الفصل الخامس
المنطق الرياضي
المقصود هنا «بالمنطق الرياضي:
١ مختلف المحاولات التي بُذِلَت لتجديد المنطق الصوري والتحليلي، مستوحية روح
الرياضة، ومستخدمة المصطلحات والمناهج الرياضية، وتتزايد هذه الحركة أهمية طوال الفترة
التي نعرض لها بالبحث. ولقد كانت التمهيدات الأولى التي ترمي إلى إقامة (أو إعادة
قيام)
منطق رياضي في وسط القرن الماضي، بل وقبل ذلك أحيانًا، وكذلك التطور التالي الذي
اتخذ
شكلًا أصرح في بداية هذا القرن، كانت هذه كلها مستمدة من أعمال مفكرين إنجليز، وحتى
في
يومنا هذا، عندما أصبحت الحركة دولية، ما زال للإنجليز فيها نصيب عظيم الأهمية، ونحن
إذ
نقتصر على استطلاع سطحي إلى حد بعيد، في صورة عرض تاريخي موجز لهذا الموضوع ذي التفرعات
المتعددة، ندرك تمامًا أننا لا نولي أهميته حق قدرها، وعذرنا الوحيد في هذا البحث
الخاطف للموضوع أن الأمر في هذه الحالة متعلق ببحث متخصص إلى أبعد حد، ليس له ارتباط
وثيق بحركة الفلسفة في مجموعها، وما زالت أهميته ودلالته الفلسفية موضوع جدل كثير
حتى
يومنا هذا. وليس في وسعنا أن نقبل زعم المفرطين في التحمس للمنطق الرياضي، القائل:
إن
هذا هو الميدان الذي ينبغي أن تتحدد فيه مهمة الفلسفة بما هي كذلك، والذي ينبغي أن
يتقرر مصيرها ذاته فيه، كما لا نستطيع أن نعترف بأن الكلمة الأخيرة في المنطق قد
قيلت،
مهما كان مقدار التغير والإصلاح الذي أدخله المناطقة الرياضيون على هذا العلم، بل
إن ما
فعلوه إنما كان بناء فرع جديد على الجذع الرئيسي لشجرة العلم المنطقي، وهو فرع حافل
بالأهمية بعيد المدى. ولكنه يستمد غذاءه من تربة الرياضة أكثر مما يستمده من تربة
الفلسفة، ومما يدل على أن هذا المبحث الجديد أقرب إلى روح الرياضة منه إلى الفلسفة،
أنه
نشأ في البداية بفضل اتجاهات ومناقشات رياضية، وأن الذين ثبتوا دعائمه ونموه كانوا
باحثين رياضيين. وعلى ذلك فإننا إذا رفضنا المزاعم المتطرفة للمنطق الرياضي، وجعلنا
لأهميته الفلسفية حدودها الصحيحة، فما ذلك إلا من أجل المزيد من التأييد وتأكيد فضله
في
ميدانه الخاص».
وإذن فالأمر الذي ينبغي أن يُتَّفق عليه هو أن المنطق الرياضي ليس له بعد أي حق في
المطالبة بأن يتخذ من الفلسفة كلها مجالًا خاصًّا له، أو حتى باتخاذ المنطق كله مجالًا
كهذا، وأنه يحتل مكانة محددة تمامًا، يمكن تعيينها بدقة، في إطار المذهب المنطقي،
وأن
بقية فروع المنطق، فضلًا عن المباحث الفلسفية الأخرى، لها كل الحق في الوقوف إلى
جواره،
والواقع أننا ما كنا لنحتاج إلى ذكر حقيقة واضحة كهذه، لولا أن المبحث الجديد قد
ذهب به
الغرور أحيانًا إلى حد أنه تخيل نفسه قادرًا على إدارة شئون الفلسفة بأسرها، بوصفه
وريثها الوحيد، وعلى أن يضرب عرض الحائط بكل ما حققته الفلسفة من قبل، كما أن موقفه
مما
أنجز من قبل في مجال المنطق لا يختلف عن ذلك كثيرًا؛ فقد كان المناطقة الرياضيون
— وهم
في سَوْرة حماسة الكشف — ميالين إلى قطع الجسور وإغفال الارتباطات التاريخية التي
تجمع
بين مبحثهم وبين المنطق التقليدي. وهكذا عرضوا منطقهم على أنه هو المقابل والضد التام
للتراث الأرسطي، الذي كان من المهام الرئيسية للمنطق الجديد القضاء عليه. وينبغي
أن
نقرر — مقابل ذلك — حقيقة أصبحت في الآونة الأخيرة تلقى اعترافًا متزايدًا حتى في
أوساط
المناطقة الرياضيين أنفسهم، وهي أن منطق أرسطو الصوري هو في واقع الأمر السلف الأول
لمنطقهم الجديد، الذي لا يكفي أن يقال عنه: إنه لا يتعارض مع منطق أرسطو، بل إنه
كان
أساسًا أول تحقيق لمغزاه العميق. ولقد كان ريل Riehl
على حق حين قال: «وهكذا فإن أرسطو هو أول مؤسس للمنطق اللوغار ينتمي أو الرياضي؛
أي
الحساب المنطقي»، وبنفس هذا المعنى كتبت الآنسة ستبنج Stebbing، وهي من أخريات ممثلي هذه المدرسة، تقول إن «نظرية القياس عند
أرسطو هي أول محاولة تبذل للبرهنة على المبدأ الصوري للاستنباط»، فالمثل الأعلى للصورة
المنطقية الخالصة هو هدف المنطق الأرسطي والمنطق الرياضي معًا، وكل منهما لا يتميز
عن
الآخر إلا بدرجة اقترابه من هذا الهدف.
وهكذا لا يمكن وضع حد فاصل قاطع بين المنطق «القديم» و«الحديث»، فمصدر الأخير هو
الأول، أي إن ذلك العلم الشكلي الخالص، علم الترتيب أو النظام Science
of Order (كما يمكن أن يسمى المنطق الرياضي) مستمد من تحليل الفكر
ونقده عن طريق التعميم والتجريد المستمرين، وتحول المنطق الكلاسيكي إلى منطق رياضي
لا
يعني إلا اكتمال عملية التعميم وازدياد الشكلية هذه، وهي العملية التي تؤدي إلى صورة
خالصة خلت من كل محتوى ومن كل موضوع عيني. ولقد كان من المحتم أن يؤدي استهداف هذه
الغاية إلى ارتماء المنطق في أحضان ذلك العلم الذي تحقق فيه المثل الأعلى للصورة
الخالصة على أكمل وجه؛ أي الرياضة، وبالعكس فإن الرياضة عندما بدأت تتنبه إلى مبادئها
الأساسية الخاصة، تعين عليها أن تلجأ إلى هذا المنطق الذي أتاح لها إدراك طبيعتها
الأساسية الخاصة. وكانت النتيجة تعاطفًا وثيقًا بين العلمين، مؤديًا من جهة إلى صبغ
الرياضة بصبغة منطقية. ومن جهة أخرى إلى صبغ المنطق بصبغة رياضية؛ غير أن هذا كله
كان
موجودًا بصورة ضمنية في برنامج أرسطو، وإن لم يكن هذا الأخير قد عبر عنه صراحةً،
ولم
ينفذه بطريقة منهجية إلا جزئيًّا، وإنا لنجد في أرسطو ذاته سمة أساسية من سمات المنطق
الجديد، هي استخدام الرموز بدلًا من الحدود اللفظية، بحيث إنه لا شيء جديد، من حيث
المبدأ، في المنطق الرياضي، حتى في اتجاهه الرمزي، والجديد فقط هو ذلك الشمول والنظام
الصارم الذي طبقت به الرموز المستمدة من الرياضة (ولا سيما الجبر)، أو المشابهة للرموز
الرياضية.
