الفصل السادس
فلسفة العلم الطبيعي
لم تكن العلاقات بين الفلسفة والعلم أوثق في أي بلد مما كانت في إنجلترا؛ فمنذ ازدهار
العلوم الدقيقة في القرن السابع عشر، حدثت عملية لا تكاد تنقطع، من الإخصاب المتبادل
بين هذين المجالين. وليس من الصعب أن يثبت المرء، في بحث تاريخي، مدى الاتصال في
هذه
العملية، وعندئذٍ يتضح أن الفلسفة قد أخذت أكثر بكثير مما أعطت، على حين أن العلم
كان
معطيًا أكثر منه آخذًا. ولقد أتيحت لنا أكثر من مرة — في بحثنا للفترات السابقة —
فرصة
ملاحظة علاقة التأثير المتبادل هذه فيما يختص بالقرن التاسع عشر، كما أن الفصل الخاص
بالاتجاه التطوري الطبيعي يمثل كله دليلًا متصلًا على نوع فريد من هذا التبادل الحي
بين
الباحث العلمي والمفكر النظري؛ ففي ذلك الوقت (بل وقبل ذلك أيضًا. ولكن في حالات
منفصلة)، تجلت ظاهرتان تمثلان الحياة العقلية في إنجلترا أصدق تمثيل، هما — من جهة
—
قيام الباحث في الطبيعة بتكوين فلسفة. ومن جهة أخرى ممارسة الفيلسوف للبحث العلمي،
أو
على الأقل اهتمامه الشديد به، ولهاتين الظاهرتين اليوم ممثلون كثيرون، بل أكثر من
أي
وقت مضى، بل إن هذه الشخصيات في الواقع هي التي تمثل الوضع الراهن تمثيلًا صادقًا.
ولقد
انصبَّ بحثنا أساسًا، في الفصل الرابع من هذا الباب من الكتاب، على ممثلي هذا النمط
الأخير (أعني الفيلسوف ذا الاتجاه العلمي). أما في هذا الفصل، فسوف نجمع بين عدد
من
العلماء الذين يمثلون النمط الأول، بينما سنغفل الإشارة إلى عدد كبير منهم، ولن ينصبَّ
اهتمامنا هنا على الباحثين المتخصصين، الذين عالجوا من آن لآخر مشكلات نظرية نتيجة
لاتصالهم بالحركة الفلسفية، وإنما سيتعلق بأولئك الذين تركوا ميدانهم الخاص، وبدءوا
في
تنمية تفكير فلسفي مستقل، بل وفي إيجاد نظرة شاملة
إلى العالم Weltanschauung خاصة بهم.
وهناك أولًا فئتان من العلوم الخاصة أثبتتا فائدة زائدة في الفكر الفلسفي الإنجليزي،
وأعني بهما العلوم البيولوجية والفيزياء الرياضية. ومن الطبيعي أن الفئة التي تجتذب
الفلسفة بقوة أعظم هي تلك التي تكون هي ذاتها مركزًا للاهتمام العام، بفضل جدة مناهج
البحث العلمي أو أهدافه فيها. وهكذا كان العلم الذي امتد تأثيره القوي إلى الحركات
الفلسفية المعاصرة، في عهد نيوتن هو الفيزياء الرياضية، وفي عهد دارون بيولوجيا علم
الحيوان، وفي مستهل القرن العشرين حدث تحول جديد في الاهتمام، نتيجة لبعث طاقات فلسفية
جديدة بفضل التغيرات التي طرأت في ميادين الرياضة والفيزياء والكيمياء. وهكذا فإن
الفلسفة المعاصرة، بقدر ما تكون لها أية وجهة علمية، تتأثر على نحو ملحوظ بالتحول
الجديد الذي أحدثته الأبحاث والكشوف في هذه العلوم، وما زال للعلوم البيولوجية تأثيرها،
إلى جانب هذه العلوم الأخرى. ولكن بدرجة أقل، فالتطور السائر في اتجاه المذهب الحيوي Vitalistie هو الذي أصبح مثمرًا في الميدان
الفلسفي في السنوات الأخيرة، بدلًا من الشكل الآلي السابق لهذا العلم.
وينبغي أن نشير أخيرًا إلى نقطة أخرى؛ فالعلوم التي ذُكِرَت من قبل تنتمي كلها إلى
فئة العلوم «الطبيعية»، والواقع أن كلمة «العلم الدقيق»، بل كلمة العلم وحدها، تعني
في
نظر الإنجليز: العلوم الطبيعية دون غيرها. وهذا يوضح لنا السبب الذي ظلت من أجله
العلوم
الروحية، أو المباحث العلمية التي يقوم بها المحقق أو المؤرخ، أقل تأثيرًا في الفلسفة
من العلوم الطبيعية؛ فالفلاسفة الإنجليز لم ينظروا إلى هذه العلوم أبدًا، أو على
الأقل
لم ينظروا إليها إلا نادرًا، على أنها تكون فئة متميزة من أوجه النشاط المعرفي، تستحق
اسم العلم. ومن هنا فإن هذه العلوم لم تدخل بالفعل في نطاق البحث الفلسفي النقدي،
كما
حدث في ألمانيا، وحتى في الحالات التي أصبحت فيها هذه العلوم موضوعًا للبحث الفلسفي،
كما في حالة مل؛ فقد كان ينظر إليها في كل الأحوال تقريبًا من وجهة نظر العلم الطبيعي،
ولو تأمل المرء مثلًا مدى اهتمام المفكرين الألمان بمشكلة التاريخ، سواء من حيث منهج
الدراسة وموضوعها، لأدهشه أن يرى مدى قلة اهتمام الإنجليز بهذه الموضوعات؛ فالتاريخ
ابن
غير معترف به في الفلسفة الإنجليزية، التي لم تتضمن تفكيرًا فلسفيًّا صريحًا في
التاريخ، لا من حيث مناهج البحث فيه بوصفه علمًا، ولا من حيث تفسيرات تاريخ العالم
على
النطاق الواسع، كما أنها لم تتضمن ميتافيزيقا تأملية للتاريخ، إذا استثنينا بعض
المساهمات العارضة التي كانت بالطبع موجودة؛ ولهذا السبب لم تصبح مشكلة «النزعة التاريخية Historicism» واضحة بحق في إنجلترا، وإنما
ظلت وجهة نظر العلوم الطبيعية هي الغالبة دائمًا، وما زالت كذلك إلى اليوم.
(١) السير أوليفر لودج Sir Oliver Lodge (وُلد في
سنة ١٨٥١م)١
عالم فيزيائي مشهور، له كتابات تتضمن آراءه التأملية والفلسفية، منها،
«الحياة والمادة Life and Matter» ١٩٠٦م،
«الإنسان والكون Man and Universe» ١٩٠٨م،
«بناء الإنسان The Survival of Man» ١٩٠٩م،
«العقل والاعتقاد Reason and Belief» ١٩١٠م،
«ما وراء
الفيزياء، أو صبغ المذهب الآلي بصبغة مثالية Beyond Pysics or the Idealisation of Mechanism» ١٩٣٠م، «فلسفتي My Philosophy» ١٩٣٣م.
