مقدمة ابن خلدون في نظر علماء الغرب
إن مقدمة ابن خلدون لم تُثِر اهتمام المستشرقين إلا بعد العقد الثاني من القرن التاسع عشر، ولم تخرج من ساحة الاستشراق فتدخل ساحة أبحاث العلماء إلا بعد العقد السابع من القرن المذكور.
فقد نشر «هاممر» أولًا رسالةً بالألمانية عن بعض النواحي من تاريخ الإسلام، أشار فيها إلى بعض آراء ابن خلدون، ولقَّبه بلقب «مونتسكيو العرب»، وبعد ذلك نشر مقالًا في المجلة الآسيوية باللغة الفرنسية سنة ١٨٢٢، عن مقدمة ابن خلدون، استلفت به أنظار المستشرقين إليها قائلًا: «إن إصابة المحاكمة وسلامة النقد اللتين تسودان المقدمة، تبهر أنظار كل من يطالعها.»
وأضاف إلى ذلك ما يلي: «قلَّما يوجد بين المؤلفات الشرقية ما يستحق الترجمة — ترجمةً تامةً — بقدر تأليف ابن خلدون هذا.»
كان هاممر يشتغل عند ذاك بجمع الوثائق اللازمة لكتابة تاريخه الكبير عن الدولة العثمانية، على أساس مقابلة المصادر الشرقية بالمصادر الغربية، وكان يخالط لذلك رجال الدولة العثمانية في عاصمتها، ويراجع المخطوطات المخزونة في مكتباتها، وقد لاحظ خلال ذلك أن مقدمة ابن خلدون تُقْرَأ هنالك بشغف عظيم، ولا سيما في ترجمتها التركية، فكتب في مقاله المذكور ما يلي:
«إن مقدمة ابن خلدون من أهم المؤلفات المنتشرة والمشتهرة في عاصمة السلطنة العثمانية، وهي مما يطالعه جميع رجال الدولة والوزراء، وأمراء الأروام، والتراجمة المثقفين المستخدمين في المصالح المختلفة.»
ثم قام شولتز — سنة ١٨٢٥ — بدعاية قوية لمقدمة ابن خلدون؛ نشر في المجلة الآسيوية مقالًا «حول المؤلَّف التاريخي الانتقادي الكبير» لابن خلدون، دعا فيه إلى طبع المقدمة وترجمتها بكاملها.
انتقد شولتز الخطة التي كان يسير عليها المستشرقون إذ ذاك، قائلًا:
«إنهم يهتمون بالشعراء بوجه خاص، ويهملون المؤرخين والمفكرين. إن أبحاثهم توجِّه اهتمامًا متساويًا نحو أسخف الآثار وأهم الأخبار، فلا تميِّز كثيرًا بين الأسطورة التي لا تفيد شيئًا، وبين الفلسفة التي تستحق انتباه جميع الذين ينزعون إلى التعمُّق والتأمُّل.»
ثم نقل شولتز البحث إلى اهتمام الأوروبيين بالأدب اللاتيني في عصر الانبعاث، فقال: «لا شك في أن أجدادنا لو كانوا حصروا اهتمامهم بغزليات الأدب اللاتيني، من غير أن يطلعونا على كتابات مفكريهم ومؤرخيهم؛ لظلت معرفتنا عن الأدب المذكور ناقصةً جدًّا، وفكرتنا عنه مغلوطةً تمامًا. إن موقفنا تجاه الأدب العربي الآن لا يختلف عن ذلك أبدًا.»
«ولأجل أن نوصل الناس إلى حالة تساعدهم على تقدير عبقرية العرب الخالدة، ولأجل أن نعرِّفهم ذهنية هذا الشعب الذي فتح العالم وحفظ العلوم؛ أعتقد بأنه يجب علينا أن نعمل شيئًا غير تكرار أطلال المعلقات، ومبالغات المتنبي، تكرارًا لا يعرف الانقطاع.»
