نظرية العصبية
إن نظرية العصبية من أهم وأَطْرَف النظريات التي وضعها ابن خلدون، نستطيع أن نقول إنها بمثابة المحور الذي يدور حوله معظم المباحث الاجتماعية، وتتصل به جميع مباحث «الاجتماع السياسي» في المقدمة.
لا يستطيع القارئ أن يحصل على فكرة تامة عن نظرية العصبية بقراءة فصل واحد أو بضعة فصول من المقدمة؛ لأن ابن خلدون يبني هذه النظرية بالتدريج، ويكوِّن هذه الأنظومة قسمًا بعد قسم، شأن جميع المفكرين الذين يضعون النظريات المفصَّلة، ويؤسِّسون الأنظومات الكبيرة.
فلأجل أن نحصل على فكرة تامة عن هذه النظرية الاجتماعية والأنظومة السياسية، يجب علينا أن نستعرض ما جاء في معظم فصول البابين الثاني والثالث، وفي أحد فصول الباب الرابع، حول العصبية، وعلينا أن ننعم النظر — بوجه خاص — في الفصول التالية:
من الباب الثاني: الفصل الذي يقرر «أن سكنى البدو لا يكون إلا للقبائل أهل العصبية»، والفصول الخمسة التي تليه (ص١٢٧–١٣٤)، ثم الفصل الذي يقرر «أن الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك» (ص١٣٩-١٤٠).
ومن الباب الثالث: الفصل القائل «إن الملك والدولة إنما يحصلان بالقبيل والعصبية»، والفصول الستة التي تليه (ص١٥٤–١٦٢)، ثم الفصل الذي يقرر «أن الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قلَّ أن تستحكم فيها دولة»، والفصل الذي يليه (ص١٦٤–١٦٧)، ثم «الفصل الباحث في أحوال الموالي والمصطنعين في الدولة» (ص١٨٤)، وفصل حقيقة الملك (ص١٨٧)، ثم فصل «كيفية طروق الخلل للدولة» (ص٢٩٤).
ومن الباب الرابع: فصل «وجود العصبية في الأمصار» (ص٣٧٧).
١
-
(١)
إن الرابطة المعنوية التي تربط ذوي القربى والأرحام بعضهم ببعض من الأمور التي لم تَخْفَ على أنظار العقول السليمة في العالم العربي منذ العصور القديمة. ومما يدل على ذلك دلالةً قوية؛ أن اللغة العربية تسمِّي ذوي القربى باسم «العصبة»، وهذه الكلمة تمت بصلة الاشتقاق إلى كلمة «العصب» بمعنى الشد والربط، وكلمة «العصابة» بمعنى «الرابطة»، كما أنها تسمِّي الخصال والأفعال الناجمة عن ذلك — من تعاضد وتشيُّع — باسم «العصبية».
أمَّا ابن خلدون فيتخذ رابطة العصبية موضوعًا لدراسة شاملة وعميقة، يستعرض أشكالها وصورها المختلفة، ويتتبع الأدوار التي في حياة المجتمعات بوجه عام، وفي حياة الدول بوجه خاص، بتوسُّع يستلفت الأنظار، وتعمُّق يستثير الإعجاب.
-
(٢)
يتكلَّم ابن خلدون أولًا عن مصدر العصبية، ويردُّها إلى الطبيعة البشرية، وإلى أثر القرابة في الحياة الاجتماعية:
«إن صلة الرحم طبيعية في البشر، إلا في الأقل، ومن صلتها؛ النعرة على ذوي القربى والأرحام أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة.»
«فإن القريب يجد في نفسه غضاضةً من ظلم قريبه أو العداء عليه، ويود لو يحول بينه وبين ما يصله من المعاطب والمهالك.»
«نزعة طبيعية في البشر مذ كانوا» (ص١٢٩).
إن هذه النزعة الطبيعية في البشر تؤدي إلى «الاتحاد والالتحام» بين أفراد النسب الواحد؛ لأنها تحملهم على «التعاضد والتناصر»، وتستلزم «استماتة كل واحد منهم دون صاحبه» (ص١٥٤).
ولهذا السبب نجد أن أفراد النسب الواحد يشتركون في «حمل الديات»، ويتعاونون على «دفع العدوان»، ويتناصرون في «تحقيق المطالبات».
«وأمَّا المنفردون في أنسابهم، فقلَّ أن يصيب أحدًا منهم نعرة على صاحبه. فإذا أظلم الشر يوم الحرب؛ تسلَّل كل واحد منهم يبغي النجاة لنفسه» (ص١٢٨).
يتبيَّن مما تقدم أن العصبية تتولَّد من القرابة — من حيث الأساس — وهي تستند إلى وحدة النسب في الدرجة الأولى.
-
(٣)
غير أن القرابة والنسب من الأمور التي تحتاج إلى نظر وتأمُّل من وجوه عديدة.
-
أولًا: إن للقرابة درجات ومراتب متفاوتة،
من التي بين أبناء الأب الواحد إلى التي
بين أهل القبيلة الواحدة. إذ لا شك في أن
القرابة التي تربط الإخوة المنحدرين من
صلب أب واحد، تكون أقوى من التي تربط أهل
البيت الواحد، كما أن هذه تكون أقوى من
القرابة التي تربط أهل العشير الواحد،
وخاصةً من التي تربط بطون القبيلة
الواحدة.
إن قوة العصبية المتولدة من القرابة تختلف باختلاف درجة هذه القرابة؛ ولذلك نجد أن الالتحام المتولِّد من وحدة النسب الخاص يكون أقوى من الالتحام المتأتي من وحدة النسب العام.
«والنعرة تقع من أهل النسب الخاص والعام» في وقت واحد، غير أنها «تكون أشد في النسب الخاص» (ص١٣١).
