الفصل الثامن
المذهب الألوهي وفلسفة الدين
يسري على هذا الفصل ما قلناه من قبل في صدد الفصل الرابع من الباب الأول من هذا
الكتاب، من أننا لا نعتزم تقديم عرض شامل أو جامع للفكر الديني في الفترة الأخيرة،
بل
سنكتفي ببحث بعض الأنماط البارزة للوعي الديني، كما يتبدى في الجيل الماضي والحالي،
باستثناء تلك التيارات الفكرية التي عرضنا لها من قبل. فنحن لا نعتزم هنا — مثلما
لم
نكن نعتزم من قبل — أن نوغل في البحث حتى نصل إلى ميدان اللاهوت، بل سنختار للبحث
أولئك
المفكرين الذين كان اهتمامهم يرتكز حقًّا في الميدان اللاهوتي. ولكن ينبغي أن يعدوا
من
ذوي الأهمية بالنسبة إلى الفلسفة. وهكذا سنستبعد ما يعرض في حدود الإيمان الكنسي
أو
الطوائفي التقليدي، سواء أكان متحررًا أم محافظًا، أنجليكانيًّا أم رافضيًّا nonconformist، دون أن يكون له أي طابع فلسفي خاص به
إلى جانب هذا الطابع اللاهوتي، فضلًا عن مختلف المحاولات التي بذلت من الجانب الديني
للتوفيق بين التعاليم المسيحية، وبين العلم الحديث، وهي محاولات أصبح معظمها ذا شكل
رتيب مألوف. وهكذا فلن يكون لنا شأن — من وجهة النظر هذه — بالمحاولات والمذاهب
الألوهية عند فيربيرن A. M. Fairbairn، وبروس A. B. Bruce وويس H. Wace وجواتكن H. M. Gwatkin،
ودوق أرجيل Duke of Argyll وليندسي J. Lindsay وجالواي G. Galloway وتينانت F. R. Tennant،
وكثير غيرهم. ولكن ينبغي علينا أيضًا أن نستبعد كل أولئك الذين بحثوا في سياق آخر،
وأولهم الكتاب المثاليون الجدد الذين أثاروا اهتمامًا قويًّا بمشكلات الدين والفلسفة
الدينية، وذلك — من جهة — للارتباطات الكنسية القوية لهذه المشكلات. ومن جهة أخرى
نظرًا
إلى طبيعة أبحاثها. وعلى ذلك فإنا نُحيل القارئ في هذا الموضع إلى الشروح السابقة،
كتلك
التي علقنا بها على مذاهب أ. وج. كيرد وورد وبرنجل-باتيسون وراشدال وسورلي ولوري
وتيلور
ووب Webb وتمبل وغيرهم، وهي مذاهب كانت ألوهية
تمامًا، أو انتهت إلى نوع من المذهب الألوهي، ولو قارنا بعض الاتجاهات المعاصرة،
من حيث
قدرتها التأملية الدينية — بالحركة المثالية — لكان لهذه الأخيرة المكانة العليا
بالنسبة إلى غيرها في معظم الأحوال.
وينبغي ألا يفوتنا في هذا الصدد الكلام عن أقوى حافز تلقته في الآونة الأخيرة الفلسفة
ذات الطابع الديني؛ أي تلك التي لم تظهر من خلال إحدى طوائف الكنائس المسيحية، وأعني
بهذا الحافز: منحة إلقاء المحاضرات التي أسسها ووهبها اللورد جيفورد في الجامعات
الاسكتلندية في أواخر العقد التاسع من القرن الماضي؛ فقد كانت وصية جيفورد تنص على
أن
يكون موضوع هذه المحاضرات «هو اللاهوت الطبيعي بأعم معاني الكلمة»، واشترطت أن يكون
البحث متعلقًا بالأساس النهائي للوجود، ويتابع بروح من الفلسفة العلمية، ويتخلى صراحةً
عن المصادر فوق الطبيعة للمعرفة، وأن يكون بحثًا في مسألة الوجود الإلهي وطبيعته
وصفاته، وعلاقات الإنسان والكون بالألوهية ومعنى وجودنا … إلخ، ولم تكن المحاضرات
مقيدة
بأية قيود، بل كان عليها أن تطرح هذه المشكلات على بساط المناقشة، وتعرض حلًّا لها
إن
أمكن بروح أصيلة من البحث، وباستخدام مناهج التفكير العلمي النقدي. ولقد حلت هذه
البذرة
الحافزة أرضًا خصبة؛ ذلك لأن الجزء الأكبر من إنتاج التفكير التأملي في إنجلترا منذ
عام
١٨٨٨م — حين أعطيتُ أولى سلسلة محاضرات جيفورد — يحمل اسم هذه المؤسسة العظيمة، إما
لأنها كانت السبب المباشر في ظهورها، وإما لأنها كونت الإطار الذي دخلت فيه هذه
الأفكار. وليس هذا صحيحًا من حيث الكم فقط، بل إنه يصدق أيضًا على نوع هذه المحاضرات،
ورغم أنه قد يوجد قدر غير قليل من الغث إلى جانب السمين، فإن أعظم ما حققه التأمل
يمكن
أن يوجد تحت راية مؤسسة جيفورد، فلقد وجد فيها المفكرون المنتمون إلى أشد المعسكرات
تباينًا فرصة للتعبير عن آرائهم، وكثيرًا ما قدموا فيها أفضل ما لديهم، وكان اختيار
المفكرين لإلقاء محاضرات جيفورد يعني بالنسبة إلى الكثيرين إتاحة الفرصة لهم كي يجمعوا
أطراف تفكيرهم في مذهب شامل، وكان يعني بالنسبة إلى غيرهم إطلاق أفكارهم من عقالها
ربما
للمرة الأولى؛ ففي السلسلة الطويلة من محاضرات جيفورد يتمثل الجزء الأكبر من الأسماء
الشهيرة في الفلسفة الإنجليزية الحديثة.
١
وخليق بهذا الفصل أن يبدأ بواحد من هؤلاء المحاضرين، هو السياسي والبرلماني المشهور:
الإيرل بالفور.
(١) آرثر جيمس (إيرل)
بالفور Arthur James (Earl of) Balfour (١٨٤٨–١٩٣٠م)
مؤلفاته: «دفاع عن الشك الفلسفي، وهو بحث في أركان الإيمان A Defense, of Philosophical Doubt Being An Essay on the Foundations of Belief» ١٨٧٩م،
«مقالات وأحاديث Essays and Addresses» ١٨٩٣م،
«أركان الإيمان The Foundations of Belief»
١٨٩٥م، «مذهب الألوهية والنزعة
الإنسانية Theism and Humanism» ١٩١٥م، «مذهب
الألوهية والفكر Theism and Thought» ١٩٢٣م، «مقالات تأملية وسياسية Essays Speculative and Political»
١٩٢٠م، انظر كتاب، «بالفور فيلسوفًا ومفكرًا A. J. Balfour as Philosopher and Thinker»، نشره، شورت W. M. Short، وهو يحوي مختارات جيدة من مؤلفات بالفور.
يعد اللورد بالفور من أبرز أمثلة ذلك النمط الذي لم يكن قليل الشيوع في إنجلترا،
نمط السياسي المتفلسف؛ غير أن من الواجب ألا يربط تفكيره ربطًا حاسمًا بأساس
شخصيته، أو بعمله بوصفه سياسيًّا ورجل دولة، كما هي الحال في معاصره اللورد هولدين،
الذي كان بدوره أنموذجًا لهذا النمط، والذي اتجه نفس الوجهة التأملية؛ فالسلسلة
القيمة من مؤلفات بالفور، التي تكون عملًا رائعًا بالنسبة إلى رجل قضى حياته في
خدمة الدولة، هي تعبير واضح عن ذهن هاو يتميز بالذكاء الحاد، لم يكن يبحث في
الفلسفة لأسباب احترافية، ولا لقلق ذهني أساسي باطن يحس به، وإنما لحاجته إلى
التوجيه والترابط العقلي، وربما أيضًا بوصفها طريقة مسلية لقضاء الوقت، وإنه لمن
الصعب أن ندرج مذهبه ضمن أية مدرسة أو اتجاه محدد، والأفضل أن نطلق عليه اسمًا
عامًّا، هو أنه مذهب في الألوهية، وهو اسم يوضح أساسه الذي ارتكز على الإيمان
الديني؛ غير أن هذا لا ينبئنا بالكثير، طالما أن الطابع الخاص لهذا المذهب الألوهي
لم يتحدد بدقة. ولقد لوحظ لديه أحيانًا تشابه مع آراء «مانسل» تلميذ هاملتن،
ويستطيع المرء أن يجد — كما سنذكر فيما بعد — نقاط اتصال هامة بين آرائه وأفكار
باركلي وهيوم، بل إن هناك بعض الصلة بين آرائه هذه وبين كانْت وهيجل، حتى وإن لم
يكن قد أحس بتعاطف عميق أو دائم مع المثالية الألمانية، رغم أنه قضى سنوات دراسته
الفلسفية في نفس الوقت الذي كانت فيه المذاهب الألمانية تبعث في حياة جديدة،
والعنصر الذي كان مشتركًا بينه وبين الجيل السابق من المفكرين الكَانْتِيين
والهيجليين، هو الحملة التي شنها على العدو المشترك؛ أعني المذهب الطبيعي.
ويُعَد كتابه الفلسفي الأول (دفاع عن الشك الفلسفي)، الذي لم يلفت وقت ظهوره
انتباه الكثيرين، من أولى الهجمات على المذهب الطبيعي الذي كانت قوته لا تزال شبه
كاملة في العقد الثامن. وعلى المذاهب المتحالفة معه، وهي اللاأدرية والوضعية
والتجريبية والمادية والداروينية … إلخ، وإن يكن قد استخدم في هذا الهجوم سلاحًا
غريبًا حقًّا، هو الشك المنهجي المستمد من تعاليم هيوم. وهكذا أصدر البعض حكمًا
سطحيًّا مستمدًّا من عنوان الكتاب، فرأوا في الكاتب الشاب نوعًا من مقلدي هيوم؛
ولذا ظل بالفور مدة طويلة موصومًا بصفة الشكاك. ولكن العنوان الفرعي وحده كان
كافيًا لإقناع القارئ بأن هذا الشكاك المزعوم لم يكن مهتمًّا بالدفاع عن الشك
الفلسفي بقدر ما كان مهتمًّا بإقرار الإيمان الديني، فمرحلة الشك العقلي هي بالنسبة
إلى بالفور مجرد تمهيد لليقين العقلي الذي يستند على دعائم متينة من الإيمان
الديني. وهكذا سلك بالفور سبيلًا مشابهًا لذلك الذي سبق أن سلكه باركلي قبل مائة
وخمسين عامًا في حملته على علماء الرياضة الزنادقة، فباركلي قد أنكر عليهم الحق
في
أن ينصبوا أنفسهم حكامًا على الحقائق البسيطة للأسرار المسيحية والإيمان بالمعجزات،
ما دام حساب التفاضل بدوره يرتكز على ممتنعات ومتناقضات مماثلة، وبالمثل سعى بالفور
إلى أن يبين أن بديهيات التفكير العلمي والفلسفي، التي يعترف بها اعترافًا شاملًا،
وكذلك مبدأ اطراد الطبيعة أو الإيمان بعالم مستقل للأشياء، كل هذه الأمور لا يصح
أن
تمثل أمام محكمة الفكر النقدي، ولا يمكن بالتالي إثباتها على أسس عقلية، بل هي
ترتكز على أساس غير عقلي؛ أي على الإيمان، وهو يسمي هذه العقائد — التي تفترضها
العلوم وتتصور أنها قابلة للبرهان الدقيق — «بالمعتقدات المحتومة»، وهي تكون
المقدمات الضرورية للعلوم والحياة العملية معًا، وأساسها ليس الحجج النظرية ولا
المشاهدة الحسية، بل الاحتمال الحدسي. فهناك عنصر من السلطة، منبثق عن حاجات الحياة
العملية، متضمن في أسس العلوم الدقيقة ذاتها. وقد مجد بالفور السلطة على حساب العقل
في كتابه الأول، مثلما فعل فيما بعد، وربما كانت هذه علامة تنبئ مقدمًا بتزعمه فيما
بعد لحزب المحافظين! ومن الواضح أن هناك اتفاقًا ملحوظًا بين هذا الموقف وبين نقد
هيوم للتفكير العملي والعلي بوجه خاص، ويمضي بالفور نفس الشوط الذي مضاه هيوم في
تحليله الشكاك للأسس العقلية للفلسفة والعلم، وهو التحليل الذي تحل فيه العمليات
النفسية — كالغريزة والعادة والترابط — محل الأسس المنطقية.
وإلى هذا الحد نجد أن بالفور يقتفي بإخلاص أثر الشكاك الأعظم في القرن الثامن
عشر، ولكن ينبغي ألا ننسى أن ما كان يحاربه صراحةً لم يكن العلوم الدقيقة بما هي
كذلك (وإن كان بالفعل قد عارض ادعاءاتها في نواح معينة) بل كان النظرة الفلسفية
العامة إلى العالم، التي كانت تتباهى بارتباطها الوثيق بهذه العلوم، وترتكز عليها،
وأعني بها النظرة الطبيعية. ومن الواجب أن نلاحظ أن بالفور قد سعى إلى مكافحة هذه
الفلسفة، التي هي ذات أصل علمي واضح، بحجج من نوع كاره للمنطق misological (أي شكاك). وقد أوضح عن حق أنه، في الوقت الذي يتعين
فيه على الفلسفة أن تكون حكمًا على العلم، فإن فلسفة المذهب الطبيعي إنما هي خادمته
فحسب.
ولقد أثار كتابه المتأخر «أسس الإيمان» ضجة فلسفية في إنجلترا، فأصبح وقتًا ما
محور المناقشة، وطبع طبعات عديدة، في هذا الكتاب فصل بالفور الموقف الذي وصل إليه
من قبل، وأضاف إليه الجانب الإيجابي في مذهبه، ويعبر العنوان الفرعي عن هذا الجانب
بوضوح؛ فهو «ملاحظات لمدخل إلى دراسة اللاهوت»، والتغير الوحيد الذي طرأ على موقفه
في الكتاب السابق هو أن نغمة الشك أصبحت أقل ظهورًا، وعادت إلى العقل بعض مكانته،
واتضح أن موقف الشك السابق لم يكن إلا قناعًا، وموقفًا سطحيًّا، فنزعة الشك عند
هيوم متولدة عن عدم الإيمان، أو على الأقل عدم الاكتراث، وهي موجهة إلى العلم
والفلسفة، وكذلك إلى الدين، أما نزعة الشك عند بالفور فهي موجهة إلى العقل العلمي
فحسب، وهي متولدة عن الإيمان، أي إنها تنبثق عن تعلق وإيمان عميق بالحقائق الأساسية
في الدين، فهل يمكننا أن نرضي حاجاتنا العقلية عن طريق ذلك التفسير الفلسفي للعالم،
الذي يقدمه المذهب الطبيعي، بعد أن اتضح أن هذا التفسير مبني على مسلمات وفروض،
هي
بدورها من نوع «الإيمان»، مماثلة للرأي الروحي أو الألوهي في العالم، الذي نقف منه
موقف المعارضة؟ وإذا كان الأمر كذلك، فلم لا نفصل التفسير الألوهي على التفسير
الطبيعي، ما دام قد اتضح لنا أن الأول يمتاز بأنه يرضي الحاجات العليا لحياتنا،
ولا
سيما حاجاتنا الجمالية والأخلاقية والدينية؟ وهكذا ينتهي الأمر ببالفور إلى عدم
الاكتفاء بأن يعطي للعلم ما للعلم وللاهوت ما للاهوت، بل يحاول كذلك أن يثبت أن
أية
فلسفة أو علم تغدو مستحيلة إن لم تستمد عناصر من اللاهوت؛ ذلك لأن العلم بدوره
ينبغي له أن يتخذ لنفسه مصادرة، هي وجود أساس عقلي أو علة نهائية للعالم، وعند هذه
النقطة يغدو معتمدًا على اللاهوت؛ فالعلم، شأنه شأن الأخلاق وغيرها من المباحث،
يغدو أكثر معقولية وأكثر شمولًا من الوجهة النظرية كلما ازداد دخولًا في الإطار
اللاهوتي. وهكذا يحتاج بناء العلم بأكمله إلى تفسير ألوهي، ولا شك أن هذه الاتجاهات
الفكرية تظهر على نحو أوضح؛ ذلك الطابع الدخيل لفلسفة بالفور، بما فيها من ميل إلى
السطحية، فذلك الشكاك الذي هدد بأن يهز الأسس الراسخة للمعرفة العلمية، يبدو هنا
في
دوره الحقيقي، دور الواعظ الذي يحارب المذهب الطبيعي وكأنه الشيطان نفسه، ولا يمل
من تكرار هذا الشيء الوحيد الذي يراه ضروريًّا، والواقع أن مثل هذا التوفيق بين
الإيمان والمعرفة غير صحيح فلسفيًّا، ولا يمكنه أن يصمد لتحليل الفكر النقدي الذي
زعم بالفور أنه توصل بوساطته إلى نتائجه، فما أحط هذا الخلط المعيب بين المجالات
المختلفة بالقياس إلى نقد هيوم النزيه المتسق الصارم!
