وله بعض المقالات نُشرت في مجلة المقتطف وغيرها، وقد أصدر في هذه السنة «مجلة
اليقين» في بغداد، وهي جامعة بين الدين والعلم والأدب.
اليتيم الباكي
إلى كم أنت تكتب بالدموعِ
رواياتٍ عن الخطب الفجيعِ
على قلبي دموعُك نازلاتٌ
ألم ترَه يدقُّ من الدموع
كأن وقوعها جمرات نار
أحر من الصهير على الضلوع
دموع قد أفاضتها عيون
بها لليتم آثار الخشوع
إذا أجهشتُ أجهش لي فؤاد
يُطاوعني على الألم الوجيع
أرقُّ من النسيم هوًى وعطفًا
أبيُّ الطبع للزمن الفظيع
يؤاسي كل ذي حزن بحزن
ويَقتسم الشجون على الجميع
ولو حمَّلته قسطًا ثقيلًا
من الآلام آذن بالخضوع
ولو تشفي الدموعُ غليلَ قلب
إذنْ لشُفيت بالدمع الهموع
على الزمن الذميم قد التقينا
فكيف لنا بإسداء الصنيع
زمان فاز بالقدح المعلى
وفزنا منه بالقدح الخليع
•••
سألقي نظرة مُلئت حنانًا
على البؤساء من طرفٍ خَشوع
يعيش الأغنياء على رخاء
ونحن نعيش في بؤس وجوع
تنام عيونهم بالليل لكن
عيون البائسين بلا هجوع
نشاوى بالغنى سحبوا ذيولًا
وداسوا بالنِّعال على النطوع
نسوا البؤساء في الدُّنيا جياعًا
وخلوهم إلى الزمن المنوع
لكلٍّ من بنيهم ألف ثوب
عليه علامة الصنع البديع
أناموهم على بيض الحشايا
وفي غرفٍ من القصر الرفيع
وأطفال على الأوساخ ناموا
كأفراخ الحمام على الجذوع
وليس لهم سوى الدقعاء فرش
ولا الْتحفوا سوى الثوب اللذوع
يُقضُّون النهار طوًى وجوعًا
ويطوون اللياليَ بالدموع
أحاديث الشقاء لهم عزاء
تعلل نفس ذي البؤس الجزوع
ويضرب منهم ذو السقم عيًّا
بليلته هزيعًا في هزيع
قد انتجعوا فخانتهم قواهم
وهل لكسير قلب من نجوع
رأيتُ اليتم ذنبًا لليتامى
يراه الأغنياء بلا شفيع
•••
مضى أهلي وعرَّضني زماني
لفتكٍ من مصائبه ذريع
يتيم ليس يعرفني قريبٌ
ولستُ على الشقاء بمستطيع
أبي! أمي! علامَ تركْتُماني
ضعيف مطامع وقصير بوع
أجيبا دعوتي، أنا مستغيث
وليس سواكما لي من سميع
لقد همَّا بيوم نوًى قذوف
ولكن لم يهما بالرجوع
يُعاوده التذكُّر كل حين
فيُغضي طرف مبتئس وديع
تذكَّر أُمَّه وأباه يومًا
فأسبل ديمة أخذت بروعي
له قلب، وليس له لسان
يُطاوعه على الدمع المطيع
مضى أبواه قد تركاه طفلًا
ترعرع قبل أيام الربيع
•••
تخرق بعد فقدكما لباسي
وأقدامي بها أثر السلوع
وصرت كأنني حمَل غريب
به انبتَّ الطريق عن القطيع
وحيد في فلا متباعداتٍ
تراميه إلى الكلأ القشيع
يجوع فينتحي رعيًا قليلًا
ويَرجِعُ بالعفاف وبالقنوع
نعم! إني غريبٌ في فلاةٍ
ولكن ماكث بين الربوع
وفقْد الوالدين أشد وقعًا
عليَّ من التغرب والشسوع
وأي تغربٍ كهلاك أهلٍ؟
فمن أُم قضت وأب صريع
•••
وهل لي مثل أمي من مربٍّ
تمسح وجنتيَّ من الدموع
وتقبل إن بكيت لها بوجهٍ
ضحوك الثغر كالصبح الصديع
وتكسوني إذا رثَّت ثيابي
وتسقيني الحليبَ من الضروع
وتحملني على يدها وتحنو
عليَّ بقلبها الشاجي الولوع
فلا حبٌّ كحبِّ أبٍ وأمٍّ
ولا قلبٌ كقلبهما الهلوع
كأني قطعة من روح أمي
كأني قلبُها بين الضلوع
وعاطفة البنوة ذات سرٍّ
خفيٍّ ليس يُعرف بالشيوع
إذا رُوِّعْتُ كانت لي ملاذًا
تزيل الهم عن قلبي المَرُوع
ويسعدني على جزعي بكاها
كماطرة على الروض المريع
تطاوعني إذا سرت الهوينا
وتتبعني على السير السريع
أتيه تدلُّلًا وأميل عجبًا
ويُعجبها عطائي أو منوعي
تخاف على ابنها من كل شيءٍ
فتحمله على كوع وبوع
•••
وكان أبي على عيشي حريصًا
فلما عشت آذن بالصدوع
وكم قد برني وأقام ميلي
كبرِّ الغيث ذابلةَ الزروع
أقام عليَّ خُدامًا وأبقى
عليَّ كرامتي ورجا بروعي
وأدخلني المدارس واصطفا لي
محلَّا للتعلم ذا فروع
وكان يقود رهطًا من جيوش
تسد الشمس في وقت الطلوع
جرت في الحرب معركةٌ عوانٌ
وكرَّ الهاجمون على الجموع
وشد أبي أمامهم بقلب
جريء عند صدمته شجيع
فصادفَت الرصاصة عارضيه
فخر مضرَّجًا بدمٍ نجيع