-
ثانيًا: إن رابطة النسب لا تنحصر في نطاق
القرابة وحدها؛ لأن الفرد قد ينفصل من
نسبه الأصلي، وينضم إلى نسب آخر. إن
انتقال الفرد من نسب إلى آخر — أو سقوطه
إلى نسب آخر حسب تعبير ابن خلدون — يحدث
لأسباب عديدة وبصور شتى، أهمها:
(أ) القرابة. (ب) الحلف. (ﺟ) الولاء. (د) الدخالة.
«من البيِّن أن بعضًا من أهل الأنساب يسقط إلى نسب آخر بقرابة إليهم أو حلف أو ولاء، أو لفرار من قومه بجناية أصابها، فيدَّعي بنسب هؤلاء، ويعد منهم في ثمراته من النعرة والقود وحمل الديات وسائر الأحوال. وإذا وُجِدت ثمرات النسب فكأنه وُجِد؛ لأنه لا معنى لكونه من هؤلاء أو من هؤلاء، إلا جريان أحكامهم وأحوالهم عليه، وكأنه التحم بهم. ثم إنه قد يتناسى النسب الأول بطول الزمن، ويذهب أهل العلم به، فيخفى على الأكثر.»
«وما زالت الأنساب تسقط من شعب إلى شعب، ويلتحم قوم بآخرين في الجاهلية والإسلام، والعرب والعجم» (ص١٣٠).
ولهذا السبب يوسِّع ابن خلدون مفهوم «النسب» من معناه الضيق الدارج، ويشمله إلى الحلف والولاء أيضًا، حتى إنه لا يتردَّد في استحداث تعبير «نسب الولاء» قياسًا على تعبير «نسب الولادة».
-
أولًا: إن للقرابة درجات ومراتب متفاوتة،
من التي بين أبناء الأب الواحد إلى التي
بين أهل القبيلة الواحدة. إذ لا شك في أن
القرابة التي تربط الإخوة المنحدرين من
صلب أب واحد، تكون أقوى من التي تربط أهل
البيت الواحد، كما أن هذه تكون أقوى من
القرابة التي تربط أهل العشير الواحد،
وخاصةً من التي تربط بطون القبيلة
الواحدة.
-
(٤)
يُفْهَم من ذلك كله أن العصبية في نظر ابن خلدون لا تنحصر بأصحاب النسب الواحد بمعناه الدارج — أو بأصحاب نسب الولادة، حسب تعبيره هو — بل يشمل أصحاب نسب الولاء أيضًا.
ولذلك يقول ابن خلدون في عنوان أحد الفصول: «إن العصبية إنما تكون من الالتحام بالنسب أو ما في معناه» (ص١٢٨)، كما يصرِّح في الفصل المذكور بأن «اللُّحمة الحاصلة من الولاء مثل لُحْمَة النسب، أو قريبًا منها» (ص١٢٩).
ولا يكتفي ابن خلدون بسرد هذه الآراء — بصورة اختبارية فحسب — بل يسعى إلى تفسيرها وتعليلها بصورة علمية أيضًا.
«إن النسب أمر وهمي (أي ذهني ومعنوي) لا حقيقة له» (ص١٢٩)، «وإن كان طبيعيًّا» (ص١٨٤).
وأمَّا تأثير وحدة النسب في توليد الالتحام، فهو نتيجة طبيعية للصحبة والعشرة التي تنجم عن تلك الوحدة.
فإن «المعنى الذي كان به الالتحام، إنما هو العِشْرة والمدافعة، وطول الممارسة والصحبة بالمربى والرضاع، وسائر أحوال الموت والحياة» (ص١٨٤).
ولهذا السبب نجد أن النسب إذا أصبح مجهولًا بين أصحابه، وخرج عن الوضوح، وصار من قبيل العلوم؛ زال تأثيره، وذهبت فائدته من النفس، فلم تتولَّد منه عصبية ما، «وانتفت النعرة التي تحمل عليها العصبية» (ص١٢٩).
وأمَّا بعكس ذلك إذا حصلت ثمرات النسب التي ذكرناها آنفًا من أسباب غير سبب القرابة — كالحلف والولاء مثلًا — تولَّد منها عصبية، ونتج عنها نعرة ولحمة، على الرغم من عدم وجود القرابة.
-
(٥)
إن النسب يبقى محفوظًا وصريحًا في الحياة البدوية، والعصبية المتولدة منه تكون قويةً في تلك الحياة، إلا أن النسب يفقد صراحته، والعصبية تفقد قوتها في الحياة الحضرية؛ وذلك لسببين هامين:
- أولًا: إن حياة البداوة تتضمَّن شيئًا من
الاعتزال، فاختلاط الأنساب يكون قليلًا
فيها بطبيعة الحال.
«إن القفر مكان الشظف والسغب»، والعيش فيه «صار لهم إلْفًا وعادة، ورُبِّيَتْ فيه أجيالهم حتى تمكَّنت خَلقًا وجِبلَّة، فلا يترع إليهم أحد من الأمم أن يساهمهم في حالهم، ولا يأنس بهم أحد من الأجيال؛ فيؤمن عليهم لأجل ذلك من اختلاط أنسابهم وفسادها» (ص١٢٩).
- ثانيًا: إن حالة البداوة تقتضي بطبيعتها وجود عصبية قوية؛ لأن الدفاع عن الحي لا يتم إلا على أيدي «أنجادهم المعروفين بالشجاعة، ولا يصدق دفاعهم وذيادهم إلا إذا كانوا عصبيةً وأهل نسب واحد؛ لأنهم بذلك تشتد شوكتهم ويُخْشَى جانبهم». أمَّا المنفردون في أنسابهم، «فلا يقدرون على سكنى القفر»؛ لأنهم يصبحون «طعمةً لمن يلتهمهم من الأمم سواهم» (ص١٢٨).
غير أن الأمر يختلف عن ذلك اختلافًا كليًّا في الحياة الحضرية؛ لأن أهل الحضر يكِلُون «أمرهم في المدافعة عن أموالهم وأنفسهم إلى واليهم والحاكم الذي يسوسهم، والحامية التي تولَّت حراستهم» (ص١٢٥)، فلا يكونون بحاجة شديدة إلى العصبية.