٢
أما كتاباته التالية، وهي «مذهب الألوهية والنزعة الإنسانية» و«مذهب الألوهية
والفكر»، التي أُلْقِيَت بوصفها محاضرات جيفورد. فلا تكاد تضيف جديدًا إلى العرض
الذي سبق تقديمه، بل هي تكتفي بتوسيع أساس المناقشة، وتعرض مذهبًا عامًّا في القيم
الجمالية والأخلاقية والعقلية، وهي تسعى إلى إثبات أن مجالات كاملة للحضارة البشرية
تقتضي لدعمها فكرة الله، سواء كان موضوع اهتمامها هو الجمال أو الخير أو المعرفة،
وأن النزعة الإنسانية — وهو يدرج ضمن «النزعة الإنسانية» كل ما حققته الحضارة
الإنسانية من نتائج ظاهرة — تجد في مذهب الألوهية تتويجًا واكتمالًا لها.
(٢) وليم رالف إنج William Ralph Inge (وُلد في ١٨٦٠م)٣
تعلم في إيتون و«كينجز كوليدج» بكمبردج، واشتغل معلمًا في إيتون من ١٨٨٤م إلى
١٨٨٨م، ثم زميلًا في «كينجز كوليدج» من ١٨٨٦م، ثم زميلًا في كلية هرتفورد بأكسفورد
في ١٨٨٩م، ونُصب قسيسًا في لندن، ١٩٠٥–١٩٠٧م، ثم أستاذًا للاهوت في كمبردج سنة
١٩٠٧م، وأسقفًا لكاتدرائية سانت بول من ١٩١١م إلى ١٩٣٤م.
مؤلفاته: «التصوف المسيحي Christian Mysticism»
١٨٩٩م (الطبعة الثانية، ١٩١٢م)، «الإيمان
والمعرفة Faith and Knowledge» ١٩٠٤م، «دراسات في المتصوفة الإنجليز Studies of English Mystics» ١٩٠٦م، «الحق والباطل في الدين Truth and Falsehood in Religion»
١٩٠٦م، «المثالية الشخصية
والصوفية Personal Idealism and Mysticism» ١٩٠٧م، «الإيمان وسيكولوجيته Faith and Its Psychology» ١٩٠٩م، «مرآة النفس Speculum Animae» ١٩١١م، «فلسفة أفلوطين The Phil. of Plotinus» (محاضرات جيفورد) في
مجلدين، ١٩١٨م (الطبعة الثالثة ١٩٢٩م)، «مقالات صريحة Outspoken Essays» المجلد الأول في ١٩١٩م، المجلد الثاني في ١٩٢٢م،
«الفلسفة والدين Phil. and Religion» ١٩٢٤م،
مقال في الفلسفة الإنجليزية المعاصرة، نشره مويرهيد، المجموعة الأولى، «التراث الأفلاطوني
في الفكر الإنجليزي الديني The Platonic Tradition in English Religious Thought» ١٩٢٦م، «الأخلاق المسيحية والمشكلات
الحديثة Christian Ethics and Modern Problems» ١٩٣٠م، «الله والفلكيون God and the Astronomers» ١٩٣٣م، «القيم الخالدة The Eternal Values» ١٩٣٣م، «وداعًا Vale» ١٩٣٤م.
لا شك في أن السياسي بالفور، وإن كان شخصية لها اهتمام بالفلسفة وتحمس للدين، لم
يكن قطعًا من القادة الفكريين والروحيين في عصره. ولكنا نجد واحدًا من هؤلاء القادة
مرة أخرى بين صفوف البروتستنتيين، هو تلك الشخصية البارزة، ذات الملامح الواضحة،
أسقف كاتدرائية سانت بول. فليس الدكتور إنج واحدًا من أبرز رجال الكنيسة
الأنجليكانية وأكثرهم استنارة فحسب، بل هو بالإضافة إلى ذلك واحد من القادة
العقليين للأمة الإنجليزية؛ فهو، بوصفه أحد الممثلين البارزين للحضارة الإنجليزية
المعاصرة، رجل له معرفة شاملة وعلم غزير وذهن دقيق التدريب وفهم نفاذ، يعبر عن نفسه
بلغة قوية مركزة، ولما كان يقف موقف المعارضة النقدية من الروح السائدة في عصره؛
فقد سلك — بوصفه فيلسوفًا — طريقًا منعزلًا موحشًا خاصًّا به، وصحيح أنه يقف داخل
المعسكر المثالي. ولكن ذلك لا يصل به إلى حد الانتماء إلى أية مدرسة أو اتجاه
معاصر، أو إعلان الطاعة والولاء لأي فيلسوف حديث، بل إنه يصل في ذلك فقط إلى حد
السعي إلى إحياء الفكر المثالي في العصر القديم، وإدماجه في الأفكار الحديثة. وهكذا
لم تكن نقطة بدايته هي كانت أو هيجل أو أي واحد من خلفائهما وأتباعهما الإنجليز،
بل
اختار نقطة بداية جديدة لم ينتبه إليها كثيرًا من قبل، بنى عليها نظرته الفلسفية
واللاهوتية الخاصة إلى العالم. هذه النقطة هي الأفلاطونية الجديدة، بالنسبة إلى
الفلسفة، والتصوف بالنسبة إلى اللاهوت، أو بتعبير أدق: الميتافيزيقا الأفلاطونية
الجديدة من جهة، والتصوف الأفلاطوني الجديد من جهة أخرى، وهو لا ينظر إلى الفلسفة
واللاهوت على أنهما مبحثان منفصلان، ولا على أنهما متوازيان فحسب، بل هما في رأيه
يكونان وحدة واحدة لا تنفصم، يزداد ظهور أحد أوجهها تارة، ويزداد ظهور الوجه الآخر
تارة أخرى، فهما أساسًا شيء واحد؛ أي إنهما لاهوت فلسفي أو فلسفة لاهوتية تبعًا
لاتجاهنا الذهني.
وهكذا فإن الأهمية الخاصة لإنج — بالنسبة إلى الفلسفة الحاضرة — ترتكز على تجديده
وبعثه لتعاليم أفلوطين، ونجاحه في إظهار المكانة العقلية لهذا المفكر المستعصي
العسير الفهم، ولم يكن كتابه عن أفلوطين — الذي ألفه في جزءين — يرجع في أصله إلى
اهتمامه — بوصفه باحثًا — بالعصور القديمة (وإن يكن عنصر التبحر العلمي أصيلًا
وواضحًا في الكتاب)، بقدر ما كان تعبيرًا عن اتصال وتعاطف متزايد مع روح ملائمة
لروحه. ولقد ذكر إنج عن نفسه صراحةً أنه ليس شارحًا أو ناقدًا لأفلوطين، بل هو
تلميذ له، فأفلوطين بالنسبة إليه مرشد إلى التفكير الصحيح، وكذلك إلى الحياة
السليمة، وتعاليمه ليست مذهبًا فكريًّا انقضى عهده، بل هي قوة روحية حية لها رسالة
تؤديها حتى في يومنا هذا. وهكذا كتب بعد عشر سنوات من الكتابة المتعمقة في فلسفة
أفلوطين يقول: «لقد عشت معه قرابة ثلاثين عامًا، ولم يخيب مسعاي أبدًا، لا في
السراء ولا في الضراء.»
فما هي الأسباب التي أتاحت لأعمال هذا المفكر الذي ظهر في وقت متأخر من العالم
القديم، أن تكتسب مرة أخرى قوة وتأثيرًا متجددًا، وأن تضيف حركة أخرى تنتهي بصفة
«…
الجديدة»، إلى جانب الكَانْتِية الجديدة والهيجلية الجديدة وغيرها، هي الحركة
«الأفلوطينية الجديدة» أو — إذا أبيح لنا التعبير — «الأفلاطونية الجديدة الجديدة»؟
من الواضح أن هذا البعث قد نشأ أصلًا عن اهتمام لاهوتي؛ فقد أدت أبحاث إنج في تاريخ
المسيحية الأولى — مثلما أدت بترولتش Troeltsch —
إلى الاعتراف بالأهمية الحيوية للأفلاطونية الجديدة بالنسبة إلى نشأة اللاهوت
المسيحي وتكوينه؛ ففي تلك العملية التاريخية الجبارة، عملية المزج والإدماج التي
استوعبت فيها الكنيسة خلال القرون المسيحية الأولى تراث الحضارة القديمة وتصرفت
فيه، كانت الأفلاطونية الجديدة تكون في رأيه، نقطة الاتصال الحقيقية التي اجتمعت
فيها الحضارة الهلينية المتحضرة مع النظرة المسيحية الساذجة إلى العالم، لتكون ذلك
المركب الذي نسميه بالكنيسة المسيحية؛ غير أن الكنيسة، التي تدفقت إليها أنضج حكمة
في العالم القديم من فلسفة أفلوطين، انفردت منذ ذلك الحين بحمل راية الحضارة
الغربية، ولم تكن تلك في الواقع نقطة بداية العصور الوسطى، بل كانت الاكتمال
النهائي الخلاق للعصر الكلاسيكي القديم، فالحضارة القديمة والدين الجديد يرتبطان
باتصال حقيقي. ومن هنا كانت أية محاولة لانتزاع الأفلاطونية من المسيحية تؤدي إلى
تمزيق هذه الأخيرة إربًا؛ فالمسيحية والأفلاطونية والحضارة، كل هذه تتشابك على نحو
لا ينفصم وتعيش معًا أو تموت معًا.
تلك هي وجهة النظر التي ينبغي أن تُفْهَمَ بها الأهمية الرئيسية لأفلوطين، فإنج
ينظر إليه على أنه واحد من أعظم الشخصيات في تاريخ الفكر. وعلى أنه أهم الفلاسفة
المتدينين بحق، وهو من الشخصيات القليلة التي ينتظم تفكيرها العالم كله، والتي لم
يستنفد دورها الذي تلعبه في تاريخ الذهن البشري حتى في يومنا هذا، وهو يقف في واحد
من مفارق الطرق الحاسمة الكبرى، التي تتولد فيها حياة جديدة، وتطلق فيها قوى خلاقة
جديدة من عقالها، عن طريق الانتقال من القديم إلى الجديد، ومذهبه ديانة عميقة
يسودها العقل، تُبْنَى من جهة على التفكير الفلسفي. ومن جهة أخرى على التجربة
الشخصية الوثيقة. ولقد تدفق محتوى هذه التعاليم كاملًا في حياة الكنيسة، وظل حيًّا
فيها حتى يومنا هذا. ومن هنا كان «أونابيوس Eunapius» على حق حين كتب يقول: «إن مذبح أفلوطين ما زال دافئًا
حتى اليوم»، والحل الوحيد للمشكلة الدينية في هذا العصر إنما ترتكز على ذلك المركب
الجديد الذي دخلت فيه الأفلاطونية الجديدة والمسيحية في القرن الثالث وفي القرون
التالية. وهكذا يتفق إنج تمامًا مع ترولتش في الرأي القائل: إن العنصر الأفلوطيني
سيكون عاملًا حاسمًا في التطور المقبل للمسيحية مثلما كان في تطورها الماضي.
وهذا يصدق بوجه خاص على ذلك الجانب من الحياة الدينية الذي يحرص إنج على إحيائه
على التخصيص؛ أعني الجانب الصوفي، فأفلوطين هو بالنسبة إليه الممثل الكلاسيكي
للفلسفة الصوفية في جميع العصور، وهو يرد كل تصور مسيحي إليه؛ غير أن من الواجب
ألا
يخلط بين التصوف وبين مجرد الحماسة التنبؤية، كما أنه منعدم الصلة بالخيال الجامح
أو الإغراق في الانفعال المضطرب الغامر، والأمر الذي يحول دون الخلط بينه وبين مثل
هذه الاتجاهات، هو أن أصله يرجع إلى مدرسة فكرية بالمعنى الدقيق، يرتد أصلها — من
قبل أفلوطين — إلى أفلاطون نفسه؛ فالصوفية الأصيلة تتضمن تفكيرًا فلسفيًّا، بل إنها
في الواقع معادلة له آخر الأمر، وهي إما أن تكون سعيًا وراء حقيقة نهائية ذات صحة
موضوعية، وإما ألا تكون شيئًا على الإطلاق؛ فالصوفي يصبو إلى معرفة الله، وإلى
رؤيته مواجهة إن أمكن. فإذا كانت تجربته عينية فردية دائمًا. فليست قيمتها ذاتية
فحسب، بل هي تكمن في أنها كشف لحقيقة شاملة أزلية. وعلى ذلك فالبصيرة الصوفية إنما
هي فلسفة روحية تقتضي نشاطًا تتضافر فيه كل العوامل النفسية، من تفكير وشعور
وإرادة، وإن اندماج الإنسان بشخصيته الكاملة في البحث عن الله إنما هو الشرط
الأساسي لتمكن الإنسان من أن يحقق بالفعل ما يظل — لولا ذلك — مجرد إمكانية كامنة
فيه؛ أعني أن يشارك في الطبيعة الإلهية ويتخذ من العالم الروحي موطنًا. وهكذا يكون
للعقل دور ما في كل تجربة صوفية نمارسها، ولا معنى للاستعانة بملكة فوق العقلية،
طالما أننا نأخذ العقل بمعناه الصحيح؛ أي بوصفه منطق الشخصية الكاملة، كما يعبر
عنه
إنج. وإذن فكل وحي يعلو على العقل ويزعم أن في إمكانه الخروج عنه، هو انحراف خطير
عن الطريق السليم للتجربة الصوفية، والأمر الذي ينبغي أن نعلو عليه. إن شئنا أن
نحقق أي تقدم في معرفة الألوهية، ليس هو العقل، بل المعقولية السطحية التي ترتكز
على منطق شكلي، وتعجز تمامًا عن بلوغ تبصر روحي بالأمور. وعلى ذلك فإن موقف إنج
مضاد تمامًا لموقف هارناك
Harnack؛
٤ إذ إن الأخير يعرف الصوفية بأنها معقولية مطبقة على مجال يتجاوز العقل،
بينما يعرفها إنج بأنها عقل يطبق على مجال يتجاوز المعقولية.
ولقد فسر إنج النزوع الصوفي — من الوجهة النفسية — بأنه استعداد فطري في الطبيعة
البشرية، وهو يرده إلى ما أسماه بالمادة الخام لكل دين، وربما لكل فلسفة وفن؛ أعني
الشعور الغامض بوجود أعلى من وجودنا، نحس مع ذلك بأنه جزء من ذاتنا نفسها. وهكذا
يعرف التصوف الديني بأنه محاولة لتحقيق حضور الله الحي في النفس البشرية وفي
الطبيعة الخارجية، أو بصورة أعم: بأنه محاولة من المرء لكي يستحضر في فكره وفي
شعوره اندماج الزمني في الأزلي واندماج الأزلي في الزمني. وفضلًا عن ذلك فقد بحث
إنج التصوف في جميع مظاهره التاريخية الزاخرة بالتنوع، منذ أيام الإنجيل حتى العصور
الحديثة، وذلك في كتابه الأول عن «التصوف المسيحي» وفي «دراسات في المتصوفة
الإنجليز»، الذي كان تكملة للأول، وإلى جانب اهتمامه الرئيسي بأفلوطين؛ فقد أشاد
خاصة بإكهارت Meister Eckhart الذي عدَّه أعظم
متأمل صوفي في العصور الوسطى.