يحتل السير أوليفر لودج مكانة بارزة في الصف الطويل من العلماء الذين تحولوا إلى
التأمل الفلسفي، والذين تتميز بهم إنجلترا اليوم، كما أنه في الوقت نفسه أنموذج
لهم
جميعًا؛ ذلك لأن شهرته الشخصية الواسعة، والشعبية الهائلة التي اكتسبتها كتبه
العديدة، قد أضفت على هذه الشخصية النموذجية أهمية تتجاوز بكثير نطاق الأوساط
المتخصصة، وأثارت اهتمامًا كبيرًا لدى الجمهور به، وهو لا يزال يعد واحدًا من أوسع
كتاب الفلسفة غير المتخصصين شهرة ومن أحبهم إلى القراء. وقد ساهم أكثر من أي شخص
غيره في نشر النظريات العلمية والأفكار الفلسفية وتبسيطها، كما أنه أبدى أفضل وأعمق
تقدير للحاجة إلى التقريب والتوفيق بين المعرفة والإيمان، الذي هو حي دائمًا في
إنجلترا، سواء بين أوساط المثقفين، وبين الجمهور العام. وفضلًا عن ذلك فإن لموقفه
أهمية خاصة، ترجع إلى أنه وقف بكل نفوذه وشهرته من حيث هو عالم محترف، يؤيد البحث
الدقيق للظواهر الغيبية أو الروحانية (Occult)، بل
ويضطلع هو ذاته بدور هام في هذا البحث. ولقد كان لهذا التحالف مع معسكر العلم
الطبيعي الدقيق أعظم الأهمية في حركة الأبحاث الروحانية التي بدأت في العقد التاسع
من القرن الماضي، وساهم هذا التحالف في إيجاد نظرة علمية إلى هذا الميدان بأكثر
مما
ساهم به انتماء ممثلين بارزين للفلسفة وعلم النفس والأدب إليه.
ولهذا المفكر شخصيتان تقف كل منهما إلى جانب الأخرى: إحداهما متجهة إلى البحث
الدقيق للطبيعة الفيزيائية، والأخرى تنزع إلى تجاوز نطاق الفيزياء من أجل الإتيان
بتفسيرات أشمل لأسس الوجود وما يكمن فيه من حقائق، ونستطيع أن نتخذ من عنواني
البحثين الآتيين: «الوجه الفيزيائي للكون» و«ما وراء الفيزياء» شاهدًا على الطابع
المزدوج للرجل ذاته ولأعماله، (وقد ظهر المقالان في مجلة «الفلسفة Philosophy»، المجلد السابع، ١٩٣٢م. وفي المجلد
الرابع ١٩٢٩م)، ففيه تقترن الروح الأصيلة للبحث العلمي، بالجرأة التأملية في وحدة
تفتقر إلى التوازن الداخلي، فضلًا عن وجود اتجاه قوي إلى التحمس في التصديق، ناجم
عن ذهن ديني مؤمن بعمق. ولقد كان اهتمامه الأساسي منصبًّا على التغلب على التعارض
بين العلم والدين؛ غير أنه لا يكتفي بهدنة بينهما فحسب، بل يسعى إلى إقامة تحالف
وثيق وتضامن إيجابي بينهما، وهو يرفض نظرية «المجالين المغلقين بإحكام»؛ أي النظرية
القائلة: إن مجال كل من الدين والعلم مغلق بإحكام في وجه الآخر، وإن كلًّا منهما
يكتفي بالتسامح مع الآخر، بل هو يؤثر أن يبني الإيمان على المعرفة، ويثبت جذور
المعرفة في الإيمان؛ غير أن الاندماج بين الاثنين لا يمكن أن يتحقق من جانب العلم
ولا من جانب الدين، وإنما هو يقتضي عاملًا وسيطًا يوفق بين الاثنين، وتقع مهمة
الوساطة على عاتق الشعر من جهة. وعلى عاتق الفلسفة من جهة أخرى.
غير أن هناك شرطًا أساسيًّا للتوفيق بين العلم والدين (وهذا الأخير — في نظر لودج
— هو المسيحية، التي هي في رأيه أعلى مظهر تاريخي للدين): ذلك هو إزالة تعارضات
حادة أخرى تسود الكون، ولا سيما ثنائية المادة والحياة، والمادة والروح، أو كما
يحب
أن يسميهما عالم الفيزيائيات وعالم النفسانيات، فعالم الطبيعة وعالم الروح، شأنهما
شأن العلم والدين، ليسا منفصلين، الواحد عن الآخر، في مجال مغلق بإحكام، بل إن
كلًّا منهما يشتبك في الآخر ويتغلغل فيه؛ لذا كان من الواجب توسيع مجال الفيزياء
على النحو الذي يكفل إيجاد مكان فيها لظواهر الحياة والذهن والروح؛ فالعلم الطبيعي
لا يقتصر على الطبيعة في صورتها الآلية أو القابلة للقياس (كما يقول إدنجتن Eddington) ولا على الطبيعة في صورتها الرياضية
(كما هي الحال عند جينز Jeans)، وإنما هو يشمل
أيضًا المجال البيولوجي والغائي والنفساني والروحاني، بل يشمل كل طريق يؤدي إلى
بحث
الحقيقة، أيًّا كان نوعه. فهناك طريق يؤدي من الظواهر الغيبية والروحانية إلى
العلم، ثم يتجاوزه إلى الفلسفة. وقد فتح لودج ذاته الباب على مصراعيه أمام طريقة
«البحث الروحاني». وفي هذا الاتجاه تسير تأملاته حول الوجود السابق والبقاء،
وإيمانه بالاستشفاف والرؤيا، بل وبوجود الملائكة. وقد اعترف هو ذاته بأن لهذه
المواضيع صبغة التأملات الميتافيزيقية. ولكنه ألبسها أيضًا رداء العلم. كذلك يحفل
ذهن لودج بالأفكار الدينية، التي جعل لمعظمها تفسيرات ميتافيزيقية تأملية (كما هي
الحال في مناقشاته لمعنى التجسد). وكانت النظرة الفلسفية إلى العالم، الناجمة عن
هذا كله، نوعًا من المثالية الواحدية، التي تجد تتويجها وقمتها في مذهب الألوهية.
ولكن هذا كله لا يمكن أن يسمى فلسفة أصيلة؛ وبالتالي لم يقابل من الفلاسفة
المحترفين باحترام كبير، فلودج أقرب إلى أنموذج «فيلسوف العامة» الذي يتخذ من
«القارئ العام» جمهورًا له. ولقد كان التشجيع والإلهام والنصح — بالنسبة إلى دوره
كمرب شعبي — أهم من التفكير الدقيق، وكثيرًا ما نرى هذا العالم الفيزيائي الدقيق
النزيه يتقمص شخصية واعظ الكنيسة يوم الأحد، فيتمكن من الاضطلاع بمهمته على هذا
النحو بطريقة أفضل مما يضطلع بها عندما يستخدم جهاز المفاهيم الفلسفية، مع أن
استخدامه لهذا الجهاز لم يكن متعمقًا على الإطلاق. ولكنه حتى في الحالات التي اقتحم
فيها ميدان الفلسفة، قد اكتسب فضلًا ينبغي ألا ينكر، وذلك لما قام به من إيقاظ شعور
قطاعات كبيرة من الشعب بأهمية المسائل الفلسفية والميتافيزيقية الكبرى، ولسعيه إلى
التوفيق بين الدين وبين ادعاءات العلم، والعكس بالعكس.
(٢) السير آرثر ستانلي
ادنجتن Sir Arthur Stanley Eddington (وُلد في ١٨٨٢م)٢
أستاذ الفلك في كيمبردج.
مؤلفاته: «الزمان والمكان
والجاذبية Space, Time and Gravitation» ١٩٢٠م، «مجال العلم الفيزيائي The Domain of Physical Science»
١٩٢٥م (مقال في كتاب، العلم
والدين والحقيقة Science, Religion and Reality) نشره ج.
