كلمة العرب
إن كلمة العرب في مقدمة ابن خلدون من الكلمات التي ولَّدت أغرب الالتباسات، وأنتجت أسوأ النتائج.
ذلك لأن ابن خلدون استعمل الكلمة المذكورة بمعنى «البدو» و«الأعراب»، خلافًا للمعنى الذي نفهمه منها الآن، كما يتبيَّن من الدلائل والقرائن الكثيرة المنبثَّة في جميع أقسام المقدمة.
إن عدم انتباه القراء والباحثين إلى هذا الاستعمال الخاص أدَّى إلى أخطاء عظيمة في فهم مقاصد ابن خلدون؛ لأن ذلك أظهره بمظهر المتحامل على العرب، وحمل بعض الشعوبيين على الاستشهاد به، كما دفع بعض القوميين إلى الهجوم عليه.
إن هذه النتائج السيئة كانت قد ظهرت بأجلى مظاهرها في العراق قبل مدة، حينما قام مدير المعارف العام بحملة عمياء على ابن خلدون — في خطبة ألقاها على المعلمين — زاعمًا بأنه من الكافرين بالعروبة، وقائلًا بوجوب حرق كتبه ونبش قبره باسم القومية!
ولقد كنت كتبت عندئذٍ مقالةً في الرد على تلك الحملة، داعيًا إلى «النظرة القومية المنورة»، ونشرت المقالة المذكورة في مجلة الأمالي التي تصدر في بيروت من جهة، وفي جريدة البلاد التي تصدر في بغداد من جهة أخرى. وقد بنيت الملاحظات التي سردتها فيها على المعنى الخاص الذي يعنيه ابن خلدون من كلمة العرب، مستشهدًا على ذلك بنصوص عديدة وقرائن كثيرة.
والآن وقد أكببت على كتابة هذه الدراسات عن مقدمة ابن خلدون، رأيت من الضروري أن أعود إلى بحث هذه المسألة، وأتخذها موضوعًا لدراسة ضافية لأهميتها الخاصة.
١
-
(١)
يقول علماء اللغة وواضعو المعاجم بوجوب التمييز بين «العرب والعربي»، وبين «الأعراب والأعرابي»؛ لأن مدلول الأعراب والأعرابي لا يشمل إلا من كان بدويًّا، وأمَّا مدلول العرب والعربي، فيختص بأهل الأمصار على رأي بعضهم، ويشمل أهل الأمصار وسكان البادية على حدٍّ سواء في رأي الآخرين.
غير أن هناك شواهد عديدة تدل دلالةً قطعيةً على أن هذا التمييز لم يكن قديمًا كل القدم، ولا شاملًا كل الشمول؛ فإن جميع معاجم اللغة تشرح عبارة «تعرَّب الرجل» بقولها: «أقام بالبادية وصار أعرابيًّا»، كما أنها تشرح كلمة «العربي» بقولها: «البيِّن العروبة والعروبية، والذي له نسب صحيح بين العرب وإن كان ساكنًا في الأمصار»، وذلك مما لا يدع مجالًا للشك في أن العلاقة «بين مدلول العرب وبين مدلول البدو» كانت قويةً جدًّا حتى عند وضع المعاجم المذكورة وتدوينها.
يظهر من ذلك أن مدلول كلمة العرب تطوَّر تطوُّرًا كبيرًا خلال أدوار التاريخ، ويمكننا أن نعيِّن اتجاه هذا التطوُّر بالصفحات الثلاث التالية:- أولًا: كان مدلول كلمة العرب يختص بالبدو وحدهم.
- ثانيًا: صار يشمل هذا المدلول من يسكن المدن والأمصار من غير أن يقطع صلاته بالبادية، وبتعبير آخر صار يشمل كل من يحافظ على نسبه بين البدو، ولو كان من سكنة الأمصار.
- ثالثًا: صار يشمل مدلول كلمة العرب سكنة الأمصار أيضًا، بقطع النظر عن صلاتهم بالبادية، أو رجوع نسبهم إلى البادية.
من البديهي أن التمييز بين العرب وبين الأعراب هو من ثمرات الطور الثالث الذي أشرنا إليه آنفًا.
-
(٢)
ومما تجب ملاحظته أن هذا التطور لم يكن تامًّا ولا قاطعًا؛ لأن الطور الأول لا يزال مستمرًّا في استعمال العوام، كما أن الطور الثاني قد ترك آثارًا عميقةً في الأدب أيضًا.
فقد تعوَّد الناس — في جميع البلاد العربية — استعمال كلمة العرب بمعنى البدوي والفلاح، فكثيرًا ما نرى العوام يقولون: «ذهب إلى العرب» بمعنى «ذهب إلى البادية»، و«كان عند العرب» بمعنى «كان بين البدو»، كما نراهم يسمون الخيام التي يسكنها البدو باسم «بيوت عرب»، والأبسطة التي ينسجها البدو باسم «بساط عرب»، حتى إن الخواص أيضًا كثيرًا ما يشاركون العوام في مثل هذه التسميات والأقوال.