ورغم ذلك فإن المنطق الجديد يعني — من وجهة النظر الصورية — تقدمًا ملحوظًا متميزًا
عن المنطق الكلاسيكي، وهو يعني أن المثل الأعلى الأساسي للمنطق قد تحقق فيه على نحو
أفضل، وأن نطاقه قد امتد امتدادًا هائلًا، ومناهجه قد روجعت من أساسها، ووسائل التعبير
فيه قد أُصْلِحَت إصلاحًا تامًّا، ويتضح نقص المنطق الأرسطي — من وجهة نظر المنطق
الرياضي — في النقاط الآتية: (١) اقتصاره على طريقة واحدة في الاستنباط، هي القياس،
(٢)
إخفاقه في وضع نظام رمزي كاف للتعبير عن العلاقات المنطقية، (٣) تحليله غير السليم
لهذه
العلاقات (انظر مقال آنسة ستبنج في دائرة المعارف البريطانية، الطبعة الرابعة عشرة،
المجلد ١٤، ص٣٣١).
فالمنطلق القياسي التقليدي لا يمثل إلا جزءًا صغيرًا نسبيًّا من الميدان الذي يبحثه
المنطق الرياضي. ولقد أدى كشف أنماط غير قياسية للاستدلال الاستنباطي إلى فتح المجال
أمام البحث المنطقي لاستطلاع إمكانيات جديدة لم تَدُرْ من قبل بخلد أحد، وحدثت نفس
النتيجة بعد كشف وتحليل عدد كبير متنوع من الفئات والأنماط والقضايا والدالات المنطقية،
التي تشترك في الاستدلال الاستنباطي، ويمكن الإشارة إليها برموز تصورية دقيقة، بحيث
تتبع نوعًا من الحساب شبه المنطقي. ولكن هذا كله لا يمثل — كما قلنا من قبل — اختلافًا
أساسيًّا عن المنطق التقليدي الشائع، سواء في الموضوع وفي المناهج وفي الغاية والهدف،
وإنما الفرق بينهما في درجة الاقتراب فقط؛ أي في ازدياد اقتراب المنطق الجديد من
مبدأ
الصورية المثلى، الذي هو المبدأ الموجه لعلم المنطق في جميع أطواره.
ونستطيع الآن أن نقدم تعريفًا للمنطق الرياضي، عن طريق تحديد خصائصه الرئيسية
التالية، التي أشار إليها «ليويس»: (١) إن موضوعه هو موضوع المنطق أيًّا كانت صورته؛
أي
إنه هو مبادئ العملية العقلية أو الفكرية الواعية بوجه عام، في مقابل المبادئ التي
تنتمي فقط إلى فرع خاص معين لهذه العملية العقلية، (٢) وإن أدواته رموز يدل كل منها
على
تصور واحد بسيط نسبيًّا وواضح تمامًا، بحيث يكون الهدف هو استبعاد كل لغة غير رمزية،
(٣) وإن الرموز تتضمن بعض المتغيرات التي لها نطاق من المعنى متحدد تمامًا، (٤) وإن
كل
نظام للمنطق الرمزي يعرض بطريقة استنباطية؛ أي إن جميع نظرياته تستمد من عدد قليل
نسبيًّا من المبادئ الأولى، التي يعبر عنها بالرموز، عن طريق عمليات مصوغة بدقة،
أو على
الأقل قابلة لأن تصاغ بدقة.
وهناك اختلاف كبير في الرأي حول القيمة الفلسفية والقيمة العامة للمنطق الرياضي،
ويتراوح هذا الاختلاف بين التقدير الذاتي المبالغ فيه إلى حدٍّ مُستهجَن — من جهة
—
وبين الرفض التام من جهة أخرى، والأمر المؤكد أن المنطق الرياضي ليس موضوعًا يمكن
أن
يدرسه أي شخص؛ فهو يقتضي موهبة خاصة، رياضية في أساسها، وتمكنًا تامًّا من مناهج
الرياضة وأسلوبها الفني ورموزها، وقدرًا كبيرًا من التدريب قبل كل شيء. وليس من السهل
الحصول على حكم موضوعي عليه، لا من بين صفوف المتحمِّسين له، ولا من بين الواقفين
بمعزل
عنه؛ إذ لا يستطيع الأخيرُون الغوص في أسراره، بينما يعاني مُعظم الأولين من شعور
مرَضي
بالسُّمو. وعلى أية حال فإن لدينا في الأعمال الرائدة الخلاقة (التي قام بها فريجه
وبيانو ورسل وهويتهد مثلًا) قممًا شامخة في التفكير الصوري المحض، لن يكاد يتسنَّى
لأحد
أن يتجاوَزها؛ فالعقل (
ratio) يحتفل في هذه الأعمال،
مثلما يحتفل في الرياضة، بأرفع انتصاراته، كما أن روح الدقَّة العلمية الصارمة تصل
هنا
إلى أرفع مستوياتها؛ غير أن هذه الروح قد انفصلت تمامًا عن كل جسد، وهدمت من خلفها
كل
جسر يربطها بالحياة وبالتجربة العينية. وهكذا نجد هنا أيضًا ما يُذكرنا بتعليق برادلي
على تلك «الثلَّة التي ليست من هذا العالم، وهي ثلة من مقولات لا حياة فيها»، أو
بصيحة
الاحتجاج العالية التي هتف بها «فند لبنت» عندما نظر إلى الحساب المنطقي، فوصفه بأنه
«أرض فسيحة للتمرين على أداء ألعاب تقتضي براعة عظيمة»،
٢ ولسنا نود أن نقبل هذا الحكم الأخير، وإن يكن ينطوي قطعًا على شيء من
الصحة؛ ذلك لأننا لا نستطيع أن ننكر أننا هنا إزاء عمل علمي جاد بحق، توصل إلى تحقيق
نتائج لا يستهان بها، بالإضافة طبعًا إلى أنه ينطوي على قدر كبير من القدرة على التلاعب
العقلي وأداء حركات رشيقة بالتصورات الفكرية، والتمتع بلعبة المنطق وبالتمرينات الشكلية
الخالصة؛ فقد تمكن المنطق الرياضي من أن يعالج بنجاح، ويقدم حلًا جزئيًّا لعدد من
المشكلات التي ظل المنطق قبل ذلك يبحثها دون جدوى، أو التي لم تدخل أبدًا في نطاق
بحثه،
ولم يثبت المنطق الرياضي عدم كفايته إلا عندما بحث في مشكلات فلسفية على التخصيص؛
ذلك
لأننا لا نستطيع أن نقبل القول إن في وسعه أن يغتصب لنفسه مكانة الفلسفة؛ فالمنطق
قد
اعتزل في جزيرة نائية قصية، وأعلن سيادته عليها. ولكن ليس ثمة طريق يعود من هذه الجزيرة
إلى المسالك المألوفة للحياة اليومية والفكر الشائع، فذلك المنطق «نظرية شاحبة» ولا
يمكن «لشجرة الحياة الذهبية» أن «تخضر» في أرضه. ومن الجدير بالملاحظة أيضًا أن بعضًا
من أكثر مفكري هذه المدرسة أصالةً، مثل رسل وهويتهد، قد تحولوا في الآونة الأخيرة
عن
المنطق الرياضي وعادوا إلى طرق التفلسف الأكثر شيوعًا. وقد يكون لنا أن نستدل من
هذا
على أن هذا المنطق يستنفد أغراضه بسرعة، ولا يمكنه أن يرضينا على نحو دائم أصيل.
وسنحاول الآن تقديم عرض موجز للتطور التاريخي للمنطق الرياضي، مع الإشارة بوجه خاص
إلى جزئه المرتبط بأعمال المفكرين الإنجليز.
ورغم أن المنطق الرياضي — كما قلنا — خليفة للمنطق والتحليل الصوري عند أرسطو؛ فقد
كان ليبنتز أول فيلسوف يعلن برنامجه صراحةً وعن وعي، ويحدد معالم موضوعه بوضوح؛ فقد
صرح
بالحاجة إلى لغة علمية كتابية شاملة characteristica
universalis، تستخدم العلامات الرمزية بدلًا من الكلمات، وإلى
حساب عقلي calculus ratiocinator يسير بمعاونة هذه
الرموز بطريقة شبه رياضية، كما أن فكرة الرياضة الشاملة mathesis universalis التي تستخدم أساسًا لعلم عام scientia generalis؛ أعني منهجًا
علميًّا شاملًا يتخذ من الرياضة أساسًا له. هذه الفكرة تعبر عن الارتباط الوثيق بين
التفكير الرياضي وبين الفلسفة العلمية، ولم ينفذ ليبنتز نفسه سوى جزء بسيط من برنامجه،
غير أن عبقريته قد استعرضت مجال المنطق الرمزي بأكمله وبكل إمكانياته، وتوصلت إلى
أساسياته، وإنا لنجد لدى ليبنتز بالفعل كل الجذور التي تعلقت بها الأبحاث التالية
وتفرعت عنها. ولقد بذلت في القرن الثامن عشر محاولات متعددة تسير في هذا الاتجاه
ذاته.
