّا من مراحل تطوره؛ أي عندما يخفُّ ضغط الحاجات الحيوية الضرورية،
ويكتسب الذهن من وقت الفراغ ما يلزم للدراسة النزيهة للأشياء، وتنشأ الموضوعات
العلمية من الموضوعات المادية physical نتيجةً
لعملية تجريد دائمة التقدم؛ إذ ينزع التفكير العِلمي عن الموضوعات المادية أولًا
الكيفيات الثانوية، وجميع الكيفيات الأخرى التي تلازم المُعطيات الحسية للعالم
المادي، وكلَّما ازداد تكوين التصورات العِلمية علوًّا، ازدادت الموضوعات افتقارًا
إلى المضمون الحسي، وتؤدِّي هذه العملية أخيرًا إلى جعلها فارغة تمامًا آخر الأمر،
ومن رأي جود أن النظرية الواقعية الصارمة في المعرفة وفي الموضوعات لا تتنافى
ونتائج الفيزياء الحديثة، بل إن هذه تستلزمها بالضرورة؛ لذلك ينظر إلى كل محاولة
لتفسير أحدث النظريات الفيزيائية تفسيرًا مثاليًّا على أنها محاولة باطلة، ويرفض
النتائج التي يستخلصها منها إدنجتن Eddington
وجينز Jeans، فضلًا عن تلك التي يستخلصها رسل،
والتي تسير في نفس الاتجاه.
وسنتحدَّث بمزيد من الإيجاز عن تأمُّلات جود الميتافيزيقية، وإن تكن تحتلُّ من
كتبه مساحة أضخم كثيرًا؛ ففي كتاباته الأولى تتبدَّى نزعة تلفيقية عنيفة هوجاء إلى
أقصى حد، أو ما يُمكن تسميته بحساء فلسفي جُمِعَت فيه اعتباطًا — ودون تمييز —
أعشاب من جميع الأنواع، ففيها نجد تأمُّلًا جامحًا يفتقر إلى الشعور بالمسئولية؛
فهو يَلتقط بحماسة كل ما تقع عليه عينه، ويميل إليه الذوق الشائع بين الناس، ويلصق
هذا كله ليكون منه مذهبًا عن العالم، والشيء الوحيد المهم هو الوصول إلى «مركب
شامل». وهكذا يأخُذ جود بأفكار تنتمي إلى المذهب الحيوي والمذهب الحيوي الجديد
والمذهب التطوري، وينتشي بفكرة «الدفعة
الحيوية Étan Vital» والتطور الخالص عند برجسون، ويتحمس للقوة الحيوية، ومجرى
الحياة والطفرات الجديدة، وإلى جانب العناصر القوية التي امتصها من مذهب برجسون،
نجد أفكارًا من صمويل بطلر، ومن شو Shaw ودريش،
ولويد مورجان، وألكسندر تسير في اتجاه مُماثل. وفضلًا عن ذلك فإن الميتافيزيقا وعلم
الجمال المبنيَّين على فكرة الإدراك عند شوبنهور، ومذهب الكثرة عند جيمس، والتحليل
النفسي عند فرويد، كلها تُساهم بخيوط في نسيج جود البارع، وتُضفي عليه ألوانًا
زاهية لامعة، على حين تنسج فيه ظلال من اللون الرمادي عن طريق التحليل الجاف الهادئ
للمعرفة على طريقة رسل ومور، وأخيرًا يتوج البناء كله — وليغتفر لنا القارئ تغيير
الاستعارة — ويكمل بفكرة تشبه نظرية المُثُل الأفلاطونية.