نيدهام J. Needham، «طبيعة العالم الفيزيائي The Nature of the Physical World» (محاضرات جيفورد)، ١٩٢٨م، «العلم والعالم غير المنظور Science and the Unseen World»
١٩٢٩م، «الفيزياء والفلسفة Physics and Phil.»،
١٩٣٣م (في مجلة «الفلسفة Philosophy» المجلد
الثامن)، «مسالك جديدة في
العلم New Pathways in Science» ١٩٣٥م.
يعد السير آرثر إدنجتن، الفلكي المشهور في كمبردج، من باحثي الطبيعة البارزين
الذين اهتموا بالمشكلات الفلسفية. ولقد كانت هناك أهمية فلسفية خاصة لمناقشاته
الإبستمولوجية والمنهجية في طبيعة المفاهيم العلمية وحدودها، ولوصفه الذي اتسم
بالحيوية الشديدة والوضوح التام لطبيعة العالم الفيزيائي، وهو يريدنا أن ندرك بوضوح
أن عالم التجربة المعتادة أو الحياة اليومية يختلف كل الاختلاف عن العالم الذي تسير
فيه أبحاث العالم الفيزيائي؛ فهذا الأخير يقدم إلينا أشياء نزعت عنها الصبغة
الجوهرية والمادية تمامًا، وأدخل على محتواها الكيفي الحسي تغير أساسي، فأصبحت
مقادير تقاس كميًّا فحسب، ومشتقات من هذه؛ فالعالم الفيزيائي الذي ينطوي على
إلكترونات وذرات وكميات
quanta وحوادث وحركات
واتصالات مكانية-زمانية … إلخ، هو مجرد عالم ظلال، أو هيكل عظمي للواقع، نُزِعَ
عنه
كل ما في الحياة من كثرة متنوعة، وخضع لسيطرة الصيغ الباهتة والرموز الرياضية. وهنا
يصل التحرر من قيود العالم إلى أعلى قممه، فلو ترجمنا أحد موضوعات بيئتنا إلى لغة
الفيزياء، لما بقي منه إلا «مجموعة من قراءات العدادات»،
٣ وحيث يقاس كل شيء ويُحْصَى ويُحْسَب ويوزن، لا يعود هناك مكان للفردي
والعيني. وليس في وسع الفيزياء — في ميدانها الخاص — أن تستوعب إلا وجهًا واحدًا
خاصًّا تمامًا، من أوجه العالم الخارجي، وهي تستبعد جميع الأوجه الباقية، لا لأنها
أقل أهمية، وإنما لأنها تفتقر إلى تلك الصفة الخالصة، صفة القابلية للقياس وللوزن،
أو لأنها لا يمكن أن تعالج من خلال فكرة الكم، ولو تأملنا الأمور من وجهة النظر
هذه، لبدا لنا انقسام الواقع إلى مجال مادي ومجال روحي أمرًا سطحيًّا تمامًا
بالقياس إلى ذلك الانقسام الأعمق كثيرًا إلى عالم قابل للقياس وعالم غير قابل
للقياس.
ولكن يتضح لنا الآن أن هذا الوجه، المقتطع من كل أكبر، والذي يتحدد تبعًا لمعيار
القابلية للقياس، هو مجال مقفل على نفسه تمامًا، أو نسق مكتف بذاته، منفصل تمامًا
عن كل الأوجه الأخرى للعالم، بل إنه لا يدين بأهميته ومداه البالغين، إلا لهذا
الانفصال المقتصر على جانب واحد. وقد أوضح إدنجتن هذا الطابع المقفل على ذاته،
لمناهج الفيزياء، في صورة دائرة أو حلقة، من حيث إن الصيغ المحددة الفردية ترتبط
سويًّا في سلسلة تؤلف حلقة، وتعود دائمًا إلى نقطة بدايتها. وهكذا يتضح أن
التركيبات التي تتألف منها مفاهيم العلم الطبيعي هي سلسلة لا نهاية لها من
التعريفات التي يتضمن كل منها الآخر. وليست (كما افترضت حتى ذلك الحين معظم المناهج
الفلسفية للبحث العلمي) بناءً هرميًّا مشيدًا طابقًا فوق طابق، يمضي في سلسلة متصلة
من التحديدات، كل منها أعم وأشمل من السابق عليه، حتى نصل إلى صيغة شاملة نهائية
عليا تندرج تحتها جميع الظواهر أيًّا كانت.
فعالم الرموز الذي تتعامل معه الفيزياء لا يمثل إلا شطرًا من الواقع الكامل،
والفيزياء تنحصر في حدود ضيقة، وقوتها ذاتها تتوقف على ذلك التحدد الذي تفرضه على
ذاتها. ولكن «الحياة تغدو مملة ضيقة لو لم نشعر بالاهتمام، في العالم المحيط بنا،
إلا بما يمكن وزنه وقياسه بأدوات الفيزيائي، أو وصفه بالرموز القياسية للعالم الرياضي»،
٤ وهكذا يسعى إدنجتن إلى تجاوز الحدود الضيقة للعالم كما يعطى في
الفيزياء، ويحاول أن يرد اعتبار هذا الكل الأشمل الذي ينطوي في داخله على ذلك الشطر
الجزئي من الواقع؛ غير أن هذه القفزة من الفيزياء إلى الميتافيزيقا لا يمكن أن
تُعْزَى إليها نفس الدلالة التي تعزى إلى تبصره العميق في تركيب العالم الفيزيائي
ومناهج بحثه، فآراؤه في المجال الأوسع تمثل أصدق تمثيل مشتغل بالفلسفة من الهواة،
يقتحم ميدان الفلسفة نتيجة لحاجته الباطنة، أو لأن ذوق العصر يقتضي منه ذلك، دون
أن
يفرض على نفسه في هذا الميدان ما يفرضه على نفسه في ميدان تخصصه العلمي من معايير
رفيعة قوامها المران الدقيق والتفكير العلمي الصارم.
وفي رأي إدنجتن أن عالم الوعي هو الذي يكون الأساس الخلفي لعالم القياس والعدد في
الفيزياء، وتكفي فكرة بسيطة للانتقال بنا خارج عالم الفيزياء وفتح أعيننا على عالم
جديد مختلف أساسًا، وأعني بهذه الفكرة أن الباحث الفيزيائي ذاته لا يمكن أن ينظر
إليه، حيث هو كائن يفكر ويقيس ويجرب ويعرف ويلتمس الحقيقة، على أنه مجرد كم (كما
يتعين على الفيزياء أن تعامل موضوعاتها)، وأن الفيزياء لا يمكنها أن تفسر الطريقة
التي تكتسب بها مجموعة معينة من الذرات تكون المخ البشري، موهبة الوعي والقدرة على
التفكير. وهكذا يعطينا الوعي مفتاح تركيب الواقع الميتافيزيقي، والطبيعة الأساسية
للوجود من حيث هو كل، وهذا المفتاح من نوع روحي، كما يتعين أن تكون كل عملية واعية،
وإن لم يكن من الضروري أن يصل في كل الأحوال إلى ذلك المستوى الرفيع نسبيًّا، مستوى
الوعي الصريح. وهنا يدخل إدنجتن تلك الفكرة المشكوك فيها «المادة الذهنية
mind stuff»، المأخوذة عن كليفورد. ولكنه
يطبقها على نحو مخالف إلى حد ما، ويعني بها «مجموع العلاقات وأطراف العلاقات التي
تكون مادة بناء العالم الفيزيائي».