إن هذه العادة كانت قد لفتت نظري بوجه خاص في العراق، حينما كنت مديرًا عامًّا للمعارف فيها، فقد لاحظت أن استعمال كلمة العرب بهذا المعنى كان متفشيًا حتى في المدارس نفسها، وكان مسيطرًا على أحاديث الطلاب والمعلمين على حد سواء؛ ولهذا السبب كنت أصدرت بلاغًا عامًّا — بتاريخ ١ كانون الثاني ١٩٢٤ — لَفَت أنظار جميع المديرين والمعلمين إلى هذا الأمر، وطلبت إليهم أن يبذلوا جهودهم «لإزالة هذا الغلط بكل ما لديهم من قوة ونشاط.»
إن اضطراري إلى إصدار مثل هذا البلاغ العام يدل دلالةً واضحةً على مبلغ الدهشة التي كانت قد اعترتني من مشاهدة تفشي هذا الاستعمال العامي بين التلاميذ والمعلمين.
ومن المعلوم أن هذه الحالة لم تكن خاصةً بالعراق وحده، بل هي شاملة لسائر الأقطار العربية أيضًا، ففي سورية مثلًا كثيرًا ما يقول العوام: «عربي» عوضًا عن «بدوي»، كما يقولون: «الكل عند العرب صابون»، إشارةً إلى بعض عادات الأعراب. وأمَّا في مصر فإن استعمال كلمة «العرب» بمعنى «البدو» كان قد عمَّ، حتى لغة القوانين والدواوين الرسمية أيضًا.
-
(٣)
ومما يجب أن يسترعي الانتباه بوجه خاص، أن الكتب الأدبية واللغوية نفسها لم تتخلَّص من آثار «المعنى العامي» الذي ذكرناه آنفًا تخلُّصًا تامًّا.
فإنها لم تتمسَّك بقاعدة «التمييز بين العرب وبين الأعراب» تمسُّكًا مطلقًا، بل هي أيضًا تستعمل في بعض الأحيان كلمة العرب بمعنى البدو، ولا سيما عندما تذكر «أقوال العرب» وتستشهد بما «يقوله العرب»:- (أ)
إننا نجد في «فقه اللغة» للثعالبي — مثلًا — شواهد عديدةً على ما قدَّمناه، فقد عنون الثعالبي أحد فصول كتابه بالعنوان التالي: «في تسمية العرب أبناءها بالشنيع من الأسماء»، وقال في هذا الفصل ما يلي:
«هي من سنن العرب، إذ تسمي أبناءها بحجر، وكلب، ونمر، وذئب، وأسد، وما أشبهها، وكان بعضهم إذا وُلِد لأحدهم ولد سمَّاه بما يراه ويسمعه مما يتفاءل به، فإن رأى حجرًا أو سمعه، تأوَّل فيه الشدة والصلابة والصبر والقوة، وإن رأى كلبًا تأوَّل فيه الحراسة والألفة وبُعْد الصوت، وإن رأى نمرًا تأوَّل فيه المنعة والتيه والشكاسة، وإن رأى ذئبًا تأوَّل فيه المهابة والقدرة والحشمة. وقال بعض الشعوبية لابن الكلبي: لِمَ سمَّت العرب أبناءها بكلب وأوس وأسد وما شاكلها، وسمت عبيدها بيُسر وسعد ويُمن؟ فقال وأحسن: لأنها سمت أبناءها لأعدائها، وسمت عبيدها لأنفسها» (فقه اللغة ص٥٤٩).
ولا مجال للشك في أن المقصود من كلمة العرب التي تكرَّرت هنا عدة مرات هو الأعراب البداة.
- (ب)
وكذلك نجد في كتاب الأمالي للقالي أبحاثًا وفصولًا كثيرةً مشابِهَةً لذلك مشابهةً كبيرة، مثلًا نقرأ في الجزء الثاني منه بحثًا «عمَّا سمع من العرب في لعل من اللغات». يشرح المؤلف في هذا البحث كيف أنهم يقولون «لعلي، ولعلني، ولعني، ولأني، ولوني.» ولا مجال للشك في أنه يريد بالعرب في هذا المقام «الأعراب بوجه خاص» (الأمالي، ج٢، ص١٣٤).
- (جـ)
كما أننا نجد في كتاب «القلب والإبدال» لابن السكيت أيضًا شواهد عديدةً على استعمال كلمة العرب على المنوال الذي ذكرناه آنفًا، مثلًا إنه يقول — نقلًا عن أبي عبيدة: «العرب تقلب حروف المضاعف إلى الياء، فيقولون تظنيت، وإنما هو تظننت» (كتاب القلب والإبدال ص٥٨). كما يقول — نقلًا عن الأصمعي: «العرب تزيد الميم في أشياء، وقالوا رجل فسحم، إذا كان واسع الصدر، وهو من الانفساح، ورجل زرقم، إذا كان أزرق» (ص٦١). من الواضح الجلي أن القصد هنا من كلمة العرب هو «أعراب البادية»، لا سكنة المدن والأمصار.