ثم عقَّب شولتز على كل ذلك بالعبارة التالية: «إنني كتبت هذه المطالعات والملاحظات تحت تأثير كتاب مخطوط طالعته أخيرًا، وأسفت جدًّا لأنني لم أرَه مطبوعًا ومترجمًا ترجمةً تامة.»
إن كتابة شولتز هذه وجدت صدًى عميقًا بين المستشرقين، وحملتهم على نقل وترجمة بعض فصول المقدمة.
إن هذه الترجمة أخرجت مقدمة ابن خلدون من دائرة اطلاع المستشرقين المحدودة، ووضعتها في متناوَل العلماء والمفكرين.
إن المقدمة لم تُقدَّر حق قدرها إلا من جرَّاء الأبحاث التي نُشِرت بعد ظهور ترجمتها الفرنسية؛ لأنها كانت قد ظلت حتى ذلك الحين محصورةً في نطاق أبحاث المستشرقين الملمِّين باللغة العربية إلمامًا تامًّا، وهؤلاء لم يكونوا — بطبيعة الحال — في وضع يساعدهم على تقدير أهمية مباحثها حق التقدير، ولا سيما وأهم أقسام المقدمة وأطرف مباحثها يتعلَّق بعلم الاجتماع، وهذا العلم كان عندئذٍ في بدء تكوينه، ومسائله كانت لا تزال خارجةً وبعيدةً عن اطلاع المستشرقين بوجه عام. ولهذا السبب نستطيع أن نقول إن البارون دو سلان خدم ذكرى ابن خلدون خدمةً لا تُقَدَّر بثمن، بإقدامه على ترجمة المقدمة بتمامها.
إن انتشار ترجمة المقدمة أثَّر في العلماء والمفكرين الذين اطلعوا عليها تأثيرًا عميقًا، وولَّد في نفوسهم إعجابًا شديدًا بعبقرية هذا المفكر العربي العظيم الذي كان قد سبق الكثيرين من بحَّاثة الغرب إلى الكثير من الآراء والنظريات القيِّمة، حتى إن هذا الإعجاب وصل عند بعضهم إلى درجة الاندهاش.
•••
بعد انتشار ترجمة المقدمة صار علماء الاقتصاد والتاريخ والاجتماع يطَّلعون على آراء ابن خلدون، ويلفتون الأنظار إلى ما يجدون بينها من النظرات القيِّمة حول بعض المسائل التي لم يفرغوا هم من درسها وبحثها إلا في المدة الأخيرة.
فقد لاحظوا بدهشة كبيرة أن المعلومات التي كانت مقرَّرةً في تاريخ العلوم المذكورة تحتاج إلى تبديل وتحوير، على ضوء الحقائق التي وجدوها في مقدمة ابن خلدون.
كانوا يزعمون قبلًا أن «فيكو» هو أول من فكَّر في فلسفة التاريخ، ولكنهم علموا — بعدئذ — أن ابن خلدون كان قد فعل ذلك — في مقدمته — قبل «فيكو» بمدة تزيد على ثلاثة قرون ونصف قرن.
وكانوا يزعمون قبلًا أن «أوغوست كونت» هو الذي أسَّس علم الاجتماع على أُسس مستقلة علمية، ولكنهم علموا بعدئذ أن ابن خلدون قد سبق «كونت» إلى ذلك قبل مدة تزيد على أربعة قرون ونصف قرن.
وقد وجدوا أن كثيرًا من الآراء والمبادئ التي قال بها علماء الاقتصاد ومفكرو الاجتماع — مثل جان باتيست ساي، وكارل ماركس، وباكونين — في أواسط القرن التاسع عشر، كانت مسطورةً في المقدمة التي كتبها ابن خلدون في القرن الرابع عشر، تارةً في حالة بذور وفسائل صغيرة، وطورًا في حالة أغراس نامية كاملة.