تذكَّرني على حين احتفاءٍ
وآلم نفسَه وجعُ النزوع
ففاضت روحه وغدا طريحًا
فيا لله من قدرٍ شنيع
وغادرني يتيمًا بين قومٍ
أضاعوني على اليُتم المضيع
•••
حملت أذية في شرخ عمري
أشد عليَّ من سُمٍّ نقيع
ألا يا ليت أمي لم تلدني
ولم أشرب أحاليب الرضيع
تجلَّد يا بني فإنَّ قلبي
كقلبك في التألُّم والفجوع
فليس على أبيك الذنب لكن
على قومٍ أساءوا في الصنيع
أبوك حماهمُ شرَّ الأعادي
ولم يحموك عن عُرْيٍ وجوع
وتلك جناية تقضي عليهم
بذلٍّ للشريف وللوضيع
نسُوكَ وما نسُوا حربًا ضروسًا
أصابتهم بداهيةٍ زموع
فلا تجزع فكل فتًى سيلقى
مكانًا في السفوح وفي اليفوع
عليك أمانة الوطن المُفدَّى
وفيك بقية الشرف الرفيع
الفتاة المخدوعة والشرطي الأثيم
يا أم عرضيَ لا جاهي ولا مالي
إن لم أصنه فلا رعيًا لآمالي
يا أم موتيَ أولى بي إذا افتضحت
بين النساء جناياتي وأفعالي
يا أم إنيَ أخشى أن يُخادعني
بالحب يا أم هذا حب محتال
خذي المواثيق منه أو خذي قسمًا
بأن يبرَّ علينا حلفة الآلي
إنَّ الشباب الذي أغواك رونقه
والله يا أم لا يبقى على حالي
ألم ترَيْ منه ما يكفيكِ تجربة
وحكمة عند ذكرى عهدك الخالي
الشيب علَّمكِ التفكير فاتخذي
ما شئتِ من عظة منه وأمثال
•••
تبسمت وهي كالسعلاة ساخرة
وأدبرت بمُحيا وجهها البالي
قالت: فتاة أضاعت رشدها سفهًا
تُريد تفنيد آرائي وأقوالي
واضيعتي! بعد عمرٍ قد وقعت به
على تجاريب إدبار وإقبال
دعي ابنتي هذه الأفكار واتئدي
فإنَّ غشَّك لم يخطر على بالي
وهل سمعتِ بأم تخدع ابنتها
كيما تبيت على حزنٍ وبلبال
ماذا يُريبك منه؟ إنه لفتًى
مؤدب النفس لا جافٍ ولا سال
زين الشمائل يسبي القلبَ منظرُه
يُحدِّث العين عن فضل وإجلال
لو لم يحبكِ حب الصدق كان له
عُذر بهجرك هجر المعرض القالي
•••
بينا هما في جدالٍ مُفحمٍ فإذا
بصالحٍ جاء يمشي مشي مختال
نادى: فلان … أجابته العجوز نعم
ادخل فديتك … أغلقها بأقفال
فقام كالذئب يشكوها صبابته
ويملأ الجفن دمعًا ليس بالغالي
يقول إني محب! وهو ذو كذب
مالي أطعت هوًى في القلب ما بالي؟
أحب أسماء! بل إني سأعبدها
عبادة الله أبكاري وآصالي
•••
خفف عليك — أجابته العجوز — فما
أراك تعشق بنتي عشق أنذال
إني سأنصحها كيما تحبك من
فؤادها إن بنتي ذات إهمال!
•••
عادت إلى ابتنها في البيت تنصحها
فقابلتها بإجهاش وإعوال
كأنما البنت قد جُنت! فقد أخذت
تهذي بأقوالها من خلف أسدال
يا أم لا تغضبي إنْ كنت صادقة
إنِّي أُحاذر إغوائي وإضلالي
حيث التفتُّ أرى نفسي تعنفني
أرى أمامي ظلامًا مثل أجبال
أرى أماميَ أشباحًا تُروِّعني
أرى أبي بينها يُوحي بتعذالي
أبي! أبي! فانظريه فهو ذاك أتى
يا أم يُنذرني ليلًا بأهوال
يا أم إني أرى ما لا ترَيْنَ فقد
علمتُ أَنِّي سأُكْسى ثوب إذلال
لا تأمنيه على عِرضي فمُنيته
بلوغ شهوته مني وإغفالي
•••
قالت لها أمها: ما أنت مرشدتي
ما كان أرشدني عن رأي أطفال
مجنونة أنتِ قبل اليوم فاتبعي
رأيي ولا تزعجي قلبي بتسآلي
لقد علمتُ بما في نفسه فدعي
إليَّ أمركِ واستهدي بأعمالي
يريد جعْلك يا بنتي حليلته
من يومه فابشري بالمنصب العالي
فإنه شُرَطيٌّ في حكومتنا
على جنودٍ من الفرسان أبطال
السوط في يده من فضةٍ وله
مسدس بنضار خالص حال
•••
كانت فتاةً عن الفحشاء طاهرة
نجيبة ذات أعمام وأخوال
بكر رداح لوَ انَّ الناظرين رأَوْا
جمالها اتخذوه أيَّ تمثال
لا تعرف الإثم مِن طُهرٍ ومِن أدب
ولم تجر على ريب بأذيال
تبكي إذا عذلتْها أمُّها حزنًا
وأمها أُولعتْ بالقيل والقال
•••
دعته: يا صالح ادخل قد قنعتُ بما
أكدتَ من وعد صدقٍ غير إعضال
هذي ابنتي فهلمَّ اخطب مودتها
إني رضيتُ بإكثارٍ وإقلال
رأيت أسماء أمست غير راضية
مما تحاول من ريثٍ وإمهال
تعالَ إنك منا صرتَ ذا نسبٍ
أنعم بصهر كريم النفس مفضال!