وقد ازداد جود في الأيام الأخيرة اهتمامًا بالنقد الذاتي، وصاغ أفكاره على نحو
أمتن، وأضفى عليها مزيدًا من الاتِّساق، ولا سيما في كتابه «المادة والحياة،
والقيمة»، وهو يعرض في الكتاب — كما يدلُّ عنوانه — خطة للعالم مبنية على فكرة
الكثرة (أو خطة ثلاثية، إذا شِئنا الدقة)، ويردُّ كل وجود إلى المبادئ الأصلية
الثلاثة: المادة والحياة والقيم. هذه المبادئ لا يرد الواحد منها إلى الآخر، أو
يفسر به، وإنما الواجب الاعتراف بها كيانات مستقلة، وكأنها كامنة في صناديق لا ينفذ
إليها الماء، كل منها مُغلق بإحكام في وجه الآخرين. وهكذا فإن المادة هي المبدأ
الذي يواجه الحياة، وهي المادة الخام التي يشق مجرى الحياة طريقه إليها، ويتغلغل
فيها دون أن يستوعبها تمامًا. وكما أنه ليس من المُمكن ردُّ كل شيء واقعي إلى
الوجود المادي، فكذلك لا يمكن إدراج المادة في الحياة تمامًا، فالحياة تدفُّق
وحركة، وكون وفساد، وتحول خلاق متجدِّد دوامًا؛ غير أن هذه ليست هي غايتها، بل إن
هناك عالمًا ثالثًا وراء مجرى الحياة، يتوقَّف فيه القلق والحركة الأزلية للحياة،
هو عالم البقاء والثبات والاكتمال، عالم القيم. وهنا نصل أخيرًا إلى الواقع
الحقيقي، ويعلي جود من مكانة عالم القيم فوق المجالات الأخرى للوجود إلى حدٍّ لا
يوجد معه معبر بين الاثنين؛ فهو يثبت القيم في عالم عالٍ للمثل الأفلاطونية
(والواقع أنه أفلاطوني إلى حد بعيد طوال هذا الكتاب) ويرفض كل ما يوحى بأنها كامنة
في الحياة؛ فالقيم صفات موضوعية، وهي ككلِّ شيء موضوعي، مُستقلة تمامًا عن تحقُّقها
في فعل ذهني، وهي تظل في وجودها العالي، ولا تهبط إلينا حتى عندما نتحوَّل إليها
في
المعرفة أو التجربة. وهكذا تعود فكرة ازدواج المعرفة إلى الظهور من جديد، كما تعود
الواقعية، التي تجد اكتمالها في مجال القيم هذا.
(١١) وليم أرنست جونسون William Ernest Johnson
(١٨٥٨–١٩٣١م)
زميل في «كنجز كوليدج King’s College» بكيمبردج،
ومحاضر في جامعة كمبردج «في التربية من ١٨٩٣م إلى ١٨٩٨م، وفي علم الأخلاق من ١٨٩٦م
إلى ١٩٠١م، ثم محاضر «سدجويك» في علم الأخلاق من ١٩٠٢م إلى ١٩٣١م».
مؤلَّفاته: «المنطق Logic» (الجزء الأول، ١٩٢١م،
الجزء الثاني، ١٩٢٢م، الجزء الثالث، ١٩٢٤م. أما الجزء الرابع الذي كان يزمع تأليفه
فلم يتم، وقد نشرت بعض أقسام منه عن «الاحتمال» في مجلة
Mind، المجلد ٤١، ١٩٣٢م).
ليست لوليم إرنست جونسون — الذي اقتصرت أعماله الفلسفية على مجال المنطق — أية
ارتباطات محددة بأية مدرسة فكرية (إذ قال عنه برود Broad): «إنه لم يكن تلميذًا لأية مدرسة، ولم يكن يطمع في أن يكون
أستاذًا لأحد») وإنما سلك في أغلب الأحيان طريقه الخاص، ولا شك في أن كتابه
«المنطق»، وهو كتاب طموح. ولكنه لم يتم، من أفضل الكتب الإنجليزية في ميدان البحث
المنطقي، ومن الممكن أن يعزى إليه في فترة ما بعد الحرب الأولى تأثير يكاد يماثل
تأثير منطق مل في أواسط القرن التاسع عشر، ومنطق برادلي وبوزانكيت في أواخره، على
أنه ليس من السهل أن نحدد بدقة الموقف التاريخي لمنطقه؛ إذ إنه لم يبدأ من أية
مسلمات محددة في الفلسفة العامة، بل اكتفى بخوض طريق البحث، وترك نفسه ينقاد حيثما
أدى به ذلك الطريق، ولا جدال في أن هذه الدراسة غير المتقيدة، المرتكزة تمامًا على
الأمر الواقع، للمشكلات المنطقية، قد أفادت كتابه. ولكنها من جهة أخرى حالت دون
اتخاذ أبحاثه وجهة واضحة وهدفًا محدد المعالم. وهكذا فإن عمل جونسون يمكن أن
يُعَدَّ ملتقى طرق تتقابل فيه مسالك متعددة، أكثر مما يعد نقطة تحول في تاريخ