- (د)
هذا وإننا نجد في «المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر» — تأليف ضياء الدين ابن الأثير — ما هو أصرح من كل ذلك، إذ قد جاء في الجزء الأول من هذا الكتاب ما يلي:
«فإن قيل: إن ذلك البدوي كان له ذلك طبعًا وخليقة، والله فطره عليه، كما فطر ضروب نوع الآدمي على فطر مختلفة هي لهم في نفس الخلقة.»
«فالجواب على ذلك أني أقول: إن سلَّمت إليك أن الشعر والخطابة كانا للعرب بالطبع والفطرة، فماذا نقول في من جاء بعدهم من شاعر وخطيب، تحضَّروا وسكنوا البلاد، ولم يروا البادية ولا خُلِقوا بها، وقد أجادوا في تأليف النَّظْم والشعر، وجاءوا بمعانٍ كثيرة ما جاءت في شعر العرب ولا نطقوا بها؟!» (المثل السائر، ج١، ص٣١٠).
من البديهي أن هذه الفقرة — ولا سيما العبارات الأخيرة منها — تدل دلالةً قطعيةً على أن المؤلف كان يميز شعر الحضر من شعر البدو تمييزًا صريحًا، ويوازن بينهما، وكان يستعمل كلمة العرب في كتاباته هذه بمعنى البدو فقط.
- (هـ)
وقد كتب قدامة بن جعفر في كتابه (نقد النثر) ما يلي:
«فأمَّا العرب فإذا لحن الواحد منهم — لقربه من الحاضرة، ونزوله على طريق السابلة — سقطت عند أهل اللغة منزلته، ودُفِعت ورُفِضت لغته» (نقد النثر، ص١٢٣).
من الواضح أن مقصود قدامة من كلمة العرب هنا هو الأعراب البدويين، بدليل تعليل «لحن الواحد منهم»، و«بقربه من الحاضرة، ونزوله على طريق السابلة.»
- (و)
إننا نلاحظ آثار هذا الاستعمال حتى لدى لسان الدين ابن الخطيب أيضًا، ينقل إلينا «المقَّري» في «نفح الطيب» رسالةً وجَّهها لسان الدين إلى «شيخ العرب» مبارك بن إبراهيم، يخاطب فيها الكاتب «شيخ العرب» المذكور بقوله: «يا فارس العرب»، ثم يقول: «الحمد لله الذي جعل بيتك شهيرًا، وجعلك على العرب أميرًا»، كما يعود إلى مخاطبته بقوله: «يا أمير العرب وابن أمرائها»، ثم يقول: «جعل (الله) خيمتك في هذا المغرب على اتساعه واختلاف أشياعه مأمنًا للخائف» (نفح الطيب، ج٤، ص١٣١).
ومن الواضح أن المقصود من كلمات العرب الواردة في هذه الرسالة هو القبائل البدوية وحدها.
- (أ)
-
(٤)
أعتقد أن الأمثلة التي ذكرتها كافية لإظهار مبلغ الالتباس الذي سيطر على أقلام علماء اللغة وعظماء الأدب أنفسهم في أمر كلمتَي العرب والأعراب.
كما أعتقد أن كل من يلاحظ هذه الاستعمالات المختلفة لا يستغرب أبدًا كيف أن ابن خلدون استعمل كلمة العرب في مقدمته بمعنى الأعراب، كما سيتضح من التفاصيل التالية.
٢
-
(١)
لم يستعمل ابن خلدون في المقدمة كلمة الأعراب والأعرابي إلا قليلًا جدًّا، فإنه قد استعمل كلمة العرب أو العربي في نحو ٣٣٠ موضعًا، في حين أنه لم يستعمل كلمة الأعراب والأعرابي إلا في بضعة مواضع، هذا مع أنه قد اهتم بالحياة البدوية اهتمامًا كبيرًا، وخص أحد أبواب المقدمة بالعمران البدوي وحده، وتكلَّم عن القبائل والعشائر في كل باب من أبوابها.
إن عدم ورود كلمة الأعراب أو الأعرابي إلا بضع مرات في المقدمة — على الرغم من سعة المباحث العائدة إلى الحياة البدوية، وكثرة الفصول المتعلقة بالقبائل المتنقلة، وعلى الرغم من ورود كلمة العرب مئات من المرات — لَدَليل واضح على أن ابن خلدون لم يعمل بالقاعدة التي قال بها علماء اللغة في وجوب تسمية البدو بالأعراب، لا بالعرب.
غير أن هناك قرائن قطعيةً على ذلك تظهر بكل وضوح وجلاء، من إنعام النظر في فصول المقدمة.
-
(٢)
فلنستعرض أولًا الفصول الباحثة عن العرب مباشرة، تلك الفصول التي تذكر العرب في عناوينها، وتتخذ أحوال العرب موضوعًا لأبحاثها.