- أولًا: إن حياة البداوة تتضمَّن شيئًا من
الاعتزال، فاختلاط الأنساب يكون قليلًا
فيها بطبيعة الحال.
-
(٦)
«إن مجموع الأفراد الذين يرتبطون برباط القرابة والولاء، فيدخلون في نطاق عصبية واحدة، ينزلون «منزلة الوحدان» بالنسبة إلى العصبيات الأخرى، ويحدث بين هذه العصبيات من التناصر والتخاذل، والتنازع والتغلُّب ما يحدث بين الأفراد» (ص١٣٩).
فإن «القبيل الواحد يتألَّف من بيوتات متفرقة وعصبيات متعددة»، ومع ذلك تكون واحدةً منها — عادةً — أقوى من سائرها، تغلبها وتستتبعها، وتلتحم جميع العصبيات فيها، وتصير كأنها عصبية واحدة كبرى (ص١٣٩).
قد تكون العصبية «متألِّفةً من عصائب كثيرة»، ولكنه «لا بد من أن تكون واحدة منها هي الغالبة على الكل، حتى تجمعها وتؤلَّفها، وتصيِّرها عصبيةً واحدةً شاملةً لجميع العصائب، وهي موجودة في ضمنها» (ص١٦٦).
يظهر من ذلك أن العصبيات التي تربط الأفراد بعضهم ببعض لا تبقى منفردةً ومستقلةً تمامًا، بل إنها — بدورها — تترابط وتتلاحم، فتكوِّن نوعًا أكبر وأشمل من العصبيات.
وإذا أردنا أن نعبِّر عن رأي ابن خلدون في هذا الصدد بالتعبيرات المألوفة الآن، يجب أن نسمي العصائب الاعتيادية التي تتألَّف من التحام الأفراد بعضهم ببعض باسم «العصائب البسيطة»، كما نسمي تلك التي تتكوَّن من التحام العصائب البسيطة بعضها ببعض باسم «العصائب المركبة».
إن رأي ابن خلدون في هذا الصدد يظهر بوضوح أعظم وجلاء أتم من فقرة كتبها في فصل «الحرب ومذاهب الأمم في ترتيبها»؛ لأنه قال في الفصل المذكور عندما استعرض أسباب الغلب في الحروب:
«إذا كان في أحد الجانبين عصبية واحدة جامعة لكلهم، وفي الجانب الآخر عصائب متعددة»، فالجانب الذي تكون «عصابته متعددةً لا يستطيع أن يقاوم الجانب الذي عصبته واحدة»؛ لأن «العصائب إذا كانت متعددة؛ يقع بينها من التخاذل ما يقع في الوحدان المتفرقين الفاقدين للعصبية، تنزل كل عصابة منهم منزلة الواحد» (ص٢٧٨).
-
(٧)
رأينا مما تقدَّم أن ابن خلدون فسَّر العصبية أولًا برابطة القرابة والنسب، ثم وسَّعها إلى الولاء والحلف.
غير أنه لم يكتفِ بذلك أيضًا، بل وسَّع مفهوم العصبية أكثر من ذلك، وشملها إلى الرق والاصطناع، وقد قال:
«إذا اصطنع أهل العصبية قومًا من غير نسبهم، أو استرقوا العبدان والموالي والتحموا به؛ ضرب معهم أولئك الموالي المصطنعون بنسبهم في تلك العصبية، ولبسوا جلدتها كأنها عصبيتهم، وحصل لهم من الانتظام في العصبية مساهمة في نسبها» (ص١٣٥).
كما أنه قال: «إن المصطنعين في الدول يتفاوتون بالالتحام بصاحب الدولة، يتفاوت قديمهم وحديثهم في الالتحام بصاحبها، والسبب في ذلك أن المقصود من العصبية من المدافعة والمغالبة إنما يتم بالنسب لأجل التناصر في ذوي الأرحام والقربى، والتخاذل في الأجانب البعداء كما قدَّمناه. والولاية والمخالطة بالرق أو بالتحالف تتنزَّل منزلة ذلك؛ لأن أمر النسب وإن كان طبيعيًّا فإنما هو وهمي، والمعنى الذي كان به الالتحام إنما هو العِشْرة والمدافعة وطول الممارسة والصحبة بالمربى والرضاع وسائر أحوال الموت والحياة. وإذا حصل الالتحام بذلك جاءت النعرة والتناصر، وهذا مشاهَدٌ بين الناس.»
«واعتبر مثله في الاصطناع؛ فإنه يحدث بين المصطنع وبين من اصطنعه نسبة خاصة من الوصلة، فتنزل هذه المنزلة وتؤكد اللُّحمة، وإن لم يكن نسب فثمرات النسب موجودة.»
«فإذا كانت هذه الولاية بين القبيل وبين أوليائهم قبل حصول الملك لهم، كانت عروقها أوشج، وعقائدها أصح، ونَسَبها أصرح؛ لوجهين:
- أحدهما: أنهم قبل الملك أسوة في حالهم، فلا يتميَّز النسب عن الولاية إلا عند الأقل منهم، فيتنزلون منهم منزلة ذوي قرابتهم وأهل أرحامهم». وأمَّا إذا «اصطنعوهم بعد الملك؛ كانت مرتبة الملك مميزةً للسيد عن المولى، ولأهل القرابة عن أهل الولاية والاصطناع؛ لما تقتضيه أحوال الرئاسة والملك من تميُّز الرتب وتفاوتها. فتتميز حالتهم، ويتنزلون منزلة الأجانب، ويكون الالتحام بينهم أضعف، والتناصر لذلك أبعد، وذلك أنقص من الاصطناع قبل الملك.
