جميل صدقي الزهاوي
فيلسوف عربي، انكشفت له من الحياة أسرار، فأودعها شعرَه الراقي ونثرَه المتين.
نابغة من ذوي العقول الكبيرة، خلب لبَّه نظامُ هذا الكون فراح يفكر في معجزاته غير
مُعتمدٍ في تفكيره على أجنبي.
شاعر سبَّاق في حلبة البلاغة، يُصَوِّر ما يخفق به قلبه في أبياتٍ عامراتٍ وقوافٍ
مُحكمات،
وينظم منثورات الحقائق العلمية في قلائد شعرية ليجمع بين العلم والفن.
لم ينفرد ببحث، بل أحبَّ أن يستجمع حبل الأبحاث التي لم يفتحِ الله بها على قلوب
وطنييه؛ فنبذ هؤلاء أفكاره أولًا وضربوا بأقواله عُرض الحائط — وهذا شأن النوابغ
والمصلحين — حتى إذا ما انبعثت إلى نشئهم الحديث أنوار التهذيب من كوى العلم، تجلت لهم
محاسن أفكاره فأكبروها، وتبيَّنوا قدر أقواله فصفقوا لها تصفيقًا عاليًا؛ فهو اليوم شاعر
الشبيبة الناهضة على شيخوخته.
•••
نشأ الزهاوي في بيئة تصوحت أزاهير الأدب فيها بعد الازدهار، ودرست معالم العلم بعد
أن
ناطحت بعلوها أجواز الفضاء، فراعه الجمود الهائل المستولي على الفهوم والأقلام، واستنكر
الطريقة البالية التي يتبعها النظَّامون في بنائهم الأبيات، مُقَلِّدين غير مُبتكرين
ينسجون على منوال الشعر للسالفين من غير ما تأثر بالرُّوح الجديد، فلم تأنس روحه
الناهضة بهذه الحطة، وعزَّ على عقله المتوقد ذكاءً أن يبقى مصفَّدًا بأغلال التقليد؛
ففر إلى حيث يغرد له فؤاد في شواهق صروح الفن الحديث، بعد أن فك الأغلال وحطم القيود،
داعيًا قومه إلى النهضة والانتعاش في الفكر والقول والعمل.
نزل إلى الميدان؛ ميدان مكافحة القديم البالي، ليطرده ويحل مكانه الجديد العصري، وهو
لا يملك غير فؤادٍ حساس، وفكرٍ ناضجٍ وقلمٍ محدد، فتجافى عن المديح والثناء، وكفكف دموع
الرثاء والبكاء على الطلول الهمد، ونظم في أبوابٍ من الشعر جديدة، مخرجًا للناس
قصائد تحوي روائع المعاني، مُتبعًا في نظمه السَّنن المُستحدث، كما أنَّه أغار على
العادات السقيمة والأخلاق المُنحطة، التي كوَّنتْها في مجتمعه عصورُ الانحطاط، فمزقها
أيَّ
ممزق، ورأى ذلك المخلوق اللطيف — المرأة — أسيرًا بدار الظلم أعياه أسره، واستبد به،
فعز على مروءته إهمالها؛ فجرد لذلك قلمه البليغ، وكتب في الدِّفاع عن حقوق ضلع الرجل
مقالات، ونظم قصائد أقامت العراق، بل الشرق العربي، وأقعدته، وقد نكب بمحن صعبة من جراء
نصرته للجنس الضعيف، فإذا تسنَّى لابنة العراق أن تنتبه غدًا من رقدتها، وتبلغ ما بلغته
أختها السورية أو المصرية من الرُّقي، فلتذكرنَّ فضل «الجميل» عليها، ولتغنِّ بشعره
الخالد الذي نظمه في المطالبة بحقوقها المسلوبة.
•••
شُغف الأستاذ الزهاوي بالعلوم الطبيعية في شبابه، فشرع يطالع ما تكتبه المجلات العلمية
في هذا الباب وفي مُقدمتها «المقتطف»، مطالعةَ الباحث المُنقب، يُريد إدراك أسرار
الوجود، ثم أظهر نتيجة درسه للطبيعة في كتابه «تعديل الجاذبية»، الذي جاء فيه غير
مُترجم عن أجنبي — وهو لا يُحسن لغة أجنبية — ولا ناقل، بل أبرز به ثمرةً من ثمار
القرائح الشرقية. ومع أنَّ جُلة العلماء الغربيين والشرقيين لم يُوافقوه على آرائه تلك،
فحسبه فخرًا أنه أول عربي هجر التقليد، وحاول حل غوامض العلم الطبيعي مُعتمدًا على عقله
وحسه.
•••
وهو ابن العلامة محمد فيضي الزهاوي مُفتي بغداد، ينتسب أبوه إلى أمراء الأكراد من
آل بابان، وهؤلاء يمتون إلى خالد بن الوليد (رضي الله عنه)، وكذلك أمه فيروزج، فهي من
أسرة كردية كريمة، وأمَّا شهرته بالزهاوي فنسبة إلى «زهاو»، أحد أعمال ولاية كرمنشاه
الفارسية، كانت موطن جدته لأبيه.
وُلد جميل صدقي في بغداد، في اليوم التاسع والعشرين من ذي الحجة سنة ١٢٧٩ هجرية، يوم
الأربعاء الموافق ١٨ حزيران سنة ١٨٦٣ ميلادية، وهو اليوم في الستين من عمره نحيف البدن
لا يستطيع أن يمشيَ على رجليه أكثر من بضع دقائق؛ لذلك قد اتخذ له أتانًا بيضاء يقطع
عليها الشوارع عندما يسير من محل إلى آخر، ويشكو فوق آلامه الروحية آلامًا عصبية قد
برحت به.
•••
عُيِّن المترجم قبل أن يبلغ الثلاثين من عمره في ٢ تموز سنة ١٣٠٣ هجرية عضوًا في مجلس
المعارف في بغداد، ثم مديرًا لمطبعة الولاية فيها في ١ نيسان سنة ١٣٠٦ هجرية، ومحررًا
للقسم العربي من جريدة «الزوراء» الرسمية، وانتُخب بعدها عضوًا لمحكمة الاستئناف في
بغداد في ٥ نيسان سنة ١٣٠٨ هجرية.
وقد أصابه في سن الخامسة والعشرين داء عضال في نخاعه الشوكي سلبه الراحة، ولم يبرأ
منه إلى الآن برغم معالجة نُطُّس الأطباء له، كما أنَّ رجله اليُسرى أصيبت بشللٍ وهو
في
الخامسة والخمسين من عمره.
وكبر شأنه بعد سفره إلى الآستانة سنة ١٨٩٦، مدعوًّا إليها بإرادة سُلطانية، فمَرَّ
في
طريقه بمصر حيثُ قابل نُخبة من أكابر العلماء وأساطين الأدب، أمثال الدكتورين يعقوب
صروف وفارس نمر صاحبي «المقتطف»، و«المقطم»، والدكتور شبلي شميل، وجرجي بك زيدان مؤسس
الهلال، والشيخ إبراهيم اليازجي الشهير، ولقي منهم كل حفاوة.
ذهب إلى الآستانة فأخذ الجواسيس يتأثرونه، ولمَّا علم السلطان عبد الحميد أنَّ عددًا
من محرري الجرائد يترددون عليه أوجس منه خيفة، وأوعز إلى أبي الهدى الصيادي ألا يغفل
عنه، وأراد الأستاذ الزهاوي بعد سنة أن يرجع إلى بغداد؛ فإذا السلطان يأمره بإرادة سنية
أن يلحق بالبعثة التي كانت قد تألفت هناك للذهاب إلى اليَمن لإصلاحه؛ فذهب إليها
ورجع بعد سنة إلى الآستانة، وأحسن السلطان مكافأته على خدماته بالوسام المجيدي الثالث،
ورتبة (البلاد الخمس الموصلة)، ورأى في رجوعه أنَّه لم يزل محاطًا بالجواسيس فساءه ذلك،
وطلب الرُّجوع إلى وطنه فلم يُسمح له خشية أن تكون وجهته غير بلاده.
وقد قاسى بعد رجوعه إلى الآستانة الأمرَّين، حتى ضاق صدره فنظم قصيدة يذم فيها سياسة
عبد الحميد وسلوكه، منها:
أيأمر ظلُّ الله في أرضه بما
نهى اللهُ عنه والرسولُ المبجلُ
فيُفقر ذا مال وينفي مبرَّأً
ويسجن مظلومًا ويَسبي ويَقتلُ
تمهَّلْ قليلًا لا تغظْ إنه إذا
تحرك فيها الغيظ لا تتمهلُ
وأيديك إن طالت فلا تغتررْ بها
فإنَّ يد الأيام منهن أطولُ
وأنشدها أبا الهدى في داره، وهذا كتب بها تقريرًا إلى السلطان؛ فكان ذلك سببًا لسجنه
مع الشهيد العربي المرحوم عبد الحميد الزهراوي، وصفا بك الشاعر التركي الشهير، ثم
نفيه إلى بلاده.
•••
وكان بعد رجوعه من الآستانة إلى مدينة السلام، أنَّ أحد رؤساء الوهابية في بغداد
أخذ يُحرض عليه الحكومة تارة، بحجة أنَّه يطعن بسياسة السلطان عبد الحميد، وطورًا
يرميه بالكفر والزندقة، وذلك على عهد عبد الوهاب باشا الألباني والي بغداد، وكان الوالي
هذا يُعاديه، فكتب إلى المراجع يطلب إبعاده عن الديار العراقية إلى بلادٍ قَصِية، فاضطُر
الأستاذ إلى أن يؤلف كتابه «الفجر الصادق» في الرد على الوهابية، مُصَدِّرًا إياه
بمدائح السلطان عبد الحميد مخافة أن يناله المعتدون بسوء، وتبكيتًا لذلك المحرض
الوهابي.
•••
ولما جاء الدستور أخذ الأستاذ جميل الزهاوي يخطب في الناس، ويعلمهم فوائده
وحسناته.
ورحل المترجم في السنة الأولى من الانقلاب العثماني إلى القسطنطينية، فعُيِّن في ٣٠
تشرين الأول سنة ١٣٢٤ هجرية أستاذًا للفلسفة الإسلامية في أكبر مدارسها، وهو المكتب
الملكي، وعُيِّن كذلك في تشرين الثاني سنة ١٣٢٤ هجرية مُدَرِّسًا للآداب العربية في
فرع الآداب من جامعة «دار الفنون»، وكان يكتب في أوقات فراغه في مجلات الآستانة التركية
مقالات فلسفية حتى اشتدت عليه أمراضه بعد سنة، فهاجه ذكر الوطن المُحَبَّب فقصده وجاء
الزوراء، فعُيِّن مُدرسًا للمجلة في مدرسة الحقوق فيها، وظل يُواصل «المقتطف»، و«المؤيد»
بالقصائد والمقالات حتى نشر مقالته الشهيرة في العدد اﻟ ٦١٣٨ من «المؤيد» بعنوان «المرأة
والدفاع عنها»، فأحدثت ضجة كبرى في العالم العربي الإسلامي، فهاج الناس لها وماجوا في
بغداد، وأشاعوا بأنَّ الكاتب تحامل على الشريعة الغرَّاء، وذهبوا متجمهرين في ٢٨ أيلول
سنة ١٣٢٦ هجرية إلى والي بغداد، وهو يومئذٍ ناظم باشا، يطلبون إليه عزل الكاتب من وظيفته،
وساعدهم في طلبهم أحد مبعوثي بغداد، فأقاله الوالي، واشتدَّ سخط الجمهور عليه في هذا
الحين، حتى اضطُر الأستاذ إلى مُلازمة داره خوفًا من الاغتيال، جرى ذلك في ظل الدستور،
وشمسُ الحرية ممدودة الظل، وكان فيمن نصر الأستاذ الزهاوي في محنته هذه الدكتور شميل
والمرحوم ولي الدين بك يكن في مقالات نشراها في «المقطم»، وغيرهما في سورية ومصر.
وفي هذه الآونة نشر الزهاوي في بغداد كتابه «الجاذبية وتعليلها»، ثم ألَّف رسالة
«الدفع العام والظواهر الطبيعية والفلكية»، ونشرها في «المقتطف».
