معروف الرصافي
ألمع جوهرةٍ في تاج الأدب العصري، مُحيي الشعر الحزين بقريضه الممتاز، لو درس من العلوم
الحديثة بقدر ما أوتي من الشاعرية، لما رأينا الشعر العربي على ما هو عليه الآن، وإن
رجع إليه الفضل في إيصال شعرنا العصري إلى مرتبته الرفيعة الحاضرة.
وعندي أن أفضل ما يُنعت به الأستاذ الرصافي «الشاعر»، لولا أنَّ هذه الكلمة قد
ابتذلتها الألسنة والأقلام، فألصقتها بكل من جمع اللفظة إلى أختها وربطها بوزنٍ وقافية،
فلنُسمِّه «الشاعر العبقري»، ولا إخال أن في السويداء رجلًا ينازعه هذا اللقب بحق، وإن
نازعه إياه كثير منهم بالباطل.
عرفت هذا النابغة بشعره قبل أن عرفته بشخصه، فكنتُ أتخيله فتًى نحيفًا خفيف الحركة
كثير الكلام، حتى أسعدني الحظ بلقياه ومرافقته زمنًا، فرأيتُ فيه البطل في هيكله
ومهابته، كما عهدته خنذيذًا بين الشعراء.
يُحب الصراحة في الفكر والقول، والحرية في العمل، أبيٌّ مِقدام لا يعرف التساهل في
مواقف الإباء، ولا يستخذي لضيم أو يستنيم لحادثة، ثابت في مبدئه، ترى الانقباض باديًا
على محياه شارة شممه وعزة نفسه.
هو أوَّل شاعرٍ جاء قومه العرب بما يُحبون، وصارحهم بما لا يُحبون، لم يعرف للتقليد
أو
الخضوع للبيئة معنًى، لا في صناعته ولا أفكاره، كان من شعره صيحاتٌ عملتْ على تقويض معالم
الاستبداد الحميدي، كما أنَّه ما لبث بعد تحية الدستور العثماني واستبشاره به أن رجع
يُنعِي على القوم تخاذلهم لما شام فيهم الرجعية.
أُقدس فيه صفة لو اتَّصف بها شعراء الشرق كلهم لما عجزوا عن أن يُرجعوا إلى مطلع الشمس
روعته وإشراقه، وهو أنه يُحس ويشعر فيقول الشعر؛ لذلك تجيء أبياته وقصائده موجعة نظرًا
إلى الحقيقة التي فيها.
هذا وإن ما طُبع ونُشِر مِن نَظم الأستاذ الرصافي لا يدل على منزلته الفكرية، بل إنَّ
له قصائدَ ومقطوعاتٍ لم تُطبع وتُذَع بعد، سيكون نصيبها الخلود في أدب الضاد لما حوته
من
المصارحة بالحقائق الاجتماعية المُرَّة، مما لم يتعوده الشعر العربي قبله.
وقد رأيته في مواقف عديدة يترجم عن شعور أمته، ويَنظم لها في وصف حالتها شعرًا تتخاطفه
الأسماع والخواطر، وتتناقله الألسنة فتتحدث به المجالس وتصفق لتلاوته، مع أنَّ ما فيه
يُدمي القلوب ويستنزف العَبَرات.
يَنظم الأبيات في خلوته، ثم لا تلبثُ أن تراها ذائعة في البلد بعد يومٍ أو يومين،
وهو الشاعر العربي الوحيد الذي يتناقل قومُه منظوماتِه ويتناسخونها قبل الطبع.
وإذا رأينا بعض الوزانين يتكلفون القول تكلفًا، لم نرَ كمعروف يترجم بشعره عما طُبع
عليه من شيم، ولا سالت نفس شاعرٍ بما سالت به نفس الرصافي الرقيقة الحساسة، على أسَلات
الألسنة التي تنشد أبياته.
امتاز الأستاذ الرصافي بثلاث خصالٍ رفعته إلى هذا المقام:
أولاها: «شعره الحزين»؛ فهو الذي أحيا «التراجيديا» في أدبنا الحديث بهذا
الشكل الرائع، وقد ساعده على الإبداع في المسلك حنانه المتناهي، ورقة
عاطفته، تلك العاطفة المجسمة التي لا تعرف لها مستقرًّا غير أبيات هذا
الشاعر العبقري.
والخصلة الثانية: «نظمه الاجتماعي»؛ فقد عرفناه مفكرًا نشيطًا يدرس حياة المجتمع
فيُدرك نقائصه، ويَحبس نبضه، فيُشير إلى مواطن النقص والوهن في
مُجتمعه، مشنِّعًا بالسيئات ما شاء تفننه، واصفًا للداء أنجع دواء؛ فهو
الشاعر المُصلح الذي يعمل بقصائده عمل الفيلسوف الاجتماعي في مقالاته
وكتبه، ولقد أجمعت الصحافة العربية يوم اطَّلعت على ديوانه الأول على
أنَّ «ابن الرصافة» مبتكر طريقة النظم الاجتماعي، وفارس الميدان فيه.
أما الخصلة الثالثة التي تفضل قريضه كله فهي: «شعره القصصي أو الروائي»؛ فقد سبق شاعرنا
في هذا الباب صاغة
القوافي من مُعاصريه كلهم، وانفرد بينهم بهذا الأسلوب الفتان، وما حواه
من الوصف الدقيق، والتعبير الرَّقيق، وبراعة الدِّيباجة، واستفزاز
الشعور، وتحريك العواطف، إلى غيرها من صفات الأدب السامي، ولا يدرك
معنى هذا القول إلا من قرأ «أم اليتيم» و«اليتيم في العيد» و«المطلقة»،
وأمثالها من بدائعه.
ونختم كلمتنا عن المعروف بقول رجلين فيه من فضلاء الرجال، أولهما عالم وأديب كبير
هو
المرحوم محيي الدين الخياط، قال:
«لو كان أسلوب الرصافي كلفظه، وشعره كله كوصفه، لما علا عليه شاعر في هذا
العصر.»
والثاني هو إبراهيم سليم نجار صاحب جريدة «لسان العرب» المقدسية، أعرَف صحافي في
الشئون العربية، قال في جريدته:
ولقد بنى لنا الرصافي صروحًا من المجد بأبياته الخالدات، وآياته البينات، فكم
له من نفثات دونهن السحر، وكم له من وقفات ووثبات عاد على قضيتنا منها بجميل
الأثر وطيب الذكر.
وُلد معروف الرصافي في بغداد سنة ١٢٩٢ هجرية، في أسرة مُتوسطة الحال، أمَّا أبوه فمن
عشيرة كردية تقطن في نواحي كركوك تُسمَّى الجبارة، وتدَّعي هذه العشيرة أنها علوية النسب،
ويُسلم لها جميع أهالي كردستان بذلك، فإن صح ادعاؤها فهي عربية الأصل، وأمَّا أمه فمن
عشيرة القراغول، وهم بطن من شمر القاطنين في سهول العراق.
