علي الشرقي
غصنٌ من الأغصان العراقية، نبت في حقل النجف الأشرف من بيتٍ عريقٍ في العلم والفضيلة،
وقد مرَّ عليه — يوم كتابة هذه السطور — من العمر ٣٣ ربيعًا قضى زهرتها في التزوُّد من
زاد الأدب، والتروِّي من أعذب مناهل الفضل، ولم يتلقَّ دروسه من أستاذ، لكنه نشأ يتيمًا
فتتلمذ على المحافل الأدبية وجمع أكثر مادته من مُحاضرات الفُضلاء ومُطارحتهم في
المواضيع العلمية، وقد تعاطى النَّفس المصري فنظم فيه ورقم، غير أنه اختار منذ أكثر من
سنة إطفاء نفسه بعيشة الانقباض والعزلة، وربما نفث في زاويته بعض نفثات لا يرى مجالًا
لنشرها اليوم.
وللمترجم آثار نفيسة بين منثور ومنظوم، منها:
- (١)
الغراف والطبايح: وهو كتاب تاريخي أحصى كثيرًا من الآثار العراقية المنسية.
- (٢)
نكت القلم: مجموعة مقالات في الأدب والأخلاق والاجتماع.
- (٣)
قيد الشوارد: مجموع لغوي نفيس.
- (٤)
ديوان الشرقي: يتضمَّن مجموع ما نظمه الشاعر في الأبواب المتنوعة.
وإليك نخبة من شعره:
قصيدة
وأشفقت يلذع خدَّ الحبيب
فؤَادٌ على وجنتيه التهبْ
وما التهبت قطعات القلو
ب إلا لتسبك هذا الذهب
دنت لا دنت منك كفُّ المشوق
إذا كان صدغك منها اضطرب
على الرِّفق أيتها الماشطات
فما بين طياته قلب صب
فؤادي وماذا يكون الفؤاد
فلو كان من صخرةٍ لانشعب
•••
ألا رحمة تدرك الساخطين
فتثمر عفوًا سياط الغضب
من الدين أن نتعاطى الجفاء؟
ومن أدب النفس هذي الريب؟
وما افترق الدين والإجتماع
لو اعتنق الناسُ دينَ الأدب
لقد صدِئتْ بالنفور القلوب
تعالوا لنصقلها بالعتب
خليليَّ مثل جناحي حمام
أعِينا وهبَّا إذا الشوق هب
يدًا بيد لا المَعين الزلال
مشوبًا ولا الملح فوق الركب
سلا من يدين له واحدًا
ومن قد يدين لإبن وأب
متى كتب اليأس للبائسين
وفي أي لوح ومن ذا كتب؟
•••
ولي صاحب هل صحبت الخيا
ل لم تلتفت عنه إلا ذهب
مسحت الجفون له خافقًا
مضى لا مضى حلمًا مقتضب
ويثملني العربيُّ الصميم
إذا عب لي أدبًا وطرب
أحب الجميل وأهل الجميل
ليبقى الهوى ولْيحيَ العرب
فيا لكِ من أمةٍ أوجفت
ولم أتَّهم صدرها بالرهب
وكم بثةٍ ليَ في ضيمها
وقد ذهبت حكةً في جرب
إذا حفظ الله أخلاقها
فما ضائر أن تضيع الرتب
ولو أستطع درء آلامها
درأت ولكنَّ رمحي قصب
ولا بُدَّ في العمر من صدفة
تعلم نبعك كيف الغرب
عبرة الشرق
لفحت أمانينا الزمان فليلةٌ
حبلى مؤمَّلة ويوم يطلقُ
أمَّا ضماد الجرح فهو مؤمل
لكنَّما ألم الجروح محقق
بعد المدى يا راكضين تمهلوا
وأبى الوفا يا ظافرين ترفقوا
حاولت أخطفها أمانٍ أفلتت
هربًا وتلحقها اليدان فتصفق
يا راقدي الليل التمام نعمتمُ
بالًا لعل بقربكم من يشفق
إني طرحت القلب بين رباعكم
ليكون عندكمُ فؤاد يخفق
ولقد نفضت من الوثوق أناملي
من ذا يحط يدي على من يوثق