٥
والمادة الذهنية، التي ينبغي أن نتصورها على أنها نوع من الوعي. ولكن مع إضافة
الوعي المسبق fore-conscious، وما دون الوعي subconscious و(ما يسمى) باللاشعور unconscious، تكون الجوهر الأساسي لكل ما يوجد.
ولكن لما كانت المادة قد نزعت عنها ماديتها من قبل إلى حد بعيد. فليس في وسعنا أن
نتحدث حقيقةً عن أي نوع من «المادة» في حالة الذهن. وعلى ذلك «فالمادة الذهنية»
أيًّا كانت، هي ما لا يقاس ولا يوزن ولا يعد، ولو صورنا الأساس الأصلي للكون — آخر
الأمر — على أنه روح إلهية شاملة لكل شيء، أو عقل شامل
logos، لكان لا بد أن ينتمي هذا بدوره إلى مجال
الأمور غير القابلة للقياس. وهكذا يحتل عالم الروح مكانة أساسية، تختلف عن جميع
مجالات الوجود الأخرى، خارج أو وراء جهاز العالم الفيزيائي، ولا يعني مجرد ظاهرة
تتبدى من آن لآخر، وتحدث داخل العالم غير العضوي في مرحلة متأخرة من العملية
التطورية.
وطبيعي أن من الواجب النظر إلى العالم الفيزيائي على أنه يرتبط بنوع من العلاقات
والاتصال بأساسه الخلفي، وهو العالم الروحي، مهما بدا الأول نسقًا مقفلًا تمامًا
في
وجه الأخير؛ غير أن إدنجتن يمضي أبعد من ذلك، ويرى أن النتائج الأخيرة للفيزياء
تؤيد الرأي القائل بوجود نوع من التشابه في التركيب بين الاثنين، أو على الأقل توحي
بهذا الرأي، فقد كان يسود من قبل الاعتقاد بأن عالم الطبيعة تسوده الضرورة، وعالم
الروح تسوده الحرية، ويقضي مبدأ العلية بأن يتحدد كل حادث طبيعي وفقًا لقوانين
صارمة بحيث نستطيع أن نتنبأ بالحادث المقبل من الحادث الماضي بدقة، على أن أحدث
الأبحاث في ميدان «نظرية الكم» قد زعزعت مبدأ العلية بشدة، فظهر أن القوانين الكبرى
التي كانت تُعَدُّ حتى الآن صحيحة بوصفها قوانين علية، إنما هي قواعد إحصائية فحسب،
بل إن علينا أن نعترف بقدر معين من اللاتحدد في الحوادث التي تقع داخل الذرة. وهكذا
لم يعد للتحدد الدقيق مجال في الفيزياء النظرية على الإطلاق، وتغلغل اللاتحدد حتى
في العلم الفيزيائي. ولكن هذا يستتبع تصدعًا كبيرًا في الفرض القائل بأن الذهن أو
الروح تخضع لقوانين الطبيعة، كما يستتبع من جهة أخرى أن الذهن قادر على إلغاء هذه
القوانين في العالم المادي. وهكذا فإن الإطاحة بمبدأ العلية قد قرب كلًّا من
العالمين إلى الآخر.
وأخيرًا، فإن الميتافيزيقا الروحية التي تؤيدها هنا النتائج التي يتوصل إليها
الذهن العلمي، تحبذ مشروع الجمع بين العلم والدين في اتفاق ودي، صحيح أن إدنجتن
يرفض أن يبني الدين على أية نتائج محددة للبحث العلمي. ولكنه يرى أن التحولات التي
أدخلتها الفيزياء الحديثة على النظرة العلمية إلى العالم قد أزاحت عقبات معينة كانت
تحول من قبل دون التوفيق بينهما. وفي هذا تعاطف انفعالي مع الدين أكثر مما فيه من
تبصر واضح بالارتباطات العميقة الكامنة التي تجمع بينه وبين العلم.
ولقد كانت سفرة إدنجتن في ميدان الفلسفة تستحق الاهتمام في ناحيتين، بغض النظر
تمامًا عن قيمتها النظرية؛ فهي تقدم أدلة مقنعة على أن القادة العاملين في ميادين
البحث المتخصص هم الذين يزعزعون اليوم الإيمان بالسيطرة المطلقة للتفكير العلمي،
وهي تظهر أن النظرة إلى العالم، المبنية على أساس من هذا النوع، لا يتعين بالضرورة
أن تكون شكلًا من أشكال المذهب الطبيعي، بل يمكن أن تؤدي أيضًا إلى
المثالية.
وفضلًا عن هذا كله، فإن لإدنجتن الفضل في أنه عرف كيف يجذب اهتمام جمهور واسع
بالمسائل العلمية والفلسفية، ويبقى هذا الاهتمام مجددًا وحيًّا على الدوام. ولقد
كان لمواهبه الرائعة في الكتابة، ولأسلوبه الواضح الحي المحبب إلى النفوس، والذي
يجعل أصعب المشكلات تبدو مفهومة؛ كان لهذا كله نصيب كبير في تحقيق هذه النتيجة،
وأذاع صيت كتاباته في بلده وخارجها. أما فلسفته فليست لها أهمية خاصة، وما هي إلا
اجتهادات بديعة لعالم أظهر مقدرة ضئيلة على التفكير الفلسفي بأدق معانيه، رغم ما
أبداه من اهتمام بالفلسفة، وحسبنا أن نشير إلى هويتهد لكي نبرر الفرق بين الحالتين
بوضوح.
(٣) السير جيمس هابوود
جينز Sir James Hapwood Jeans (وُلد في ١٨٧٧م)٦
العَالِم الرياضي والفيزيائي والفلكي المشهور، والأستاذ بجامعة كمبردج.
مؤلفاته: «الكون المحيط
بنا The Universe Around Us» ١٩٢٩م، الكون
الغامض The Mysterious Universe، ١٩٣٠م، «الأساس الجديد للعلم The New Background of Science»
١٩٣٣م.
السير جيمس جينز عالم آخر مشهور تحول في السنوات الأخيرة إلى حلبة الفلسفة،
وانخرط في سلك الفيزيائيين المتفلسفين، وينطبق التعليق السابق الذي أبديناه في صدد
إدنجتن عليه أيضًا، مع عمل حساب الفروق في كل حالة، وهو يحاول — في سفرته في ميدان
التأمل العقلي — أن يقدم تفسيرًا «رياضيًّا» للكون، وهو يطلع علينا — مثل كونت —
بنوع من قانون الأطوار الثلاثة، تمر فيه جهود الذهن البشري من أجل تفسير الطبيعة
وتعمق أسرارها في مراحل ثلاث: مرحلة شمول الحياة
(Animism) أو التشبيه بالإنسان
(anthropomorphism)، والمرحلة الآلية، وأخيرًا،
المرحلة الرياضية؛ فقد كان التفسير على أساس فكرة شمول الحياة سائدًا حتى بداية
العصور الحديثة عندما حل محله العصر الآلي، الذي وضع أسسه جاليليو ونيوتن، والذي
احتفظ بسيادته حتى مطلع القرن العشرين. وقد نزلت على النظرة الآلية إلى العالم
الضربة القاضية على يد نظرية النسبية عند أينشتين، والفيزياء الرياضية الحديثة التي
ظهرت نتيجة لها، وأصبح من الواضح أن التفسير الرياضي أكثر ملاءمة للوجود الحقيقي
للطبيعة من التفسيرين السابقين بكثير، حتى لو أخذنا في اعتبارنا أن التفسير الرياضي
بدوره لم يدخل في اتصال مباشر فعلي مع الواقع الأساسي، وأنه كالآخرين طريقة من طرق
تفسير الكون صاغها فكر الإنسان، فكتاب الطبيعة Nature مكتوب بلغة الرياضة، وكل الدلائل تؤكد الاعتقاد بأن
الكون قد خلقه رياضي محض، ولم يخلقه مهندس ميكانيكي — إن جاز هذا التعبير — على
مثال إحدى الآلات؛ ومن ثَم فمن الواجب النظر إليه على أن قوامه هو الفكر المحض.