•••
فجاء من غرفة بالدار مظلمة
إليهما ساحبًا أطراف سربال
فقالت ادخل إليها … وهي خارجة
وكن به من زواج ناعمَ البال
غدًا سيعقد شيخ الحي مهركما
غدًا سندعو سراة القوم والوالي
•••
أصابها وظلام الليل معتكر
ما كان يُسمع إلا جرسُ خلخال
خلا بها فدعاها وهي قائلة:
ألا مُغيث فراعته بولوال
فكمَّ فاها بمنديل وهددها
بالقتل حتى قضى أمرًا بإِعجال
جناية كان هذا الأمرُ أولَها
وكان أفظعَ منه الحادثُ التالي
وحين لاح ضياء الفجر ودَّعها
وقال للأم عندي بعض أشغال
أزوركم في مساء اليوم فانتظري
عَودي فإنيَ مأمورٌ بأعمال
ولَّى فعض على أطراف أنمله
غيظًا وقال بلغتُ الآن آمالي
•••
مضى فبلَّغ عن كلتيهما خبرًا
إلى رئيسٍ سريع الفتك ختال
فقال: مولاي مر جندًا تُصاحبني
فقد عثرت بدارٍ مثل أطلال
تقيم فيها فتاة غير طاهرة
مُريبة ذات أخدان وأخلال
شهدتها أمسِ والشبانُ تطرقها
ليلًا وقد شربوا أقداح جريال
•••
فقال: خذها ولا ترحم شبيبتها
إلى مكانٍ من الفحشاء محلال
•••
فعاد أدراجه والجند تتبعه
طورًا زفيفًا وطورًا سير إرقال
حتى إذا بلغوها قال: لا تهنوا
نهبًا وهتكًا لأموالٍ وأثقال
جندي! أحيطوا بها من كل ناحيةٍ
وأوثقوا يدها شدًّا بأحبال
فضيعت رشدها ماذا تقول لهم
وكيف تدفع عنها جند أرذال
وأودعوها مكان العهر فابتُليت
بجنة ذات أمراض وأغوال
وبعد شهرين ماتت، إنها بُليت
بداء سلٍّ شديد الفتك قتال
لهفَ العفاف على عذراءَ قد قُتلت
بالإفك واهًا على بيضاء معطال
•••
قل للحكومة ويل للرعية من
موظفين لئام الطبع جُهَّال
هانت على الحُرِّ وقعًا كل نازلة
إلا المصيبة في عِرضٍ وفي مال
الوردة والفراشة: مقتبسة عن فيكتور هوكو
فراشة وقعت يومًا على شجرٍ
تفتحت فيه أزهار وأكمامُ
قالت لها زهرة صفراء ناضرة
وقلبها فيه أحزان وآلام
لا تهربي وأجيبيني بمسألةٍ
عن حظنا وحظوظ الخلق أقسامُ
شأني وشأنك في أمريهما اختلفا
لغيرنا فيهما نقض وإبرام
تمضين أنتِ إلى العلياء طائرة
ولا أطير ولا لي ثَمَّ إعزام
لقد ضجرت ولكني على ضجري
أحب نفسي وما في حبها ذام
أعيش والنَّاسُ عني مُبعدون وكم
في قُربهم عِللٌ شتى وأسقام
أشبهتِني فلنكن زهرًا نطير معًا
لنا بما فوق هذا الروض إلمام
لكن أرى الأرض وا لهفاه تُمسكني
والريح تعليك هذا الحظ ظلام
إني سأعطيكِ من عَرفي الجميل لكي
يعطر الجوَّ نشرٌ منه نمام
لا لست أعطيكِ، إنَّ الزهر يصحبني
وأنتِ يُقصيكِ إنجاد وإتهَام
رضيتُ عيشيَ وحدي في الرياض أرى
ظلي وينعشني ضوء وإظلام
وتهربين فتأتين الضياء إذا
رأيتِ نارًا لها لمع وإضرام
في كل صبحٍ بكائي دائمٌ وعلى
خديَّ من عَبرات الفجر تسجام
آهٍ لحُبِّكمُ الماضي الذي ذهبتْ
به ليالٍ سعيداتٌ وأيام
خذي — كما ليَ — جذرًا أو هبي ورقي
جنحًا — كما لك — والآمال أوهام
خطرات وعبرات قبل الولادة وبعدها
ليت أني بقيت فيكم وليدًا
تتولى شئونيَ المرضعات
مُدَّة الدهر ما حييت وهمِّي
جرع أرتوي بها صافيات
فقعود في المهد أحسن من سيـ
ـر حثيثٍ في ضمنهِ عثرات
ولبان أحلى إليَّ من الما
ء أفاضته دجلة والفرات
حلم كانت الحياة فقد فا
تت وجاءت من الشباب حياة
لست أدري ما كنتُ أعمل فيها
