يسير تطور علم النفس الإنجليزي في خط مستقيم، على وجه العموم، منذ بداياته الأولى
حتى
قرب نهاية القرن التاسع عشر. وقد سار في خط مواز للتراث الفلسفي التجريبي، أو هو
بعبارة
أصح متشابك مع هذا التراث ومتفق معه إلى حد بعيد، فنفس الفكرة التي يُطلق عليها اسم
المذهب التجريبي عندما ينظر إليها من زاوية الفلسفة، تسمى بالمذهب الترابطي Associationism عندما ينظر إليها من زاوية علم
النفس. ولقد استمرت النظريات الآلية الترابطية القائلة بالانفصال المطلق في علم النفس،
وهي النظريات التي عبرت عنها المذاهب الكلاسيكية في القرنين السابع عشر والثامن عشر،
استمرت أيضًا في القرن التاسع عشر، ويرجع الفضل الأكبر في ذلك إلى تعاليم مل الأب
والابن، التي أدخل عليها دارون وسبنسر عنصرًا جديدًا، هو العنصر التطوري، ووصل بها
«بين Bain» و«سللي Sully»، وهما آخر ممثلي هذه الحركة، إلى نقطة الاكتمال. أما اليوم فإن
هذا المذهب قد أصبح في ذمة التاريخ. ومن الممكن القول بتعبير فيه شيء من المفارقة،
إنه
لم يعد حيًّا إلا بقدر ما يظل يتلقى الضربات القاضية من مذاهب علم النفس التي حلت
محله؛
فمن الواضح أنه ما زال يوضع على قيد الحياة بطريقة مصطنعة، وذلك حتى يفي بحاجات علماء
النفس المحدثين إلى النضال ضد مذهب مضاد لهم، والأرجح أنه سيظل فيما بعد يضطلع بهذه
المهمة وقتًا ما.
ولقد نوهنا من قبل في سياق آخر بفضل وورد في تجديد علم النفس، وكل ما نحتاج إليه
هنا
هو أن نذكر القارئ بما قيل من قبل؛ فالطريق الذي سلكه وورد، والذي سلكه أيضًا — في
نفس
الوقت تقريبًا — وليم جيمس، الذي ظهر كتابه «مبادئ علم النفس principles psycholgy» عام ١٨٩٠م، يؤدي مباشرةً — إذا ما أكملناه في خط
مستقيم — إلى الحاضر، مقتربًا اقترابًا وثيقًا مع بعض الاتجاهات الموازية في الفلسفة
(كالبرجسونية والبرجماتية … إلخ). ومن الممكن أن يسمى هذا بالطريق الرئيسي في علم
النفس
الإنجليزي المعاصر، بقدر ما تتأصل جذوره في التربة الفلسفية، ويقف مرتكزًا على أساس
فلسفي عام، والواقع أن أهم اثنين من علماء النفس الإنجليز الأحياء، وهما: ج. ف. ستوت
ووليام ماكدوجال، يشاركان وورد نظرته العامة، وكان عملهما في معالجة مشكلات علم النفس
يسير أساسًا في الطريق الذي حدده هو لهذا العلم؛ ومع ذلك فإن العرض الذي سنقدمه لهما
لن
يقتصر على علم النفس عندهما فحسب، بل سيمتد إلى مجموع أعمالهما، التي تتعدى علم النفس
إلى المجال الفلسفي.
(١) جورج فردريك ستوت george frederick stout (وُلد
في ١٨٦٠م)٢
كان محاضرًا في العلوم الأخلاقية بجامعة كمبردج سنة ١٨٩٤م، ثم أصبح محاضرًا في
علم النفس المقارن في أبردين عام ١٨٩٦م، وقارئًا (مدرسًا) في الفلسفة الذهنية في
أكسفورد، عام ١٨٩٨م، وكان منذ ١٩٠٣م إلى ١٩٣٦م أستاذًا للمنطق والميتافيزيقا بجامعة
سانت أندروز.
مؤلفاته: «علم النفس
التحليلي Analytic Psychology» في مجلدين، ١٨٩٦م، «المجمل في علم النفس A Manual of Ps.» ١٨٩٨م، الطبعة الرابعة، ١٩٢٩م،
«الخطأ Error»، ١٩٠٢م (في كتاب «المثالية الشخصية Personal Idealism» الذي نشره هنري
سترت)، «أساسيات علم النفس The Groundwork of Ps.»
١٩٠٣م، «الذهن والمادة Mind and Matter» ١٩٣١م
(الجزء الأول من محاضرات جيفورد)، وكذلك مقالات أخرى في مجلات علمية، نشر أهمها
الآن تحت عنوان «دراسات في الفلسفة
وعلم النفس Studies in Phi. and Ps.» ١٩٣٠م.
يظهر التحرر من قيود المدرسة المثالية بمعناها الأضيق عند ج. ف. ستوت أوضح مما
يظهر عند وورد ذاته، ويتضح ذلك بوجه خاص في تخيله عن الحلول التأملية والمذاهب
المتكاملة الأطراف؛ أي خروجه على التفسير الهيجلي للحياة وعالم الفكر، وتمجيده
للفلسفة بوصفها مبحثًا علميًّا. وهكذا فإن ما نُشِرَ من كتابات ستوت حتى الآن يكاد
يقتصر كله على ميداني علم النفس ونظرية المعرفة، على حين أنه احتفظ لمناقشة المسائل
الميتافيزيقية (وضمنها مسائل الأخلاق وفلسفة الدين) بمكانة ثانوية في الوقت الحالي،
وذكر أنه سيعالجها في مؤلف تال أعلن عنه سلفًا. وعلى ذلك فمن المستحيل أن تحدد على
نحو قاطع — طالما أن هذا المؤلَّف لم يظهر بعد — المدرسة الفلسفية التي ينتمي إليها
ستوت، ولا يبدو أن من المناسب وصف تفكيره بهذا الوصف أو ذاك، والأقرب إلى الصواب
أنه أنموذج لما أسماه بوزانكيت «بتلاقي الأضداد في الفلسفة المعاصرة»؛ أي للاتجاه
المتزايد قوة على الدوام، نحو تحقيق تقارب متبادل أو اندماج بين طرق في التفكير
كان
بينهما من قبل تعارض شديد، ففي ستوت «تتلاقى» أفكار برجماتية وواقعية ومثالية:
الأولى تسود مرحلة متقدمة نسبيًّا في تفكيره، ثم تزداد اختفاءً بالتدريج. أما
أبحاثه في علم النفس ونظرية المعرفة، وكذلك منهجه في البحث، فيمكن أن تُعَدَّ
واقعية، على حين أن المثالية تميز نتائج معينة مستمدة من موقفه، والأساس الخلفي
لمذهبه في عمومه.
٣
ومما له دلالته: أولًا أن فلسفة ستوت، مثل فلسفة وورد، تتغلغل جذورها في الأبحاث
النفسية التي كرس لها جزءًا كبيرًا من عمله في حياته، والتي تنتمي إليها وحدها كل
الكتب التي نشرها حتى سن السبعين، وتحتل كتبه الثلاثة الشاملة، التي يجدر التنويه
خاصة بأولها، وهو «علم النفس التحليلي»، مكانة بين مؤلفات علم النفس في وقتنا هذا،
تشبه مكانة كتاب «مبادئ علم النفس» لوليم جيمس و«المبادئ النفسية» لوورد في وقتهما،
ويعد ستوت — مع هذين الاثنين — واحدًا من رواد علم النفس الأنجلو سكسوني بعد الوقفة
العقيمة التي انتهت إليها النظريات السابقة المنتمية إلى النوع التجريبي، فله نصيب
كبير في تجديد هذا العلم، سواء من حيث البحث الدقيق في مشكلاته الخاصة، أو من حيث
وجهته الفلسفية العامة، وهو يعني بعلم النفس دراسة الذهن أو الظواهر الذهنية؛ أي
الوظائف العليا لموجودات وهبت أذهانًا، ومنهج علم النفس، على عكس المنهج المستخدم
في الفروع الأخرى للمعرفة البشرية، منهج ذاتي أو استنباطي، مهمته هي أن يعرض بطريقة
منهجية القوانين والشروط المتحكمة في مجرى الحياة النفسية للأفراد، على أن هذه
الحياة لا تتألف من مجموع معطيات أو أحوال أو حوادث منفصلة، وإنما هي تتميز بوحدة
من نوع خاص، تظل قائمة قبل الوقائع النفسية الفردية وبعدها، وتختلف أساسًا عن أية
وحدة في عالم الأشياء المادية. وإذن فهناك ذهن بمعنى وحدة الوعي، لا مجرد الأحوال
والعمليات الذهنية، وعلم النفس هو العلم الخاص بهذا الذهن. وهكذا يرفض ستوت صراحةً
مذهب الانفصال المطلق (Atomism) في علم النفس، كما
قالت به المدرسة الإنجليزية القديمة، أو «علم النفس من غير نفس»، مثلما يرفض الخلط
بين الأبحاث الفسيولوجية والنفسية؛ فعنده أن من الواجب الاحتفاظ بالتميز القاطع
بين
الاثنين؛ إذ إن كلا منهما علم له موضوعه الخاص.
ويقترن برفضه للتركيب الانفصالي التفكيكي للحياة الذهنية، رفضه للرأي القائل: إن
عملياتها تسير في طريق آلي؛ فهو يقبل الآراء الأساسية عند وورد، الذي يدين لتعاليمه
بأكثر مما يدين به لأي مفكر آخر، وإن يكن قد تجاوزها فيما بعد بكثير، وهو يتضافر
معه في تحرير التفكير النفسي من قيود العلوم الطبيعية وأغلالها، والعالم النفسي
كما
يعرضه فريد في نوعه، له تركيبه الخاص، قوانينه التركيبية الخالصة، وهو يتخلى عن
«الميكانيكا الذهنية» و«الكيمياء الذهنية» التي قال بها علماء النفس السابقون،
ويبرز بوجه خاص الطابع «الغائي» لهذا التركيب في صدر الصورة، ويوضح إلى أي حد تخضع
العمليات النفسية كلها، ونظام ترابط الأفكار (أو تداعي المعاني) بأسره، للاهتمامات
والمساعي الحيوية، فالعوامل المتحكمة فيما يجيء من الارتباطات هي دائمًا اهتمامات
شخصية. وليست قوى لا شخصية، والطابع الأساسي للحياة النفسية هو كونها جهدًا ذا هدف
وغرضية. وهذه الحياة النفسية ميدان تتحكم في جميع أرجائه العوامل النزوعية والغرائز
والدوافع والإرادات، وقد اعترف ستوت — مثل وورد — بالأهمية الحاسمة للانتباه،
فبالانتباه يدخل العامل النزوعي، الذي كان يعالج من قبل بطريقة نظرية محضة؛ أي دون
إشارة إلى المجال العلمي، ضمن الظواهر النفسية، وهو يبين أن الانتباه عامل لا غناء
عنه (وإن يكن السابقون قد تجاهلوه أكثر مما ينبغي) من أجل فهم الإدراك الحسي فهمًا
صحيحًا، وأنه يتحكم بطريقة أساسية في كل نشاط إدراكي حسي، وستظل الدراسات الجديدة
الهامة التي قام بها ستوت في هذا الميدان إحدى خدماته الباقية، ولا شك في أنها شجعت
البحث النفسي وأخصبته إلى حد بعيد.
