الحروب
يخصِّص ابن خلدون فصلًا طويلًا من فصول الباب الثالث للحروب، يتكلَّم فيه عن منشأ الحروب، ويشرح «مذاهب الأمم في ترتيبها»، ويتحرَّى أسباب الغلبة والظفر فيها (ص٢٧٠–٢٧٩).
- (أ)
يبحث في الأساطيل وفي قيادة الأساطيل، في فصل مراتب الملك والسلطان (ص٢٥٢–٢٥٦).
- (ب)
يتكلَّم عن تأثير الموسيقى والرايات في الحروب، في بحث الآلة (ص٢٥٨–٢٧٠) من فصل شارات الملك والسلطان.
- (جـ)
يتكلَّم عن الفساطيط والسياج (ص٢٦٨-٢٦٩) في الفصل نفسه.
- (د)
يتطرَّق إلى بعض قضايا الحرب في الفصل الذي يتكلَّم فيه عن «التفاوت بين مراتب السيف والقلم» (ص٢٥٧).
- (هـ)
يشرح الحروب التي تنشب بين الدول المستجدة وبين الدول المستقرة، في الفصل الذي يقرر «أن الدولة المستجدة إنما تستولي على الدولة المستقرة بالمطاولة لا بالمناجزة» (ص٢٩٨–٣٠١).
إن هذه المباحث والفصول يجب أن تُعتبر متمِّمةً لفصل الحروب الآنف الذكر.
١
-
(١)
يبدأ ابن خلدون فصل «الحروب ومذاهب الأمم في ترتيبها» ببيان أصل الحروب، ويقول إن الحرب أمر طبيعي في البشر:
«اعلم أن الحروب وأنواع المقاتلة لم تزل واقعةً في الخليقة منذ بَرَأَهَا الله.»
«وأصلها إرادة انتقام بعض البشر من بعض، ويتعصَّب لكل منها أهل عصبيته، فإذا تذامروا لذلك وتوافقت الطائفتان — إحداهما تطلب الانتقام والأخرى تدافع — كانت الحرب، وهو أمر طبعي في البشر، لا تخلو عنه أمة ولا جيل» (ص٢٧١).
-
(٢)
ثم ينتقل إلى ذكر أسباب الحروب، ويردُّها إلى أربعة أصول:
«وسبب هذا الانتقام في الأكثر»:- (أ)
«إمَّا غيرة ومنافسة.»
- (ب)
«وإمَّا عدوان.»
- (جـ)
«وإمَّا غضب لله ودينه.»
- (د)
«وإمَّا غضب للملك وسعي لتمهيده.»
«فالأول أكثر ما يجارى بين القبائل المتجاورة والعشائر المتناظرة.»
«والثاني — فهو العدوان — أكثر ما يكون من الأمم الوحشية الساكنين بالقفر؛ كالعرب والتركمان والأكراد وأشباههم؛ لأنهم جعلوا أرزاقهم في رماحهم، ومعاشهم فيما بأيدي غيرهم، ومن دافعهم عن متاعه آذنوه بالحرب، ولا بغية لهم فيما وراء ذلك من رتبة ولا ملك، وإنما همُّهم ونصب أعينهم، غلب الناس على ما في أيديهم.»
«والثالث هو المسمى في الشريعة بالجهاد.»
«والرابع هو حروب الدول مع الخارجين عليها، والمانعين لطاعتها.»
«وهذه أربعة أصناف من الحروب؛ الصنفان الأولان منها حروب بغي وفتنة، والصنفان الأخيران حروب جهاد وعدل» (ص٢٧١).
- (أ)
-
(٣)
بعد تقرير غاية الحروب على هذا المنوال، يتكلَّم ابن خلدون عن كيفية جريان الحرب، ويقسِّمها من هذه الوجهة إلى نوعين أساسيين:
«وصفة الحروب الواقعة بين أهل الخليفة منذ أول وجودهم على نوعين:- (أ)
«نوع بالزحف صفوفًا.»