فإذا عدنا إلى فلسفة إنج الخاصة، كان علينا أن نؤكد أولًا أن الأهمية الحقيقية
لعمله لم تكن في هذه الفلسفة، بل في تنبيهه للأوساط العقلية في إنجلترا إلى قوى
تاريخية كان بعضها مختفيًا أو مدفونًا، وبعضها الآخر لا يظهر إلا في أبحاث العلماء
المتفقهين، وبعضها الأخير لم يلق عليه أي ضوء من قبل، ولو قصرنا تأثيره على ميدان
الفلسفة (الذي لم يستنفد جميع أطراف هذا التأثير قطعًا) لوجب أنه نقول: إن الفلسفة
الإنجليزية الحالية تدين له — إلى حد بعيد — بتوسيع أفقها الثقافي، وبزيادة بصيرتها
حدة بحيث تمكنت من أن تمتد أبعد كثيرًا في المكان والزمان، كما تدين له بتدربها
على
التفكير الأصيل في تاريخ المدنية وفلسفتها. وعلى التبصر فيه، ويبدو لي أن لدى إنج
شعورًا أقوى من شعور أي مفكر إنجليزي معاصر آخر، بأن الفلسفة ليست مهمة منعزلة
مكتفية بذاتها، بل هي جزء عضوي من الثقافة العامة في الذهن، وأنها تندمج في هذه
الثقافة وتمارس عملها فيها، فنطاقها ينتظم العالم بأسره، كما أن التاريخ يتغلغل
فيها، وهي تمارس فاعليتها على الحياة، على نحو أعمق كثيرًا مما يستطيع المذهب
البرجماتي وفلسفة الحياة المعاصرة حتى أن تلمح إليه من بعيد. وهكذا فإن رجوع إنج
إلى أفلوطين والصوفية الأفلاطونية الجديدة، لا يبدو من وجهة النظر هذه مجرد تجديد
عضوي لمفكر ما أو فترة فكرية معينة، بل يبدو فتحًا لآفاق عالم روحي له صحة أزلية،
ظهر بوضوح خلال أزمة حاسمة في التاريخ، وتمثل بطريقة كلاسيكية في شخصية لها أهميتها
البارزة، وإنه لغريب حقًّا أن المدرسة الهيجلية الإنجليزية في الفكر لم تستعن
بالمضمون التاريخي والثقافي لأعمال هيجل إلا على نحو شحيح؛ إذ لو كانت قد استعانت
به على النحو الصحيح، لكان من الجائز أن تتعلم من المفكر الألماني ما علمها إياه
إنج، الذي لم يكن لهيجل أي تأثير فيه تقريبًا؛ أعني أن تتعلم اتساع آفاق التفكير
الفلسفي ورحابة المنظور العقلي، ويدين إنج لترولتش خاصة بتبصره الأعمق في هذا
الاتجاه، وهو يمجد ترولتش بوصفه واحدًا من أعمق المفكرين الألمان المحدثين. فكلاهما
يتسم باتساع الأفق الثقافي والنظرة الشاملة في تفسيره الفلسفي للتاريخ. وفي هذه
الناحية يبدو لي أن إنج لا يدانيه أحد من الفلاسفة الإنجليز المعاصرين.
ولقد كانت فلسفة هذا «الأفلاطوني المسيحي» (كما يحب إنج أن يسمي نفسه) حصيلة ما
ظل حيًّا في ذهنه من عوامل تاريخ العقل البشري والحضارة البشرية. وكانت هذه النار
هي — قبل غيرها — التي أشعلت جذوة تفكيره، وتلك المؤثرات هي التي شكلته. ولكنه كان
أيضًا متفتحًا لمؤثرات مفيدة آتية من البيئة الفلسفية المعاصرة له، ولنقُلْ بتعبير
آخر: إن المشكلات الأساسية القديمة قد اكتسبت لديه هنا رداءً جديدًا يتفق مع طبيعة
العصر؛ غير أن الجوهر ظل على ما هو عليه، وهو «الأفلاطوني المسيحي»،
٥ فالفلسفة — في موقفه هذا — ليست مسألة إظهار معلومات أو بحث علمي فحسب،
وليست مجرد محاولة لإرضاء نزوع نظري أو حاجة جمالية، ولا عاملًا مساعدًا للحياة
العملية، بل هي التزام للإنسان بالحياة المباركة وتوجيه له إليها. ومن هنا فهي في
أساسها دينية متركزة حول الله أكثر منها علمية أو أخلاقية أو برجماتية؛ فالدعوة
إلى
الفلسفة تعني الدعوة إلى حياة متفانية، وكل تفكير أصيل رفيع محاط بهالة من العبادة
أو التقديس.
والمجال الحقيقي للفلسفة ليس الوقائع بل «القيم». وليس ما هو موجود من حيث هو
كائن، بل ما هو موجود بقدر ما «يهم» و«يصلح»، وهو يعرف الواقع بأنه ليس نفسيًّا
فحسب ولا ماديًّا فقط، بل هو عالم يرتبط فيه الفكر والوجود والفعل والقيمة ارتباطًا
لا ينفصم، بحيث لا يكون لأحد الاثنين وجود دون مقابله، والعالم الحقيقي إنما هو
وحدة عضوية مترابطة، ليست زمانية ولا مكانية، بل تشمل في ذاتها كل الحوادث في
المكان والزمان في علاقاتها بالعلم؛ أي «من منظور الأزل»، وماهية الواقع روحية،
والروح تتكشف لنا في القيم؛ فالعالم الروحي عالم قيم، والقيم هي صفات الوجود الحق.
أما الأشياء فلا تكون حقيقية إلا بقدر ما تشارك في القيم؛ غير أن القيم ليست مثلًا
عليا أو مبادئ موجهة، وليست شيئًا ينتمي فقط إلى الذات ويخلع على الأشياء، بل هي
مكونات أصيلة للواقع، وبالتالي فهي موضوعية توجد بذاتها. وليست من خلقنا، بل هي
أزلية عالية، وهي أكثر الحقائق حقيقة. وهذا يعني أنها هي الصفات الأصلية للألوهية،
ولعالم القيم أوجه ثلاثة: فهو يشمل الحق والخير والجمال. وهذه الأوجه الثلاثة هي
أعلى صور للحقيقة يستطيع إدراكنا الذهني أن يصل إليها، وهي تتسم بطابعها المطلق
الأساسي، ولا يمكن المزج أو الجمع بينها، فهي تنتمي إلى مجال للوجود يعلو على
الزمان ويعلو على الروح، عالم لا يعد عالم التجربة المعتادة إلا انعكاسًا ضعيفًا
له، وهي تخضع لقوانينها الخاصة، ويستنفد عالم القيم كله في الحق والخير والجمال.
وهكذا فإن إنج يرفض (معارضًا في ذلك فندلبنت وأوتو
Otto٦ صراحةً) النظر إلى «المقدس» على أنه قيمة مستقلة تكون مجال الدين، وذلك
على الأقل بمعنى إعطائه مكانة تقف على قدم المساواة مع القيم الأخرى، بل الأصح في
رأيه أن هذه دلائل على وحدة أعلى تتجاوزها أو تعلو عليها، ولا تكون هذه بالنسبة
إليها إلا مسالك توصل إلى أعلى. هذه الوحدة التي تتجاوز المعرفة والوجود هي المطلق
أو الألوهية، على أن الله لا يتكشف لنا في التجربة الصوفية بالحدس؛ فالقيم هي
الثالوث الأعظم الذي يتبدى به وجود الموجود الأعلى وإرادته، ويطلق إنج على الألوهية
أيضًا اسم قيمة القيم، وبذلك يظهر علاقتها الخاضعة للألوهية.
ويتفق مفهوم الله عند إنج مع مفهوم اللاهوت المسيحي؛ فالله خالق الكون الذي يحيا
حياة مستقلة عن العالم «وفوقه»، والعالم يدين بكل شيء لله، بينما لا يدين الله له
بشيء، تلك هي الصفة الأساسية لهذه العلاقة. وليست هي كون الله «في» العالم؛ إذ إن
مثل هذا الرأي يؤدي إلى النظر إلى الله والعالم على أنهما متساويان في القيمة، أو
إلى مذهب «شمول الألوهية» المخفف الذي تتألف منه عقيدة الهيجلية الإنجليزية، فإنج
ينفر من هذا الفهم، ويعود إلى نظرية القدرة الخلاقة لله وعلوه. ومن جهة أخرى يحدث
بينه وبين المذهب المطلق عند برادلي اتصال عندما يعالج مشكلات الشخصية الإنسانية؛
فهو يميز الفردية من الشخصية، الأولى هي المرحلة الأدنى للوجود الإنساني، والثاني
هي الأعلى، ولا بد لنا من أجل الوصول إلى ذاتنا الحقيقية من أن نعلو على وجودنا
المنفصل، المتركز حول ذاته والفردي فحسب، وأن نصبح موجودات روحية أو عقلية هي وحدها
التي تكتسب صفة الشخصية الحقة والوحدة الباطنة. ولكن لما لم يكن الكائن البشري
قادرًا على البقاء بذاته وحدها، بل لا يكون إنسانًا بحق إلا عندما يشارك في حياة
الكل الذي هو جزء منه، فإن هذا يولد ذلك التناقض الدائم الذي يعيش فيه الإنسان،
وهو
أنه يتعين عليه دائمًا أن يكتسب شخصيته من جديد، أي أن يفقدها من أجل أن ينقذها،
ويكون الأمر كذلك على أوضح نحو عندما يقترب من الألوهية في العيان الصوفي، الذي
يتحول به وجود الشخصية كله بحيث يتسنى لله أن يفكر ويريد ويسلك «من خلال» الإنسان
بحرية ودون أن تعوقه إرادة الإنسان التلقائية، ويعبر إنج عن هذا بقوله: إن النفس
البشرية قيمة مستقلة ولكن ليس لها وجود مستقل. ومن الواضح أن إنج لم يتمكن —
بمسلماته الصوفية — من التغلب فكريًّا على مشكلة الشخصية أكثر مما تمكن من ذلك
برادلي، مع كل ما بذله من جهد في سبيل الوصول إلى حل.
ومن الممكن أن نوجه ملاحظة مماثلة لهذه في صدد موقفه من مشكلة الشر؛ فهو أيضًا
يقف في البداية موقف المعارضة الشديدة من التفاؤل السطحي لدى كثير من الهيجليين،
ويعترف بالشر والألم في العالم بكل ما فيهما من فداحة. فليس في وسع الإنسان بقوته
الخاصة أن يقهر قوة الظلم الغاشمة، ولا يمكن أن يتم الخلاص من الشر إلا بالفضل
الإلهي، وبعذاب المسيح الذي استعاض به عن عذابنا. ومن جهة أخرى فإن مناقشته
الفلسفية للمشكلة لا يمكن أن ترضي الذهن نظريًّا؛ وذلك لأنها تقترب من نفس تلك
النظرة التفاؤلية التي لا يمكن التوفيق بينها وبين الطابع العام لتفكير إنج. وهكذا
يقبل في النهاية الحل الذي أتى به برادلي بوصفه حلًّا ينطوي على تناقض أقل مما
تنطوي عليه النظريات الأخرى، وأعني به أن الأفضل إنكار الوجود المطلق للشر والنظر
إليه على أنه مجرد مظهر ينتمي ضرورةً إلى تحقيق الغايات الأخلاقية بوصفه نشاطًا
حيويًّا، ولسنا بحاجة إلى القول: إنه كان شاعرًا تمامًا بخطر هذا التفسير، وهو
تخفيف القوة الشريرة للخطيئة بلا موجب، وانتزاع الأنياب السامة التي تكون
ماهيتها.
ولا بد أخيرًا لإكمال الصورة الذهنية لهذه الشخصية البارزة الواسعة الأثر، من أن
نضيف صفتين أخريين أساسيتين؛ فقد أدت به ميوله المحافظة إلى أن يبني سدًّا منيعًا
في وجه كل التيارات المعارضة التي يدرجها تحت لفظ «كراهية المنطق misology»، ويعني بها محتقري العقل، الذين يحتلون اليوم
مكانة بارزة في ميادين مختلفة، وفي أشد المعسكرات تباينًا. ولكنهم يظهرون بوجه خاص
في المجالات التي يتركز البحث فيها حول الفلسفة الحديثة في الحياة. ولقد رأى في
القرن التاسع عشر اتجاهات كارهة للمنطق في فلسفات شوبنهور وإ. فون هارتمان ولوتسه.
أما في أيامنا هذه فهي تظهر أساسًا بين دعاة مذهب الكثرة والبرجماتية، مثل
هوسوت Hawson وجيمس ورويس وبالفور
وكيد Kidd، ومن يسمون «بالمثاليين الشخصيين».
ولكنها تظهر أيضًا في شعر بروننج وفي اللاهوت التجديدي modernist، وهو يوجه على الأخص هجومًا شديدًا إلى النظرة
المتركزة حول الإنسان anthropocentric
والمؤلهة للإنسان anthropolatruos عند
البرجماتين، وإلى تلك الفلسفة المكتفية بذاتها، التي تجعل من الإنسان ومصالحه
مقياسًا للأشياء جميعًا، وهو يطلق على هذا الاتجاه اسم «إقليمية الفكر provincialism of thought»، وإنه لغريب
حقًّا أن يكون إنج — الصوفي العياني — هو الذي شن هذه الحروب على الاتجاهات
اللامعقولة واللامنطقية في عصرنا. وهذا دليل واضح على مدى سيطرة العناصر العقلية
على العنصر الصوفي في تفكيره.
غير أن العدو الأكبر الذي يهاجمه إنج هو حماسة عصرنا للتطور، وإيمانه المتعصب
بالتقدم، وإنه لمما يسترعي الانتباه — مرة أخرى — أن يجيء ومفكر منغمس في الثقافة
إلى هذا الحد، يتميز بذهن يزخر بثمار العلم، فيرفع صوته محذرًا من النجاح «المزعوم»
للمدنية الحديثة، بل ينساق وراء حالات نفسية تشاؤمية، والواقع أن «التشاؤم الحضاري»
عند إنج هو الذي بقي في ذهن الجمهور عنه أكثر من أي جانب آخر من جوانب تأثيره
العقلي، مما أكسبه لقب «الأسقف المتشائم»؛ فهو مقتنع بأن إفراط حياتنا في الاتجاه
الآلي لم يزد من نمو الملكات الباطنة للإنسان بل عاقه، وأن ما نفخر بتسميته
«بالتقدم» إنما يعني انحطاط جنسنا وفقدان ثرواتنا الروحية الحقة، فلم يحدث في
الماضي تقدم. وليس لنا أن نتوقع تقدمًا في المستقبل. كذلك لا يمكن تبرير فكرة
«التقدم إلى ما لا نهاية» بالفكر، فضلًا عن أنها لا تقدم إلينا أي عزاء، فكيف يكون
التقدم في كل لا نهائي ممكنًا؟ إن وهم التقدم الذي سيطر على العالم الغربي مدة مائة
وخمسين عامًا، والذي راح هيجل وكونت ضحايا له، مثلما راح دارون وسبنسر أيضًا، هو
فلسفة لقيطة، وهو نتاج زائف لعصرنا بما فيه من عبادة مستسلمة للإنسان. وهكذا يواجه
إنج كل مظاهر وهم التقدم والانتشاء بالتطور عن طريق تكرار إيمانه بالقيم الأزلية
التي تنعكس من الأساس الأول للوجود على مجالنا الزمني؛ فهي وحدها نقط الارتكاز
والنجوم المرشدة لإرادتنا وفعلنا ومعنى حياتنا.
(٣) بيرنت هيلمان ستريتر Burnett Hillman Streeter
(١٨٧٤–١٩٣٧م)
كان قسيسًا في هيرفورد من ١٩١٥م إلى ١٩٣٤م، وعميدًا لكلية «كوينز» بأكسفورد من
١٩٣٣م، وقارئًا في تاريخ الكنيسة القديم بجامعة أكسفورد منذ ١٩٢٧م.
مؤلفاته: «الخلود Immortality» ١٩١٧م،
«الروح The Spirit» ١٩١٩م، «الله والصراع من أجل
البقاء God and the Struggle for Existence» ١٩١٩م، «الواقع، تضايف جديد
بين العلم والدين Reality, a New Correlation of Science and Religion» ١٩٢٦م، «بوذا والمسيح Buddha and the Christ» (محاضرات بامتون Bampton) ١٩٣٢م.
رأينا كيف أن الأسقف إنج، الذي لم يقتنع بكل الانتصارات «المزعومة» للمدنية
الحديثة، قد رجع بفكره إلى الحكمة الفلسفية للعالم القديم، وحاول بطريقة لا تنسجم
أبدًا مع روح عصرنا، أن يجدد ويعمق حياتنا العقلية الحالية عن طريق هذا المصدر.