فهناك مثلًا محاولات لامبرت Lambert وهولاند Holland وبلوكيه Plocquet وكاستيون Castillon. ولكن
هذه المحاولات لم تحقق تقدمًا ملحوظًا بالنسبة إلى ليبنتز، ولم تعد طرق التفكير
المنطقية الرياضية إلى الظهور بوضوح إلا في القرن التاسع عشر، وأتت القوة الدافعة
لدراسة هذا المنطق في صورته المتجددة الأدق، من جانب إنجلترا هذه المرة؛ ففي النصف
الأول من هذه الفترة لم يكن الكُتَّاب الإنجليز روادًا فحسب، في بناء النظريات المنطقية
الرياضية، بل ظلوا أيضًا — طوال عدة عشرات من السنين — الوحيدين المشتغلين في هذا
الميدان.
ونستطيع أن نقول: إن أول محاولة بذلت في هذه الفترة لإقامة المنطق على أساس جديد،
هي
محاولة جورج بنتام George Bentham (١٨٠٠–١٨٨٤م) ابن
أخي جريمي بنتام، والذي اشتهر أيضًا بوصفه عالمًا في النبات؛ فقد نشر عام ١٨٣٧م كتابًا
بعنوان «عرض عام لمذهب جديد في
المنطق Outline of a New System of Logic». وكانت النقطة الأساسية في هذا الكتاب، مثلما كانت في جهود
أخرى مماثلة بُذِلَت لصبغ المنطق بصبغة عصرية، هي تصحيح النظرية التقليدية المعروفة
باسم «كم المحمول»، وازدادت شهرة هذا المبدأ بفضل أعمال «السير وليام هاملتن»، الذي
كان
على رأس المدرسة الاسكتلندية (انظر من قبل، [الباب الأول: المدارس الفكرية المتقدمة
– الفصل الأول: المدرسة الاسكتلندية] وما يليها)، والذي أعطى
كتابه «محاضرات في الميتافيزيقا
والمنطق Lectures on Metaphysics and Logic» قوة دافعة كبيرة للمنطق الجديد، وإن لم يكن من الممكن
إدراجه، ضمن ممثليه المعترف بهم؛ فقد حاول هاملتن، دون أن يعلم شيئًا عن عمل بنتام
السابق في هذا المجال، أن يبين أن محمول القضية أو الحكم يمكن تحديده كميًّا على
نفس
النحو الذي سبق تحديد الموضوع وحده عليه. وبهذه الطريقة يمكن التعبير عن القضايا
المنطقية في صورة معادلات، وقد أبدى هاملتن تفضيلًا للمعادلات على الأشكال الهندسية
والرموز الجبرية. وكانت الاستدلالات المستخلصة بالطريقة الجديدة، توحي بحسابات بوساطة
مقادير معينة محددة بدقة، وتعيد إلى الذهن بطبيعة الحال عمليات الرياضة، التي بدأت
تدخل
في اختصاص المنطق نتيجة لذلك، والواقع أن أهمية هاملتن بالنسبة إلى التطور التالي
للمنطق تقتصر على القوة الدافعة التي أعطاها في هذا الصدد، والتي كانت — إذا تحرينا
الدقة — تفتقر إلى الأصالة؛ إذ يمكن تتبعها حتى ليبنتز على الأقل. ولقد اكتشف هاملتن
سنة ١٨٣٣م مبدأ كم المحمول، الذي طالما أثير جدل طويل عقيم حول البحث عن صاحب الفضل
الأسبق فيه، ثم حدد هاملتن صورته النهائية، ودرسه علنًا لتلاميذه في سنة ١٨٤٠م على
أكثر
تقدير (انظر التذييل السادس في كتابه «محاضرات في المنطق» المجلد الثاني، ص٢٥١–٣٢٣).
وقد واصل توماس سبنسر بينز Thomas Spencer Baynes
(١٨٢٣–١٨٨٧م)، وهو تلميذ ومساعد لهاملتن، نفس الاتجاه الفكري وسار فيه أبعد من ذلك،
ونشر قبل ظهور محاضرات هاملتن في المنطق بوقت طويل كتابه «بحث في التحليل الجديد
للصور
المنطقية Essays on the New Analytic of Logical Forms» (١٨٥٠م)، وقبل ذلك أيضًا، كان وليام تومسون William Thomson (١٨١٩–١٨٩٠م. وقد أصبح فيما بعد
رئيس أساقفة يورك) قد عرض موقف هاملتن بطريقة منهجية في كتابه «عرض عام لقوانين الفكر Outline of the Laws of Thought»
(١٨٤٢م، الطبعة السادسة ١٨٦٠م).
غير أن هذه الكتابات المنطقية وغيرها مما ظهر في أواسط القرن التاسع عشر لم تكن إلا
مناوشات تمهيدية، والفضل الأكبر في السير بالمنطق الجديد إلى نقطة انطلاق حاسمة،
يرجع
إلى العاملين الرياضيين: «دي مورجان» و«بول»، ولا سيما إلى الأخير. ولقد كان
أوجستس دي مورجان Augustus De Morgan (١٨٠٦–١٨٧١م)
أستاذ للرياضة بجامعة لندن، هو مؤلف الكتابات الآتية المتعلقة بموضوعنا هذا (بالإضافة
إلى عدد من المؤلفات في الرياضة البحتة)، المنطق
الصوري، أو حساب الاستدلال الضروري والاحتمالي Formal Logic: or The Calculus of Inferance, Necessary and Probable، ١٨٤٧م، و«برنامج لمذهب مقترح في
المنطق Syllabus of a Proposed System of Logic» ١٨٦٠م، فضلًا عن سلسلة من الأبحاث الهامة في المنطق، ظهرت في
«في أعمال الجمعية الفلسفية بكمبردج» بين عام ١٨٤٦م و١٨٦٣م. ولقد اهتم دي مورجان
— مثل
هاملتن — بكم المحمول. ولكن مقدرته الرياضية كانت أعظم من مقدرة هاملتن، ويدين تطور
المنطق الرياضي له — في نواح متعددة — بأكثر مما يدين به لأي من السابقين عليه. ولكن
موقفه العام كان لا يزال ينتمي إلى مجال المنطق الأرسطي على العموم؛ إذ إن هذا المنطق
هو الذي أعطى أبحاثه نقطة بدايتها، وهو الذي اتجهت جهود دي مورجان إلى تعديله في
نواح
هامة، بحيث دخل المجال الجديد بشيء من التردد، ولم يتابع الكثير من إصلاحاته بما
فيه
الكفاية؛ غير أنه تقدم مرحلة مؤكدة في الطريق إلى صبغ المنطق بصبغة رمزية؛ وبالتالي
إلى
تقريب المنطق من الرياضة. ولقد حاول أن يتغلب على اعتراضات المناطقة السابقين على
إدخال
المناهج الرياضية، وأن يبرر تطبيق هذه المناهج على العمليات المنطقية، واكتشف صورًا
جديدة للقياس، وفئات جديدة للقضايا، وعرض تحليلًا عميقًا للرابطة (فعل الكينونة)،
التي
أوضح أن استخدامها فيما مضى كان ناقصًا من الوجهة المنطقية، والتي عبر عنها بعدد
متباين
من الرموز، تبعًا للعلاقة التي تقيمها أو الوظيفة التي تؤديها، والواقع أن أبعد نقطة
ذهب إليها دي مورجان في استباقه للتطورات التالية، كانت نظريته في العلاقات فقد ميز
مثلًا بين العلاقات المتعدية transitive، والعلاقات
القابلة للانعكاس (أو التماثلية) convertible والعلاقات
المتضايفة correlative، وهو تمييز لم تتضح خصوبته
الهائلة إلا بعد ذلك بوقت طويل، ولقد وضع دي مورجان — بإدراكه أهمية تصور العلاقة
— حجر
الأساس في منطق العلاقات الذي أُدْخِلَت عليه تطورات واسعة فيما بعد، على يد رسل
وآخرين.