- (أ)
لنبدأ من الفصل الذي يتضمن أقسى الأحكام وأعنف الحملات على «العرب»، فلْنلاحظ الفصل الذي يقول فيه ابن خلدون: «إن العرب إذا تغلَّبوا على أوطان أسرع إليها الخراب»، ولْننعم النظر في الأدلة التي يذكرها لتعليل وتأييد رأيه هذا:
«فغاية الأحوال العادية كلها عندهم الرحلة والتقلُّب، وذلك مناقض للسكون الذي به العمران ومنافٍ له، فالحجر مثلًا إنما حاجتهم إليه لنصبه أثافي للقدر، فينقلونه من المباني ويخربونها عليه ويعدونها لذلك. والخشب أيضًا إنما حاجتهم ليعمروا به خيامهم، ويتخذوا الأوتاد منه لبيوتهم، فيخربون السقف عليه لذلك» (ص١٤٩).
ومن البديهي أن مدار البحث هنا لا يتعدَّى البدو الذين يعيشون تحت الخيام، فلا مجال للشك في أن ابن خلدون عندما كتب هذه العبارات وقال: «لا يحتاجون إلى الحجر إلا لوضع القدور، ولا إلى الخشب إلا لنصب الخيام»، لم يفكر قط بأهل دمشق أو القاهرة، ولا بسكنة تونس أو فاس، بل إنما قصد أعراب البادية وحدهم.
- (ب)
ولْننتقل إلى الفصل الذي يقول فيه ابن خلدون: «إن جيل العرب في الخلقة طبيعي.» إن عنوان الفصل وحده يدعو إلى التأمُّل لتعيين المعنى المقصود من كلمة العرب فيه، وإذا قرأنا الفصل المذكور؛ وجدنا أولًا بعض التفاصيل عن وسائل المعيشة، وعن تأثير هذه الوسائل في الحياة الاجتماعية، ثم وصلنا إلى العبارات التالية:
«وأمَّا من كان معاشهم من الإبل، فهم أكثر ظعنًا وأبعد في القفر مجالًا، فكانوا لذلك أشد الناس توحشًا، وينزلون من أهل الحواضر منزلة الوحش غير المقدور عليه والمفترس من الحيوان العجم. وهؤلاء هم العرب، وفي معناهم ظعون البربر وزناتة بالمغرب، والأكراد والتركمان والترك بالمشرق، إلا أن العرب أبعد نجعةً وأشد بداوةً؛ لأنهم مختصون بالقيام على الإبل فقط» (ص١٢١).
يُفْهَم من هذه العبارات — ولا سيما من العبارة الأخيرة — بصراحة ما بعدها صراحة أن ابن خلدون استعمل كلمة العرب في هذا الفصل أيضًا بمعنى أعراب البادية الذين يعيشون خارج المدن، ويرحلون من محل إلى محل وفقًا لحاجات الإبل التي يقوم معاشهم عليها.
ومما يجدر بالملاحظة أن الفصلين المذكورين من أقسام الباب الثاني، ومن المعلوم أن الباب المذكور يبحث في «العمران البدوي»، ويترك الكلام عن الدول إلى الباب الثالث، وعن الأمصار إلى الباب الرابع.
- (جـ)
وأمَّا الفصول التي يقول فيها ابن خلدون: «إن العرب لا يستولون إلا على البسائط» (ص١٤٩)، و«إن العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك» (ص١٥١)، و«إن العرب لا يحصل لهم ملك إلا بصبغة دينية» (ص١٥١)؛ فكلها من أقسام الباب الثاني، الباب الباحث «في العمران البدوي»، وفي كل واحد من هذه الفصول قرائن قاطعة كثيرة على استعمال كلمة العرب بمعنى «البدو»، علاوةً على دلالة عنوان الباب المذكور.
- (أ)
-
(٣)
إن ابن خلدون لم يستعمل كلمة العرب بمعنى البدو في فصول الباب الأول التي ذكرتها فحسب، بل استعملها على نفس المنوال في فصول الأبواب الأخرى أيضًا، إني أذكر فيما يلي بعض النماذج الواضحة، والدلائل القاطعة على هذا الاستعمال:
- (أ)
يوجد في الباب الرابع أيضًا فصل خاص بالعرب، هو الفصل الذي يقرر «أن المباني التي كانت تختطها العرب يسرع إليها الخراب إلا في الأقل.»
يبدأ ابن خلدون هذا الفصل بالعبارة التالية: «والسبب في ذلك شأن البداوة»، ثم يقول في سياق الكلام:
«والعرب، إنما يراعون مراعي إبلهم خاصة، ولا يبالون بالماء طاب أو خبث، قلَّ أو كَثُر، ولا يسألون عن زكاء المزارع والمنابت والأهوية لانتقالهم في الأرض، ونقلهم الحبوب من البلد البعيد. وأمَّا الرياح فالقفر مختلف للمهاب كلها، والظعن كفيل بطيبها؛ لأن الرياح إنما تخبث مع القرار والسكنى وكثرة الفضلات» (ص٣٥٩).
يظهر من ذلك بكل وضوح أن العرب المقصودين في هذا الفصل هم البدو الذين يعيشون في القفار، ولا يسكنون ويستقرون في محل، بل يظعنون من مكان إلى آخر، ويفكرون في مراعي إبلهم قبل كل شيء. ولا يوجد في هذا الفصل كلمة واحدة تنطبق على أهل الأمصار.