وأعيد إلى تدريس المجلة في مدرسة الحقوق في بغداد على عهد جمال باشا واليها، ثم انتُخب
نائبًا عن المنتفق، فذهب إلى الآستانة، وأقفل المجلس بعد أشهر من اجتماعه فعاد الأستاذ
الفيلسوف إلى وطنه، وما لبث أن انتُخب نائبًا عن بغداد فذهب إلى دار الملك العثماني
ثانية، وقد دافع في البرلمان العثماني دفاع الأحرار عن حقوق العرب في مواقفَ عديدة؛ مما
نَمَّ على وطنيته الصادقة. وكان في بغداد حين الاحتلال البريطاني، فعُين في حكومة
الاحتلال المؤقتة عضوًا في مجلس المعارف براتبٍ زهيد، ثم عُين بعد مدة طويلة
رئيسًا للجنة ترجمة القوانين العُثمانية، والحق يُقال إن تلك الحكومة المؤقتة لم تُقدِّر
علم الأستاذ الزهاوي وفضله؛ إذ لم تُسند إليه منصبًا خطيرًا يليق به، وهي معذورة في
عملها لأنها كانت تُعيِّن الموظفين — وبالخاصة الكبار منهم — لغايات سياسية حسبما تقتضيه
الظروف، فلا تنظر في تعيينهم إلى مقدرة أو تضلُّع من علم أو خبرة في أمر.
وكذلك كان نصيب الأستاذ الزهاوي في العهد العربي؛ فبعد أن توقَّع القوم أن يُسند إليه
منصب خطير، ظَلَّ من غير وظيفة حتى كتابة هذه السطور.
•••
قال الزهاوي الشعرَ بالعربية والفارسية وهو صبي، وأجاده فيهما بعد أن صافح الثلاثين،
ولم ينشر شيئًا مذكورًا من شعره قبل هذا العمر، بل بقي متوغلًا في درس العلوم
الحديثة والفلسفة، حتى ذاع أمره في أقطار الضاد كلها.
وتجلت عبقريته الشعرية بعد أن رجع من الآستانة إلى بغداد منفيًّا؛ فإنه طفق
يَنظم القصائد الشيقة الواحدة تلو الأخرى، ويذيعها بتوقيع مُستعار في «المقتطف»
و«المقطم» و«المؤيد».
وظلَّ الفيلسوف الشاعر يَنظم الشعر، وأكثره بموضوع فلسفي أو اجتماعي، مُستنهضًا به
أُمته العربية، يريد إيقاظها من رقدتها نحو عشر سنوات، وقد أحدثت قصائده انقلابًا في
الأدب؛ فدخل في طَرْز جديد لم يُعهد قبله، فأخذ الشعراء يحذون حذوه في نَظم المعاني
المستحدثة، وقد كان لشعره تأثير عظيم في البلدان العراقية، وبالخاصة في بغداد، مع
أنَّه لم يبدع الإبداع كله إلا في سنواته الأخيرة.
أمَّا شعره فمن أعلى طبقات الشعر العصري، لا تجد فيه تعقيدًا أو ألفاظًا غريبة كثيرة،
تغلب عليه الحِكم والأمثال، مع جزالةٍ في اللفظ ومتانةٍ في الأسلوب، يحلي كل ذلك شعور
رقيق، وحس دقيق، وعواطف مُتَّقدة، ومذهبه فيه مذهب العالم يريد تقييد حقائق العلم
بسلاسل النظم، والفيلسوف يصف الحياة ووجوهها بشعر غال، والحكيم الاجتماعي يضع قواعد
العمران في أبيات مرصفة القوافي مُحكمة الأوزان.
ولقد كان لحياة المرأة الشرقية نصيب وافر من آماله وآلامه في شعره، كما أن غادته
السحرية الفتانة هي «ليلى»، فهي بطل أشعاره لا يزال يتغزل بها، ويتشبب ويئن ويتوجع
لفراقها وبينِها، وقلما خلت قصيدة له طويلة من ذِكرها وذِكر محاسنها.
وهو يحسن غير العربية الفارسيةَ والتركيةَ والكردية، ولا يرغب في ترجمة شيء من اللغات
التي يُحسنها، وله اطلاع في أكثر العلوم والفنون الأدبية، كما يظهر ذلك من شعره.
•••
ولم يتفرد المترجم بنظم الشعر بل جال في ميدان النثر، وقد نشر مقالات عدة في «المقتطف»
وعمره بين الثلاثين والخامسة والثلاثين، وكذلك نشَر رسالته في «الخط الجديد»، ورسالته
الثانية «سباق الخيل» في «الهلال»، وكتب بعد أن نُفي من الآستانة ورجع إلى بغداد
مقالات فلسفية خطيرة، مُرتئيًا في حقيقة هذا الكون غير ما يرتئيه فلاسفة عصره، داعمًا
آراءه بأدلةٍ بناها على العلوم العصرية.
وكتب مدة إقامته في الآستانة بعد إعلان الدستور مقالات فلسفية كثيرة باللغة
التركية نشرتها مجلات «فروق»، وعلقت عليها من وصف صاحبها ما دل على تقديرها
لنبوغه.
ونثْر الزهاوي بليغ يُحاكي شعرَه، انتحى فيه طريقة خاصة به؛ فهو من أرقى النثر وأمتنه،
يبتعد فيه عن تقعُّرات المقلدين وأسجاع المُتكلفين من بقايا طلبة المدرسة العتيقة، مع
اتساق الأسلوب، وبلاغة في التركيب، وخطه غير جميل شأن كثير من المشاهير، وقد أثبتنا
نخبة من نثره في «قسم المنثور» من كتابنا هذا.
•••
لم يدرس الأستاذ الزهاوي في مدارس تسير على النمط الحديث، ولم يلج الجامعات الكبرى
في أوربة أو أميركة، ولا تعلَّم لغة أجنبية، بل هو بحدَّة فؤاده وتوقُّد ذهنه وعلو همته
وانكبابه على المطالعة بجلد عظيم أحرز كثيرًا من العلوم والفنون، وهو بهذا
الاعتبار يُعد من النوابغ الأفذاذ. ولقد قال من عرفه حق المعرفة إنه لو تيسرت له
المُعدات اللازمة من درس وبيئة، لأتى بما لا يقل عن مآتي نبغاء الغرب.
وهو اليوم شيخ مُسن يعيش عيشة بسيطة بينما تجده مُلقى على سريره في داره، يناجي إلهة
الحب والشعر والجمال، ساعة يستنزل الوحي ليُضمنه آياته الشعرية، تراه بعدها في إحدى
قهوات بغداد يلعبُ بالداما أو النرد، أو تلقاه في نادي أدب وظرف، وقد الْتف حوله القوم
على اختلاف مراتبهم، يُلقي عليهم من لطائفه ما يسرهم ويكبره في عيونهم. وإذا ما جلس في
مجلس أصحابه الأخصاء، تراه يداعب جلساءه وينشدهم في فترات متقطعة شيئًا من شعره القديم
أو الحديث على الأكثر بصوته المتهدج وقهقهته التي تكشف عن سلامة قلبه، وله في تلاوته
شعرَه تمثيل خاص يسترعي أذهان السامعين، تدنو منه فتقرأ على وجهه الناحل وفي عينيه
البرَّاقتين وأسارير جبهته أثرَ الاشتغال الطويل بالأشغال العقلية، وشَعره الأشمط المُتدلي
على فَوْدَيه ولحيته الخفيفة يُمثلان لك زهد الفلاسفة وتقشُّفهم، وكذلك ملابسه. يفرط
في شرب
الدخان باللفافة، ويدخن النرجيلة في القهوات والمجتمعات العامة. له في المجتمع
البغدادي، بل العراقي، مقام أدبي كبير، وقد ولع أخيرًا بمطالعة الروايات الغربية التي
تترجم في مصر فيبتاع منها كل ما تصل إليه يده ويطالعها في خلواته.
وهو أنيس المحضر، لا يتكلف في قعوده وقيامه، تزوج ولم يُرزق ولدًا، وبما أن نفسه طمَّاحة
إلى آمال كبيرة لم يُوفَّق إليها تجده حانقًا على الحياة وأبنائها، وعنده في داره كلب
أسود
دعاه «ولك»، هو بمقام قطة الدكتور شميل البيضاء — التي اشتُهرت بقصيدة طانيوس عبده —
وله
من أوراق الفيلسوف الشاعر ومنظوماته ما يلهيه.
•••
اشتغل صاحب الترجمة بمؤلفات عديدة وأنجزها، كما أن له من قصائده الكثيرة ما يملأ
بضعة دواوين، وها نحن ذاكرون مؤلفاته مبتدئين بالمنظومة منها:
- (١)
ديوان الكلم المنظوم: هو أول دواوين الزهاوي يتضمن أوائل شعره إلى إعلان الدستور العثماني،
وقد طُبع ونُشر في بيروت في أول سنة الدستور، لكنه مع الأسف لا يدل على
شاعريته، كما أنه مشوَّه بالأغلاط المطبعية وغيرها، وقد هذَّبه ناظمه وصحَّحه
على نية تجديد طبعه.
- (٢)
ديوان بعد الدستور: هو ثاني دواوينه يجمع شعره من إعلان الدستور حتى الاحتلال البريطاني
للعراق، وهو من طبقة أعلى من الديوان الأول (معد للطبع).
- (٣)
ديوان هواجس النفس: هو ديوان الزهاوي الثالث، ويحوي نظمه منذ الاحتلال البريطاني للعراق
حتى بداية صيف سنة ١٩٢١، وفي هذا الديوان والذي يليه أحسن شعر الأستاذ
الزهاوي (معد للطبع).
- (٤)
ديوان بقايا الشفق: أودع المترجم هذا الديوان الرابع شعره الذي نظمه من بداية صيف سنة
١٩٢١ إلى يومنا هذا (معد للطبع).
- (٥)
رباعيات الزهاوي: تتضمن المثنيات التي نظمها الشاعر الفيلسوف الزهاوي في مطالب متنوعة،
عارض بها أبا العلاء وعمر الخيام، وأبلغها المائة والألف، وهي أقسام
أربعة من بحور قصيرة، وقسم خاص من بحور مُختلفة. أمَّا المطالب التي
نظم فيها فهي اثنا عشر مطلبًا: الغراميات، البؤس والشقاء، الشعر
والشعراء، الإنهاضيات، الأخلاقيات، السياسيات، الفلسفيات، الاجتماعيات،
الطبيعيات، الوصف والخيال، الشك واليقين، الجد والهزل. وما أبدع قوله
في إهدائها:
أُهديها إلى الأجيال الآتية، إلى الذين سوف يعيشون في بغداد
غير بغداد هذه، وأنا يومئذٍ تراب صامت.
- (٦)
ديوان الشذرات: مجمعة تتضمن مختارات دواوين الزهاوي كلها (على وشيك الطبع).
- (٧)
ديوان نزغات الشيطان: يُقال إن للزهاوي الفيلسوف الناظم ديوانًا آخر بعنوان «نزغات
الشيطان»، وعنوانه يدل على موضوعه.
- (٨)
عيون الشعر: مجموعة تقع في نحو ٢٠٠٠ بيت اختارها الأستاذ الزهاوي من المجاميع
الأدبية، ودواوين الشعراء على اختلاف عصورهم، وقسمها إلى أبواب جديدة
في الشعر، وقد نُشرت فصول منها في بعض الصحف العراقية.
- (٩)
كتاب الكائنات: ألَّف المُترجم كتاب الكائنات في الفلسفة في عنفوان شبابه ونشره سنة
١٨٩٦م، وهو يأسف أن جاء هذا الكتاب غير محكم الإنشاء لأنه من أوائل
مؤلفاته. وقد قال فيه بابتناء جواهر المادة من قوًى دقيقةٍ تدخل فيها
وتخرج على الدوام، وهي الإلكترونات.
- (١٠)
كتاب الفجر الصادق: ألَّفه في الرد على مذهب الوهابية، وطُبع ونُشر في مصر سنة ١٣٢٣ هجرية،
وقد ألَّف علماء الوهابية ردودًا عديدة عليه شحنوها بالسب والطعن في المؤلف.
- (١١)
كتاب الجاذبية وتعليلها: كتاب فلسفي في الحكمة الطبيعية نشره مُؤلفه قبل ١٢ سنة، وذهب
فيه
مذهبًا يُخالف مذاهب حُكماء عصره أجمعين مرتئيًا أنَّ المادة لا تجذب
المادة، بل أنَّ المادة تدفع المادة، وأبان أن الحجر الذي يسقط على
الأرض لا يسقط لجذب الأرض إياه بل لدفع المواد في السماء إلى الأرض،
وأورد على ذلك أدلة ذات شأن مبنية على قواعد العلم. وقد كتبت مجلة
«المقتطف» في نقد الكتاب والرد على ما جاء فيه من الآراء، فأجابها
المؤلف برد على نقده، وهكذا تكرر النقد والرد مرتين.