ولذلك نجد أن مطالعة مقدمة ابن خلدون صارت تبهر أنظار العلماء المدققين، وتحملهم على إظهار إعجابهم بها في مقالات أو رسائل أو كتب ينشرونها.
•••
- (أ)
الدراسات التي تستهدف تحليل وعرض آراء ابن خلدون عرضًا مباشرًا على شكل كتاب قائم بنفسه، أو في مقالة خاصة في مجلة علمية.
- (ب)
الأبحاث التي تخصص لابن خلدون ولمقدمة ابن خلدون في الكتب الباحثة عن الفلسفة الإسلامية، أو تاريخ البلاد الإسلامية، أو تاريخ العلوم عند العرب والمسلمين بوجه عام.
- (جـ)
الأبحاث الواردة عن آراء ابن خلدون ونظرياته في الكتب العلمية العامة، عن التاريخ أو الاقتصاد أو الاجتماع، أو عن تاريخ هذه العلوم.
لا حاجة إلى البيان أن الأبحاث المدوَّنة في النوع الأول من الكتابات والتأليفات تكون أكثر أهميةً من غيرها؛ لأنها تكون بطبيعتها أكثر توسعًا وأعمق تحليلًا وأدق بحثًا؛ لاختصاصها بدراسة المقدمة بهيأتها المجموعة، أو من ناحية من نواحيها المختلفة.
غير أن ما يُكْتَب عن المقدمة في النوع الثالث من الكتب «يكون أكثر قيمةً منها كلها؛ لأنها تعيِّن منزلة ابن خلدون في العلم وتاريخ العلم بصورة أعم وأتم من غيرها.»
ونستطيع أن نقول إن ابن خلدون لا يأخذ المكانة التي يستحقها في تاريخ العلوم والأفكار إلا بالدخول في مباحث هذا النوع من الكتب والدراسات العامة؛ وذلك لأن مؤلفات النوع الأول لا تخرج كثيرًا عن نطاق مطالعات الاختصاصيين، وأمَّا ما يُكْتَب في النوع الثالث من المؤلفات فهي التي تنتشر بين المفكرين والمثقفين بوجه عام.
إنني أعتقد أن ابن خلدون صار موضع عناية لا بأس بها في النوع الأول والثاني من المؤلفات، ولكنه لم يَنَلْ بعدُ ما يستحقه من العناية في النوع الثالث منها.
•••
أنا لا أود أن أستعرض وألخص كل ما جاء عن ابن خلدون في هذه المؤلفات المتنوعة، بل أكتفي بذكر أبرز النماذج من الكلمات التي كُتِبت في هذا الصدد في الأنواع الثلاثة الآنفة الذكر؛ لتعيين منزلته في تاريخ علمَي التاريخ والاجتماع.
•••
-
(أ)
لقد كتب العالم الاجتماعي «لودويك غومبلوفيتش» بحثًا هامًّا عن نظريات ابن خلدون بعنوان: «مفكر اجتماعي عربي، في القرن الرابع عشر»، قال فيه فيما قاله — بعد أن أشار إلى أن ابن خلدون لم يُعْرَف إلا قليلًا:
«إن ابن خلدون يجوز أن يعتبر مفكرًا عصريًّا بكل معنى الكلمة من وجوه عديدة.»
«إنه لم يقع في الخطأ الذي وقع فيه مفكرو القرن الثامن عشر في صدد تقرير منشأ الفروق التي تشاهَد بين الأقوام.»
«إنه درس الحوادث الاجتماعية بعقل هادئ رزين، وأبدى في هذا الموضوع آراءً عميقةً جدًّا، ليس قبل «أوغوست كونت» فحسب، بل قبل «فيكو» أيضًا.»
«وفي الحقيقة إن ما كتبه ابن خلدون هو ما نسميه نحن اليوم علم الاجتماع.»