درس المترجم مبادئ العلوم الابتدائية في كتاتيب بغداد ثم دخل المدرسة الرشدية
العسكرية، وكانت هذه المدرسة الوحيدة يومذاك في مدينة السلام، فمكث فيها ثلاث سنوات
ارتقى إلى الصف الثالث، وفي السنة الرابعة لم ينجح في امتحان الصف الرابع، فحمله ذلك
على ترك المدرسة المذكورة، وأخذ بعد ذلك يختلف إلى المدارس العلمية في بغداد طلبًا
للعلم؛ فدرس العلوم العربية وغيرها من سائر العلوم الإسلامية عند العلامة محمود شكري
الآلوسي الشهير،
١ وغيره من علماء بغداد، غير أنَّ تردده إلى الأستاذ المشار إليه كان أكثر؛
فقد لازم الدرس عنده زهاء اثنتي عشرة سنة، صار في أثنائها مُعلمًا في بعض المدارس
الابتدائية الرسمية في مدينة المنصور، ليستعين في حياته المادية — بما يتقاضى من
الرَّاتب الزهيد فيها — على مواصلة طلب العلم، ثم فرغت وظيفة التدريس في قضاء مندلي من
أعمال بغداد، فوضعتها الحكومة في المسابقة بالامتحان، وكان طالبو هذه الوظيفة أحد عشر
رجلًا، بينهم الأستاذ الرصافي، الذي كان الفوز عليهم نصيبَه في الامتحان، فعُين مدرسًا
للقضاء المذكور، غير أنه قبل استلامه زمام وظيفته رغَّب إليه مدير المعارف في بغداد
بإيعازٍ من واليها نامق باشا أن يتنازل عن التدريس في القضاء المذكور على أن يعتاض عنه
بتدريس آداب اللغة العربية في المدرسة الإعدادية الرسمية في بغداد براتب لا يقل عن راتب
التدريس في القضاء المذكور، فقَبِلَ ذلك وظل في عاصمة العراق يُدرِّس العربية في
المدرسة المذكورة إلى إعلان الدستور العثماني.
وقد أخذ الأستاذ الشاعر من أوَّل نشأته يحفظ الشعر ويعالج النظم، وهو مَطبوع عليه،
حتى أحرزت قصائده استحسانًا عظيمًا في أندية الأدب هنا وهناك، وتفاءل قُراء شعره بنبوغه
في الفن، وأمَّلوا له مُستقبلًا كبيرًا في هذا الميدان، وكان ينظم القصائد الحماسية
والاجتماعية، ويكشف بها سوءات الحكم، وسيف الاستبداد الحميدي مُصْلَت فوق الرِّقاب، وهو
يبعثُ بقصائده هذه إلى مصر، وتُطبع هناك، وتعمل تأثيرها بانتشارها في الصحف والمجلات،
وبالخاصة في مجلة المقتبس وجريدة المؤيد؛ مما أكسب صاحبها ذكرًا نابهًا في العالم العربي
كله.
وقد قام يتغنَّى بالحرية جهارًا بعد أن كان تَغنِّيه بها في الخفاء عُقيب أن أفاض
الدستور على بلاد السلطنة العثمانية أنواره، وشرع يُنشد قصائده الأبكار في الحفلات
الكبرى، ويُلقي الخطب الحسان في نهضة الأمة، وحثها على التقدُّم والفلاح.
وفي هذه الأثناء طلب صاحب جريدة «إقدام» التركية الشهيرة إلى المترجم السفر إلى فروق
للتحرير في جريدة عربية راقية باسم «الإقدام» تكون بجانب «إقدام» التركية، لكن المشار
إليه عدل عن فكرة إصدار الجريدة العربية بعد أن وصل الأستاذ الرصافي القسطنطينية؛ فبقي
هناك بضعة أشهر شهد في خلالها واقعة «٣١ مارت» الشهيرة، وذهب في هذه الأثناء إلى سلانيك
للنزهة، وبقي فيها شهرًا، ثم قفل راجعًا إلى إستانبول، وعاد منها إلى محطة بغداد، وفي
رجوعه أحوجته الدراهم لنفقات السفر وهو في بيروت؛ فابتاع محمد جمال صاحب المكتبة
الأهلية فيها مجموعة قصائده، التي جمعها العالم الفاضل المرحوم محيي الدين الخياط في
ديوان أصدرته المكتبة المذكورة باسم «ديوان الرصافي»، كان له حجة كبرى في عالم الأدب،
وكتبت عنه الصحف والمجلات وكبار الأدباء الفصول الضافية، نخص منها بالذِّكر مقالة
بديعة في «الشعر العربي والرصافي»، للأديب الكبير الأستاذ عبد القادر المغربي، ومقالة
ثانية ممتعة كتبها البحاثة المفضال الأب لويس شيخو اليسوعي، في مجلة «المشرق»
البيروتية، إلى غيرهما مما أثبت في الجزء الثاني من ديوانه.
وبعد أن عاد الأستاذ الشاعر إلى بغداد بشهر، وردته برقية من أصحابه في الآستانة، تنبئُ
بتعيينه مُدرسًا للغة العربية في المدرسة الملكية العالية، والتحرير في جريدة عربية
باسم «سبيل الرشاد»، تَصدر هناك لمديرها المسئول عبيد الله مبعوث آيدين، فوصل إلى دار
الخلافة، واستلم وظيفته وظل يُحرِّر في تلك الجريدة نحو سنة، وكان يُدرِّس كذلك الآداب
العربية في مدرسة الواعظين التابعة لوزارة الأوقاف، وقد طُبعت مُحاضرات المترجم التي
ألقاها في هذه المدرسة عن الخطابة عند العرب في كتابٍ صدر في فروق بعنوان: «نفح الطيب
في
الخطابة والخطيب»، كما أنَّ مجلة «المنتدى الأدبي» نشرت شيئًا من محاضراته في الأدب
والشعر.
وانتُخب أخيرًا مبعوثًا عن المنتفق في المجلس النيابي العثماني، حتى جاءت الحرب
العُظمى، وقد تزوَّج في الآستانة، ولم يعِشْ له ولد، وأتقن مدة إقامته في العاصمة
العُثمانية اللغة التركية التي تعلم مبادئها في مسقط رأسه، ورجع الأستاذ الرصافي بعد
الهدنة إلى الشام، في عهد حكومتها العربية، فلم تُسنِد إليه منصبًا يليق بمقامه العلمي
والأدبي، لِما عُرف به من الإباء والترفُّع عن التذلل لمن بأيديهم الحَل والعَقد، وبعد
أن
قَضَى هذا الأديب الكبير في دمشق مُدَّةً عَانى فيها ألم الحاجة، في حين كانت السلطة
هناك تفرق على أعوانها الذهب الإبريز من غير حساب، استُدعي من القدس الشريف لتعليم
الآداب العربية في دار المعلمين فيها، بإشارة أحد أصحابه الفُضلاء هناك؛ فغادر الشام
إلى أورشليم، وعاش في منصبه الجديد عيشة رضية.
