أمَّا نثره فلا يقل عن شعره في مرتبة الفصاحة والبلاغة، وهذه مقالات في
كثير من كبريات المجلات تشهد له بدقة البحث والتفكير والاستقراء، يرمي فيها
غالبًا إلى استخراج القضايا العامة من تتبُّع الوقائع والحوادث الخاصة على أساليب
كبار الكتاب والباحثين، وتمتاز مقالاته بتنسيق الأفكار، وتجويد الترتيب
والتبويب.
دمشق وبغداد
ماذا بنا وبذي الديار يُرادُ
فُقِدت دمشق وقبلَها بغدادُ
من موطن الميعاد قامت نُزَّعًا
خيل لهن بجِلَّقٍ ميعاد
ساءتْ وقائعها وما سرَّت بها
لا الهجرةُ الأولى ولا الميلاد
وردتْ مياهَ الرافدين مغيرةً
شقرٌ من القبِّ البطونِ وِراد
هجنٌ شأونَ من الجياد كرائمًا
عربية فكأنهن جياد
برَدَى وأوديةُ الفرات ودجلة
والنِّيل غصَّ بمائِها الوُراد
نَبَأ بأعلى قاسيون تجاوبتْ
بِدويِّه الأغوارُ والأنجاد
وأصاب بحر الروم حتى عبَّرت
عن شَجوه الأمواج والأزباد
أعيادَ هذا الشرق صرتِ مآتمًا
لكنها لعداتنا أعياد
لسنا نحد عليك يومًا واحدًا
أو ليلة، كلُّ الزمان حِداد
الجوُّ وهو مقطِّبٌ متجهمٌ
يبكي لنا والأرض وهْي جماد
•••
يا راكبين إلى دمشق تزوَّدوا
منِّي السلام لكلِّ ركبٍ زادُ
الملك مضطرب النظام كأنه
جسدٌ دمشق والشام منه فؤاد
هل في مروج الغوطتين لأهلها
ولرائديها مربع ومراد
وهل الرُّبى حلل ضوافٍ طُرِّزت
وطرازها الأزهار والأوراد
وشيت من الرَّوض الأريض مطارف
خضر الأديم وفوفت أبراد
أَوَما تزال على معاهد جِلَّقٍ
ترد الضيوفُ وتصدر الوفاد
يحلو لها هذا القريض مهَذَّبًا
ويروقها الإنشاء والإنشاد
غدتِ العواصم خِطةً مغزوَّةً
لا الخيل تعصمها ولا الأجناد
لا آل حمدانٍ ولا أيامهم
فيها لهاتيك الثغور سداد
الذاهبون مضى لنا بذهابهم
في الله جدٌّ دائمٌ وجهاد
أخذوا المضايق والدروب تغلغلت
فيها الجيوش وأمعن القواد
خُنَّا ذمام الفاتحين وعهدهم
ما هكذا تُستنجب الأولاد
إنَّا بما نجني وهم فيما جنَوْا
بئسَ البنونَ ونعمتِ الأجداد
•••
يا أيها الجيلُ الطريد كم انقضت
فيما تحاولُ غارةٌ وطِرادُ
وَعَدتْ بغربتك الرواةُ وإنَّه
حتمٌ عليك كما بدأت تُعاد
مما أضعتُم من تُراثٍ بابلٌ
ومصانع الخُلفاء والأسدادُ
لم تخلفوا باني السدير بما بنى
ومشيِّديه بما أتَوْهُ وشادوا
لولا التفكُّر في مصير بلادكم
تالله ما ضاقت عليَّ بلادُ
إني أبيتُ لأجلها متململًا
قَلِقَ الوساد وما لديَّ وسادُ
أضدادكم مُتساندون قد اجتنَوْا
ثمر الوفاق وأنتمُ أضداد
نبذوا لكم ثمن البلاد وفيكمُ
من لا يشك بأنهم أجواد
وعدوكم الإصلاح فلتتوقَّعوا
برقًا جوائب وعده إيعاد
إطلاقُ أيدينا على أيدي العِدا
رِقٌّ وفكُّ إسارنا استعباد
مدُّوا الحديد وما اهتززت لمدِّهِ
سكك الحديد بأرضنا أصفاد