- (ب)
«ونوع بالكر والفر.»
«أمَّا الذي بالزحف فهو قتال العجم كلهم على تعاقب أجيالهم، وأمَّا الذي بالكرِّ والفرِّ فهو قتال العرب والبربر من أهل المغرب»» (ص٢٧١).
ثم يوازن بين هذين النوعين من الحروب من حيث النجاعة، ويبيِّن رجحان قتال الزحف على قتال الكر والفر، ويشرح أسباب هذا الرجحان:
«قتال الزحف أوثق وأشد من قتال الكر والفر؛ وذلك لأن قتال الزحف تُرَتَّب فيه الصفوف وتُسَوَّى كما تُسَوَّى القداح أو صفوف الصلاة، ويمشون بصفوفهم إلى العدو قدمًا؛ فلذلك تكون أثبت عند المصارع، وأصدق في القتال، وأرهب للعدو؛ لأنه كالحائط الممتد والقصر المشيد لا يُطمع في إزالته» (ص٢٧١).
وبعد ذلك يؤيد حكمه هذا بأدلة شرعية قائلًا:
وفي التنزيل: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ، أي يشد بعضهم بعضًا بالثبات، وفي الحديث الكريم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا.»«ومن هنا يظهر لك حكمة إيجاب الثبات، وتحريم التولي في الزحف، فإن المقصود من الصف في القتال حفظ النظام كما قلناه، فمن ولَّى العدو ظهره فقد أخلَّ بالمصاف، وباء بإثم الهزيمة إن وقعت، وصار كأنه جرَّها على المسلمين، وأمكن منهم عدوهم؛ فعظم الذنب لعموم المفسدة، وتعدِّيها إلى الدين بخرق سياجه، فعُدَّ من الكبائر.»
«يظهر من هذه الأدلة أن قتال الزحف أشد عند الشارع» (ص٢٧١).
- (أ)
-
(٤)
وبعد ذلك يوضِّح ابن خلدون كيفية جريان قتال الكر والفر:
«وأمَّا قتال الكر والفر فليس فيه من الشدة والأمن من الهزيمة ما في قتال الزحف، إلا أنهم قد يتخذون وراءهم في القتال مصافًّا ثابتًا، يلجئون إليه في الكر والفر، ويقوم لهم مقام قتال الزحف كما سنذكره بعد» (ص٢٧٢).
وقد ذكر ذلك ابن خلدون في آخر الصفحة نفسها:
«ومن مذاهب أهل الكر والفر في الحروب ضرب المصاف وراء عسكرهم، من الجمادات والحيوانات العجم، فيتخذونها ملجأً للخيَّالة في كرِّهم وفرِّهم، يطلبون به ثبات المقاتلة؛ ليكون أَدْوَمَ للحرب وأقرب إلى الغلب» (ص٢٧٣).
-
(٥)
ثم يوضِّح كيفية ترتيب الجنود في الحروب، ويبيِّن أسباب وأهداف هذا الترتيب:
«إن الدول القديمة الكثيرة الجنود المتسعة الممالك، كانوا يقسِّمون الجنود والعساكر أقسامًا يسمونها كراديس، ويسوُّون في كل كُردُوس صفوفه. وسبب ذلك؛ أنه لما كثرت جنودهم الكثرة البالغة، وحشدوا من قاصية النواحي، استدعى ذلك أن يجهل بعضهم بعضًا إذا اختلطوا في مجال الحرب، واعتوروا مع عدوهم الطعن والضرب، فيخشى من تدافعهم فيما بينهم؛ لأجل النكراء وجهل بعضهم ببعض. فلذلك كانوا يقسِّمون العساكر جموعًا، ويضمون المتعارفين بعضهم لبعض، ويرتبونها قريبًا من الترتيب الطبيعي في الجهات الأربع، ورئيس العساكر كلها — من سلطان أو قائد — في القلب، ويسمون هذا الترتيب التعبئة، وهو مذكور في أخبار فارس والروم والدولتين وصدر الإسلام.»