ولقد كان المنهج الذي اتبعه ستوت في علم النفس هو منهج التحليل الوصفي للمعطيات
الماثلة في الوعي. فليس لهذا المنهج علاقة بعلم النفس الفسيولوجي أو التجريبي، ولا
بأي شيء قريب منهما. وفضلًا عن ذلك فهو يتجنب كل فروض وتفسيرات تأملية. وهذا لا
يعني بطبيعة الحال أن جذوره منفصلة عن التفكير الفلسفي، بل يعني أنه يتعمد وضع كل
تفكير نظري فلسفي، في أول الأمر، في مركز ثانوي؛ فهذا المنهج وصف مباشر دقيق مفصل
للظواهر الواعية في ميدان التجربة الخالصة، وكثيرًا ما يصل إلى تحليل عميق على
طريقة «مينونج» وهوسرل، ورغم أن ستوت لم يعرف في البداية نظرية الموضوعية عند
مينونج، أو مذهب هوسرل في الفينو مينولوجيا (الظاهريات)، فإن منهجه في البحث يقترب
كثيرًا من مذهب هذين المفكرين، وكثيرًا ما تتشابه نتائجه مع نتائجهما. وعندما عرف
ستوت كتاباتهما فيما بعد، وكذلك كتب برنتانو «ولبس Lipps» «وكولبه Kulpe»
«وميسر Messer»، أحس هو ذاته بالتقارب، ورأى
أنه قد أسدى في كتابه الأول — على نحو مستقل عن تفكيرهما — خدمة لعلم النفس
التحليلي لا تختلف عما قدموه هم. وهذا يصدق أيضًا على أبحاثه في نظرية المعرفة،
التي تلتقي بدورها في نقاط كثيرة مع «لبس» ومينونج وهوسرل، سواء أكان هذا الالتقاء
راجعًا إلى تأثيرهم أم لا، ومن أمثلة ذلك أنه يتفق مع هوسرل في فكرة «التوجه intention» «والأفعال التوجهية intentional acts» ويراها متفقة مع آرائه الخاصة، وذلك حين يفسر
وحدة الوعي الذاتي بأنها في أساسها وحدة تجربة توجهية، تشترك في تحديدها — أساسًا
—
وحدة الموضوع «المتوجه إليه».
والخلاصة أننا نستطيع تعريف طابع علم النفس عند ستوت كما يلي؛ فهو — بقدر ما هو
إرادي voluntarist — يسير في الاتجاه الفكري
الذي كان رائداه هما وورد وفنت، والذي واصله جيمس والبرجماتيون، وبذلك انفصل على
نحو قاطع، كما فعل هؤلاء المفكِّرون، عن علم النفس الإنجليزي التقليدي، بما فيه
من
اتجاهٍ عقلي ينزع إلى فصل الظواهر وتفكيكها، ومن نظرية آلية في الترابط وفضلًا عن
ذلك فإنه، بقدر ما يمارس تحليلًا وصفيًّا من نوع شبيه بالتحليل الفينومينولوجي،
يرتبط بعلم النفس المرتكز على الوعي الخالص، في المدارس الألمانية، أو على الأقل
يُشبهه، كما أنه يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمدرسة الجشطلت في علم النفس، وأخيرًا ففيه
نقاط التقاء غير قليلة، في المضمون وفي المنهج، بالتراث التجريبي التقليدي، رغم
رفضه القاطع لهذا التراث وعدائه له في الأمور الأساسية. وهنا كان ستوت — كما كان
في
المواضع الأخرى — باحثًا يُعتمد عليه، علَّامة، يتفانى في سبيل الموضوع الذي يبحثه،
ويسعى إلى تحقيق التقدم فيه عن طريق العمل الشاق المُثابر، أكثر مما يسعى إلى ذلك
عن طريق أنظار رائعة أو لمحات تبهر الأبصار.
وكما ذكرنا من قبل، فإن فلسفة ستوت ما زالت مذهبًا لم يتم؛ غير أن خطتها العامة
والخطوط العامة في بنائها ظاهرة بوضوح من الآن، وأهم أجزائها قد تمت بالفعل، وإن
لمن الأمور المميزة تمامًا لهذا المفكِّر الحذر الحريص — الذي يكره الالتزام بنتائج
نهائية — أنه كان يبدأ دائمًا بمعالجة مشكلات منفردة فقط، ويمضي في حلها إلى نقطة
معينة (هي في أغلب الأحيان نقطة مؤقتة)، بينما يظل طويلًا عاجزًا عن إقناع نفسه
بمحاولة معالجتها على نحو شامل مترابط، وحتى هذا القرار المتأخر [أي قرار تأليف
كتاب في الميتافيزيقا] لم يكن راجعًا إلى أي حافز منبثق عنه، وإنما فرض عليه
خارجيًّا عندما اختير لإلقاء محاضرات جيفورد، وهي — بهذه المناسبة — مؤسسة ندين
لها
بخدمات متعدِّدة، من بينها أكثر من «مذهب» فلسفي واحد لولاها لما رأى النور أبدًا.
ولقد احتاج ستوت إلى اثني عشر عامًا لكي يضع الجزء الأول من هذه المحاضرات في صورة
نهائية، على شكل كتاب، بينما الجزء الختامي الثاني لم يُنْشَر بعدُ (حتى سنة ١٩٣٨م)،
٤ وهكذا فإنَّ ستوت — الذي بنى فلسفته حجرًا فوق حجر — قد عبر عن تفكيره
في سلسلة قوية من المقالات في المجلات الدورية والحلقات الدراسية التي تتناول
موضوعات خاصة، وكان في الحادية والسبعين قبل أن يصدر أول كتاب فلسفي كامل
له.
ولن يُمكننا فيما يلي إلا أن نختار عددًا قليلًا من المشكلات العديدة التي
تناولها، دون أن نُحاول تتبع التغيرات المتعدِّدة التي مرَّ بها تفكيره؛ وذلك —
على
الأقل — لأن هذه التغيرات لا تنطوي على أي خروج حقيقي عن وجهة نظره أو تغيير أساسي
لها، بل هي تحسينات وتعديلات ثانوية بالنسبة إلى المشكلة التي يبحثها، والنتيجة
هي
ظهور أمثلة عديدة للتغيير والتخصيص في المسائل التفصيلية، مبعثها الحرص الشديد على
إعطاء كل وجهة للمسألة موضوع البحث حقه، وإخضاع الأوجه كلها لتحليل يزداد دقة على
الدوام، والنظر إليها من كل زاوية ممكنة، حتى يُمكن أن تؤخذ في الاعتبار كل
الاعتراضات في أثناء البحث ذاته. وهكذا تعدُّ الحلول قطعة قطعة وخطوة خطوة. ولكنها
لا تكاد تصل أبدًا إلى صورة نهائية، بحيث يظل هناك دائمًا أفق مفتوح يضمن مجالًا
فسيحًا لمزيد من البحث.
ويمكننا أن نختار مشكلة الخطأ لتكون أول مشكلة نُعالجها، وإن لم نكن ننوي اتباع
أي ترتيب معين. وقد عالج ستوت هذه المشكلة في البحث الذي ساهم به في كتاب «المثالية
الشخصية»، وهو البيان المبكر للحركة البرجماتية، التي كان تفكير ستوت يقترب منها
كثيرًا في وقت من الأوقات
٥ والخطأ حالة خاصة لما يُطلق عليه ستوت اسم المظهر المجرد
Mere Appearance، وهو يعني بالمظهر الشيء
«المتخيل»، ويعني بالموقف «الخيالي»؛ ذلك الموقف الذي يَتساوى فيه عند الذات أن
تكون الأشياء واقعية أو غير واقعية، ونحن نكون إزاء مجرَّد مظاهر عندما نعتقد أن
لأي شيء طابعًا لا ينتمي إليه على نحو مستقل عن العملية النفسية التي يدرك بها؛
فهذا إذن وصف للموضوع المدرك لا للذات المدركة، وينشأ الخطأ كلما اعتقد أن ما هو
مظهر فحسب، ينتمي إلى واقع مستقل، أو كلما تسببت الظروف النفسية في عدم إدراك
المظهر المجرد على أنه كذلك، والاعتقاد بأنه موجود واقعيًّا، وللخطأ دلالة كبيرة
في
حياتنا العملية، من حيث إن مغامرة المعرفة متضمنة فيه، ولولاه لما سعينا إلى إدراك
الحقيقة؛ فالتعرض لخطر الخطأ، أي الاستعداد للمخاطرة بتصديق ما هو غير صحيح من بين
الأطراف المختلفة التي يقترح علينا أن نقبل واحدًا منها، هو شرط سابق لا بد منه
للسلوك السليم وللمعرفة الصحيحة، والقدرة على الخطأ ضرورة نظرية وعملية بدونها لا
نستطيع أن نعرف أو أن نفعل، ناهيك بأن نحيا حقيقة بالمعنى الكامل للكلمة. وهكذا
فإن
الصواب والخطأ ليس بينهما تعارض مطلق، ولا هما ينتميان إلى المجال النظري وحده،
بل
إنهما معًا ينتسبان أساسًا إلى الظروف النفسية للذات العارفة أو الفاعلة؛ أي إلى
الاهتمامات الإنسانية. وبهذه الفكرة استبق ستوت — كما هو واضح — لُبَّ نظرية
الحقيقة البرجماتية كما عُرِضَت فيما بعد بالتفصيل عند شيلر بوجه خاص.
ولقد كانت المشكلات التي انتفعت من ذهن ستوت التحليلي الدقيق، إلى جانب علم
النفس، هي أساسًا مشكلات معرفية، فتفكيره يتغلغل بعمق في التراث الذي حلفته
الفلسفية الإنجليزية الكلاسيكية منذ لوك، فيما يتعلق بالموقع العام لمشكلة المعرفة،
ويعالج بطريقة جديدة نفس موضوعات البحث التي شغل بها مفكرو القرنين السابع عشر
والثامن عشر، وكل ما في الأمر أن كل شيء هنا أكثر تعقيدًا وتنوعًا بكثير، وأن
المناهج أعمق في تطبيقها، والتحليلات النقدية أدق، والبحث الفلسفي قد اكتسب أسلوبًا
فنيًّا خاصًّا دقيقًا، ورغم ذلك فقد كان ستوت حريصًا على ألا يفقد اتصاله بالذهن
البشري المعتاد. وعلى أن يبني نظرياته وفقًا لآراء الإنسان العادي، أو يسعى إلى
كسب
تأييده لها. وهنا يظهر تأثير ريد بوضوح، كما يظهر تأثير ج. إ. مور، مجدد فكرة
«الموقف الطبيعي» عند ريد في الآونة الأخيرة، وكثيرًا ما نجد ستوت يلجأ آخر الأمر
إلى هذا الموقف الطبيعي في قبوله أو رفضه لنظرية ما.
وهناك مسألة عالجها ستوت مرارًا وبدقة خاصة، رغم أنها قد بليت من فرط ما بحثت
طوال التراث الفلسفي، هي مشكلة معرفتنا بالعالم الخارجي، أو على أوجه أدق: مشكلة
الإدراك الحسي للعالم الخارجي. وهنا أيضًا نجد أن أفكاره قد طرأت عليها تغييرات
متعددة، سنكتفي منها بمرحلتها الأخيرة؛ فالنظرية القديمة تقول: إننا ندرك موضوعات
العالم الخارجي بوساطة الأفكار الموجودة في وعينا، والتي تنتجها هذه الموضوعات،
وهي
الأفكار التي تناظر الموضوعات أو تمثلها على نحو ما، والمفروض أن الأشياء مادية.