وقد أقامت له الكلية الإنكليزية حفلة تكريمية شائقة اشترك فيها كبار أدباء فلسطين
كلهم، وأطنبت الجرائد في وصفها إطنابًا دلَّ على تقدير القوم لنابغنا، وبعد أن تألفت
الحكومة الوطنية المؤقتة في العراق سنة ١٩٢١، طُلب إلى الأستاذ الرصافي أن يقدم إلى
موطنه العراق لحاجة البلاد إلى رجالها المفكرين؛ فغادر القدس مشيَّعًا بتكريم واحترام،
وقد عُين بعد قدومه إلى العراق نائبًا لرئيس لجنة الترجمة والتعريب في وزارة المعارف،
وهو المنصب الذي يشغله حتى كتابة هذه السطور.
•••
اشتغل الشاعر الكبير بمؤلفاتٍ عدةٍ ثمينةٍ حسبما تيسَّر له من أوقات الفراغ، واجتمع
لديه
من أشعاره الرَّاقية مجموعة كبيرة طُبِع قسم منها في ديوانه الأول، وما تبقى أُودع ديوانه
الثاني غير المطبوع، وها نحن ذاكرون مؤلفاته مبتدئين بالدواوين:
- (١)
ديوان الرصافي (الجزء الأول): يحوي نُخبة ما نظمه الأستاذ الرصافي من أول عهده بقرض الشعر
حتى
سنة ١٩١٠، وقد طُبع في بيروت سنة ١٩١٠، ولقي رواجًا عظيمًا بحيثُ كادت
أن تنفد نسخه في مدة قصيرة، وهو في أبواب متنوعة يغلب عليها الاجتماع
والوصف والقصص.
- (٢)
ديوان الرصافي (الجزء الثاني): يتضمن ما نظمه شاعرنا العبقري من عهد طبع ديوانه إلى هذا
اليوم،
ويغلب على منظومات هذا الديوان المواضيع السياسية والاجتماعية.
وللأستاذ غير هذين الديوانين مجموعة من القصائد والمقطعات التي لم تُنشر
لما فيها من الحقائق التي يؤلم القومَ إعلانُها.
- (٣)
رواية الرؤيا: ترجم الرصافي هذه الرواية عن نامق كمال الشاعر التركي الشهير، وهي
أوَّل أثر نثري له، وطُبعت في بغداد سنة ١٩٠٩.
- (٤)
دفع الهجنة في ارتضاخ اللكنة: طُبع في الآستانة سنة ١٣٣١، وضمنه ذكر الكلمات العربية
المستعلمة في
اللسان التركي.
- (٥)
نفح الطيب في الخطابة والخطيب: مجموعة محاضراته التي ألقاها على طلبة مدرسة الواعظين
في
القسطنطينية، بموضوع الخطابة والخطباء عند العرب قديمًا وحديثًا، طُبع
في أول سنة ١٩١٥.
- (٦)
الأناشيد المدرسية: وضع المترجم طائفة من الأناشيد الوطنية والأدبية التي يتغنَّى بها
طلبة
المدارس، جمعها خليل طوطح مدير دار المعلمين في القدس، وضبط أنغامها
بالنوتة الإفرنجية، وطبعها هناك سنة ١٩٢٠.
- (٧)
محاضرات الأدب العربي (جزءان): ألقى الأستاذ الرصافي صيف ١٩٢١ محاضراتٍ نفيسةً في الأدب
العربي
وتاريخه على معلمي المدارس في بغداد، فجمع مؤلف هذا الكتاب هذه
المحاضرات، وطبعها في بغداد سنة ١٩٢٢، وقد جمع كذلك مجموعة محاضراته في
السنة التالية في هذا، وستُطبع قريبًا في جزء ثانٍ.
- (٨)
كتاب الآلة والأداة: هو كتاب ممتع وضعه صاحب الترجمة في أسماء الآلات والأدوات التي
يستعملها الإنسان، وقد أودعه طائفة كبرى من الألفاظ الحديثة، وقدم عليه
مُقدمة نفيسة في التعريب والاشتقاق، أثبت فيها رأيه الخاص في هذا الباب
(جاهز للطبع).
- (٩)
دفع المراق في لغة العامة من أهل العراق: ضمَّنه بحثًا مستفيضًا عن اللغة العامية بالعراق،
وقواعدها، وآدابها،
وأمثالها … إلخ، وهو أطول ما كتب في هذا الباب، ولا يزال
مخطوطًا.
هذه مؤلفاته، وهو يروم وضع كتاب خطير في وصف حالة المسلمين اليوم.