- (ب)
هذا ويوجد في الباب الخامس أيضًا فصل خاص بالعرب، هو الفصل الذي يقول فيه ابن خلدون: «إن العرب أبعد الناس عن الصنائع» (ص٤٠٤).
يبدأ المؤلف الكلام عن ذلك بالعبارة التالية:
«والسبب في ذلك أنهم أعرق في البدو، وأبعد عن العمران الحضري، وما يدعو إليه من الصنائع وغيرها» (ص٤٠٤).
ومن الواضح أنه يشير هنا أيضًا إلى البدو، ولا يقصد قط أهل الأمصار. إن هذا المعنى يتجلَّى بوضوح أعظم من ذلك من الفقرات التي تلي العبارة المذكورة:
«والعجم من أهل المشرق، وأمم النصرانية عدوة البحر الرومي، أَقْوَم عليها (أي على الصنائع)؛ لأنهم أعرق في العمران الحضري، وأبعد عن البدو وعمرانه. حتى إن الإبل التي أعانت العرب على التوحُّش في القفر والإعراق في البدو مفقودة لديهم بالجملة. وعجم المغرب من البربر مثل العرب في ذلك؛ لرسوخهم في البداوة منذ أحقاب من السنين» (ص٤٠٤).
إن هذه العبارات تدل دلالةً صريحةً على أن ابن خلدون عنى بكلمة العرب في هذا الفصل أيضًا الأعراب البداة الذين يعيشون في القفار مستعينين بالإبل، ولم يقصد «العرب» بالمعنى الذي نفهمه من هذه الكلمة في الحالة الحاضرة.
- (جـ)
ومما يزيد الأمر وضوحًا وقطعيةً أن ابن خلدون يعود إلى القضية في بحث العلوم أيضًا، إذ يقول — بعد أن يشبِّه العلوم بالصنائع:
«وقد كنا قدَّمنا أن الصنائع من منتحل الحضر، وأن العرب أبعد الناس عنها، وصارت العلوم لذلك حضرية، وبَعُدَ العرب عنها وعن سوقها» (ص٥٤٤).
يلاحظ أن ابن خلدون يذكر هنا كلمة العرب مرتين مقابلًا لكلمة الحضر بشكل لا يترك مجالًا للشك في أنه يقصد البدو على وجه التخصيص، ويخرج من نطاق شمولها الحضر على الإطلاق.
- (أ)
-
(٤)
إننا نجد دلائل وقرائن مماثلةً لما ذكرناه آنفًا في كثير من الفصول التي لا تتكلَّم عن العرب مباشرةً أيضًا:
- (أ)
مثلًا نقرأ في بحث «الفساطيط والسياج» العبارات التالية:
«كان العرب لعهد الخلفاء الأولين من بني أمية إنما يسكنون بيوتهم التي كانت لهم خيامًا من الوبر والصوف، ولم تزل العرب لذلك العهد بادين إلا الأقل منهم، فكانت أسفارهم لغزواتهم بظعونهم وسائر حللهم وأحيائهم من الأهل والولد كما هو شأن العرب لهذا العهد.»
«وكانت عساكرهم لذلك كثير الحلل، بعيدة ما بين المنازل، متفرقة الأحياء، يغيب كل واحد منها عن نظر صاحبه من الأخرى، كشأن العرب» (ص٢٦٧).
من الواضح الجلي أن ابن خلدون عنى بالعرب — في عبارة «كما هو شأن العرب لهذا العهد»، و«كشأن العرب» — البدو وحدهم، ولا سيما أنه حصر مفهوم «العرب لعهده» بمن كان لا يزال بدويًّا.
- (ب)
هذا وإذا تصفَّحنا الفصول الباحثة في اللغة والشعر؛ وجدنا فيها أيضًا أمثلةً صريحة، وأدلةً حاسمةً لما قدمناه آنفًا.
لنقرأ أولًا الفصل المعنون بعنوان «أشعار العرب وأهل الأمصار لهذا العهد» (ص٥٨٢).
نجد أن ابن خلدون يميز العرب من أهل الأمصار في عنوان الفصل نفسه، وإذا واصلنا قراءة الفصل وجدنا في مضامينه أيضًا ما يؤيد دلالة العنوان:
«كذلك الحضر أهل الأمصار، نشأت فيهم لغة أخرى، خالفت لسان مضر في الإعراب، وأكثر الأوضاع والتصاريف، وخالفت أيضًا لغة الجيل من العرب لهذا العهد» (ص٥٧٢).
يلاحظ أن ابن خلدون يميز في هذه العبارات «لغة الحضر» من «لغة الجيل من العرب» لعهده، ومن البديهي أن هذا التمييز لا يمكن أن يفسَّر إلا باستعمال كلمة العرب مقابلًا لكلمة الحضر كما في الفقرات التي ذكرتها آنفًا.