المنطق الإنجليزي؛ فهو قد استمد الكثير من التراث الأرسطي الكلاسيكي في المنطق
الصوري، بينما اتخذ مل نقطة بداية له فيما أسماه بالمنطق المادي، ولم يخل الأمر
من
تأثر بمنطق برادلي، وإن لم يأخذ عنه اتجاهه الهيجلي، والأهم من هذا كله أنه تأثر
بعمق بالمنطق الرياضي عند رسل وهويتهد، وإن يكن قد قابله أيضًا بتحفظ نقدي، وظل
متباعدًا عنه في نقاط أساسية، ويتضح ذلك — بأدلة خارجية خالصة — من كثرة استخدامه
لغة الصيغ الرمزية، وبحثه — في مناقشة جامعة — لأسس الرياضة وعلاقتها بالمنطق، على
أنه لم يقتصر على معالجة للمشكلات المنطقية الخالصة، وإنما وسَّع حدود دراسته بقدر
الإمكان، بمناقشة مسائل في نظرية المعرفة والمنهج والفلسفة العامة، وبالدخول في
مجادلات ميتافيزيقية أحيانًا. ولقد كان جونسون أستاذًا في دقة المصطلحات، وأدخل
سلسلة من الألفاظ الجديدة الموفقة إلى حد بعيد، مستخدمًا تعبيرات منطقية محددة
بدلًا من ألفاظ غامضة عتيقة (مثال ذلك أنه استخدم بدلًا من تصوري «الخاص والعام،
أو
الجزئي والكلي particular and general»، لفظين
منطقيين أكثر تحددًا، هما «الأسمى (أو الفاعلي) والنعتي substantial
and adjectival»، وبدلًا من «الذاتي والموضوعي subjective and objective» اعتاد أن يقول
«المعرفي epistemic والتكويني constitutive»، وبدلًا من «الجوهر substance» استخدم «المتصل continuant» … إلخ). ولكنه لم يلتزم دائمًا ما اشترطه على الألفاظ
المنطقية من تحدد ووضوح غير مشروط، ولنذكر في هذا الصدد إحدى الطرائف، وهي أن
جوزيف H. W. B. Joseph عندما تساءل: «ما الذي
يعنيه جونسون بالقضية؟» اكتشف ما لا يقل عن عشرين معنى مختلفًا للكلمة (انظر مجلة
Mind، المجلد ٣٦، ١٩٢٧م، والمجلد ٣٧ سنة
١٩٢٨م). كذلك كان يتميز بصفة كان فيها مشابهًا لكانْت، هي اهتمامه بإعداد
المتقابلات بدقة، وإجراء تقسيمات بارعة، والقيام بتمييزات وتحديدات … إلخ، وكان
يهوى نحت ألفاظ فنية لها، وكان يفزع تمامًا من نشر الكتب (فحتى كتابه «المنطق» لم
ينشر إلا بعد ضغط خارجي شديد). ولقد كان مفكرًا متركزًا حول نفسه إلى حد بعيد، لا
يهتم بأعمال معاصريه، له طاقات هائلة ظلت حية نشطة إلى النهائية، رغم صراعه ضد
المرض طوال حياته.
وليس في وسعنا — بعد هذه الملاحظات العامة — إلا أن نقدم لمحة موجزة لكتابه، مع
كل ما كان يتميز به من امتلاء، فجونسون — مثل مل — يعرف المنطق بأنه تحليل الفكر
ونقده، على نحو لا هدف له سوى بلوغ الحقيقة، ولا يتعلق الأمر هنا بمضمون الفكر،
وإنما بالموقف الذهني للمفكر أو بنشاطه، ويؤدي هذا التمييز بين الفكر والمفكر إلى
معالجة المنطق من خلال وجهة نظر مزدوجة، الموضوعية والذاتية؛ فالأخيرة هي وجهة
النظر الإبستمولوجية، التي تندرج بفضلها نظرية المعرفة في المنطق. أما الوجه الأول
فهو المسمى بالتكويني، وهو المتعلق بمضمون المعرفة. ومن الممكن النظر إلى المضمون
بدوره من وجهتي نظر: شكلية ومادية أو تجريبية. وهكذا نستطيع مثلًا أن نميز — داخل
قضايا معترف بها — بين القضايا الشكلية، التي تصدق بفضل الفكر الخالص وحده،
والقضايا التجريبية، التي تصدق نتيجة للتجربة الفعلية. وهنا ينبغي أن يلاحظ أنه
لا
توجد قضايا تقوم على التجربة وحدها، وإنما توجد فقط قضايا يمكن إثباتها بمساعدة
التجربة. وهكذا ينقسم المنطق إلى جزء صوري وجزء مادي: الأول يعالج الموضوعات
المألوفة للمنطق الصوري (وهذا ما فعله جونسون في الجزأين الأول والثاني من كتابه)
ولكن مع خروج واضح عن الترتيب التقليدي وتغييرات هامة في المضمون؛ ففي البداية يبحث
في القضية، بوصفها الوحدة التي يمكن بناء نسق المبادئ المنطقية بأسره على أساسها،