- الوجه الثاني: أن الاصطناع قبل الملك يبعد عهده عن أهل الدولة بطول الزمان، ويخفي شأن تلك اللحمة، ويظن بها في الأكثر النسب، فيقوى حال العصبية. وأمَّا بعد الملك فيقرب العهد، ويستوي في معرفته الأكثر، فتتبيَّن اللُّحمة، وتتميَّز عن النسب؛ فتضعف العصبية بالنسبة إلى الولاية التي كانت قبل الدولة» (ص١٨٤).
-
(٨)
رأينا فيما سبق أن ابن خلدون قد اعتبر العصبية من خصائص البادية، وصرَّح بأن الحياة الحضرية تؤدي إلى دثور العصبية وتلاشيها، مع كل هذا فإنه لم يغفل عن وجود العصبية في الأمصار أيضًا، وعنون أحد فصول الباب الرابع بالعنوان التالي: «وجود العصبية في الأمصار، وتغلُّب بعضهم على بعض» (ص٣٧٧).
يبدأ هذا الفصل بالعبارة التالية: «من البيِّن أن الالتحام والاتصال موجود في طباع البشر، وإن لم يكونوا أهل نسب واحد، إلا أنه — كما قدَّمناه — أضعف مما يكون بالنسب.»
إننا نعتبر هذه العبارة مهمةً جدًّا لتعيين مدى توسُّع ابن خلدون في ملاحظة آثار الالتحام والاتصال في الحياة الاجتماعية، ولفهم ما يقصده من العصبية والنسب حق الفهم.
يقول ابن خلدون — بعد العبارة الآنفة الذكر — ما يلي:
«أهل الأمصار كثير منهم ملتحمون بالصهر، يجذب بعضهم بعضًا إلى أن يكونوا لُحمًا لُحمًا، وقرابةً قرابة، وتجد بينهم من العداوة والصداقة ما يكون بين القبائل والعشائر مثله؛ فيفترقون شيعًا وعصائب.»
«فإذا نزل الهرم بالدولة، وتقلَّص ظل الدولة عن القاصية؛ احتاج أهل أمصارها إلى القيام على أمرهم، والنظر في حماية بلدهم، ورجعوا إلى الشورى، وتميَّز العلية عن السفلة، والنفوس بطباعها متطاولة إلى الغلب والرئاسة، فتطمح المشيخة — لخلاء الجو من السلطان والدولة القاهرة — إلى الاستبداد، وينازع كلٌّ صاحبه، ويستوصلون بالأتباع من الموالي والشيع والأحلاف، ويبذلون ما في أيديهم للأوغاد والأوشاب؛ فيعصوصب كلٌّ لصاحبه، ويتعيَّن الغلب لبعضهم» (ص٣٧٧).
وبعد أن يشرح ابن خلدون الملك الذي قد يتأسَّس من جراء هذا الغلب، يقول:
«إنما دفعهم إلى ذلك تقلُّص ظل الدولة، والتحام بعض القرابات، حتى صارت عصبية» (ص٣٧٨).
٢
-
(١)
وأمَّا الأدوار التي تلعبها العصبية في الحياة الاجتماعية فهي كثيرة ومهمة جدًّا في نظر ابن خلدون، كما يظهر بكل وضوح من العبارات التالية:
«العصبية تحمل الأفراد على التناصر والتعاضد في المدافعة والحماية والمقاتلة.»
إنها ضرورية «في كل أمر يُحْمَل الناس عليه من نبوَّة أو إقامة ملك أو دعوة؛ إذ بلوغ الغرض من ذلك كله إنما يتم بالقتال عليه؛ لما في طباع البشر من الاستعصاء، ولا بد في القتال من العصبية» (ص١٢٨).
«الملك إنما يحصل بالتغلُّب، والتغلُّب إنما يكون بالعصبية» (ص١٥٧).
«الرئاسة لا تكون إلا بالغلب، والغلب إنما يكون بالعصبية» (ص١٣٢).
«إن العصبية بها تكون الحماية والمدافعة والمطالبة، وكل أمر يُجْتَمع عليه» (ص١٣٩).
«كل امرئ يحمل عليه الكافة فلا بد له من العصبية» (ص١٥٩).
«إن المطالبات كلها والمدافعات لا تتم إلا بالعصبية» (ص١٨٧).
يشرح ابن خلدون هذه الأمور والتأثيرات المختلفة بتفصيل وافٍ من فصول مختلفة، ويتوسَّع بوجه خاص في أمر تأثير العصبية في تكوين الدول.
ونحن نرى أن نتعمَّق في درس رأي ابن خلدون في علاقة العصبية بالدولة أولًا، وبالديانة ثانيًا.
-
(٢)
تلعب العصبية دورًا هامًّا في تأسيس الملك وتكوين الدولة؛ لأن «الغاية التي تجري بها العصبية هي الملك» (ص١٣٩)، «والملك إنما يحصل بالتغلُّب، والتغلُّب إنما يكون بالعصبية» (ص١٥٧).
إن قوة العصبية تنزع بطبعها إلى الحكم والسيادة، والتوسُّع في الحكم والسيادة.
«وصاحب العصبية إذا بلغ رتبةً طلب ما فوقها، فإذا بلغ رتبة السؤدد والاتباع، ووجد السبيل إلى التغلُّب والقهر؛ لا يتركه؛ لأنه مطلوب للنفس، ولا يتم اقتدارها عليه إلا بالعصبية التي يكون بها متبوعًا، فالتغلُّب الملكي غاية للعصبية» (ص١٣٩).
«ثم إن القبيل الواحد وإن كانت فيه بيوتات متفرقة وعصبيات متعددة، فلا بد من عصبية تكون أقوى من جميعها تغلبها وتستتبعها …»
«ثم إذا حصل التغلُّب بتلك العصبية على قومها، طلبت بطبيعتها التغلُّب على أهل عصبية أخرى بعيدة عنها، فإن كافأتها أو مانعتها كانوا أقتالًا وأنظارًا، ولكل واحدة منهما التغلُّب على حوزتها وقومها، شأن القبائل المتفرقة في العالم، وإن غلبتها واستتبعتها التحمت بها أيضًا، وزادت قوةً في التغلُّب إلى قوتها، وطلبت غايةً في التغلُّب والتحكُّم أعلى من الغاية الأولى وأبعد.»