- (جـ)
وهناك فصل آخر يؤيد كل ذلك بتعبيرات وأشكال أخرى، هو الفصل الذي يقول فيه ابن خلدون: «إن لغة أهل الحضر والأمصار لغة قائمة بنفسها» (ص٥٨٨). يبدأ الفصل المذكور بالعبارات التالية:
«اعلم أن عرف التخاطب في الأمصار وبين الحضر ليس بلغة مضر القديمة، ولا بلغة أهل الجيل، بل هي لغة قائمة بنفسها بعيدة عن لغة مضر، وعن لغة هذا الجيل العربي الذي لعهدنا» (ص٥٨٨).
من البديهي أن كاتب هذه الفقرات يترك «أهل الحضر والأمصار» خارجًا عن نطاق شمول تعبير «الجيل العربي» بصورة قطعية.
- (د)
هذا ولْنقرأ الفصل الذي يقرر «أن لغة العرب لهذا العهد مستقلة، مغايِرَة للغة حمير ومضر» (ص٥٥٧). يقول ابن خلدون في هذا الفصل: «إن أفراد «الجيل العربي» لعهده لا ينقطون بالقاف كما ينطق بها «أهل الأمصار».» وبعد أن يوضح كيفية هذا النطق يكتب ما يأتي:
«وصار ذلك علامةً عليهم من بين الأمم والأجيال مختصًّا بهم، لا يشاركهم بها غيرهم، حتى إن من يريد التقريب والانتساب إلى الجيل والدخول فيه، يحاكيهم في النطق بها. وعندهم إنما يتميز العربي الصريح من الدخيل بالعروبية والحضري بالنطق بهذه القاف» (ص٥٥٧).
إني أعتقد أن العبارة الأخيرة في منتهى الصراحة من وجهة تمييز «العربي» و«الحضري»، ومع هذا أجد في آخر الفصل المذكور عبارةً أصرح وأدل من ذلك أيضًا:
«هذا مع اتفاق أهل الجيل كلهم — شرقًا وغربًا — في النطق بها، وأنها الخاصية التي يتميز بها العربي من الهجين والحضري» (ص٥٥٨).
«الخاصية التي يتميز بها العربي من الحضري»، لا أظن أن أحدًا يستطيع أن يطلب دليلًا أوضح من هذه العبارة على استعمال كلمة «العربي» بمعنى «البدوي»، ومقابلًا لكلمة «الحضري».
- (أ)
٣
إذا تركنا المقدمة جانبًا وراجعنا التاريخ نفسه؛ وجدنا فيه أيضًا قرائن كثيرةً ودلائل قاطعةً على أن ابن خلدون كان يستعمل كلمة العرب بمعنى الأعراب.
-
(١)
إن الأبحاث التي يخصصها ابن خلدون لوصف أجيال العرب وطبقاتهم تؤيد ذلك بكل وضوح:
«اعلم أن العرب منهم الأمة الراحلة الناجعة، أهل الخيام لسكناهم، والخيل لركوبهم، والأنعام لكسبهم، يقومون عليها، ويقتاتون من ألبانها، ويتخذون الدفء والأثاث من أوبارها وأشعارها، ويحملون أثقالهم على ظهورها، يتنازلون حللًا متفرقة، ويبتغون الرزق في غالب أحوالهم من القنص وتخطُّف الناس من السبل، ويتقلَّبون دائمًا في المجالات، فرارًا من حَمَّارة القيظ تارة، وصَبَّارة البرد أخرى، وانتجاعًا لمراعي غنمهم، وارتيادًا لمصالح إبلهم الكفيلة بمعاشهم وحمل أثقالهم ودفئهم ومنافعهم» (تاريخ ابن خلدون ج١، ص٢٢، طبعة محمد المهدي الحبابي).
«فهذه كلها شعائرهم وسماتهم، وأغلبها عليهم اتخاذ الإبل، والقيام على نتاجها، وطلب الانتجاع بها لارتياد مراعيها ومفاحص توليدها، بما كان معاشهم منها» (تاريخ ابن خلدون، ج١، ص٢٣).
من الواضح الجلي أن هذه الأوصاف لا تنطبق إلا على الأعراب.
-
(٢)
من المعلوم أن المؤرخين كانوا يقسِّمون العرب إلى ثلاث طبقات، يسمونها بالتتالي؛ البائدة، والعاربة، والمستعربة.
وأمَّا ابن خلدون فلا يستصوب هذا التقسيم القديم، بل يقسِّم العرب إلى أربع طبقات، يسميها؛ العاربة، المستعربة، التابعة، المستعجمة.
فإنه يوحِّد البائدة والعاربة في طبقة واحدة يسميها العاربة، ويضيِّق حدود طبقة العرب المستعربة؛ لأنه يذكر بعدها طبقتين من العرب، يسمي إحداهما باسم التابعة، والأخرى باسم المستعجمة.
«العرب المستعجمة»، إن من يقرأ هذا التعبير يظن في الوهلة الأولى أن القصد منه هو «عرب المدن في دور الاستعجام»، ولكن قليلًا من التأمل في ما كتبه ابن خلدون يكفي للتأكُّد من أن الأمر ليس كذلك؛ إن المؤلف لم يقصد من قوله «العرب المستعجمة» شيئًا غير القبائل «البدوية» التي كانت تعيش في زمانه في عهد الدول الأعجمية، ودور فساد اللغة العربية واستعجامها.