وتحل نظرية القضية محل نظرية التصور والحكم (التصديق) المألوفة، وهو يعني بالقضية
ما يمكن أن يحمل عليه الصواب والخطأ على نحو له معنى. وهكذا يبدأ جونسون — على خلاف
معظم المناطقة المحدثين — من القضية لا من الحكم، ويعالج من وجهة النظر هذه عددًا
كبيرًا من المشكلات المنطقية الصورية (كمشكلة السلب، وأسماء الأعلام وأسماء الفئات
والتعداد والفئة والهوية والفروق الهامة بين القابل للتحدد determinable والمتحدد determinate، والصفة والاسم والمتصل continuant والحادث occurrent
وقوانين الفكر والعلاقات … إلخ)، وهو يضيف إلى ذلك — في الجزء الثاني — نظرية
الاستدلال البرهاني، والاستدلال الاستنباطي والاستقرائي. فكل استدلال استنباطي
يرتكز على مبدأين: التطبيقي applicative،
والتضمني implicative، والمبدآن معًا يطبقان
في القياس، وهو يعرض القياس أولًا في صورته الشكلية المألوفة (القياس الحملي)، ثم
يمده في ضوء تصور الدالة function، وبذلك يدخله
ضمن مشكلات النظريات المنطقية الرياضية، وهو هنا يبحث مسائل كالرمزية والدالة
والعِظَم magnitude والرياضة البحتة وعلاقتها
بالمنطق، والفرق بين المنطق الرياضي والمنطق قبل الرياضي، وكثيرًا ما تقترن هذه
الأبحاث بنقد لنظريات رسل، وتلي ذلك نظرية الاستقراء، بوصفها العملية التي يتوصل
فيها إلى نتيجة عامة عن طريق أمثلة خاصة تتخذ مقدمات، وهو يميز بين أربعة أنواع
من
الاستقراء: الحدسي والتخليصي summary والبرهاني
والاحتمالي problematic، ويواصل جونسون هنا،
كما يفعل طوال الجزء الثالث، عمل مل، وينقد نظرياته. وليس من شك في أنه أحرز في
نواح هامة تقدمًا تجاوز به المناهج والنتائج السابقة.
ويبحث الباب الثالث في «الأسس المنطقية للعلم»، وبذلك يبدأ القسم المادي من
المنطق، فهو هنا يدخل تصورات أنتولوجية كالجوهر والعلية والمادة والذهن ويناقشها،
وتصبح الحدود الفاصلة بين وجهتي نظر الأنتولوجيا ونظرية المعرفة غير واضحة، وسوف
نختار من بين الموضوعات الكثيرة التي عالجها، موضوعًا دالًّا على طريقته الخاصة
في
البحث هو مشكلة الجوهر، فجونسون يحاول أن يحرر هذا التصور من مضموناته
الميتافيزيقية، وأن يدعم بقدر الإمكان طابعه المنطقي البحت. وهكذا يستبدل بتصور
الجوهر الميتافيزيقي الغامض تصورًا أكثر تحددًا بكثير، هو الاسم أو الفاعل substantive، ولا يشمل هذا الأخير ما يسمى عادةً
بالجوهر فقط، بل يشمل أيضًا تصور العملية أو الحادث، وينبغي أن نفهم من كلمة الاسم
أو الفاعل كل ما هو وجودي، ونستطيع أن نميز — داخل مقولة الوجود — بين مقولتين
فرعيتين تبعًا لاستمرار الموجود أو توقفه. وهكذا نصل إلى التمييز الهام بين ما هو
متصل continuant وما هو حادث occurrent، وهو يحدد «المتصل» على نحو أدق بأنه ما
يظل باقيًا خلال جزء محدد أو غير محدد من الزمان، قد تتغير خلاله حالاته الداخلية
وعلاقاته الخارجية إلى «متصلات» أخرى، أو تظل بلا تغير. وبهذا المعنى تكون طريقة
وجود الذهن هي الوجود «المتصل». أما طريقة وجود ألم الضرس فهي الوجود الحادث، وكل
ما له طابع العملية، ويشمل ذلك الحادث أيضًا، ينبغي أن يربط بمتصل واحد أو أكثر،
حتى لو كانت الرابطة بين العمليتين، إلى جانب علاقاتهما المكانية-الزمانية الخالصة،
هي دائمًا «المتصل» ذاته، وينطوي هذا التمييز الأساسي على سلسلة من المشكلات الأخرى
في المنطق المادي. فلما كانت هناك متصلات فيزيائية (مادية) وأخرى نفسية، فإن هذا
يثير مشكلة الوجود المادي والنفسي وعلاقاتهما المتبادلة، ولما كانت «المتصلات»