أما
القس ستريتر فإنه يسير في الاتجاه المضاد تمامًا، فيؤيد بشدة كل ما استحدثه العالم
والفلسفة في عصرنا هذا، ويوفق بينه وبين الفكر الديني. وهكذا حاول في كتابه
«الواقع» — وهو أوضح تعبير عن موقفه الفلسفي — أن يصل إلى «تضايف جديد بين العلم
والدين»، وإلى مركب يستهدف التوفيق بين نتائج الفيزياء والبيولوجيا الحديثة، وكذلك
ميتافيزيقا برجسون، وبين مذهب الألوهية المسيحي، فهنا تبدو الفيزياء الرياضية
حليفًا ضد النظرة الآلية المادية إلى العالم (أو «التشبيه بالآلة mechanomorphism» كما يسميها ستريتر)، وضد
كل عرض علمي أو فلسفي لها، وكذلك كل تبسيط شعبي سطحي لها، ويضع ستريتر في مقابل
نزعة التشبية بالآلة، التي ينظر فيها إلى العالم على أنه آلة ضخمة، نوعًا من
التشبيه بالإنسان على مستوى أعلى من طبع الصور الإنسانية بسذاجة على الأشياء
جميعًا، أعني تشبيهًا بالإنسان يكون فيه الإنسان المثالي أنموذجًا أو صورة الله.
ولكننا نجد لديه — قبل هذا كله — عنصرًا برجسونيًّا يندمج لديه في التفسير الألوهي
للعالم، ويدفع إلى الوراء على نحو متزايد، النزعة المطلقة في المدرسة الهيجلية،
وهي
النزعة التي كان ستريتر يعطف عليها كثيرًا في وقت ما؛ فالكون يبدو على مثال الحياة،
في صورة نظام عضوي من أجزاء لها حركة دينامية. أما الحياة (التي يكون لها هنا، كما
عند برجسون، قيمة تتجاوز بكثير تلك الحياة البيولوجية المحضة) فتبدو هنا مبدأ
خلاقًا. فليس في الحياة مكان لذلك الصراع الهدام من أجل الوجود، الذي رآه دارون
فيها، ولا لإرادة القوة الغاشمة، التي بدت عليها الحياة عند نيتشه، بل هناك «نضال
خلاق»، تجدد فيه الحياة نفسها دوامًا، وتصنع نفسها وتعيد صناعتها على نحو تتولد
فيه
دوامًا قيم جديدة أعلى، وأعلى تعبير عن هذه القوة ليس هو النضال والصراع، بل
التضافر والحب، ويرى ستريتر في الحب رمزًا حقيقيًّا للفاعلية الخلاقة. وبهذا المعنى
يستطيع أن يقول إن المعنى النهائي للعملية الكونية يتبدى في الحب. كذلك يتحدد في
ضوء موقفه هذا الأساس الميتافيزيقي للوجود، الذي هو في رأيه الألوهية؛ فالله ليس
حالة ثابتة في الوجود أو مبدأً جامدًا، بل هو القوة الأزلية الخلاقة، وهي قوة لم
تُصْنَع في الكون على صورة نهائية لكي تتركه يسير في مجراه حسب قوانين آلية، بل
تظل
في نشاط فعال حيوي دائم في هذا الكون. وليس في وسعنا أن نتمثل لأنفسنا هذا الكائن
الفعال الأعلى إلا على مثال شخصية مطلقة الكمال، وتسامٍ أقصى لما نكونه نحن ذاتنا
عندما نبلغ أعلى مستويات وجودنا. وبهذا الوصف ينبغي أن ننسب إلى الله ذلك الطابع
التركيبي العيني الذي يدل عليه تصور الفردية؛ فهذا الإله هو الله الحي، وصفته
الأساسية هي نفس الصفة التي تميز كل حياة؛ أي الحب. وهكذا يرجع بنا هذا النوع من
التفكير إلى مذهب الألوهية المثالي الذي يفي أساسًا بمقتضيات العقيدة
المسيحية.
ولقد كان الفلاسفة الدينيون الذين تحدثنا عنهم حتى الآن ينتمون — مثل أقاربهم
الروحيين في المدرسة المثالية — إلى المذهب البروتستنتي، سواء أكانوا داخل الكنيسة
الأنجليكانية أم خارجها. فإذا انتقلنا الآن إلى الفلسفة الدينية التي هي كاثوليكية
في أصلها، لأدركنا على التو ذلك الفاصل العميق الذي يفرق بين الاثنين. ومما له
دلالته أن مفكرًا كاثوليكيًّا هو الذي يحتل المكانة الكبرى في الفلسفة الدينية
المعاصرة. وقد سبق أن لاحظنا ظاهرة مماثلة لهذه في فصل سابق (انظر [الباب الأول:
المدارس الفكرية المتقدمة – الفصل الرابع: الجماعات المهتمَّة بالفلسفة الدينية])؛
فقد تلقى «فريدرش فون هوجل» ذلك التراث الذي خلَّفه الكردينال نيومان، وأعاد تشكيله
بروح القرن العشرين، على نفس النحو الذي يتحوَّل فيه عقار موروث إلى مصدر مربح جديد
للدخل بفضل إدخال تغييرات خلاقة عليه؛ ففي شخص فون هوجل، نجد أهم مفكر ديني في
الجيل الماضي، ونجد فيه نظيرًا لذلك الباعث العظيم للإيمان الديني في القرن التاسع
عشر.
(٤) البارون فريدرش فون
هوجل Baron Friedrich Von Hügel (١٨٥٢–١٩٢٥م)
لاهوتي كاثوليكي لم يتولَّ مناصب كنيسة، وفيلسوف ديني، وُلد في فلورنسه، لأب
ألماني وأم اسكتلندية، قضى فترة شبابه في النمسا، وفي إيطاليا وبلجيكا، ولم يلتحق
في مدارس أو جامعات. ولكنه تلقى تعليمًا خاصًّا، وأكمل تعليمه بنفسه، ثم استوطن
إنجلترا في العقد الثامن من القرن الماضي، حيث عاش حتى وفاته دون أن يبرحها إلا
مرات قليلة (قضى الشتاء تسع مرات في روما) كان فيها كاتبًا مستقلًّا ودارسًا (انظر
«الروح الألمانية The German Soul»، ص١٢١ وما
يليها، حيث عرض تفاصيل عن حياته).
مؤلفاته: «العنصر الصوفي في الدين كما درسته القديسة كاترين، من جنوا،
وأصدقاؤها The Mystical Element in Religion as Studied in St. Catherine of Genoa and Her Friends» في مجلدين، ١٩٠٨م (الطبعة الثانية، معدلة، ١٩٢٣م)،
«الحياة الأزلية، دراسة لمتضمناتها وتطبيقاتها Eternal Life, A Study of Its Implications and Applications» ١٩١٢م،
«الروح الألمانية،
دراستان The German Soul; Two Studies» ١٩١٦م، «مقالات وأحاديث في فلسفة
الدين Essays and Addresses on the Phil. of Religion» المجلد الأول، ١٩٢١م، والمجلد الثاني، ١٩٢٦م (طبعة رخيصة
للمجلدين في ١٩٢٨م و١٩٣٠م على التوالي)، «رسائل مختارة Selected Letters ١٨٩٦–١٩٢٤م» نشرها هولاند B. Holland مع بحث تذكاري في ١٩٢٧م، «حقيقة الله والدين
واللاأدرية The Reality of God and Religion and Agnosticism» نشره جاردنر E. G. Gradner، ١٩٣١م (يحوي مخلفاته الأدبية)، «قراءات من فون هوجل Reading from F. Von Hügel»، اختارها
ثورولد A. Thorold. ١٩٢٨م.
لا ينتمي إلى ميدان الفلسفة إلا جزء من شخصية فريدرش فون هوجل وعمله من حيث هو
مفكر، وبالتالي لا يمكن أن تعرض شخصيته على القارئ بأكملها، وإنما في بعض مظاهرها
فحسب، ولا بأس أن نقدم هنا تقديرًا له؛ إذ إن هناك إجماعًا على أنه «أعمق مفكر بين
اللاهوتيين الإنجليز الحاليين» (و. ر. إنج) وعلى أنه «أعظم لاهوتي كاثوليكي من غير
رجال الكنيسة، بل أعظم عقل تستطيع الكنيسة الكاثوليكية أن تفخر به منذ نيومان»،
(ف. هيلر
F. Heiler).
٧ وعلى أنه «أعظم مفكر ديني في القرن العشرين، وربما كان المفكر الديني
الوحيد فيه» (لوازي
Loisy)
٨ و«واحد من أهم الشخصيات الدينية في العصر الحاضر» (ترولتش
Troeltsch)، فأي إطار نحاول حصره فيه لن يتسع
لرحابه هذه الشخصية الرائعة وعمقها وشمولها ونقائها وقداستها الأصيلة، ولا يمكن
أن
تستنفد أطرافها في إيمانها الراسخ بالكاثوليكية، ولا في ميلها القوي إلى الصوفية،
ولا في أبحاثها العميقة في ميدان النقد العلمي للأناجيل، ولا في أية صورة أخرى
للنشاط العلمي المنظم، ولا في المعرفة الميتافيزيقية الفلسفية، ولا في علاقتها
بالحركة التجديدية
Modernist، بل كانت تلك شخصية
فريدة في نوعها من جميع النواحي، وكل أوجه النشاط المتعددة هذه إنما خضعت لتوجيه
شيء مركزي فيها، ولم تثمر إلا بفضل ما استمدته من الوجود الكامل لصاحبها، ورغم أن
شخصيته واضحة في هذه الجوانب كلها. فلا يمكن التوحيد بينها وبين أي منها على حدة،
ولا معها كلها سويًّا. وعلى ذلك فإن أفضل وصف لطبيعة هوجل وعمله هو ما يعبر عنه
ذلك
اللفظ الذي اختار هو ذاته أن يعرف به الطابع المميز للكنيسة الكاثوليكية؛ أعني لفظ
«الشمول» الذي ينبغي أن يُفْهَم — كما أوضح هيلر
Heiler — على أنه لا يعني الكلية فقط، بل يعني أيضًا الانسجام
والتوازن والتحرر من التغرض أو الانطلاق.
ولقد كان مركز هوجل داخل كنيسة الروم الكاثوليك وموقفه منها ذا دلالة هامة في هذا
الصدد. فلا يمكن القول إن كل جهوده وإنتاجه في الفكر والعمل قد اتفق تمامًا مع
التعاليم والشعائر الكاثوليكية، حقًّا إنه كان ابنًا بارًّا للكنيسة، يخضع لأوامرها
بمحض إرادته ويعرض مؤلفاته على رقابتها؛ ومع ذلك فقد كانت في شخصيته صفات لا يمكن
أن تحدها الكاثوليكية حتى بأوسع تفسير لها، فرغم أنه اعترف فعلًا بالأهمية الكبرى
لكل ما يمكننا أن نسميه بالهيئة الكنسية — أعني تنظيمها الخارجي وشعائرها بوجه خاص
— فقد كان لديه أيضًا فهم عميق للصراع العميق للروح ولحاجاتها وأحزانها، وللطابع
الباطن الحق للإنسان الذي يسعى إلى الله؛ وبالتالي للجانب الفردي من الحياة
الدينية، كما يعبر عنه التصوف أفضل تعبير، وكان يعلم أن الإيمان الحق ممكن خارج
تنظيم الكنيسة، مثلما هو ممكن داخلها، وأن العامل التنظيمي — على أهميته — لا ينتظم
الحياة الدينية في نطاقها الكامل. ولكنه — إلى جانب كل خضوعه لسلطة الكنيسة في
النواحي الأخرى — لم يكن على استعداد للتفريط في حقه في البحث الحر؛ ذلك لأن شعوره
العميق بالعنصر التاريخي في الدين، مقترنًا بأمانته العلمية الكاملة وروح البحث
الأصيلة لديه، جعله لا يقبل أي تنازل في هذه الناحية. وهكذا فإن مساهماته في تفسير
الأناجيل وفي تاريخ الدين والعقيدة إنما هي مساهمات في النقد العلمي بأدق معانيه،
وحتى عندما كان يطأ أرضًا خطرة أو يمس نقاطًا حساسة، لم يكن يستبيح لنفسه أن يسترشد
في أي منها بأي مبدأ سوى روح البحث عن الحقيقة والسعي وراء المعرفة، وقلَّ أن نجد
شخصًا أحس بمثل الألم الذي أحس به ذلك المفكر الذي كان من أعظم وأبر أبناء الكنيسة
الكاثوليكية، وهو يدرك مدى ضيق الأفق الذي تحاول به هذه الكنيسة أن تحد من حرية
انطلاق العقل، وكم شكا من الافتقار إلى الحرية العقلية. ومن القيود التي لا تطاق،
التي تفرض على أبحاث العلماء، وظل يبدي إعجابه كاملًا، مقترنًا بحسد صامت دون شك،
بتلك الأعمال العظيمة التي قام بها الباحثون البروتستنت، الذين لم تكن تقف في
طريقهم مثل هذه القيود، والواقع أننا نجد في هذا أعمق سبب لتبجيله الشديد لتلك
الشخصية البارزة في ميدان البحث والحجة الكبرى في العلم، إرنست ترولتش Ernst Troeltsch، ولغيره من اللاهوتيين
البروتستنت.
وأخيرًا، نصل إلى تسامحه، فهنا أيضًا نجده يمضي أبعد من الشوط المسموح به
لكاثوليكي متمسك بعقيدته، ونجده قد أبدى من التأييد العملي لهذا التسامح بقدر ما
دعا إليه ودافع عنه في كتاباته النظرية. وهكذا كان بيته في كنسنتن Kensington ملتقى لأناس من أشد الأنماط تباينًا، من
كاثوليكيين وأنجليكانيين ولوثريين ومخالفين Dissenters وكويكر (مرتعدين) ومفكرين أحرار، وكان يرتبط في علاقات
شخصية بمجموعة كاملة من الشخصيات الهامة التي تنتمي إلى مختلف الفرق والاتجاهات
في
العالمين القديم والجديد، وكان تأثيره بين الأفراد العاديين واللاهوتيين في الكنيسة
الأنجليكانية أعظم من تأثيره بين أفراد طائفته؛ ذلك لأن الكنيسة الكاثوليكية كانت
تتسامح معه في صمت، ولكنها لم تعترف به — ناهيك بتقديرها لقيمته الحقيقية — بنفس
المقدار، وسبب هذا التسامح هو أن ما لم يكن يُغتفَر للكاهن كان يمكن أن يُغتفَر
لشخص خارج عن سلك الكهنوت؛ ومع ذلك فقد قلَّ أن يوجد بين أبناء الكنيسة الكاثوليكية
من كان أبلغ منه في الدعوة إليها، أو أصدق منه في امتداحها، أو أبر منه في طاعتها.
ولقد وصفه هيلر Heiler بأنه «تجسُّد رائع للماهية
الكاثوليكية، وخلاصة للفكرة الكاثوليكية». ولكن هذه الصفات نفسها — أعني كونه
تجسدًا بلغ قدرًا كبيرًا من النقاء والعمق لماهية المسيحية الكاثوليكية وفكرتها
—
هي التي جعلت واقع هذه الكنيسة الغاشم — كما وجده — مصدر ألم له، وجعلته هو مصدر
ألم لهذه الكنيسة. ولقد دفعه ذلك، لوقتٍ معيَّن على الأقل، إلى الاشتراك في «الحركة
التجديدية» التي كانت تربطه بقادتها — ولا سيما «لوازي» و«تيرل Tyrrell» — صداقة حميمة، وأُطلِق عليه فيها اسم
«الأسقف غير الكهنوتي»، ولكن اتضح هنا أيضًا أنه كان أعظم من القضية التي تصدى
لخدمتها؛ فعندما انجرفت الحركة في تيارات متطرفة التجديد، انسحب منها، وظل مخلصًا
للكنيسة التي كان يجمعه بها منذ البداية اتفاق باطن أعظم من اتفاقه مع أية محاولات
إصلاحية أو انفصالية. وعلى ذلك، فرغم ارتباطه العارض بالحركة التجديدية، فلنحذر
من
أن نعدَّه تجديديًّا بأي معنى عميق، والواقع أن آراءه في فلسفة الدين وفي اللاهوت
تعبر — على العكس من ذلك — عن طابع مضاد صراحةً للتجديدية.