«وهكذا دائمًا حتى تكافئ بقوتها قوة الدولة.»
«فإن أدركت الدولة١ في هرمها، ولم يكن لها ممانع من أولياء الدولة أهل العصبيات؛ استولت عليها وانتزعت الأمر من يدها، وصار الملك أجمع لها.»«وإن انتهت إلى قوتها ولم يقارن ذلك هرم الدولة، وإنما قارن حاجتها إلى الاستظهار بأهل العصبيات؛ انتظمتها الدولة في أوليائها، تستظهر بها على ما بقي من مقاصدها.»
وخلاصة القول: «إن الملك هو غاية العصبية، وإنها إذا بلغت غايتها حصل للقبيلة الملك، إمَّا بالاستبداد أو بالمظاهرة، حسب ما يسعه الوقت المقارن لذلك، وإن عاقها عن بلوغ الغاية عوائق — كما نبينه — وقفت في مقامها» (ص١٣٩-١٤٠).
إن الملك يحصل بهذه الصورة، والدولة تتأسَّس على هذا المنوال، ولا يحصل الملك إلا بهذه الصورة، ولا تتأسَّس الدولة إلا على هذا المنوال:
«لأن الملك منصب شريف ملذوذ، يشتمل جميع الخيرات الدنيوية، والشهوات البدنية، والملاذ النفسانية، فيقع فيه التنافس غالبًا، وقلَّ أن يسلمه أحد لصاحبه إلا غلب عليه، فتقع المنازعة، وتفضي إلى الحرب والقتال والمغالبة.» ومن المعلوم «أن شيئًا منها لا يقع إلا بالعصبية» (ص١٥٤).
-
(٣)
يظهر من ذلك كله أن العصبية ضرورية لتأسيس الملك والدولة.
غير أن الضرورة تنحصر في دور التأسيس والتمهيد، وأمَّا بعد ذلك — «إذا استقرَّت الدولة وتمهَّدت» — فقد تستغني عن العصبية للأسباب التالية:
«إن الدولة العامة في أولها تكون غريبةً على الناس، غير مألوفة لديهم؛ ولذلك «يصعب على النفوس الانقياد لها إلا بقوة قوية من الغلب»، وذلك لا يتم إلا بوجود عصبية قوية بطبيعة الحال.
ولكن الرئاسة «إذا استقرت في أهل النصاب المخصوص بالملك في الدولة»، وتوارثوه واحدًا بعد آخر «في أعقاب كثيرين ودول متعاقبة»؛ أَلِفَ الناس ملكها واعتادوه، و«نسيت النفوس شأن الأولية، واستحكمت لأهل ذلك النصاب صبغة الرئاسة، ورسخ في العقائد دين الانقياد لهم والتسليم، وقاتل الناس على أمرهم قتالهم على العقائد الإيمانية، فلم يحتاجوا حينئذ في أمرهم إلى كبير عصابة، بل كأن طاعتها كتاب من الله لا يُبدَّل ولا يُعْلَم خلافه» (ص١٥٤-١٥٥).
«ويكون حينئذ استظهارهم على سلطانهم ودولتهم المخصوصة» بالوسائط الثلاث التالية:- (أ)
«إمَّا بالموالي والمصطنعين الذين نشئوا في ظل العصبية.»
- (ب)
«وإمَّا بالعصائب الخارجين عن نسبها الداخلين في ولايتها.»
- (جـ)
«وإما بالجند المرتزقة المستخدمين بالأجرة» (ص١٥٥-١٥٦).
يبرهن ابن خلدون على رأيه هذا بعدة شواهد تاريخية، وينتقد «الطرطوشي» الذي كان قد ظن «أن حامية الدول بإطلاق هم الجند أهل العطاء المفروض مع الأهلة»، قائلًا: «إن كلامه لا يتناول تأسيس الدول العامة، وإنما هو مخصوص بالدول الأخيرة، بعد التمهيد واستقرار الملك في النصاب، واستحكام الصبغة لأهله». فالرجل — أي الطرطوشي — إنما أدرك الدولة عند هرمها وخلق جِدَّتها، ورجوعها إلى الاستظهار بالموالي والصنائع، ثم إلى المستخدمين من ورائها بالأجر على المدافعة». فأطلق الطرطوشي القول في ذلك مستندًا إلى أحوال «دول الطوائف» التي أدركها، و«لم يتفطَّن لكيفية الأمر منذ أول الدولة» (ص١٥٦).
بعد هذا النقد والتعليل والتوجيه يؤكد ابن خلدون رأيه الأصلي قائلًا:
«إن الأمر في أول الدولة لا يتم إلا لأهل العصبية، فتفطَّن أنت له، وافْهَمْ سر الله فيه» (ص١٥٦).
- (أ)
-
(٤)
لا يكتفي ابن خلدون بالقول «إن الملك والدولة العامة إنما يحصلان بالقبيل والعصبية»، بل يذهب إلى أن «اتساع الدولة يكون متناسبًا مع قوة تلك العصبية»، فيقول: «إن كل دولة لها حصة من الممالك والأوطان لا تزيد عليها» (ص١٦١). ويبرهن على ذلك بالملاحظات التالية:
«إن عصابة الدولة وقومها القائمين بها الممهِّدين لها، لا بد من توزيعهم حصصًا على الممالك والثغور التي تصير إليهم ويستولون عليها؛ لحمايتها من العدو، وإمضاء أحكام الدولة فيها — من جباية وردع وغير ذلك — فإذا توزَّعت العصائب كلها على الثغور والممالك فلا بد من نفاد عددها»، وتكون الممالك قد بلغت «حينئذ إلى حدٍّ يكون ثغرًا للدولة، وتخمًا لوطنها، ونطاقًا لمركز ملكها، فإذا تكلَّفت الدولة بعد ذلك زيادةً على ما بيدها؛ بقي بدون حامية، وكان موضعًا لانتهاز الفرصة من العدو والمجاور» (ص١٦١).