ترتبط في علاقة علية بعضها ببعض. فهناك أيضًا مشكلة العلية، وينظر جونسون إلى
مقولتَي الجوهر والعلية، لا على أنهما مقولتان مختلفتان، بل على أنهما عاملان لا
ينفصلان لمقولة واحدة. فلا يمكن فهم إحداها بدون الأخرى. وفضلًا عن ذلك فهناك تمييز
أساسي داخل العملية بين العلية الباطنة والظاهرة، فهو ينظر إلى تصور العلاقة الذي
يكون وحدة «متصل واحد» على أنه يتحدد بعلية باطنية، أما الكثرة من «المتصلات» التي
لا تقوم بينها هوية، والتي تنتمي كلها إلى مجال واحد من مجالات الواقع، فتتحدد
بعلاقات علية ظاهرة، ولا حاجة بنا في هذا المقام إلى مزيد من التفصيل لهذه
الموضوعات كلها. ولكن من الواضح — مما تقدم — أن شروح جونسون، إذا ما قورنت
بالصياغة الكلاسيكية لهذه المشكلة عند هيوم، تبدو شديدة التعقيد والتنوع، وأدق
وأعمق منطقيًّا، رغم أن هذا كثيرًا ما يحدث على حساب ذلك الوضوح الذي يتميز به
تفكير هيوم، والذي كان له طابع جذاب في بساطته، بالنسبة إلى جونسون.
وكان المفروض أن يبحث جونسون في الجزء الرابع مشكلة الاحتمال بنفس الطريقة
الدقيقة الشاملة؛ غير أن جونسون لم يستطع أن يكمل إلا أقسامًا قليلة. وهكذا ظل الكل
تمثالًا رائعًا ناقصًا، يشهد بقدرة عجيبة على التفكير. ولقد كان تأثيره حتى الآن
كبيرًا. ولكنه قد لا يظهر بقوته الكاملة إلا في المستقبل.
وفي كتاب جونسون هذا تصل الأبحاث المنطقية الأصيلة الحالية إلى قمتها، وذلك في
وجهها الذي لا تخرج فيه تمامًا عن التراث الماضي، كما يفعل المنطق الرمزي. ولكن
هناك — بالإضافة إلى ذلك — إنتاجًا خصبًا هائلًا في ميدان المنطق. فهناك عدد لا
حصر
له من الكتب المدرسية والكتب الموجزة، والكتب المقررة في المعاهد، وكتب التمرينات،
وكتب المنطق الأولي والمنطق العالي، والأبحاث الخاصة والتأليفات الشاملة، وهي
تُبْنَى عادةً على أساس أرسطي. ولكنها في أحيان أقل تكون مبنية على أساس تجريبي
أو
هيجلي أو برجماتي أو غيره، والتفسير الممكن لهذه الوفرة، إلى جانب ما يمتاز به
الإنجليز من موهبة طبيعية في هذه الدراسة، هو أن المنطق ما زال مادة هامة من مواد
الامتحانات الجامعية، ونستطيع أن نختار، من بين المجموعة الكبيرة التي لم تصادفنا
من قبل في مواضع أخرى، كتابًا واحدًا يستحق أكثر من كتب مماثلة متعددة أن يعد العرض
الكلاسيكي للمنطق الأرسطي، ذلك هو كتاب «دروس وتمرينات في المنطق
الصوري
Studies and Exercises in Formal Logic» (١٨٨٤م، الطبعة الرابعة، ١٩٠٦م، نشرة جديدة، ١٩٢٨م) من
تأليف جون نيفيل كينز
John Neville Keynes (وُلد
في ١٨٥٢م)،
٦٨ هذا الكتاب المدرسي الشائع الاستعمال، الذي استقر في إنجلترا طوال نصف
قرن، يقدم إلينا معالجة دقيقة لمجال البحث المنطقي بأسره، من أرسطو حتى يومنا هذا،
وفيه يظهر المنطق على أنه دراسة خاصة مستقلة تمامًا عن الفروع الأخرى للفلسفة، له
مجال بحثه المحدد بوضوح، وقوة المنطق (وضعفه في الوقت ذاته) إنما تكون في تقدمه
بخطى مؤكدة نحو مركز العلم الخاص، الذي يترك جانبًا — عن عمد — جميع المسائل
المتعلقة بالمبادئ النهائية، وأخيرًا ينبغي أن نذكر هنا الكتاب الهام الذي ألفه
الاقتصادي المشهور «جون ماينارد
كينز
John Maynard Keynes» (وُلد في ١٨٨٣م)،
٦٩ وهو ابن المفكر المنطقي الذي تحدثنا عنه قبله، في مشكلة الاحتمال
(«بحث جامع في
الاحتمال
A Treatise on Probability»، ١٩٢١م، ترجمه إلى الألمانية إيربان
F. M. Urban في ١٩٢٦م)، هذا الكتاب يعد أنموذجًا
رائعًا شاملًا للبحث في مشكلة خاصة، وهو يدرس المشكلة ويوضحها في جميع علاقاتها
وجوانبها، مبديًا في ذلك علمًا غزيرًا وتمكنًا رائعًا من الموضوع.