والأهم من دي مورجان هو معاصره جورج بول (١٨١٥–١٨٦٤م)، أستاذ الرياضة «بكوينز كوليدج Queen’s College» في كورك. ولقد ظهرت أبحاث
الرجلين في وقت واحد تقريبًا، بل لقد تصادف أن نشر أول كتاب يهمنا لجورج بول، وهو
«التحليل الرياضي
للمنطق The Mathematical Analysis of Logic» في نفس اليوم الذي نشر فيه كتاب دي مورجان «المنطق الصوري»،
ويستطيع القارئ أن يجد عرضًا مقارنًا دقيقًا لكتابات بول في كتاب ليويس «عرض عام
للمنطق
الرمزي»، ص٣٨٩ وما يليها، وسنكتفي هنا بالكلام عن أهمها، وهو «بحث في قوانين الفكر An Investigation of the Laws of Thought»
(١٨٥٤م). وقد أعيد نشره أيضًا بوصفه المجلد الثاني في «مجموعة المؤلفات Collected Works» (نشره جوردين Jourdian في ١٩١٦م)، وإذا كنا قد اعترفنا بأن ليبنتز
كان أول من اكتشف المنطق الرياضي، فإن الاتفاق منعقد على أن بول هو الثاني، وأنه
يستحق
مزيدًا من الثناء؛ لأنه شيد هذا العلم بطريقة منهجية شاملة نسبيًّا، بفضل مقدرته
الذهنية الخاصة، دون أن يستعين في ذلك بأية معرفة لما قام به الآخرون من قبل، ولما
كان
رياضيًّا من البداية إلى النهاية، فإنه لم يهتم كثيرًا بالمنطق في معناه العام. وهكذا
فإن قيود المذهب التقليدي لم تحُلْ بينه وبين إنشاء المبحث الجديد، أو على الأقل
كانت
في حالته عقبة أقل أهمية بكثير مما كانت في حالة أي من السابقين عليه، ويمكن القول:
إن
بول كان أول من نجح حقيقةً في أن ينقل إلى مجال المنطق، على نطاق واسع، التدوين الجبري
وعمليات الحساب الرياضية، وكان أول من اصطنع حسابًا كاملًا دقيقًا، وأول من طبق لغة
رمزية تصلح فعلًا للاستخدام، ومعروضة بطريقة منهجية. ولقد أصبح هذا أنموذجًا لكل
المشتغلين الذين أتوا من بعده في هذا الميدان، والذين ارتبطت جهودهم جميعًا بعمله
ارتباطًا يتفاوت وثوقًا. ولقد اختار بول — من بين العلوم الرياضية — علم الجبر؛ لكي
يستخدم مناهجه وعلاماته في خدمة المنطق، وبذلك فإننا إذا غضضنا النظر عن العمل الذي
سبق
إليه ليبنتز في هذا الميدان أيضًا؛ فمن الواجب أن ننظر إلى بول على أنه مؤسس ما يسمى
بالجبر المنطقي؛ ذلك الفرع الخاص للمنطق الرياضي الذي بلغت أبحاثه القمة على يد
شرودر Schroeder. وهكذا امتزجت الرياضة والمنطق —
بفضل أعمال بول — امتزاجًا وثيقًا، وكل ما في الأمر أنه أخطأ تقدير العلاقة بينهما
بحيث
نظر إلى الرياضة على أنها هي العلم الأصلي، والمنطق على أنه هو الفرعي، مع أن الأبحاث
التالية أثبتت أن العكس هو الصحيح. ولقد رأى بول أن المبادئ العليا للفكر رياضية
الصورة، وعرضها في صورة معادلات برموز جيرية (كقانوني التناقض والوسط المرفوع مثلًا).
وهكذا فإن أهمية بول ترتكز على صبغه المنطق بصبغة رياضية (أو جبرية) دقيقة، واليوم
وبعد
أن حلت محل نظامه نظم أخرى أحدث وأدق وأحكم بناءً، لم يعد لعمله إلا أهمية تاريخية.
ولكن ليس من شك في أنه يمثل نقطة التحول الرئيسية في تاريخ المنطق الرياضي.
أما أعمال المفكر الذي سنبحثه بعد هذا، فكانت أهميتها من حيث هي أعمال رائدة في ميدان
المنطق الرياضي تقل عن أهمية أعمال بول؛ غير أنه أضفى عليها خصبًا وأحرز بها مزيدًا
من
التقدم في نفس الاتجاه؛ ذلك لأن وليم ستانلي
جيفونز William Stanley Jevons (١٨٣٥–١٨٨٢م)، وكان من ١٨٦٦م إلى ١٨٧٦م أستاذًا للفلسفة
والاقتصاد السياسي في كلية أوينز Owens بمانشستر، ومن
١٨٧٦م إلى ١٨٨٠م أستاذًا للاقتصاد السياسي في يونيفرستي كوليدج – الكلية الجامعية
بلندن) كان ذا ذهن رحب متعدد الآفاق. وقد ساهم بدور هام في جميع فروع الدراسة العلمية
التي كان مهتمًّا بها، إلى جانب عمله في المنطق. ولقد كان جيفونز من أهم المفكرين
الاقتصاديين الإنجليز في القرن التاسع عشر، وعرض نظرية كانت الفكرة المركزية فيها
هي
مبدأ المنفعة، وبذلك كانت متفقة في خطوطها العامة مع مذهب المنفعة عند بنتام؛ ومع
ذلك
فقد كانت هذه الأبحاث بدورها مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بعمله في المنطق والرياضة؛ إذ
إنه
طبق المناهج الرياضية والإحصائية على الاقتصاد على نحو أشمل وأنجح مما حدث من قبل
بكثير. ولقد كان هدفه هو تحويل النظرية الاقتصادية — بمساعدة الرياضة — إلى علم دقيق
(انظر بحثه، «نظرية رياضية عامة في الاقتصاد السياسي A General Mathematical Theory of Political Economy» ١٨٦٢م، ومؤلفه الكبير
«نظرية الاقتصاد
السياسي The Theory of Political Economy» ١٨٧١م)، وحتى في ميدان التحليل النظري الأكثر تجريدًا، كان
نطاق اهتمامه أوسع كثيرًا من نطاق اهتمام بول؛ فقد عالج — إلى جانب المنطق بمعناه
الضيق
— نظرية المعرفة ونظرية الإحصاء وفكرة الاحتمال، والأهم من ذلك كله: مشكلة مناهج
البحث
العلمي، التي كان بحثه لها (ولا سيما في كتاب «مبادئ العلم The Principles of Science» ١٨٧٤م) لا يقل دقة عن
بحث هيوول Whewell ومل من قبله، وبيرسن من بعده. أما
كتاباته المنطقية الباقية فهي: «المنطق الخالص أو
منطق الكيف بمعزل عن الكم Pure Logic, or The Logic of Quality Apart from Quantity»، ١٨٦٤م، و«استبدال المتماثلات The Substitution of Similars»، ١٨٦٩م
و«دروس أولية في المنطق Elementary Lessons in Logic»
١٨٧٠م و«دراسات في المنطق
الاستنباطي Studies in Deductive Logic» ١٨٨٠م، و«المنطق الخالص ومؤلفات فرعية
أخرى Pure Logic and Other Minor Works»، ١٨٩٠م (نشره بعد وفاته ر. آدامسون و ﻫ. أ. جيفونز).