•••
وفيما يلي نبذة من شعره:
نحن والماضي
عهدتك شاعرَ العرب المجيدا
فما لك لا تطارحنا النشيدا
فنحن إليك بالأسماع نُصغي
فهل لك أن تُفيد فتستفيدا
بشعرٍ لا تزال تنوط منه
بجيد بدائع الدنيا عقودا
إذا أنشدْتَه الحسناءَ تاهت
كأنْ قلَّدْتَها درًّا فريدا
وأنت إذا قرعت به عبيدًا
رددت إلى الحرار به العبيدا
ولو تستنهض الجبناء يومًا
به لتقحَّموا الهيجا أُسودا
ولو كرَّرته للقوم أَلفًا
لأقسم سامعون بأن تُعيدا
وكم تهتزُّ أعطاف المعالي
إذا ما قلتَ قافية شرودا
فلو أنشدتَنا في الفخر شعرًا
تَذكَّرنا به العهد البعيدا
تذكرنا الأوائل كيف سادوا
وكيف تبوعوا الشرف المديدا
•••
فقلت له وقد أبدى ارتياحًا
إليَّ إذ ارتجلتُ له القصيدا
أجلْ، إن القبائل من معد
علَوْا فتسنَّموا المجد المجيدا
وإن لهاشم في الدَّهر مجدًا
بناه لها الذي هشم الثريدا
ومذ قام «ابن عبد الله» فيهم
أقام لكل مكرُمة عمودا
وأنهضهم إلى الشرف المُعلَّى
وكانوا عنه قبلئذٍ قعودا
فأصبح واريًا زند المعالي
وقبلًا كان مقدمه صلودا
فهم فتحوا البلاد ودوَّخوها
وقادوا في معاركها الجنودا
وهم كانوا أشدَّ الناس بأسًا
وأمنعَ جانبًا وأعمَّ جودا
وأرجحَهم لدى الجُلَّى حلومًا
وأصلبَهم لدى الغمرات عودا
ولكن أيها العربي إني
أراك لغير ما يُجدي مُريدا
وما يجدي افتخارك بالأوالي
إذا لم تفتخر فخرًا جديدا
•••
أرى مستقبل الأيام أَولى
بمطمح من يُحاول أن يسودا
فما بلغ المقاصدَ غيرُ ساعٍ
يُرَدِّد في غدٍ نظرًا سديدا
فوجِّهْ وجهَ عزمك نحو آتٍ
ولا تلفت إلى الماضين جيدا
وهل إن كان حاضرنا شقيًّا
نسودُ بكون ماضينا سعيدا؟
تقدم أيها العربي شوطًا
فإنَّ أمامك العيشَ الرغيدا
وأسِّس من بنائك كل مجدٍ
طريف واترك المجد التليدا
فشرُّ العالمين ذوو خمولٍ
إذا فاخرتهم ذكروا الجدودا
وخير الناس ذو حسب قديم
أقام لنفسه حسبًا جديدًا
تراه إذا ادَّعى في الناس فخرًا
تقيم له مكارمه الشهودا
فدعني والفخار بمجد قومٍ
مضى الزَّمن القديم بهم حميدا
قد ابتسمت وجوه الدَّهر بيضًا
لهم ورأيننا فعبسن سودا
وقد عهدوا لنا بتراث ملك
أضعنا في رعايته العهودا
وعاشوا سادةً في كل أرضٍ
وعشنا في مواطننا عبيدا
إذا ما الجهل خيَّم في بلادٍ
رأيت أُسودها مُسخت قرودا
المرأة في الشرق
ألا ما لأهل الشرق في بُرَحاءِ
يعيشون في ذلٍّ به وشقاءِ
لقد حكَّموا العادات حتى غدت لهم
بمنزلة الأقياد للأسراء
إذا تختبرْهم في الحياة تجدْ لهم
حياة تخطَّت خطة السعداء
وما ذاك إلا أنهم في أمورهم
أبَوْا أن يسيروا سيرة العقلاء
لقد غمَّطوا حق النِّساء فشدَّدوا
عليهن في حبس وطول ثواء
وقد ألزموهنَّ الحجاب وأنكروا
عليهن إلا خرجة بغطاء
أضاقوا عليهن الفضاء كأنهم
يغارون من نور به وهواء
قد انتبذوا عنهن في العيش جانبًا
فما هنَّ في أمر من الخُلطاء
وقد زعموا أن لسن يصلحن في الدنا
لغير قرار في البيوت وباء
فما هنَّ إلا متعة من متاعهم
وإن صِنَّ عن بيعٍ لهم وشراء
أهانوا بهن الأمهات فأصبحوا
بما فعلوا من ألْأَم اللُّؤَماء
ولو أنهم أبقَوْا لهنَّ كرامة
لكانوا بما أبقَوْا من الكرماء
ألم ترَهُم أمسَوْا عبيدًا لأنهم
على الذُّل شبُّوا في حجور إماء
وهان عليهم حين هانت نساؤهم
تحمُّلُ جور الساسة الغرباء
فيا قوم إن شئتم بقاءً فنازعوا
سواكم من الأقوام حبل بقاء
أيسعد محياكم بغير نسائكم
وهل سعدت أرض بغير سماء
وما العار أن تبدو الفتاة بمسرح
تُمثِّل حالَي عزةٍ وإباء
ولكن عارًا إن تزيَّا رجالكم
على مسرح التمثيل زيَّ نساء
•••
أقول لأهل الشرق قول مؤنِّب
وإن كان قولي مسخط السفهاء
ألا إنَّ داء الشرق من كبرائه
فبُعدًا لهم في الشرق من كبراء
وأقبَح جهلٍ من بني الشرق أنهم
يُسمُّون أهل الجهل بالعلماء
وأكبر مظلوم هو العلم عندهم
فقد يدَّعيه أجهل الجهلاء
لو اقتصَّ رب العلم للعلم منهمُ
لصبَّ عليهم منه سوط بلاء
ولَاستأصل الموت الوحيُّ نفوسهم
ونادى عليهم مؤذنًا بفناء
ولكنَّ حلم الله أبقى عليهم
فعاشوا ولو في ذلةٍ وشقاء
لقد مزَّقوا أحكام كل ديانة
وخاطوا لهم منها ثياب رياء
وما جعلوا الأديان إلَّا ذريعة
إلى كل شغْبٍ بينهم وعداء
فما علماء الجهل إلَّا مساقم
رمت جهلاء العلم بالقُوَباء
•••
ألا يا شباب القوم إني إلى العلى
لَداعٍ فهل مَن يستجيب دعائي
أما آن للأوطان أن تنهضوا بها
لإدراك مجد وابتغاء علاء
فقد بُحَّ صوتي واستشاطت جوانحي
وقلَّ اصطباري واستطال بكائي
على أنَّ لي فيكم رجاءً وإن يكن