«ثم انقرض أولئك الشعوب في أحقاب طويلة، وانقرض ما كان لهم من الدولة في الإسلام، وخالطوا العجم بما كان لهم من التغلُّب عليهم؛ ففسدت لغة أعقابهم في آماد متطاولة، وبقي خلفهم أحياءً بادين في القفار والرمال والخلاء من الأرض تارة، والعمران تارة، وقبائل بالمشرق والمغرب والحجاز واليمن وبلاد الصعيد والنوبة والحبشة وبلاد الشام والعراق والبحرين وبلاد فارس والسند وكرمان وخراسان …»
«لما كانت لغتهم مستعجمةً عن اللسان المضري الذي نزل به القرآن، وهو لسان سلفهم، سميناهم لذلك العرب المستعجمة» (تاريخ ابن خلدون، ج١، ص٢٤).
وأمَّا التفاصيل التي يكتبها ابن خلدون عن هؤلاء، فكلها تدل دلالةً صريحةً على أن العرب المستعجمة لم تكن في نظر ابن خلدون سوى القبائل البدوية التي كانت تعيش خارجًا عن المدن وحول الأمصار.
-
(٣)
وإذا راجعنا الأبحاث العائدة إلى العهد الإسلامي من تاريخ العرب نجد فيها أيضًا دلائل كثيرةً على ما قدَّمناه آنفًا.
ندرج فيما يلي بعض النماذج لهذه الدلائل والقرائن القاطعة:- (أ)
في المجلد الثالث من التاريخ يوجد فصل «في نهب العرب للبصرة»، يقول فيه ابن خلدون فيما يقوله: «اجتمع بنو عامر بن صعصعة، وأميرهم عميرة، وقصدوا البصرة، ونهبوها ورحلوا عنها» (طبعة بولاق، ج٣، ص٥٤٠).
يُفْهَم من هذه العبارات بصراحة أن العرب الذين يذكرهم ويعنيهم ابن خلدون هنا هم الأعراب الذين كانوا يعيشون في البادية خارج مدينة البصرة.
- (ب)
في المجلد الرابع بحث تحت عنوان «ذكر المتغلبين بالبحرين من العرب بعد القرامطة»، يقول المؤلف في هذا البحث:
«كان بأعمال البحرين خلق من العرب، وكان القرامطة يستنجدونهم على أعدائهم، ويستعينون بهم في حروبهم، وكان أعظم قبائلهم هناك بني تغلب، وبني عقيل، وبني سليم» (ج٤، ص٩١).
ولا مجال للشك في أن العرب المقصودين هنا أيضًا هم القبائل البدوية فحسب.
- (جـ)
في المجلد الخامس بحث تحت عنوان: «واقعة العرب بالصعيد»، يقول فيه ابن خلدون:
«وفي أثناء هذه الفتن كثر فساد العرب بالصعيد وعبثهم، وانتهبوا الزرع والأموال، (مما استوجب خروج السلطان عليهم لتأديبهم)؛ فهزم العرب واستلحم جموعهم، وامتلأت أيدي العساكر بغنائمهم، حتى استأمن بعد رجوع السلطان، فأمَّنه على أن يمتنعوا من ركوب الخيل وحمل السلاح، ويُقْبلوا على الفلاحة» (ج٥، ص٤٥٠).
من البديهي أن العرب المذكورين في هذا البحث هم الأعراب الذين كانوا يعيشون خارج المدن في الصعيد.
- (د)
وفي المجلد الخامس كذلك بحث آخر تحت عنوان: «وفاة مهنا بن عيسى أمير العرب بالشام وأخبار قومه.» يقول ابن خلدون فيما يقوله في هذا الصدد: «فولي على العرب عيسى بن مهنا، ولم يزل على أحياء العرب» (ج٥، ص٤٣٨).
كما يقول في محل آخر: «كان مجاز بن مهنا أمير العرب من آل فضل قد انتقض، فولي السلطان على العرب معيقل» (ج٥، ص٤٥٩).
من الواضح أن العرب المقصودين هنا لم يكونوا قط من سكنة الأمصار.
- (هـ)
لقد كتب ابن خلدون في المجلد الثالث من تاريخه العبارة التالية: «وقال المتنبي يمدح سيف الدولة، ويعرِّض بذكر العرب الذين أوقع بهم لما كثر عبثهم وفسادهم.»
إن هذه العبارة قد تثير الاستغراب؛ لأنها قد تحمل القارئ على التساؤل: «ألم يكن المتنبي نفسه وسيف الدولة أيضًا من العرب؟» غير أن مراجعة وقائع التاريخ من جهة، وديوان المتنبي من جهة أخرى، تكفي لإعلامنا بأن العرب الذين يشير إليهم ابن خلدون هنا، هم «بنو كلاب» الذين كانوا ثاروا على سيف الدولة؛ فاضطروه إلى تجريد حملة عسكرية.
إن أمثال هذه الفقرات والعبارات التي تدل على استعمال كلمة العرب بمعنى البدو كثيرة جدًّا في جميع مجلدات التاريخ.