أنا يا حمامات الأراك مُغرِّد
لكن برغم حلاك لا أتطوق
طوباكِ خلصك الجناح فما استوى
روحٌ مُقيدة وروح مطلق
•••
نطقت بحاجتها الشعوب وأفصحت
وأرى عراقي واجمًا لا ينطق
وكأنَّ هذا الشرق سفر غرائب
شرحوا عليه الدارجون وعلقوا
ختمت صحائفه وجئنا بعدها
حتى كأنا فيه فصل ملحق
يا مغرب الشمس المشتت فاستفد
درسًا أفاض به عليك المشرق
لا بد أن تلقى جزاء مطامع
أمم تبدد شملها وتمزق
هذي قضايا الشرق في تاريخه
أنذر بلادكَ أيُّها المستشرق
عشقت بنو الشرق البلاد فمسَّها
شره فبدَّد شملهم فتخرقوا
نهضت فأسقطها النهوض وإنما
للضعف آخر قوةٍ تتفرق
قصيدة
الدمع عاطفة يجيشُ بها الأسى
لتراوح الأشجان أو لتريحا
قلق الجفون وقد أروِّح بالبكا
عينًا تَسيلُ مُعذبًا ومريحا
ما هذه العبرات إلا زفرة
بردت فعادت مدمعًا مسفوحا
تتعلق الأهداب في أذيالها
حرصًا وينقضها البكا لتطيحا
أخشى عليها أنْ يصدعها الثرى
دررًا فأرخى عقدها تسريحا
درس الصبابة كم قرأت بلوحه
عبرًا ووحيًا للعواطف يوحى
فصح الشعور به ولم أكُ شاكيًا
إلا لكوني شاعرًا وفصيحا
في النفس أشياء فهل من موضع
حرِّ الفضاء لأشتكي وأبوحا
ما أكثر الشوك المؤلم للحشى
في ذي البلاد وما أقل الشيحا
عمَّ البلى فلوَ انَّ طوفانًا أتى
هذا الورى لم يُبقِ منهم نوحا
مِن كل مَن ملأَ الضلالُ رداءه
والإفك يملأ ثغره تسبيحا
فلأنصحنْ قَومي وإن جلب الردى
فالعود يحرق نفسه ليفوحا
قالوا الصحيح نرى فقلت تفقأت
عين ترَوْن بها السقيم صحيحا
وتسلفوا بشرى برجعة يوسف
إن يصدقوا فلينشقوني الريحا
يا ديمة الإصلاح رشي موطني
فعساه يُنبت مصلحًا ونصيحا
على نهر الغراف
زهو القصور ونزهة الأرياف
غرف مطلات على الغرَّاف
تلقى الحضارة والبداوة عندها
بإزاء أفرع أو بجنب طراف
أنفت على الأحقاف فهْي مدلة
لكنها ببساطة الأحقاف
نهضت على حمراء دجلة زانها
صافي الأديم على الأديم الصافي
بمحلة الأغصان أحلف أنَّها
مِنْ حُسنها بمحلة الأعطاف
شالت نوافذها كعين مُلاحظ
وتطابقت كجفون عين الغافي
معمورة الأطراف كم من ليلة
بجوارها معمورة الأطراف
والنهر مضفورُ السلاسل فلَّه
جرى النَّسيم وكف منه الضافي
يجري وتصدعه النَّسائم صدفةً
فنثاره صُدَعٌ من الأصداف
ملآن إن ركد النسيم تخاله
جمدت مجاريه وجفَّ الضافي
قمر السما لك فوق دجلة منظر
متنوِّع الأطياف والألطاف
وكأنَّ دجلة شعلة وهَّاجة
سالت أشعتها على الأجراف
•••
يا ماءُ أهلُكَ مجحفون فإن تُطِقْ
طهِّر قلوبهمُ من الإجحاف
أمَّا المروءة فهْي آخر عهدهم
صلى الإله على الوفاء الغافي
فلو استطعت نزفت دجلة ماءها
وجعلت مجراها من الإنصاف
عذب النطاف وما وجدتك في فمي
من كثرة الحسرات عذب نطاف
تقسو قلوبهم وقلبك ليِّن
ويشوبهم كدر وأنت مصاف
ولقد سقطت على القلوب وحبها
