شاعر كبير يُعدونه في مصر في الطبقة الأولى بين الشعراء المُعاصرين، وينكرون عليه
ذلك
في العراق، هجر العراق وطنه قبل سنوات، وحلَّ القُطر المصري، فاستفاد فائدة كُبرى من
وجوده في بيئة سما فيها قدر الأدب، وانتعش روح العلم، فتسنَّى له أن يطَّلع على الحركة
الفكرية، والنَّهضة العِلمية هناك من جهة، وعرَف له أُدباءُ النِّيل منزلتَه فبعُد صِيته،
وسارت شهرته إلى أطراف العالم العربيِّ من جهةٍ ثانية، وهو اليوم شاعر الاستقلال، ينظم
القصائد الاستنهاضية لحزب الاتحاد السوري الذي مركزه القاهرة، وعضو في جمعية «الرَّابطة
الشرقية» فيها.
وقد عُرِفَ شعره بالجودة والمتانة وحُسن السبك ورصانة القافية، لا يسبق صاحبه سابق
في طول النفس وخفة البحر، يتغنَّى الكاظمي في شعره تغنيًا بدويًّا، وقد أخذ عنه ذلك حافظ
بك إبراهيم شاعر مصر.
وهو أبو المكارم عبد المُحسن بن محمد بن علي بن المحسن بن محمد بن صالح بن علي بن
الهادي النخعي.
وُلد في بغداد في مُنتصف شعبان سنة ١٢٨٢ هجرية، وتعلَّم فيها مبادئ القراءة والكتابة،
ولَمَّا كان أبوه يشتغل بالتَّجارة مال الولد إلى تعاطي هذا العمل، وأخذ يُطالع الكتب
التي تبحث فيه، ثم ترك التجارة واحترف الزراعة فلم يلقَ نجاحًا، فانعكف على مُطالعة
الكتب والرسائل الأدبية، وولع بحفظ الشعر، فحفظ نحو الاثني عشر ألف بيتٍ من الشعر
القديم، ولما أدرك السن العشرين عرف فضله، وأخذ يدرس حالة أبناء جلدته من المسلمين،
مُفكرًا في إصلاح شئونهم حتى قدم السيد جمال الدين الأفغاني الشهير بغداد منفيًّا من
إيران فوجد المترجم في السيد جمال الدين ضالَّته، وأخذ عنه بعض مبادئه وعلومه، ثم نُفي
الأفغاني من بغداد فأصبح موقف الكاظمي حَرِجًا؛ لأنَّه كان من المُتعلقين بذلك المُصلح
الكبير، وإذ أخذ يُجاهر بنواقص الحكومة كاد أن يلحق به أذًى كبيرٌ لولا أنه لاذ
بالوكالة الإيرانية في بغداد، ثم غادر الشيخ الكاظمي بغداد خفيةً إلى البصرة، وانتقل
منها إلى أبو شير في الخليج الفارسي، وقضى هناك بضعة شهور، وعاد إلى بغداد بعد ذلك ورحل
سنة ١٣١٥ من العراق قاصدًا إيران فالهند، ثم ألقى عصا ترحاله في مصر على نية أن
يُغادرها إلى فروق، ويَقفل من هناك رَاجعًا إلى بغداد، غيرَ أنَّ مرضًا عضالًا أقعده
عن مُبارحة وادي النِّيل وذهب ببصره، وقد حظي المترجم كلَّ الحظوة لدى المُصلح
الإسلامي الكبير العلامة الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله.
والشيخ الكاظمي على جانبٍ عظيمٍ من الأخلاق الفاضلة والمزايا الشريفة، ذو إباءٍ شديد،
وهو آية في بداهة الخاطر، يرتجل في مجلسٍ واحدٍ القصيدةَ التي تبلغ المائة والمائتي بيتٍ
من
غير أن يَظهر عليه أثر الكلفة، وقد روى عنه سليم سركيس الصحافي المُتفنن المشهور في مجلته
قال: نظم الدكتور إبراهيم شدودي قصيدة في مدح الأستاذ الكاظمي في الحفلة التي عُقدت
لتكريمه، فما انتهى الدكتور من تلاوتها حتى أجابه المُحتفَل به بقصيدةٍ ارتجاليةٍ من
نفس
البحر، فكان ينظم وأنا أكتب والإخوان يُعجَبون بسرعة خاطره.