وأيًّا ما كان الجانب الذي تنظر منه إلى هوجل، فسوف تطالعك صفة الشمول والعمومية
فيه، وهي الصفة التي تتجلى خارجيًّا في أصل أبويه، وتعليمه وحياته الشخصية؛ فمن
المحال أن يُحدَّ المجال الذي يتحرك فيه ذهنه وروحه بأية حدود ضيقة، وأيًّا ما كانت
المقولات أو المجالات التي نسعى إلى حصره فيها، فلن ندرك دائمًا إلا جزءًا من
طبيعته الرحبة الشاملة؛ فهو رجل «عالمي» بحق، يتحرك — رغم الروابط القوية التي تجمع
بينه وبين الكنيسة الكاثوليكية — في مجال يعلو على الطوائف، ويتساوى فيه جميع
المسيحيين، ولم يكن إيمانه القوي الراسخ ذخيرة نفيسة يمتلكها قلبه فحسب، بل كان
أيضًا إدراكًا في ذهنه يتجدد دوامًا، ولم يكن ولاؤه للكنيسة مجرد قبول لقيم موروثة
آلت إليه، بل كان يمثل حركة حرة لروح يتحكم فيها احترام لقواعد العلم والبحث
الموضوعي، وكان فهمه للألوهية ناشئًا عن ثقافة دنيوية شاملة، ولم تكن تقواه قطعية
أو زاهدة، بل كانت متفتحة للمتعة الحسية ومرتبطة بكل ما هو حق وخير وجميل في هذا
العالم الأرضي أيضًا. ولقد لُقِّبَ بالباحث العلمي المقدس، وهو لقب يعبر فعلًا عن
أهم عناصر طبيعته، وكان يحب أن يشير إلى الهلينية والمسيحية والعلم على أنها هي
العناصر الأساسية الثلاثة في الإنسان الغربي الحديث، ألم يكن هو ذاته تجسدًا
ومركبًا رائعًا لهذه العناصر الثلاثة، التي كانت تحيا فيه في انسجام وتوازن بديع؛
أعني الهلينية بوصفها سعيًا وراء الجمال وامتداد الحياة وانسجامها، والمسيحية
بوصفها عالم الوحي العلوي والإيمان الباطن العميق، والعلم بوصفه القانون الصارم
الذي يتكشف بالبحث الدائب وبالعمليات الفكرية الواضحة؟
أما فلسفة هوجل — بالمعنى الأضيق — فلا تُفهَم إلا في صلتها بذهنه وشخصيته
الكاملين، فهي تمثل كفاح الرجل المتدين في سبيل الحقيقة والفهم الواضح، وهي ليست
ميلًا يسعى إلى إرضائه وسط ميول أخرى، بل هي أمر يتعلق بالرجل كاملًا؛ إذ تقتضي
انغماس شخصيته الكاملة فيها، وتتولد عن امتداد المعرفة وفيض الحياة، ولم تنشأ هذه
الفلسفة عن أية مدرسة أو تنتسب إلى أي اتجاه فلسفي، بل بزغت من الأعماق الخلاقة
لكيانه. وقد اشتملت على كل ذخائر علمه الغزير، ومعرفته بأمور الدين والدنيا، وتجلى
فيها نضج ثقافته وعلو مكانتها، وهي — في معناها الأخير — حكمة إلهية؛ إذ إن جميع
المشكلات التي تدور حولها تستضيء بهذا المعنى النهائي.
وينعكس في هذه الميتافيزيقا الإلهية الأساس الإبستمولوجي لتفكير هوجل، وهو أضعف
جوانب مذهبه؛ إذ كان ناتجًا عرضيًّا بسيطًا، يكاد يكون ساذجًا في طابعه؛ فهو يرى
أن
كل تجربة تشترك فيها عناصر ثلاثة: الذات والموضوع والوظيفة الفكرية التي هي معبر
يصل بينها، والعنصر الثاني — أي الموضوع — هو الذي يبدو أهم هذه العناصر جميعًا
في
رأي هوجل، فالموضوع هو المعطى بمعنى مطلق، وهو لا يعدو أن يكون ما يوجد خارج
وعينًا، والواقع المستقل الذي يواجهنا، أو بتعبير أدق: الذي يأتي لملاقاة الذات
بوصفه «ما هو مغاير لها تمامًا»؛ أي ما لا يمكن أن يكون مجرد ناتج للفكر أو وظيفة
له، بل ندركه لأننا نصادفه، أو نصطدم بضغطه ومقاومته؛ فهو «هناك» سواءً كنا نشعر
به
أو ننكره أو نشك فيه أو نقبله أو نرفضه؛ إذ إن كل هذه الأفعال الذاتية تفترض على
أنه حاضر من قبل، فماهية المعرفة تقتضي منذ البداية أن يقبل الواقع المتجاوز
للذاتية الدخول من حيث المبدأ في نطاق معرفة الذهن. وهكذا يرفض هوجل كل الحلول
الذاتية لمشكلة المعرفة، كمذهب الذات
الوحيدة Solipsism والمثالية ومذهب
الكمون Immanentism والمذهب
الظاهري Phenomenalism … إلخ، وينادي بموضوعية أو واقعية صريحة يسميها هو ذاته
«بالنقدية»، وإن تكن في حقيقتها ساذجة إلى حد بعيد، وهو يرى أن هذه الواقعية تتمثل
لدى أفلاطون وريد وعند لوتسه وكولبه، فضلًا عن غيرهم من المفكرين المعاصرين.
وهكذا فإن الواقع يُعْطَى لنا في وضوح مباشر بوصفه «ما هو أكثر من مجرد ذاتي»،
وهو يتكشف للتجربة البشرية على أنحاء متعددة وبأشكال ودرجات مختلفة. وهناك وجهتا
نظر لهما أهميتهما في تحديد مستوى الواقع المعطى أو مركزه: الوضوح الذي ندركه به،
ومدى امتداد المضمون الذي يقدمه إلينا؛ ففي العلوم الرياضية نكون إزاء علاقات مجردة
وشكلية خالصة، سواءً أكانت عددية أم مكانية. وهذه العلاقات تعطي لنا في وضوح وتميز
تامين، ويتم نقلها من ذات إلى الأخر بيسر وعلى نحو مباشر؛ فهي شفافة تمامًا؛ لأنها
لا تتضمن تأكيدًا لوقائع محددة. ولكننا كلما ازددنا ارتفاعًا في سلم الوجود، وكلما
ازدادت العلاقات التي تتشابك فيها الأشياء تنوعًا وتعقدًا، ازداد مضمونها ثراءً
وعينية؛ غير أن الواجب ألا يدرك ثراء المضمون هذا بنفس الوضوح الملزم الذي تدرك
به
الأنماط الشكلية الخالصة من العلاقات، أو ينقل بنفس السهولة التي تنقل بها. فكل
حقيقة من نوع أعلى تعجز المعرفة عن استنفادها بقدر ما تزداد هذه الحقيقة عينية
وتعقدًا؛ غير أن ما يضيع من الوضوح يسترد في الحيوية والخصب وثراء المعنى، ويقترن
بذلك نوع من الغموض في الطريقة التي نشارك بها في مثل هذه الحقيقة، ويحدث ذلك في
«العلوم الأعمق»، ولا سيما التاريخ والعلوم الذهنية، التي نواجه فيها الحياة في
فرديتها وعينيتها، ونستخدم معايير ومناهج تختلف تمامًا عن تلك التي نستخدمها في
الرياضة والبحث في الطبيعة. ولقد ظهرت أفكار مماثلة بتأثير أبحاث فندلبنت وريكرت
المنهجية في الأساس الذهني للعلوم «الطبيعية» و«الحضارية»، وأثارت اهتمام هوجل منذ
عهد مبكر، فأعرب عن اتفاقه معها من كل قلبه في محاضرة ألقاها عام ١٩٠٥م (بعنوان،
«مكانة العنصر التاريخي ووظيفته في الدين»، طبعت في «مقالات وأحاديث»، المجلد
الثاني، ص٢٥–٥٥)، ثم أعاد فيما بعد صياغة أفكاره في صورة أكثر ملاءمة لمذهبه؛ غير
أن السمات الرئيسية لأبحاث ريكرت في مناهج العلوم تظل واضحة خلالها.
والواقع أن من السمات المميزة لتفكير هوجل: تبجيل الواقع وقبوله والاعتراف به في
تواضع، من أدنى مستوياته إلى أعلاها؛ فالواقع المستقل عنا محيط بنا من كل جانب،
والعنصر الذي يتجاوز الذاتية يؤثر في وجودنا من كل جهة، ونحن نصادفه على نحو ممتلئ
بوجه خاص، وحافل بالمعنى الحيوي، في الصور الخاصة للحق والخير والجمال، وفي عوالم
القيم التي هي بدورها ليست من صنعنا، بل ندركها على أنها واقعية موضوعيًّا، وتصبح
موضوعات للمنطق والأخلاق وعلم الجمال؛ غير أن أعلى تكشُّف لما يتجاوز الذات، إنما
يكون في التجربة الدينية، وحقيقة الله هي التي تعلو على كل حقيقة أخرى. وهكذا نصل
إلى الميدان الذي كان منذ البداية الميدان الخاص لهوجل، والذي يكون لب فلسفته
ومركزها، والذي كان يسعى دائمًا إلى إلقاء الضوء عليه من خلال معرفته وتجربته التي
تزداد تعمقًا على الدوام.
ومن السهل أن يتلاءم تصور الله مع نظرية هوجل في المعرفة وفي الحقيقة، أو أن
الأصح هو أن نعكس الآية؛ إذ إن نظرية المعرفة لم تعرض إلا لتكملة فكرة الله ومن
أجلها، ففكرته عن الله هي التي تضع الأجزاء الأخرى من مذهبه في مكانها الحقيقي لا
العكس. وهنا أيضًا نجد أن الفكرة الرئيسية هي كون الله «معطي»، «فالدين — أكثر من
جميع الاعتقادات الأخرى التي تزعم لنفسها الاتصال بالواقع — يبدأ ويسير وينتهي بما
هو معطى، وبموجودات وحقائق تحيط بنا وتتغلغل فينا، ويتعين علينا دائمًا أن نمسك
بها
ونجمع بينها ونكشف عنها ونفهمها من جديد»، (مقالات وأحاديث المجموعة الأولى، ص١٣
من
المقدمة). فلا يمكن أن يستنبط وجود الكائن الإلهي أوليًّا من العقل الخالص، أو
يبرهن عليه من أية وقائع في الطبيعة أو الحياة البشرية. فكل هذه الاعتبارات يحول
دونها كون لله موجودًا من البداية؛ أي إن كونه معطى يعني في الوقت ذاته كونه أصلًا.
وهذا هو الضمان النهائي لوجود كل «المعطيات» الأخرى أو الحقائق ذات المرتبة الأدنى.
وهكذا فإن الوجود الإلهي معطى مقدمًا، أو أصلي بمعنى مزدوج، أولًا في مقابل جميع
التفسيرات التي تعطي له من خلال المعرفة أو التجربة الذاتية، وثانيًا في مقابل كل
واقع معطى «موضوعيًّا» بمعنى ما.
فأهم الحقائق التي يمكن إثباتها بشأن وجود الله هي كونه معطى وكونه أصلًا، وهاتان
الحقيقتان تؤكدان لنا أن الله حقيقة كبرى مستقلة عن كل معرفة وشعور، وعن كل تبصر
وتجربة، وسابق على أي كيان آخر، ويتحكم في كل وجود آخر ويشتمل عليه؛ فهو أسمى وأكمل
حقيقة يمكننا تصورها، وهو حقيقة تتضاءل كل الحقائق الأخرى إذا ما قورنت بامتلاء
حياتها وثرائها، وبقوتها وشدتها وعينيتها، حتى لتغدو تلك بالقياس إليها وهما
فارغًا؛ أي إنها — كما يعبر عنها هوجل في صورة مجازية — تفيض من فرط الامتلاء الذي
لا حد له، لثرائها الذي لا ينضب معينه؛ غير أن هذا يعني — بالنسبة إلى معرفة الله
—
أننا نحمل فينا دائمًا شعورًا غامضًا عميقًا بهذه الحقيقة التي تفوق كل شيء. ولكننا
لا نستطيع إدراكها إلا بطريقة ناقصة تمامًا، من خلال عقلنا التصوري، فمعرفة الله
ليست مسألة تفكير واضح وتصورات محددة بدقة وحكمة ميتافيزيقية، وهي لا يمكن أن ترتفع
إلى ذلك المستوى الرفيع من الوضوح العقلي الملزم الواضح بذاته، الذي نفهم به
العلاقات الرياضية، بل ستظل دائمًا غامضة مختلطة خفية. ولكنها لهذا السبب ذاته أكثر
ثراءً وخصبًا وامتلاءً إلى حد لا متناه؛ أي إن معرفة الله لا تتميز بالوضوح بل
بالحيوية، وهي أشبه بمجال ضوئي، توجد في مركزه قوة من الإشعاع الوضاء، بينما تزداد
الحواف إظلامًا كلما ابتعدت عن مصدر النور، ومهما تمكنا من المضي في معرفتنا قدمًا،
فستظل هذه الحواف في الظلام دائمًا.
ورغم ذلك فإن فلسفة هوجل لا تنحط أبدًا إلى مرتبة اللاأدرية، بل إنها تتميز
بالجرأة الشديدة في الاهتداء إلى أوصاف وتحديدات متجددة دوامًا لوجود المطلق، وهي
تستمتع بالسير في المعرفة حتى الأعماق السحيقة للميتافيزيقا. وفضلًا عن ذلك فإن
هدفها الأعلى والوحيد هو إيضاح الأسس الإلهية للوجود، فمحورها كله يدور حول مركز
الألوهية، وكل المشكلات الأخرى ترتكز على هذه وتضاء بها. وعلى ذلك فإننا عندما
نواصل تتبع تحديد هوجل لوجود الله سنكون قد كشفنا عن فلسفته كاملة.
وهكذا يمكننا — باتخاذ نقطة بدايتنا من الفكرة الشائعة عن حضور الله في كل مكان —
أن نبحث في تلك المشكلة الهائلة، مشكلة الزمان والأزلية؛ ففي مذهب هوجل ينظر إلى
المطلق، كما ينظر إليه في كل مذهب ميتافيزيقي عظيم، على أنه لا زماني ولا مكاني
ولا
ممتد، غير أن أزليته أو لا زمانيته — وهي موضوع أهم بالنسبة إلى بحثنا الحالي من
«لا مكانيته» — تُفَسَّر على أنها تعاصُر contemporaneousness أو معية simultaneity؛
فمن الواجب أن نتصور حياة الألوهية وطبيعتها من خلال صورة «الكل معًا» أو «الكل
في
آن واحد»؛ غير أن المعية لا تعني صورة فارغة، بل هي أعلى حد من الوحدة في الكثرة.
ومن الكثرة في الوحدة. وبهذا المعنى تكون هي التعبير الأمثل عن الجمال الأسمى والحق
المطلق والخير الكامل. وهذا كله يكشف لنا طبيعة المطلق بوصفه وجودًا خالصًا، أو
وظيفة أو طاقة خالصة، أو فعلًا خالصًا actus purus
بالمعنى الذي استخدمه القديس توما الأكويني والمدرسيون، ولو عبرنا عن هذه الفكرة
سلبيًّا، لكان معناها أن الله ليس عملية ولا تطورًا ولا تعاقبًا، وأن هذه الأمور
كلها تُمْحَى وتُلْغَى بعد اندماجها فيه، أما العكس الذي يقف في مقابل المعية؛ فهو
التعاقب أو التوالي الزمني، الذي يميز هوجل نوعين منه: «زمان الساعة» والمدة، وهو
يعني بالأول الزمان الرياضي أو الفلكي المحض، الذي ينقضي فحسب ولا يكون محمولًا
بأي
محتوى عيني. أما الثاني فهو ما تعبر عنه فكرة «المدة الحقيقية» عند برجسون إلى حد
بعيد، والأخير هو الصورة الحقيقية للزمان كما يجرب في المجال العيني، وهو الزمان
الذي يحيا فيه كل تاريخ ويتحرك، في مقابل مجرد انصرام الحوادث ومرورها في الطبيعة
غير العضوية أو في العالم الحيواني، والمدة لا تعني تعاقبًا فحسب، بل تعني كذلك
تداخلًا وتشابكًا دائمًا للحظات الزمنية أو التجارب ذات المعنى، فما يدوم مدة يمكن
أن يزداد شدة وعينية وتركزًا، ويزداد على الدوام اقترابًا من نوع من المعية. وهكذا
توجد علاقة محددة بين التعاقب والمعية، هي علاقة مراحل في تطور واحد، فكلما ازداد
التعاقب تحررًا من التوالي المحض، وانتقل إلى التداخل المتبادل أو المدة، ازداد
اقترابًا من المعية. وهكذا فإن الحياة البشرية، بقدر ما تكون حياة حقة للذهن، وليست
مجرد معيشة حيوانية من لحظة إلى أخرى، تدور في المجال المتوسط الذي يقع بين زمان
الساعة وبين المعية الإلهية الخالصة، وتعبر المدة عن نوع حياتها تعبيرًا مطابقًا،
ومن ثم فإن زمان المدة ليس حاجزًا بيننا وبين الحياة الأزلية لله، بل هو على العكس
من ذلك وسيلة ووساطة نصل بها إلى تجربة هذه الحياة ومعرفتها على أكمل نحو ممكن؛
فالزمني يتصاعد إلى الأزلي، ويفنى فيه حالما تتحول كل لحظة من التعاقب عن طريق
الديمومة إلى معية.