أهون العيش ما به الغفلات
ما بكائي حزنٌ ولا لسرور
بسماتٌ من فيَّ مبتدرات
تتلقَّى الأحزان عني أُمِّي
بفؤادٍ أشجانه صادقات
فإذا ما بكيت آلمها صو
تي وسالت دموعها الحاميات
وإذا ما ضحكتُ آنستُ منها
نظراتٍ وراءها بسمات
وكفاها من زينتي وكفاني
خِرقٌ لفَّتْني بها بالِيات
حملتني على يديها وناطت
بي قماطًا تنوطه الأمهات
أوثقتني مثل الأسير وضمَّتْـ
ـني ولم تشفِ نفسها القبلات
وضعتني بحجرها وكذا الأطـ
ـفال تحنو عليهمُ الوالدات
نظرتني وجهًا لوجهٍ كأني
لمعانٍ في نفسها مرآة
عجبتْ من طفولتي وتمنَّت
أن تراني فتًى له عزمات
هو حب من السماء أتاها
ليس فيهِ تهاون وافتئات
قدَّسته الأبناء من عهد قابيـ
ـل أخينا وقدَّسته البنات
ورأتهُ حواء معنًى جميلًا
قصرت دون فهمه الكلمات
خرست دونه اللغات وللحبِّ
الذي يحمل القلوب لغات
ألسن في الضمائر البيض فصح
قائلات عن سِرِّه ناطقات
كغناء من الفضاء إلهيٍّ
تجلت بوقعه النغمات
•••
أي قلبٍ كقلب أمٍّ رءوم؟
عظمت في شغافه العاطفات
أين أمي؟ ولا حبيب كأمي
أين تلك الشمائل الطاهرات
حبستني عنها الخطوب وحالت
بين قربي وقربها حائلات
•••
ارفقي بالوليد لا توثقيه
فله من أمامه نكبات
هو ثقل عليكِ في الحمل والوضـ
ـع وحزن حياته والممات
وسِّعي دونه الفضاء ففي الأر
ض عناء وفي الثرى ظلمات
فالسماء الزرقاء والنور والفجـ
ـر ووقت العشيِّ والغدوات
والظلام المنشور والبر والبحـ
ـر وسهل البلاد والهضبات
جالبات إليه شجوًا إذا ضا
قت به في أيامه الحالات
قد تفاءلت أن يكون سعيدًا
وعليهِ من الشقاء سمات
لا تراعي له فأنت من الدَّهـ
ـر عليه والحادثات جناة
لو كفاك التجريب ما حَبَّب العيـ
ـشَ إليك الفتيانُ والفتيات
•••
ما الذي قد رأيتِ في هذه الأر
ض وماذا تفيدكِ الرغبات
ملئت بالأكدار في كل ماء
فهْي إن تصفُ كَدَّرَتْها السقاة
اسمعي عن وقائع الحرب كم ذا
كان فيها على الورى ويلات
تهلك الناشئين موتًا وتقتيـ
ـلًا وتُردي الكماةَ فيها الكماة
من يتامى ومن أيامى ومن قتـ
ـلى وجرحى كأنهم أموات
إنَّ للسقم ما ولدت وللمو
ت وللحرب حين تدعى الحماة
قدميهم إلى «ملوخ»
١ قرابيـ
ـن فهم في نيرانه حسنات
ذاك عهد مضى وهذا زمان
فيه كل النيران معبودات
فاعلمي أنَّ كل مجد بنته
فُوهات المدافع القاذفات
ليت شعري عهد الرضاعة هل أيَّـ
ـامك الماضيات لي راجعات
كنت فيها أضم بين صدور
ونحور تزينها لبات
هادئ القلب لست أعقل شيئًا
لي نوم حينًا ولي يقظات
•••
عمر كالأحلام مر ووقت
حان مني يومًا إليه الْتفات
إن في المهد للرضاعة عهدًا
طُويت في أيامه اللذات
حركات هي المنى وأناشيـ
ـد أجادت إيقاعها المنشدات
هزةُ المهد هزةٌ تتناهى
عندها من أوصاليَ الحركات
وإذا ما ظمئت للَّبن الطا
هر سالت إلى فمي درات
لا عناء ولا جهاد ولا حز
ن ولا لوعة ولا إعنات
•••
سهل الأمر أولًا ثم لاحت
من خلال الآمال لي عقبات
يا دليلي متى الوصول؟ وأين الـ
ـمنتهى؟ فيمَ هذه الوقفات؟
أنت حيران والطريق رشيد
أين طاحت بقلبك الغفلات
أرجوعًا إلى القديم فلا رجـ
ـع ولكن تقدُّم وثبات
أنهكتك الطريق في أول السيـ
ـر فكيف المراحل القاصيات!