-
(ب)
لقد نشر «استفانو كولوريو» في «مجلة العالم الإسلامي» الفرنسية — سنة ١٩١٤ — دراسةً عن ابن خلدون قال فيها في جملة ما قاله:٢
«ليس لأحد أن ينكر أن ابن خلدون اكتشف مناطق مجهولةً في عالم الاجتماع؛ إنه سبق ماكيافللي، ومونتسكيو، وفيكو، إلى وضع علم جديد هو النقد التاريخي.»
«إن مبدأ الحتمية الاجتماعية Determinisme مما يعود الفخر في تقريره إلى ابن خلدون، قبل رجال الفلسفة الإثباتية Positivisme، وعلماء النفس بقرون متطاولة …»«إن المؤرخ المغربي العظيم اكتشف مبادئ العدالة الاجتماعية والاقتصاد السياسي قبل كونسيدران وماركس وباكونين بخمسة قرون.»
«إذا كانت نظريات ابن خلدون في حياة المجتمع المعقَّدة تضعه في مقدمة فلاسفة التاريخ، فإن ما يعزوه من شأن كبير إلى دور العمل والملاكة والأجرة تجعله إمامًا وسلفًا لاقتصاديي هذا العصر.»
-
(جـ)
يذكر كولوزيو في خلال أبحاثه هذه ما قاله المؤرخ «أماري» — الذي اشتُهر بدراسة تاريخ العهد العربي الإسلامي في صقلية:
«إن ابن خلدون قد سبق أفذاذ الدنيا إلى فلسفة التاريخ والكلام عليها، ولي أن أقول إنه لم يشقَّ أحد منهم له غبارًا.»
-
(د)
لقد نشر «ناتانيل شميت» الأستاذ في جامعة كورنيل في أمريكا — سنة ١٩٣٠ — كتابًا بعنوان «ابن خلدون مؤرخ واجتماعي وفيلسوف»، استعرض وحلَّل فيه آراء ابن خلدون بكل تفصيل، واشترك مع القائلين بأنه يجب أن يعتبر مؤسِّسًا لفلسفة التاريخ ولعلم الاجتماع، وقال في جملة ما قاله:
«إن ابن خلدون اكتشف ميدان التاريخ الحقيقي وطبيعته، وإنه فيلسوف مثل أوغوست كونت، وتوماس بكل، وهربرت اسبنسر، وإنه تقدَّم في علم الاجتماع إلى حدود لم يصل إليها كونت نفسه في النصف الأول من القرن التاسع عشر.»
وزيادة على كل ذلك قال شميت: «إن المفكرين الذين وضعوا أُسس علم الاجتماع من جديد، لو كانوا قد اطلعوا على مقدمة ابن خلدون في حينها، فاستعانوا بالحقائق التي كان قد اكتشفها، والطرائق التي كان قد أوجدها ذلك العبقري العربي قبلهم بمدة طويلة؛ لاستطاعوا أن يتقدَّموا بهذا العلم الجديد بسرعة أعظم مما تقدموا به فعلًا.»
-
(هـ)
لقد خصَّص المستشرق «كارادوفو» في المجلد الأول من كتابه «مفكرو الإسلام» بحثًا مطوَّلًا «لابن خلدون»، نذكر منه الكلمات التالية:
«إن نزعة الاهتمام بالبحث — في كل شيء — عن تاريخ النشوء والتطوُّر، وأسباب الحدوث والتقدُّم، تضع ابن خلدون — كاتب القرن الرابع عشر — في مصاف أرقى العقليات في أوروبا الحالية.»