غير أن الأزلي يعود إلى الانطباع على الزمني. وهذا يؤدي إلى صفة جديدة للألوهية،
أي كون الله كامنًا مثلما هو عال. ولكن كيف نوفق بين كمون الله وعلوه على النحو
الذي يجنبنا التناقض في الفكر؟ لقد رأينا أن الله هو أكمل وأثرى حقيقة يمكننا أن
نتمثلها لأنفسنا. ولكنا نستطيع بحث هذه الحقيقة على وجهين: إما من الباطن وإما من
الظاهر، دون أن يؤدي ذلك إلى المساس بوحدتها، فلو نظرنا إلى الطبيعة الإلهية من
الباطن، لكانت هي الوجود المستقر في ذاته، والمتركز في نفسه، والذي ينهل من حياته
الباطنة الممتلئة، هذا هو «وجود الله بذاته»
((
aseity)
divine)
٩، الذي يمكن تسميته أيضًا بالطابع المطلق لله،
والتعبير السابق يشير إلى فكرة قديمة عند المدرسيين أحياها هوجل في هذا السياق؛
غير
أن هذا لا يستنفد جميع أطراف الطبيعة الإلهية؛ فمن الممكن أن يترك الإله المطلق
—
بفعل إرادي حر — وجوده بذاته، ويكون عالمًا يكون حقًّا من خلقه وتعبيرًا عن طبيعته
من نواح متعددة. ولكنه مع ذلك يكون مغايرًا له ومختلفًا عنه تمامًا في أمور أساسية.
وهكذا يصبح الإله المطلق إلهًا خالقًا، وتغدو حياته الباطنة فعلًا ظاهرًا، وتتدفق
حقيقته الفياضة إلى أدنى، في العالم الذي خلقته، وتتغلغل فيه وتحفظه وتحكمه، عندئذٍ
يصبح الله «معطى»، ويتكشف «في» العالم أيضًا؛ ففي هذا العالم أصبح جسدًا، وفيه أصبح
كامنًا؛ غير أن فكرة الكمون الإلهي ينبغي أن تُعْزَلَ عن أي نوع من القول بشمول
الألوهية (
pantheism)، وأية محاولة لمساواة الله
بالكون؛ فالكمون لا يعني إلا حقيقة التجسد الكونية، «وهبوط» المبدأ الإلهي إلى عالم
المخلوقات المحدود، دون أن يكون في ذلك أي مساس بالعلو الإلهي الحقيقي، ويتحقق تجسد
الله أو خروجه من ذاته — على أوضح نحو ممكن — في تحول ابن الله إلى إنسان؛ غير أن
هذا لا يقتصر على مظهره التاريخي في يسوع، وإنما يتعلق أيضًا بالكنيسة كلها، التي
هي هيئة المسيح؛ وبالتالي التجسد المستمر للابن. ولكن الكنيسة ظاهرة تاريخية. وهكذا
فإن الله يتكشف أيضًا في حياة التاريخ، ويتكشف قبل كل شيء في حياة الكنيسة المسيحية
والقديسين، وفي تاريخ العالم أيضًا ولكن بدرجة أقل؛ غير أن أعلى يقين لله يُعْطَى
لنا في التجارب الدينية ولا سيما الصوفية، ورغم أن الله يتجلى أيضًا في العلوم
والفنون وفي الطبيعة أخيرًا، فإنه يتجلى في هذه الحالات الأخيرة بوصفه شعاعًا
خافتًا أكثر منه يقينًا واضحًا، وفيها يظهر الخاتم الإلهي أكثر مما يظهر الحضور
الإلهي المعطى.
ذلك لأن الطبيعة هي الوجه الآخر المغاير «لله»، وهي مجال الوجود الذي ينطبع عليه
الحضور الإلهي على أضعف نحو، ومثل هذا يمكن أن يقال أيضًا عن الحياة الحيوانية
والبشرية بقدر ما تسلك مسالك الطبيعة، في هذا المجال يوجد قدر مفرط من الحزن والألم
والخطيئة والإثم والشر والقبح، وهي بعينها الأمور المغايرة للطبيعة البشرية والتي
ينبغي ألا توجد معها. ولقد كانت مشكلة الشر، وهي أكبر عقبة كأداء في وجه كل
ميتافيزيقا ترتكز على فكرة الألوهية، تقلق هوجل طوال حياته، ولم يستطع أن يقبل
أيًّا من حلولها الشائعة، ولا أن يجد حلًّا خاصًّا به يكون مرضيًا من الوجهة
النظرية. ولقد حرص هوجل بوجه خاص على الابتعاد عن التفاؤل السطحي أو أية محاولة
رعناء لاستبعاد حقيقة الشر الأساسية أو الإقلال من شأنها. ومن هنا أحس بالنفور من
الحجج الرخيصة عند الهيجليين، وهي مدرسة شعر نحوها باشمئزاز صريح، سواءً أكان ذلك
بالنسبة إلى تعاليم هيجل نفسه، أم إلى تلاميذه الإنجليز على الأخص؛ فقد كان يعترف
بفداحة المشكلة وصعوباتها الكاملة، ولم ير في الشر مجرد غياب للخير، بل كان في رأيه
قوة إيجابية، وتشويهًا أساسيًّا للخير. ولقد كان أحيانًا يعرب عن الرأي القائل
بوجود فرق أنتولوجي بين الخير والشر، من حيث إن الشر لا يمكن أن يكون كله شرًّا
كاملًا مركزًا، بينما الخير يكون خيرًا كله. وهكذا كان يرى أن الخير أقوى عمومًا
من
الشر، مثلما رأى أن السعادة أقوى من الشقاء. ولكنه لم يقصد من ذلك إلى إضعاف طابع
السلب الأساسي في العالم. وهكذا بلغت به الأمانة حد الاعتراف بأنه، إذا أدركنا
الحكمة والخيرية والقدرة الكاملة لله، فلن نجد — ولا يمكن أن نجد — حجة مرضية
نظريًّا، لتفسير حقيقة الشر. وعلينا أن نقبله على علاته، بحيث تكون الوسيلة الوحيدة
للتخلص من هذه الصعوبة آخر الأمر منتمية إلى المجال العلمي، الذي ينبغي أن نحشد
فيه
كل قوانا للتغلب على الشر وتحويله إلى أداة للخير.
ولكن هل تؤدي البقع الشمسية للشر إلى إضعاف أو إنقاص لمعان الشمس الإلهية على أي
نحو؟ وهل ينبغي أن نربط بأية طريقة بين الخطيئة والإثم، بل وبين الحزن والألم
والقلق، وبين طبيعة الله على أي نحو؟ يثير هوجل هذا السؤال بصورة صريحة؛ لأن
الفلسفة الإنجليزية المعاصرة كثيرًا ما أجابت عليه بالإيجاب. وهكذا وجدت فكرة
الطبيعة «المتناهية» لله قبولًا لدى مفكرين مختلفين كل الاختلاف، مثل مل وشيلر
وسورلي وراشدال وغيرهم، وانطوت في ذاتها على افتراض أن الله كائن معذب يمكنه —
كالإنسان — أن يحس ألمًا وعطفًا. أما هوجل فلم يستطع أن يوفق بين هذا الرأي وبين
نظرته المتسامية إلى الله؛ فقد كان مقتنعًا بأن الألم — وإن لم يكن في هوية مع
الخطيئة — ينتمي في أصله النهائي إلى عالم الشر مثلما تنتمي إليه الخطيئة. ولكن
رفضه أن يربط بين الله وبين أي شيء سلبي هو الذي جعله يستبعد العذاب بدوره من
طبيعته، «فنحن لا نقبل أن يكون في الله أي شر، سواءً أكان خطيئة أم ألمًا فحسب،
وسواءً أكان موجودًا بالفعل أم بالقوة». وهكذا صور المطلق على أنه سرور خالص طاغ
لا
تشوبه شائبة. وعلى أنه بحر من السعادة لا تشوبه قطرة واحدة من الخطيئة أو العذاب،
ولا حتى إمكانهما. ولكن لما كان الإنسان لا يصبو فقط إلى موجود أعلى يشاركه فرحه
وسعادته، بل يصبو أيضًا إلى موجود كهذا يشاطره ألمه وعذابه في عطف وشفقة؛ فقد أرسل
الله ابنه إلى العالم، وحمَّله عبء البشر وعذابهم؛ ففي عذاب المسيح يكون الألم أشبه
بموجة تطغى حتى على المجلد الإلهي ذاته؛ غير أن هذا الألم لا يمس هذا المجد ذاته
في
شيء. وهكذا فإن النتيجة التي توصل إليها هوجل — في صدد مسألة توزيع الخطيئة والعذاب
في العالم — هي أنه بينما ينغمس الإنسان في الخطيئة ويتعرض للعذاب، فإن المسيح قد
تحرر من الأولى وتعرض للثاني. أما الله فمعصوم منها معًا.
ولنختم هذا العرض لميتافيزيقا هوجل بمناقشة موجزة لمشكلة الحرية، التي ترتبط
بمشكلة الشر ارتباطًا وثيقًا؛ فهوجل يميز بين نوعين من الحرية: الكاملة والناقصة،
الأولى هي حرية الله. أما الثانية فهي حرية الإنسان، ويقول هوجل برأي مضاد للرأي
الشائع القائل: إن الخطيئة هي الثمن الذي ينبغي أن يدفعه الإنسان لحرية الإرادة
التي وهبه إياها الله، فهو يعترف بأن للإنسان القدرة على الاختيار بين الخير والشر،
وأنه كثيرًا ما يقع في الخطيئة لهذا السبب. وهكذا تكون الحرية البشرية حرية اختيار
بين أمرين أو أكثر كليهما ممكن؛ غير أننا لسنا أحرارًا لأن لدينا هذه القدرة على
الاختيار، بل نحن أحرار على الرغم منها. فليس للحرية الحقة شأن بالقدرة على الرغبة
في الشر بدلًا من الخير، وطالما أننا نستطيع ارتكاب الخطيئة فإننا لا نكون أحرارًا
إلا بمعنى محدود جدًّا، ولو كانت لدينا الحرية الكاملة لما وُجِدَ شر فعلي، بل لما
كان أي شر ممكنًا. أما إذا تساءلنا عن السبب الذي من أجله خلق الله الناس معرضين
لاختيار الشر على هذا النحو، فلن نجد لهذا السؤال جوابًا، وكل ما نعرفه هو أن
الحرية الأصيلة إنما هي تعبير عن وجودنا الحق على أكمل نحو ممكن، ودون أي قهر
خارجي؛ غير أن الخطيئة هي سبب لوجودنا الحق؛ وبالتالي لا يمكن أن تكون حرية ارتكاب
الخطيئة حرية أصيلة، وما هي إلا انعكاس ضعيف لتلك الصورة العليا لها، التي هي حرية
الله وحده، ونستطيع أن نلخص رأي هوجل في الحرية بقول القديس أوغسطين: «إن القدرة
على عدم ارتكاب الخطيئة، تعني أن الحرية أعظم ما تكون».
على أن ميتافيزيقا هوجل — التي عرضناها منفصلة عن المجالات الأخرى لتفكيره — لم
تعرض عنده في صورة مذهب مكتف بذاته، بل عُرِضَت في السياق الأوسع لدراساته
اللاهوتية ونقد الأناجيل وتاريخ الكنيسة، ولم تكن هذه فقط هي الميادين التي أحرز
فيها أفضل النتائج وأقواها دلالةً، بل كانت هي التي غرس فيها أخصب بذوره الفكرية،
ولزام علينا أن نكتفي هنا ببعض الإيضاحات عن تعاليمه حول ماهية الدين بوجه عام،
والكنيسة المسيحية بوجه خاص، فالدين لا يهتم بالتفكير البشري، بل بالحقيقة التي
تعلو على الإنسان، ولا صلة له بإيجاد ما ينبغي أن يكون، بل هو ينصب على الاعتراف
بما هو كائن، وهو ليس من صنع الإنسان ولكن من عمل الله، وعلامته الأساسية هي كونه
معطى (givenness)، أو كما يعبر عنها هوجل بطريقته
التي كان يهوى فيها نحت ألفاظ مجردة، هي كينونته
(isness)، وهو في هذا يتميز عن الأخلاق، التي
يستخدم هوجل للتعبير عن طابع الأمر فيها لفظ «الوجوب
oughtness»، وموضوع الدين، مثل موضوع المعرفة،
هو الحقيقة المستقلة، وغالبًا ما يسمى ذلك النوع من الاستقلال الذي يختص به الدين
«ما بعد الذاتية» أو «ما فوق الإنسانية» أو «الآخرية
otherness» فقط، والتجربة الدينية — بوصفها
طريقة إدراك الموضوع الديني — هي دائمًا غير كافية للتعبير عن هذا الموضوع، أو
بعبارة أخرى فإن العامل الموضوعي يرجح دائمًا على العامل الذاتي، والطريقة التي
يصبح بها الموضوع الديني مرئيًّا للبصيرة البشرية هي الوحي؛ فالوحي دائمًا نتيجة
للعامل الموضوعي، وهو الطريقة التي يكشف بها طابعه المعطى عن ذاته، ومقابل الوحي
في
جانب الذات هو الوضوح الذاتي أو الإدراك المباشر لحقيقة تكشف عن ذاتها، ولا يتعين
أن يكون هذا واضحًا متميزًا؛ فهو في معظم الأحيان غامض خفي. ولكنه مع ذلك يقيني
لهذا السبب. وهكذا فإن الدين — حسب تعبير هوجل — يتميز من حيث الكيف بالبداهة،
وطابعه هو الوحي.
وفي فلسفة الدين عند هوجل فكرة أخرى على جانب كبير من الأهمية تكون خيطًا واحدًا
يمتد في جميع كتاباته، هي التمييز الذي يقول به بين ثلاثة عناصر في الدين هي: (١)
العنصر التنظيمي التاريخي، (٢) والنقدي التأملي، (٣) والصوفي الإرادي، وهو يستمد
هذه العناصر الثلاثة من القوى الثلاث الأساسية في حياتنا النفسية الباطنة، التي
يسميها بالحسية والعقلية والأخلاقية الصوفية؛ فالعنصر الأول يناظر التجربة المؤكدة
في الإدراك الحسي، والثاني يناظر التفكير الواضح والمتميز، والثالث يناظر الإيمان
العميق الذي يتبدَّى عمليًّا في الفعل، ويربط هوجل بين هذا التمييز وبين رأي نيومان
القائل: إن كل عقيدة أصيلة (والكاثوليكية منها بالطبع) تستمد غذاءها من المجالات
الثلاثة للسياسة والفلسفة والتقوى، وطبيعتها الصحيحة لا تتحقق إلا في المركب
والتوازن بين العوامل المنبثقة عن هذه المجالات الشديدة الاختلاف؛ فالجانب الفلسفي
للدين يستمد من الميتافيزيقا كما أوضحنا من قبل. وفضلًا عن ذلك فإن هوجل يستمد من
المبدأ الذي يعطي الباحث حق تحري المصادر والوثائق الدينية حسب أدق المناهج
العلمية، تبريرًا للبحث النقدي في الأناجيل والدراسة العلمية للكتب المقدسة، وهو
لا
يريد من الكنيسة أن تبيح البحث التاريخي الحر فحسب، بل يريد منها أن تشجعه، وألا
تقف في سبيله مهما كانت الظروف؛ ذلك لأن الدين المسيحي مبني في رأيه على حقائق
تاريخية، شأنه شأن كل دين آخر، ولا بد للتيقن من هذه الحقائق وإخضاعها للفحص الدقيق
من استخدام نفس المنهج الذي يطبق على حقائق التاريخ الدنيوي.
وبعد ذلك يتحول انتباه هوجل إلى الطابع التنظيمي، والطابع الصوفي للدين، ولا سيما
للمسيحية الكاثوليكية التي تضع نصب عينيها دائمًا النوع الأمثل من الحياة الدينية،
وهو رغم ميله الخفي إلى الصوفية، يهتم بالجانب التنظيمي اهتمامًا كبيرًا، فيصفه
بأنه التجسد الإلهي في العالم، وهبوطه من علوه إلى الحلول في الوجود الزمني
والأرضي، وهو الشكل الذي يريد اللامتناهي أن يتخذه في المتناهي، وتريد الروح أن
تتخذه في المادة، والضروري في عرضية المكان الحاضر أو الزمان الحاضر. وهذا التشكل
والتجسد يتم على أوضح وأكمل صورة في الكنيسة، ذلك هو الوجه الخارجي أو الشعائري
أو
التاريخي للدين، وهو يشمل كل ما ليس مجرد تجربة ذاتية أو شخصية للفرد، وكل ما ينتمي
إلى الحياة الدينية في الجماعة، وينتقل فيها كأنه ميراث من جيل إلى جيل، ويجد
تعبيرًا عنه في الكنائس والجماعات والطوائف، وفي المنظمات والشعائر المرعية. وبهذا
المعنى يكون الدين قوة اجتماعية تحصرها تنظيمات كنسية، وهو يرتكز على تراث الحياة
التاريخية، كما أنه هو ذاته تركيب تاريخي ينمو من نسيج الحوادث في العالم ويتشابك
فيه.