«فيجعلون بين يدَي الملك عسكرًا منفردًا بصفوفه، متميِّزًا بقائده ورايته وشعاره، يسمونه المقدمة. ثم عسكرًا آخر من ناحية اليمين عن موقف الملك وعلى سمته، يسمونه الميمنة. وعسكرًا آخر من ناحية الشمال يسمونه الميسرة، ثم عسكرًا آخر من وراء العسكر يسمونه الساقة. ويقف الملك وأصحابه في الوسط بين هذه الأربع ويسمون موقفه القلب.»
«فإذا تمَّ لهم هذا الترتيب المحكم، إمَّا في مدًى واحد للبصر، أو على مسافة بعيدة — أكثرها اليوم واليومان — بين كل عسكرين منهما، أو كيفما اقتضاه حال العساكر في القلة والكثرة؛ فحينئذ يكون الزحف من بعد هذه التعبئة» (ص٢٧٢).
وبعد هذه التفاصيل يقول ابن خلدون إن هذا الترتيب قد أُهْمِلَ في زمانه، ويشرح أسباب هذا الإهمال:
«وانظر ذلك في أخبار الفتوحات وأخبار الدولتين بالمشرق، وكيف كانت العساكر لعهد عبد الملك تتخلَّف عن رحيله لبُعْدِ المدى في التعبئة، فاحتيج لمن يسوقها من خلفه، وعُيِّن لذلك الحجاج بن يوسف، كما أشرنا إليه، وكما هو معروف في أخباره. وكان في الدولة الأموية بالأندلس أيضًا كثير منه، وهو مجهول فيما لدينا؛ لأنا إنما أدركنا دولًا قليلة العساكر، لا تنتهي في مجال الحرب إلى التناكر، بل أكثر الجيوش من الطائفتين معًا يجمعهم لدينا حلة أو مدينة، ويعرف كل واحد منهم قرنه، ويناديه في حَومة الحرب باسمه ولقبه، فاستُغني عن تلك التعبئة» (ص٢٧٢).
-
(٦)
وبعد الانتهاء من بحث التعبئة، ينتقل ابن خلدون إلى طريقة «ضرب المصاف وراء المعسكر»:
هذه طريقة يلجأ إليها في كِلَا النوعين من الحرب — أي في حرب الزحف وحرب الكر والفر — ويقصد منها في كلتا الحالتين «تقوية النفوس، وشد العزائم، وزيادة الوثوق خلال الحرب».
يتألَّف هذا المصاف عند أهل الكر والفر — من الأمم البدوية الرحَّالة — من إبلهم والظهر الذي يحمل ظعائنهم، ويتألَّف عند أهل الزحف من الفيلة، أو من سرير الملك.
يوضِّح ابن خلدون كل نوع من هذه الأنواع على حدة:- (أ)
«قد كان الفرس من أهل الزحف يتخذون الفيلة في الحروب، ويحملون عليها أبراجًا من الخشب أمثال الصروح مشحونةً بالمقاتِلة والسلاح والرايات، ويصُفُّونها وراءهم في حومة الحرب كأنها حصون، فتقوى بذلك نفوسهم ويزداد وثوقهم.»
- (ب)
«وأمَّا الروم وملوك القوط بالأندلس وأكثر العجم، فكانوا يتخذون لذلك الأسرَّة، ينصبون للملك سريره في حومة الحرب، يحف به من خدمه وحاشيته وجنوده من هو زعيم بالاستماتة دونه. وتُرْفَع الرايات في أركان السرير، ويحدق به سياج آخر من الرماة والرجَّالة، فيعظم هيكل السرير، ويصير فئةً للمقاتلة وملجأً للكر والفر.»
- (جـ)
«وأمَّا أهل الكر والفر من العرب، وأكثر الأمم البدوية الرحَّالة، فيصفون لذلك إبلهم والظهر الذي يحمل ظعائنهم، فيكون فئةً لهم، ويسمونها مجبودة» (ص٢٧٣).