-
(و)
لقد خصَّص «غوتيه» الأستاذ في جامعة الجزائر فصلًا طويلًا لابن خلدون في الكتاب الذي نشره عن «العصور المظلمة في المغرب»، مع أن الأستاذ المومأ إليه يظهر في كتابه هذا بعض البعد عن الحياد العلمي؛ مما أدى به إلى سوء فهم بعض أقسام المقدمة. إنه يعجب بابن خلدون إعجابًا شديدًا، فيقول:
«المغرب الذي لم يكن غنيًّا بالرجال العظام، يكاد يملك بضعة أسماء نستطيع أن نضعها في مصاف ابن خلدون، مثل اسم حنيبعل Annibal، أو القديس أوغسطين St. Augustin.»«في الحقيقة إن المكان اللائق لهذا المفكر في ذاكرة البشرية هو صف أمثال هؤلاء العظام، ومع الأسف فإنه لم يوضع بعدُ في ذلك المكان؛ لأن الذين يعرفونه لا يزالون قلائل.»
«إن هذا المجد الدفين يجب أن يُبْعَثَ على الأقل عندنا نحن الفرنسيين.»
-
(ز)
لقد كتب الأستاذ «فارد» Vard الأمريكي في كتابه «علم الاجتماع النظري»، في بحث مبدأ التعين والحتمية في الحياة الاجتماعية Déterminisme sociale العبارات التالية:
«كانوا يظنون أن أول من قال وبشَّر بمبدأ الحتمية في الحياة الاجتماعية هو مونتسكيو أو فيكو، في حين أن ابن خلدون كان قد قال بذلك، وأظهر تبعية المجتمعات لقوانين ثابتة قبل هؤلاء بمدة طويلة في القرن الرابع عشر، حينما كان الغرب مستسلمًا للفلسفة الدرسانية والكلمانية استسلامًا تامًّا.»
-
(ﺣ)
لقد كتب الأستاذ «روبرت فلينت» الإنجليزي في كتابه «تاريخ فلسفة التاريخ» فصلًا عن ابن خلدون، (كما ذكرنا ذلك في بحثنا عن فلسفة التاريخ في الصفحة ١٧٥ من هذا الكتاب)، قال فيه في جملة ما قاله:
«من وجهة علم التاريخ أو فلسفة التاريخ، يتحلَّى الأدب العربي باسم من ألمع الأسماء، فلا العالم الكلاسيكي في القرون القديمة، ولا العالم المسيحي في القرون الوسطى، يستطيع أن يقدِّم اسمًا يضاهي في لمعانه ذلك الاسم، إن أول كاتب بحث في التاريخ كموضوع علم خاص، هو ابن خلدون.»
-
(ط)
خصَّص «دي بوير» De Boer — الأستاذ بجامعة أمستردام — بحثًا لابن خلدون في خاتمة الكتاب الذي ألَّفه عن «تاريخ الفلسفة في الإسلام»، وكتب في هذا الصدد ما يلي:٣
«يوجد في المقدمة الفلسفية التي كتبها ابن خلدون كثير من الملاحظات النفسية والسياسية الدقيقة، وهي في جملتها عمل عظيم مبتكر، على أن القدماء لم يوفوا المشكلة التاريخية حقها من الدرس العميق؛ فلقد أورثونا مؤلفات تاريخيةً ضخمةً جميلة الأسلوب، ولكنهم لم يورثونا التاريخ علمًا من العلوم يقوم على أساس فلسفي. فمثلًا كانوا يعلِّلون عدم بلوغ الإنسانية منذ زمن بعيد درجةً أعلى مما بلغته في المدنية بالاستناد إلى حوادث أولية، كالزلزال والطوفان ونحوها، ومن جهة أخرى كانت الفلسفة المسيحية تعتبر التاريخ بوقائعه تحقُّقًا أو تمهيدًا لمملكة الله على الأرض. ثم جاء ابن خلدون فكان أول من حاول أن يربط بين تطوُّر الاجتماع الإنساني وبين علله القريبة، مع حسن الإدراك لمسائل البحث، وتقريرها بالأدلة المقنعة.»
«وابن خلدون إذ يمهِّد السبيل لعلم جديد، لا يشير إلا لمسائله الكبرى، ولا ينوِّه بموضوعه ومنهجه إلا بالإجمال، وهو يرجو أن يأتي من بعده فيواصلوا أبحاثه، ويُظْهِروا مسائل جديدة، معتمدين على الفكر الصحيح والعلم المبين.»