ما تزودت من متاع كثير
قبل أن يأخذ الجميع شتات
إن في السير شدة فليكن للـ
ـقلب حينًا تجلُّد وأناة
فقليل من الزمان كثير
والبقايا من المنى صالحات
الذئب والحمل، أو القوة والضعف
اسمع ففي القول تذكير وموعظةٌ
حكاية الذئب ذي العدوان والحملِ
أصابه يومَ قيظٍ صائف ظمأٌ
فانصاع يطلب ماءً وهو ذو ملل
حتى أتى جدولًا تجري مناهله
في السهل نازلة من قمتي جبل
فجاءه فروى بالماء غلته
بعد العناء وبعد السير والكلل
فمر يعسل
٣ بين الريث والعجل
طاو لواه الطوى من سبعة ذهبت
٤
عليه بالجوع في الإبكار والأصل
ما ذاق فيها من اللحم العبيط
٥ ولا
من القديد ولا من سائر الأكل
ولم يشق بها بطنًا ولا كرشًا
وطالما اعتسَّ
٦ بين اليأس والأمل
إن كان للذئب أن يلقى فريسته
فما الرعاء عن الخرفان في شغل
•••
وافى إليه على حرص وقال له
وفي السريرة معنى السوء والدغل
ماذا أتى بك في أرضي لتفسدها؟
كدَّرت صفوي خلطت الماء بالوحل
•••
فقال للذئب: يا مولاي موردكم
عالٍ وإني شربت الماء من سفل
أين اليفاع من الأرض التي انحدرت
وأين ماؤك من علِّي ومن نهلي
الماء من نحوكم آتٍ فمن عجب
مولاي أن تحسب التكرير من قِبلي
وكنت ظمآن من حرٍّ ومن تعب
قضى علينا به الراعي بلا مهل
قد ساقنا في حرور الشمس فافترقت
لم أدْرِ أين قطيعي، أين مرتعه؟
وكنت أتبعه في آخر الرَّسَل
٨
فاسمح! فإنيَ ضيف في منازلكم
والضيف يُكرم في حل ومرتحل
•••
أبدى له الذئب أنيابًا وقال له
بلى لقد جئتني بالحادث الجلل
كدَّرت مائي ولم تقصد بذاك سوى
إهانتي وأردت الشر بالعمل
هذا وإنك يومًا كُنت تشتمني
من قبل عامين من أيامك الأُوَل
•••
فطأطأ الحمل المسكين هامته
أمامه قائلًا من غير ما خطل
مولاي هذا مُحال إنما عُمُري
شهران إنيَ لم أكبر ولم أَحُل
٩
ما زلت مُرتضعًا أمي فتُرضعني
مولاي من لبنٍ في الثدي محتفل
•••
تنمَّر الذئب من لؤمٍ وقال له
بلى لقد نلت من عِرضي فلا تسل
إن لم تكن أنت فالجاني عليَّ إذنْ
أخوك، لا تنتحل عذرًا ولا تطل
فقال يا سيدي والله لم يكُ لي
أخٌ فقد رعتني باللوم والعذل
•••
فقال إن لم تكن هذا وذاك فقد
يكون جارك في المرعى وفي النزل
أو ابن عمك أو نذلًا علمت به
من الأقارب أهل الجبن والكسل
أهانني وهْو محشور بثلته
ونال من شرفي جهلًا ولم يبل
•••
… مولاي إني بريء غير مقترفٍ
إثمًا أمِنْ أجل غيري أنت مختتلي
١٠
أنا الضعيف وليس الحق ينفعني
تُريد أكليَ فافعل غير ما وجل
لو كان ذاك فما بالي وبال أخي؟
لا الذنب ذنبي ولا عذري بمنتحل
غيري المسيء وألقى عن إساءته
جزاء لا عاجز عني ولا وكل
للقوة الحق فافعل ما تشاء فما
تجدي الحقيقة إن ضاقت على الحيل
إن الضعيف الذي يحمي جوانبه
مستمسك بعرًى مفصومة الوصل
١١
•••
أجابه الذئب يا مسكين إن لنا
حقدًا متى هجته كالنار يشتعل
فأنتمُ معشر الخرفان كلكم
أعداؤنا اللد في ليلاتنا الطول
كم من خروفٍ يُعادينا ويشتمنا
ونحنُ نكظم غيظًا غير محتمل
وغير هذا نُقاسي من رُعاتِكمُ
ومن كلابكمُ مُستنكر الوجل
وهم يقولون فينا كل منقصة
شرًا من الصلب أو شرًا من الهبل
١٢
قد قبَّحوا بين كل الناس سيرتنا
بين الثعالب والغزلان والوُعُل
هم الكلاب أعادينا اللئام وهم
حماتكم والدجى مُغمٍ على المقل
الآن آخذ ثاري منك مُنتقمًا
عن البعيدين من أهلٍ ومن خول
•••
تَحَفَّز الذئب مشتدًا بوثبته
وشق ما بين رجلي ذلك الحمل
لم يُغنِه العذر لما كان مُعتذرًا
ولا أفادته شيئًا صحة الجدل
•••
إنَّ الضعيف وإن حُقَّت مقاصده
فريسة للقويِّ الفاتك البطل
وأغلب الأمر أقواه وأكثره
وكل شيءٍ فمقدور على العلل
•••