- (١٢)
الدفع العام والظواهر الطبيعية والفلكية: رسالة نُشرت قبل ١٣ سنة تباعًا في الأجزاء اﻟ
١ واﻟ ٢ واﻟ ٣ من المجلد
اﻟ ٤١ من «المقتطف»، أيَّد فيها ما كان يذهب إليه من وضع الدفع مقام
الجذب لتعليل ظواهر الكون، وصار يعلل أنواع الجاذبيات بناموس واحد؛ وهو
دفع المادة للمادة بسبب إلكتروناتها التي تشعها بكثرة، وأخذ يُعلل
بمبدئه المدَّيْنِ المتقابلين في وقت واحد على الأرض؛ مما كان يعجز عن
تعليله العلماء على مبدأ الجذب، وقد أوضح المؤلف في هذه الرسالة سبب
ارتباط النظام الشمسي بعضه ببعض، وقال بتولد الحرارة والنور في الشموس
من الأثير المنعكس عن مراكزها بعد جريانها إليها، حفظًا للموازنة التي
لا تزال تختل بطرد الإلكترونات له من بين الجواهر في كل جسم، مُبينًا
أن هذا الأثير الجاري إلى الأجرام هو الذي يدفع الأجسام إليها،
فيزعم العلماء هذا الدفع الخارجي جذبًا داخليًّا، وبيَّن بمبدئه سبب
حدوث الزلازل، وشرح حالات ذوات الأذناب، وأماط اللثام عن توجُّه أذنابها
إلى خلاف جهة الشمس، وعن سبب ابتعادها عن الشمس بعد أن تدور حولها دورة
ناقصة، وعن بقاء القوة، وعن حقيقة الشمس، وقال بانحلال الشموس إلى
السدم منكرًا تولدها منها.
- (١٣)
محاضرة في الشعر: ألقى الأستاذ الزهاوي محاضرة نفيسة في الشعر في المعهد العلمي في
بغداد سنة ١٩٢٢، بطلبٍ من المعهد، كان لها أعظم وقْع، وضاق المعهد
بالسامعين، وقد نُشرت تباعًا في جريدة العراق البغدادية، وجُمعت مع ترجمة
الأستاذ ورسمه في كتاب «سحر الشعر»، الذي جمعه كاتب هذه السطور
وطُبع سنة ١٩٢٢ في مصر، وهو يتضمن مقالات وقصائد في الشعر والشعراء
لنخبة من أكابر الأدباء المعاصرين.
- (١٤)
كتاب في ألعاب الداما: مؤلَّف في ألعاب الداما جمع فيه ٥٠٠ لعبة لغيره من المشاهير، و١٠٠٠
لعبة من مخترعاته، واستنبط لتصوير هذه الألعاب طريقة بالأرقام فاستغنى
عن خط الجداول، ووضع الحجارة في شكلين؛ فقدر بذلك أن يضع بضعة أرقام،
ويدل بها على وضع أحجار الخصم ووضع أحجاره، وكيفية تحريك أحجاره،
ليستوليَ على أحجار خصمه.
- (١٥)
حكمت إسلامية درسلري: هي الدروس التي كان يلقيها الأستاذ في الفلسفة الإسلامية، على طلبة
المكتب الملكي، في الآستانة نشرتْها مجموعة «دار الفنون» هناك.
وقد ترجم زهاء ١٧ قانونًا بين كبير وصغير من القوانين العثمانية لمَّا كان رئيسًا
للجنة ترجمة القوانين في بغداد، في حكومة الاحتلال المؤقتة.
•••
كان بِوُدِّنا أن نبحث في فلسفة الأستاذ الزهاوي، وننظر في أقواله وآرائه، غير
أننا أحجمنا عن هذا لأسبابٍ كافية، وقد أودعنا كل ذلك كتابنا «فيلسوف بغداد في القرن
العشرين»، الذي ضمَّنَّاه ترجمة مطولة للأستاذ جميل صدقي الزهاوي، وبحثًا مُسْهبًا في
شعره
وفلسفته وأعماله على الأسلوب الحديث، وقابلنا بينه وبين النوابغ العرب، والإفرنج من
معاصريه، فهو بهذا الاعتبار تاريخ العلم والأدب في العراق، بل في العالم العربي في هذا
الطور، والكتاب لا يزال مخطوطًا.
وإليك نخبة من شعره:
(١) النائحة
وهي قصيدة في رثاء من شنق الاتحاديون في سورية من أفاضل العرب.
على الأعواد
على كل عُودٍ صاحب وخليلُ
وفي كل بيتٍ رنَّة وعوِيل
وفي كل جنبٍ مأْتم ومناحة
وفي كل صوبٍ مُقصَد وقتيل
وفي كل عينٍ عَبرة مُهراقة
وفي كل صدرٍ عِبرة وغليل
علاها وما غير الحمية سلم
«شباب تَسامى للعُلى وكهول»
كأن وجوه القوم فوق جذوعهم
نجومُ سماءٍ في الصباح أفول
كأن الجذوع القائمات منابر
علت خطباء عودهنَّ تقول
سموٌّ كما شاءت نزار لولدها
وبعد كما شاء الفخار وطول
لقد ركبوا كور المطايا يحثهم
إلى الموت من وادي الحياة رحيل
أجالوا بهاتيك المشانق نظرة
يلوح عليها اليأس حين تجول
وبالناس إذ حفوا بهم يخفرونهم
وقوفًا وفي أيدي الوقوف نصول
يرومون أن يَلقَوْا عدولًا فينطقوا
وهيهات ما في الحاضرين عدول
دنوا فرقوها واحدًا بعد واحدٍ
وقالوا وجيزًا ليس فيه فضول
فمن سابق كي لا يُقال مُحاذر
ومُستعجل كي لا يقال كسول
ولله ما كانوا يحسُّون من أذًى
إذ الأرض تنأى تحتهم وتزول
وإذ قرُبوا منها وما سعدوا بها
وإذ مس هاتيك الرقاب حبول
وما هي إلى رجفة تعتري الفتى
مفاجأة والرأس منه يميل
رجال عليهم من سنى الفضل رونق
وللمجد فيهم غرَّة وحجول
ألمَّت من الترك الرزايا بهم كما
ألمَّ بحدِّ المشرفيِّ فلول
مشوا في سبيل الحق يحدوهُم الردى
وللحق بين الصالحين سبيل
ستبكي على تلك الوجوه منازل
وتبكي ربوع للعلى وطلول
وأعظمْ بخطب فيه للمجد شقوة
وفي جسد العلياء منه نحول
قبور القتلى
قبور ببيروت، وأخرى بجلَّق
تُجرُّ عليها للرياح ذيول
سرت روحهم تطوي السماء لربها
وما غير ضوء الفرقدين دليل
ولله عيدان من الليل أثمرت
رجالًا عليهم هيبة وقَبول
ويا لك من رُزءٍ حمدتُ له البكا
وقبَّحتُ فيه الصبر وهو جميل
ويا لَقلوبٍ حزنهنَّ مبرِّحٌ
ويا لَعيون دمعهنَّ يسيل
لقد دحض الظلمُ العدالةَ قاهرًا
وغطى على الحق المبين بطول
كأن قبور القوم إذ رقدوا بها
عباديد سفر بالتلاع نزول
هوت أُمُّهم ماذا بهم يوم صُلِّبوا
على غير ذنب كي يقال ذحول
سوى أنهم قد طالبوا لبلادهم
بأمرٍ إليهم فخره سيئول
ونادَوْا بإصلاحٍ يكون إلى العلى
وللنجح والعمران فيه وصول
فما ردَّ عنهم بالشفاعة عصبة
ولا ذَبَّ عنهم بالسلاح قبيل
ولا نفع السيفَ الصقيل حديده
مضاء ولا الرمح الطويل غسول
لعمرك ليس الأمر ذنبًا أصابه
قصاص، ولكن يعرب ومغول
نساء القتلى وذووهم
وفي الحي وِلدانٌ وفي الحي نسوة
قد اغتيل آباء لهم وبعول
شقاء على الوجه المنعَّم لائح
ودمع على الخد الأسيل يسيل
تئن بداجي ليلها أم واحد
كما أنَّ من بَرِحَ السقامَ عليل
وللأمهات الويل في الليل إنَّه
على من تناجيه الهموم طويل
ونائحة في الليل أمَّا نشيجُها
فبادٍ وأمَّا همها فدخيل
أهذا الذي يشجو بكاءُ حزينة
على إلفها أم للحمام هديل
وتسمع من حين لآخر صرخة
تكاد لها شُم الجبال تزول
ولله آباء حنى من ظهورهم
توالي رزايا عبؤهن ثقيل
أسماء القتلى
على عمر الغالي وشكري تلهفت
١
قلوب وتاهت في المصاب عقول
وبعد السليمين العريقين في العلى
وعبد الحميد الحر أفضل ميت
فحزني على عبد الحميد يطول
٣
ولهفي على مسعى شفيق وجهده
فما لشفيق في الرِّجال مثيل
٤
أيدري الذي وارى عليًّا بقبره
ويا غيث إن لم تسقِ مرقد حافظ
فطرفيَ في الإرواء عنك بديل
٧
ويا قبر رشدي والشهيد مبجل
سقاك من الغر العهاد هطول
٨
ويا جدث الوهاب قل لي مصرِّحًا
وهل للعريسي الجريء وعارف
إذا عد أقطاب اليراع عديل
١٠
وليس كتوفيقٍ فتًى أو كصالحٍ
وعبد الكريم الندب ما ضاع رشده
إذ الدهر يسقيه الردى ويغول
١٢
تمثل فوق العود قبل وفاته
ببيت يؤسِّي الشعب وهو يقول
«إذا مات منَّا سيد قام سيد
قَئُول بما قال الكرام فعول»
جلال لعمر الحق ما كنت مذنبًا
١٣
فكيف من الأتراك غالك غول
ولا مثل جرجي فهو يوم أتَوْا به
إلى الموت قسرًا ما عراه ذهول
١٤
كذاك سعيد يوم غيل ومثله
رفيق كلا المستهلكين حمول
١٥
هنالك ركب إن سرى أبعد السرى
وإن حَلَّ أرضًا طاب منه حلول
نأَوْا قبل حينٍ ثم ما آب غائب
ولا جاء منهم بعد ذلك سول
أفكر في الماضي فيأتي خياله
جميلًا أمام العين ثم يزول
أناخوا المطايا حين أدرك ليلها
بمأسدة فيها الحماة قليل
فهل للأُلى غابوا عن الأهل أوبة
إليهم وهل للراحلين قفول
وإني على ما لي من الحر والصدى
لأنظر ماءً ما إليه سبيل
البكاء على القتلى
وسائلةٍ ما بال دمعك فائضًا
على النحر يغريه الغداة همول
تقول أتبكي في المصاب تلومني
وتمسح منها العين حين تقول
أتبكي لرُزء قد أصابك شطره
وأنت أخو صبر وأنت حمول
فقلت أجلْ أبكي الأُلى طلبوا العلى
فماتوا كرامًا والبكاء قليل
وإن بكائي اليوم لو نفع البكا
عليهم وفي مستقبلي سيطول
أبعد بني قومي أُنَهْنِهُ عبرتي
وأمنعها، إني إذنْ لبخيل
سأبكي على صحبي وما أنا واثق
بأن بكائي للشقاء مزيل
وليست دموعي إن تبيَّنت أمرها
سوى قطرات في العيون تجول
لحيت كئيبًا يا ابنة القوم إذ بكي
وما رأي من يَلحي الكئيب نبيل
سواءٌ على من كان في حوزة الأسى
فأسبل دمعًا عاذر وعذول
وقد يتناسى المرء غَيبة واحد
مضى في سبيل الحق وهو قتيل
ولكنَّ خطبًا قد ألمَّ بأُمة
وأفجع شعبًا إنه لجليل
سيجزي قضاة العدل من كان جارمًا
وللعدل عند الجارمين تبول
وإني لأخشى عن كثير غضاضة
وألا يكون الأمر فيه شمول
وهل يعدم المطلوب في الحي حاميًا
وفي الحي أعمام له وخئول
وإنَّ دمًا لم يكترث أهله له
ولم يثأروا يومًا به لطليل
وإن امرءًا لا يغسل العارَ سيفُه
بما هو يجري من دمٍ لَذليل
وما كل مصقول بسيف تعده
لثأر ولا كل السيوف صقيل
نصيحة للعرب
بني يعرب لا تأمنوا الترك بعدها
بني يعرب إن الذئاب تصول
ولا تمشِ في أمر أجنَّك ليله
على ضوء تركي فذاك ضئيل
تريث إذا كنت في الطين ماشيًا