أما
مسألة ما إذا كان للحقيقة الموضوعية وجود جوهري (مادي) أو مثالي، فتلك مسألة ثانوية
بالقياس إلى الحقيقة الأساسية، ألا وهي أن طابعه رياضي في أساسه؛ غير أن جينز يعني
«بالرياضي» عالم الفكر الخالص بأكمله، لا أي مبحث خاص فيه.
على أن النظرة إلى العالم من خلال فكرة «شمول الرياضة» كما يمثلها جينز، تفتقر
إلى الوضوح النهائي؛ إذ إنها لم توضع بإحكام؛ ذلك لأن التفسير الرياضي للكون يبدو
أحيانًا على أنه مجرد مبدأ للاقتصاد في الفكر، يتيح لنا أن نبلغ في تفسير الواقع
نجاحًا أكبر مما نبلغه عندما نفكر فيه من خلال مقولات بيولوجية أو آلية؛ فالنظرة
الرياضية إلى الأمور هي — بالنسبة إلى معرفتنا الراهنة — أبسط وأكمل ما نعرفه؛
وبالتالي فهي أقرب إلى الحقيقة من جميع التفسيرات التي جُرِّبَت من قبل، حتى ولو
لم
يكن لها أن تدَّعي أنها نهائية. وكانت عاجزة عن الوصول إلى ماهية الأشياء بما هي
كذلك؛ فهي لا تعدو أن تكون أفضل حروف أبجدية اصطنعت حتى الآن لكشف أسرار الكون.
ولكن جينز في أحيان أخرى يجسم الطابع الرياضي للعالم تجسيمًا أنتولوجيا، ويحل
التأمل الميتافيزيقي محل المبدأ المنهجي. فنحن نكتشف في الكون آثار موجود مثلنا،
له
قدرة على القيام بأعلى أنواع التفكير، وهو تفكير بلغ من النقاء والدقة حدًّا يجعلنا
لا نتصوره إلا على نمط الرياضة، إذ ليس لدينا ما هو أفضل منها. وعلى ذلك فمن الواجب
أن نتصور منشئ الكون في صورة مفكر خالص أو عبقري رياضي، وذلك بناءً على العلامات
الكثيرة التي طبعها على خلقه، كما ينبغي النظر إلى العالم ذاته على أنه فكرة خلاقة
هائلة تصورها هو، تلك هي النتيجة التي تشير إليها الفيزياء الحديثة؛ فالذهن لم يعد
يبدو اليوم كما بدا في نظر أصحاب المذهب الآلي إلى العالم؛ أعني دخيلًا عرضيًّا
متأخرًا في عالم المادة، بل هو خالق كل وجود مادي وضابطه. وقد بدأنا أخيرًا نسلم
بأن المادة لا توجد لذاتها وبذاتها، وبأنها خلق وتكشف لذلك المبدأ الروحي أو العقلي
الذي يتعين علينا أن نصوره لأنفسنا على مثال التفكير الرياضي أو الخالص. ومن هنا
كانت الصيغة الرياضية تعبر عن المعنى النهائي للوجود على نحو أعمق مما يعبر عنه
أي
نوع آخر من التفسير. وهكذا تسفر تأملات جينز بدورها — مثل تأملات إدنجتن — عن نوع
من النظرة الفلسفية المثالية، إذا استخدم لفظ المثالية للدلالة على سيادة مبدأ عقلي
أو روحي في الكون، وفُسِّرَ هذا بدوره على أنه العقل الشامل (اللوجوس) الذي يتجسد
في تفكير الرياضي.
(٤) السير جون آرثر
طومسون Sir John Arthur Thomson (١٨٦١–١٩٣٣م)
العَالِم المشهور في علم الحيوان والبيولوجيا، وأستاذ التاريخ الطبيعي بجامعة
أبردين.
والكتب التي تهمنا بالنسبة إلى غرضنا الحالي، من بين مؤلفاته العديدة، هي،
«نظام الطبيعة
الحية The System of Animate Nature» (محاضرات جيفورد) في مجلدين، ١٩٢٠م، «ما الإنسان؟ What Is Man?» ١٩٢٤م، «العلم والدين Science and Religion» ١٩٢٥م، «فلسفة عالم بيولوجي Abiologist’s Phil.» ١٩٢٥م، (مقال في
كتاب «الفلسفة الإنجليزية المعاصرة»، نشره مويرهيد، المجموعة الثانية) «الغرضية
في التطور Purpose in Evolution» ١٩٣٢م.
السير ج. أ. طومسون عضو آخر في فئة الباحثين العلميين الذين خاضوا ميدان الفلسفة،
كانت نقطة بدايته هي البيولوجيا. ولقد كان هو ذاته مقتنعًا بأن العلم لا يستطيع
بمفرده أن يضع صورة للعالم، ولا يملك إلا أن ينتزع قطاعات منفصلة من الواقع في
كليته، ويدرسها على حدة؛ غير أن هناك من وراء هذا، حاجة وضرورة مشروعة لإدراك الكون
في كليته، بكل ما يحويه من أوجه ومظاهر. وهكذا رأى طومسون أن المهمة الحقيقية
للتفكير الفلسفي إنما تنحصر في الوصول إلى مثل هذا الرأي الجامع عن الواقع من حيث
هو كل.
إن العلم والفلسفة مبحثان متميزان كل التميز؛ فالأول يوجه أسئلة مثل: ماذا؟ وكيف؟
ومن أين؟ وإلى أين؟ ولكنه لا يستطيع أن يتساءل عن العلل النهائية للظواهر؛ فالسؤال:
لماذا؟ من اختصاص الفلسفة وحدها، كما أن العلم وصف للوقائع الطبيعية. أما الفلسفة
فهي تفسير لها من وجهة نظر غائية؛ ومع ذلك فالوصف من خلال المذهب الطبيعي والتفسير
الغائي لا يستبعد كل منهما الآخر، وإنما يكمل الواحد منهما الآخر بوصفهما طريقتين
متميزتين للتعامل مع الطبيعة.
فإذا ما استعرضنا الطبيعة من حيث هي كل استعراضًا جامعًا، وجدنا ثلاثة مجلدات
للواقع يتعين التمييز بينها بوضوح: الأول عالم الطبيعية غير العضوية أو
«المجال الكوني cosmosphere»، والثاني عالم
الكائنات العضوية أو «المجال الحي biosphere»،
والثالث عالم الإنسان والمجتمعات البشرية أو «المجال الاجتماعي sociosphere»، ولما كان المجال الحي يحتل موقعًا وسطًا بين
الآخرين؛ فمن الواجب أن نجعل للبيولوجيا مكان الصدارة في البحث الفلسفي في مشكلات
العالم. وقد أكد طومسون الاستقلال الذاتي للعلوم المناظرة لهذه المجالات الثلاثة،
ولا سيما البيولوجيا، وهذا لا يعني أن المجالات الثلاثة منفصلة كل عن الآخر، وإنما
هي متداخلة ومتشابكة الواحد في الآخر، والمجال الحي يحيط به المجال الكوني، مثلما
أن المجال الاجتماعي يحيط به المجال الحي. وهكذا فإن من الممكن الانتقال، من المجال
الحي، إلى المجال الكوني الأدنى منه، وإلى المجال الاجتماعي الأعلى منه.