وينتقد بعضهم نفس البداوة في شِعْر الكاظمي، ولا جُناح عليه في ذلك لأنَّه تعلَّم
الشعر
في العراق على النَّمط القديم؛ فركز هذا الأسلوب في طبعه.
العينية
إلى كم تُجيل الطَّرف والدار بلقع
أما شغلت عينيك بالجزع أدمعُ
أأنت مُعيري عبرة كلما ونت
يحفزها برح الغرام فتسرع
وهل عريت أرض كسوت أديمها
بماء شئوني فهْي زهراء ممرع
فمِن حرِّ أنفاسي وقيض محاجري
مصيف تراءى في ثراها ومربع
ألم ترَ جرعاء الحمى كيف روضت
وسال بمحمر الشقائق أجرع
فهاتيك من دمعي وهذاك من دمي
فللعين ذا مبكى وللقلب مجزع
جرى ماء جفني عن سويداء مُهجتي
فمن أجل ذا وشى الرياض مجزع
أفي كل دارٍ أنت ماتح عَبرة
إذا غاض منها مدمع فاض مدمع
كأنَّك فيها ناظر رسم منزلٍ
حمتْه عن النُّظار نكباء زعزع
تذكرت شِعبًا في رباها ولعلعًا
فهاج لك البرحاء شعب ولعلع
كأن في عينيك عارض مزنة
تصوب عزاليها ولا تتقشع
كأن بها خرقاء أوهت مزادها
وليس لِوَهْيٍ سال واديه مرقع
تتبَّعْ تجدْ ما يغمر القلبَ سلوة
وهل عدم السلوانَ من يتتبع
وهيهات تسلى الدار وهي فجيعة
ويسلو أسير الدار وهْو مفجَّع
وأفدح خطبٍ شفَّني بصروفه
وجرَّعني ما لم أكن أتجرَّع
وقوفي على تلك الديار وقد عفتْ
معالمُ كانت زاهياتٍ وأربُع
معالمُ أعفاها البلى فتوزعت
وما هي إلا أكبُدٌ تتوزع
وقفت عليها آخر الليل وقفة
أودِّع من أطلاها ما أُودِّع
ولا مسعد إلا الدموع وكيف بي
إذا جف ما عندي من الدمع أجمع
أيا بانة الوعساء من أعلم الذوى
بفرعك حتى اجتُثَّ من حيث يفرع
ويا غفلات الجزع هل بعد عالج
معاد لأيام الغميم ومرجع
فكم ليلة بِتنا نشاوي ولا طلا
وصرعى وما غير الأحاديث تصرع
يطير بنا الشوقُ ارتياحًا وكُلنا
رذايا هوًى في ندوة الحي وُقَّع
فمن مُرغم يصبو لنجواه مغرم
ومن مولع يرثي لشكواه مولع
ويا حبذا بالجزع فرع أراكة
تميل وفي أفنانها الورق تسجع
ورُبَّ حماماتٍ مع الصبح أقبلت
تُردِّد في ألحانها وترجِّع
نصتُّ لها أُذْني وقلتُ إصاخة
عسى نبأ من ذي هوًى يتسمع
فأعرضن عن ذي لوعةٍ وروَيْن لي
أحاديث مجراها الجوى والتولُّع
أحنُّ إلى النائي حنينَ مُوَلَّهٍ
وهل يُرجِع النائي الحنينُ المرجع
وعندي وما عندي وهل هي غلة
إذا علَّلوها بالتذكر تنقع
ولم أنسَ يوم الجزع والساعة التي
وقفنا بها نبكي الديار ونجزع
وقفنا عليها بُرهةً ويد الأسى
تُقطِّع من أحشائنا ما تُقطِّع
ونادى المنادي حين أزمعت للسرى
إلى أين يا حامي الحقيقة مزمع
فوسع من قلبي الأسى كل ضيق
وضاق بعينيَّ الفضاءُ الموسَّع
فلله ما فت الوداع من الحشا
ولله ما قاسى الخليط المودع
سرينا نجوب البيد في غلس الدُّجى
وصارت مَطايانا تخب وتوضع
تعوج بنا شرقًا وغربًا كأنها