لما رأيت عن التصريح مُتَّسعًا
في القول جئت ألوم القوم بالمثل
من يفهمِ اللغز يُدركْ ما تضمَّنه
وفي الإشارات سر ليس في الجمل
إذا أردت جعلت الشعر فاغرة
١٣
رقطاء تكشف عن أنيابها العصل
١٤
وإن أردت قلبت الشعر شادية
ورقاء تخلب لب العاشق الثمل
وتارة أنا أبكي السامعين إذا
وقفت أنشدهم إنشاد محتفل
سكتُّ لما رأيتُ الشِّعر مُبتذلًا
وأحسن القول شعر غير مبتذل
لقد سئمت من الأقوال أسمعها
على المنابر من فخرٍ ومن غزل
فتًى وشعري فتًى نالت عواطفه
من القلوب مكان الحزن والجذل
•••
يا قوم فليتعظْ من كان مُتَّخِذًا
من الأمانيِّ حبلًا غير منفتل
يا قوم ذلَّ ضعيفٌ عاجزٌ ونجا
من الهوان قويٌّ غير مختذل
إن قلتمُ فاعملوا أو تعملوا فخذوا
مناهج الصدق والإخلاص في العمل
لقد بنيتم من الأوهام شامخة
عمياء تخفي علينا لاحب السبل
ملت نفوس من الغوغاء صاخبة
•••
ويا شبيبتنا ماذا يكونُ لكم
غدًا من الفضل والعلياء والنبل؟
دعوا السباب فما تُجدي قوارعه
إنَّ السباب سلاح الجبن والفشل
وبالحقائق فأْتونا فما ربحت
شبيبة تتحدَّى باطل الأمل
خلوا لغيركمُ الأقوال واشتغلوا
بالعلم كم لكمُ بالعلم من شغل
واليأس فاجتنبوا اليأس الذي لعبت
بكم وساوس منه لعب مختبل
الشعب يرجو لكم مُستقبلًا حسنًا
والوقت فاقتبلوه أيَّ مقتبل
داء السياسة داء لم يُصب جسدًا
إلا رماه عن الأعمال بالشلل
آلام الحياة
ثَمَّ، في الصحراء، في القفر الجديب
فوق غصنٍ شائكٍ غير رطيب
أخذت منه شَمال وجنوب
يتباكى بلبل الوادي الغريب
•••
كان من قبلُ مُحبًّا مُغرمًا
علَّمتْه الحُبَّ أملاك السما
فلماذا لا يُرَى مُبتسما
بعدُ إلا بسماتٍ بقطوب
•••
أي قلب للمُحِبِّ المبتلى
ضيع الماضيَ والمستقبلا
ذاهل عن كل شيء ما خلا
نزعة من ذلك الحب الكئيب
•••
يا غريبًا ضاع في أوطانه
يملأ الصحراء من ألحانه
نغمًا تكشف عن أحزانه
كلنا مثلك مهجور قريب
•••
اسأل الأسحار عن أحلامنا
واسأل الظلماء عن آلامنا
قد نفثنا السم من أقلامنا
هو سم لا يُداويه طبيب
•••
قذفتك الرِّيحُ منْ رِيف فريف
مثلما تقذف أوراق الخريف
أصغ، تسمع من أغانينا حفيف
ادن مِنَّا أعد الصوت الطروب
•••
ههنا حيثُ يفيض الرافدان
يرويان الزرع في كل مكان
فلماذا تاركٌ هذي الجنان
ومقيم أنت في السهل الجديب؟
•••
ادن منا وبأنغام السماء
غنِّنا إنَّ تراجيع الغناء
تملأ الأنفس عزمًا ورجاء
وتُهيج الحب في نفس الحبيب
•••
نفحة الفجر وأنفاس الغسق
قلبت نفسك تقليب الورق
ألفكر أم لشأن قد سبق؟
تشغل الآلام قلب العندليب
•••
أنت يا بلبل مثلي أو أنا
مثلك اسمح واقترب إن هنا
عبراتٍ من فرادى وثني
هي والله دمع من قلوب
•••
اعبِسَ او أقبلْ بثغر يضحك
بك لا يعبأ هذا الفلك
لا، ولا النور، ولا ذا الحلك
لا كما قدرتها تأتي الخطوب
•••
اصطبر واسخر بآلام الحياة
وامحُ بالبسمة هذه العبرات
هي إن تعبس فكن ذا بسمات
خاليَ القلب ودع عنك النحيب
•••
صدت آلامنا مثل الضباب
فغدت في الأُفُق الصافي سحاب
كل ما يرفعه هذا التراب
خالد يُعرض في يومٍ عصيب
•••
هي دنيا كل ما فيها شجون
فاغض عن كل مساويها الجفون
إنما سخطك فيها كالجنون
والتغابي سلوة الصب الأريب
•••
نادِ أفلاك السموات العُلى
واندب الفَجر إذا الفجر انجلى
واملأ السهل بكا والجبلا
نادِ هل من سامعٍ أو من مجيب
•••
آهِ من صمتٍ على الأرض عميق
خرس الكون، فهلا تستفيق
هذه الآلام تذكو كالحريق
في فؤاد دنِف كاد يذوب
النحلة والجلنارة
وروضة من رياض الشام ناضرة
طرقتها وضياء الفجر قد لاحا
تعطرت نفحات الريح حاملة
عن زهرها حسرات عَرْفها فاحا
كأنما مَدَّ في ساحاتها ملك