«ولقد سارت آمال ابن خلدون في طريق التحقيق، ولكنها لم تتحقَّق على أيدي المسلمين، وكما أنه لم يسبق إلى ابتكار موضوعه، فكذلك لم يجد من يخْلُفُه في أبحاثه، ومع هذا فإن كتابه أثَّر في الشرق زمانًا طويلًا، وكثير من ساسة المسلمين الذين قضوا على آمال كثيرين من ملوك أوروبا وساستها، منذ القرن الخامس عشر، كانوا ممن قرأ ابن خلدون، وتخرَّج في كتبه.»
-
(ي)
إن أحدث وأشمل الدراسات التي كُتِبت عن فلسفة التاريخ، ربما كانت المجلدات التي نشرها «توينبي»، الأستاذ في جامعة أكسفورد، بعنوان: «دراسة في التاريخ». يقع هذا المؤلَّف في ستة مجلدات، وقد نُشِر السادس منها سنة ١٩٣٩.
يذكر توينبي في هذه المجلدات ابن خلدون عدة مرات، ويشير إلى آرائه ونظرياته في أكثر من عشرة مواضع، ويخص بعضها أحيانًا بعدة صفحات.
يعد «توينبي» ابن خلدون من العباقرة، ويرى في مقدمته دلائل ساطعةً على «سعة النظر، وعمق البحث، وقوة التفكير»، ويمتلئ إعجابًا بها.
إنه لا يغفل عن النواقص الموجودة في المقدمة، ولا سيما من وجهة انطباق أحكامها على المجتمعات الغربية، وتواريخ الأمم الأوروبية. غير أنه يعزو هذه النواقص إلى الظروف الخاصة التي نشأ فيها ابن خلدون، والشواهد والوقائع التاريخية التي اطلع عليها في تلك الظروف، ويقول تأييدًا لهذا التعليل: «لو أن فيلسوفًا سياسيًّا قادرًا على تفهُّم آراء ابن خلدون قد ظهر في العالم المسيحي الغربي في أي وقت خلال القرون الأربعة الأولى من تاريخنا الغربي؛ لوجد ذلك العبقري الوهمي بكل تأكيد في آراء ابن خلدون، تفسيرًا فلسفيًّا مُرضيًا لكل الشواهد والوقائع التاريخية التي كانت في متناوَل العقول الغربية في تلك الحقبة.»
وبعد شرح الوقائع التي كانت قد حدثت عندئذٍ يضيف توينبي إلى ذلك ما يلي:
«وفي سياق هذا الكلام يجب أن نتذكَّر القاعدة التي اتخذناها نقطة ابتداء في دراساتنا للتاريخ، هذه القاعدة التي تنص على أن كل تفكير تاريخي هو حتمًا نسبي تابع لظروف زمان ومكان المفكر. هذا هو قانون الطبيعة البشرية الذي لا يمكن لأي عبقري بشري أن يُسْتَثْنَى منه.»
وعندما يشير توينبي إلى أن ابن خلدون كتب المقدمة خلال خلوته في قلعة ابن سلامة، بعد اعتزاله الحياة السياسية، يلمِّح إلى ما يحدث في الشرانق، فيقول:
«إن رجل الأعمال الزائل عاد إلى الظهور من عزلته، وقد تغيَّر شكله نهائيًّا إلى شكل الفيلسوف الخالد الذي لا يزال فكره يعيش في عقل كل من يطالع المقدمة.»
وفي الأخير يصدر توينبي على عمل ابن خلدون هذا الحكم الثمين:
«إن ابن خلدون — في المقدمة التي كتبها لتاريخه العام — قد أدرك وتصوَّر وأنشأ فلسفةً للتاريخ، هي بلا شك أعظم عمل من نوعه خلقه أي عقل في أي زمان ومكان.»