فقد يخذل الأقدام منك زحول
على أنَّ هذا الشعب ليس بأسره
لئيمًا وما كل الرجال نذول
على أن فيهم صادقين فهُم على
هدًى غيرَ أنَّ الصادقين قليل
وفي الترك ناس صيغ ظاهر شكلهم
من الخبث صوغًا والرجال شكول
وما كان يعتاد السفاهة راضيًا
بها أحدٌ في الناس وهو أصيل
وكم قتلوا من غادةٍ مات بعلها
ولم ترضَ أن ينحى العفاف عجول
كأَن وضيء النَّحر والسيف فوقه
صقيل يساقيه الغداة صقيل
فأذمِمْ بحزب جار وهو مهيمن
وأقبِحْ بحزب ساد وهو يعول
وأرذِلْ بحزب كان في كل مطلب
يميل مع الأهواء حيث تميل
ولن تسكت الأيام عن عصبة جنَوْا
ولكن بما كالوا لهم ستكيل
فيا قاصدًا بيروت بلغ قبورهم
سلامي ويا بيروت أنت هبول
هنالك داءٌ مَن وقته مناعة
فما مات منه بات وهو هزيل
هنالك جوع ساغب يأكل الحشا
إذ الأرض ظمأى والبلاد محول
هنالك سنان للهدوء موجَّه
وسيف على هام السلام سليل
وقد سلبوا حرية الناس إذ عتَوْا
وتلك مراد للحياة وسول
هي الشمس في عينيَّ يحسن ضوءُها
ويحسن إشراقٌ لها وطفول
أو الخود أرجو أن تحيط لثامها
فيبدوَ وجهٌ عند ذاك جميل
من الخفرات البيض أمَّا عيونها
فسودٌ وأَمَّا جيدها فتليل
ولا ينقص الحسناء بين لداتها
إذا برزت للناظرين عطول
وصبوا دماءً من شعوبٍ بريئة
فأخضل وهدان بها وتلول
وساوَوْا جهولًا بالذي هو عالم
«وليس سواءً عالمٌ وجهول»
ولا تتَّكلْ إلا على النفس إنها
إذا احتجت يومًا للمعيل تعيل
فما إنْ لنفس من إغاثة ربها
وإن أحجمت بعض الأوان نكول
أليس لمن يحتاج في ظل بيته
وقد طال من حر الهجير مقيل
تعرض للرمضاء جنبك ضاحيًا
وظلك في وادي الأراك ظليل
إجلاء الأسر العربية
ولا مثل يومٍ فيه سيقت كرائم
وشُدت على ظهر المطيِّ حمول
لقد رحلت تلك المطايا بأهلها
وأعناقها نحو المواطن ميل
يبرحني أنَّ الصروح تقوَّضت
ويحزنني أنَّ القصور طلول
أتعلم أن الروض صوَّح زهره
وأن به بعد الرواء ذبول
لقد كان لي فيه مراح وملعب
وملهًى ومرعًى لو ذكرت خضيل
إذ الدهر والأقدار والحظ والفتى
وليلى برغم الكاشحين تنيل
أقبَّرة الحقل اغنمي الوقت واصفِري
فما بعد أيام تمُرُّ حقول
بأي مكان تَصفِرين صبابة
إذا جاء يستقصي الحقول فحول
لقد جئت أرثي الرَّوض قد جف نبته
وكنت أغني فيه وهو خميل
أتى السيلُ قَومي في الصباح فجرَّهم
وقَوميَ في وادي العقول نزول
نساءٌ ووِلدانٌ يُسفَّرن عَنوة
وشيب وشبان معًا وكهول
بني الترك أسرفتم بني الترك خففوا
قليلًا فإنَّ الوطء أوه ثقيل
تأنَّوْا بخلق الله لا تتهجَّموا
عليه وخافوا الغب فهو وبيل
ولا تحقروا شعبا كبيرًا بأسره
فإنَّ إليكم عزمه سيَئُول
أحاذر أن تلقَوْا جزاء قضائكم
وأن تندموا إن الزمان يحول
فليت الذين استحسنوا الأمر فكروا
فكان عن الرأي السخيف عدول
طغَوْا فاستحبُّوا أن تُهان كريمة
وتبرز من خدر الخفاء بتول
عتبت على الأيام إن نعيمها
وكل جميل تجتليه يزول
وإن النجوم الطالعات عشية
لهن بإثناء الصباح أفول
إنقاذ دمشق
قد اسودَّ ليل الظلم حتى كأنه
ستار على الأرض الفضاء سديل
فيا لك من ليلٍ يروع كأنما
بكل مكانٍ منه يرقب غول
وقد قر حتى قلت قد جمد الدجى
وخِلتُ بياض الصبح ليس يسيل
وعسعس يرتاع الكرى من ظلامه
وطال وليل الخائفين يطول
إذ الوطن المأسود ينهض قائمًا
فتقعد أغلال به وكبول
إلى أن أتى بالفتح جيش عرمرم
مدافعه تنكي العدا وتهول
فقد ذر قرن الشمس أو كاد وانجلت
من الليل عن صبح النجاة سدول
وجاءت خيول العُرْب تعدو وراءها
بمقربة للإنكليز خيول
هنالك أهل الشام صاحوا وكبَّروا
وكبَّر أعلام بها وسهول
وكان لأخذ الثار قد ثار ضيغم
له في مغار الغابتين شبول
حسين بما قد جاء قد سر جده
وإن حسينًا للنبي وكيل
أغر كريم الأصل من فرع هاشم
فطاب له فرع وطاب أصول
فأعظِمْ بملك سل للذب سيفه
وأرهِفْ بسيف ليس فيه نكول
الطاغية
جمال لأنت القُبح سمَّوْك ضده
وثوبك إذ أرفلت فيه ذليل
تريد لمجد العُرْب فيما أتيته
زوالًا ومجد العُرْب ليس يزول
تحيل عليه تبتغي كسر شأنه
أتعلم ما تأتيه حين تحيل
وتضربه بالسيف تطلب قطعه
فيرتدُّ عنه السيف وهو كليل
فعالك لا يأتيه من كان عنده
حصاةٌ وفي تلك الحصاة صمول
لقد جئت أمرًا يا جمالُ مُذَمَّمًا
وأنفذت رأيًا لا يزال يفيل
فما قُبْح ذاك القتل عنك بزائل
ولا دنسُ الإجلاء منك غسيل
رويدك لا تغترَّ بالدهر إنْ صَفَا
ولا تأمن الأيام فهْي تدول
وراءك لا تقرب رواسي يعرب
فقرب رواسيها عليك وبيل
ولا تتعرض يا ابن مورثة العمى
لمجد بني عدنان فهو أثيل
تأنَّ ولا تعجل فما العرب غيرهم
ولا الشم من وعر الجبال سهول
الخاتمة
جرت هذه الأحداث والحرب لم تزل
على فتكها بالناس فهْي أكول
إذ الشام أو بيروت أو أكثر القرى
كمنحدر تجري عليه سيول
مضى ما مضى لا عاد واليوم فاستمع
إلى لهجة التأريخ كيف يقول
ستُكتب فيه بالدماء مباحثٌ
وتُقرأ للويلات فيه فصول
ويذهب هذا الجيل نضوَ شقائه
ويأتي سعيدًا بالسلامة جيل
(٢) شهقات
ما إن يريد حياةً
تذل إلى الجبانُ
تخشى المنون وشر
من المنون الهوان
لنا نريد أمانًا
منها وفيها الأمان
الأرض ليست بدار
فيها الحقوق تُصان
بين الذين عليها
يَحيَوْن حربٌ عوان
لا تلحني إن تأخر
ت يوم جدَّ الرهان
فقد أردت نجاحًا
وما أراد الزمان
•••
إن السماء لتبغي
في كل يومٍ شهيدًا
والأرض تعلن للنا
ظرين قبرًا جديدًا
لا يوم إلا ونبكي
فيه صديقًا فقيدًا
مات الوحيد لأمٍّ
فالأم تبكي الوحيدا
لقد شجاني صبيٌّ
يلوي من اليتم جيدا
كم قد طلبت سعيدًا
فما وجدت سعيدًا
إنْ نيلَ بالعسف عيش
فلا يكون رغيدا
•••
قد أطبق الموت عينيـ
ـنِ مِن فتاة رداح
هوت بها وهي بكر
يد بغير جناح
ماتت فنامت بقبر
أُعدَّ غير فساح
ما للمقيم به بعـ
ـد أن ثوى من براح
يأتي على المرء فيه
ليل لغير صباح
فزاره صاحب كا
ن نضو حب صراح
يهدي إلى القبر زهرًا
من نرجس وأقاح
•••
غنَّت حمامة أيك
غنِّي لنا يا حمامهْ
وبعد ذلك طيري
مخفة بالسلامه
البرق يضحك في جوِّ
ه وتبكي الغمامه
أكُلَّما قُلتُ شعرًا
قامت عليَّ القيامه
ندمت من كل ما قلـ
ـته أُثيرُ الشهامه
نعم ندمت ولكن
ماذا تُفيد الندامه
إذا هجرت بلادي
فما عليَّ ملامه
•••
لا شيء يبقى على ما
شهدته مستمرًّا
البحر يطغى لمد
والمدُّ يعقب جزرًا
كم غيَّرَ الأرضَ من حا
دث على الأرض مرا
فصيَّر البر بحرًا
وصير البحر برا
الأرض تضمر نارًا
والنار تضمر شرا
فقد تشق أديمًا
لها وتحدث أمرا
وتجعل الظهر بطنًا
وتجعل البطن ظهرًا
•••
للكون فيما بدا لي
ظواهرٌ وخفايا
ما قام فينا حكيم
يحلُّ بعض القضايا
إنَّ المدينة حي
والناس فيه خلايا
ما بالذكاء يسود الـ
إنسان بل بالسجايا
والمرء يُعرف منه الضَّـ
ـمير عند الرزايا
ما زال في البعض من أمـ
ـيال الوحوش بقايا
أطماعه ليس تمضي
حتى تجيء المنايا
•••
إذا أهين كريم
بالسبِّ قال سلاما
وإن أفاد سكوت
كان السكوت كلاما
يودُّ مَن سيم خسفًا
لو استطاع انتقامًا
قد بلل الدمع عند الـ
ـمساء خبز اليتامى
أشكو إلى الله عيشًا
مرًّا وداءً عقاما
ليس النواميس في عا
لم الوجود لزاما
فقد وجدت نظامًا
وما وجدت نظاما
•••
الأرض للشمس بنت
والشمس بنت الفضاءِ
تجري ذُكاء حثيثًا
والأرض حول ذكاء
والأرض تشرب من أُمـ
ـها لبان الضياء
من ذا يصدق أنَّا
نطير وسط السماء
إن الصباح شبيه
في ضوئه بالمساء
وقد أرى شفقًا قا
نيًا كَلون الدماء
كأنما هو رمز
إلى دَمِ الشهداء
•••
ما للفضيلة تأتي
بها الفتاة رواجُ
اليوم للناس في خطـ
ـبة الثراء لجاج
تزوجت فأتاها
بما يسوء الزواج
بكت فلا تمنعوها
إنَّ البكاء احتياج
بنى العروسان بيتًا
له الشقاء سياج
لا ترجُ فيه امتزاجًا
فما هناك امتزاج
إذا تناكر رُوحا
نِ فالفراق علاج
•••
لقد صمتُّ وصمتي
ما كان مِنِّيَ عِيَّا
أتحسب الغي رشدًا
وتحسب الرشد غيا
تريد جاهًا ومالًا
دثرًا وعيشًا رضيا
وبسطة ومكانًا
من الحياة علِيا
هيهات ما أنت إلا
ميْت وإن كنت حيا
يا شيخ هيا لنسعى
معًا إلى القبر هيا
فقد بلغنا كلانا
من الحياة عِتيا
(٣) لامية الزهاوي
الدفاعات
يكفي لإظهار ما في النفس من دخلِ
يوم من الحزن أو يوم من الجذلِ
ورُبَّ مخطوبةٍ عذراء قد جهلت
ما قد تُقاسي غدًا من قسوة الرجل
سمراء في مُقلتيها السحر مُستتر
والسحر إن كان حقًّا فهو في المقل
إذا نظرت إليها وهي ماشية
إلى لداتٍ لها احمرَّت من الخجل
العقد أم جيدها لم أرد أيهما
قد كان أكبر حرمانًا من العطل
تُزف في عنفوان من شبيبتها
إلى فتًى لشعار النبل مُنتحل
مهما به احتفلت بعد الزَّواج فما
تلقى سوى ذي غرور غير محتفل
تراه زوجًا على إرغامها بطلًا
وفي سوى ذاك ليس الزوج بالبطل
له تبث هواها كي يُجازيَها
بالمثل وهو عن الأهواء في شغل
قامت بخدمته جهدَ استطاعتها
تريد منه لها ميلًا فلم يَمِل
تودُّ لو أنَّه كان الوفيَّ لها
فلم يخن عهدها يومًا ولم يحل