وفيما يتعلق ببحث جيفونز في المنطق الجبري؛ فقد كان تلميذًا لبول، الذي أخذ عنه نقطة
بدايته؛ غير أنه تجاوز أستاذه في نقاط معينة، فعدل نظامه على أوجه تمثل تقدمًا مؤكدًا
في نواح متعددة. إن لم يكن في جميع النواحي. وهكذا كان جيفونز مقتنعًا بأن العلم
الأساسي ليس الجبر بل المنطق، ورغم أنه هو ذاته قد استخدم طريقة التدوين الجبري؛
فقد
حرص على أن يأخذ العلاقات المنطقية الخاصة بعين الاعتبار، وألا يتناول الرموز الرياضية
كما هي فحسب، بل أن يضفي عليها طابعًا له ارتباط خاص بالمنطق. ولقد أدرك أن تطبيق
العلامات الجبرية على العلاقات المنطقية ينبغي ألا يتحدد من وجهة نظر الرياضة وحدها،
وأن علم الفكر يخضع لقوانين وشروط غير قوانين العدد وشروطه (ومع ذلك فإن إدراكه لهذه
الحقيقة لم ينقل دائمًا إلى حيز التنفيذ العملي). وهكذا رأى أن المنطق لا يخضع للجبر،
وإنما العكس هو الصحيح، وعبر عن وجهة نظره هذه بأن اقترح معالجة الجبر على أنه منطق
كامل النمو فحسب. ومن جهة أخرى ذهب جيفونز في تطبيقه للعمليات الحسابية على المنطق
إلى
حد أنه اخترع «آلة منطقية»، يمكن بوساطتها استخلاص النتيجة الصحيحة من المقدمات المعطاة
بطريقة آلية خالصة (وقد وردت صورة لها في كتاب «مبادئ العلم»). وقد أحرز تقدمًا آخر
على
بول، يتمثل في التبسيط الذي أدخله على نظام العلاقات (الذي أطلق عليه اسم «الأبجدية
المنطقية») والحساب، وبفضل هذا التبسيط تخلص من التعقيد الذي تميز به نظام بول، وجعل
العملية كلها أسهل فهمًا وتطبيقًا. وقد انتفعت الدراسات الأخرى من هذا التبسيط، وأصبحت
تستخدم نظام جيفونز أكثر مما تستخدم نظام بول. وفضلًا عن ذلك فقد مضى جيفونز أبعد
من
السابقين عليه كثيرًا في نظرية كم المحمول، وفي تحويل كل حكم أو قضية منطقية إلى
معادلة
دقيقة. وقد عاب، مثلهم، على المنطق الأرسطي ضيق مداه، وأوضح ضآلة الدور الذي يلعبه
القياس ضمن الأشكال الممكنة الأخرى العديدة للاستدلال الاستنباطي. وهكذا وضع محل
نظرية
القياس نظرية أخرى في عملية الاستدلال كانت أكثر عمومية وأساسية منها بكثير، أسماها
بمبدأ استبدال المتماثلات
Substitution of Similars،
وأثار بها اهتمامًا كبيرًا، ونص هذا المبدأ، في أبسط صوره، كما يلي: «إن ما يصح على
شيء
يصح بالمثل على ما يماثله.»
٣ ومعنى ذلك أن الاستدلال — في أعم صوره — يتألف من استبدال حد بحد آخر في
هوية معه، وجميع القضايا المنطقية تقرير لهوية، أو ينبغي أن تُرَدَّ إلى مثل هذا
التعبير، وصورتها الأساسية هي التي تعبر عنها المعادلة أ = ب. وهذه الصورة كامنة
حتى في
القضايا التي لا تقرر إلا هوية جزئية أو محدودة على نحو ما. ولقد أدت هذه النظرية
إلى
مناقشة حادة لإمكان استخدام علامة التساوي الرياضية بمعنى الرابطة المنطقية. وفي
هذه
المناقشة اعترف جيفونز بأن هذه العلامة لا يمكن أن تؤخذ بوظيفتها الرياضية فحسب،
وإنما
ينبغي أن تفسر تبعًا للعلاقات الخاصة في المنطق، وإلى جانب هذا كله، كان جيفونز بالنسبة
إلى معاصريه زعيم المعارضة التي وقفت في وجه المنطق التقليدي والمنطق التجريبي عند
«مل»
معًا. وقد حارب هذين الاتجاهين بعنف، بينما واصل في ميدان المنطق الرياضي اتجاه التطور
المؤدي من بول إلى شوردر.
ونستطيع أن نذكر في هذا المقام أيضًا الأعمال المنطقية شبه المعاصرة، للمفكر
جون فن John Venn (١٨٣٤–١٩٢٣م)، التي ورد بعضها في
عدد من المقالات في مجلات دورية (يُرْجَع فيها إلى كتاب ليويس المذكور من قبل، ص٤٠٥)
ولكن معظمها جاء في الكتب الثلاثة الآتية، «منطق الصدفة The Logic of Chance» ١٨٦٦م، «المنطق
الرمزي Symbolic Logic» ١٨٨١م، و«مبادئ المنطق التجريبي أو
الاستقرائي The Principles of Empirical or Inductive Logic» ١٨٨٩م، وأهم هذه الكتب هو الثاني، وفيه اضطلع فن — مثل
جيفونز — بمهمة إصلاح عيوب نظام بول، وقطع شوطًا أبعد مما قطعه الاثنان في بحثه عن
وسائل جديدة للوصول إلى لغة رمزية يمكن استخدامها استخدامًا فعليًّا. وينبغي أن يلاحظ
في هذا الصدد أن المنطق الرياضي، كما شكا فن نفسه، كان لا يزال خاضعًا لسيطرة كثرة
مخيفة من العلامات (الرموز) ونظم العلامات المتباينة، وكان لا بد لحل هذه المشكلة
من
الانتظار حتى يظهر كتاب «المبادئ الرياضية»، وإن تكن فوضى الرموز لم تختف نهائيًّا
ليحل
محلها النظام حتى يومنا هذا، على أن فن قد أوضح مدى الفوضى التي كانت ضاربة أطنابها
في
أيامه، بأن أورد ما لا يقل عن خمس وعشرين صيغة رمزية للتعبير عن نوع واحد من الحكم
(انظر «المنطق الرمزي»، ص٤٠٧)، ومن النقاط الهامة في نظرية فن أنه يعارض إلغاء الحدود
بين المنطق والرياضة، ويعود إلى التمييز بوضوح بين مجال كل منهما، وهو لا يخضع أحدهما
للآخر، وإنما يعترف بأن لكل منهما خصائص تركيبية وقوانين خاصة به، وهو يهدف إلى حفظ
المنطق من خطر الاصطباغ بصبغة رياضية، ويمضي في الوقت نفسه في صبغه بالصبغة الرمزية
(عن
طريق رموز مستمدة من الرياضة إلى آخر الأمر)، وهو يؤكد مرارًا أن جميع أبحاثه ترتكز
على
أسس منطقية بحتة، وأن الحساب المنطقي الذي استخدمه، هو ذاته مستقل تمامًا عن مناهج
الحساب الرياضية، وهو ينظر إلى المنطق الرمزي والرياضي على أنهما فرعان للغة رمزية
واحدة، بينهما قلة من القوانين المشتركة؛ غير أن «الرمزيات» الرياضية قد تقدمت حتى
الآن
أبعد من الرمزيات المنطقية بكثير، وهو يقف موقف المعارضة من الرأي السائد عندئذ؛
إذ أكد
أن المنطق الرياضي لم يحل محل المنطق التقليدي أو يقض على تأثيره بحال، بل ظلت لهذا
المنطق الأخير قيمته التعليمية (التي كان فن يعلي من قدرها فعلًا)، كما أن له مزايا
أخرى تبرر وجوده مستقلًّا. وقد نظر إلى المنطق الجديد على أنه مجرد تقدم جديد أحرز
بعد
المنطق القديم في طريق التعميم المتزايد، كما ينبغي أن يلاحظ أخيرًا أن فن، رغم أنه
كان
ينظر إلى الرموز المؤلفة من حروف على أنها هي الأفضل في العمليات المنطقية، قد أدخل
إلى
جانبها نوعًا ثانيًا من التعبير الرمزي كان جديدًا على المنطق الرياضي، هو التعبير
بالرسم أو الأشكال، مستخدمًا أشكالًا هندسية كالدوائر والبيضاويات، وتمثل الأشكال
التي
رسمها فن، والتي أحرزت قدرًا من الشهرة، علاقات الفئات المنطقية كما بحثت في الجبر
الذي
وضعه بول، وذلك الذي وضعه شرودر فيما بعد، والمبدأ الذي تقوم عليه هذه الأشكال هو
التعبير عن الفئات بموضوعات ترتبط على نحو يتسنى معه إيضاح جميع العلاقات الممكنة
بين
الفئات في نفس الشكل.