ونستطيع — بعد هذا الاستطراد في المنطق — أن نعود مرةً أخرى إلى الواقعية
الجديدة، وسوف نختار — من عدد كبير من الشخصيات الأقل أهمية — الأسماء الآتية
لنتحدث عنها بإيجاز، ل. أ. ريد L. A. Reid (وُلد
في ١٨٩٥م، أستاذ بكلية آرمسترونج، في نيو
كاسل على نهر التين Newcastle upon Tyne) وﻫ. ﻫ.
برايس H. H. Price (وُلد في ١٨٩٩م، أستاذ المنطق بأكسفورد) وج. أ. تيرنر J. E. Turner (وُلد في ١٨٧٥م، محاضر في
الفلسفة في جامعة ليفربول).
ففي كتاب «المعرفة
والحقيقة Knowledge and Truth» يستعرض ريد نظرية المعرفة الواقعية الجديدة (الإنجليزية
والأمريكية) بأكملها، ويحاول — مع نقده لها بطريقة معادية إلى حد ما — أن يصل إلى
موقف خاص به حول طبيعة المعرفة والحقيقة والبطلان وعلاقاتهما، وهو يبين أن المعرفة
والحقيقة ليسا أمرين مختلفين فيما بينهما اختلافًا كاملًا، وإنما هما يرتبطان
سويًّا ارتباطًا وثيقًا، ويوضح كل منهما الآخر؛ فالمعرفة تتحدد بوصفها نشاطًا يدرك
به الذهن شيئًا معطى؛ فهي إذن ليست حالة سكونية، تكتفي فيها الذات العارفة بمشاهدة
صور حاضرة تعبر عن شيء خارج الذات أو تمثله أو تحاكيه، وإنما المعرفة قبل كل شيء
تملك لزمام الواقع، وكل وظيفة معرفية تنطوي على علاقة مباشرة بين الذهن والواقع،
حتى عندما تكون المعرفة — بما هي كذلك — باطلة، ففي المعرفة نحقق اتصالًا مباشرًا
مع ما هو واقعي موضوعيًّا، ونشق طريقنا إليه. إن جاز هذا التعبير، ويطلق ريد على
هذه الصفة اسم الصفة المتعدية transitive للمعرفة،
والحقيقة مماثلة أساسًا للمعرفة. ولكن مع فارق هو أن إدراك الواقع يكون في حالة
الحقيقة ناجحًا مطابقًا، على حين أن المعرفة قد تضل طريقها
إلى موضوعها، وبقدر ما تكون المعرفة صحيحة، تكون
هي إدراك واقع معقد أو جزء منه، على ما هو عليه واقعيًّا، ومن هذه التعريفات يتلو
حل مشكلة الخطأ بسهولة؛ فالخطأ ترتيب أو تطبيق فاسد لوقائع وعلاقات فعلية، وحين
يخطئ المرء فإنه يقوم بذلك الفعل المعرفي الذي يربط فيه محمول بمعطى، ويتكون من
ذلك
حكم لا يكون إدراكًا للواقعة المعقدة التي كانت ترتبط أصلًا بالمعطى. وقد بحث ريد
إلى جانب التجربة النظرية في التجربة الجمالية، وذلك في الفصل الأخير من كتابه
المذكور من قبل، وفي كتاب مستقل عن علم الجمال «دراسة في علم الجمال A Study in Aesthetics» (١٩٣١م) وفي
التجربة الأخلاقية في «الأخلاق
الإبداعية Creative Morality»، (١٩٣٧م).