أما الأفكار من حيث هي مضمونات للوعي؛ فهي نفسية أو ذهنية. أما ستوت فيحدد الأفكار
التي قالت بها نظرية المعرفة القديمة تحديدًا أدق، على أنها محسوسات sensa، ويأخذ على عاتقه الآن مهمة تحديد هذه
المحسوسات وطريقة وجودها على النحو الصحيح، وهو يحاول أن يبين أن ماهية المحسوسات
لا تستنفد بواقع كونها تمثلات أو نسخًا لموضوعات تتجاوز الوعي، بل هي بالإضافة إلى
«وجودها» بالمعنى النفسي، موجودات فعلية تكون جزءًا لا يتجزأ مما نعنيه «بالعالم
المادي»؛ غير أن هذا «العالم المادي» ينبغي ألا يُعَدَّ مساويًا للوجود
«الفيزيائي»، بل الواجب النظر إليه على نحو أوسع، بحيث يشمل داخله المظاهر الحسية.
وهكذا يشمل عالم المادة الحس أو المحسوسات sensa
وعالم «الموضوعات الفيزيائية» المتجاوز للذهن. وهذا الرأي يتفق تمامًا مع اعتقاد
الموقف الطبيعي، فينبغي أن نتمثل العوالم الحسية للأفراد المختلفين على أنها
متصلات continua ونتصور هذه المتصلات على أنها
أجزاء خاصة متنوعة داخل متصل شامل واحد ينطوي عليها كلها، وتتوقف هي على وجوده.
أما
المحسوسات الفردية فهي تعديلات داخل المتصل الحسي للفرد المجرب، وتتميز معرفة
المعطيات الحسية والموضوعات الفيزيائية بأنها مباشرةً بدورها، والفارق الوحيد بينها
هو أنه على حين أن الأولى داخلة في التجربة الفعلية للفرد، فإن الثانية ليست داخلة
فيها، ويعبر ستوت عن ذلك بقوله: إن الموضوعات تعرف ظاهريًّا phenomenally والمحسوسات تجرب مباشرةً. ولكنهما معًا مرتبطان سويًّا
بوصفهما مكونين لوحدة واحدة لا تنقطع، وهما لا يختلفان من حيث نوع الوجود الخاص
بهما، بل من حيث نوع الإدراك الذي يكون لنا بهما؛ إذ يكفي لضمان حقيقة «محسوس» واحد
أن نبين أنه معطى مباشرةً خلال التجربة. أما في حالة الشيء الفيزيائي فلا بد لضمان
حقيقته أن نوضح الترابط المتبادل لمعطيات الإدراك الحسي داخل نسق ما؛ فالمجداف في
الماء لا يبدو مكسورًا. ولكنه بالفعل مكسور «من حيث هو محسوس»، وصفة الانكسار تنتمي
إلى التجربة الفعلية، وتكون واقعية إلى هذا الحد؛ غير أن المجداف «في الواقع»؛ أي
من حيث هو موضوع فيزيائي ليس مكسورًا، وإنما هو مستقيم؛ إذ إنه عندما يحتل مكانه
في
السياق المترابط للوقائع الأخرى تثبت استقامته لا انكساره، كما أن إمكان الفعل
الناجح عنصر ينتمي إلى هذا الترابط. فلا يمكننا أن نجدف بطريقة فعالة إلا بمجداف
مستقيم.
هذه الفكرة تلقي بدورها ضوءًا جديدًا على مشكلة الكيفيات الأولى والثانية. فليس
من الصحيح القول: إن الأولى تصف الأشياء والثانية تصف المحسوسات، كما أنه ليس
صحيحًا ما حاول باركلي أن يثبته معارضًا بذلك لوك، مع أنهما معًا «في الذهن» فحسب،
بل إن الكيفيات الثانية لا تصف المحسوسات فحسب، بل تصف أيضًا الموضوعات بما هي
كذلك؛ إذ إن لها من الحقيقة الفيزيائية ما للكيفيات الأولى، والعالم الفيزيائي
بدوره تنتشر فيه الكيفيات الثانية مثلما تنتشر فيه الأولى، والفارق الهام بين
الاثنين هو أن معيار الترابط ينطبق في حالة الكيفيات الأولى إلى النهاية، بينما
لا
ينطبق على الكيفيات الثانية إلا على نحو محدود تمامًا. ولكن ينبغي أن نؤكد بشدة
أنهما معًا جزءان لا يتجزآن من كل واحد شامل، أي المتصل الشامل للعالم، أو عالم
الوجود المقفل الذي يحتوي في داخله على كل ما يوجد، ومن هذا كله نستنتج أن
المحسوسات ليست كيانات ذهنية، بل هي كيانات «مادية»، وإن لم تكن «فيزيائية»؛ وعلى
هذا النحو أكد ستوت تميز نظريته عن الواقعية الحسية عند ألكسندر الذي ينظر إلى
المحسوسات على أنها موضوعات فيزيائية، كما أكد تميزها عن المثالية الحسية عند
باركلي، الذي ينظر إلى الموضوعات الفيزيائية على أنها محسوسات أو «أفكار» «في
الذهن».
في هذا كله نجد أن الفكرة الهيجلية الجديدة الوحيدة التي نصادفها هي فكرة المتصل
الشامل للواقع بأسره، أو النسق الكلي المترابط؛ غير أن هذا كله يحور بالطريقة
المأثورة لدى ستوت (في مناقشة تنتمي إلى فترة متقدمة من تفكيره) بحيث يفسر بالطريقة
الواقعية التجريبية أكثر مما يفسر بالطريقة المثالية المطلقة؛ أي يفهم بمعنى هيوم
أكثر مما يُفْهَم بمعنى برادلي؛ ذلك لأن نظرية المذهب المطلق كانت تنظر إلى الترابط
— أي الارتباط المنظم المتبادل للعناصر داخل الكل الذي تكونه المعرفة — على أنه
المعيار الصحيح الوحيد للحقيقة، ويوافق ستوت على أن لهذه الفكرة أهمية كبرى؛ غير
أنه لا يعترف بأن هذا هو المعيار الوحيد، بل يضيف معيارًا آخر يسميه بالطابع المباشر immediacy؛ فالمعرفة إما مباشرةً وإما غير
مباشرة؛ فهي تكون غير مباشرة إذا كانت طريقة الوصول إليها هي الاستدلال المنطقي
أو
طريقة أخرى مشابهة، وهي تكون مباشرةً في حالة القضايا الواضحة بذاتها (٧ + ٥ = ١٢)،
وكذلك في حالة الإدراك المباشرة لمعطيات ماثلة فعلًا (كالسرور كما نشعر به فعلًا،
أو المدرك الحسي في لحظة إدراكه)؛ فالمعطى الخالص له يقين مباشر، حتى لو كان يرتبط
بعلاقة مع معطيات أخرى لا ينفصل عنها. وعلى ذلك يستحيل أن يكون معيار الحقيقة —
أي
حقيقة الأحكام مثلًا — هو مجرد الترابط مع أحكام أخرى صحيحة تتأيد في النسق المعرفي
بدورها؛ فالأحكام التي يدعم بعضها بعضًا على أساس ترابطها المتبادل تقتضي إلى جانب
ذلك دعامة مستقلة نسبيًّا، مستمدة منها هي ذاتها، وكلما رجعنا في عملية المعرفة
إلى
الوراء، اتضح لنا باستمرار أن هذه الدعامة تنحصر في طابعها المباشر، سواءً أكان
ذلك
الطابع شعورًا وإحساسًا، أم يقينًا واضحًا بذاته، أم كليهما معًا؛ فالمعرفة الصحيحة
— بمعنى المعرفة المنهجية المنظمة — لا تكون ممكنة إلا إذا كان هناك تيار لا ينقطع
من المادة الجديدة، في صورة إحساس وشعور، يتدفق على الوعي المعرفي؛ أعني تيارًا
من
المعطيات نشعر به مباشرةً، ولا يصبح مترابطًا، مندمجًا في نسق من العلاقات إلا
عندئذٍ فقط، وبالمثل تشع كل العناصر غير المباشرة في المعرفة — كما يقول ستوت —
من
مركز يتسم بالطابع المباشر، يكون نقطة بداية كل معرفة أخرى وشرطها الأصلي، وإن
للرجوع من غير المباشر إلى المباشر — الذي نسميه بالتحقيق أو الاستشهاد بالوقائع
—
أهمية في تقدم المعرفة لا تقل عن أهمية التقدم من المباشر إلى غير المباشر، الذي
نسميه تفسيرًا أو شرحًا، ولن يقلل من الطابع المباشر للمعرفة المباشرة مرورها
بمراحل متعددة من العمليات غير المباشرة.
وللآراء التي لخصناها الآن أهميتها من حيث إنها أعادت العامل المادي (أو عامل
«الهيولي») في المعرفة، وهو العامل الذي طالما تجاهله الهيجليون إلى مكانته
الأصلية، فرجوع ستوت إلى فكرة الطابع المباشر يقابل تمامًا رجوع هيوم إلى الانطباع،
والمطلب الذي اشترطه هيوم، وهو وجوب تحقيق كل فكرة تطالب لنفسها بصفة الحقيقة، في
معطى أصلي، إنما هو ذاته الافتراض الكامن من وراء حجة ستوت كما عرضناها الآن. كذلك
يمكن أن تقارن بها فكرة هوسرل في الهيولى الحسية، وربما كانت هذه قد أثرت فيها،
رغم
أن ستوت لا يشير إلى ذلك صراحة، فخصومته الفكرية موجَّهة أساسًا ضد باركلي وجويكم،
اللذين رأى أنهما أكثر أنصار فكرة الترابط اتساقًا، ولو نظرنا إلى المسألة هنا
أيضًا من جميع أطرافها، لكان من الواضح أن تفكير ستوت لا يمكن أن يُدْرَجَ تحت أية
صيغة من صيغ المدارس الفلسفية، وأنه لا يرتبط بآراء غيره من المفكرين إلا ارتباطات
ضئيلة. ولكنه يسير عمومًا في نفس الاتجاه الذي سار فيه برنتانو ومينونج وهوسرل
ولبس Lipps وكولبه Kulpe في ألمانيا، وألكسندر وبرود ومورو و. أ. جونسون في
إنجلترا، وإن يكن ستوت يستخدم من آن لآخر عناصر مثالية، ولنعبر عن هذه الصفة
تعبيرًا يكاد يماثلها، فنقول: إنه كان أحرص على معالجة مشكلات خاصة منه على تشييد
مذهب أو إيجاد تفسير للعالم من حيث هو كل.