طرق الحديد إذا الْتوتْ وتشابكت
شبك به شرف البلاد يُصاد
•••
هل في غياض الدردنيل مجاوبٌ
إن قُلتُ لمْ لا تَزَأْرَ الآسادُ
خُرْس المقاول ناطقون دهاهم
ريبُ الزمان وغُيَّبٌ أشهاد
يتزوَّدون من التجلُّدِ كُلَّما
خفَّ المتاع وقلَّتِ الأزواد
مِن كلِّ قاصيةٍ لأُخرى لم تُحَطْ
تُجبى الجنود وتُجلبُ الأمداد
ما بين مصرٍ والحجازِ تطاحُن
ومن العراق إلى الخليج جِلاد
رُفع الهلال عن السماء وقد خبا
أو كاد ذاك الكوكب الوقَّاد
•••
يا للزريَّة كم تُفرِّق بيننا
وتُضلنا الأضغان والأحقاد
جارت علينا عُصبةٌ روحيَّة
١
شقِيتْ بها الأرواح والأجساد
راجتْ نقائصها ولكن آذنت
برواجها إنَّ الكمالَ كسادُ
وعظت شيوخ لو أصابت لارعوت
ولنال منها الوعظُ والإرشاد
بكت المنابرُ إن تنزَّتْ فوقها
تلكَ القرود وناحت الأعواد
•••
شرع سواء من شيوخ آمنوا
إيمانهم والجحد والإلحادُ
ذلوا بحبهمُ «المعاش» وبرهنوا
أنْ ليس من بعد المعاش معاد
ذهبوا بدعوى في الصلاح عريضة
إن الصلاح من الشيوخ فساد
يتثاقلون ويجبنون عن العلى
ليُقال إن شيوخنا زهَّاد
لا يحسدون على المعالي أمَّةً
وهمُ على عَلَّاتهم حُسَّاد
حسبُ البُغاة الظالمين تربص
بالمسلمين وحيلة وكيادُ
إن الزعامة سُلِّمت لزعانفٍ
في الشرق قادوا أهله فانقادوا
انظر إلى الأعجاز كيف تصدَّرت
وعمائم السادات كيفَ تُساد
شر العصور وفي العصور تفاوت
عصرٌ به تتقدم الأوغاد
نُظمت في مدينة صيداء الشهيرة إثر زيارته لها سنة ١٣٣٨ / ١٩٢٠ حيث كان لربيعها
الأنيق أثر عظيم جدًّا في نفسه، وقد وصف فيها نزول الثلج الكثير في ذلك
العام.
عروسٌ من البلدان ليس لها مهر
ومصر سبتني لا الصَّعيدُ ولا مصرُ
وما هيَ لما قلَّدتنيَ نعتها
وشاطئها إلا القلادة والنَّحرُ
أَمَا انتظمت نظم القلائد: دورها
لآلئ أصداف وحصباؤها درُّ
وغير كثير من بدائِع بلدةٍ
كصيداءَ إن أُغرَى بها إنها سحر
وما هيَ إلَّا الشِّعر صِيغَ مدينةً
فأنَّى يُواتيني لأنعتَها الشعر
وما راق من صيداء إلَّا بشاشةٌ
وإلَّا ابتسام مثلما ابتسم الثَّغر
ذروا مِنةَ الأفلاكِ عنَّا لقد بدتْ
لنا الشمسُ من صيداء وارتفع البدْر
وهل أنا في صيدا كلَّا وإنَّما
أُزيحَ عن الفردوس لي ولها سترُ
رحلتُ إليها بالصبابة إنها
مَرامُ فتًى مثلي صباباتُه كُثر
عمدتُ إلى كأس السُّلوِّ فَذُقتها
وكأس الهوى طعمانِ أحلاهما المُرُّ
ديون لصيداء عليَّ ضمانُها
ورهنُ وفاها أنني رجل حُرُّ
أيادٍ حميدات أرى الشكر دونها
ورُبَّ أيادٍ لا يقوم بها الشكر
ومعتدلٍ طبق المزاج مزاجها
فلا بردها بردٌ ولا حرُّها حرُّ
وما أنتِ يا صيداء إلَّا ملَاءَةٌ
من الورد محبوبًا لرائدكِ النشرُ
تُرجِّل إن هبتْ غدائرك الصبا