من اليأس مسدودًا طريقُ رجائي
وما أنا في وادي الخيال بِهائمٍ
وإن كنت معدودًا من الشعراء
أنا والشعر
أرى الشعر أحيانًا يجيش بخاطري
ويبذل ما قد عزَّ لي من مصونهِ
ويسكن أحيانًا فأُشجى وإنَّما
تحرُّكُ شجوي ناشئٌ من سكونه
وقد أتوَخَّى الهزل منه مُجاريًا
لدهر أراه مُوغلًا في مجونه
ولكنَّ نفسي وهْي نفس حزينة
تميل إلى المشجي لها من حزينه
وقد علم الراوون شعري بأنَّهم
إذا أنشدوه أُطربوا بلحونه
وإني إذا استنبطته من قريحتي
شفيت صدى الرَّاوي ببرد مَعينه
وإني على علمٍ طويت سهوله
ولم أتخيَّر خابطًا في حزونه
وإني لمحَّاصٌ له بسليقة
أبت غثَّه واستوثقت من سمينه
وهل يخطر الشعر الرَّكيك بخاطري
إذا كان في طوعي اختشاب متينه
ألا لا اهتدت بالشعر يومًا هواجسي
إذا هي لم تنزع إلى مستبينه
ولا غصتُ في بحر القريض مخاطرًا
إذا لم أفزْ من دُرِّه بثمينه
على أنَّ لي طبعًا لبيقًا بوشيه
نزوعًا إلى أبكاره دون عُونه
إذا انتظمت أبياته في قصائدي
ترى كل بيت مُمْسِكا بقرينه
وما كان روح الشعر يومًا لتُجتنى
بغير اليد الطولى ثمارُ غصونه
ولم يستقد إلا لذي ألمعيَّة
يكونُ كرأي العين رجم ظنونه
وإنيَ قد مارسته بفطانة
يلوح سناها غرَّة في جبينه
لعمرك إنَّ الشعر صمصام حكمةٍ
وإنَّ النهى معدودة من قيونه
إذا جنَّنِي ليل الشكوك سللته
عليه ففرَّاه بفجر يقينه
وما الشعر إلَّا مؤنسي عند وحشتي
ومسلي فؤادي عند وري شجونه
تقوم مقام الدمع لي نفثاته
إذا الدَّهر أبكاني بريبِ منونه
وأجعله للكون مرآة عبرة
فيظهر لي فيها خيال شئونه
فأبصر أسرار الزَّمان التي انطوت
بما دار في الأحقاب من منجنونه
وللشعر عين لو نظرت بنورها
إلى الغيب لاستشففت ما في بطونه
وأُذْنٌ لو استصغيتها نحو كاتم
سمعت بها منه حديث قرونه
وليل إلى شِعراه أرسلت فكرتي
رسولًا بشعري حاملًا لرقينهِ
سل الليل عني نسره وسماكه
ونجمَ سهاه والجُدَيِّ خدينه
فكم بتُّ في نهر المجرَّة في الدجى
من الشعر أُجري منشآت سفينه
هو الشعر لا أعتاض عنهُ بغيره
ولا عن قوافيه ولا عن فنونه
ولو سلبتنيه الحوادثُ في الدُّنا
لما عشتُ أو ما رُمْتُ عيشًا بدونه
إذا كان من معنى الشعور اشتقاقه
فما بعده للمرءِ غير جنونه
بعد براح الشام
قد صح عزمك والزمان مريضُ
حتام تذهب في المنى وتئيضُ
ما بال همك في الفؤاد كأنه
عظم يقلقل في هواك مهيض
كم بت مُعتلج الهموم بليلة
ما للظلام لفجرها تقويض
طنت بمسمعك الهواجس في الدُّجى
فنفت كراك كما يطنُّ بعوض
تنبو جنوبك عن فراش ناعم
فكأنَّ قلبك بالهموم رضيض
كبُرت لنفسك في الحياة لبانة
ضَاقت سموات بها وأروض
ما زلت تقتحم المهالك دونها
فالهول تركب والصعاب تروض
لله أنت فأي هول تمتطي
أم أي ملتطم الخطوب تخوض
•••
ولَرُبَّ قافية كمؤتلق السنى
يجلو الشكوك يقينها الممحوض
صرَّحت في إنشادها بحقيقة
فات الأنام بمثلها التعريض
ولقد أجرَّنيَ القريض عنانه
ونجا بيَ المضمار وهو مروض
وأتى المدى يوم السباق مُجليًا
يجري سبوح خلفه وركوض
قد كنت أنبط للقريض قريحة
بمفاخر العرب الكرام تفيض
ولَكَم وقفت من السياسة موقفًا
أنا من جواه على النوى معروض
مُستنهضًا من ولد يعرب للعلى
هممًا تخوِّنها ونًى وربوض
أيام لم ينطق بذلك شاعر
قبلي ولم يُنشَد هناك قريض
حتى إذا دار الزَّمان مداره
خاب القريض وعاد وهو جريض
وغدا يُنازعني الحرورة شاعرٌ
مَا كان حرًّا شعره المقروض
ويبزني ثوب الأمانة خائن
كأبي براقش طبعه المرفوض
كم مدعٍ دعواي في وطنية
أنا كنت أبنيها وكان يقوض
من كل عبد في السياسة باعه
وشراه هذا الدرهم المقبوض
تعس المخاصم إنَّ لي لقصائدًا
طرْف المعاند دونهن غضيض
فإذا ادَّعيت فهنَّ في دعواي لي
حجج دوامغ ما لهن دحوض
وسل اليَراع يُجبك عني ناطقًا
بمقال صدقٍ ليس فيه غموض
•••
لما تَكرَّهَني الأراذل سرَّني
أني إليهم يا أُميم بغيض
ولقد برئت إلى الوفاء من امرئ
عهْد الصداقة عنده منقوض
وجزيت كل صنيعة بمثالها
إن الصنائع في الرجال قروض
لا تطلبَنَّ مِنَ الزَّمان حقيقة
ما للحقيقة في الزمان وميض
وإذا مخضت من الليالي صرفها
أبدى العجائب صرفها الممخوض
وحوادث الأيام مثل نسائها
في الحكم تطهر تارة وتحيض
ولربما أنتجن كل كريمة
سوداء تقنأ في وغاها البيض
قد ساء مُنقلب البلاد بأهلها
فانحطَّ أوجٌ واشمخرَّ حضيض
ذهب الحياء فكم رأينا صاغرًا
قد جاء وهو لمذرويه نفوض
وقح تعامى عن مدانس عرضه
فزهاه عجبًا ثوبه المرحوض
غلب الشقاء على الأنام فخيرهم
دث وقطر شرورهم إغريض