وفي كتاب «الإدراك الحسي perception» (١٩٣٢م)
عالج برايس Price المشكلة الرئيسية في نظرية
المعرفة الواقعية الجديدة، وهي مشكلة الإدراك الحسي، هذا البحث — وإن لم يتقيد بأية
نظرية محددة — يشترك في نواح كثيرة مع آراء مور ورسل وبرود، وهو يرمي إلى نوع من
وصف ظاهرات (phenomenology) الإدراك الحسي؛
وبالتالي تطهير ظاهرة الإدراك الحسي من عدد من النظريات المربكة، وإظهار طبيعتها
واضحة عن طريق الوصف البسيط والتحليل الدقيق، ويحاول هذا البحث، في قيامه بعملية
التطهير هذه، أن يثبت عدم كفاية النظرية الواقعية الساذجة أولًا، وأن يفند قبل ذلك
النظرية المسماة بالنظرية العلية في الإدراك الحسي، وهي أكثر النظريات الفلسفية
شيوعًا وأشدها خطرًا، ويعني برايس بهذه الأخيرة، الرأي القائل إن الأشياء الخارجية
هي علة المعطيات الحسية، وإن المعرفة الإدراكية الحسية إنما هي استدلال من معلول
على علة، مثل هذه العلاقة بين المحسوسات والأشياء لا تتسق ونتائج البحث
الفينومينولوجي؛ فهذا البحث يبين لنا أولًا — في حالة الإدراك الحسي — أن الأشياء
المادية حاضرة أمام الحواس؛ وبالتالي أن العلاقة القائمة في هذه الحالة ينبغي أن
توصف — حسب تعبير مور — بأنها مجرد علاقة «انتماء
إلى belonging to». وهكذا يقوم برايس هنا ببعض التحليلات الوصفية العميقة، التي
لم يأخذ في اعتباره فيها أبحاث المدرسة الفينومينولوجية الألمانية، وهي أبحاث لها
أهميتها العظمى في هذا الصدد. وفي هذه التحليلات يعالج طبيعة المعطيات الحسية
وطريقة وجودها، والوعي المدرك (الذي يميز فيه بين مستويين مختلفين، القبول acceptance والتأكيد assurance)، ويحدد بدقة علاقة المعطيات الحسية بالموضوعات
الخارجية، وعلاقة مختلف المعطيات الحسية بعضها ببعض (وهو موضوع يحاول إيضاحه عن
طريق تصور «الأسرة family»، كما يبحث في أصلها …
إلخ).
أما موقف تيرنر من نظرية المعرفة، كما يعرضه في كتاب «نظرية في الواقعية المباشرة،
وعلاقة الواقعية بالمثالية
A Theory of Direct Realism and the Relation of Realism to Idealism» (١٩٢٥م)
فيقترب كثيرًا من نظرية ألكسندر، التي أدخل عليها بعض التصويبات البسيطة؛ فهو بدوره
يمضي في الواقعية إلى آخر مداها؛ إذ يقول: إن الإحساسات تنتمي إلى العالم الفيزيائي
للأشياء، فهي «في» الأشياء، أو أجزاء منها، ولا تغير يطرأ عليها بحدوث الإدراك
الحسي، وهي واقعية فيزيائيًّا، حتى عندما تظهر في الفعل الإدراكي. ولكن ينبغي علينا
أن نميز بين الإحساسات السوية والإحساسات غير السوية، ورغم أن طريقة وجودها لا
تتأثر بذلك (على النحو الذي يستتبع النظر إلى الأولى على أنها واقعية، وإلى الثانية
على أنها ظاهرة فحسب)، فإن هناك مع ذلك فارقًا أساسيًّا بينهما، هو أن الإحساسات
السوية في هوية تامة مع الموجود واقعيًّا، بينما غير السوية في هوية ناقصة معه فقط،
وأن الأولى تكشف على نحو جامع مطابق تمامًا، عن الواقع الذي تنبثق عنه، بينما
الثانية لا تكشف عنه إلا جزئيًّا وعلى نحو غير مطابق، ورغم أن هذه الواقعية تنادي
بأنها أشد تطرفًا من أي مذهب واقعي آخر تقريبًا، فإنها — إذا ما نظر إليها من منظور
أوسع — تبدو مجرد مرحلة تمهيدية لميتافيزيقا مثالية على النمط الهيجلي، أو الأحرى
الهيجلي الإنجليزي، ويقترب تيرنر من هذا الموقف في كتاب آخر، حاول فيه بلوغ وجهة
نظر ميتافيزيقية خاصة به، وهي وجهة نظر تقترب من طريقة تفكير برادلي. ولكنها تغيرها
وتشوهها من جهة، وتسيء تفسيرها وتزيفها من جهة أخرى.