ويغسل بالأمواج أرجلَك البحر
جبالك تحنانًا عليك عواطف
ومُحْدَوْدباتٌ مثلما احدودبَ الظهر
أبتْ جملة الأشياء إلَّا لطافةً
بصيداء حتى أنتَ يا أيها الصَّخر
•••
وإنْ أَنسَها لم أنسَ منها صبيحةً
تساقط فيها الثلج وانبعثَ القر
فأمواجها زُرْقٌ بديعٌ صَفَاؤها
وأَجْبُلُها بيضٌ وأربعها خضرُ
ألمَّ بصيداء المشيبُ مُبَكِّرًا
وأسرعَ فيها وهْي غانية بكرُ
فما زادها إلَّا شبابًا وفسحةً
من العمر طالت كلَّما انكمش العمر
مواسم صيداء من الثلج وُضَّحٌ
وأيام صيداء محجَّلةٌ غُرُّ
أمن شجر الليمون هذا تجلببت
جلابيب قطنٍ أبيضٍ أكر جمر
لقد غمرتْ إلَّا بقايا كأنها
عيون بُزاةٍ دأبُها نظرٌ شزرُ
أيا شجراتٍ في كوانين أصبحتْ
كوانينَ مُلقًى في جوانبها جمرُ
أفي شكل مبيضٍ من الثلج أُنزلتْ
عليكِ من الله النزاهة والطُّهر
•••
لقد أطلقت صيداء طائر أيكةٍ
ببغداد أعياهُ وأرهقه الأسر
غريب من الأطيار فيها توافرت
خوافيه واشتدتْ قوادِمُه العشر
وأزعجني من بلدتي مُزعِجُ القطا
فهل أنت لي صيداء لا بلدي وكرُ
تمايلتُ لا سكرًا ولكن تَعلَّةٌ
بذكراك أو ذكرى العراق هي السكر
نعم لم يزل يعتاد قلبي اضطرابهُ
كما اضطربتْ ضمن الشباك القطا الكدر
أأنسى زمان الكرخ والكرخ معرس
وتذهب عن ذكري الرصافة والجسر
•••
هوى البحث أقصاني وماليَ جانب
أبى الله عن زوراء دجلة مزوَر
من جملة قصائده السائرة في أنحاء الأقطار التي يقطنها الناطقون بالضاد.
اقترح نظمها بعض أساتيذ دار الفنون في صيداء لتُتلى في المدرسة ويحفظها
التلاميذ.
هيَ خطرةٌ لكَ من وراء سجافِ
هزَّتْ على بُعد المدَى أعطافي
ما أبصرتك ولا رأتك نواظري
حتى رآكَ على الخفارِ شغافي
متجردٌ خلعَ الكثيفَ ولم يزل
يسعى إليك بجوهرٍ شفافِ
تشقى النُّفوس مع الجسوم وهل ترى
للدرِّ معنًى وهو في الأصدافِ
ماءانِ جازَهما الظماء: فآجنٌ
طَرِقٌ إلى جنب المعين الصافي
إن لم أردْ تلك التي تُروي الظما
فلَرُبَّما نَقَعَ الظَّما إشرافي
خير الوصالِ طبيعةٌ إذ طالما
ظهر التطبُّعُ في وصال الجافي
•••
يا ناشدي الأثر الجديد استيأسوا
من طول نشدانِ القديم العافي
بقي القديمُ وإنما جددتمُ
ضَرْبًا من الأسماءِ والأوصافِ
ولقد عثا سيلُ الوجود ومذهبي
أنَّ الورى ذاك الغثاء الطافي
•••
خير الحوادثِ ما أنارت شُبهتي
وجلتْ عمايَ وجددتْ إرهافي
تلك الخطوب وما أجلَّ عديدها
مَلكت يدي وتعاورت أطرافي
أسرفتُ آمنُها وهذا منتهى
ما كان من شططي ومن إسرافي
خيرًا أرى لكِ أنْ أخافَ لتأمني
يا نفس من أنْ تأمني لتخافي
لي نيَّةٌ للدهر فيها نيَّةٌ
والحُكمُ للمستقبلِ الكشَّافِ
من أبياتٍ أنشأها أواخر أيام إقامته في دمشق، وقد اشتاق جدًّا إلى
العراق.