كيف السعادة في الحياة وللورى
في قوس كل ضغينة تنبيض
أم كيف تبتدع المعاليَ أمة
في العلم قلَّ نصيبها المقروض
لن تعدم الدنيا الشقاء بأهلها
ما دام مُلكٌ في البلاد عضوض
ويح الذكاء فقد تأخَّر أهله
حتى تقدَّم مَن قفاه عريض
أخرى البلاد مفاسدًا بلدٌ به
مُقِت الأديب وأُكْرِم العرِّيض
وإذا الفتى قعدت به أفعاله
أعياه بالنسب الرفيع نهوض
والمرء إن عدمت سجيته العُلى
لم يبتعثه إلى العلى تحريض
بعض الناس …
هم يعدون بالمئات ذكورًا
وإناثًا لهم قصور مشاله
ولهم أعبدٌ بها وإماء
ونعيم ورفعة وجلاله
تركوا السعيَ والتكسب في الدنـ
ـيا وعاشوا على الرَّعية عاله
يتجلَّى النعيم فيهم فتبكي
أعين السعي من نعيم البطاله
يأكلون اللباب من كدِّ قوم
أعوزتهم سخينة من نخاله
فكأن الأنام يشقَوْن كدًّا
كي تنال النعيم تلك السلاله
وكأنَّ الإله قد خلق النا
س لمحيا آل السلاطين آله
نعموا في غضارة الملك عيشًا
وحملنا من دونهم أثقاله
فإذا ما طال العدوُّ خرجنا
دونهم للوغى نرد صياله
وإذا هم جرُّوا الجرائر يومًا
فعلينا تكون فيها الحمالة
وإذا ما استهلَّ فيهم وليد
فعَلينا رضاعه والكفاله
قد رضينا بذاك لولا عتوٍّ
أظهروه لنا على كل حاله
ما بهم ما يَميزهم عن بني السو
قة إلا رسوخهم في الجهاله
هم من الناس حيث لو غربل النا
س لكانوا نُفايةً وحثاله
ومن الجهل حيث لو صور الجهـ
ـل لكانوا بين الورى تمثاله
حمَّلونا من عيشهم كلَّ عبء
ثم زادوا أصهارهم والكلاله
فكفينا أصهارهم مؤنة العيـ
ـش فكانوا ضِغْثا على إبَّاله
فكأنا نُعطيهمُ أجرة البضـ
ـع كما أُعطيَ الأجير العماله
تلك والله حالة يَقْشَعِرُّ الـ
ـحق منها وتشمئز العداله
هي منهم دناءةٌ وشنارٌ
وهْي منَّا حماقة وضلاله
ليس هذا في مذهب الإشتراكيَّـ
ـة إلا من الأمور المحاله
وهْو في المِلَّة الحنيفية البيـ
ـضاء كفرٌ بربنا ذي الجلاله
وجه ابن آدم
لله سرٌّ في الأنام مُطلسَمُ
حار الفصيحُ بوصفه والأعجمُ
برأ ابن آدم وهو إن لم تلقه
في الخلق أقدم فهو فيه مقدَّم
وإذا نظرنا في العجائب نظرةً
ظهر ابن آدم وهو منها الأعظم
أمَّا العجيب من ابن آدم فهو ما
نسق الكلام به إذا نطق الفم
والوجه أعجب ما رأيت وإنَّه
لَيحار في سحنائه المُتوسِّم
هو من طراز الله إلَّا أنَّه
بسرائر النفس الحديثة مُعلَم
أما الحَواجب فيه فهْي كواشف
والعين فيه من الضمير تترجم
ولَرُبَّ خافية يُكتِّمها الفتى
والوجه منه بسرِّها يتكلم
كلٌّ يُشير إلى السريرة وجهه
فكأنَّه بضميره مُتَلَثِّم
فالوجهُ فيه من القرونةِ مسحةٌ
للخافيات بها وضوحٌ مبهم
صرع النُّهى فالوهم فيه تيقن
تحن الملامح واليقين توهم
ولَرُبَّ وجهٍ في تبسُّمه البكا
ولَرُبَّ وجهٍ في بكاه تبسُّم
والأنف في وجه ابن آدم زينة
فالوجه لولا أنفه متجهِّم
كالهدب في شفر العيون فإنَّه
لولاه تنشتر العيون وتسجم
•••
إنَّ الوجوه صحائف مطموسة
يمحو كتابتَها ويُثبتها الدم
بيناك تقرأ حروفها مُتفهِّمًا
يبدو تحرُّفها فلا تتفهَّم
فالعقل فيها عالم مُتجاهل
طورًا وطورًا جاهلٌ متعلم
إني أرى هذي الوجوه نواطقًا
بالسرِّ لكن نطقهن مُجَمْجَم
وأرى لحاظ عيونها مُتحدثًا
عنها ولكنَّ الحديث مرجَّم
فكأنني البدويُّ يسمع راطنًا
وكأنَّما هي أعجميٌّ طِمْطِم
•••
ولرُبَّ وجه يستبيك بحُسْنِهِ
فتروح منه وأنت صبٌّ مغرم
يدنو إليك وأنت خلوٌ من هوًى
ويصدُّ عنك وأنت فيه متيم
وإذا تغيَّب فالبدور مُضيئة
وإذا أضاء فكُلُّ بدرٍ مظلم
لله في وجه ابن آدم حكمة
يعنو السفيه لها ومن يتحلَّم
خواطر شاعر
لعمرك ما كلُّ انكسارٍ له جبرُ
ولا كلُّ سرٍّ يُستطاع به الجهرُ
لقد ضربت كفُّ الحياة على الحجا
ستارًا فعِلْمُ القوم في كنهها نَزْر
فقمنا جميعًا من وراء ستارها
نقول بشوق ما وراءَك يا ستر
حكت سرحة فنواء نبصر فرعها
ولم ندرِ منها ما الأنابيش والجذر
وقد قال بعضُ القَومِ إنَّ حياتنا
كليلٍ وإنَّ الفجر مطلعه القبر
فإن كان هذا القول فيها حقيقةً
فيا شدَّ ما قد شاقني ذلك الفجر
وروح الفتى بعد الرَّدى إن يكن لها
بقاءٌ وحسٌّ فالحياة هي الخسر
وإن رقيتْ نحو السماءِ فحبذا
إذا أصبحتْ مأوًى لها الأنجم الزهر
وأعجب شأنٍ في الحياة شعورُنا
وأعجب شأن في الشعور هو الحجر
وللنفس في أُفق الشعور مخايلٌ
إذا أبرقت فالفِكْرُ في برقها قطر
وما كل مشعورٍ به من شئونها
قديرٌ على إيضاحه المنطق الحُر
ففي النفس ما أَعيا العبارة كشفُهُ
وقصَّر عن تبيانه النظْم والنثْر
ومن خاطرات النفس ما لم يقُمْ به