هيهات فالطبع في الإنسان غالبه
بما توارث من آبائه الأُوَل
حتى أضاعت لعمري من شراسته
حياتها وهو في سكر من الجذل
قد ينزل الخطب في دار بربتها
ولا يكون هناك الخطب بالجلل
•••
ما أصبح الروض خلوًا من نظارته
لو كان يسقيه صوب العارض الهطل
هناك مرتطم في طين محنته
قد استغاث فلم يظفر بمنتشل
ماذا يقول الفتى في النفس حين يرى
لهيب شيب برأس الشيخ مشتعل
لقد شجتني الأَيامى في تعاستها
والرَّكب في ظعنه والشمس في الطفل
لأنت يا حق قصدي في محاولتي
ونصب عينيَّ في حلِّي ومرتحلي
ليت الزمان الذي أقصى يدُور بنا
حتى نعود إلى أيامنا الأُوَل
وقد أحاول أن أمشي فتمنعني
رِجل رمتها يدُ الأحداث بالشلل
لما رأيت زماني لا يساعدني
أخرت ما أتوخَّاه إلى أجل
•••
ما أكبرَ العقلَ للإنسان من سندٍ
إذا خلا فيه من وهنٍ ومن خلل
يُبدي الفتى في مقالٍ جاء يُورده
ما كان يُخفيه من حزم ومن خطل
يسقي رياضًا وجناتٍ وأندية
ماءً يسيل إلى الوادي من الجبل
لأنت يا ذا من الكون الذي بعدت
أطرافه عنك جزء غير منفصل
إذا أردت بأصل الكون معرفة
فارجع بفكرك أدراجًا إلى الأزل
إذا رجعت إليه مُلقيًا نظرًا
فقد ترى ما يُسمَّى علة العلل
•••
يشجي العيونَ على حسن هناك له
لونُ الدماء التي سالت من الأسل
ما نالت النفسُ ما كانت تؤمِّله
يا خيبة النفس بل يا ضيعة الأمل
يا راميًا نفسه من فوق شاهقة
لقد بلغتَ المنى من أقصر السبل
إنَّ المنية بالإنسان نازلةٌ
حتمًا كإرثٍ من الآباء منتقل
إنْ زال ما في قلوب القوم من حسكٍ
يومًا تبدلت العَضَّات بالقُبَل
•••
بغداد ليست كما قد كنت تعهدها
في عصر هارون عصر العلم والعملِ
وقد أرى طللًا للعلم مندرسًا
فقف معي ساعةً نبكي على الطلل
أرى اليتامى جلوسًا في شوارعها
يبكون في بكر الأيام والأصل
لا يحمل اليوم إنسانٌ بلا تعب
ما للحياة على الإنسان من ثقل
أبكي إذا كان يبكي في أصائلها
طفلٌ من اليُتم أو أُمٌّ من الثكل
•••
في كل ما عاش لا يأتي الفتى عملًا
ما لم يكن سائق فيه من الأملِ
إلزامك المرء بالبرهان تورده
لا يحمل المرء في وقتٍ على العمل
وإنما عادةُ الإنسان ناجمة
من المُحيط بفعلٍ فيه مُتصل
وهذه هي في التحقيق باعثة
له على السعي في الدنيا بلا ملل
إذا رأى وَشَلًا حرانُ ذو ظمأٍ
فإنه ليس يستغني عن الوَشَل
•••
من زلَّ من عجلٍ يومًا فأحْرِ به
بعد السلامة أن يَمشي على مهل
مهما تكن عضلات الرِّجْل مُحكمة
فقد تزل بمن يمشي على عجل
إنْ كانت الأرضُ عند المشي ليِّنة
فليس بأس على الماشي من الزَّلل
تقنو الحياة بقاءً في تنازعها
من النشاط وكل الموت في الكسل
من جاء يشرع بالأعمال معتمدًا
على البصيرة لا يخشى من الفشل
إن حُم يوم عصيب للكفاح فما
يُدعى به بطلًا من ليس بالبطل
لقد دَلفتُ فسُرَّ المجد من دلفي
وقد نكلت فسيء المجد من نكلي
•••
دع المتيَّم في شأن يريم به
فالحبُّ شيء وراء العذر والعذل
ماذا تريد بأنظارٍ تُحولها
عمدًا إلينا أُلات الأعين النُّجُل
أمرت قلبيَ بالسلوان أنصحه
لكنَّ قلبي عصيٌّ غير ممتثل
قد طال ليلك من هَمٍّ سهدتَ له
ولو رقدتَ به كالناس لم يطل
•••
ما الشعر إلا شعوري جئتُ أعرضه
فانقده نقدًا شريفًا غير ذي دخل
وأحسَنُ النقد ما يرضى الجميع به
وأسوأ النقد ما يُفضي إلى الجدل
الشعر ما عاش دهرًا بعد قائله
وسار يجري على الأفواه كالمثل
والشعر ما اهتز منه روح سامعه
كمن تكهرب من سلكٍ على غفل
الشعر قد قلته لما تَطلَّبني
ولو تنكب عني الشعر لم أَقُل
له ابتكرت وغيري جاء منتحلًا
وليس مُبتكرٌ شيئًا كمنتحل
قد قلت شعرًا فلم يسمعه من أحد
إلا ترنح فعلَ الشارب الثمل
فيه إلى اليوم ما قلدت من أحد
وما على غير نفسي فيه متكلي
أفعمته حكمًا تعلو وأمثلة
تحلو فسُرَّ له شعب وصفق لي
وقد أعود به أبان أنظمه
إذا تذكرت أيامي إلى الغزل
يا شعر إنك أحلامي التي حسنت
وأنت ذكرى شبابي النَّاعم الخضل
(٤) أيها العِلم
عش هكذا في علوٍّ أيها العَلَمُ
فإننا بك — بعد الله — نعتصمُ
عش للعروبة عش للهاتفين لها
عش للأُلى في العراق اليوم قد حكموا
عش للعراق لواء الحكم تكلؤُه
عين العناية من شعب له ذمم
عش خافقًا في الأعالي للبقاء وثق
بأن تؤيدك الأحزاب كلهم
جاءت تحييك هذا اليوم معلنة
أفراحها بك فانظر هذه الأمم
كأَنما الناس في بغداد إذ هتفوا
بحرٌ خضم به الأمواج تلتطم
من بعد ما كانت الأيامُ عابسةً
وجوهُها صارتِ الأيامُ تبتسم
إن احتُقِرتَ فإنَّ الشعبَ محتقَر
أو احتُرمتَ فإنَّ الشعب محترم
الشعب أنت وأنت الشعب أجمعه
وأنت أنت جلال الشعب والعظم
وإنما أنت لاستقلاله سندٌ
يُئوي إليه إذا ما اشتدت الأزم
فإنْ تعشْ سالمًا عاشت سعادته
وإن تمت ماتت الآمال والهمم
•••
هذا الهتاف الذي يعلو فتسمعه
جميعه لك فاسلم أيها العلَم
تُتلى أمامك والجمهور مستمع
قصيدةٌ لفظها كالدر مُنسجم
لشاعر عربي غير ذي عوج
على الفصاحة منه تشهد الكلم
يا أيها العلم المحبوب شارته
إنَّا لك اليوم بالإجماع نحترم
قد كان لليأس في أكبادنا ألمٌ
حتَّى خفقت فلا يأس ولا ألم
•••
لم يسمع الناس حربًا كالتي سلفت
في هولها، وَلِأَرزاء الورى قدم
دامت سنينَ مع الويلات أجمعها
دهياءُ تلقف من تلقى وتلتهم
كم دولة سَقطتْ من أوج رفعتها
كما تَساقطُ من أفلاكها الرجم
جرت هنالك أشياء مُروعة
وإنَّ أكبر أشياء جرين دم
العُرْب يومئذٍ خاضوا عجاجتها
في جنب أحلافهم والنار تضطرم
قد استمروا ونار الحرب موقدة
يُكافحون ولم يأخذهم السأم
الحمد لله رب العالمين على
أن زال بالخير ذاك الحادث العمم
وأن أتى السلم حتى ظل سامعه
من غلي أفراحه يبكي ويبتسم
ومن نتائجها أن خاب موقدها
وأن تحرَّرَت الأقوامُ والأمم
وعاد في كل أرجاء العِراق إلى
أبنائه الحكم مقضيًّا كما حكموا
•••
لقد تمسك قومي عند وحدتهم
بعروةٍ ليس طول الدهر تنفصم
من ذا يصد أناسًا عن تقدمهم
في مَهْيَعٍ للهدى لو أنهم عزموا
إذا تأخر والأقوام سابقة
أبناء يعرب فالأقدار تتهم
السيف والقلم امتازا بذودهما
فلْيحْيَ للمُعضلات السيف والقلم
مجد قد اقتحم الصعبَ الغزاةُ له
والصعب للمجد مهما اشتد يقتحم
مجد لأبناء عدنان له قِدم
كما شماريخ نهلان لها قدم
•••
أهل العراقين بعد الله قد وثقوا
بفيصل وهو ذاك الصارم الخذم
لفيصل فليعش في عرشه مَلكًا
رأيٌ حصيف يليه نائلٌ عمم
سُرَّ العراق به والرافدان معًا
والماء والنخل والوديان والأكم
رِدْ إن ظمئت إلى عدلٍ شريعتَه
فالعدل ثمَّت ورد ماؤه جمم
•••
يا قوم أنتم بنيتم من تضامنكم
على الفراتين حصنًا ليس ينهدم
سيشكر الصنع أرواح الجدود لكم
وتشكر الصنع في أجداثها الرمم
يا قوم إن لم تصونوا عز بيضتكم
فأين تلك السجايا الغر والشيم
تأبى الصَّغارَ نفوسٌ لم تكن جُبلت
على الصَّغار وآناف لها شمم
بالعقل لوذوا إذا حمت مخالفة
فإنه وحده في الناس يحتكم
يا قوم إن الذي أُلقيه من كلم
خلا من الحُكم إلا أنه حِكم
(٥) إلى أهل الحق
لقد جاء يوم فيه ينتبه الشرق
ويرجع محمودًا إلى أهله الحقُّ
إنِ الشرقُ ألقى في الحياة اعتمادَه
على نفسه يومًا فقد أفلح الشرق
وأكبر أنصار البلاد رجالُها
وأحسن أخلاق الرجال هو الصدق
وإنَّ دعام الحذق خُلق يُقيمه
فإن لم يكن خلق فلا ينفع الحذق
وفي بعض من عاشرتَ شيء تجله
فذلك لو فتَّشْتَ عنه هو الخلق
جرى الشرق شوطًا في الرهان وبعده
جرى الغربُ حثحاثًا فكان له السبق
يُقاسي القيودَ الشرقُ والغرب مُطلق
فبين كلا القسمين هذا هو الفرق
إنِ الشرقُ بعد اليوم لم يَرْعَ نفسه
ألمَّت به الجلَّى وعاجله المحق
ألا فليُرقِّعْ ثوبَه كلُّ من له
يدٌ قبلما في الثوب يتسع الخرق
قد انطفأت تلك النُّهى منذ أعصر
وتومض أحيانًا كما يومض البرق
أُحِسُّ بأنَّ الشرق ينبض عرقه
فلو لم يكن حيًّا لما نبض العرق
يُريد ليحيا الشرقُ حرًا كغيره
وأكبر أرزاء الشعوب هو الرِّق
متى أيها الصُّبح الجميلُ تَبِين لي
فيبْيضُّ في ليل الهموم بك الأفق
أتعلم ليلى أنَّ في الحي مُغرمًا
بها لفؤاد بات يحمله خفق
قسمتُ فؤادي بين ليلى وموطني
فهذي لها شقٌّ وهذا له شق
إذا لم يكن سير السياسة راشدًا
فما إن يُفيد العنف فيها ولا الرِّفق
يُحاول ناس خوض دجلة جهدَهم
وتمنعهم منه الزَّوابع والعمق
إذا جئتني ليلًا فدعنيَ راقدًا
وفي الصبح أيقظني متى غنَّت الورق
هو الصبح إي والله قد سلَّ سيفه
وإنَّ إهاب الليل منه سينشق
وإن الذي يسعى لتحرير أمة
يهون عليه النفيُ والسجن والشنق
متى ما اطمأن القلب بالنفع في الحيا
فقد لا يروع الليل والرعد والبرق
إذا رُمت عن دار المَذَلَّة رحلةً
فسِرْ قبل أنْ تنسدَّ في وجهك الطرق
سأرحل عن بغداد يومًا مُخلفًا
بها الشعرَ إنَّ الشعرَ منيَ مشتق
(٦) أيها الملك
وهي القصيدة التي أنشدها في حضرة جلالة الملك «فيصل الأول» في المأدبة التي
أقامتها لجلالته بلدية بغداد على أثر قدومه عاصمة الرشيد.