ولنذكر — آخر الأمر — اتجاهًا فكريًّا كان يعبر عن المرحلة الأخيرة من فلسفة
ستوت، ويكشف عن جوانب معينة من بحثه في الكونيات، تُنْسَب إليها عادة مكانة ثانوية،
وأعني بها نظريته في الذات المتجسدة؛ فهو هنا يبحث في تحديد العلاقة بين الجسم
والنفس، وفي حل المشكلة النفسية-الفيزيائية. وعلينا أن نبدأ بالتماس الحل في هذه
الحالة كما في غيرها، في التجربة البسيطة التي لدى الفرد بجسمه، فإلى جانب قدرتي
على إدراك جسمي بوصفه موضوعًا خارجيًّا شأنه شأن أي شيء آخر في العالم الخارجي،
توجد لديَّ قدرة منفصلة عن ذلك كل الانفصال، هي شعوري أساسًا بالجسم في وعيي
الذاتي، وعلمي بأن أحدًا غيري لا يستطيع أن يشعر به على هذا النحو، فبهذه الطريقة
—
وبها وحدها — تكون لديَّ تجربة مباشرة بوحدة الجسم والذهن بوصفهما عاملين لا انفصال
بينهما، في وجودي الخاص غير المنقسم؛ إذ إنني أدرك ذاتي على أني ذهن متجسد أو وحدة
جسمية ذهنية. وليس ما يكشفه الوعي الذاتي مجرد ذهن أو ظواهر ذهنية، بل هو يكشف
ذهنًا وجسمًا في وحدة. وهذه الوحدة في الوعي الذاتي ينبغي أن ينظر إليها على أنها
واقعة نهائية معطاة، لا تقبل مزيدًا من التحليل، ولا ترد إلى أي شيء آخر. وعلى ذلك
فالمشكلة النفسية-الجسمية تكون قد عرضت منذ البداية عرضًا غير صحيح، إذا ما وضع
الجسم والنفس في مبدأ الأمر كل في مقابل الآخر بوصفهما كيانين منفصلين، ثم بدأ
البحث في علاقتهما المتبادلة أو تأثيرهما المتبادل، أو في طبيعة الوحدة التي
يكونانها؛ فمن المستحيل أن نعيد لصق ما مزق بطريقة غير صحيحة، حتى لو استخدمنا في
ذلك أبدع الحجج، ذلك هو الخطأ الأصلي أو الخطيئة الأولى، للفلسفة الديكارتية، وهو
الخطأ الذي يسيطر على تاريخ الفكر الحديث بأكمله، وأعني به شطر هذه الوحدة الأصلية
في ثنائية، والعجز بعد ذلك عن رأب الصدع أو سد الهوة التي فُتِحَت على هذا
النحو.
ويعتقد ستوت أنه — في فكرة الذات المتجسدة هذه — يتفق تمامًا مع آراء الناس
العاديين مثلما يرى عمومًا أن أية فلسفة لا يصح أن تُقْبَل ما لم تجد لها تبريرًا
في الموقف الطبيعي للإنسان؛ ومن ثَم فهو يرفض المذهب الروحي الميتافيزيقي ومقابله؛
أي المذهب المادي الميتافيزيقي، ولا يعترف بأن للعلوم الخاصة حق البت في هذه
المسألة، فلهذه العلوم حقًّا مهمة بحث كل من الجانبين (النفسي والفيزيائي) على حدة.
ولكنها لهذا السبب ذاته عاجزة عن حل المشكلة النفسية-الفيزيائية، وإنما يتمثل حل
هذه المشكلة في الوحدة الأصلية والكلية التي يتصف بها الذهن المتجسد. وهذا أمر لا
يتكشف إلا للفلسفة. وهكذا يمكن الآن إدراك جوانب مختلفة من موقف ستوت من خلال وجهة
نظر موحدة، هي فكرة التضامن (أو الوحدة) solidarity
التي يحرص دائمًا على إبرازها، فكما حرص من قبل على إظهار تضامن المحسوس والموضوع
الفيزيائي؛ فهو يسعى الآن إلى أن يثبت تضامن النفس والجسم، وأن يوضح — في إطار
ميتافيزيقي أعم — تضامن الفرد والعالم والمادة والذهن.
أما اللمحات الميتافيزيقية التي استباحها ستوت لنفسه في مؤلفاته التي نُشِرَت حتى
الآن؛ فهي تسير في اتجاه حل مثالي للمشكلة الكونية؛ فالمبدأ الروحي يحتل في الكون
الموجود موقعًا أساسيًّا مسيطرًا، والذهني والروحي شيء أصلي لا يشتق من أي شيء غير
ذهني؛ ولذلك فإن علينا أن نفترض ذهنًا أزليًّا شاملًا، يتكشف في عالم الأشياء
المتناهية المتغيرة الذي نسميه بالطبيعة، ويعبر عن نفسه فيه. ولكن هذا الذهن لا
يمكن أن يعزى إلى الطبيعة ذاتها أو يعد في هوية معها؛ إذ إن الطبيعة ليست وحدة
ثابتة في ذاتها؛ وبالتالي فهي ليست مجموع الوجود. فليس للطبيعة مركز خاص بها، بل
هي
تشير — متجاوزة ذاتها — إلى «موجود» يختلف عنها ويعلو عليها، هذا «الموجود» ينبغي
أن يكون روحًا أزلية محيطة بكل شيء، تسيطر على عمليات الطبيعة، وتدين لها بماهيتها
ومعناها.
(٢) وليم ماكدوجال William McDougall (وُلد في ١٨٧١م)٦
كان مدرسًا للفلسفة الذهنية في أكسفورد، ثم أصبح أستاذًا لعلم النفس، أولًا
بجامعة هارفارد، والآن في جامعة ديوك، في درام Durham بالولايات المتحدة الأمريكية.
مؤلفاته: «المبادئ في علم
النفس الفسيولوجي Primer of Physiological Psychology» ١٩٠٥م، «مدخل إلى علم النفس الاجتماعي An Intr. to Social Ps.»
١٩٠٨م (الطبعة الثانية والعشرون، ١٩٣١م)، «الجسم والذهن، تاريخ
مذهب شمول الحياة ودفاع عنه Body and Mind, History and a Defence of Animism» ١٩١١م، «علم النفس، دراسة للسلوك Ps., The Study of Behaviour»
١٩١٢م (الطبعة السادسة عشرة، ١٩٢٨م)، «الذهن
الجماعي The Group Mind» ١٩٢٠م (الطبعة الثانية، ١٩٢٧م)، «الرخاء القومي والانحلال
القومي National Welfare and National Decay» ١٩٢٢م، «معالم علم
النفس An Outline of Ps.» ١٩٢٣م، «الأخلاق وبعض مشكلات العالم
الحديث Ethics and Some Modern World Problems» ١٩٢٤م، «معالم علم النفس الانحرافي An Outline of Abnormal Ps.» ١٩٢٦م، «المادية الحديثة ومذهب
التطور الطافر Modern Materialism and Emergent Evolution» ١٩٢٩م، «طاقات
الناس، دراسة لأساسيات علم النفس الدينامي The Energies of Men: A Study of the Fundamentals of Dynamic Ps.» ١٩٣٢م، «الدين وعلوم الحياة Religion and the Sciences of Life»
١٩٣٤م، «حدود علم النفس The Frontiers of Ps.»
١٩٣٤م.
تمثل مؤلفات وليم ماكدوجال — في الوقت الراهن — أقوى تعبير عن علم النفس الإرادي voluntarist الذي استهله وورد، واصله
وليم جيمس وستوت وغيرهما، والواقع أن هذا الباحث الممتاز، الذي ظل يعمل في الولايات
المتحدة منذ عام ١٩٢٠م، هو أهم عالم نفس حي (بل أهم عالم أنجلو سكسوني بالمعنى
الواسع)، ويجوز أن يُسْتَثْنَى من ذلك ستوت، الذي يفوقه في دقة التحليل النقدي.
ولكنه لا يفوقه في تشعب جوانب اهتمامه العلمي، ولا في مدى تأثيره في العالم الأنجلو
سكسوني بأكمله. وفضلًا عن ذلك فإن علم النفس عند ماكدوجال يختلف عن نظيره عند ستوت،
الذي هو أقرب ما يكون إليه في القيمة والأهمية، من حيث إن جذوره تتغلغل على نحو
أعمق كثيرًا في نظرة فلسفية عامة، وإنه أقل اهتمامًا بكثير بالمسائل التحليلية
التفصيلية؛ فهو يسعى دائمًا إلى التقدم إلى مشكلات ذات نطاق أشمل، وإلى الوصول إلى
وجهة نظر تعد فلسفية بالمعنى الواسع. ولقد كانت وجهة النظر هذه، التي يمكننا أن
نطلق عليها مؤقتًا اصطلاحًا جافًّا، هو «المذهب
الإرادي voluntarism»، موجود بالقوة دائمًا في علم النفس عند ماكدوجال؛ إذ
كانت تكمن فيه وتتحكم في كل جزء منه، وتسيطر حتى على أكثر أبحاثه تخصصًا، وإلى هذه
الحقيقة يرجع ما اتصفت به آراؤه كلها من وضوح في الوجهة، ووحدة في النمط لا تخطئها
العين، واشتراك في الهدف، وهو أمر تتميز به هذه الآراء عن معظم أنماط البحث في علم
النفس في يومنا هذا.
ولا يفوق مؤلفات ماكدوجال في اتساع نطاقها سوى مؤلفات فنت Wundt ووليم جيمس؛ فهي تتناول أشد ميادين علم النفس تباينًا، وتمتد
بعد ذلك إلى المسائل الإشكالية في نظرية المعرفة والمنطق والأخلاق والميتافيزيقا
والدين والتفسير العام للحياة؛ غير أن المركز الذي تتلاقى فيه كل هذه الأشعة هو
علم
النفس الذي يشمل عنده فروعًا لهذا العلم متباينة أشد التباين، مثل علم النفس
التجريبي والفسيولوجي، وعلم نفس الحيوان والطفل، ودراسة الذهن الفردي والاجتماعي،
والظواهر الغيبية والمنحرفة، والطابع القومي والشخصي، والحياة النفسية للبدائيين.
ولقد استخدم ماكدوجال كل المناهج: التجريبي والاستبطاني والتحليلي والوصفي
والسلوكي، وناقش مشكلات تتعلق بالمبادئ الأولى (كمشكلة طبيعة الذهن الأساسية
وتركيبه والعلاقة بين الجسم والنفس)، كما عالج
علم النفس من وجهه النظري، وفي تطبيقاته العملية، وقام بدراسات نقدية عارض فيها
المدارس والاتجاهات المخالفة له؛ أي إنه — بالاختصار — سار في البحث النفسي في كل
اتجاه، وحرث الحقل بأكمله على أوسع مدى. ولكن ينبغي التنويه بوجه خاص — بين هذا
كله
— بجهوده في علم النفس الاجتماعي؛ إذ إن هذا هو الفرع الذي حقق فيه أعظم نجاح له
(وذلك في كتابيه «مدخل إلى علم النفس الاجتماعي» و«الذهن الجماعي». وقد طبع أولهما
اثنتين وعشرين طبعة)، وحيثما اتجهت أبحاثه كانت النتيجة دائمًا مفيدة مشجعة، ورغم
أن هذه الأبحاث قد شقَّت قطعًا أرضًا جديدة، فإن فصلها الأكبر إنما ينحصر في عودتها
بعلم النفس إلى المسالك القديمة المطروقة، فجنبته بذلك مظان الجمود ومهاوي الخطأ،
مع انتفاعها على الوجه الأكمل من مكاسبها الجديدة.