فإذا تأملنا النزاع القديم بين المذهب الآلي والمذهب الحيوي من وجهة النظر هذه،
ما عاد لهذا النزاع معنى؛ فالمسألة لم تعد مسألة اختيار لصالح أحد المجالين أو ضد
الآخر، وإنما هي مسألة بلوغ وجهة نظر تتجاوز الاثنين معًا بأن تشتمل عليهما في
ذاتها؛ فمن واجب عالم البيولوجيا، حسب تعبير طومسون، أن يقود سفينته بين
«سيللا
Scylla» الميتافيزيقية و«خاريبديس
Charybdis»
٧ المادية؛ أي إن عليه من جهة أن يحرص على تجنب التصورات التي لا يمكن
تحقيقها علميًّا كالقوة الحيوية أو «الإنتلخيا أو الكمال» أو «الدفعة الحيوية»،
وأن
يحذر من جهة أخرى أن يحصر الكائن العضوي في المجال الضيق للمقولات الآلية المحضة
فحسب. وهكذا يمثل طومسون مذهبًا بيولوجيًّا أسماه «بالمذهب الحيوي المنهجي
Methodological Vitalism»، فمثل هذه
النظرية ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار تغلغل الحياة العضوية في الشروط الفيزيائية
الكيميائية للمجال المادي (أي الفيزياء والكيمياء البيولوجيتين)؛ غير أن مهمتهما
الأولى هي عرض المقولات البيولوجية الخاصة بالتفصيل، مثل قدرة الكائنات العضوية
على
اختزان التجارب والسلوك بطريقة عرضية؛ غير أن من واجب العالم البيولوجي — من جهة
أخرى — أن يدرج في أبحاثه العامل الذهني أو النفسي، الذي يبدو على كل مستوى للحياة
العضوية، مهما اختلفت مظاهرها. ولقد كانت النظرية القديمة لأرسطو تقول: إن من
المحال وجود شيء عند نهاية عملية التطور لم يكن موجودًا — بمعنى ما — في بدايتها
ولو بالقوة على الأقل؛ لذلك كان طومسون — مثل جيمس وورد — ميالًا إلى القول بنوع
من
مذهب شمول النفس
Panpsychism، فرغم أن عامل الذهن
لا يمكن أن يلاحظ إلا في مرحلة متأخرة نسبيًّا من التطور؛ فمن الواجب أن نفترض أنه
كان موجودًا منذ البداية. وهكذا لا توجد ظواهر مادية أو فيزيائية خالصة، ولا أجسام
مادية فحسب؛ ذلك لأن جميع الكائنات العضوية هي حسب المستوى الذي تحتله في العملية
التطورية إما أجسام ذهنية وإما أذهان جسمية، تبعًا لسيطرة العنصر الجسمي أو الروحي
فيها.
وهكذا فإن المذهب الحيوي المنهجي عند طومسون يتخلى عن افتراض عامل حيوي خاص مثل
«الإنتلخيا» عند دريش. ولكنه يؤكد — على عكس أصحاب المذهب الآلي — غائية تركيب كل
حياة عضوية؛ فمن الممكن الجمع بين فكرة الغاية أو الهدف وبين وقائع العلم، وإنا
لنلاحظ السلوك الغرضي والسعي وراء الغايات طوال مجرى التطور العضوي. وهذا يوحي
بالفرض القائل: إن الغرضية ليست كامنة في التطور فحسب، بل يوجد كائن غرضي أعلى،
يسمو على العالم، وإليه يرجع أصل كل سلوك غرضي، وإن لم يكن من الممكن البرهنة على
هذا الفرض؛ فالكون بأسره تعبير عن خالقه الذي هو مبدأ إلهي أو عقل أسمى، تدرك
مقاصده الحكيمة في كل ما يحدث، سواء في العالم غير العضوي أو العضوي أو في عالم
الناس. وهكذا فإن فلسفة طومسون — كما عرضها صراحةً في كتابه «نظام الطبيعة الحية»
—
تبلغ أَوْجَهَا في مذهب للألوهية، وتقف إلى جانب مختلف المحاولات الأخرى التي بذلك
في هذا السبيل مفكرون ينتمون إلى صفوف علماء الطبيعة.
(٥) جون سكوت هولدين John Scott Haldane
(١٨٦٠–١٩٣٦م)
شقيق اللورد هولدين، المفكر الهيجلي، وهو عالم فسيولوجي وبيولوجي مشهور، ومدير
معمل أبحاث التعدين بجامعة برمنجهام.
مؤلفاته الفلسفية: «علاقة
الفلسفة بالعلم The Relation of Phil. to Science» بالتضامن مع ر. ب. هولدين، ١٨٨٣م (في كتاب
«مقالات في النقد الفلسفي»، نشره أ. سث ور. ب. هولدين)، «الآلية والحياة الشخصية Mechanism, Life and Personality»
١٩١٣م، «العلوم والفلسفة The Sciences and Phil.»
١٩٢٩م، (محاضرات جيفورد)، «الأساس الفلسفي للبيولوجيا The Philosophical Basis of Biology» ١٩٣١م، «أسباب التطور The Causes of Evolution» ١٩٣٢م،
«فلسفة عالم
بيولوجي The Phil. of A Biologist» ١٩٣٥م.
اتخذ ج. س. هولدين موقفًا مشابهًا لموقف ج. أ. طومسون. ولكنه إذا كان قد بدأ مثله
من البحث المتخصص في البيولوجيا والفسيولوجيا (ولا سيما في فسيولوجيا التنفس) فإنه
انتقل إلى مركب فلسفي أشمل. ولقد عرض هولدين وجهة نظره بطريقة أولية في مقال كتبه
في شبابه بالاشتراك مع شقيقه ريتشارد بيردن هولدين، وظهر في ذلك البيان المشترك
الأول لتلاميذ كانْت وهيجل من الإنجليز، «مقالات في النقد الفلسفي»، سنة ١٨٨٣م،
في
هذا المقال حاول هولدين أن يثبت أن الظواهر العضوية لا تدرك في طبيعتها السليمة،
إذا ما بُنِيَت التجارب البيولوجية على شروط آلية فحسب، وطوال الفترة التي انقضت
منذ كتابته لذلك المقال أصبح واحدًا من أقوى وأشهر المناضلين ضد البيولوجيا
الآلية.