«وليس أمة من الأمم إلا وهي تفعل ذلك في حروبها، وتراه أوثق في الجولة وآمن من الغرة والهزيمة.»
يذكر ابن خلدون بهذه المناسبة ما كان قد حدث في حرب القادسية، ويعلمنا أن الفرس كانوا لجئوا إلى اتخاذ الفيلة ونصب السرير في وقت واحد.
«وانظر ما وقع من ذلك في حرب القادسية، وأن فارس في اليوم الثالث اشتدوا بهم (أي بالفيلة) على المسلمين، حتى اشتدَّت رجالات من العرب، فخالطوهم وبعجوها بالسيوف على خراطيمها، فنفرت ونكصت على أعقابها إلى مرابطها بالمدائن، فجفا معسكر فارس لذلك وانهزموا في اليوم الرابع» (ص٢٧٣).
وخلال هذه الحرب «كان رستم جالسًا على سرير نصبه لجلوسه، حتى اختلفت صفوف فارس وخالطه العرب في سريره، فتحوَّل عنه إلى الفرات وقُتِل» (ص٢٧٣).
ومع ذلك يخبرنا ابن خلدون بأن في عهده هذا الأمر أيضًا كان قد أُهْمِل إهمالًا كليًّا:
«وقد أغفلته الدول لعهدنا بالجملة، واعتاضوا عنه بالظَّهْر الحامل للأثقال والفساطيط، يجعلونها ساقةً من خلفهم، ولكن تلك الأشياء «لا تغني غناء الفيلة والإبل»؛ ولذلك صارت العساكر عُرضةً للهزائم، ومستشعرةً للفرار في المواقف» (ص٢٧٣).
- (أ)
-
(٧)
يتوسَّع ابن خلدون بوجه خاص في وصف الحروب التي حدثت أول الإسلام:
«كان الحرب أول الإسلام كله زحفًا، وكان العرب إنما يعرفون الكر والفر، ولكن حملهم على ذلك (أي على اختيار طريقة الحرب زحفًا) أمران؛ أحدهما أن أعداءهم كانوا يقاتلون زحفًا، فيُضطرون إلى مقاتلتهم بمثل قتالهم. الثاني أنهم كانوا مستميتين في جهادهم؛ لما رغبوا فيه من الصبر، ولما رسخ فيهم من الإيمان، والزحف إلى الاستماتة أقرب» (ص٢٧٣).
ومع هذا إنه يعلمنا أن أصول المصاف في الحروب أُهْمِلت فيما بعد، ويذكر تاريخ ذلك:
«وأول من أبطل الصف في الحروب وصار إلى التعبئة كراديس؛ مروان بن الحكم في قتال الضحَّاك الخارجي والجبيري بعده. قال الطبري لمَّا ذكر قتال الضحاك: فولَّى الخوارج عليهم شيبان بن عبد العزيز اليشكري — ويلقَّب بأبي الدلفاء — قاتلهم مروان بعد ذلك بالكراديس، وأبطل الصف من يومئذ؛ فتُنُوسِيَ قتال الزحف بإبطال الصف، ثم تُنُوسِيَ الصف وراء المقاتلة بما دَاخَلَ الدول من الترف. وذلك أنها حينما كانت بدويةً وسكناهم الخيام كانوا يستكثرون من الإبل، وسكنى النساء والولدان معهم في الأحياء، فلما حصلوا على ترف الملك وألفوا سُكنى القصور والحواضر، وتركوا شأن البادية والقفر؛ نسوا لذلك عهد الإبل والظعائن، وصعب عليهم اتخاذها، فخلَّفوا النساء في الأسفار، وحملهم الملك والترف على اتخاذ الفساطيط والأخبية، فاقتصروا على الظَّهْر الحامل للأثقال والأبنية» (ص٢٧٤).