تقيس بمسراها القفار وتذرع
كأنا وقد مالت بنا سنة الكرى
سجودٌ على أكوارهن ورُكَّع
نُقطِّع من أعراض كل تنوفة
سماوية الأعلام ما ليس يُقطع
ونعتام تيار الدجى بعزائمٍ
تلوح بآفاق البلاد وتلمع
ويا مألف الأرام رُدَّ وديعتي
فإن فؤادي عند سربك مودع
أقول وقد شبَّت بقلبيَ جذوةٌ
تُعلِّمني جمرُ الغضا كيف يلذع
أحباي هل من عطفة في رباعنا
يطيب بها المصطاف والمتربع
وهل تنثني الأيام ثانيةً لنا
ويجمعنا بعد التفرق مجمع
تهب صَبًا حتى تكاد مع الصَّبا
نزاعًا إلى واديكم الروح تنزع
كأنَّكمُ مني بمرأًى ومسمعٍ
على حين لا مرأى هناك ومسمع
•••
ولما نقلنا للبَواخِرِ رَحْلَنا
وعفنا المطايا وهي حسرى وضلع
هجمنا على جيشٍ من الموج ضارب
بزخَّاره نحو السما يترفع
يُطالعنا من كل فجٍّ كأنَّه
جبال شرورى أصبحت تتقلع
ولما تبيَّنت السويس وسار بي
إلى النيل سيَّار من البرق أَسرع
هرعت إليه عاطفًا من حشاشتي
وقُلت لصحبي هذه مصر فاهرعوا
سقى الله دارًا تيَّم الصبَّ نشرُها
وأخرى بها دارية تتضوَّع
لقد صرت في هذي وقلبي معلق
بتلك، إذًا ماذا أنا اليوم أصنع
وأصبحت أسوانًا فلا أنا ميت
فأسلو ولا حي يرجى فأطمع
أنادي فلا شمعون يسمع دعوتي
فيدنو ولا ينأى بوجديَ يوشع
وما ليَ منه يعلم الله لو دنا
سوى نظرةٍ تدنو إليَّ فأقنع
ذر الدمع يُدمي ناظريَّ فإنَّني
رأيتُ بعيني طرفَ شمعون يدمع
ويا أهل هذا الحيِّ خلُّوا لنا الجوى
نُقضِّي به ليل الصبابة واهجعوا
على داركم شق الجيوب ودارنا
يشق وريد في ثراها وأخدع
فلو أنَّ مثلي في سراة قبيلكم
من الحب مُضنًى أو من البين مُوجَع
لأعْلنتُ بالشكوى وصرَّحتُ بالجوى
وقلتُ اسعدوني أيُّها الصحب أو دعوا
تمكَّنَت الأوجاعُ من كل مفصل
وليس لهذا الصبِّ من يتوجع
وآيسَني طول النوى من طماعتي
ولا يأس إلا حين لم يبقَ مطمع
تُكلفني عيناي في الحي هجعة
فأُغمض عيني إنني لست أهجع
وآمل من نومي المشرد رجعة
وأكبر ظني أنه ليس يرجع
أقول لجيرانٍ لهم بين أضلعي
مراح وفي الأحشاء مرعًى ومرتع
أيا جيرتي جف الرُّقاد فعاذر
إذا رحت في كأسٍ من السهد أكرع
ملكتم فؤادي بالتودُّد خدعة
وكل كريمٍ بالتودُّد يُخدَع
تعسفتمُ ما كان منيَ شيمة
وأين من المطبوع من يتطبَّع
وكيف أُرجِّي منكمُ ذا حفيظة
وأكثر شيءٍ في الأنام التصنُّع
ألا إنَّ دهري موجعاتٌ فعالُه
وأفعال أهليه أمضُّ وأوجع
أمثل «فلان» يحفظ الناس وُدَّه
ومثليَ في هذي البلاد يُضيَّع
فوالله ما أدري وقد خامر الحشا
هوًى أوشكتْ منه الحشا تتصدع
أأترك مصرًا أم أقيم بجوها
وما جوها إلا جوًى يتدفع
تساومني خفض الجناح ظباؤها
وما شيمتي إلا العلا والترفع
أصدُّ فتثنيني إلى الحي لفتة