ونفذت فاشرب سودها بذعاف
وقد استقاك قريبنا وبعيدنا
هذا أنا أفهكذا أحلافي
البدر مطَّلع عليَّ بأنني
أرعى ومطلع على ألَّافي
في ذمة الأشراف ضيعة أمةٍ
لم تدرِ غير عبادة الأشراف
•••
يتنابثون تديُّنًا وتمدنًا
والزرع زرع تشتتٍ وخلاف
الدين والوطن العزيز مُحبب
من دون قسيس ودون صحافي
قصيدة
كيف أصبحتِ فافصحي يا بلاد
فيك ما يعقد الرطاب الفصاحا
أسكون كما هدأت مساءً
أم ضجيج كما انتبهت صباحا
ملأت آلك الفضاء عجيجًا
ما استبانت تهللًا ونياحا
يا ضريح الآمال حولكِ حرنا
أن بعثنا الرجا دفنت النجاحا
زيَّن الدارجون منك بلادًا
بوسام الحمى فعاد مباحًا
آه ما أكثف الحجاب يقينًا
رفرفوا حول ثغرها أرواحا
يا ركاب الأرواح قبلك ركب
رائح أنت فاستبن أين راحا
لم يحلوكِ عقدةً تشغل الفكـ
ـر فهل لازم السرى أم أراحا
ما أضلَّ الإنسانَ ينثر في الأر
ض بذور الشقا ليلقى الفلاحا
نوهته قساوة وبلاء
لقَّبوها شجاعةً وسلاحا
لم تزنه اليدان إلَّا ليُهدي
للبرايا تصافحًا لا صفاحا
سلبت رحمةَ القلوب أمانٍ
ألبسوها مراهفًا ورماحا
حلم خدَّر المشاعر منهم
فتلاشَوْا تنازعًا وكفاحا
تأمن الشاة في السراح وبين النَّـ
ـاس لا يأمن الضعيف سراحا
رثاء عرس
وقد ماتت العروس في زفافها كما تُختطف الوردة.
شمعة العرس ما أجدتِ التأسي
أنت موقودة ويُطفأ عرسي
أنت مثلي مشبوبة القلب لكن
من سناك المشئوم ظلمة نفسي
يا رعى الله للزفاف شموعًا
يتهافتن حول نعشٍ ورمس
عكست حظها الليالي فذابت
خجلًا تسقط الدموع بهمس
هكذا ذاب باحتراقٍ فؤادي
هكذا سورة الدموع برأسي
جلوة أم مناحة لنجوم
يتناثرن بين سعد ونحس
الرجا كان شمعة فتلاشى
وانطفاء صدم الرجاء بيأس
•••
أجلفت دهشة المُصاب الغواني
فتطالعن من ستور الدمقس
تتبارى بخشية وانصداع
تطأ الأرض بارتباك وهجس
كنجوم تكدرت فتهاوت
من سماء إلى حظيرة قدس
فوجئت بالبكا ومذ جمد الدمـ
ـع تباكين باحورارٍ ولعس
أبدلوها عن المنصة نعشًا
طالما ضمَّ رب عرش وكرسي
وترى نعشها كباقة ورد
تتهادى الأكف فيها بخلس
رقدت رقدة النديم بجنب الـ
ـكأس في ساعة ارتياح وأنس
وبحضن الربيع أغفت فماتت
ميتة الورد في ذبول ويبس
رفرفت حولها البلابل خرسًا
وبكاها نزع الحلي بجرس
حزن وادٍ وارى شبابك أن لا
ينبت الورد فيه من كل جنس
أسفًا يُخرج الربيع الرياحيـ
ـن من الترب وهْي في الترب تمسي
وكثير في ذا التراب رياحيـ
ـن تعطلن عن نبات وغرس
قصيدة
يا وحشة الخل الذي
عنكم طواه بعادهُ
مل الوسادَ من الهمو
م وملَّ منه وساده
ما حنَّ في الحي امرؤ
إلا ورنَّ فؤاده
أأُخيَّ يا نَفَس الربيـ
ـع إذا زكت أوراده
كبدي وما كبدي سوى
جرحٍ وأنت ضماده
للقاك أشتاق العراق
فأنت لا بغداده
ذكراي أنت وإن غدت
ذكرى الغريب بلاده
أعتاد تنغيص الحياة
جفاك لا أعتاده
ما بال ربك يا وفا