«وكان ذلك صفتهم في الحرب، ولا يغني كل الغناء؛ لأنه لا يدعو إلى الاستماتة كما يدعو إليها الأهل والمال، فيخف الصبر من أجل ذلك، وتصرفهم الهيعات وتخرم صفوفهم» (ص٢٧٤).
ثم يذكر ابن خلدون الخطة التي كان قد اتخذها ملوك الغرب من ضرب المصاف باستخدام جنود من طائفة الإفرنج:
«ولما ذكرناه من ضرب المصاف وراء العساكر، وتأكده في قتال الكر والفر؛ صار ملوك المغرب يتخذون طائفةً من الإفرنج في جندهم، واختصوا بذلك؛ لأن قتال أهل وطنهم كله بالكر والفر، والسلطان يتأكد في حقه ضرب المصاف ليكون ردءًا للمقاتلة أمامه، فلا بد من أن يكون أهل ذلك الصف من قوم متعودين للثبات في الزحف، وإلا أجفلوا على طريقة أهل الكر والفر؛ فانهزم السلطان والعساكر بإجفالهم. فاحتاج الملوك بالمغرب أن يتخذوا جندًا من هذه الأمة المتعودة الثبات في الزحف وهم الإفرنج، ويرتبون مصافهم المحدق بهم منها، هذا على ما فيه من الاستعانة بأهل الكفر. إنهم استخفوا ذلك للضرورة التي أريناكها من تخوُّف الإجفال على مصاف السلطان، والإفرنج لا يعرفون غير الثبات في ذلك؛ لأن عادتهم في القتال الزحف، فكانوا أقْوَم بذلك من غيرهم. مع أن الملوك في المغرب إنما يفعلون ذلك عند الحرب مع أمم العرب والبربر، وقتالهم على الطاعة. وأمَّا في الجهاد فلا يستعينون بهم حذرًا من ممالأتهم على المسلمين، هذا هو الواقع لهذا العهد» (ص٢٧٤).
-
(٨)
بعد هذه التفاصيل حول طرائق الحرب في المغرب، يذكر ابن خلدون ما بلغه عن طرق القتال عند أمم الترك:
«وبلغنا أن أمم الترك لهذا العهد، قتالهم مناضلة بالسهام، وأن تعبئة الحرب عندهم بالمصاف، وأنهم يقسمون بثلاثة يضربون صفًّا وراء صف، ويترجَّلون عن خيولهم، ويُفْرِغون سهامهم بين أيديهم، ثم يتناضلون جلوسًا، وكل صف ردء للذي أمامه أن يكبسهم العدو، إلى أن يتهيَّأ النصر لإحدى الطائفتين على الأخرى، وهي تعبئة مُحْكَمَة غريبة» (ص٢٧٤-٢٧٥).
-
(٩)
ثم يعود إلى طرائق الحرب العامة، ويصف طريقة «حفر الخنادق على المعسكرات»، ويبيِّن فوائد تلك الخنادق وغاياتها:
«كان من مذاهب الأُوَل في حروبهم حفر الخنادق على معسكرهم عندما يتقاربون للزحف؛ وذلك حذرًا من مَعرَّة البيات والهجوم على العسكر في الليل؛ لما في ظلمته ووحشته من مضاعفة الخوف، فيلوذ الجيش بالفرار، وتجد النفوس في الظلمة سترًا من عاره، فإذا تساوَوا في ذلك أرجف العسكر ووقعت الهزيمة.»
«فكانوا لذلك يحتفرون الخنادق على معسكرهم إذا نزلوا وضربوا أبنيتهم، ويديرون الحفائر نطاقًا من جميع جهاتهم؛ حرصًا أن يخالطهم العدو بالبيات فيتخاذلوا» (ص٢٧٥).