إنا محيُّوك فاسلم أيها الملكُ
ومصطفُوكَ لعرشٍ شاءه الفَلَكُ
عرش العراق ضمانٌ للعراق وفي
تأييده الشعب والأحلاف تشترك
ما إن أقامك أهلًا في تبوُّئه
إلا الأصالة في الآراء والحنك
الناس من فرح إذ جئت ترأسهم
من بعد ما قد بَكَوْا من يأسهم ضحكوا
قد ارتضاك له فاهنأ بدولته
الله والناس والتوفيق والملك
جاء الرجاء فزُلْ يا يأسُ مُبتعدًا
وأقبلَ النورُ فاذهب أيها الحلك
على ولائك والأيمانُ صَادِقَة
قد اتفقنا بعهدٍ ليس ينبتك
ليس الذي قد رآه الشعب فيك سوى
ما يأمر العقل والآداب والنسك
هو السلام يعم الرَّافدَين غدًا
فلا دمٌ بعد هذا اليوم ينسفك
قد استقرَّ عليك الرأيُ أجمعه
من بعد ما كان ذاك الرأي يرتبك
إذا نوى الشعب إدراكًا لحاجته
فذلك الشعب مضمونٌ له الدرك
الحمد لله أن زال الخلاف وقد
جاء الوِفَاقُ فلا حقدٌ ولا حسك
إنَّ الحكيم إذا ما فتنةٌ نجمت
هو الذي بحبال الصبر يمتسك
لا يرأس الناس في عصر نعيش به
إلا الذي لقلوب الناس يمتلك
جرى ليلحق ناسٌ بابن فاطمة
حتى إذا تعبوا في جريهم بركوا
من هاشم في قريش من ذؤابتها
حيثُ الوشائج والأرحام تشتبك
مشى يشقُّ طَرِيقًا للعُلى جددًا
من بعد ما انسدَّت الأبواب والسكك
لقد تعلمتُ من بحثٍ أواصله
أنَّ الحياة بوجه الأرض معترك
إنَّ اختيارك للتاجِ المدلِّ به
أمرٌ به الناس كل الناس تشترك
الشعب فيه بحبل الله ممتسك
ما خاب شعب بحبل الله ممتسك
للجهل بعد الهدى المبدي أشعته
ستر برغم حُماة الجهل منهتك
يا رب إنك ذو فضل نشاهده
على العباد إذا استبدلته هلكوا
•••
لله يا فيصل ما أنت مُورِّثه
للعُرْب من شرف في شكره اشتركوا
وجدت أفكارك اللائي قد اتسعت
مثل السماء التي في وجهها حبك
في نهضةٍ برجالٍ كنتَ ترأسهم
حينًا لتحرير أوطانٍ بها انسبكوا
تُلقي اعتمادك لاستتمام نهضتهم
على الذين لنهج الحق قد سلكوا
على أناس لصدق القول قد لزموا
على رجال لغلِّ النفس قد تركوا
على الأُلى عرك الأيام أظهرهم
عركًا طويلًا وللأيام قد عركوا
عشْ للرقيِّ فإنَّ الشعب أجمعه
مُذْهَبَّ يفتح عينيه به سدك
(٧) رشحات القلم
لي عندك حق أَنشدُهُ
أتُقرُّ به أم تجحدهُ
الله لمكروبٍ قد أصـ
ـبح مُنجِده لا يُنجِده
النكبة تُنْطِقني شعرًا
إبَّان النكبة أُنشده
هو إرناني في الليل إذا
ما أدجى الليل يردده
البلدة يَهلِك شاعرُها
كالروض يموت مغرِّده
لدموعي وهي مُسارعة
جيش في العُسرة أحشده
لم يبق إليك سوى بابٍ
هل تفتحه أم توصده
بالباب مُحبِّك مُنتظر
أتُقربه أم تبعده
قد جاءك يحمل مسألة
ما ظني أنك تطرده
مِن عادتِه بثُّ الشكوى
والمرء وما يتعوَّده
لك في بغداد أخو شغف
ما بالك لا تتفقَّده
صبٌّ بفراقك ما يشقى
إلا وخيالك يُسعده
يأتيه منك إذا أغفى
طيف والليلة موعده
أترصَّدُه فإذا أوديتُ
فمَنْ بعدي يترصَّده
لِمُعَنِّيني من ناظره
سيف ماضٍ يتقلده
تقف الأنفاس لطلعته
وتكاد الأنفُس تعبده
يمشي المحبوب وينظرني
لا أدري ماذا مقصده
اللحظ يسدِّده نحوي
ما أمضى اللحظ يسدِّده
ابيضَّت عيني من حزن
مُذْ فارق رأسي أسوده
أمَّا شيبي وقد استولى
فبياضٌ ما إن أحمده
يدُ دهري قد لطمت وجهي
تبَّت يده تبَّت يده
قد صادفني في ما عمَّرْ
تُ ألذُّ العيش وأنكده
لو كان البائس مُنتحرًا
بالحقِّ لزال تردده
لم تحوِ حياة المرء سوى
أملٍ يبلى فيجدده
قلت الأيام ستكسوه
وإذا الأيام تُجَرِّده
ولقد آتي فيها عَمَلًا
غيري من بعدي ينقده
ما أدري حين أجيء به
هل أصلحه أم أفسده
ألهو بضعيف من أملي
فأحلُّ الخيطَ وأعقده
أما من كان له مالٌ
فعليه أنا لا أحسده
لا يستهويني لؤلؤُه
بلطافته وزبرجدُه
إني وجلٌ جدًا فأخي
قد طال الليلةَ مرقده
العدل قضى في حسرته
نحبًا ربي يتغمده
إنَّ الإنسان إذا استعلى
يهوي لولا ما يسنده
لله على الأحقاف دم
أُهريق فراعك مشهده
في قلبي جُرح يُؤلمني
هل في بلدي من يضمده
قد هان الماجد ليس له
سيف للذَّبِّ يجرده
تغري الإنسانَ بموطنه
أيامُ صباه ومولدُه
خُلق الإنسان به حرًّا
ما أظلمَ من يستعبده
لي في أمر الأحكام كَلا
مٌ من حذري لا أورده
وهنا وادٍ لا أهبطه
وهنا جبلٌ لا أصعده
ما جاء الأمر كما أرجو
ه وقد تدري ما أقصده
منظور الأمة مُختلف
ولعلَّ الرُّزْءَ يوحده
لي في بغداد ونهضتها
حقٌّ قد ضاع وأَنشده
سيشق الشِّعر عَصَا قوم
ويُقيم الشعبَ ويُقعده
اختر ما هزَّك من شعر
قد قيل فذلك أجوده
•••
هل من يدري إلا ظنًّا
ماذا سيجيء به غده
إني لأرى في الجو سحا
بًا جاء النوء يُلبده
ما مِن نبت يبلى يومًا
إلا والأرض تجدده
الشمس تعود لمبدئها
هذا رأي وأؤكِّده
لا تستحقر صغرًا في النَّجـ
ـمِ فأصغره هو أبعده
العالم بعد مساعيه
يفنى والذِّكر يُخلده
في منطقه وكفايته
شرف الإنسان وسؤدده
لا تغفل ريثك في عمل
إلا ما كنت تمهده
ما يزرعه الإنسان من الـ
أعمال فذلك يَحْصُده
قد يأتي المرءَ بأخبار
من ليس المرءُ يُزوِّده
الواحد أنت به برم
ماذا يجديك تعدده
لا أبني الأمر على خبر
حتى أني أتأكده
نحت الإنسان له صنمًا
وغدا من جهلٍ يعبده
العالم ليس له حد
لكنَّ العجز يحدده
ما هذا الكون ووسعته
ما هذا الدهر وسرمده
ليس الإنسان وإن مارى
حرًّا فيما يتعمَّده
وهي الأيام تُحرِّكه
وتثقفه وتؤوِّده
إني سأزور اليوم أخي
وأخي سيموت فألحده
ما مِن مَلِكٍ في موكبه
إلا والموتُ يهدده
•••
لا يُفني المرءَ سوى نفس
والمرء كذلك يفقده
ولقد يتمنَّى البائسُ أن
لا كان المُوجد يوجده
لله عنائي في بلدي
بغداد وما أتكبده
نفلوا عن نشأتنا أمرًا
ما جاء العقل يؤيده
يدني مني ما أسأله
أملي واليأس يُبعِّده
جمعته الرِّيح لنا مزنًا
وتكاد الريح تُبدِّده
ما من أحدٍ يحوي علمًا
إلا والعلم يُسوِّده
إنَّ الطيار سُليمان
فوددتُ لوَ اني هُدهُده
لا يُئْوي نفسَ الحر سوى
بيتٍ للعِزِّ يُشيده
يتباين عند مزاحمة
عقل الإنسان ومحتده
تغريد الطير على فنن
شعر في المشجر يُنشده
دائي قد أعضل يا نفسي
وظلام الليل يشدده
قد طال الليل فغنيني
«يا ليل الصبُّ متى غده»
(٨) الجهل والعلم
ألا إنَّ ليل الجهل أسودُ دامسُ
وإنَّ نهار العلم أبيضُ شامسُ
تشق حياة ما لها من مدرِّب
وتشقى بلاد ليس فيها مدارس
ومن لم يُحِطْ عِلْمًا بما قد أحاطه
عداه الهدى أو أقلقته الهواجس
تنام بأمنٍ أمةٌ ملءَ جفنها
لها العلم إن لم يسهر السيف حارس
وللعلم أيام هي السعد كله
وأما ليالي الجهل فهي مناحس
وليس كمثل العلم للمال حافظٌ
وليس كمثل الجهل للمال طامس
وإنَّ الذي تعلو به رتبة الفتى
هو العلم فاقصد درسه لا الملابس
ونحن بعصر لم يكن فيه مفلحًا
بأعماله إلا الذي هو دارس
إذا المرء — فاعلم — طال في العلم باعه
تناول ما قد رامه وهو جالس
قضى أن يعيش الناس في الأرض ربُّهم
وذو الجهل مرءوس وذو العلم رائس
ولولا ملاك العلم يهدي فريقه
لأفسد أرضَ القاطنين الأبالس
إذا ما أقام العلمُ راية أمَّةٍ
فليس لها حتى القيامة ناكس
وإن هو لم يسطعْ كبدرٍ سراجُه
فأُقسم أن لا تستضيء المجالس
وأحسنُ شيخٍ للتلاميذ عارف
بما هو في ذهن التلاميذ غارس
ستأتي ثمارًا يانعاتٍ عقولُهم
إذا عولجت بالعلم تلك المغارس
كأنَّ لنا من عادة ساء حكما
ولمَّا يُقبحْها إلى الشعب نابس
إذا خلق الثوب الذي يلبس الفتى
فأخلق بأن يستبدل الثوبَ لابس
•••
إلينا الْتفِتْ يومًا من الدهر وابتسِم
بأوجُهنا يا عِلمُ فالجهل عابس
وما جاء ذكر العلم إلا وأنني
على القلب من وجدٍ بكفيَّ حابس
ألم تَجرِ عفوًا في جوارك دجلةٌ
فقل لي لماذا أنتَ يا حقل يابس
يلوح لعيني حيثُما أنا ناظرٌ
معاهد علم في العراق دوارس
أقمنا إذ الأقوام جمعاء سارعوا
بمنزلة فيها الرءوس نواكس
يهدد بغداد اختناق كأنما
من الجهل قد سُدت عليها المنافس
إذا نحن لا نحمي الكناس بحكمة
فإن ظباء الجهلتين فرائس
فيا قوم عافوا الجهل فهو جريمة
وإن مصير المجرمين المحابس
ويا قوم من شرِّ الجهالات فلْنَخفْ
فهنَّ لنا هن الذئاب النواهس
•••
وما أنسَ لا أنسَ الرَّشيدَ وعهدَه
إذ الأرض بين الرَّافدين فرادس
إذا العِين والآرام يمشين خلفه
وما العين والآرام إلا الأوانس
لقد شقيت تلك البِقَاعُ وأهلها
ولم تبقَ في بغداد تلك النفائس
فما اليوم هاتيك الثغور بواسم
ولا اليوم هاتيك العيون نواعس
وليس على الأيام لي من ملامة
ولكنَّما حظي هو المتقاعس
ألا أيها الشيخ الذي بات عاريًا