ويَقْتَادني داعي الغرام فأتبع
وأُغضي فتلويني إلى الغيد نظرة
تردُّ غرامي كُلَّما بان برقع
فينزعنْ في قلبي سهامًا مريشة
وأطرب إمَّا قيل في القوس منزع
•••
تعدتْ صروف الدهر مصر وأهلها
ولا زال في أرجائها البشر يسطع
نعم أهل مصرٍ أنتمُ خير أمة
وما الخير إلا منكمُ يتفرع
لقد شاع عنكم كل فضل وسؤدد
وسوف نرى للفخر ما هو أشيع
خذوا حِذْركم فالكاشحون بمرصد
وأنتم كما شاء الكواشح هجع
أرى اليوم موسومًا بكل شنيعة
وأخشى غدًا يأتي بما هو أشنع
ولكنني أرجو انتباهة حازم
تُصرِّف عنَّا هول ما نتوقع
دعوا عنكمُ مُرَّ الهوان وعرجوا
إلى جنبات العزِّ من حيث تنصع
وعودوا بها شُمَّ الأنوف تواركًا
أنوف الأعادي دونكم وهْي جُدَّع
ولا تشبعوهم غير يأسٍ فإنهم
إلى أكلكم أخزاهم الله جُوَّع
وشدوا عرى أوطانكم بمثقَّف
من الرَّأي تخشاه الظبى وهي قُطَّع
وكونوا لها أطوادَ عزٍّ منيعةً
يكن لكمُ فيها الفخار الممنع
تخلى لكم من لو عصفتم بحده
رأيتم إذًا عضب الشبا كيف يقطع
وحل بكم من لو علمْتُم محله
علمتم إذًا بدر السما أين يطلع
فإن الذي في الكون عنه مفرق
وإن الذي في الكون فيه مجمع
فلا يملك العلياءَ إلا سميذعٌ
وها أنا ذاك الأريحيُّ السميذع
تُزعزع أبطالَ الوغى لو تحركتْ
يراعةُ فكري لا الوشيج المزعزع
ويُسكرني والبيض تعسف بالطلى
نجيعُ الهوادي لا العقارُ المشعشع
وكيف أخاف الخطب يسودُّ ليله
وأسياف عزمي في دجى الخطل لُمَّع
فكم غمة كشَّفتُها وعظيمة
تسنَّمتُها والليل أسود أسفع
وحادثة قصرتها بعصابة
تطولُ لهم في الروع بوع وأذرع
تطلق منها كل دهياء أرمة
كأنيَ فيها الأرقم المتطلع
فقل للعدى تختَرْ لها أي ميتة
فسيْفِي بألوان المنون مُرصَّع
وهاك لسيفي الذِّكر في كل وقعة
وهل يخلو من آثار سيفيَ موقع
ورُبَّ سعاة أسرعت خطواتهم
ففات مساعيها المشيح السرعرع
ترانا لدى التمثيل سِيَّينِ خلقة
ولكن حَفِظنا المكرمات وضيعوا
ولي من وراء الغيب عين تدلني
على المنهل العذب الذي ليس يشرع
أرى كل تلعاءٍ متى شئتُ جُزتها
وخلفتُ دوني كل من يتتلع
ويا رُبَّ قوم غرهم نوم جمعنا
وأغراهمُ ذاك العديد المجمع
يخالون إن الطود يؤلمه الحصا
وأنَّ السبنتى بالنباح يُروَّع
وما علموا أنْ يمموا الغاب خدعة
يكون وراء الغاب ليث مخدع
فجاءوا إلى الإسلام يعترضونه
سفاهًا فشاموا أن واديه مسبع
سعَوْا بضلالات فخَيَّب سعيهم
أخو الرشد محمود النقيبة أروع
فردوا عن الإسلام ميلًا رقابهم
وجيد بني الإسلام أجيد أتلع
وأقسم أني لو شحذت مقالتي
لراح بها هانوتُ
١ وهو مبضع
ولكنني أُغضي احتشامًا وقدرةً
وعندي من القول الطرير الملمع
ونحن بنو البيض المصاليت في اللقا
إذا مصقع منا جثا قام مصقع