ومن السهل تحديد وجهة نظر علم النفس هذا من الناحية التاريخية، بل إن ماكدوجال
نفسه قد عرض مرارًا المقدمات التاريخية لآرائه، وميزها بدقة عن تلك التي يرتكز
عليها خصومه،
٧ ولو تأملنا تطور علم النفس في نظرة سريعة جامعة؛ لأمكننا تمييز اتجاهين
متعارضين بشدة، يسميهما ماكدوجال — مقتبسًا عن نيتشه تمييزه المشهور — باسم الاتجاه
الأبولوني والاتجاه الديونيزي، ويقترب معنى هذين التعبيرين كل الاقتراب من تعبيري
«علم النفس من غير نفس» و«النفس بنفس»؛ فالمسألة الحاسمة هي ما إذا كان تصور النفس
يظل محتفظًا به بأي معنى حافل أو أصيل، أم أنه يفكك إلى مجموعات من الحوادث أو
التجارب النفسية، ويقضي عليه تبعًا لذلك؛ ففي الحالة الأولى نكون إزاء تفسير للحياة
الذهنية على أنها في أساسها وحدة عضوية (قد تكون جوهرية أو وظيفية أو من أي نوع
آخر). وفي الحالة الثانية تفسر الحياة الذهنية على أنها نظام آلي
mechanism، ويتتبع ماكدوجال التيار الآلي في علم
النفس حتى يرجعه إلى ديمقريطس، والتيار العضوي إلى أرسطو، ويبين كيف أن التيارين
يسيران جنبًا إلى جنب دون انقطاع تقريبًا طوال التاريخ الكامل للتفكير الغربي،
ويناضل كل منهما ضد الآخر في سبيل السيطرة. وفي العصر الحديث يبدأ تيار التفسير
الآلي عند ديكارت، ويمضي (على نحو كانت له فيه الصدارة الواضحة في البداية)،
مارًّا بفلسفة الطبيعة عند نيوتن، وبمذهب شمول
الألوهية عند اسبينوزا، وبأفكار أصحاب مذهب الألوهية الطبيعية، وعصر التنوير،
ونظرية «الأفكار» عند لوك، وعلم النفس الترابطي في القرن الثامن عشر (هيوم وهارتلي)
ثم يواصل سيره، مارًّا بمذهب كونت والداروينية والهيجلية الجديدة ذاتها حتى العصر
الحاضر، حيث يتمثل في آخر مظهر له في مذهب التطور الطافر. وفي المذهب السلوكي (وهو
في نظره «قزم قميء زري الهيئة») وفي كتاب «تحليل الذهن» لرسل («إن رسل … قد انحط
بهذا المذهب إلى أدنى درك من التفاهة»)، وفي اتجاهات أخرى عقلية
intellectualist، ومادية على نحو صريح أو ضمني. أما
التيار «الديونيزي» المضاد فلا يظهر في بداية فلسفة العصر الحديث إلا في حالة
منفصلة، عند «بيمه
Böhme» وباسكال، ثم يظهر بصورة
أقوى في الحركة الرومانتيكية بين الشعراء (جيته وورد زورث وكولريدج) وبين الفلاسفة
الألمان (شلنج وأوكن
Oken)
٨ وفي اسكتلندا (هتشسون ودوجالد ستيورات)، بل يظهر أحيانًا حتى في فرنسا
(مين دي بيران)، وفي مذهب اللذة عند بنتام. ولكن بصورة مشوهة، واشتد هذا التيار
قوة
عند مجموعة من الكتاب مثل شوبنهور وإدوارد فون هارتمان، ولوتسه، ونيتشه، وانساب
إلى
العالم المعاصر من خلال قنوات متعددة تتمثل في فلسفة برجسون. وفي التحليل النفسي.
وفي المذهب البرجماتي، والمذهب الحيوي، وفي علم النفس الشخصي عند و. شتيرن
W. Stern،
٩ وفي علم النفس الفلسفي عند شبرانجر
Spranger،
١٠ وفي «علم النفس الذهني» عند إريزمان
Erismann١١ وياسبرز، وفي نظرية الجشطلت عند كولر
Köhler وفرتيمر
Wertheimer، وفي
علم الشخصية
Charcaterology عند كلاجس
Klages١٢ وبرنتسورن
Prinzborn،
١٣ وأخيرًا في أعمال وورد وستوت وبرنتانو وكولبه وجيمس ومونستربرج (وإن
يكن ذلك بطريقة مضطربة متقلبة في حالة الأخير).
فإذا ما بدا هذا العرض موسعًا أكثر مما ينبغي؛ فمن الصحيح مع ذلك أن آراء
ماكدوجال تسفر عن تحديد لفكرة أرسطو القديمة في النفس، وترتبط بكل ما خلفه التراث
الأرسطي من آراء في علم النفس. ولكنها تمثل — من الناحية السلبية — تحديًا صارمًا
لكل نظرية في علم النفس لها نزعة طبيعية أو آلية أو حسية قائمة على الانفصال
المطلق، فضلًا عن أية نظرية ذات نزعة
عقلية intellectualist، وكل مذهب في الموازاة بين المجالين النفسي والفيزيائي، وكل
تفسير للمجال النفسي من خلال المقولات الفيزيائية، ولا شك أن البيولوجيا المرتكزة
على المذهب الحيوي لا الآلي، حين تفسر النفس بأنها مبدأ باعث للحياة، وتفسر الذهن
من خلال معنى الحياة، التي يمتد الذهن بقدر امتدادها، وإن لم يكن في هوية معها،
لا
شك أن البيولوجيا تعد في هذا مدخلًا هامًّا إلى علم النفس، وتكتسب العمليات الحية
دلالة تلقي ضوءًا كبيرًا على العمليات النفسية. وهكذا يتضح أن المقولات البيولوجية
— كالكائن العضوي والكلية والإنتلخيا Entelechy
(أو الكمال) والقوة الحيوية — أكثر ملاءمةً بكثير لبحث «النفس psyche» وظواهرها من مقولات الفيزياء والكيمياء التي تنشأ في مجال
مختلف تمامًا، هو مجال المادة غير الحية، فعلم النفس عند ماكدوجال يتأثر بقوة «من
أدنى» بآراء البيولوجيا المرتكزة على المذهب الحيوي، على حين أنه يكشف «من أعلى»
عن
وجهة نظر العلوم الذهنية، وبذلك يفي بواحد من مطالبها الأساسية، وهو ألا يفسر
الأعلى بالأدنى، بل العكس؛ غير أننا لا نجد عند ماكدوجال أي خط فاصل بين المستويات
الثلاثة: الحياة والذهن والروح. فهذه المستويات تنتقل الواحد منها إلى الآخر على
الدوام، ويضيء كل منها الآخر بحيث تزول الحدود بينها. وهذا يتضح بوجه خاص في حالة
المبدأ الذهني والروحي، اللذين لا يتميزان الواحد عن الآخر إلا تميزًا ضعيفًا. إن
كانا يتميزان أصلًا.
وعلى ذلك فليس مما يدعو إلى الدهشة أن نجد ماكدوجال يخصص كتابًا كبيرًا (هو
«الجسم والذهن») من أجل «الدفاع عن شمول الحياة
animism»، وهو يقصد بهذا اللفظ الذي ساءت سمعته
في هذه الأيام، معنى لا يختلف كثيرًا عن التفسير الروحي الغائي للحياة النفسية،
وهو
التفسير الذي يتبدى في كتبه الأخرى أيضًا. ولكن مع تأكيد أقل للنتائج الفلسفية
العامة لهذا الرأي، فمذهب شمول الحياة هو نقيض المذهب المادي، سائرًا إلى أبعد
مداه. وهنا أيضًا نجد ماكدوجال يوجه أعنف نقد له إلى «العقيدة المادية»، مقتنصًا
إياها حتى في أبعد مخابئها؛ فالعالم العضوي — من مستوى الحياة حتى مستوى الروح —
يخضع لعوامل وقوانين تختلف تمامًا عن العوامل والقوانين الآلية، ونحن نصادف فيه
على
الدوام مبادئ غائية كالمعنى والمقصد والغرض والهدف … إلخ، وكلما ارتفعنا في سلم
النمو، ازدادت هذه المبادئ سيطرة على الميدان، حتى تصل إلى النفس البشرية فتتحكم
فيها تمامًا؛ أي إنها أكثر من مجرى للوعي، ولا يمكن الاعتقاد بأنها تتألف من عناصر
أو أجزاء أو جسيمات ذرية اجتمعت دون ترتيب، بل الأصح أنها تمثل وحدة من نوع آخر
تمامًا، لا شبيه بها في عالم الفيزياء، فوحدة الوعي الفردي حقيقة أساسية. وينبغي
أن
نستنتج من ذلك أن لها أساسًا يختلف تمامًا عن محتوياتها المتغيرة. وهذا هو المقصود
عندما نتحدث عن الذات النفسية، أو الذات فقط أو الذهن أو الروح.
ومما يثبت بوضوح أن الوعي لا يستنفد كله في محتواه — الحسي أو غيره — أن من أهم
صفاته الأساسية: «المعنى». وينبغي أن يلاحظ أن هذه هي ذاتها السمة التي تجاهلها
علم
النفس الآلي في المذهب الترابطي، ويرجع الطابع الفريد «للمعاني» إلى عدم وجود مقابل
فيزيائي لها في الجهاز العصبي. فكل نشاط نفسي — من إدراك حسي وفكر وحكم أو أي شيء
آخر — تسري عليه فاعلية المعاني. وهذه تكون الأساس الحقيقي للارتباط بين الانطباعات
المتلقاة والحالة النفسية التي تثيرها الانطباعات؛ ذلك لأن مجرد القبول السلبي
للانطباعات لا يمكنه أن يثير في النفس أية استجابة، ولا بد من إضافة عامل المعنى.
وبهذا العامل وحده يستطيع النزوع أن ينطلق في فعل مناظر للانطباع. وهكذا لا يكف
ماكدوجال عن الاحتجاج بشدة، مؤكدًا أن الوعي لا يستنفد في المعطيات التي ندركها
بالاستبطان، والتي يمكننا وصفها؛ فهو يتضمن — إلى جانب هذه المعطيات — شيئًا آخر،
يصعب إدراكه أو وصفه إلى أبعد حد، هو نوع من العنصر الباقي الذي تستمد منه محتويات
الوعي معناها؛ غير أن إضفاء المعنى هذا يمثل أهم وظيفة للوعي، بل يمثل لبه الأساسي،
وهو نشاط واع موجه قصدًا إلى موضوع، فكون المرء واعيًا بأي شيء لا يعني فقط أنه
يملكه سلبيًّا، بل هو يعني ممارسة إيجابية فعالة على هذا الموضوع. وفي هذا يظهر
بوضوح ذلك الطابع الدينامي الأصيل للوعي، وهو طابع يمكننا أن نوضحه بتعبير سكوني
فنسميه بالمعنى الذي ينتمي إلى الوعي، ولو نظرنا إلى محتويات الوعي على هذا النحو،
لما كانت إلا الوسيط أو الحافز الذي يدفع الفاعلية إلى العمل ويحدد اتجاهها؛ فهو
تحد وحافز له في آن واحد.