ببغداد أشتاق الشآمَ وها أنا
إلى الكرخ من بغداد جم التشوُّقِ
فما أنا في أرض الشآم بمشئم
ولا أنا في أرض العراقِ بمعرقِ
هما وَطنٌ فرْدٌ وقد فرَّقوهما
رمى الله بالتشتيت شمل المفرِّق
إذا قمتَ نصب العين يا عهدَ تدمر
ذكرت ادِّكار الطيف عهد الخورنق
وهل بلد أولى من الشام بالهوى
وبالحبِ أَجْدِرْ في دمشق وأخلق
رهنتك يا بغداد قلبي ومن تكنْ
رهينته قلبًا ببغداد يغلق
علا الشيَبُ آمالي ولم يعلُ عارضي
وبيَّضَ قلبي قبل تبيِيضِ مَفرِقي
واقعة حال
قلبي يريد بلا غِبٍّ زيارتكم
والعقل ينهاه إلَّا بعدَ إغبابِ
قضيَّةٌ بقياس الروح موجبةٌ
وللنهى جنبتا سلبٍ وإيجاب
ما أنتَ ممن يريد الحبَّ فلسفةً
يا قلب ذات براهين وأسباب
تنبَّهَ العقل للسلوى يُحَرِّكني
فنبَّهتْ حركاتُ الشوق أعصابي
ما زال في الصلوات الخمس ذكركمُ
نجوى مصلايَ أو تسبيح محرابي
لم أدرِ ما أتهجَّى غير أنكمُ
في اللحنِ لحني وفي الإعراب أعرابي
قد يحجز الدهر ما بيني وبينكمُ
مُذ ساعةٍ فأراها منذ أحقاب
وطالما صرتُ في وجهٍ فلم أرَني
إلَّا وقد عَلِقَتْ يُمناي بالباب
•••
يا راقدي الليل منجابًا ظلامهمُ
ظلام ليليَ هذا غير منجاب
يا سادتي لثم أيديكم على شفتي
فضل وإلا فقدري لثم إعتابي
نادَمتكم من مكاني واصطحبتكمُ
وإنْ أكن مُستقلًا بين أصحابي
ما ضرَّني مظهري فيكم بلا رتب
ولا ظهور بأنباز وألقابِ
كأنَّ معطي الهوى لم يُبقِ باقيةً
من الهوى لِلِداتي أو لأترابي
ما أنصف الحب لا تُحصى شواهده
من شكَّ أنكمُ في الله أحبابي
لغة الحب، أو مثال من الشعر الخالد
تفاهمتا عيني وعينك لحظةً
وأدركتا أنَّ القلوب شواهد
مشت نظرة بيني وبينك وانبرى
من القلب مدلولًا على القلب رائد
كأن الذي حاولتُ ثَمَّ وحاولتْ
من الحُبِّ معنًى بيننا مُتوارد
أحادِيثُ لم تُلفظ وللنفس منطق
وجيز وألفاظ اللسان زوائد
إذا لم تجد في ظاهر الرأي علتي
أما أدَّتا عيناي ما أنا واجد
وما خير رأس لا تبين لناظر
على طرفة من ناظريه المقاصد
•••
جباه الذين استهجنوا الحُبَّ كزة
وأوجههم شر الوجوه الجوامد
كَثير محبوك الذين تجلدوا
وأمَّا الذي جارى هواك فواحد
صرفت إليك النفس عن شهواتها
وجاهدتها، ما حبُّ من لا يُجاهد
وما طال عهدي بالقَصيدِ ومن رأى
لكم نظراتي قال هنَّ القصائد
دواوين هذا الشعر تفنى وللهوى
هوى الرُّوح ديوان من الشعر خالد