بيان ولم ينهض بأعبائه الشعر
ويا رُبَّ فكرٍ حاك في صدر ناطق
فضاق من النطق الفسيح به الصدر
ويا رُبَّ معنًى دقَّ حتى تخاوصت
إليه من الألفاظ أعينُها الخزر
أرى اللفظ معدودًا فكيف أسومُهُ
كفاية معنًى فاته العدُّ والحصر
وأفق المعاني في التصوُّرِ واسعٌ
يتيه إذا ما طار في جوِّهِ الفكر
ولولا قصورٌ في اللغى عن مرامنا
لما كان في قول المجاز لنا عذر
ولست أخص الشعر بالكلم التي
تُنَظَّمُ أبياتًا كما يُنظَم الدُّر
وذاك لأنَّ الشعر أوسع من لُغًى
يكون على فعل اللسان له قصر
وما الشعرُ إلَّا كلُّ ما رنَّح الفتى
كما رَنَّحتْ أعطافَ شاربها الخمر
وحرَّك فيه ساكن الوجد فاغتدى
مَهيجًا كما يستنُّ في المرَح المُهر
فمن نفثات الشعر سجعُ حمامة
على أيكةٍ يُشجي الحزينَ لها هدر
ومن نفثات الشعر حوم فراشة
على الزهر في روضٍ به ابتسم الزهر
ومن نفثات الشعر دمعة عاشق
بها قد شكا للحُبِّ ما فعل الهجر
ومن نفثات الشعر نظرةُ غادةٍ
بنجلاءَ تسبي القلبَ في طرفها فَتْر
ومن نفثات الشعر رنَّة ثاكل
مفجَّعة أودى بواحدها الدهر
ومن نفثات الشعر ترجيعُ مُطرِبٍ
تعاور مجرى صوته الخفضُ والنَّبر
ومن نفثات الشعر تغريد بلبلٍ
لدى جنَّة قد فاح من وردها نَشر
ومن نفثات الشعر نغْمة أرغنٍ
وترنيم مزمارٍ به اطَّرد الزَّمْر
وإنَّ من الشِّعر ائتلاقَ كواكبٍ
بجنح الدُّجى باتت يُضاحكها البدر
وإن ابتسام الغيد عن كل أشنب
ليطرب نفسي فوق ما أطرب الشعر
فإن لم يكن هذا من الشعر لم يكن
لعمر النهى للشعر عند النهى قَدْر
القوة تصف الحرية
يا قومُ لا تتكلموا
إن الكلام محرَّمُ
ناموا ولا تستيقظوا
ما فاز إلَّا النُّوَّم
وتأخروا عن كل ما
يقضي بأن تتقدَّموا
ودعوا التفهُّم جانبًا
فالخير أن لا تفهموا
وتثبَّتوا في جهلكم
فالشرُّ أن تتعلَّموا
أمَّا السياسةَ فاتركوا
أبدًا وإلَّا تندموا
إن السياسة سِرُّها
لو تعلمون مطلسم
وإذا أفضتم في المُبا
ح من الحديث فجمجموا
والعدلَ لا تتوسموا
والظلم لا تتجهَّموا
من شاء منكم أن يعيـ
ـش اليومَ وهو مُكرَّم
فليُمسِ لا سمعٌ ولا
بصرٌ لديه ولا فم
لا يستحقُّ كرامةً
إلا الأصمُّ الأبكم
ودعوا السعادة إنما
هي في الحياة توهُّم
فالعيش وهو مُنعَّمٌ
كالعيش وهو مُذمَّم
فارضوا بحكم الدهر مهـ
ـما كان فيه تحكُّم
وإذا ظُلمتم فاضحكوا
طربًا ولا تتظَّلموا
إن قيل هذا شهدكم
مرٌّ فقولوا علقم
أو قيل إن نهاركم
ليلٌ فقولوا مُظلِم
أو قيل إن ثِمادكم
سيل فقولوا مفعم
أو قيل إن بلادكم
يا قوم سوف تُقسَّم
فتحمَّدوا وتشكَّروا
وترنَّحوا وترنَّموا
تبيان حقيقة
لعمرك إن الحرَّ لا يتقيدُ
ألا فليقُل ما شاء فيَّ المفندُ
إذا أنا قصَّدت القصيد فليس لي
به غير تبيان الحقيقة مقصد
نشدت بشعري مطلبا عزَّ نَيله
وإن هان عند الشعر ما كنت أنشد
فللنجم بُعد دون ما أنا ناشد
وللدرِّ قدر دون ما أنا مُنشد
وكم جنَّبتْنِي عزَّة النفس منهلا
يطيب به لكن مع الذُّلِّ مورد
وما أنا إلا شاعرٌ ذو لبانة
أنوح بها حينًا وحينًا أُغَرِّد
ولي بين شدقيَّ الهريتين صارمٌ
يُسلُّ على الأيام طورًا ويُغمد
ولا عجبٌ أنْ عَابَني الشَّاعِرُ الذي
يقول سخيف القول وهو مقلِّد
فإنَّ ابن برد وهو أكبر شاعر
تَنقَّصه في الشعر حمُّاد عجرد
تعوَّدتُ تصريحي بكل حقيقة
وللمرء من دنياه ما يتعوَّد
إذا رمتُ نصحًا جئتُ بالنُّصح واضحًا
وما كان من شأني الكلامُ المعقَّد
وقد أُبصر الدَّاء الدفين الذي بنا
كما أَبصر الأمواهَ في الترب هدهد
يقولون لي استنهضْ إلى العلم قَوْمنا
بشعر معانيه تُقيم وتُقعد
أما علموا أنَّ الحياة بعصرنا
مدارس في كل البلاد تُشيَّد
وما ينفع القول الذي أنت قائلٌ
إذا لم يكن بالفِعْلِ منك يؤيد
فيا قومَنا إنَّ العلوم تجدَّدت
فإنْ كُنتمُ تهوَوْنها فتجدَّدوا
وخلوا جمود العقل في أمر دينكم
فإن جمود العقل للدين مُفسد
وإن شئتمُ في العيش عزًّا فأقدموا
فكم نِيلَ بالإقدام عزٌّ وسؤدد
وأمضوا سديد الرأي دون تردُّدٍ
فما يبلغ الغاياتِ من يتردَّد
ولا تقبلوا قيدًا بقولٍ مجرَّدٍ
فما قَيَّد الأحرارَ قولٌ مجرد
وأطلال علم لا تزال شواخصًا
تُذكِّر بالعهد القديم وتشهد
أراها فأبكي وهْي رهن يدِ البلى
بدمع كما ارفضَّ الجمان المنضد
وما أنا سالٍ عهدها حين لم تَسِلْ
دموعي ولكني فتًى مُتجلِّد
فإن تكبروا تبديد دمعي لأجلها
فإنَّ دمي من أجلها سيُبدد
في الاحتفال بالريحاني
أنشدها في احتفال المعهد العلمي في بغداد بالأستاذ أمين الريحاني.