والواقع أن منطق فن يقف بمعزل عن الخط العام للتطور في نواح كثيرة، ويسلك في بعض
الأحيان طريقًا خاصًّا به، على أن الرياضي والفيلسوف الأمريكي تشارلس ساندرز بيرس Charles Sanders Peirce،
وهو من أهم مفكري العالم الجديد، كان في دراساته المتعددة أقوى ممثل — بعد جيفونز
—
لحركة صبغ المنطق بصبغة جبرية، وهي الحركة التي بدأها بول، وجعل منها فرعًا خاصًّا
في
التاريخ العام للنظم الرمزية. كذلك قطع باحثون آخرون أشواطًا أخرى أدخلوا بها تنوعات
وتعديلات جديدة على هذا الفرع، نذكر منهم ألكسندر
ماكفرين A. Macfarlane وروبرت جراسمان R. Grassman،
وهيو ماكول Hugh Maccoll ومسز لاد-فرانكلين Mrs. C. Ladd-Franklin، وغيرهم، واتخذت هذه
الأبحاث أخيرًا صورتها الكلاسيكية الكاملة في أعمال إرنست شرودر Ernst Schroeder ولا سيما في بحثه الجامع ذي المجلدات الثلاثة،
«محاضرات في الجبر
المنطقي Vorlesungen Über die Algebra der Logik» (من ١٨٩٠م إلى ١٨٩٥م).
وقد سار التطور في خط ثان، يمكن تتبع أصله هو الآخر إلى ليبنتز في فكرة «الرياضة
الشاملة»، ويؤدي هذا الخط إلى الأعمال الهامة التي قام بها الألماني فريجه Frege والإيطالي بيانو Peano، وهي الأعمال التي تكون أساسًا للمنطق الرياضي في صورته
الحديثة، كما تؤدي إلى الصياغة الكلاسيكية لهذا المبحث بأسره على يد رسل وهويتهد.
وقد
سار هذا التطور في البداية في طرق رياضية تمامًا، وتأثر بقوة بكشف النظم اللاإقليدية
في
الهندسة، ووجد فيها تشجيعًا كبيرًا، وهو يرتبط ارتباطًا وثيقًا بكشوف جديدة هامة
في
مجال الرياضة في أيامنا هذه، مثل نظرية الرباعيات Quaternions عند الرياضي الأيرلندي السير و. ر. هاملتن W. R. Hamilton، والنظرية المسماة بنظرية الامتداد Theory of Extension عند جراسمان H. Grassman، ونظرية المجاميع Aggregates عند كانتور G. Cantor
ونظرية العدد عند ديدكند R. Dedekind. وقد حدث هذا
التطور نتيجة التفكير في أسس الرياضة وطبيعتها الأساسية، وأدى إلى الاعتراف بالطابع
المنطقي للتصورات والبديهيات الرياضية، وكان الأسبق زمنيًّا هو عمل فريجه؛ ذلك لأن
كتابه «كتابة التصورات، لغة صورية للتفكير الخالص تحاكي الحساب Begriffsschrift, Eine der Arithmetischen Nachgebildete Formelsprache des Reinen Denkens» هذا الكتاب
ظهر في وقت متقدم جدًا، هو سنة ١٨٧٩م، ثم ظهر بعد خمس سنوات كتاب «أسس علم الحساب،
بحث منطقي رياضي في تصور العدد Die Grundlagen der Arithmetik, Eine Logisch-Mathematische Untersuchung Über den Begriff
der Zahl» غير أن الكتابة
الرمزية التي عرضها في هذين المؤلفين بلغت من صعوبة الفهم وغموضه حدًّا جعلها تظل
باقية
دون أن يكاد يلاحظها أحد من الباحثين المعاصرين، ولم يتنبه إليها أحد سوى رسل بعد
سنوات
عديدة، إذ أعاد اكتشاف فريجه في ١٩٠١م، وأدرك المغزى العميق لعمله، الذي لم يبدأ
بالتالي في إفادة الباحثين إلا بعد أن كان رسل قد سلك طريقًا مشابهًا لطريق فريجه،
وإن
كان قد اهتدى إليه مستقلًّا عن كتابات هذا الأخير. ولقد كان فريجه أول من نجح في
الإتيان بنوع منطقي رياضي من الحساب، وفي استخلاص الحساب من مقدمات منطقية بحتة.
وقد
أوضح أن التصورات الأساسية للرياضة ينبغي ردها إلى قوانين الفكر الرئيسية، وأن الرياضة
بالتالي ينبغي أن تتخذ من المنطق أساسًا لها، وعن طريق هذا الكشف وغيره من الكشوف
الرئيسية أصبح المنطق الرمزي شاعرًا بذاته، وأصبح أكثر تنبهًا إلى الغاية التي اتجهت
جهوده السابقة إلى تحقيقها.
ولقد كان كتاب فريجه الثاني يمثل مرحلة جديدة في تطور المنطق الرياضي. ولكن لما كان
هذا الكتاب — كما لاحظنا من قبل — قد ظل غير معروف على الإطلاق تقريبًا، ولم يمارس
أي
تأثير، فإن الفضل — من الوجهة التاريخية — في فتح صفحة جديدة في هذا العلم ينبغي
أن
يعزى إلى مؤلف آخر ظهر بعد أحد عشر عامًا، هو الكتاب المعروف، «تدوين الصيغ الرياضية
Formulaire De Mathematiques» تأليف ج.
بيانو ومعاونيه الإيطاليين (وقد ظهر الكتاب في خمسة مجلدات، فيما بين عامي ١٨٩٥م
و١٩٠٨م)، ولن أحاول هنا أن أصف هذا الكتاب. ولكنه هو الذي أثر مباشرةً في رسل، بحيث
جعله يحول تفكيره إلى المشكلات المنطقية الرياضية. وهكذا أصبح مصدرًا لذلك النظام
في
المنطق الرياضي الذي كانت كل التيارات السابقة بمثابة روافد بالنسبة إليه، والذي
يظهر
فيه هذا الفرع في أكمل تركيب له، وفي صورة يمكننا أن نسميها بصورته الثابتة، وأعني
به
نظام رسل وهويتهد. وقد عرض هذا النظام في المجلدات الثلاثة من كتابهما «المبادئ الرياضية
Principia Mathematica» (١٩١٠–١٩١٣م)، وهو
عمل فكري فريد في عظمته، فتح عهدًا جديدًا في ميدانه، واكتملت فيه وأثمرت كل الجهود
التي بذلها السابقون عليهما، والذين يمكن تتبعهم حتى ليبنتز، والواقع أن هذا النظام
هو
أكمل وأشمل وأنضج وأحكم نظام أنتجته الحركة بأسرها. ومن الممكن أن تشبه مكانته في
الحركة بمكانة كتاب «نقد العقل الخالص» في الحركة المثالية، وذلك سواء من حيث علاقته
بالمفكرين السابقين عليهم والذين أكملهم، ومن حيث الدور الذي قدر له أن يؤديه في
المستقبل، ولو كان للفظ «الكلاسيكي» ما يبرره حين يستخدم في وصف كتب معينة. فلا بد
أن
يكون كتاب رسل وهويتهد ضمنها، ولما كنا قد عرضنا له من قبل بالقدر اللازم في هذا
الصدد،
وذلك عند مناقشة فلسفتي هذين المفكرين، فإن العودة إلى الكلام عنه في هذا السياق
أمر لا
ضرورة له، وسوف نكتفي هنا باقتباس الفقرة الهامة التي استهل بها المؤلفان كتابهما:
«إن
البحث الرياضي
٤ لمبادئ الرياضة، الذي هو موضوع هذا الكتاب، قد نشأ عن طريق الربط بين
دراستين مختلفتين، كلتاهما حديثة في أساسها إلى حد بعيد؛ إذ نجد من جهة أعمال المحللين
وعلماء الهندسة، والتي ترمي إلى صياغة بديهياتهم وتنظيمها منهجيًّا، وعمل كانتور
Cantor وغيره في مسائل مثل نظرية المجموعات
Aggregates، ونجد من جهة أخرى المنطق الرمزي، الذي
مر أولًا بفترة النمو الضرورية، ثم اكتسب الآن — بفضل بيانو وأتباعه — القدرة على
التكيف الفني والشمول المنطقي، اللذين لا غناء عنهما لأية أداة رياضية إذا شاءت معالجة
ما كان يعد من قبل بدايات للرياضة. ومن الجمع بين هاتين الدراستين تظهر نتيجتان،
هما:
(١) أن ما كان يعد بديهيات من الوجهة الشكلية، وبطريقة ضمنية أو صريحة، اتضح أنه
إما
غير ضروري وإما قابل للبرهنة عليه، (٢) أن نفس المناهج التي يمكن البرهنة بها على
البديهيات المزعومة سوف تعود بنتائج قيمة في المجالات التي كانت تعد من قبل مستعصية
على
المعرفة البشرية، كمجال العدد اللامتناهي. وهكذا يتسع نطاق الرياضة بإضافة موضوعات
جديدة إليها، وبالامتداد — رجوعًا — إلى مجالات كانت من قبل متروكة للفلسفة»، (مقدمة
لكتاب «المبادئ الرياضية»، المجلد الأول، ص٥ من المقدمة).