ويفترض المذهب الحيوي عند هولدين (ويسمى عادةً «بالمذهب الحيوي الجديد» تمييزًا
له من الصور السابقة لهذا المذهب) أن للبيولوجيا العلمية استقلالًا ذاتيًّا،
ويُبْنَى هذا الافتراض على الحقيقة القائلة: إن عاملًا جديدًا كل الجدة يظهر بظهور
الحياة العضوية، ويخضع لنوع من القانون يختلف من حيث المبدأ عن القوانين الآلية
للظواهر المادية. وينبغي ألا يُفْهَمَ بمناهج فيزيائية وكيميائية فحسب، ولا بد أن
تخفق كل محاولة لرد المخلوقات الحية إلى «آلات فيزيائية كيميائية»، نظرًا إلى أن
الكائن العضوي لا يقبل أن تفكك أجزاؤه ثم تجمع ثانيةً وكأنه كائن آلي، وإنما هو
كل
مستقل يكون ذاته ويحتفظ بها من حيث تركيبها الباطن ونشاطها الخارجي وعلاقاتها مع
بيئتها. فلا يمكن أن توصف حياة أي كائن عضوي إلا على أنها سلوك تركيبي يكون كلا
قائمًا بذاته، ولا يمكن تحليلها إلى مجموع العناصر المستقلة لسلوك أجزائه منظورًا
إليها كل على حدة. ومن النقاط الهامة هنا أن العمليات البيئية ينبغي أن تربط
بالعملية البيولوجية منظورًا إليها من حيث هل كل. وهكذا ينبغي أن ينظر إلى الحياة
العضوية على أنها وحدة فعالة تشمل بيئتها ولا تتبدى فقط في العلاقات المتبادلة بين
أجزاء الكائن العضوي، بل تقوم أيضًا بين الكائن العضوي كله والطبيعة المحيطة به؛
فالسلوك البيولوجي واضح الغرضية، وهو ينطوي على جهد لبلوغ غايات، ومن هنا فلا بد
أن
يكون للمنهج الغائي نصيب كبير في البحث البيولوجي.
ولقد اقترب هولدين كثيرًا من دريش Driesch، في
تفسيره للكيان الحي بأنه كل يحفظ ذاته، مثلما اقترب منه طومسون أيضًا؛ غير أنه يرفض
المذهب الحيوي الجوهري أو نظرية «الإنتلخيا» عند هذا الأخير، وهي النظرية القائلة
بوجوب تفسير العمليات البيولوجية عن طريق فاعلية عامل خاص لا يخضع للقوانين
الفيزيائية والكيميائية؛ ومع ذلك فإن معارضته للرأي القائل إن الحياة عملية آلية
تظل هي الأقوى، فالنظام الآلي لا يمكنه أن ينمو بذاته أو يتكاثر بحيث يكون نظامًا
آخر من نفس النوع، والواقع أن فكرة التركيب الآلي الذي يحفظ ذاته ويجددها دوامًا
تمثل تناقضًا ذاتيًّا، وفضلًا عن ذلك فالعمليات العضوية تبلغ كلها من التعقيد
والتنوع حدًّا يجعل تفسيرها على نحو آلي محض يبدو غير كاف على الإطلاق. وهكذا يظل
نطاق النظرية الآلية ومداها مقتصرًا على ما يمكننا تركيبه على مثال الآلة. ولكنها
في تطبيقها على الظواهر الفيزيائية والكيميائية هي أيضًا نوع من الاختزال المفيد،
أو من الفرض العملي المفرط في تجريده، الذي يولد صيغًا هي تمثيل ناقص إلى حد بعيد
حتى لسلوك الذرات والجزيئات، فعلما الفيزياء والكيمياء ليسا إلا تجريدًا من الواقع
الموضوعي، أو على أحسن الفروض مراحل في الطريق الموصل إلى نظرية كاملة عن الواقع،
هذان العلمان يحللان الموضوعات التي يتناولانها ويشرحانها. ولكنهما لا يعالجانها
من
حيث هي كل. وعلى ذلك فإن مناهجهما ومبادئهما لا تسري على علم البيولوجيا، الذي
يفوقهما عينية بكثير، والذي هو في أساسه محاولة للوصول إلى كليات. وهكذا يعزو
هولدين إلى علم الحياة مكانة أعلى وأشمل في نظام العلوم من مكانة المباحث
الفيزيائية الخالصة، وبذلك تكون العلوم — حسب تعاليم هولدين — نوعًا من التسلسل
المتدرج، يتفاوت فيه مركز كل علم تبعًا لدرجة التجريد التي يصل إليها. فكلما انتزع
من تجربتنا محتواها العيني عن طريق عملية تجريد مصطنع، ازداد العلم المتعلق بها
ابتعادًا عن معنى الكل، وقلت قدرته على الإتيان بتفسير فلسفي للواقع؛ غير أن
البيولوجيا أقرب إلى التجربة العينية من المباحث الفيزيائية بكثير؛ وبالتالي فإن
الطريق الذي تؤدي به إلى تفسير فلسفي للكون أقصر كثيرًا، ويستتبع ذلك ترتيبًا
للعلوم مبنيًّا على الامتداد التدريجي لعملية التجريد، بادئًا بعلم النفس ومارًّا
بالبيولوجيا والكيمياء إلى الفيزياء والرياضة.
وهكذا فإن المستوى السيكولوجي للتجربة يُبْنَى على المستوى البيولوجي، والبيولوجي
على الفيزيائي، ويفسر هولدين عالم علم النفس بأنه عالم ذهني عيني مؤلف من شخصيات،
ومعنى ذلك أن الشخصية تمتد خلال نطاق التجربة بأكمله. وهذا لا يتحقق في العالم
الفيزيائي؛ إذ إن هذا التجريد، له حقًّا نفعه الجزيل بالنسبة إلى أغراض عملية
معينة. ولكنه لا يتكشف بالتجربة إلا في وجه محدود وجزئي إلى أبعد حد، ونحن نعني
بالشخصية أولًا الشخصية الفردية؛ غير أن هذا لا يستنفد جميع عناصر الفكرة، التي
لا
تشمل ما هو فردي فحسب، بل وتشمل السعي إلى الخير وطلب الحق والتمتع بالجمال. وعلى
ذلك فعندما نفسر التجربة في آخر أوجهها وأعلاها، نصل إلى فكرة شخصية شاملة لكل شيء،
بوصفها تحقق كل ما نصادفه في أعلى القيم. وفي هذه الشخصية وحدها تبلغ الحقيقة
الأصيلة لتجربتنا كما لها؛ غير أن في هذا تعديًا على مجال الدين، الذي تنحصر ماهيته
في إدراك أن هذه الشخصية الشاملة هي الله. وهكذا فإن الكون عالم للروح أو الذهن،
تتكشف فيه فاعلية الله دائمًا وفي كل مكان، وإنه لمن الظواهر الدالة على تغير وجهات
النظر في هذا الزمان، أن نجد هنا أيضًا باحثًا علميًّا تؤدي تأملاته إلى نظرة
مثالية روحية إلى العالم، ترتبط بمذهب باركلي من الناحيتين الإبستمولوجية
والميتافيزيقية، وتسفر مثله عن فهم مفارق لفكرة الله.
(٦) يان كريستيان سمطس Jan Christian Smuts (وُلد
في ١٨٧٠م)٨
الجنرال والسياسي المشهور في جنوب أفريقيا.
مؤلفاته: «مذهب الكلية
والتطور Holism and Evolution» ١٩٢٦م، (طبعة جديدة مراجعة، ١٩٣٦م)، مقال بعنوان
«مذهب الكلية Holism» في دائرة المعارف
البريطانية الطبعة الرابعة عشر، ١٩٢٩م.