ولكن فكرة ماكدوجال هذه توجَّه في الوقت ذاته الضربة القاضية إلى مذهب الملكات في
علم النفس Faculty-Psychology، وهو المذهب
المعرض للنقد بسهولة؛ ذلك لأنه ليس من الصحيح أن حياة النفس ناتج مركب لملكات
المعرفة والشعور والإرادة، التي تقطن كل منها في ركن مقفل عليها، بل إن كل عملية
ذهنية هي في الوقت ذاته معرفة وشعور وإرادة، ونحن نسمي الفعل إدراكًا حسيًّا أو
حالة شعورية أو نزوعًا للإرادة، تبعًا لسيطرة هذا الوجه أو ذاك من الأوجه السابقة،
كما أن ما نسميه بالتفكير ليس مجرد عملية نظرية. ولكنه في نفس الوقت انفعالي
وإرادي، بل إن العامل الإرادي يلعب فيه دورًا حاسمًا؛ فالرغبة في المعرفة شرط أساسي
لكل معرفة. وهكذا فإن المعرفة عملية تصل الإرادة من خلالها إلى هدفها، واكتساب
المعرفة هو الرضا الناشئ عن بلوغ هذا الهدف؛ ففي هذا كله يوجد إذن عنصر فعال أو
برجماتي يعمل بنشاط، ويمكننا تفسير الاتجاه الأساسي في علم النفس عند ماكدوجال بأنه
محاولة لتحويل ما هو سكوني — في جميع المجالات — إلى ما هو حركي أو دينامي، وتحويل
ما هو سلبي إلى ما هو إيجابي، ويمكن القول: إن جهود علم النفس الإنجليزي بأسره،
منذ
عهد «بين Bain»، قد اتجهت إلى هدف واحد، هو العلو
على المذهب الآلي الترابطي الذي تتغلغل جذوره في الفكر الإنجليزي، وإن لم يكن معظم
علماء النفس قد تجاوزوا أبدًا منتصف الطريق الموصل إلى هذا الهدف؛ غير أن أجرأ
المحاولات وأكثرها اتساقًا في هذا الصدد كانت دون شك محاولة ماكدوجال؛ إذ إننا نجده
يقلب فروض علم النفس الترابطي رأسًا على عقب، ويأتي بإصلاح من الجذور، يتبدى حتى
في
الحالات التي تبدو فيها النتائج التي بلغها والتعبيرات التي استخدمها مشابهة لما
هو
موجود لدى الترابطيين؛ ذلك لأنه حتى في هذه الحالات حدث تحول هام في النقطة التي
يقع عليها التأكيد، أو تحولت النغمة إلى مفتاح مختلف، ولنضرب لذلك مثلًا آخر:
فالإحساسات التي يقدمها لنا الإدراك الحسي ليست مواد جاهزة تنتظر من وعينا أن يتقدم
إليها، بل هي صفات للتجربة لا تبدأ في الظهور إلا على أساس استجابة الذهن لمنبه
فيزيائي، فترابطها ليس نتيجة لكونها ماثلة للحواس في آن واحد، أو في تعاقب مباشر،
بل إنه لا يحدث إلا إذا تلقاها الذهن متصلة على نحو ما. وهذا الاتصال بدوره لا يحدث
إلا إذا تحول الذهن إليها على أنها متصلة على هذا النحو؛ أي إذا أثارت نشاطه على
نحو ما، ولا بد أن يكون قد اتضح لنا الآن مدى اقتراب هذه النظرية من البرجماتية،
وسيزداد هذا ظهورًا فيما بعد.
ومما له دلالته أن ماكدوجال — في كتاب صغير نشره في ١٩١٢م («علم النفس، دراسة
السلوك») — قد انفصل تمامًا عن علم نفس الوعي، وعرض نتائجه من وجهة نظر جديدة
تمامًا هي «السلوك». وهكذا يعرَّف علم النفس هنا بأنه العلم الوضعي لسلوك الكائنات
الحية، هنا يظهر لفظ السلوك لأول مرة مثقلًا بالمعاني، وقبل أن يعلن جون واطسون
الأمريكي مذهبه «السلوكي» الذي أثار عواصف شديدة؛ إذ إن هذا المذهب لم يبدأ في
الظهور إلا بعد عام من ذلك التاريخ. ولكن من المهم أن نشير إلى أن النظريتين لا
تشتركان إلا في الاسم، وأنهما في الواقع متعارضتان تمامًا، فماكدوجال ينظر إلى
المذهب السلوكي عند واطسون على أنه آخر وأسخف مظهر لتلك السلسلة الطويلة من
النظريات الآلية التي أخذ هو على عاتقه، قبل كل شيء، أن يكافحها.
والسبب الذي حدا به إلى تعريف علم النفس بأنه دراسة السلوك هو أن السلوك هو الذي
يميز الكائنات الحية عن الجمادات؛ ذلك لأن مجال البحث في علم النفس، من وجهة النظر
القائلة «بشمول الحياة» عند ماكدوجال، يمتد إلى مجموع الأشياء التي وُهِبَت حياة
وبالتالي نفسًا؛ فالتغيرات في الأشياء الجامدة أو غير العضوية تتم من خلال عمليات
آلية، بينما التغيرات في العالم العضوي تحدث على شكل سلوك، ويتميز الأخير عن
الحوادث الآلية المحضة بأنه لا يتحدد من الخارج، بل يحدد ذاته من الداخل؛ أي إنه
شيء يستهدف غايات نتيجة لقوة باطنة فيه، ويستطيع تحقيق أغراض نشاطه الخاص. فهناك
إذن نوعان من التغير يؤثران في الموضوعات الخارجية: النمط الآلي المحض، ونمط الفعل
الغرضي أو السلوك، ومهمة علم النفس هي أن يبحث من أفعال الكائن العضوي أو من طرق
سلوكه ما يكون فيه الكائن العضوي فعالًا بكامله بوصفه وحدة منفردة، في مقابل علم
وظائف الأعضاء (الفسيولوجيا)، الذي لا يدرس إلا عمليات أجزاء الكائن العضوي أو
أعضائه الفردية، ويعرف السلوك تعريفًا أوثق عن طريق عدد من المعايير، من أمثلتها:
تلقائية الحركة، وبقاء النشاط مستقلًّا عن استمرار الانطباع الذي انطلق النشاط
بسببه، وتوقف الحركات بمجرد الوصول إلى تغير محدد في الموقف؛ غير أن أهم علامات
السلوك بلا منازع — أعني تلك التي تكمن في الأخريات كلها — هي غرضيته، والفعل
الغرضي هو ذلك الذي يتحكم فيه — حتى نقطة معينة — التنبؤ مقدمًا بنتائجه؛ فالغرض
يتوقع مقدمًا بوضوح بتفاوت مداه. وبهذا المعنى يكون كل نشاط نفسي بما هو كذلك، وكل
نشاط ذهني على التخصيص، غرضيًّا؛ فالغرضية تكون ماهيته، وهي تثبت أنها أهم مقولات
علم النفس على الإطلاق؛ وعلى هذا النحو يسمي ماكدوجال نظريته في علم النفس بأنها
نظرية «غرضية»، تمييزًا لها من كل نظرية آلية، أو نظرية تجزيئية — على حد تعبيره
—
في علم النفس.
هذه الفكرة تكفي للتعبير عن رأيه الأساسي، وحين يستبدل بلفظ «الغرضي»، التعبيرات
«غائي» أو «نزوعي» بمعنى conative، (أو
hormic التي يستخدمها أحيانًا، وهو لفظ مشتق من
hormê في اليونانية بمعنى النزوع)، فإن الأمر
لا يكون عندئذٍ إلا تغييرًا للمصطلح فحسب؛ فهو حين يسمي نظريته نزوعية hormic، لا يعني سوى أن هناك، في كل حياة عضوية
ونفسية وذهنية، وفي كل سلوك حيواني وإنساني، ميلًا أصليًّا حيويًّا نحو الفعل
الغرضي، يتجلى أولًا في صورة الغريزة، ثم يسير في المراحل العليا للتطور العضوي
في
مسالك أكثر وعيًا وذكاءً.
ولقد أشار ماكدوجال — عن حق — إلى التشابه بين «النشاط النزوعي» وبين إرادة
الحياة عند شوبنهور، و«الدفعة الحيوية» عند برجسون، والليبيدو عند أصحاب التحليل
النفسي، والقوة الحيوية عند أصحاب المذهب الحيوي … إلخ، ولسنا بحاجة إلى أن نشير
إلى أن هذا الاتجاه يبدي اهتمامًا كبيرًا بالغريزة، وأن العقل لا يفسر من خلال ما
يكونه بقدر ما يفسر من خلال مقولة الغريزة، التي نشأ منها العقل في رأي ماكدوجال،
والفرق بين الغريزة والعقل هو الفرق بين النزوع الفطري إلى الفعل الغرضي، وبين
القدرة على تحسين الاستعداد الأصلي بالانتفاع من التجربة الماضية، ويعد العرض
الدقيق الذي قدمه ماكدوجال للغرائز وعلاقاتها بالعواطف، من أهم ما ساهم به في علم
النفس؛ فهو الدعامة الأساسية التي يرتكز عليها البناء كله، سواء بالنسبة إلى علم
النفس الفردي أو علم النفس الاجتماعي، ولنختم هذا الجزء بفقرة تعبر بوضوح عن
الأهمية الكبرى التي يعزوها إلى الفعل الذي ينتمي إلى النوع الغريزي أو
التلقائي.
«إن الغرائز هي المحرك الأول لكل نشاط بشري؛ فعن طريق القوة النزوعية لغريزة ما
(أو لعادة مُستمَدَّة من غرائزنا)، ينتقل كل اتجاه فكري مهما بدا هادئًا مفتقرًا
إلى الانفعال، نحو غايته، ويبدأ كل فعل جسمي ويستمر … وليس كل الجهاز العقلي المعقد
في أرفع الأذهان نموًّا … إلا أداة تلتمس بها هذه النوازع إرضاءها، على حين لا تفعل
اللذة والألم شيئًا إلا إرشادها في اختيارها للوسائل. فإذا انتُزعت هذه الاستعدادات
الغريزية بنوازعها القوية، فلن يعود الكائن العضوي قادرًا على أي نوع من النشاط،
بل
يكون جامدًا بلا حراك، كأنه ساعة رائعة انتزع ترسها الأساسي، أو آلة بخارية انطفأ
مرجلها. فهذه النوازع هي القوى الذهنية التي تحفظ وتشكل حياة الأفراد والمجتمعات
بأسرها، وفيها نجد السر الأكبر للحياة والذهن والإرادة (من كتاب «مدخل إلى علم
النفس الاجتماعي»، ص٤٤).
وهناك — إلى جانب وورد وستوت وماكدوجال — مفكران آخران يجدر التنويه بهما في هذا
المقام، وهما ل. ت. هبهوس ولويد مورجان، اللذان أديا خدمات رائعة للأبحاث النفسية
في الميادين الخاصة وفي ميدانها العام أيضًا، ورغم أنه لا يمكن القول عنهما: إنهما
ينتميان دون شرط إلى الاتجاه الفكري الذي عرضناه الآن، فإنهما يتفقان معه في نقاط
متعددة، ولكنهما فيما عدا ذلك يسلكان طريقهما الخاص، ويحقق كل منهما في ميدانه
الخاص نتائج رائعة، ويكفينا أن نشير هنا إلى الأبحاث الرائدة التي قام بها مورجان،
وأبحاث هبهوس التي لا تقل عنها أهمية في ميدان علم النفس الحيواني، وأعمال الاثنين
في علم النفس المقارن، وجهود هبهوس في حل مشكلات علم النفس الاجتماعي. وينبغي هنا
أن ننوه بوجه خاص بالكتب الآتية، من بين مؤلفاتهما التي أشرنا إليها في سياق آخر؛
فمن كتب مورجان: «الحياة الحيوانية والذكاء» ١٨٩٠م، «مدخل إلى علم النفس المقارن»
١٨٩٤م، «العادة والغريزة» ١٨٩٦م، «السلوك الحيواني» ١٩٠٨م، «الغريزة والتجربة»
١٩١٢م، «الذهن الحيواني» ١٩٣٠م، ومن مؤلفات هبهوس: «الذهن في تطوره» ١٩٠١م، مقال
«علم النفس المقارن» في دائرة المعارف البريطانية، الطبعة الرابعة عشرة، ١٩٢٩م،
«النمو والغرض»، ١٩١٣م (طبعة مراجعة، ١٩٢٧م)، «الأخلاق في تطورها» ١٩٠٦م، «مبادئ
علم الاجتماع» ١٩١٨–١٩٢٤م، ولما كنا قد عرضنا لهذين المفكرين في جزء آخر من هذا
الكتاب؛ فقد تكون في هذه الإشارة الموجزة إليهما الكفاية في هذا المقام.