جناحه وسرى في الفجر مرتاحا
كل الطبيعة من ماءٍ ومن شجرٍ
أصغت إلى الشعر إيماءً وإفصاحا
كأنما الفجر قد أوحى الظلام له
أمرًا فأرشح بالأنداء إرشاحا
•••
ونحلة من بنات النحل قد وقعت
عطشى على زهرةٍ فيها ندًى ساحا
تشكو إليها سهادًا طول ليلتها
والليل يُظهر للأبصار أشباحا
•••
قالت لها الزهرة الحمراء باسمة
لا تبأسي وانعمي يا أخت إصباحا
أسقيك ما شئتِ من مائي ومن عسلي
ما دام في الأفْق ماء الفجر نضَّاحا
لكن رأيتك — وا لهفاه — عاملة
من أجل غيرك لا تجنين أرباحا
تعطين غيرك من شمعٍ ومن عسلٍ
وتشربين من الأزهار أمذاحا
١٦
•••
قالت لها نحن كلتانا على شبه
من شأننا فخُذِي عِلمًا وإيضاحا
فإنما أنتِ يا أختاه صائرة
رمانة أتعبتْ بالسَّقْي فلاحا
يشريك غير الذي يجنيك منهمكًا
وتُحرمين الذي يسقيكِ ممتاحا
•••
الجلنارة قالت وهي ضاحكة
يا أخت لا تُكثري بالقول إلحاحا
كلٌّ على أمره يا أخت منغلبٌ
ولو غدا بسداد الرَّأي أو راحا
ولو تَفكَّر مَخْلُوق بعيشته
لما تمنَّى لها يا أخت إصلاحا
تحية الشهداء١٧
لا تدفنوا الدم بالتراب فإنه
يجري لنصر الحق فهْو مطهر
بل فاكتبوا منه على أعلامكم
كِلْمًا كنيران الغضا تتسعَّر
هذا دم الشهداء يهدر فيكمُ
لا تتركوه على البسيطة يهدر
قُتِلوا بلا ذنبٍ فجاء إليهمُ
جبريل يبكي والملائك حُضَّر
فخذوه ذكرى في الثياب فرُبَّما
ينسى وفاء عهوده المتذكر
أو فالطخوا بنجيعه جبهاتكم
فالمسك في قطراته والعنبر
لا تغسوا بالماء أرضًا دُنست
بالظالمين فكل ماءٍ أكدر
بل فاغسلوها بالدماء فإنها
تنفي الأذى فيطيب منها العنصر
ظلت دماء الأبرياء رخيصة
ذنب الزمان عليهمُ لا يُغفر
شيب وشبانٌ وأطفال لهم
في السعي للعلياء فعلٌ يُشكر
يتطلبون الحقَّ من مُستعبِد
مَلَكَ البلاد فظلمه مستنكَر
عُزْلٌ ولكن الثبات سلاحهم
عقدوا الرجاء بذمة لا تخفر
الصدق عهد والوفاء عزيمة
والحق دين والرجاء مقدر
أصواتهم بلغ السماءَ رنينُها
تدعو الإله: لِيهْلِكِ المتجبِّر
ولْيخسرِ الطاغون غير أعزة
ولْيُنصرِ الحق الذي لا ينصر
في الأفْق أصواتُ التضرع قد علت
ترتاد عرش إلهها وتُكبِّر
ليست كأصوات المدافع إنها
لَأجَلُّ منا في السماء وأكبر
وقفت حيال العرش تدعو ربها
والدمع والدم في المواقف يقطر
قالت تركتَ الظالمين بأرضنا
والناس من أعمالهم تتضجر
سفكوا الدماء وأفسدوا فيها فما
رُحم الضعيف ولا أُعينَ المقتر
يا رب ما فرعون أظلم منهمُ
بل هم أضل عن الرشاد وأجور
يا رب خُذ بحقوقنا من أُمَّةٍ
تأتي الفِعال المُنكرات وتغدر
ظُلْم تُهز له السماء ومن بها
وله مَلائكة العلى تتذمر
لِمَ لا تَميدُ الأرض في أبنائها
ولقد جرى فيها النجيع الأحمر
فمدامع الأيتام تَسفك فوقها
تلك الأيامى أدمعًا تتحدر
الله يشهدُ والملائك أنَّهم
ظُلموا وهم ضعفاء لم يتكبروا
طلبوا الحقوقَ وكلهم مُستهلك
فأبى عليهم ظالم مستعمر
يا لَلرجال ويا لَظلم حكومةٍ
كذابةٍ فيما تسر وتجهر
•••
النيل يجري في البلاد وماؤه
في كل أرضٍ خصبةٍ يتفجر
فخريره ألم وجيع صوته
وهدوءُه حزن خفيٌّ مضمر
مستثقل ظلم الحكومة نادب
عهد الهناء مضت عليه الأعصر
يرجو الحماية من بنيه وكلهم
سهل عليه المطلب المتوعر
من كل بر بالعهود مُقدم
لا ينثني جنبًا ولا يتغير
•••
فتيانَ مصر إلى الدفاع تقدَّموا
فالمجد في أيامكم والمفخر
لكم البلاد وأنتم أبناؤها
ولكم بشعبكم العديد الأكثر
فتطلبوا الشرف الرفيع لأمةٍ
مظلومةٍ ودعوا الخلاف وشمِّروا
صوت من الإنسانية
أفي الأرض تبقى أم إلى النجم ترفع؟
نفوس لها في الأرض مبكًى ومجزعُ
لعل لها بعد المنية رقدةً