ويولي هوجل أهمية خاصة لعنصرين في الدين متضمنين بالضرورة في طابعه التنظيمي هما:
تاريخيته وجانبه المحسوس؛ فحتى مع كون موضوع الدين هو حقيقة الله التي تعلو على
الزمان وعلى المحسوس، فإن هذا لا يعني أن الحياة الدينية تتحرك في مجال من الروحية
الخالصة، ولا ترتبط على أي نحو بالوجود المتناهي؛ فالدين والتاريخ ليسا متعارضين
على الإطلاق، بل إن العكس هو الصحيح؛ أي إن الأول يتضمن الثاني صراحةً ويشتمل عليه
في داخله إذا ما شاء أن يصل إلى تحقُّقه الصحيح. غير أن هذا لا يكون ممكنًا إلا
إذا
فُهِمَ التاريخ على النحو الصحيح، على أنه ليس مجرد تعاقب أو سلسلة من العمليات،
بل
هو مسرح لقوى وقيم فوق الزمنية، تتجسد فيه وتعبر عن نفسها من خلاله، فبقدر ما يربط
العامل التاريخي — على هذا النحو — بالقيم الموضوعية ربطًا لا ينفصم، يكون قد تجاوز
طابعه الزماني المحض المرتبط بالمكان الحاضر واللحظة الراهنة، ويتخذ الزمان فيه
طابع المدة، ويتخذ أساسًا له من تلك المعية الخالصة التي تتحول فيها كل عملية
وظيفية وكل حادث إلى فعل خلاق، ونستطيع أن نرى في هذا الاتجاه الفكري عناصر من
نظرية ريكرت في القيمة ونظرية برجسون في الزمان، وبفضلها مُهِّد طريق لفهم التاريخ
ودلالة صفة التاريخية كان لا يزال مقفلًا في وجه المفكرين الذين كانت العلوم
الطبيعية تتحكم في تفكيرهم.
غير أن الدين لا يتفق كل الاتفاق مع التاريخ فحسب، بل إن العالم المحسوس، وحياة
البدن والمادة، لا تتناقض معه، صحيح أن الدين حياة الروح. ولكن هوجل لا يكف أبدًا
عن تأكيد أن كل ما هو روحي ينبغي أن يتجسد في المحسوس ويستثار به حتى يمكن أن تدركه
التجربة البشرية؛ فالأفكار التي لدينا عن الحقائق غير الحسية أو الروحية، ليست
أبدًا مجرد تجريدات فكرية، بل هي ترتبط على نحو أو آخر بمؤثرات حسية أو صور أو
ذكريات، أو تأتينا بمناسبة هذه المؤثرات، ويرى هوجل أن هذا التأكيد القوي الذي
يبديه للأساس الحسي لكل حياة ذهنية أو روحية عُليا، يجد له تبريرًا إبستمولوجيًّا
في نظرية هيوم المعروفة في الانطباعات والأفكار، ويحاول أن يبين أن تلك الواقعية
الحسية، التي تبدو لنا أكثر الوقائع عرضية وزوالًا، إنما هي ضرورة لا غناء عنها
من
أجل تكوين أبسط الأفكار عن شيء باقٍ دائم، ومن أجل تكوين فكرة الأزلية والله في
نهاية الأمر، فنقاء الروح لا يستبعد المحسوس والجسمي. ولكنه يحتاج إليهما بوصفهما
مكونات ضرورية له، والبدن هو الرفيق الذي لا يستغني عنه الذهن، وكل منهما عاجز عن
الانطلاق حرًّا بدون الآخر. فليس ثمة روحية خالصة ولا جسمية خالصة. ولكن هناك
دائمًا وحدة البدن والذهن أو الجسم والروح، التي يتشابك فيها الاثنان معًا ويتضمن
كل منهما الآخر تضمنًا وظيفيًّا. وهكذا ففي مقابل عملية تجسُّد الروح أو اصطباغها
بالصبغة الجسمية، وهي العملية التي استخدم هوجل مجموعة زاخرة من التعبيرات للدلالة
عليها، توجد هناك — من الجانب الآخر — عملية صبغ الجسمي أو الحسي بالصبغة الروحية.
ولكن دون أن يعني ذلك قمعه أو القضاء عليه، بل يعني فقط رعايته على نحو أرفع، مع
الاحتفاظ تمامًا بطابعه المميز، ولنقل، بتعبير هوجل الرائع: «إن الأعلى ينحني
ويجتذب الأدنى، والأدنى يشب على أطراف أصابعه، ويهفو إلى الأعلى ويسعى إليه
ويريده»، (مقالات وأحاديث في فلسفة الدين، المجموعة الثانية، طبعة عام ١٩٣٠م
الشعبية، ص١٠٧). وعلى ذلك فإن هوجل لا يستطيع أن يتصور الحياة المباركة ذاتها خالية
من كل ما هو مادي أو جسمي أو حسي، بل تظل الأولى على نوع من الاتصال به، وتتقمصه
وتؤكده على مستوى أعلى. وبهذا الاتجاه الفكري وجد تعبيرًا عن كل السرور المتمتع
بالحواس، الذي تتميز به الكنيسة الكاثوليكية.
ولكن المرء يخطئ فهم طبيعة الدين لو تصوره مجرد تنظيم خارجي فحسب؛ فالدين أيضًا
متجه إلى الباطن بنفس القوة، وهو تجربة شخصية للنفس الفردية، وهو تجربة ذاتية بقدر
ما هو شعائر موضوعية. وقد بحث هوجل هذا الوجه للدين ضمن موضوع التصوف، فقام في
كتابه العظيم عن القديسة كاترينا — من جنوا — بدراسة متعمقة «للعنصر الصوفي في
الدين»، وحاول إيضاحه وتفسيره من كل جانب. وقد جمع هذا العمل — الذي هو أهم ما
أنجزه هوجل — بين غزارة العلم ورجاحة العقل وتبصر الروح، فكانت النتيجة كتابًا لا
يكاد يكون له نظير بين المؤلفات الحديثة في التصوف.
ويُعَرِّف هوجل التصوف بأنه الإدراك الحدسي الانفعالي الموضوعي الديني على أنه
حقيقة موضوعية؛ بمعنى أنه روح لا متناهية وشخصية كاملة تحقق ذاتها في القيم
الأزلية، قيم الحق والخير والجمال، وتكون فعالة فيها؛ فالتصوف هو التجربة الباطنة
للحضور الفعلي لله في الوعي الإنساني، لا من حيث هي مجرد حالة ذهنية ذاتية، بل
بوصفها شعورًا نحس فيه بعلو الله، في مقابل كل وجود إنساني متناه، وهو أيضًا امتلاء
الوجود المتناهي — من بدن ونفس — بالروح الإلهية الوافدة عليه. وفضلًا عن ذلك فليس
للتصوف معنى من حيث هو ظاهرة منعزلة، بل لا يكون له معنى إلا حين يقترب بالجانب
العقلي والتنظيمي للحياة الدينية، فليس للعنصر الصوفي أن يدَّعي الاكتفاء بذاته،
أو
ينفصل عن العناصر الأخرى للدين؛ فمن الواجب أن يكون حاضرًا في كل ممارسة دينية،
بوصفه جزءًا من الكل. ولكن لا بوصفه وجهًا قائمًا بذاته يزعم أنه هو الكل؛ فهوجل
يطلق على هذا الادعاء اسم التصوف الزائف أو المنعزل، وهو رأي يقترب إلى حد الخطورة
من مذهب شمول الألوهية، الذي يخشى أن يضطرب فيه ويختلط كل تمييز بين العلو والكمون
واللامتناهي والمتناهي. ومن هنا لم يكن يوجد كذلك عضو صوفي للمعرفة على التخصيص،
يستطيع به الصوفي في حالات الوجد أن يتلقى وحيًا عن الأزلي أعلى مما يتسنى للمتدين
العادي، بل إن التصوف «هو بالفعل» أمر عادي بالنسبة إلى الحياة الدينية، شأنه شأن
كل الصور الأخرى التي يتجلى عليها الدين، والفارق الوحيد هو أن الله يكشف عن ذاته
في التصوف بطرق من نوع خاص، وإن تكن متاحة لكل شخص. أما حالات الوجد فليست إلا
حالات شاذة تصاحب التجربة الصوفية ولا تنتمي إلى ماهيتها كما يظن عادة، وأهم ما
في
الأمر تلك التجربة المباشرة التي تدرك بها النفس الفردية أن القوة الإلهية العليا
كامنة فيها، وأنها تتغلغل فيها وتملؤها بقبس من روحها الحية، والتصوف أيضًا شكل
من
أشكال تجسد الوجود الأعلى. ولكنه لا يتخذ في هذه المرة صورة شعائر خارجية وتنظيمات
لحياة الجماعة، ولا شكل مذاهب عقلية وتأملات للفكر الميتافيزيقي، بل يتخذ شكل تجربة
شخصية في أعماق النفس، وإدراك مباشر للألوهية في أعمق أغوار قلب الإنسان.
(٥) جورج تيرل George Tyrrell (١٨٦١–١٩٠٩م)
مؤلفاته: «قانون الصلاة Lex Orandi»، ١٩٠٤م،
«قانون الإيمان Lex Credendi»، ١٩٠٦م، «ما بين
سيلا وخاريبديس» ١٩٠٧م، «المسيحية في مفترق الطرق»، ١٩٠٩م.
اجتذبت الحركة التجديدية، التي ارتبط بها هوجل وقتًا ما ارتباطًا وثيقًا دون أن
ينضم إليها نهائيًّا، اجتذبت إلى صفوفها جورج تيرل، وهو أهم مفكر كاثوليكي في العقد
الأول من هذا القرن بعد هوجل. وقد تحول تيريل — الذي كان العقل الموجه للحركة
التجديدية الإنجليزية — من الكنيسة الأنجليكانية إلى الكاثوليكية وهو في الثامنة
عشرة من عمره، وانضم بعد ذلك بفترة قصيرة إلى سلك «جماعة يسوع»، وشغل منصبًا
تعليميًّا في اللاهوت الأخلاقي بكلية «ستونيهرست Stonyhurst» من ١٨٩٤م إلى ١٨٩٦م، ثم طُرِدَ من «الجماعة» في ١٩٠٦م
بعد خلافه مع الكنيسة، وحُرِمَ من الكهنوت، وطُرِدَ آخر الأمر من الكنيسة
الكاثوليكية. ولقد كان — مثل زميله الفرنسي «لوازي» — رجلًا ذا طبيعة مناضلة بعنف،
فلم يكن يستطيع أن يمنع التناقضات السائدة في عصره من التطاحن داخل طبيعته هذه.
وقد
خاض معركته بإصرار إرادة يدعمها إيمان عميق بقضية عادلة، وكان يتسلح بدرع من العلم
الغزير، كما وُهِبَ ذهنًا عظيم الذكاء، يتميز بالحرية والمرونة. ولقد كانت أعظم
خيبة أمل لحقت به في حياته هي أن الطائفة التي ربط مصيره بها قد أثبتت أنها ليست
هي
البيئة التي تستطيع فيها مثل هذه الصفات الذهنية الرفيعة أن تمارس نشاطها على النحو
الفعال. ومن المشكوك فيه أن تكون عضويته في الكنيسة الكاثوليكية وفي السلك اليسوعي
قد تلاءمت مع موقفه الذهني الباطن. وليس للمرء إلا أن يعرب عن دهشته حين يجد — في
هذه الظروف — أن الخلاف بينه وبين طائفته قد تأخر في الظهور علانية إلى هذا
الحد.
وتنعكس التوترات والتناقضات التي تلاقت وتصادمت في نفس تيريل، على المجرى الذي
سار فيه تطوره العقلي؛ فقد أدت به دراسته على أيدي اليسوعيين أولًا إلى التعمق في
دراسة اللاهوت والفلسفة المدرسية، وكان يسترشد في هذه الدراسة أولًا بتعاليم القديس
توما الأكويني، الذي لم يصبح الحجة العليا التي اعترف بها فحسب، بل أيقظ فيه قوة
التفكير بفتح آفاق جديدة في ذهنه، وتلت ذلك فترة أصبحت فيها تعاليم نيومان تمثل
تجربة تساهم في تكوينه الذهني، وأدى تأثيرها إلى تحرر روحي عظيم له؛ غير أن نقطة
التحول الحاسمة لم تأت إلا عندما دخل فريدرش فون هوجل أفق حياته؛ فقد توصل — بإرشاد
هوجل — إلى معرفة الآراء الحديثة لأول مرة، وكذلك اطلع على نقد الأناجيل وتبريرها
في اللاهوت الألماني الحديث: المذهب التجديدي الفرنسي، والمذهب الكاثوليكي
الإصلاحي. وفي هذه الاتجاهات وجد طريقه الخاص، الذي سار فيه منذ ذلك الحين حتى
النهاية بنشاط لا يكل وشجاعة لا تلين.
ولقد كانت المشكلة الكبرى التي سعى تيرل إلى حلها هي التغلب على ذلك التعارض
الاستقطابي الذي اتخذ أشكالًا متعددة. ولكنه ظل في أساسه واحدًا، ذلك هو التوتر
بين
الدين الظاهر والدين الباطن، وبين الكنيسة المنظورة والكنيسة غير المنظورة، وبين
اللاهوت والوحي، والمبادئ التقدمية والمبادئ المحافظة، وبين التراث والحقيقة
العلمية، وبين مذهب الشك والقطعية، وبين الكاثوليكية والعالم الحديث وما إلى ذلك.
ولقد أراد — كما عبر عن ذلك في عنوان واحد من كتبه — أن يقود سفينته بين صخرة سيلا
ودوامة خاريبديس، أي بين «مذهب قطعي يؤدي إلى العجز التام، ولا يسمح بأي تقدم، وبين
مذهب في الشك والإنكار يسيطر على كل شيء؛ أعني بين سلطة تقضي على الشخصية، وفردية
تحطم المجتمع»،
١٠ وبهذا المعنى كان المذهب التجديدي يعني بالنسبة إليه مساواة الإيمان في
الكنيسة الكاثوليكية بالتصديق الصريح في العالم الحديث، أو بتعبير آخر: التوفيق
بين
الولاء الكامل لأركان التراث الكاثوليكي وبين ولاء لا يقل عنه لقضايا الحقيقة
العلمية والإخلاص الأخلاقي، وكان ذلك هو أساس دعوته إلى القيام باختبار نقدي
للمبادئ اللاهوتية بدلًا من قبولها على أساس السلطة.
ولقد قطع تيرل في هذا الاختبار النقدي شوطًا معينًا كان يقتدي فيه بآراء ج. ﻫ.