ابن خلدون يواصل التعمُّق في التعليل قائلًا:
«والعلة الطبيعية في ذلك؛ هي أن قوة العصبية (مثل) سائر القوى الطبيعية، وكل قوة يصدر عنها فعل من الأفعال فشأنها ذلك في فعلها، والدولة في مركزها أشد مما يكون في الطرف والنطاق، وإذا انتهت إلى النطاق الذي هو الغاية؛ عجزت وأقصرت عمَّا وراءه، شأن الأشعة والأنوار إذا انبعثت من المراكز، والدوائر المنفسحة على سطح الماء من النقر عليه» (ص١٦٢).
-
(٥)
بينما يقرِّر ابن خلدون — من جهة — أن العصبية ضرورية لتأسيس الدولة، يلاحظ — من جهة أخرى — أنها قد تعرقل تأسيس الدولة، وذلك إذا كانت متعددةً ومتخالفة؛ لأنه يقول في عنوان فصل من الفصول: «إن الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قلَّ أن تستحكم فيها دولة» (ص١٦٤)، ويعلِّل ذلك بالملاحظات التالية:
«والسبب في ذلك اختلاف الآراء والأهواء، وأن وراء كل رأي منها وهوًى عصبية تمانع دونها؛ فيكثر الانتقاض على الدولة، والخروج عليها في كل وقت، وإن كانت ذات عصبية؛ لأن كل عصبية ممن تحت يدها تظن في نفسها منعةً وقوة» (ص١٦٤).
يستشهد ابن خلدون على ذلك بما حدث في «إفريقية والمغرب منذ أول الإسلام».
«فإن ساكن هذه الأوطان من البربر أهل قبائل وعصبيات، فلم يُغْنِ فيهم الغلب الأول شيئًا، وعادوا بعد ذلك إلى الثورة والردة مرةً بعد أخرى، وعظم إثخان المسلمين فيهم. ولما استقر الدين عندهم؛ عادوا إلى الثورة والخروج، والأخذ بدين الخوارج مرات عديدة» (ص١٦٤). لأن قبائلهم بالمغرب كانت «أكثر من أن تحصى، وكلهم بادية وأهل عصائب وعشائر، وكلما هلكت قبيلة عادت الأخرى إلى مكانها، وإلى دينها من الخلاف والردة، فطال أمر العرب في تمهيد الدولة بوطن إفريقية والمغرب» (ص١٦٥).
وذلك يدل دلالةً واضحةً على أن «كثرة العصائب والقبائل تحمل على عدم الإذعان والانقياد للدولة» (ص١٦٤).
وبعكس ذلك فإن «الأوطان الخالية من العصبيات، يسهل تمهيد الدولة فيها»؛ لأن سلطانها يكون «وازعًا لقلة الهرج والانتقاض، ولا تحتاج الدولة فيها إلى كثير من العصبية» (ص١٥٦).
ويستشهد ابن خلدون على ذلك أولًا بما حدث في الشام والعراق في أول الإسلام؛ لم يكن هناك عندئذٍ قبائل وعصائب مثل ما كان في إفريقية والمغرب، «لم يكن العراق لذلك العهد بتلك الصفة ولا الشام، وإنما كانت حاميتها من فارس والروم والكافة دهماء، أهل مدن وأمصار، فلما غلبهم المسلمون على الأمر، وانتزعوه من أيديهم؛ لم يبقَ فيها ممانع ولا مشاق» (ص١٦٤).
كما يستشهد بأحوال مصر والشام والأندلس في عهد كتابة المقدمة:
«إن مُلْك مصر في غاية الدَّعة والرسوخ؛ لقلة الخوارج وأهل العصائب»، و«كذا أهل الأندلس لهذا العهد (ص١٦٥)؛ فإن قُطْرَ الأندلس لقلة العصائب والقبائل فيه، يغني عن كثرة العصبية في التغلُّب عليهم» (ص١٦٦).
٣
-
(١)
يلاحظ ابن خلدون بعض العلائق الهامة بين قوة العصبية وبين أمور الديانة والدعوة الدينية أيضًا، فإنه يقول أولًا:
«إن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم» (ص١٥٩)؛ لأن هذه الدعوة تتضمَّن حمل الناس على السير وفق ما تقتضيه الأوامر الدينية؛ ولذلك لا تخرج عن نطاق الأمور التي تحتاج إلى عصبية.
«إن الشرائع والديانات وكل أمر يُحْمَل عليه الجمهور، فلا بد فيه من العصبية؛ إذ المطالبة لا تتم إلا بها. فالعصبية ضرورية للملة» (ص٢٠٢).
يضيف ابن خلدون إلى هذا التعليل العقلي تعليلًا نقليًّا أيضًا، إذ يقول: «وفي الحديث: ما بعث الله نبيًّا إلا في منعة من قومه. وإذا كان هذا في الأنبياء، وهم أَوْلَى الناس بخرق العوائد، فما ظنك بغيرهم ألا تُخْرَق لهم العادة في الغلب بغير العصبية» (ص١٥٩).
ولا يكتفي ابن خلدون بهذه الدلائل العقلية والنقلية، بل يستشهد على هذه القضية بوقائع تاريخية؛ من فتنة طاهر في بغداد أيام الأمين والمأمون، إلى خروج التوبذري في سوس، ودعوة العباس في الغمارة، في العصر الذي عاش فيه المؤلف نفسه.
يعتقد ابن خلدون أن بعض هؤلاء الدعاة كانوا مخلصين في قيامهم، وكانوا يقصدون حقيقة إقامة الحق والنهي عن المنكر، غير أنهم لم ينجحوا في دعوتهم؛ لعدم معرفتهم ما تحتاج إليه مثل هذه الدعوات من العصبية.