في «مذهب الكلية
Holism» (الكلمة مشتقة من
«
Holos» في اليونانية بمعنى الكل) عند الجنرال
سمطس، تصبح مقولة الكلية مركزًا لتفسير فلسفي للعالم يحتل مكانه في الخط العام
للمذاهب الكونية والبيولوجية عند برجسون وألكسندر ولويد ومورجان وبودين
Boodin ودريش وج. س. هولدين وج. أ. طومسون وغيرهم،
ويرتبط هذا المذهب — من الوجهة التاريخية — بنظرية الصورة والمادة عند أرسطو،
وبنظرية الذرات الروحية عند ليبنتس. ولقد وقف سمطس من فكرة الكلية موقفًا مشابهًا
لموقف «دريش» الذي رأى أنها هي المقولة الأساسية في العالم العضوي، وأكد بدوره أننا
لا نستطيع بدونها تفسير الوحدة المحددة للسلوك العضوي والتطور العضوي. ولكنه وسَّع
نطاقها أولًا بحيث تنطبق على عالم المادة غير العضوية أيضًا؛ أي على جميع الموضوعات
الطبيعية، الحية منها وغير الحية، ثم وسع هذا النطاق ثانيًا بحيث يشمل الظواهر
النفسية والذهنية والحضارية. فهناك «كليات» تركيبية لا توجد فقط في الشخصية
الإنسانية، بل توجد أيضًا الصور المنظمة للعلم والفن والأدب والمجتمع والدين، كما
توجد — إلى جانب ذلك — في الحق والخير والجمال والحب … إلخ، وأخيرًا يرفع تصور
«الكل» إلى مرتبة المبدأ الميتافيزيقي الكوني الشامل؛ فهو يأتينا بمفتاح ننفذ
بوساطته إلى قلب المشكلات الفلسفية المحيرة، ويأتينا بالتعريف الصحيح لعلاقة
المعلول بالعلة، والحرية بالضرورة، ومشكلة الفردية، وكذلك مشكلة النفس والجسم،
وأخيرًا فإن هذا التصور يثبت فائدته الخاصة بالنسبة إلى فكرة التطور، فمذهب الكلية
يرمي آخر الأمر إلى وضع نظام شامل للتطور، يعرض في ارتباط يتفاوت وثوقًا مع مذهب
التطور الخلاق عند برجسون، ومذهب التطور الطافر عند ألكسندر، ومذهب التطور الكوني
عند بودين
Boodin. ولكن سمطس يحاول تكملة كل هذه
المفاهيم التطورية وتحسينها، عن طريق مبدأ الكلية أيضًا؛ فالكون الذي يتطور تطورًا
خلاقًا هو كون مؤلف من كليات، ويرى سمطس أن المعنى الحقيقي للعملية الكونية إنما
يتمثل في التشكيل والخلق المتجدد أبدًا لكليات من هذا النوع، على أن التصورات
الفعلية تعجز عن التعبير عن مفهوم «الكل» تعبيرًا يستنفد جميع أطرافه، ويكون واضحًا
بذاته، وإنما هو مغلف في حجاب اللامعقول. وهذا يصدق أيضًا على المسائل المرتبطة
به،
كمسألة كيفية نشأة كليات جديدة على الدوام، ومسألة ما إذا كان الواقع بما هو كذلك
يتصف بصفة الكلية، فعلينا أن نقبل هذه الأمور كلها بتلك «التقوى الطبيعية»، وألا
ندعي القدرة على التغلغل في أساسها النهائي، «ففي كل شيء يكون الكل، حتى لو كان
يبدو أصغر الكليات وأقلها شأنًا، هو إنه المعجزة الحقيقية التي تخفي بين طياتها
تلك
الأسرار التي نتلمس في تفكيرنا وسلوكنا طريقًا إليها.»
٩
ونستطيع أن نذكر — على سبيل التذييل — اسمَي عالمين بيولوجيين أحدث عهدًا هما:
وودجر J. H. Woodger (وُلد في ١٨٩٤م)
ولانسلوت هوجين Lancelot Hogben (وُلد في
١٨٩٥م)، فمن الممكن أن يُعَدَّ وودجر من أتباع «المذهب الكلي»، بالمعنى الخاص عند
سمطس، وإن يكن في كتابه «المبادئ البيولوجية، دراسة
نقدية Biological Principles, A Critical Study» (١٩٢٩م) وفي مواضع أخرى يؤكد على نحو أقوى مما أكد هولدين
وسمطس، الدلالة العلمية للتصورات والفروض الآلية. ولقد كان وودجر على دراية كبيرة
بالفلسفة بالقياس إلى أصحاب «مذهب الكل»؛ ومن ثَم فهو المتخصص بينهم في نظرية
العلم، وهو يقوم بتحليل دقيق للألفاظ العلمية التي يستخدمها عالم البيولوجيا
مستخدمًا من آن لآخر لغة المنطق الرمزي، وهو يرفض طرق التفكير السائدة في المذهب
الحيوي كما عند «دريش»، ويرفض كذلك رد المشكلات البيولوجية المتخصصة إلى المقولات
غير العضوية للفيزياء والكيمياء، ويضع سلسلة متدرجة من المشكلات العلمية، تناظر
مستويات الواقع التي تدرسها مختلف المباحث العلمية. وهكذا فإنه — في رفضه للمذهب
الآلي والمذهب الحيوي — يطالب «ببيولوجيا بيولوجية»؛ أي بالتكيف الدقيق للتصورات
البيولوجية مع الوقائع التي يتعين على البيولوجيا التعامل معها، وهو يدعو إلى وضع
مناهج وتصورات تلائم الوقائع، لا إلى حشر الوقائع قسرًا في إطار معد سلفًا، كما
هي
الحال في كل النظريات المفرطة في دقتها، والمنحازة إلى جانب واحد لا تحيد عنه،
ويقترب وودرجر، في موقفه الفلسفي العام من الواقعية الجديدة، وكذلك من نظرية
هويتهد.
ومن الأدلة على أن المذهب الآلي ما زال يجد له أنصارًا في البيولوجيا حتى يومنا
هذا: مذهب لانسلوت هوجبن Lancelot Hogben، كما
عرضه في كتابه «طبيعة المادة
الحية The Nature of Living Matter» (١٩٣٠م)، فرغم أن «هوجين» يتخلى في نواح متعددة عن المذهب
الآلي للمدرسة القديمة، فإن قوام أبحاثه في طبيعة الحياة هو الرأي القائل: إن
المشكلات البيولوجية لا تعالج على النحو الصحيح إلا بمساعدة المناهج الآلية؛ أي
الفيزيائية الكيميائية، ومما يدل على ذلك: استخدامه لفظ «المادة الحية» بدلًا من
«الحياة»، وهو يضع تمييزًا هامًّا، مبنيًّا على التمييز المماثل عند رسل، بين
«العالم العام» المؤلف من تصورات مادية، والذي يصل إليه الجميع، وبين «العوالم
الخاصة» التي هي الصور المختلفة للعالم عند مختلف الأفراد. فهناك عالم عام واحد
فقط. ولكن هناك عوالم فردية كثيرة، ويرى «هوجبن» أن الأول محايد أخلاقيًّا؛ إذ إنه
واحد بالنسبة إلى الجميع، ولا تسري القيم الأخلاقية والجمالية إلا على الأخير،
ويدرج «هوجبن» ضمن هذه القيم: النظريات الحيوية والكلية، التي لا تستطيع إلا أن
تشكل عوالم فردية لا عالمًا عامًّا، وتهدد نظرية هوجبن بإلغاء الفوارق التي أقامها
أصحاب المذهب الحيوي بين العالم غير العضوي والعالم العضوي، وبين علمي الفيزياء
والبيولوجيا. ومن الممكن أن تسمى هذه بالنظرية «الآلية الجديدة»، وهي تقف موقفًا
شديد التضاد مع كل النظريات التي بحثناها من قبل.