نيومان؛ ذلك لأنه يميز — مثل نيومان — بين طريقتين ممكنتين في النظر إلى الأمور:
الطريقة الطبيعية في التفكير بالعلم والفلسفة، والإدراك العيني بالتصورات
والمجردات، وميزة الطريقة الأخيرة أنها تبعث النظام في الاضطراب المخيف الذي تتبدى
عليه موضوعات التجربة، وتبرر اختلافاتها بوضوح، وتضعها في مكانها داخل نسق من
التصورات؛ غير أن حقيقتها فرضية فحسب، وهي لا تسري إلا على مجال المجرد، ولا تستطيع
أن تدرك موضوعها إلا مجزأً. فلا تدركه أبدًا من حيث هو كل، وكلما ازدادت تصوراتها
تجردًا وعمومية، ازداد مضمونها خلوًّا، وابتعدت عن ذلك الثراء اللامتناهي للمعاني
والعلاقات، الذي يتكشف عنه الواقع في عينيته. ومن جهة أخرى فإن طريقة الإدراك
الأخرى تعاني نوعًا من الخلط المشوه في معارفها، وافتقارًا إلى التمييزات القاطعة
والترتيب المنظم. ولكنها تعوض ذلك بالتعمق حقيقةً في موضوعها، وبالوصول إليه في
كليته بدلًا من أجزائه، حتى تحقق على نحو كامل كل ما فيها من ثراء وما في حياتها
من
امتلاء بطريقة عينية، وهي ترتبط بصلة مباشرة بواقع الأشياء؛ وبالتالي بحقيقتها
أيضًا. وهكذا فلما كانت هاتان الطريقتان في المعرفة ناقصتين. فلا بد من أن تكمل
كل
منهما الأخرى. ولكن ليس من شك في أن تيرل — مثل نيومان — يعطي الأولوية دون قيد
أو
شرط للمعرفة العينية بالنسبة إلى المجردة، وبذلك يضطر (مثل نيومان أيضًا) إلى قبول
بعض النتائج ذات الطابع المضاد للمعقولية، فذلك الشك في العقل الذي ورثه تيرل —
مع
أشياء كثيرة أخرى — من نيومان، قد ازداد قوة إلى حد ملحوظ عندما عرف المذهب
البرجماتي وطريقته في التفكير في وقت متأخر من حياته. ولقد كان في مذهبه هو ذاته
اتجاهات مماثلة من قبل. ولكنها الآن ظهرت سريعًا في صورة واضحة مؤكدة، ويتضح مدى
اتفاقه مع الأفكار البرجماتية في بحث كتبه عام ١٩٠٥م، وحدد فيه موقفه من البرجماتية
١١ وهو هنا قطعًا لا يفرط في تلك الحرية الذهنية التي تميز كل موقف اتخذه،
ومن هنا لم يشأ إلا أن يأخذ المبدأ الإيجابي لا السلبي، في ذلك المذهب الذي كان
جديدًا في تلك الأيام. ولكنه رغم تباعده إلى حد ما على هذا النحو؛ فقد اتفق بالفعل
مع جيمس وشيلر في المسألة ذات الأهمية الحاسمة، وهي أن الحقيقة ليست شيئًا بذاتها،
بل ينبغي أن تخدم أغراضًا عملية، وأنها يجب أن تحقق في الحياة والسلوك، وأن نجاح
الفرض أو كونه مثمرًا هو أقوى دليل. إن لم يكن هو الدليل الوحيد على صحته وما إلى
ذلك، فمثل هذه الأفكار قد تغلغلت حتى في نظريته في الدين، أو على الأقل وجدت فيها
تأييدًا لها.
وفي هذا الميدان بدوره شيَّد تيرل مذهبه على أساس فكرة عند نيومان، هي فكرة
التطور الذهني (الروحي)؛ فقد كان تيرل يبحث مثل نيومان عن طريق وسط بين اللاهوت
المدرسي والعلم الحديث، أو كما كان يحب أن يقول: بين اللاهوت القديم والحديث؛ إذ
كان يعني باللاهوت الحديث نظامًا يسير وفق مبدأ المنهج العلمي الحديث. ولكن هذا
يعني أن اللاهوت لا يمكن أن يكون نظامًا راسخًا من المعتقدات المحددة، المصوغة من
قبل، التي لا يمكن أن تتزعزع أو تكون موضوعًا للجدال، بل هو علم حي خصب تقدمي، يخضع
لنفس القوانين التي تخضع لها حياتنا الذهنية بأسرها، ولا سيما قوانين تطور الصور
والمناهج على مر الزمان. ولكن هذا هو الذي يبرر إجراء نقد تاريخي من أجل اختبار
نتائجه من خلال الأسس التي تهيئها له المعرفة المعاصرة، وبالوسائل التي تقدمها
إليه. ولكن يظل من الصحيح — رغم ذلك — أن العقيدة المسيحية والفلسفة المسيحية
الدينية قد نمت وتطورت في التاريخ، وأن الكنيسة في الوقت الحالي — مثلًا — أكثر
استنارة في لاهوتها بكثير مما كانت كنيسة الحواريين أو كنيسة العصور الوسطى.
واللاهوت جزء من الصور الخارجية التي اتخذها الدين المسيحي. ومن الواجب تمييزه
بوضوح — من حيث المبدأ — من الجوهر والمضمون الديني الباطن للمسيحية، الذي هو وحي،
وفي نفس الوقت عقيدة. ولكن بمعنى موسع لم يوضحه تيرل تمامًا. وعلى حين أن مصدر
اللاهوت هو المعرفة الطبيعية، فإن للوحي أصلًا إلهيًّا، وهو مبني على موهبة خاصة
فوق الطبيعة، هي اللطف الإلهي. وعلى ذلك فهو أزلي لا يتزعزع، ولا يقبل تغييرًا أو
تعديلًا، ولا يخضع للعملية الزمانية؛ فهو دائمًا واحد وعلى ما هو عليه (أي أنه «هو
نفسه دائمًا semper eadem»، كما يقول عنوان اثنتين
من مقالات تيرل)، وهو الحقيقة العينية للدين، وينطق بلغة الحقيقة الواضحة التي لا
تخيب، والتي كثيرًا ما يستطيع الشخص ذو التقوى الساذجة أن يفهمها على نحو أفضل من
اللاهوتي ومن الفيلسوف الذي يفكر بتصورات مجردة فرغت من الواقع وهو يعلو على كل
معرفة عقلية، حتى معرفة اللاهوت، الذي هو سابق عليه في الزمان. وهكذا فإن العلاقة
بين الدين واللاهوت ينبغي أن تعرف على نفس النحو الذي تعرف عليه العلاقة بين الفن
وبين النقد الفني، أو التفكير المنطقي وعلم المنطق، أو بين اللغة والنحو؛ فالأول
يوجد قبل الثاني، الذي لا يعدو في كل حالة أن يكون تفسيرًا تصوريًّا لاحقًا له.
وعلى ذلك فمن الواجب أن يقاس اللاهوت على الدوام، ويختبر من جديد، في ضوء الوحي
الأصلي. إن شئنا ألا ينفصل أكثر مما ينبغي عن الجوهر الحقيقي للدين، ولكي يكون
اللاهوت حيًّا ومثمرًا، ينبغي أن يشعر بالفرق العميق بين اللب الديني الموحى به،
والذي يسمو على كل تغير (أي منبع الإيمان) وبين القشرة المحيطة بهذا اللب، والتي
تكونت بإعمال الفكر العقلي فيه.
ولا شك أن هذه الفكرة التجديدية أشد تغلغلًا في الدين وأعمق ارتباطًا به من
اللاهوت البروتستنتي المتحرر، والواقع أن تيرل لم يمض مع هذا الأخير أبعد من منتصف
الطريق، فحسب تأييده له، بل وعارضه إيجابيًّا في اللحظة التي أخضع فيها للنقد ما
كان يعتقد أنه بمنأى عن كل تساؤل؛ أعني الجوهر العقيدي لمذهب الخلاص الموحى به.
ولقد تركز أعنف هجوم له في كتابه الذي نشر بعد وفاته «المسيحية في مفترق الطرق»،
الذي كان لبحث ألبرت شفيتزر في المصائر eschatology تأثير كبير فيه. ولقد اعترف فيه لرجل اللاهوت بالحرية
الكاملة في التفكير النظري والبحث. ولكن ليس بحرية هدم الأسس الأولى للإيمان، التي
يشيد عليها بناء العلم اللاهوتي بأسره، ولم يكن يطالبه بعبء عقلي يزيد على الاعتراف
بأن المسيحية نشأت من بادرة أصلية فوق الطبيعية لقوة إلهية، والتمس لنفسه طريقًا
وسطًا بين المذهب البروتستنتي التحرري، وبين المذهب الكاثوليكي القطعي؛ أي بين
التجديد المبالغ فيه والتمسك الصارم بالقديم، وبين الانطلاق الأهوج للذهن المفكر
وعبوديته. ولقد اهتدى إلى هذا الطريق الوسط في حقيقة بسيطة ولكنها عميقة، هي الجمع
المركب بين رسوخ الإيمان وبين قدرة المذهب أو اللاهوت المسيحي على التقدم
التدريجي.
المدرسة الجديدة في إنجلترا
من الحقائق التي تفسر نفسها بنفسها، أن الحركة المدرسية الجديدة أثارت في
إنجلترا التي هي بروتستنتية أساسًا، صدى أقل كثيرًا مما أثارته في البلدان
الأوروبية الأخرى، كألمانيا وإيطاليا وفرنسا وبلجيكا. كذلك لم يظهر في صفوفها
أي مفكر بارز، أو ينجح في كسب تأييد أوساط واسعة من الجمهور. وهكذا ظلت هذه
الحركة مقتصرة أساسًا على الأوساط الكاثوليكية. وكانت في هذه الأوساط ذاتها
مقتصرة على دراسات أكاديمية في الحلقات والكليات اللاهوتية، ورغم ذلك فإن
المؤلفات المدرسية والمدرسية الجديدة قد اتسع نطاقها في السنوات العشر الأخيرة
إلى حد بعيد؛ فمنذ كتاب البابا ليو الثالث عشر «إلى الأب الخالد Aeterni Patris» (١٨٧٩م)، توالت
ترجمات متعددة، بل ظهرت كتب أصلية متعددة، وطالما أن معظم هذه المؤلفات كان
تجديدًا وإحياء لتعاليم مدرسية قديمة، مع تكيفها بالطبع حسب الآراء الحديثة،
أكثر مما كان عملًا عقليًّا مستقلًّا، فلنا أن نكتفي هنا بذكر أسماء أهم
المؤلفين وكتاباتهم، تاركين جانبًا ترجمات أعمال المدرسيين الجدد المنتمين إلى
بلدان القارة الأوروبية (مثل الكاردينال مرسييه Mercier، ودي ولف de Wulf،
وغيرهما)، وهم الذين بذلوا جهودًا كبيرة لتشجيع الحركة.
أول وأهم ما ينبغي أن نذكره: كتاب وُضِعَت لتأليفه خطة واسعة النطاق. ولكنه
لم يتم أبدًا، هو «ميتافيزيقيا المدرسة
The Metaphysics of the School» تأليف توماس ميرتون هاربر
Thomas Mareton Harper
(١٨٢١–١٨٩٣م)، ولم تظهر من المجلدات الخمسة التي كان مؤلف هذا الكتاب يعتزم
نشرها إلا ثلاثة نُشِرَت فيما بين عامي ١٨٧٩م و١٨٨٤م، وهي تعرض الميتافيزيقا
التومية [نسبة إلى القديس توما الأكويني] بطريقة منهجية، وبعد بضع سنوات ظهرت
سلسلة من الكتب المدرسية أشرف على نشرها كلارك
R. F. Clarke، وبدا فيها ميل قوي إلى التفكير الحديث، ولا سيما في
صورة اختبار نقدي للاتجاهات المعاصرة. وقد ظهرت المجلدات الآتية في سلسلة
«موجزات الفلسفة الكاثوليكية» هذه، «الاقتصاد السياسي
Political Economy» (١٨٩٢م)، تأليف «ديفاس
C. S. Devas»، «المبادئ الأولى
للمعرفة
First Principles of Knowledge» (١٨٩٠م) و«الميتافيزيقا العامة
General Metaphysics» (١٨٩٠م) تأليف جون ريكابي
John Rickaby، «والمنطق
Logic» تأليف ر. ف. كلارك، و«الفلسفة الأخلاقية
Moral Phil.» ١٨٨١م، تأليف
جوزيف ريكابي
Joseph Rickaby،
و«اللاهوت الطبيعي
Natural Theology»
(١٨٩١م)، تأليف برنارد بودر
Bernard Boedder،
و«علم النفس
Psychology» (١٨٩٠م) تأليف
مايكل ماهر
Michael Maher،
١٢ وأغزر مؤلفي المدرسية الجديدة إنتاجًا اليوم هو «بيتر كوفي
Peter Coffey» أستاذ المنطق والميتافيزيقا
في كلية مينوث بأيرلندا (وُلد في ١٨٧٦م). وقد ألف مذهبًا فلسفيًّا مبنيًّا على
أساس من الفلسفة التومية، وضع له خطة واسعة النطاق، وعرضه بالتفصيل، وهو يستخدم
كثيرًا للتدريس في الحلقات الدراسية اللاهوتية الكاثوليكية. ولكنه لم يُثِر أي
اهتمام خارجها، ويشمل هذا المذهب الكتب الآتية، «علم المنطق
The Science of Logic» في مجلدَين، ١٩١٢م،
«الأنتولوجيا
Ontology» ١٩١٤م
و«مبحث المعرفة
Epistemology» في مجلدَين،
١٩١٧م، ونستطيع أن نذكر أيضًا أسماء اليسوعيين ليسلي ووكر
Leslie J. Walker (وُلد في ١٨٧٧م)
ودارسي
M. C. D’Arcy (وُلد في ١٨٨٨م).
وقد اشتغل كلاهما بجد في «كامبيون
هول
Campion Hall» بأكسفورد، حيث امتد تأثيرهما من حيث هما مُعلمان وكاتبان
خارج حدود الكنيسة الكاثوليكية أيضًا، ووكر هو مؤلف كتاب في «نظريات المعرفة»
(١٩١٠م، الطبعة الثانية، ١٩١١م. وقد أعيد طبعه مرارًا بعد ذلك). وقد لقيَ هذا
الكتاب اهتمامًا جديًّا بين الفلاسفة المحترفين، وهو يدرس نظريات المعرفة في
المذهب المطلق والمذهب البرجماتي، والواقعية الجديدة، ويهدف إلى التوفيق بين
آراء متعارضة، بينما يحاول هو ذاته حل مشكلة المعرفة بروح واقعية، وإذا كان
ووكر في هذا الكتاب قد اتخذ نقطة بدايته من أرسطو والقديس توما؛ فالسبب ببساطة
هو أنه لا يرى أن نظرياتهما قد اكتملت بصورة نهائية، بل هي قادرة على النمو إلى
حدٍّ بعيد، ومن الممكن الجمع بينها وبين المعرفة العلمية الحديثة (انظر أيضًا:
العودة
إلى الله، رأي روماني وكاثوليكي
The Return to God: A Catholic and Roman View ١٩٣٣م). كذلك استطاع
«دارسي
M. C. D. Arcy»
١٣ أن يكتسب قراءً خارج النطاق الكاثوليكي بكتابَيه الممتازين عن
«توما الأكويني» ١٩٣٠م و«طبيعة
الإيمان
The Nature of Belief» (١٩٣١م). وقد حاول في الأول أن يعرض الارتباط الحي
المتبادل بين تفكير القديس توما وبين مُشكلات الفلسفة الحديثة، وحاول أن يثبت
بذلك استمرار القوة الخلاقة لهذا التفكير، أما الكتاب الثاني فهو مناقشة بارعة
لمشكلة الإيمان، تأثر فيها كثيرًا بكتاب «أركان التصديق» لنيومان، وهو الكتاب
الذي عادَت أفكاره هنا إلى الحياة من جديد بطريقة حافلة بالدلالة، وأخيرًا فإن
وجهة النظر المدرسية الفلسفية هي التي أوجدت الإطار العام لتفكير وأبحاث
«فرانسس إيفلنج
Francis Aveling» (ولد في
١٨٧٥م، وكان مدرسًا لعلم النفس في جامعة لندن). وقد انحصرت مؤلَّفاته أساسًا في
ميدان علم النفس («في الوعي
الكُلي والفردي
On the Consciousness of the Universal and the Individual» ١٩١٢م، «النظرة إلى الواقع من خلال
علم النفس
The Psychological Approach to Reality» ١٩٢٩م، «مدخل إلى علم النفس
Introduction to Ps.» ١٩٣٢م)؛ غير أنه كتب أيضًا بعض
المؤلَّفات ذات الأهمية الفلسفية العامة («بعض نظريات المعرفة
Some Theories of Knowledge»، مقال
في «أعمال الجمعية الأرسططالية»، ١٩١٤م، «النظرة التومية في
الفلسفة
The Thomistic Outlook in Phil.»، مقال في المرجع نفسه، ١٩٢٤م، «الشخصية والإرادة
Personality and Will»
١٩٣١م).
وهكذا فإنَّ الحركة المدرسية الجديدة لم تُثر حتى الآن في الأوساط الفلسفية
الاحترافية غير الكاثوليكية إلا اهتمامًا ضئيلًا، ولا يُمكن الاهتداء إلى أي
تأثير يستحق الذكر من هذا المصدر في التيارات الفلسفية اليوم، ويبدو أن العدد
الأكبر من المفكِّرين الخارجين عن سلك الكهنوت لم يتأثَّروا بها، بل نفروا منها،
١٤ باستثناء مفكِّر واحد هو أ. أ.
تيلور
A. E. Taylor (انظر من قبل [الباب الثاني: المدارس الفكرية المتأخرة – الفصل الأول: الحركة المثالية
الجديدة – القسم السابع: أصحاب مذهب الألوهية وفلاسفة الدين])، الذي بحث فلسفة
العصور الوسطى باهتمام عالم غزير المعرفة، ومُفكِّر بناءً للمذاهب، وحاول أن
يستخلص من روح النزعة المدرسية — أي التومية
Thomism — ومن ذهنها، تجديدًا للفِكر الحديث مشابهًا لذلك
الذي يسعى إليه المدرسيون الجدد في بلدان القارة الأوروبية بدورهم.