وليس من الممكن القول: إن نظمًا أخرى قد تجاوزت اليوم نظام رسل وهويتهد، وإن يكن
العمل على التوسع في المنطق الرياضي قد سار منذ نشر هذا الكتاب بهمة أكثر من أي وقت
مضى؛ ذلك لأن هذا العمل — حيثما أدى — يقف طوال مراحله تحت راية هذا النظام وينطبع
بطابعه الواضح. وهكذا سنكتفي بأن نوضح بإيجاز التطورات التالية للحركة في إنجلترا.
وينبغي التنويه خاصةً بمفكرين واصَلَ كلٌّ منهما — على طريقته الخاصة — عمل رسل
وهويتهد، مع إدخال بعض التعديلات عليه والإضافات إليه، هما فتجنشتين ورامزي. أما
لودفيج فتجنشتين
Ludwig Wittgenstein فهو مفكر
نمسوي المولد، أقام في إنجلترا منذ بضع سنوات، وشغل إحدى وظائف تدريس الفلسفة بجامعة
كمبردج. وقد نشر في ١٩٢٢م كتابه «بحث منطقي فلسفي
Tractatus Logico-Philosophicus»
٥ وهو كتاب أثار ضجة في الأوساط الفلسفية عند ظهوره، ووصفه رسل نفسه في مقدمة
صدره بها بأنه حدث هام في عالم الفلسفة، هذا الكتاب، بالنسبة إلى القارئ العادي،
لغز من
الألغاز، لا يتكشف معناه إلا لأخلص المطلعين على أسراره، ويتضمن — كما يبدو لنا —
مزيجًا غريبًا كل الغرابة من التفكير الرياضي والمنطقي ومن الصوفية الغامضة، ويبحث
الكتاب أولًا في التركيب المنطقي للقضايا، وطبيعة الاستدلال الرياضي، ثم ينتقل إلى
نظرية المعرفة، ومبادئ الفيزياء ومشكلات في الأخلاق، وينتهي به المطاف أخيرًا في
أرض
التصوف. وهكذا يطبق نتائج المنطق الرمزي على فروع ومشكلات مختلفة في الفلسفة التقليدية،
ويحاول أن يوضح كيف أن أصل هذه المشكلات وحلولها يرجع إلى الجهل بالمناهج الرمزية،
وإلى
سوء استخدام اللغة. وبهذا يطالب الكتاب بإلحاح بلغة كاملة من الوجهة المنطقية، ويرفض
زعم المناهج اللغوية المعتادة بأنها قادرة على معالجة مشكلات الفلسفة. ولقد اعترف
فتجنشتين ذاته بأنه «يدين لأعمال فريجه العظيمة، ولكتابات صديقه رسل، بالفضل الأكبر
في
حفز أفكاره على الظهور».
٦
وهو يعبر عن طبيعة الحقيقة الرياضية على نحو أكثر صرامة من أي تعبير سابق عنها،
فيعرفها بأنها «تحصيل حاصل tautological»؛ أي بأنها
صحيحة بناءً على صورتها وحدها، وبالمثل ينبغي أن ينظر إلى الحقيقة الرياضية على أنها
تحصيل حاصل، بحيث إن القضايا المنطقية والرياضية معًا لا تعدو أن تكون قضايا تحصيل
حاصل
محض. وهناك نقطة أخرى ينبغي الإشارة إلى أهميتها؛ ذلك لأن نظام رسل الاستنباطي، الذي
أخذ على عاتقه إثبات هوية الرياضة البحتة والمنطق الخالص عن طريق استخلاص بديهيات
الرياضة من عدد بسيط من القوانين المنطقية الأولية، قد توقف عند بديهيات معينة (مثل
البديهية المسماة ببديهية القابلية للرد reducibility،
وبديهية اللانهائية)، لم يتمكن من إثبات ذات طابع منطقي دقيق. ولقد كان من الخدمات
التي
أداها فتجنشتين أنه أشار إلى طريق للتغلب على هذه الصعوبات في نظام رسل، وبذلك ساهم
بدور ملحوظ في عملية رد الرياضة إلى المنطق دون باق، وبالإضافة إلى هذا كله، فإن
لفتجنشتين تأثيرًا بالغ الأهمية في مدرسة التفكير الفلسفي المتركزة في كمبردج، رغم
أنه
ليس من السهل تحديد مظاهر هذا التأثير في كتابات أفراد هذه المدرسة.
ويتمثل نفس هذا الاتجاه الفكري أيضًا عند فرانك بلمتن رامزي Frank Plumpton Ramsey (١٩٠٣–١٩٢٩م)، وهو رياضي شاب من كمبردج، يمثل
المنطق الرياضي في آخر مراحله، وكان من الممكن انتظار أعمال باهرة من عبقريته الفذة،
لو
لم يعالجه الموت المبكر. وقد جمعت له أبحاث جزئية، بعضها سبق نشره وبعضها لم يسبق،
ونشرها بريثويت R. B. Braithwaite بعنوان «أسس الرياضة
وأبحاث منطقية أخرى The Foundations of Mathematics and Other Logical Essays» (١٩٣١م). ولقد كان رامزي متأثرًا بفتجنشتين إلى
حد بعيد، وكان عمله في رأي رسل، الذي كتب تقديرًا مفصلًا له (في مجلة
Mind، المجلد ٤٠، ١٩٣١م، ص٤٧٦–٤٨٢) يمثل أهم مساهمة
في المنطق الرياضي منذ ظهور كتاب «بحث منطقي فلسفي» لفتجنشتين. وقد أخذ رامزي على
عاتقه
— بوجه خاص — أن يعيد بناء النظام الوارد في كتاب «المبادئ الرياضية»، على نحو يبدأ
بإلغاء مبدأ «القابلية للرد»، وبذلك يشيد نظامًا استنباطيًّا تام للدقة، ويشمل كل
فرع
للرياضة، ويتسنى له أن يكشف عن هويتها الكاملة مع المنطق بوصفه علم الصورة
الخالصة.