وتتناول أبحاث «أ. شاند A. Shand» (١٨٥٨–١٩٣٨م)
جزءًا خاصًّا من هذا الميدان، هو الجزء المتعلق بعلم نفس الشخصية، كما عرضه في
كتابه «أسس الشخصية Foundations of Character»
(١٩١٤م، الطبعة الثالثة ١٩٢٧م)، وهو كتاب بلغ بالفعل مستوى الكتب الكلاسيكية، في
هذا الكتاب يأخذ شاند على عاتقه مهمة إيضاح العوامل المكونة للشخصية الإنسانية
والعلاقات القائمة بين هذه العوامل، وكيف ترتبط هذه بدورها بوحدة الشخص أو بالشخص
كاملًا، وهو يوضح أولًا ثلاثة عناصر للشخصية ينبغي التمييز بينهما بوضوح، ويسميها
بالغريزة والانفعال والعاطفة، وهي تناظر المستويات الثلاثة للنمو الذهبي: مستوى
الحيوان والطفل والإنسان البالغ، أولى هذه المراحل هي الأكمل من حيث تنظيمها.
ولكنها في الوقت ذاته أكثرها ثباتًا وجمودًا؛ إذ إن العقل لا يمارس عليها إلا
تأثيرًا تعليميًّا طفيفًا، والثانية مرحلة انتقالية فحسب، بين شكل أدنى وشكل أعلى
للتنظيم، وهي في ذاتها لا تقدر على شيء، وتحتاج دائمًا إلى توجيه، والأخيرة هي أكثر
الثلاثة مرونة وأوسعها نطاقًا، وتنظيمها يظل ناقصًا على الدوام. وفي هذه المرحلة
وحدها يظهر التفكير والعقل والتحكم في الذات بصورة واضحة.
هذه العوامل الثلاثة — التي توجد متفرقة — بما فيها من سمات مميزة في المراحل
الثلاث للتاريخ التطوري، توجد أيضًا مجتمعة على نحو ما في شخصية الكائن البشري
الواحد، وتتحدد وحدة الشخصية بالمركب الذي تكونه؛ إذ تواجهنا أولًا مشكلة العلاقة
بين الغريزة والانفعال،
١٤ فالغريزة — كالعادة التي ترتبط بها ارتباطًا وثيقًا — وظيفة ثابتة
منتظمة مسالمة إلى حد بعيد، لا تبدي في سلوكها إلا تغيرًا طفيفًا، بحيث يتسنى لنا
التنبؤ بنتيجتها. أما الانفعال فيفتقر إلى الثبات والتنظيم، وتنطوي الأفعال
الانفعالية دائمًا على عنصر المفاجأة. وعندما يجتمع الانفعال والغريزة، تتجه
الأخيرة إلى تخفيف الأول وتهدئته. أما قيمة الانفعال بالنسبة إلى الغريزة؛ فهي
أولًا فيما يأتي به من طاقة يسيطر بها على موقف ما، وفي أن له نظامًا أعقد وأقدر
على التكيف بكثير. فكل التغيرات الكبيرة في الشخصية ترجع في أصلها إلى الانفعالات.
وعلى حين أن لكل غريزة — في رأي ماكدوجال — انفعالًا منفصلًا يرتبط بها. وينبغي
أن
يعد العنصر الثابت في السلوك الغريزي، فإن شاند يعكس هذا الرأي بأن يحاول إثبات
أن
الغريزة هي التي تمثل العامل الثابت في نشاط النظام أو الجهاز الانفعالي.
وهكذا تؤدي الغرائز إلى قدر من السيطرة على الانفعالات؛ غير أن وظيفة السيطرة
الأصيلة لا يمكن أن تأتي من جهاز أدنى، بل هي في يد جهاز أعلى وأشمل، يعبر عن الذات
على نحو أفضل بكثير مما تعبر به عنها وظيفة الغريزة الأولية البسيطة، ذلك هو جهاز
العواطف، التي يعد الحب والكراهية أهمها؛ فالعواطف هي ذلك الجزء من الشخصية، الذي
يحكم ويسيطر على كل الباقين، وله سلطة على الغرائز والانفعالات معًا، وهي المراكز
التنظيمية الحقيقية للشخصية أو أدوات السيطرة فيها، وهي تنظم الانفعالات، إما
بإضعاف ما هو أقوى مما ينبغي وتقوية ما هو أضعف مما ينبغي فيها، وإما يكبح ما هو
ضار، أو استبعاده من الشعور وكبته على نحو يحول دون عودته؛ إذ لا يمكن أن يقضي على
جزء من الشخصية مثلما يقضي على موضوعات العالم الخارجي. ولكن يمكن أن يُكْبَت أو
يُقْمَع فحسب، وأخيرًا ينبغي أن نميز بين عامل آخر ينتمي إلى فئة العواطف، وبين
العاطفتين الأساسيتين، وهما: الحب والكراهية، وأعني به عامل الضمير الذي يؤدي طابعه
الفريد ذاته إلى جعل تفسيره عسيرًا، ويعرفه شاند بأنه مستودع لذلك الجزء من الآراء
الأخلاقية للجماعة، الذي نما فيه الفرد واتخذ منه سلطة موثوقًا بها، وهو ينمو —
بوصفه قوة حية في الشخصية — بنمو تجربة الإنسان في الحياة، ويرتفع فوق ذاتية
الانفعالات وتحيزها إلى مرتبة قوة موضوعية معيارية حقًّا.
على أن ظاهرة الشخصية لا تستنفد في نطاقها وعمقها الكامل في كل ما يتبدى «بالفعل»
على صورة غرائز وعادات وميول وشهوات وانفعالات وعواطف، وهي التي تعبر — بعلاقاتها
المتبادلة المتعددة — عن الوحدة التركيبية للشخصية؛ فالعامل الموجود «بالقوة» في
الشخصية؛ أعني سوابقها وأسسها الكامنة، يمتد أبعد كثيرًا من ذلك الجزء المنظور الذي
يصل إليه التفسير منها، ذلك هو اللغز الأزلي، الذي يتجاوز حله نطاق قدرتنا، والذي
يمثل حدًّا لا يتعداه كل بحث في «علم الشخصية».
ولنتحدث الآن عن «تشارلس
سيبرمان
Charles E. Spearman» (وُلد في ١٨٦٣م،
١٥ وكان أستاذًا بجامعة لندن، ثم تقاعد في ١٩٣١م)، وعن المؤلفات التي جمعت
أهم نتائج أبحاثه، وهي: «طبيعة
الذكاء ومبادئ المعرفة
The Nature of Intelligence and the Principles of Cognition» (١٩٢٣م)، و«قدرات الإنسان،
طبيعتها ومقاييسها
The Abilities of Man, Their Nature and Measurements» (١٩٢٧م)، و«الذهن الخلاق
Creative Mind» (١٩٣٠م)، و«علم النفس عبر العصور
Ps. Down the Ages» (١٩٣٧م). ولقد تخصص سيبرمان أساسًا في علم
النفس المعرفي والذكاء، وحاول أن يرفع هذا المبحث إلى مرتبة العلم الدقيق بالمعنى
المعروف في الفيزياء، وأن يكشف المناهج التي يمكن بها قياس الظواهر النفسية
وتحديدها رياضيًّا، وهو يرى أن كل الحوادث النفسية، شأنها شأن كل الحوادث
الفيزيائية، يمكن أن تُرَد إلى عدد بسيط من المبادئ التي يمكن صياغتها بدقة، ويطلق
على هذا اسم «الرأي التجديدي
neogenesis» تمييزًا
له من علم النفس المرتكز على فكرة الملكات وفكرة الترابط. وهكذا يعرض ثلاثة قوانين
تجديدية أساسية: (١) إدراك التجربة، (٢) استخلاص العلاقات، (٣) استخلاص المتضايفات؛
وهذه القوانين تتعلق بالطابع الكيفي للعمليات المعرفية، ثم خمسة مبادئ أخرى ذات
طابع كمي. وفي هذا كله نجد الكثير مما يذكرنا بالقواعد القديمة للتداعي، رغم اختلاف
الصياغة واقتناع المؤلف بأن نظريته جديدة تمامًا. كذلك قام سيبرمان بدراسة فاحصة
لطبيعة الذكاء البشري، مستخدمًا أيضًا المناهج التجريبية والقياسات الدقيقة و«نظرية
العاملين
Theory of Two Factors» عنده معروفة؛ فهو
يميز بين عاملين في كل القدرات الذهنية للإنسان: عامل «عام» وعامل «خاص أو نوعي»؛
فالعامل العام مع تغيره بحرية من فرد إلى آخر، يظل على ما هو عليه بالنسبة إلى جميع
القدرات المترابطة في الفرد الواحد، أما العامل الخاص أو النوعي فلا يتفاوت من فرد
إلى آخر فحسب، بل يتفاوت أيضًا من مقدرة إلى أخرى في الفرد الواحد؛ وعلى هذا النحو
يرمي سيبرمان إلى تشييد علم نفس تدعمه التجربة، ويقوم على قوانين ومبادئ يمكن
استنباطها تجريبيًّا بمناهج رياضية دقيقة.
ويسير عمل «جيمس دريفر James Derver» (وُلد في
١٨٧٣م، وهو أستاذ علم النفس بجامعة إدنبرة) في اتجاه مماثل؛ فقد طبق علم النفس في
خدمة علم التربية، وحاول — مثل شاند وماكدوجال — أن يوضح العلاقة بين الغريزة
والانفعال؛ فهو يرفض الرأي القائل: إن كل نشاط غريزي يشتمل بالضرورة على سَوْرة
انفعالية، ويرى أننا لا نشعر بالانفعال إلا عندما يتقدم النزوع الغريزي أو يعاق
في
سعيه إلى بلوغ غايته، وأن هناك غرائز معينة — كالتقليد واللعب — لا تقترن بأي
انفعال مصاحب لها، (انظر كتاب «الغريزة في
الإنسان، مساهمة في علم النفس التعليمي (التربوي) Instinct in Man, A Contribution to the Ps. of Education» (١٩١٧م)،
«علم النفس في الصناعة The Ps. of Industry»
١٩٢١م، «مدخل إلى علم النفس
التعليمي (التربوي) Intr. to the Ps. of Education» (١٩٢٢م) وأخيرًا يمكننا أن نذكر، من بين
الكُتَّاب الأحدث عهدًا، الذين اكتسبوا شهرة: روبرت تاولس Robert H. Thouless، محاضر علم النفس بجامعة
جلاسجو، في كتبه: «مدخل إلى
علم النفس الديني An Intr. to the Ps. of Religion» ١٩٢٣م، و«علم
النفس الاجتماعي Social Ps.» ١٩٢٥م الطبعة الثانية، ١٩٢٧م)، «السيطرة على الذهن (ضبط الذهن) The Control of the Mind»
١٩٢٧م، «التفكير المستقيم
والمعوج Straight and Crooked Thinking» سنة ١٩٣٠م.
وسوف نتحدث هنا عن ثلاثة اتجاهات أجنبية كان لها تأثير قوي في علم النفس
الإنجليزي، هي المذهب السلوكي ونظرية الجشطلت والتحليل النفسي.