تخفف عنها بعض ما تتوجع
وتنسى بها بؤس الحياة وشرَّها
فإنَّ حياة البائسين تفجع
لقد ساءها ما في الحياة وسرَّها
لها في الثرى بين المقابر مضجع
ستردى جسوم طال فيها ثواؤها
فتفنى ولا تبلى النفوس وتصدع
وقد زعموا أنْ سوف تفنى نفوسنا
وقد حسبوا أنْ ليس للناس مرجع
أمن سنن الإنصاف أنَّ حقوقنا
تضاع؟ وأنا بعد هذا نضيع
ومن ذا الذي يقتص من كل ظالم
لكل ضعيف يستهين ويخضع
فلا بد من يومٍ يجازى بمثله
ذليلٌ على أعماله ومرفع
•••
تمتعت من نجم الثُّريا بنظرةٍ
لك الله ما هذا الذي أتمتع
أحاول أن أرقى إليها بجثتي
وما لي إليها سلم فيه أطلع
أهيم إذا لاحت لها وبحسنها
ويخفق قلبي كلما هي تلمع
فيا أيُّها النَّجم المُطِلُّ على الورى
لمثليَ أن يثوى بمثلك مطمع
فيا ليت أني قبل موتيَ صاعدٌ
إليك وأني في بلادك أرتع
وكنت إذا ما جنَّ ليلٌ وأشرقتْ
كواكب في داجٍ من الليل شرع
نظرت الثُّريا ثم أغضيت ناظري
وقلتُ ألا ليت المنية تسرع
لأنجوَ من أرضٍ بها الفضل ضائع
وفي أهلها بالشر والسوء مقنع
فقد سئمت نفسي الثواء بمجمع
تُزيَّن فيه المنكرات وتُصنع
يذل به المستضعفون ويعتلي
به الظالم المستكبر المترفع
فيا أرض ما لي في بلادكِ موطن
ولا ليَ أطلالٌ ولا ليَ أربع
سقتك دماءُ الناس وهي بريئة
وتسقيك أيضًا للأرامل أدمع
ففي كل بَرٍّ منك للحرب وقعة
وفي كل بحر منك للدم موقع
أمات حنانٌ في النفوس ورأفة؟
فأوزعها بالبُغض والحقد موزع
بني الأرض هل في الأرض مِثْقَالُ ذرة
من العدل يرعى الحق فيها ويتبع
ألا مرشد منكم إلى سُبُل الهدى
فيأمر بالمعروف فيكم ويصدع
هُريقت دماء يملأ الأرضَ سيلُها
لذاك ترابُ الأرض أسود أسفع
دماء جيوشٍ هاجمين كأنهم
شياطين جاءت من جهنم قُمَّع
ترى النَّار من كل النواحي تجيئها
فلم تكُ تدري كيف تمضي وتُهرَع
فمن تحتها الألغام تصدع أرضها
ومن فوقها تأتي صواقع تصقع
فيا ويل جند مهطعين إلى الوغى
أمامهمُ جند من الموت مهطع
رمتهم بنارٍ من سماء عصائب
مِنَ الطَّير مَيْسُور لها الشر مجمع
كأنَّ سحابًا يمطر النار فوقهم
فيُحرقهم غيث من النار مترع
أتتهم أعاصير الرِّياح بنارها
على أرضهم فالأرض قفراء بلقع
وفي الترب مخبوء لهم كل خاسف
لهم مصرع فيه وللترب مصرع
مشاهد تستبكي الجمادَ خطوبُها
وتخضع منها الراسيات وتخشغ
أتانا بها عصر الفضيلة ما أتى
بها زمن فيه ثمود وتُبَّع
•••
سمعت أنينًا في البلاد مرجعًا
إليكم فما هذا الأنين المرجع
تُعل له الأكباد وهي صحيحة
وتضطرب الأحلام منه وتفزع
فقيل بلاد تُهلك الحربُ أهلَها
فهم بعدها قتلى وجرحى وجُوَّع
أُبيحت دماء الأبرياء وما لها
شفيعٌ إلى الإنصاف والعدل يشفع
أُبيحت دماء الناس فيها وما لها
إلى أحدٍ إلا إلى الله مفزع
•••
تُربَّى على سفك الدماء نفوسُكم
وتُفطم في حب الشقاق وترضع
لقد وَلدتْ حواءُ أظلمَ نطفةٍ
فمنزلها بين العوالم أوضع
متى يرعوي الإنسان عن بعض غَيِّهِ
على أنَّه لم يَبْقَ في القوس منزع
يقولون إنَّ العصرَ عصرُ هداية
وفيه لأنوار الفضيلة مطلع
يهذب فيه الناس بالعلم والحجى
فكل امرئٍ بالحب والرفق مولع
قد اقترفوا إثمًا يُهدِّم ما بنَوْا
فهل مقلع منهم عن الشر يقلع
سقَوْا أكؤسًا من حقدهم فنفوسهم
تكادُ بمطوي الأذى تتهوع
فيا زُعماء الحرب إنَّ نفوسنا
وأموالنا من غير ذنبٍ تُضيَّع
على رسلكم إنَّ المطامع دَمَّرت
بلادًا بها نور من العلم يسطع
على رسلكم إن اليتامى دموعهم
إلى الله تهمي في العيون وتهمع
فإن تجنحوا للحرب فهي فظاعة
وإن تستحبوا الجهل فالأمر أفظع
دعوها دعوها سبة إنَّ ذكرها
يُقبِّح من أعمالكم ويُشنِّع