ويكون ممثلو المنطق الرياضي اليوم جماعة واضحة المعالم، ويحتلون مركزًا يزداد اتساعًا
على الدوام في الحياة الفلسفية بإنجلترا، وحسب المرء أن يقلب صفحات مجلات فلسفية
متخصصة
معينة خلال السنوات القلائل الأخيرة ليقتنع بنشاطهم الجم؛ ذلك لأن هذه المجلات تظل
طوال
صفحات كاملة محتشدة بصيغ رمزية، وكثيرًا ما تكون أقرب إلى الكتب المدرسية الرياضية
منها
إلى الكتب الفلسفية، وسوف نكتفي بذكر عدد من الأسماء الأخرى، التي برز أصحابها خلال
السنوات القلائل الأخيرة، والذين ينتمي معظمهم إلى الجيل الجديد؛ فمنهم بريثويت
R. B. Braithwaite (في «كنجز كوليدج» — كلية الملك —
بكمبردج) وهيث
A. C. Heath («يونيفرستي كوليدج» —
الكلية الجامعية — في ويلز سوانسي)، وميس
C. A. Mace
(كلية بدفورد، بلندن) وج. رايل
G. Ryle (في
«كريست تشيرتش
Christ Church») وجون وزدم
John Wisdom (بجامعة كمبردج) ودنكان جونس
A. E. Duncan-Jones (بجامعة برمنجهام، والمشرف على
تحرير مجلة
Analysis، وماكس بلاك
Max Blak (بجامعة لندن)، وكذلك برود
C. D. Broad الذي تحدثنا عنه في موضع سابق. وهناك أخيرًا شخصيتان لا يكفينا
أن نقتصر عن ذكر اسميهما، الأولى هي سوزان
ستبنج
L. Susan Stebbing (وُلدت في ١٨٨٦م،
٧ وهي أستاذة الفلسفة في كلية بدفورد بجامعة لندن) ففي كتابها الهام والواسع
التأثير، «مقدمة حديثة
للمنطق
A Modern Intr. to Logic» (١٩٣٠م، الطبعة الثانية مزيدة ومعدلة، ١٩٣٣م) وفي أبحاث أخرى،
عملت على تقديم صورة شاملة للمبحث الجديد، قصد منها تلبية حاجات الطلاب، أكثر مما
عملت
على المساهمة بطريقة بنَّاءة في تطوره، وهي ترتبط في علاقة وثيقة بحلقة كمبردج
الفلسفية، وتتغلغل أبحاثها في مجال المنطق الرياضي عند رسل وهويتهد، وإن تكن أيضًا
مدينة في المنهج لمفكرين مثل «مور» و«برود»، ومدينة بوجه خاص، في مضمون أعمالها،
للعرض
الذي قدمه جونسون
W. E. Johnson للمنطق. ولكنها تختلف
عن معظم أنصار المنطق الرياضي في أن معارضتها للاتجاهات المنطقية السابقة أخف حدة
بكثير. وعلى حين أنها تحمل بشدة على كل منطق ميتافيزيقي وبرجماتي، فإنها تحاول أن
تعطي
المنطق الأرسطي التقليدي حقه كاملًا، وتقف مثل هذا الموقف — في نواح معينة — من المنطق
التجريبي عند مل، وهي تؤكد أن هناك ارتباطًا وثيقًا في المضمون، واتصالًا تاريخيًّا
بين
نظرية أرسطو وبين نظرية المنطق الرمزي، ولا تنزع أبدًا إلى قطع جميع الجسور التي
تصل
الماضي بالحاضر، وإنه لمما يدعو إلى الدهشة حقًّا أن نرى في عملها مدى تعمق ذهن امرأة
في أسرار الحساب المنطقي، ومدى تمكنها من مناهج هذا العلم الشاق وصيغه، وتقف الآنسة
ستبنج اليوم في الصف الأول من ممثلي المنطق الرياضي وتلاميذه الأحدث عهدًا، ولها
اليوم
تأثير قوي في المجرى الذي يسير فيه هذا البحث.
أما المرحلة الأخيرة في تطور المنطق الرياضي فيمثلها كتاب «اللغة والحقيقة والمنطق Language, Truth and Logic»، من تأليف
ألفرد آير Alferd J. Ayer؛ ففي هذا الكتاب تتلاقى
وتتشابك أفكار رئيسية مستمدة من نظم واتجاهات متباينة، وتؤدي إلى تفرع جديد للمنطق
الرياضي ليس له نظير من قبل، وتتأثر نظرية آير — كغيرها — بنظام رسل وهويتهد كما
عرضه
فتجنشتين. ولكن آير — إلى جانب ذلك — يستعين في نقاط هامة بالمذهب التجريبي القديم
عند
باركلي وهيوم، كما يرتبط في علاقة وثيقة بنظريات «حلقة فيينا Circle Vienna» كما تتمثل بوجه خاص لدى شليك M. Schlick وكارناب R. Carnap، فلأول مرة
يندمج المذهب المسمى «بالوضعية المنطقية»، الذي نادى به هؤلاء المفكرون، في المنطق
الرياضي الإنجليزي صراحةً وبوضوح، على نحو ينطوي على دلالة حافلة بالإمكانيات بالنسبة
إلى المستقبل، ويتضح ذلك أولًا في الادعاء الذي يعلن فيه بزهو أنه قد تم التوصل إلى
حلول نهائية لمشكلات الفلسفة بقدر ما هي مشكلات حقيقية، فآير يعتقد باطمئنان كامل
لا
يعكر صفوه شيء، أن المنهج التحليلي سيميز على نحو قاطع بين الغث والسمين؛ إذ يكشف
النقاب عن «أشباه المشكلات pseudo-problems» ويظهر
المشكلات الأصيلة، عن طريق تعريفات دقيقة رياضيًّا وملزمة للعقل. ولكن آير يدرج ضمن
فئة
«الغث» كل ما ظهر في تاريخ الفلسفة حتى يومنا هذا تقريبًا، بل يدرج فيها جميع المناقشات
التي لا تنتهي والمجادلات العقيمة حول المشكلات الميتافيزيقية واللاهوتية والأخلاقية.
فلا بد — بالنسبة إلى المستقبل — من أن تبتر هذه الموضوعات من البحث الفلسفي، وبذا
يوضع
حد لذلك الجدل المستمر بين المدارس والاتجاهات، الذي انشغل تاريخ الفلسفة بأكمله
حتى
الآن به وحده تقريبًا، فإما أن تكون المسائل موضوع الخلاف منطقية، وعندئذٍ تقبل إجابة
واضحة لا ليس فيها ولا غموض، وإما أن تكون لا منطقية، وعندئذٍ تستبعد بوصفها
ميتافيزيقية؛ ذلك لأن جميع التأكيدات الميتافيزيقية من قبيل اللغو nonsensical؛ وبالتالي لا تهم الفيلسوف الذي يطلب
الحقيقة والوضوح، والفلسفة الحقة (كما ينادي فتجنشتين أيضًا)، ليست تعاليم بقدر ما
هي
فاعلية ونشاط … وهي تتعلق بالطريقة التي تتحدث بها عن الأشياء، ووظيفتها هي «استخلاص
نتائج استعمالاتنا اللغوية». وهذه الوظيفة تؤدي عن طريق وسيط هو التحليل المنطقي.
وهذا
بدوره يتم بصياغة التعريفات. وهكذا نصل إلى الرأي القائل إن جميع القضايا الفلسفية
قضايا لغوية، وإن للاصطلاح هنا أهمية حاسمة؛ فالمبادئ المنطقية اصطلاحات لغوية.
ولو استبعدت جميع القضايا الميتافيزيقية بوصفها لغوًا أو بلا معنى، لبقيت القضايا
ذات
المعنى وحدها، بوصفها الموضوع الوحيد الجدير بالبحث الفلسفي؛ غير أن جميع القضايا
ذات
المعنى تندرج تحت فئتين؛ فهي إما تحصيل حاصل بحت وإما فروض تجريبية. أما الأولى فلا
تمدنا بمعرفة للوقائع، بل هي «غير
وقائعية non-factuel»؛ أي إنها أولية وتحليلية فحسب، وكلها تحصيل حاصل، وأما الثانية
فتتعلق بالوقائع (فهي وقائعية factual) وتركيبية؛ غير
أن القضية التركيبية لا يكون لها معنى إلا إذا كانت قابلة للتحقيق تجريبيًّا. وهذا
معناه أن يقينها لا يزيد أبدًا عن أن يكون يقينًا مشروطًا، على حين أن القضايا
التحليلية ضرورية ويقينية. وهكذا تكون القضية تحليلية إذا كانت تتوقف فقط على تعريفات
الرموز التي تحويها، ولا يهم أن تكون صحيحة أو غير صحيحة، وتكون تركيبية إذا كانت
صحتها
أو عدم صحتها متوقفة على وقائع التجربة. ومن الواضح أن المرء يستطيع أن يلمح، في
كل
الآراء التي سبقت هنا، آثارًا لتمييز هيوم الأساسي بين «علاقات الأفكار relations of ideas» و«الأمور الواقعة matters of fact» — وهذا أمر اعترف به آير
صراحةً — بحيث تعد هذه الآراء تجديدًا فلسفيًّا لهذا التمييز؛ غير أن المذهب التجريبي
قد بعث في تعاليم آير على أنحاء أخرى أيضًا؛ أعني في الموقف الظاهري phenomenalist المتطرف الذي يقفه من المشكلات التجريبية؛ إذ يسعى
مثلًا إلى حل مشكلة الإدراك الحسي والذات وما يشبهها من وجهة نظر ظاهرية phenomenalist بحتة. وهكذا فإن المنطق الرياضي
الإنجليزي، في آخر مرحلة له، يدمج في ذاته الوضعية المنطقية لحلقة فيينا، وعناصر
هامة
من المذهب التجريبي الكلاسيكي الإنجليزي، ويصل إلى مركب جديد، للمستقبل وحده أن يقرر
مدى أهميته.