فلقد أثارت آراء جون واطسون، عالم النفس الأمريكي، ومؤسس المذهب السلوكي،
اهتمامًا كبيرًا في إنجلترا، وإن لم تجد هناك من يجعل نفسه ممثلًا لها بحق؛ فقد
رفضها العلم الإنجليزي على وجه الإجمال؛ إذ تبين أنها — رغم ثوبها الجديد — مجرد
بقية متخلفة من التراث الآلي القديم، الذي أصبح عتيقًا باليًا بعد تطور علم النفس
منذ «بين
Bain»، وكل ما في الأمر أنه ظهرت هنا
وهناك آثار لهذا المذهب. وينبغي أن يلاحظ أن مفكرًا كبيرًا مثل رسل (وكذلك برود.
ولكن بدرجة أقل) لم يستطع أن يفلت تمامًا من إغرائها. أما موقف علماء النفس
الإنجليز من نظرية «الجشطلت» فهو أكثر إيجابية بكثير. ولقد لقيت هذه النظرية
استقبالًا أشد حرارة لأنها كانت تحارب نفس المعركة ضد المذهب الآلي الترابطي، وهي
المعركة التي خاضها علم النفس الإنجليزي منذ عهد «وورد». وقد ظهرت ترجمات إنجليزية
للمؤلفات الرئيسية «لكوفكا
Koffka»
١٦ و«كولر
Köhler»،
١٧ وهي تدرس باهتمام ويستفاد منها كثيرًا، بل لقد استخدم لفظ «الجشطلت» —
الذي لم يظهر له مرادف إنجليزي مناسب — بوصفه مصطلحًا فنيًّا.
أما التحليل النفسي فقد خاض معركة ظافرة في
إنجلترا، بل إنه أحرز نجاحًا شعبيًّا يفوق ما أحرزته أية حركة أخرى منذ الداروينية.
ولقد كان تغلغله في إنجلترا أعمق من تغلغله في البلاد الألمانية، وامتد تأثيره في
أوسع الأوساط، وفي أشد ميادين الحياة الذهنية تباينًا. وقد تُرْجِمَت إلى
الإنجليزية مؤلفات فرويد وآدلر وبونج وغيرهم من المحللين النفسيين، وانتشرت
انتشارًا واسعًا، ولا شك أن أقوى تأثير كان هو تأثير مؤسس الحركة، غير أن يونج
بدوره قد لقي اهتمامًا وتقديرًا كبيرًا، وذلك في الأوساط الأكاديمية على الأقل،
وأكبر أنصار التحليل النفسي في إنجلترا هو الطبيب «إرنست جونس Ernest Jones» عميد معهد التحليل النفسي ورئيس الجمعية البريطانية
للتحليل النفسي، كما يمكننا أن نذكر من بين أسماء أنصار آخرين كثيرين له: اسم
«متشل T. W. Mitchell»، وهو بدوره طبيب ويشرف
على تحرير «المجلة البريطانية لعلم النفس الطبي». كذلك لم تفلت الفلسفة المتخصصة
من
تأثير هذا الاتجاه في البحث، وإن يكن ينبغي أن نشهد لها — بفخر — أن موقفها العام
منه كان موقفًا نقديًّا متحفظًا، وأنها ظلت محصنة ضد العدوى الشديدة.
غير أن هذا لا يمكن أن يقال بنفس الدرجة على حركة أقدم كثيرًا، وأوسع في نطاقها
وأبعد في تأثيرها من التحليل النفسي ذاته، وهي حركة تستحق أن نمر عليها هنا بسرعة،
وأعني بها «علم النفس الهامشي
parapsychology»، أو
ما يسمى في البلدان الأنجلوسكسونية بالبحث النفساني (الروحاني)، فمهما كان من ميل
المرء إلى رفض هذه الحركة من وجهة النظر الفلسفية، فإن النجاح في إنشاء «جمعية
الأبحاث النفسانية» عام ١٨٨٢م ينبغي — على أية حال — أن يعزى إليه فضل إرشاد أصحاب
الشطحات الجامحة من الباحثين الغيبيين والروحانيين إلى طريق المنهج العلمي، ويرجع
الفضل الأكبر في إنشاء هذه المؤسسة إلى جهود «ميرز
F. W. H. Myers» (١٨٤٣–١٩٠١م)، وهو أهم شخصية في السلسلة الطويلة من
«الباحثين النفسانيين»، كما يرجع نجاحها إلى تضافر هدجسون
R. Hodgson وأ. جيرني
E. Gurney
وأ. بودمور
E. Podmore وهنري سدجويك، الذي
أصبح أول رئيس لها. ومن الأعضاء البارزين الآخرين في السنوات الأولى، بالفور
A. J. Balfour، وأندرو لانج
Andrew Lang والمسز سدجويك، والشاعر تنيسون. وقد أصبحت الجمعية
اليوم في حالة مزدهرة، وأخذت على عاتقها مهمة البحث — بطريقة علمية بحتة — في
الظواهر النفسية الهامشية
parapsychic (وفي
الظواهر الفيزيائية الهامشية
paraphysical
أيضًا، ولكن بتحفظ أكبر)، مثل انكشاف الحجاب والاستشفاف وانتقال الأفكار والوساطة
والقياس النفسي والاتصال
المتشابه
cross-correspondence١٨ والتنويم المغناطيسي والرؤية البلورية
١٩ والمشاهدات
apparitions، وهي تصدر
نشرات منتظمة («الأعمال
proceedings» التي ظهر
منها ما يربو على أربعين مجلدًا)، ومجلة دورية شهرية (المجلة البريطانية للأبحاث
النفسانية)، والكتابان الكلاسيكيان، من بين مؤلفات هذه الحركة، هما: «تخييلات الأحياء
phantasms of the Living» (في مجلدين،
١٨٨٦م، طبعة مختصرة في ١٩٢٣م) الذي اشترك في نشره جيرني
Gurney وميرز
Myers وبودمور،
والأهم من ذلك: الكتاب الرائد الذي ألفه ميرز بعنوان، «الشخصية الإنسانية
وبقاؤها بعد الموت البدني
Human Personality and Its Survival of Bodily Death» (في مجلدين، ١٩٠٣م، طبعة مختصرة في
١٩٢٦م و١٩٣٥م).
ولقد تجلت العبقرية في تأليف هذا الكتاب، ولا شك في أنه — في غوصه في أعماق
المشكلات — يُعَد أهم ما حققه البحث في «علم النفس الهامشي» حتى يومنا هذا. ولقد
كانت المشكلة الكبرى التي بُحِثَت في هذا الكتاب بحثًا شاملًا، مكملًا لجهود
شوبنهور وأ. فون هارتمان وفشنر
Fechner، هي مشكلة
اللاشعور أو ما دون الشعور؛ أي الميدان الكامل للظواهر التي تقع تحت عتبة الوعي.
وقد نحت «ميرز» للتعبير عن هذا الميدان عبارة
subliminal
self٢٠ (ويمكن ترجمتها «بالذات دون العتبية») وهي العبارة التي اشتهرت منذ ذلك
الحين، ووجد فيها الخيط الموجه الذي قاده في أمان خلال متاهات الأحوال النفسية
الشاذة، وجمع تحت تصور موحد ظواهر شديدة التباين، كالنوم والحلم والذاكرة والتنويم
المغناطيسي والهستيريا والهلوسة والسماع المفاجئ والاستشفاف وانكشاف الحجاب … إلخ،
وبذلك امتد نطاق فكرة الذات والشخصية الإنسانية امتدادًا هائلًا، وفتح صمام عالم
«ما دون العتبة» بأسره، فتدفق منه بغزارة، بحيث لم يبد عالم «ما بعد العتبة» — وهو
عالم الوعي — إلا على أنه قطاع صغير نسبيًّا من كل نفسي موسع إلى أبعد حد، وتلي
هذا
الكتاب أهمية: مؤلفات فرانك بودمور
Frank Podmore
(١٨٥٥–١٩١٠م)، وهي «المشاهدات (الرؤى) ونقل الأفكار
Apparitions and Thought Transference» (١٨٩٤م) و«دراسات في الأبحاث
النفسانية
Studies in Psychical Research» (١٨٩٧م) وأهم من هذين كتاب «المذهب الروحاني الحديث،
تاريخ ونقد
Modern Spiritualism, a Hist. and Criticism» (في مجلدين، ١٩٠٢م) وهو كتاب أساسي واسع الآفاق، تظهر
فيه مقدرة المؤلف الكبيرة، وهو في الوقت ذاته ينظر بعين النقد والشك الشديد إلى
ما
يسمى بالوقائع الغيبية أو الروحانية.
ولسنا بحاجة إلى إيراد مزيد من أسماء الكتب التي لا تُعَد ولا تُحْصَى مما أنتجه
غير هؤلاء من «الباحثين». ولكن يكفينا أن نضيف أسماء بعض الشخصيات المشهورة التي
اشتركت في أعمال هذه الحركة، وساعدت على زيادة قوتها الدافعة، فإلى جانب الفيلسوفين
سدجويك وبالفور، اللذين بحث أحدهما وسيبحث الآخر في سياق آخر من هذا الكتاب، فإن
الحركة استرعت اهتمام وعطف علماء فيزيائيين مشهورين، مثل «السير وليم باريت Sir William F. Barrett» (١٨٤٤–١٩٢٥م)
والسير وليم كروكس Sir W. Crookes
(١٨٣٢–١٩١٩م) والسير أوليفر لودج. وقد كان لهذا الأخير بوجه خاص دور كبير في نشر
الاهتمام بهذه المسائل بين قطاعات واسعة من الجمهور، وفيما يلي بعض الكتابات
المتعلقة بالموضوع، من كتابات «باريت» الذي أجرى تجارب على نقل الأفكار منذ العقد
الثامن من القرن الماضي، «البحث
النفساني Psychical Research» (١٩١١م) و«على عتبة المجهول
(اللامنظور) On the Threshold of the Unseen» (١٩١٧م)، ومن كتابات كروكس، «القوة النفسانية والمذهب
الروحاني الحديث Psychic Force and Modern Spiritualism» (١٨٧٤م)، ومن كتابات لودج «بقاء الإنسان The Survival of Man» (١٩٠٩م) و«ريموند أو الحياة والموت Raymond, or Life and Death»
(١٩١٦م) وكتابات أخرى كثيرة. أما من بين علماء النفس؛ فقد كان ماكدوجال أكبر من
نبه
إلى الأهمية العظيمة لهذا الميدان في الدراسة، كما أن أبحاث وليم جيمس في علم النفس
الديني وغيره من الموضوعات قد خدمت قضيته كثيرًا، ومن هذا المصدر ذاته اكتسب المذهب
البرجماتي اتجاهًا معينًا، يتبدى أيضًا في ممثله الإنجليزي الرئيسي «شيلر F. C. S. Schiller» انظر («دراسات في النزعة
الإنسانية»، ١٩٠٧م، الفصل ١٧، و«مشكلات الاعتقاد»، ١٩٢٤م، ص٦٦ وما يليها)، بل إننا
نجد موافقة على هذه المسائل وتعاطفًا معها بل واهتمامًا فعليًّا بها، في كتابات
رسل
وبرود مثلًا، ولسنا بحاجة إلى أن ننبه على نحو خاص إلى أن هؤلاء، وكذلك غيرهم،
يظهرون تراخيًا في الحذر النقدي والتحفظ الذي هو لازم في هذا الميدان الخطر، وما
أظن أنه مما يشرف الفلسفة الإنجليزية الحديثة أن مثل هذا العدد الكبير من المفكرين
والباحثين الذين ينبغي أخذهم مأخذ الجد فيما عدا ذلك من الأمور، قد أثبتوا في هذا
الميدان مثل هذا التهور والمخاطرة.