إن العراق بعرضه وبطوله
وبرافدَيه وباسقات نخيله
يهتزُّ مبتهجًا بمقدم ضيفه
ويبشُّ مبتسمًا بوجه نزيله
ومُرَّحِبا والشكر في ترحيبه
ومؤهلًا والحمد في تأهيله
بربيب لبنان بريحانيِّه
بكبير مَعشره بفخر قبيله
بالعبقريِّ بفيلسوف زمانه
بأديب أمَّته بداهي جيله
بأصحِّ أحرار الأنام تحرُّرًا
في فكره وبفعله وبِقِيله
إنَّا نُبجِّل منه خير مبجَّل
تبجيل كل الفضل في تبجيله
أأمين جئت إلى العراق لكي ترى
ما فيه من غرر العلى وحجوله
عفوًا فذاك النجم أصبح آفلًا
والقوم محتربون بعد أفوله
أوَ ما ترى قطر العراق بحُسنه
قد فاق مُقفِره على مأهوله
أمَّا الحيا فيه فذياك الحيا
لكن مسيل الماء غير مسيله
وربيعه ذاك الرَّبيع وإن شكا
من جهل ساكنه اشتداد محوله
فأقم به ولك الغنى بفراته
عن قطر مصر وعن موارد نيله
وانزل على وادي السلام ممتعًا
برغيد عيشٍ تحت ظِلِّ نخيله
والثم به ثغر الطبيعة باسمًا
يشفي من المشتاق حرَّ غليله
وترقَّبَنْ أسحاره حتى إذا
هبَّ النَّسيم فجس نبض عليله
وانظر محاسن أرضه وسمائه
وانشق أريج شماله وقبوله
فالجوُّ فيه منيرة أوضاحه
والحسن فيه دقيقه كجليله
والليل فيه مُكلل بمُرصَّعٍ
وكواكبُ الإكليل من إكليله
وترى النهار به كذهنك واقدًا
بالشمس تُشرق في وجوه سهوله
وترى ضياء الشمس فيه مغلَّفًا
بنظيره ومُسلسلًا بمثيله
وإذا وقفت بدارسٍ من مجده
فكوقفة الباكين بين طلوله
وانحب كما نحب الحزين مكفكفًا
غرب الدموع بجانبَي منديله
فلقد عفا المجد القديم بأرضه
وعليه جر الدهر ذيل خموله
وإذا نظرت إلى قلوب رجاله
فانظر حديد الطرف غير كليله
تجد الرجال قلوبها شتى الهوى
مد الشقاق بها حبالة غوله
متناكرين لدى الخطوب تناكرًا
يعيا لسان الشعر عن تمثيله
فالجار ليس بآمن من جاره
والخل ليس بواثق بخليله
والدين فيه يقول ذو قرآنه
قولًا يُحاذر منه ذو إنجيله
وإذا تأوَّل قولهم مُتأول
صرفوه بالتكفير عن تأويله
وإذا تكلَّم عالم في أمرهم
خفروا ذمام العلم في تجهيله
حال لو افتكر الحكيم بكنهه
طول الزَّمان لعيَّ عن تعليله
من ذا يُبدله فإن قوارعي
يئست لعمر الله من تبديله
والجهل لا يبقى على أربابه
كالسيف ليس براحم لقتيله
أأمين لا تغضبْ عليَّ فإنني
لا أدَّعي شيئًا بغير دليله
من أين يُرجى للعراق تقدُّمٌ
وسبيلُ ممتلكيه غير سبيله
لا خير في وطنٍ يكونُ السيف عنـ
ـد جبانه والمالُ عند بخيله
والرأي عند طريده والعلم عنـ
ـد غريبه والحكم عند دخيله
وقد استبدَّ قليله بكثيره
ظُلمًا وذلَّ كثيرُه لقليله
إني إذا جدَّ المقالُ بموقفٍ
فضَّلت مجمله على تفصيله
وإذا المخاطب كان مثلك واعيًا
أغنى اختصارُ القول عن تطويله
يا من يُكتِّم فضله متواضعًا
والناس مجمعة على تفضيله
شكواي بُحتُ بها إليك وليس في
شكوى الزميل غضاضة لزميله
إنَّ المريض ليستريحُ إذا اشتكى
مما به لطبيبه وخليله
وكذا الحزين إذا تهيَّج حزنه
يبكي فيسكن حزنه بعويله
إني لآنف أن أبوح بمُضمَر
إلا لمقتدرٍ على تحصيله
ولديَّ إن وصل الحبيب تمسكٌ
بالعز يمنع فايَ من تقبيله
تجاه الريحاني
القصيدة التي ألقاها في حفلة «أُدباء العراق» للأستاذ الريحاني.
لهذا اليوم في التاريخ ذِكرٌ
به الآناف يفغمهنَّ طيبُ
ويَحسن في المسامع منه صوتٌ
له تهتز بالطرب القلوب
ففي ذا اليوم نحن قد احتفينا
بريحانيِّنا وهو الأديب
فتًى كثرت مناقبه فأضحى
له في كل مكرمةٍ نصيب
نجالس منه ذا خلقٍ كَريمٍ
له بجليسه أثر عجيب
وأقسم لو يُجالسه سفيه
فواقًا لاغتدى وهو الأريب
كذاك يكونُ زهر الرَّوضِ لمَّا
تمرُّ عليه ناسمة تطيب
ولم يُنسب إلى الريحان إلَّا
وريحان الرياض له نسيب
له قلم به تحيا المعاني
كما يحيا من المطر الجديب
وتُشرق في سماء الشعر منه
كواكب ليس يُدركها مغيب
لقد طارت بشُهرته شمال
كما طارت بشهرته جنوب
وطبق صيته الآفاق حتى
تعرَّفه القبائل والشعوب
فديتك هل تصيخ فإنَّ عندي
شكاة لا تصيخ لها الخطوب
إلى كم أستغيثُ ولا مغيث
وأدعو من أراه فلا يُجيب
أقمت ببلدة مُلئتْ حقودًا
عليَّ فكل ما فيها مريب
أمرُّ فتنظر الأبصار شَزرًا
إليَّ كأنما قد مرَّ ذيب
وكم من أوجه تبدي ابتسامًا
وفي طيِّ ابتسامتها قطوب
سكنت الخان في بلدي كأني
أخو سفرٍ تقاذفه الدروب
وعشت معيشة الغُرباء فيه
لأني اليوم في وطني غريب
وما هذا وإن آذى بدائي
ولا هو أمره أمر عصيب
ولكني أرى أبناء قومي
يدبِّر أَمرَهم من لا يُصيب
يُقدَّم فيهمُ الشريرُ دفعًا
لشرَّته ويُحتقر الأديب
فهذا الداء مُنتشب بقلبي
وفي قلب العُلى منه وجيب
فكيف شِفاؤه ومتى يُرجَّى
وأين دواؤه ومَن الطبيب
وإنْ أكُ قد شكوت فما شكاتي
إلى ذي خلَّة شيء معيب
سأنصب للهواجس حرَّ وجه
يعود إلى الشروق به الغروب
وأضرب في البلاد بغيرِ مُكث
أجوبُ من المهامِهِ ما أجوب
إلى أن أستظلَّ بظلِّ قوم
حياة الحرِّ عندهمُ تطيب
وإلَّا فالحياة أمرُّ شيءٍ
وخير من مرارتها شَعوب
أنشودة الوطن، بلحن المرسيليز
أوطاننا وهي الغوالي
أرواحنا لها ثمنْ
وإنما أحيا المعالي
من مات في حب الوطنْ
•••
أوطاننا نحن حماها
بكل سيفٍ منتضى
في أرضها تحت سماها
ما مات منَّا من قضى
•••
أوطاننا وهي الأماني
عن حبها لا ننثني
طابت لنا منها المغاني
بغيرها لا نعتني
•••
ننشق أنفاس هواها
في كل سهلٍ وجبلْ
عن سهلها أو عن رباها
لم نرضَ بالدُّنيا بدلْ