غير أنه يرى — في الوقت نفسه — أن أكثر هؤلاء الدعاة كانوا موسوسين، أو مجانين، أو مُلبِّسين، وهؤلاء الأخيرون كانوا «يطلبون بمثل هذه الدعوة رئاسةً امتلأت بها جوانحهم، وعجزوا عن التوصُّل إليها بشيء من أسبابها العادية، فيحسون أن هذا من الأسباب البالغة بهم إلى ما يؤمِّلونه من ذلك، ولا يحسبون ما ينالهم فيه من الهلكة، فيسرع إليهم القتل بما يُحْدِثونه من الفتنة، وتسوء عاقبة مكرهم» (ص١٦١).
-
(٢)
بينما يقرِّر ابن خلدون — من جهة — ضرورة العصبية للدعوة الدينية — كما أسلفنا، يلاحظ من جهة أخرى نوعًا من المشابهة بين تأثير الدين، وبين تأثير العصبية في الحياة الاجتماعية:
لأن الديانة تؤلِّف القلوب، وتوجِّهها إلى «وجهة واحدة»، وتذهب بالتنافس والتحاسد، وتؤدي إلى اتفاق الأهواء، وتحمل على التعاون والتعاضد (ص١٥٧).
وإذا تذكَّرنا ما قاله ابن خلدون عن الدور الذي تلعبه العصبية في حمل الناس على التعاون والتعاضد؛ فهمنا بكل جلاء أن عمل الدين في هذا الصدد يشبه عمل العصبية؛ ولهذا السبب يقول ابن خلدون بصراحة تامة:
«إن الدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها قوةً على العصبية التي كانت لها من عددها» (ص١٥٨).
كما يقول: «إن الاجتماع الديني يضاعف قوة العصبية.»
فإذا حصل «الاجتماع الديني» في قوم من الأقوام ضَمِنَ لهم التغلُّب على من هم أوفر عددًا، وأقوى عصبيةً منهم إذا ما فقد القوم بعدئذ هذا «الاجتماع الديني»، وبتعبير آخر: «إذا حالت صبغة الدين وفسدت» عند هؤلاء؛ زال التغلُّب الذي كان قد حصل بفضل ذلك الاجتماع، وبتأثير تلك الصبغة؛ عندئذٍ «ينتقض الأمر، فيصير الغلب على نسبة العصبية وحدها دون زيادة الدين»؛ فتتغلَّب على «الدولة من كان تحت يدها من العصائب المكافئة لها، أو الزائدة القوة عليها»، بعد أن كانت الدولة المذكورة قد «غلبتهم بمضاعفة الدين لقوتها»، على الرغم من أنهم كانوا «أكثر عصبيةً وأشد بداوةً منها» (ص١٥٨).
يستشهد ابن خلدون على ذلك بوقائع تاريخية عديدة كلها مستنبطة من تاريخ الإسلام، ويذكر على الأخص «ما وقع للعرب في صدر الإسلام» بالقادسية واليرموك، حيث غلبت جيوش المسلمين «جموع فارس وجموع هرقل»، مع أن عددهم كان بضعةً وثلاثين ألفًا، في حين أن جموع فارس كانت نحو مائة وعشرين ألفًا بالقادسية، وجموع هرقل كانت — على ما قاله الواقدي — أربعمائة ألف باليرموك.
كما أنه يذكر ما حدث بين المصامدة وزنانة في دولة الموحدين:
«لما كانت زناتة أبدى من المصامدة وأشد توحُّشًا، وكان للمصامدة الدعوة الدينية باتباع المهدي، فلبسوا صبغتها، وتضاعفت قوة عصبيتهم، فغلبوا على زناتة أولًا فاستتبعوهم، وإن كانوا من حيث العصبية والبداوة أشد منهم. فلما خلوا من تلك الصبغة؛ انتفضت عليهم زناتة من كل جانب، وغلبوهم على الأمر، وانتزعوه منهم» (ص١٥٨).
-
(٣)
يتوسَّع ابن خلدون بوجه خاص في شرح تأثير الدين بين القبائل البدوية العربية:
إن هذه القبائل العربية «أصعب الأمم انقيادًا بعضهم لبعض؛ للغلظة والأنفة وبُعْد الهمة، والمنافسة في الرياسة، فقلَّما تجتمع أهواؤهم، فإذا كان الدين — بالنبوة أو الولاية — كان الوازع لهم من أنفسهم، وذهب خُلق الكبر والمنافسة منهم، وسهل انقيادهم واجتماعهم، وذلك بما يشملهم من الدين المُذْهِب للغلظة والأنفة، الوازع عن التحاسد والتنافس.»
ومن الطبيعي أنه «إذا تألَّفت كلمتهم لإظهار الحق تمَّ اجتماعهم، وحصل التغلُّب والملك» (ص١٥١).
يظهر من ذلك أيضًا أن الدين يؤثِّر — في نظر ابن خلدون — تأثيرًا مماثلًا لتأثير العصبية في جمع القبائل، وتأليف كلمتهم، وحملهم على التعاضد الذي يضمن الغلبة والملك.
-
(٤)
يتبيَّن من التفصيلات التي سردناها آنفًا أن نظرية ابن خلدون في «علاقة العصبية بالدولة»، ونظريته في «علاقة العصبية بالدين» يتمِّم بعضهما بعضًا، وتنسجمان تمام الانسجام في نطاق أنظومة واسعة الخطوط.
إن الملك والدولة العامة إنما يحصلان بالقبيل والعصبية.
إن الدعوة الدينية أيضًا لا تتمُّ من غير عصبية.
إلا أن هذه الدعوة إذا ما تمَّت بمساعدة القوة العصبية؛ ضاعفت تلك القوة، وجعلتها أقوى بكثير مما كانت عليه قبلًا.
ولهذا نجد أن الدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها قوةً على قوة العصبية التي كانت لها من عددها.