٧٠
ولقد أتيحت لنا من قبل فرص كثيرة لإدراك مدى صحة الرأي القائل: إن التفكير
المثالي والواقعي لم يعودا — في الآونة الأخيرة — يسلكان طريقين منفصلين، بل تقابلا
في كثير من الأحيان وحاولا التوفيق بين اختلافاتهما، ومزج الواحد منهما بالآخر؛
ولذلك فسوف نختم هذا الفصل بالكلام عن فيلسوف تجلى فيه ذلك بكل وضوح، هو
إيونج A. C. Ewing (وُلد في ١٩٠٠م، وهو محاضر
في علم الأخلاق بجامعة كمبردج)، ويُعَد إيونج من أقدر مفكري الجيل الجديد، وممن
ينتظرهم مستقبل باهر، وإليه ندين حتى الآن بثلاثة كتب ممتازة (هي «بحث كانْت في
العلية Kant’s Treatment of Causality»
١٩٢٤م، و«أخلاق
العقاب The Morality of Punishment» ١٩٢٩م، و«المثالية، دراسة نقدية Idealism, A Critical Survey» ١٩٣٤م، وهو يرتبط أساسًا بالواقعية
الجديدة. ولكنه في الوقت ذاته «متعاطف بعمق» مع الحركة المثالية الجديدة. وقد قام
في آخر كتبه المذكورة من قبل بنقد شامل عميق بناء لهذه الحركة، ولا سيما في جانبها
النظري، والهدف الرئيسي للنقد هو التوفيق بين توترات المدرستين الفكريتين، وإدخال
عناصر مثالية هامة في النظرية الواقعية الجديدة؛ ففي هذا الكتاب تعبير بليغ عن
أهمية الدور الذي لعبته المدرسة المثالية الجديدة في الفلسفة الإنجليزية الحديثة،
بقلم واحد من أذكى نقادها، ومنه يمكننا أن نرى بوضوح خاص مدى قوة تأثير هذه المدرسة
في التفكير المعاصر، وإن تكن هي ذاتها قد اختفت تمامًا أو كادت وبورد إيونج في نقذه
ثلاثة أفضل رئيسية لها «قيمة لا تقدر»، حققها رد الفعل الواقعي على المثالية: (١)
فهو أولًا قد بين أن الطابع الصحيح للمعرفة هو اهتداء وكشف أكثر منه توليد وإنتاج.
هذه الحقيقة، التي طالما أضفت عليها النظرية المثالية في المعرفة طابعًا من الغموض،
لا تسوغ لنا — مع ذلك — أن نفترض منطقيًّا أن الموضوع مستقل عن الذات العارفة
استقلالًا كاملًا، فرغم أن الحجج المثالية لإثبات الطابع الذهني للواقع أو اعتماد
الواقع على الذهن غير صحيحة، وأن مشكلة المعرفة يمكن أن تحل بمنهج الواقعية وحده؛
فمن الممكن أن نجمع إليه نوعًا من المثالية المنهجية. وهذا يستتبع (٢) أن النظرية
القائلة بأن العالم الفيزيائي (أو المادي) يوجد مستقلًّا عن أية تجربة لا يمكن
إثباتها بدقة، وهي تتعرض لصعوبات متعددة. ولكنها على الأقل تخضع للبحث الفلسفي
المفيد. وقد أجريت بالفعل أبحاث كهذه، كانت لها فائدة جزيلة بالنسبة إلى مشكلة
الإدراك الحسي. ولكن الأهم من ذلك (٣) هو مطلب تحليل المشكلات بدقة وحرص، وهو مطلق
طالما تجاهله المفكرون المثاليون؛ لأن تحمسهم للوصل إلى مركبات شاملة جعلهم يندفعون
بتعجل إلى إيجاد حل لمشكلة العالم بأسرها؛ فمن المفيد تمهيد الطريق لحل المشكلات
الميتافيزيقية الكبرى بالتحليل المفصل الدقيق للمشكلات الخاصة. ولقد رأينا خلال
هذا
الفصل إلى أي حد حققت أعمال الواقعيين الجدد هذا المطلب، ولا يمكننا أن نتعرض هنا
للنتائج الأخرى التي يؤدي إليها نقد إيونج للمثالية، وحسبنا أن نشير إلى أن هذه
النتائج تسير — أساسًا — في طريق الواقعية الجديدة؛ غير أن تفكير إيونج يتجنب كل
صيغ متطرفة، ويحاول الوصول إلى نوع من الموقف الوسط بين الفريقين
المتنازعين.