تلفَّعْ فإن البرد في الليل قارس
•••
لقد فتح الأهلون مدرسة لهم
سواءٌ بها منهم غنيٌّ وبائس
فيا عينُ بعد اليوم أنتِ قريرة
ويا قلبُ بعد اليوم ما أنت آيس
أمدرسةَ الأهل اطلعي في سمائه
كشمسٍ فمن أنواركِ الشعب قابس
لقد طال ليلي في انتظاركِ فأْذني
بصادق فجرٍ أن تزول الحنادس
فأنتِ من المستنصرية خلفة
وأطلال علم قد عفتها الروامس
وما أن بقومي ما يثبط عزمهم
ولكن لشيطان الغرور وساوس
•••
يريد أُناس فرقة الشعب جهدَهم
فلا عطست باليمن تلك المعاطس
ونحن الأُلى ما فرَّق الدين بيننا
وإن كثرت بعضَ الأوان الدسائس
فعشنا وعاشت من عصورٍ كثيرة
جوامعنا في جنبهن الكنائس
ولا يعدم الإنسان طول حياته
صديقًا يُواسي أو عدوًّا يعاكس
ولكننا عشنا جميعين أعصرًا
كلانا أخو صدقٍ كلانا مؤانس
وإنَّا سَنَحْيا والعمائمُ عندنا
لها حرمةٌ محمودة والقلانس
سنحيا نعم في وحدة عربية
لها العلم نظَّام لها العدل سائس
ونغرس في قلب الشبيبة جرأةً
على الصدق حبًّا أن تطيب الغرائس
تُساعدنا فيما نُحاول دولة
مُعظمة ترعى علاها أشاوس
•••
أقول لشعري أيها الشعر صُلْ وجُلْ
فأنت بميدان الفصاحة فارس
أغاظك أنَّ الجهل في الناس جاهر
يقول وأن العلم في الأُذْن هامس
يمارس شعري اليوم إصلاح أمة
فلله شعري اليوم ماذا يمارس
ستحميك يا شعري فأنذر حكومةٌ
تُجل ربوع العلم وهْي المدارس
حكومة عدلٍ مهَّد الأرضَ حكمها
فلا البَرُّ موتور ولا البحر خانس
وليس لها في المغربين معارض
وليس لها في المشرقين مشاكس
(٩) حسرات
أُرجِّي انصداع الليل والليلُ أسفعُ
وأنتظر الشِّعرى وقلبيَ موجع
فلما بدت من جانب الشرق تلمع
شكوت إلى الشعرى العبور حياتي
فلم تسمع الشعرى العبور شكاتي
•••
شموس بأجواز الفضاء تدورُ
وأرض تجافي الشمس ثم تزور
وأكوام أحياءٍ هناك تمور
أرى حركاتٍ في الطبيعة جمةً
فأي قويٍّ أحدث الحركاتِ
•••
حياة الفتى نورٌ وفي النور همة
لساعٍ وقد تقضي عليه ملمة
وما الموت إلا ظلمة مدلهمة
سينتقل الإنسان قد حان حينه
من النور في يومٍ إلى الظلماتِ
•••
كلفت بليلى وهْي ذات جمال
فلازمتها عمرًا بغير منال
وزايلتها لا حامدًا لزيالي
نأتْ بيَ عن ليلى نوًى لا أريدها
ِفما لي إلى ليلى سوى اللفتات
•••
سأفلتُ من أرض بها أنا موثقُ
وأحظى بصحبي في السماء وألحق
فقد أخذت نفسي من الجسم تزهق
هناك سماء ما تزال تجدُّ لي
منًى، وهنا أرض بها نكباتي
•••
هي النفس أهدتها إلى ذُكاءُ
تُخبِّرني أنَّ السماء عزاء
وأن على الأرض البقاء شقاء
سماءٌ شقائي تحتها وسعادتي
وأرض حياتي فوقها ومماتي
•••
يقول أناس إن عفراء تغضبُ
إذا أبصرت عينًا إليها تُصوَّب
فقلت لهم أنى فلا تتكذبوا
نظرت إلى عفراء عشرين مرة
فما غضبت عفراء من نظراتي
•••
نعمتُ زمانًا قبل هذا التشتتِ
بعفراءَ إذ جادت وعفراءُ سلوتي
فلمَّا مضت عني إلى غير عودةِ
«ظللتُ رِدائي فوق رأسِيَ قاعدًا»
«أعدُّ الحصى ما تنقضي عَبَراتي»
•••
لقد فاتني أن أمنع الركب باذلَا
َإلى الجهد ما ينهاه من أن يُزايلا
ولكنني تاللهِ قد كنت جاهلَا
«تساقط نفسي كلَّ يوم وليلةٍ»
«ٍعلى إثر ما قد فاتها حسرات»
•••
ألا أيها الشعب الكسول المضيعُ
تيقَّظْ إلى كم أنت في الجهل تهجع
وغيِّرْ من العادات ما ليس ينفع
فما القبح في خُلْق امرئ مثل حسنه
ولا سيئات الناس كالحسناتِ
•••
تقدَّمْ وسارعْ فالذي يتأخرُ
يُلاقي هوانًا موتُه منه أيسر
فقد أبطأ الشعب الذي يتعثَّر
وأسرَعَ أقوامٌ وأبطأ غيرهم
ِوإبطاؤهم من كثرة العثرات
(١٠) جميل وبثين
قالها الشاعر يُخاطب زوجه، يوم أصابته المحنة على أثر ما نشره في «المؤيد» عن
المرأة المسلمة.
أبثين إن أدنى العدوُّ حِمامي
بمسدَّس يذكيه أو بحُسامِ
فتجلَّدي عند الرزية واحسبي
أني اجتمعت إليك في الأحلام
والصبر أجدر إن ألمَّت نكبة
بكريمةٍ ينمونها لكرام
أبثين إنْ أودى جميلك خابطًا
بدمٍ له أُهريق فوق رغام
فتدرعي للخطب صبرًا وامسحي
من أدمعٍ فوق الخدود سجام
أنا لستُ أوَّلَ هالكٍ في قومه
يرجو تقدُّمهم مع الأقوام
يأبى لهم هذا الجمود ولا يني
يسعى ليُنقذهم من الأوهام
رُمْتُ الحياة لهم وراموا مقتلي
شتان بين مرامهم ومرامي
ويل ﻟ «عبد الله» جالب نكبتي
ويل له من حاملي الأقلام
أنا لست وحدي إن أمت رهن الثرى
كم من كِرامٍ في التراب نيام
والشمس وهْي أجلُّ جِرم بازغ
مقلوة أنوارها بظلام
عشنا زمانًا في بلهنية الرِّضَا
مُتمتعين بألفة ووئام
فإذا قضيتُ فكل شيءٍ هالك
وإليكِ أُهدي يا بثين سلامي
ولئن أعِشْ فسأنتهي من سقطتي
وأقوم مُنتصبًا على الأقدام
لا تجزعي يا بثن إني واثق
ببراءتي وعواقب الأيام
(١١) خطرات
في الكون بعد عصورٍ
يكون ما لا يكونُ
هناك تصدق مني
فيما يتم الظنون
سيرتقي العلم فوق ارْ
تقائه والفنون
حتى تحار عقول
فيما تراه العيون
وسوف يأتي زمانٌ
تموتُ فيه المنون
تقنو الحياة خلودًا
والمشكلات تهون
وللطبيعة في هـ
ـذه الحياة شئون
•••
إنَّ الصراحة تُغني
ما ليس تُغني الرموز
أخو الحِجا قبل أن يحـ
ـمل الأداة يروز
وعند من هو غرٌّ
يجوز ما لا يجوز
كم جامع لكنوز
يفنى وتبقى الكنوز
وقد تموت فتاة
ولا تموت عجوز
لا تَجبُننَّ فليس الـ
ـجبان شيئًا يحوز
إنا نعيش بعصر
فيه الجسور يفوز
•••
لقد مشيتُ بليل
داجٍ بغير دليلِ
فما بعدت كثيرًا
حتى ضللت سبيلي
من لي بماء براد
به أبلُّ غليلي
طلبت شيئًا قليلًا
فلم أفز بالقليل
وكم صحبت خليلًا
فكان غير خليل
كل الأحبة أعدا
ئي عند خطبٍ جليل
لا خير لي من بلادي
وأسرتي وقبيلي
•••
يا شعر أنت سماءٌ
أطير فيها بفكري
طورًا أسف وطورًا
أعلو كتحليق نسر
إن لم تُصوِّر شعوري
فلستَ يا شعرُ شعري
من بعد موتي بحينٍ
سيعلم القوم قدري
فقد وقفت حياتي
لهم وأفنيت عمري
أودُّ أن تحفروا في
جنب النواسي قبري
إني أمتُّ إليه
وإن تأخر عصري
•••
ليلى أطلِّي على العا
شقين، ليلى أطلِّي
تَرَيْ أعزَّة قوم
مطأطئين بِذُل
تَرَيْ صدورًا من الشو
ق والصبابة تغلي
عِدِي وإن كان وعد الـ
ـحبيب رهنًا بمطل
هل كان يُمكن أن لا
يُحب مثلك مثلي
إني لأجلك يا ليـ
ـلى عفت أرضي وأهلي
فأنتِ منذ حلفنا
ماذا فعلتِ لأجلي
•••
أبيت في الدار وحدي
معاتبًا لخيالك
قد غرني أنه كا
ن باسمًا كمثالك
لا تسألينيَ عما
أصابني بعد ذلك
ما زلت أضمر حبًّا
مناسبًا لجمالك
أبيع كل حياتي
بساعةٍ من وصالك
إني بحُبك يا ليـ
ـلى لا محالة هالك
فهل سأخطر يومًا
إذا هلكتُ ببالك
•••
حسبت أن انتهائي
من الهوى كشروعي
وأن منه نزولي
ميسَّر كطلوعي
لا ترجونَّ سلوًّا
لي بعد هذا الولوع
لقد مشيت حثيثًا
فلا يجوز رجوعي
قد هاج قلبيَ ليلًا
وميض برقٍ لموع
يا برق إنك يا بر
ق عارفٌ بنزوعي
فلابتسامك هذا
علاقة بدموعي
(١٢) نفثات
لقد هاج ليل البين شجوي ولا غروا
إذا هاج ليل البين من مغرم شجوا
إذا طلعت من خدرها الشمس في غد
أطلت إليها من دجى ليلتي الشكوى
يرى الناس ما بي من الهوى من تعاسة
فيرجون لي السلوى وأنَّى ليَ السلوى
سأبكي على تلك المنازل ساعة
فقد مَرَّ لي عهدٌ بِجَانبها حلوا
طغى البحرُ في الليل البهيم لعاصف
وقد كان قبل الريح إذ عصفت رهوا
ولا يعلم الصبُّ المُصارعُ للهوى
أيقوى عليه أم عليه الهوى يقوى
لِيجتنِبِ الإنسانُ أوَّل سكرة
فقد لا يلاقي بعد سكرته صحوا
ومن كان فيه غلة من صبابة
فقد يشربُ الماء القراح ولا يروى
لقد كان قلبي قبل أن يهبط الهوى
قرارة قلبي من عناء الهوى خلوا
وددت لوَ انَّ الحب يقسم مُنصفًا
فيسلبني عضوًا ويترك لي عضوا
أرى سرحة الوادي مع الريح تنثني
فهل سرحة الوادي التي تنثني نشوى
ومنها:
تهضمني دهري فلمَّا ذممته
رماني بسهم في فؤادي وما أشوى
ألا ليت شعري والمنى تتبع المنى
متى يبلغ الإنسان حاجته القصوى
(١٣) إلى أين تقصد
سريتَ تخوض الليلَ والليلُ أسودُ
فيا أيها الساري إلى أين تقصدُ
أراك من الإدلاج تهبط واديًا
وبعد قليلٍ من هبوطك تصعد
لعلَّك لا تدري بأنَّك جائزٌ
شعابًا إليهن السعالي تردَّد
لعلك لا تدري بأنك والجٌ
مخاوف فيهن الرَّدى يتهدَّد
لعلك لا تدري بأنك مُنتهٍ
إلى غابة فيها الكواسر ترصد
أمامك في تلك الثنية هوَّة
تعارض من يمشي إليها فتزرد
تثبَّط مقيمًا في مكانك وانتظر
إلى الصبح إنَّ الصبح قد ليس يبعد
وإلا فعُد من قبل أن تشهد الرَّدى