وكل ذلك يدل على أن أقوى الدول وأوسعها إنما تتكوَّن بانضمام الدعوة الدينية إلى قوة العصبية؛ ولهذا يقول ابن خلدون بصراحة:
«إن الدولة العامة الاستيلاء، العظيمة المُلْك، أصلها الدين، إمَّا من نبوة أو دعوة حق» (ص١٥٧).
(إن نظرية ابن خلدون في الدولة بصورة عامة مسرودة في الدراسة التي تلي هذه الدراسة.)
٤
بعد أن استعرضنا آراء ابن خلدون في العصبية، ولخَّصنا نظريته فيها وفي آثارها، يجدر بنا أن نتساءل: ما هو موقع هذه الآراء وهذه النظرية، من مباحث علم الاجتماع الحديث؟
غير أننا نلاحظ في الوقت نفسه أن التعبير الذي تَرْجَمَ به البارون دو سلان كلمة العصبية قاصر عن مقابلة مقاصد ابن خلدون مقابلةً كافية.
نحن لا نشك في أن التعبير الذي اقترحه غوتيه أقرب إلى معنى العصبية من التعبير الذي كان قد اختاره البارون دو سلان في ترجمة المقدمة، ومع هذا نعتقد أن هذا التعبير أيضًا قاصر عن أداء المفهوم الذي قصده ابن خلدون في النظرية التي سردناها ولخَّصناها آنفًا حق الأداء.
وأمَّا نقائص هذه النظرية فمتولدة من «محدودية ساحة نظر» ابن خلدون بحدود الحالة الاجتماعية والسياسية التي شاهدها وعاش فيها، وبحدود الوقائع التاريخية التي اطلع على تفاصيلها وحاول شرحها وتعليلها.
فإن البيئة الاجتماعية والسياسية التي عاش فيها ابن خلدون كانت بيئةً خاصة، تمت بصلات وثيقة إلى الحياة البدوية من جهة، والحياة الحضرية من جهة أخرى. إنها كانت بيئةً تجمع بين الحواضر والبوادي؛ لأنها كانت تتألَّف من مدن وأمصار داخلة في نطاق تأثير القبائل و«العشائر الرحَّالة»، أو قريبة من ميادين فعالياتها؛ ولذلك كانت الدول القائمة فيها تتأثَّر تأثُّرًا شديدًا من القبائل والعشائر، حتى إنها كثيرًا ما كانت تتكوَّن وتنحل، وتتوسَّع وتتقلَّص، وتقوم وتنهار من جراء تألُّب العشائر أو تشتُّتها.
لذلك لا نعدو الحقيقة إذا قلنا إن نظرية ابن خلدون كانت نظريةً موفَّقةً إلى حد كبير في إظهار أوثق أنواع «الروابط الاجتماعية»، وتعيين أهم أشكال «التكاتف الاجتماعي» في مثل تلك البيئات الجغرافية، وتلك العهود التاريخية، وهي تدل على تفكير فاحص ونافذ، محيط ومتعمق، في درس الحوادث الاجتماعية، وتعليل الوقائع التاريخية، فلا بد لكل من يريد أن يتتبَّع تطوُّر الآراء الاجتماعية والسياسية، ويؤرخ نظريات الرابطة الاجتماعية والتكاتف الاجتماعي، أن يخصِّص مقامًا هامًّا جدًّا لنظرية العصبية التي وضعها ابن خلدون قبل مدة تقرب من ستة قرون.
•••
- (أ)
كنا ذكرنا رأي ابن خلدون في «العصبية الكبرى» المؤلَّفة من عصبيات متعددة، وقلنا إذا أردنا أن نعبر عن رأي ابن خلدون في هذا الصدد بتعبيرات عصرية؛ وجب أن نسمِّي العصبية الكبرى باسم «العصبية المركبة»، والعصبيات الأخرى باسم «العصبية البسيطة»؛ لأن كل عصبية تتألَّف — على رأي ابن خلدون — من ترابط جماعة من الأفراد، غير أن العصبيات أيضًا يرتبط بعضها ببعض، وتكون «عصبيات مركبةً» من درجة أعلى.
فنود أن نشير هنا إلى العلاقة القوية الموجودة بين رأي ابن خلدون في هذا الصدد، وبين رأي الاجتماعي الفرنسي الشهير «إميل دوركهايم» في «المجتمعات المركبة» sociétés composées و«المجتمعات الحلقية» sociétés polysegmentaires. - (ب)
لقد أشار ابن خلدون في الفصل الذي يقرِّر «أن الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك»، إلى تأثير حالة الدولة المقارنة لوصول العصبية إلى غايتها من القوة، وقال: «إن انتهت إلى قوتها «ولم يقارن» ذلك هرم الدولة، وإنما «قارن» حاجتها إلى الاستظهار». كما قال: «حصل الملك إمَّا بالاستبداد أو بالمظاهرة حسب ما يسعه «الوقت المقارن» لذلك» (١٤٠).
إن هذه الملاحظة تذكِّرنا برأي المفكر المؤرخ «هيبوليت تين» H. Taine في عمل اﻟ «آن» le moment في التاريخ؛ لأن المفكر المومأ إليه حينما استعرض عوامل التاريخ — السياسي والأدبي — أضاف إلى عامل العرق (الرس) والبيئة — اللذين كانا استلفتا أنظار الباحثين والمفكرين منذ مدة طويلة — عاملًا ثالثًا أسماه باسم اﻟ moment، بمعنى «آن» و«زمان»، وقصد بذلك الإشارة إلى الأحوال التي تختلف من زمان إلى زمان، على الرغم من عدم تغيُّر شيء من عاملَي البيئة والعرق (الرس).إن تعبير «الوقت المقارن» الذي ابتدعه ابن خلدون في المواضع التي أشرنا إليها آنفًا ربما كان أحسن تعبير يقابل مفهوم اﻟ moment على رأي هيبوليت تن في هذا الصدد.ولذلك لا نتردَّد في القول بأن ابن خلدون كان قد لمح هذه الحقيقة الهامة قبل تن بمدة تزيد على خمسة قرون.