- (أ)
٤
-
(١)
وقد كتب ابن خلدون في ترجمة حياته أيضًا فقرات عديدةً تؤيد كل ما ذكرناه آنفًا، ندرج فيما يلي بعض تلك الفقرات:
«الإجازة الثانية إلى الأندلس واللحاق بأحياء العرب، والمقامة عند أولاد عريف» (المجلد السابع من التاريخ، ص٤٤٣).
«أقمت بها أربعة أعوام، فظعنت عن أولاد عريف مع عرب الأجص، من بادية رياح، كانوا هناك ينتجعون الميرة» (ج٧، ص٤٤٥).
«فطلبت الإذن في الانصراف بعهدٍ كان معه في ذلك، فأذن لي بعد أن أبى، وخرجت إلى العرب، ونزلت إلى يعقوب بن علي» (ج٧، ص٤١٩).
إن الفقرة الأخيرة يجب أن تستوقف الأنظار بوجه خاص؛ إن عبارة «خرجت إلى العرب» التي كتبها ابن خلدون هنا، تشبه تمام الشبه قول الناس: «ذهبت إلى العرب»، فإنها تدل دلالةً قاطعةً على أن ابن خلدون كان يقصد من كلمة العرب «البدو» على وجه الحصر، كما يفعله العوام في أكثر البلاد العربية إلى الآن.
-
(٢)
ومن الغريب أن المعنى الخاص الذي استعمل به ابن خلدون كلمة العرب كان قد لفت أنظار المستشرقين منذ مدة طويلة، حتى إن «البارون دو سلان» كان أشار إلى ذلك حينما ترجم المقدمة.
فإنه نقل كلمة العرب إلى الفرنسية كما هي، ومع ذلك كتب في المجلد الأول من الترجمة — في ذيل الفصل القائل «إن جيل العرب في الخلقة طبيعي»: «إن ابن خلدون استعمل كلمة العرب بمعنى البدو في هذا الفصل، وفي الفصول التالية.»
كما أنه كتب في المجلد الثالث من الترجمة في معظم الألفاظ الملحقة بها مقابل كلمة العرب، العبارة الصريحة التالية:
«إن عرب ابن خلدون هم الأعراب.»
Les arabes d’Ibni Khaldoun, sont les arabes nomads (Vol 3 page 488).هذا وقبل البارون دو سلان كان المترجم التركي جودت باشا أيضًا قد انتبه إلى هذا المعنى الخاص، وإن لم يرَ لزومًا لذكره بصراحة؛ لأنه لم ينقل كلمة «العرب» إلى التركية كما هي، بل نقلها — في مواضع كثيرة — على شكل «قبائل عرب»، بمعنى «قبائل العرب أو القبائل العربية».
-
(٣)
ولذلك كله يؤلمني جدًّا أن تبقى هذه الحقيقة الناصعة مجهولةً بين قراء العربية وكُتَّابها، وأن يُستمرَّ على إساءة فهم مقدمة ابن خلدون — من جراء ذلك — في الأحاديث والكتب والمقالات.
خاتمة
عندما أتذكَّر وأستعرض ما قيل وكُتِب، وما لا يزال يقال ويُكتب حول هذه المسألة، أفكِّر في الكلمة التي كان قد صدَّر بها المفكر الشهير «مونتسكيو» الطبعة الثانية من كتابه «روح القوانين»، إنه كان لاحظ أن بعض التعبيرات التي استعملها في الطبعة الأولى قد أسيء فهمها؛ ولذلك رأى أن يوضِّح قصده قائلًا:
«إن أبحاثي وتأمُّلاتي أوصلتني إلى أفكار وآراء جديدة، فكان لزامًا عليَّ — حينما حاولت التعبير عن تلك الأفكار والآراء — أن أستحدث بعض الكلمات الجديدة، أو أن أستعمل بعض الكلمات القديمة لمعانٍ جديدة. إن الذين لم يفهموا ذلك عزوا إليَّ من الأقوال والآراء السخيفة ما لم يخطر ببالي أبدًا.»
كان مونتسكيو قد عاش وكتب في عصر نهوض ترعرعت فيه الطباعة، وتنشَّطت فيه الحركات الفكرية بسرعة خارقة، ولهذا السبب استطاع الاطلاع على «كيفية فهم كتاباته»، فوجد سبيلًا إلى تغيير بعض تعبيراته، بقصد إزالة الإبهام والالتباس منها، وإلى شرح مقاصده بقصد الدفاع عن آرائه.
لكن ابن خلدون — من سوء حظه — كان قد جاء في عصر انحطاط، حرمه عن كل ذلك.
وأمَّا التفكير الجدي في ما كتبه فلم يبدأ إلا بعد مرور مدة تزيد على خمسة قرون، وبعد تطوُّر معاني بعض الكلمات خلال هذه القرون.
وإني لا أشك أبدًا في أن ابن خلدون لو بُعِث حيًّا من مرقده، واطلع على بعض ما يقال فيه الآن؛ لدُهش من الآراء التي تُعْزَى إليه دهشةً كبيرة.