ء قليلة عباده
وأبو الخطية آدم
وتعذَّبت أولاده
قصيدة
إن تنسني يا لا نسيـ
ـتِ فهذه ذكرى مشوقِ
هل أنتِ ذاكرتي وفي الذِّ
كرى وفاء للصديق
خفق الفؤاد إلى لقا
كِ فهل فؤادكِ في خفوق
خمري وذكري أنتِ في
كاسي وفي الصوت الرقيق
إني أشمك في الورو
د وأشتهيك مع الشقيق
هذا حنيني للحبيـ
ـب وذا وفائي للرفيق
نبتت عليه مغارسي
وعليه قد وشجت عروقي
لا سامح الله الهوى
فلقد تسامح في حقوقي
يا غابر الأيام كم
من جفلةٍ لك في الطريق
هذي المنازل للشقا
ء فكيف منزلنا الحقيقي
كل البيوت لباطل
والحق في البيت العتيق
قصيدة
طيبت نفسي بالقليـ
ـلِ وإنَّ كحل العين ذرَّهْ
والدهر حلو كُلُّه
لكن نفس الحرِّ مُرَّه
كم حسرةٍ في صدره
يا ساعد الرَّحمن صدره
كذب التظاهر كفتا
ميزاننا عجز وقدره
يا نادبين تصبروا
كم تندبون ثرًى وصخره
للنفس سير دائب
بحياتها والموت فتره
لي نشأة ما بين تسـ
ـعة أشهرٍ مرَّت وعشره
كانت حياة وانقضت
لم أدرِ عالمها وذكره
وكذا حياتي هذه
بعد السنين المستمرَّه
تطوى وأُصْبِحُ بعدها
في نشأة أخرى ونشره
ميلادنا ومماتنا
ونشورنا أنواع طفره
قصيدة
خير الربيعين الشباب فليته
كالورد يُرجعه الربيع الثاني
ليت الذي ردَّ الغصون وقد ذوت
خُضرًا يردُّ ليَ الشبابَ الفاني
أو ليت عافية الشباب كوردة
يبست وباقٍ عطرها لزمان
إني وبالحسرات قضيت الصبا
كالعود ينشر طيبه بدخان
نهض الأراك وقد نهضت بجنبه
وكساه ريعان الصبا وكساني
ريان يشربه الصباح نضارة
فكأنما يسقيه باللمعان
وعلى الوجوه من النَّسيم ذكاوة
مثل اصطباح الورد في نيسان
نَفَس الربيع جرى على ماء الصبا
مُتعثرًا بكمائم الريحان
والصبح يهبط منه روح منعش
للزهر أو لطف من الرحمن
والجلنارة حلية ذهبية
قد علقت بذوائب الأغصان
والنبت عمَّم صلع هامات الربى
زهرًا وشد مآزر الكثبان
والنخل حول النهر مثل عرائس
نصت سوالفها على غدران
وجذوعها أشباحُ جانٍ مارد
نهضت بقنزعةٍ من الشيطان
وجرى الفرات جماله بجلاله
مُتجبرًا يزدان بالطغيان
يتفاوت الإبداع في زهر الرُّبى
بتفاوت النفحات والألوان
ما هذه الأزهار إلا تربة
نَبتت لتنشقنا شذى الأوطان
من قصيدة
أناجيك والليل مصغٍ صموت
أمرعية للخليل العهودُ
فضاء تحرك فيه النسيم
وقلب تحرك فيه النشيد
نسيمكمُ لا نسيم الصباح
وريحانكم لا الربيع الجديد
حبيبي ودون الحبيب القفار
بقلبي فقلبي قريب بعيد
ويا قلب صرت دمًا بالفراق
فهيهات هيهات قلبًا تعود
شقيقي برغمي عاد الربيع
وعادت بدون الشقيق الورود
وصعب عليَّ يهب الشمال
وتبقى شمائلنا والركود
كما ذبل الورد أيامنا
تقضت وفيهن عطر شديد
فللمنظر الحلو تبكي العيون
وللرونق الغض تبكي الخدود
•••
ألا نابغ لحياة البلاد
فينبت فيها الجديد المفيد
عسى يتحرك فيها الرجاء
فما أخر الشرق إلا الجمود