إلى حيثُ قد غادرت فالعَوْد أحمد
ومنها:
أراك شقيًّا في حياة حييتها
متى أيُّها الإنسانُ قل ليَ تسعد
قسوتَ على الإنسان لما ملكتَه
فهل أيها الإنسان قلبك جامد
وكم مشهد في الأرض يبتعث الأسى
وما كضحايا العلم في الأرض مشهد
ذممتِ من الأيام يا نفس إنها
تَشابه منها الأمسُ واليومُ والغد
ومن شعره:
إن أنجُ يا ليلى فرُبَّ فتًى نجا
من كربة سوداء ذات لزام
أو كانت الأخرى وتلك مظنتي
فعليكِ يا ليلى عليكِ سلامي
إن القلوب إذا غدت
في الحب مترعة الحياضِ
فهناك شيء بالرسا
لة بينها آتٍ وماضي
من ذا يسد على الصبا
إن أسرعت طرق الرياض
كرهت سليمى أن ترى
في لِمَّتي أثر البياض
إني كذلك يا سليمى
عن بياضي غير راضي
لا شيء يفسد حكم قا
نون الجماعة كالتغاضي
وإذا استكانت أمة
فاحكم عليها بانقراض
وإذا الشعوب تخاصمت
يومًا فإن السيف قاضي
وقال من قصيدة:
الأقوياء بكل أرضٍ قد قضَوْا
أن لا يُراعى للضعيف حقوقُ
إن كذبوك يضيرهم تكذيبهم
إياك أعني أيها الصديق
ومنها:
غرِّد بشعر منك في روضِ المنى
روضُ المنى يا عندليب أنيقُ
أحمامة صدحت بأجرد قاحل
هلَّا صدحت عليه وهو وريق
يا روض زهرك قد تغير لونه
لا أنت أنت ولا الشقيق شقيق
لهفي على شعب كبير ماجد
حرموه حكم الذات وهو خليق
(١٤) في خلوة الأجداث
نم بعيدًا في خلوة الأجداث
من رغاء الخطوب والأحداث
نم مليًّا فإن نومك قبلًا
في الحشايا ما كان غير حثاث
نم بها واترك النزاع مثارًا
من جراء الأموال للوراث
أنت في القبر غير منزعجٍ من
صخب فوقه ومن هثهاث
قد تشبثتَ عندما كنت حيًّا
بحبالٍ من المنى أنكاث
عابرًا عرض البحرِ والبحرُ عجَّا
جٌ بأمواجه على الأرماث
من لرب الآمال قال غرورًا
إنَّ تلك الحبالَ غير رثاث
ومنها:
علَّ ما يحثي من ترابٍ علينا
بعض أجدادنا بكف الحاثي
لا سقى الغيث بعد موتي قبري
ما لقبري نفع من الأغياث
ومنها:
اسقني شربة من الماء ترويـ
ـني فإني حران أشكو لهاثي
قد تزوجتها على الحب دنيا
فلماذا طلقتها بالثلاث
ومنها:
إنما الموت خير ما خلفته
لبنيها الآباءُ من ميراث
(١٥) مشهد السماء
أنتِ مما تُبدينه من صفاءِ
يا سماءَ العراق خيرُ سماءِ
انظُريني فقد أَحبَّكِ قلبي
وأحبتك مثله حوبائي
انظُريني إذا العنادل غنت
سحرًا فوق منكب الشجراء
انظُريني ليلًا إذا الشمس غابت
بعيون النجوم في الظلماء
انظُريني إذا الخليقة أخفت
ما لها فوق الأرض من ضوضاء
انظُريني إذا الطبيعة أصغت
في الدياجي إلى خرير الماء
انظُريني إذا الحوادث رامت
هدأة في الصباح أو في المساء
انظُريني إذا الخريف تراءى
آسيًا من أشجاره الجرداء
انظُريني إذا غدا الرَّوض خلوًا
من زهورٍ أو زهرُه من رواء
انظُريني من الفروج خلال السُّـ
ـحْب سرًا بعينكِ الزرقاء
انظُريني إذا نظرتُ بعيني
وهي شكري إليكِ عند البكاء
(١٦) حول العِلم
العلم ثروة أمَّة ويسارُ
والجهل حرمان لها وبوارُ
يا علم قد كانت ربوعك جنَّة
غنَّاء تجري تحتها الأنهار
من بعد ما كانت ربوعك جنَّة
يا علم عمَّ ربوعَك الإقفار
يا علم غيَّرك الزَّمان بصرفه
لا أنت أنت ولا الديار ديار
يا علم يا كُلَّ الهداية للورى
صلى عليك الله والأبرار
بالعلم قد طالت فأدركَت المنى
أيدٍ عن الغرض الرفيع قصار
سيموت رب العلم من مرضٍ به
وتعيش دهرًا بعده الآثار
ومنها:
إن التوقف في زمانٍ حازمٍ
فيهِ تقدَّمت الشعوبُ لَعار
ما كان يفلح في شئون حياته
شعبٌ على خطأٍ له استمرار
من راح يمشي في طريقٍ مستوٍ
أَمِنَ العثارَ فما هناك عثار
أخذت تفضِّل أن تموت عزيزة
بعض النفوس لأنهن كبار
لا توقظنِّي إن هجعت من الكرى
حتى تُغرِّد في الصباح هزار
ومنها:
ألممتُ بالمستنصرية زائرًا
أطلالها والجامعاتُ تزار
دارٌ لَعمري كان فيها مرَّة
أهل وأخرى ما بها ديَّار
ما إن تبالى الدَّهر بعد خرابها
وقفوا عليها ساعةً أم ساروا
ساءلتها مستفهمًا عن أهلها
فوددت لو تتكلم الأحجار
إن الحمى من بعدهم لا ليله
ليل ولا سُمَّاره سُمَّار
أخذ الفتى لمَّا تذكَّر عهده
يبكي فتقرأ دمعَه الأنظار
ومنها:
حاولت أن ألقى الحقيقة جهرة
فإذا الحقيقة دونها أستار
العقل سارٍ تارة ومُؤَوب
والشك ليل واليقين نهار
ما شاهدت عيناي مؤثر غيره
إلا وكان لنفسه الإيثار
لو كان للإنسان رأيٌ صَائِبٌ
لأتت بما قد شاءه الأقدار
يا قوم قد وعر الطريق أمامكم
فإذا عزمتم تسهل الأوعار
ومنها:
إنا بعصر قد أبان رُقِيه
والناس قد غاصوا البحار وطاروا
قد عاتبوني من جهالتهم على
ما قد أتيت كأنني مُختار
ما جئت أستبق الحياة مسارعًا
لو كان لي قبل المجيء خيار
في الروض من قبل الخريف وبرده
ذبلت على أفنانها الأزهار
إن هدَّم العربي حوض جدوده
سخطت عليهِ يعرب ونزار
لا يرفع الوطن العزيز سوى امرئ
حرٍّ على الوطن العزيز يغار
يا حق قد دفنوك حيًّا في الثرى
يوم القضاء «فعادني استعبار»
قد ساءني من بعد دفنك أنني
ما زرت قبرك «والحبيب يزار»
ومن شعره:
لعلَّ الفتى إذ نام في قبره الفتى
وأطبق جفنًا يستريحُ لدى الغمضِ
وما كان تحت الأرض يذكر ميِّت
لياليَه إذ كان يمشي على الأرض
لقد صح أن الضعف ذُلٌّ لأهله
وأن على الأرض القَوِي مسيطر
وأن اقتحام الهول أقصر مسلك
إلى المجد إلا أنه متوعر
قد أظهروا أنهم في كل ما فعلوا
يدافعون عن الأوطان والدين
وفي السياسة للألفاظ مقدرة
ليست على سامعيها للبراهين
قد كنت أرجو في الرءوس جراءة
فإذا الرءوس تلوذ بالأذناب
وجدوا طريقًا للتقدم صالحًا
فمشَوْا به لكن إلى الأعقاب
قد خبرتُ الوجود في كل حال
فوجدتُ الزَّمان في السكنات
قد بدا لي أنَّ الزَّمان سكون
بين ما للأجسام من حركات
ووجدتُ امتداد كل مكين
حاصلًا من مكانه والجهات
ووجدت الكهيربات بأحشا
ء الخلايا مولدات الحياة
أرى الناس فوق الأرض إلا أقلهم
قد اختلفوا سعيًا ورأيًا وإحساسا
ومن قاس هذا الناس فيما يرَوْنه
على نفسه يومًا فما عرف الناسا
ابلُ الرجال بكل أرض أوَّلا
ثم انتخب منهم على استحقاق
عاشر أناسًا بالذكاء تميَّزوا
واختر صديقك من ذوي الأخلاق
(١٧) الحياة والموت
إن الحياة سعادة وشقاءُ
يتعاقبان وضحكة وبكاءُ
في قلت من يحيا على ضيقٍ به
يأسٌ يُخيِّمُ تارة ورجاء
لِلَّيل صبح سوف يُسفر باديًا
بعد الظَّلام وللنَّهار مساء
يخشى الحريص على بقاء حياته
يومًا به يأتي الحياة فناء
لو تمَّ من بعد الخفاء ظهروه
ما غمَّه بعد الظهور خفاء
ومنها:
لا حيَّ إلا والمنون تنوشه
ما للحياة من المنون وقاء
للموت في طلب الحياة على الورى
في كل يومٍ غارةٌ شعواء
ومنها:
وإذا الليالي غيرت سعد امرئ
يخفى الصديق وتظهر الأعداء
ولقد تزول الحرب عن أرضٍ بها
شبَّت وتبقى فوقها الأشلاء
جرت الدُّموع على دماءٍ قد جرت
وجرت على تلك الدموع دماء
تبغي المدافع هدم أيَّة قرية
فلها على شطِّ الفرات رغاء
ورأيت في الصبح الشيوخ جميعهم
يدعون لو نفع الشيوخ دعاء
لقد علمت لوَ انَّ العلم ينفعني
من طول ما جئتُ قبلًا أدرس الناسا
أنَّ الجماعة دون الفرد معرفة
وفوقه بصروف الدهر إحساسا
فكرة السبق قد بنت
كل مجدٍ وسؤددِ
والمساواة قوَّضت
كل مجدٍ مُشيد
(١٨) السيف
رأيت السيف قد ملك الشعوبا
ولم أرَ أنه ملك القلوبا
رأيت له محاسن فائقات
كما أني رأيتُ له عيوبا
متى ما مسَّ حُرَّ الوجه سيف
رأيت مكانه منه خضيبا
وإن له جروحًا مبقيات
إذا الْتأمت بصاحبها ندوبا
وكل حكومة بالسيف تقضي
فإنَّ أمامها يومًا عصيبا
وليس يدوم للأَعلَيْن عزٌّ
وإنَّ لكل طالعة غروبا
إذا رجع الخصوم إلى التقاضي
فإنَّ السيف أكبرهم ذنوبًا
لقد أبدى الردى عن ناجذيه
فكان هناك منظره رهيبا
إذا سافرت عن دنياك يومًا
فما لك بعد ذلك أن تئُوبا
وإذا مرَّت الحياة على شكـ
ـلٍ بسيطٍ فما بها من سرورِ
ليس طول الحياة في عدد الأعـ
ـوام بل في تنوُّعات الشعور
ليس شيء يضر بالناس كالطيـ
ـش إذا دام دافعًا للحياةِ
رُبَّ أخلاقٍ أُحرِزت في عصور
فأُضيعتْ بالطيش في سنوات
لا يفوق الإنسانُ في كونه الحيـ
ـوانَ إلا بالعقل والأخلاقِ
أثبت العلم باكتشافاته للنَّـ
ـاس أنَّ الإنسان قرد راقي
كان يهوى ليلى ابنُ عمٍّ لليلى
فابتغاها من أهلها كخطيب
ولقد أخبروه من بعد حين
أن ليلى قد زُوِّجت بغريب
لقد شخصتْ نحو السماء من الأسى
عيونٌ بوجه الأرض ما إن رأت عدلا
وما زفرات الحزن إلا رسائلٌ
مِنَ الملأ الأدنى إلى الملأ الأعلى