يلاحَظُ أن التعليلات التي يسردها ابن خلدون في هذا الصدد تنطوي على ملاحظات نفسية قيِّمة؛ فإنها تشير أولًا إلى أثر الإجفال والإرجاف في الحروب، وهو ما يُعْرَف باﻟ panique، ثم إنها تقرِّر تأثير الليل في نفوس الجنود؛ إن ظلمة الليل تضاعف الخوف، وتحفِّز إلى الفرار، كما أن هذه الظلمة تكون في نظر الجنود سترًا من عار الفرار، وتسهِّل عليهم الإقدام على الفرار. يظهر من ذلك كله أن ابن خلدون قد انتبه إلى تأثير العدوى المعشرية، وعمل الرأي العام في مقاومة الجنود أو انهزامهم. -
(١٠)
يُعلمنا ابن خلدون بعد ذلك أن طريقة حفر الخنادق أيضًا أُهْمِلت في زمانه، ويعزو أسباب هذا الإهمال إلى صغر الدول؛ وذلك لأن أمثال هذه الأعمال العسكرية مما لا يمكن إنجازها إلا بكثرة الأيدي العاملة والمحارِبَة:
«وكانت للدول في أمثال هذا قوة، وعليه اقتدار باحتشاد الرجال وجمع الأيدي عليه في كل منزل من منازلهم، بما كانوا عليه من وفور العمران وضخامة الملك، فلمَّا خرب العمران، وتبعه ضعف الدولة وقلة الجنود وعدم الفعلة، نُسِي هذا الشأن جملةً كأنه لم يكن» (ص٢٧٥).
ثم يذكر ابن خلدون «وصية علي — رضي الله عنه — وتحريضه لأصحابه يوم صفين»؛ لأنه يجد فيها الشيء الكثير «من علم الحرب»، ويقول: «لم يكن أحد أبصر بها منه» (ص٢٧٥).
كما أنه يذكر ما قاله الأشتر يومئذ تحريضًا للأزد، ثم ينقل قسمًا من القصيدة التي كتبها «أبو بكر الصيرفي، شاعر لمتونة وأهل الأندلس»، يمدح بها تاشفين بن علي بن يوسف، و«يصف ثباته في حرب شهدها»؛ لأن القصيدة المذكورة تتضمَّن «من الوصايا والتحذيرات ما يساعد على معرفة الشيء الكثير من أمور الحرب، وسياسة الحرب» (ص٢٧٥).
ينقل ابن خلدون من هذه القصيدة واحدًا وعشرين بيتًا، ويقول الصيرفي في مطلع القصيدة:
يا أيها الملأ الذي يتقنَّعمن منكمُ الملك الهُمام الأروعومن الذي غدر العدو به دجًىفانفضَّ كل وهْو لا يتزعزعويبدأ قسمها المتعلق بسياسة الحرب بما يلي:
أُهديك من أدب السياسة ما بهكانت ملوك الفرس قبلك تُولَعلا أنني أدرى بها، لكنهاذكرى تحض المؤمنين وتنفعومما جاء في هذا القسم من القصيدة:
خندق عليك إذا ضربت مَحِلَّةًسيان تَتبع ظافرًا أو تُتبعوالوادِ لا تعبره، وانزل عندهبين العدو وبين جيشك يقطعينتقد ابن خلدون قول الصيرفي في أحد أبيات القصيدة:
«واصدمه أول وهلة لا تكترث»؛ لأنه يرى بأن «التثاقل في الحرب أَوْلَى من الخفوف، حتى يتبين حال تلك الحرب، وذلك عكس ما قاله الصيرفي، إلَّا أن يريد أن الصدم بعد البيان، فله وجه» (ص٢٧٧).
٢
-
(١)
بعد الانتهاء من شرح وتفصيل مذاهب الأمم في الحروب، ينتقل ابن خلدون إلى الكلام في أسباب الغلب والظفر، ويقرِّر أولًا المبدأ التالي:
«لا وثوق في الحرب بالظفر، وإن حصلت أسبابه من العُدَّة والعديد، وإنما الظفر فيها والغلب من قبيل البخت والاتفاق» (ص٢٧٧).
غير أنه لا يقصد من كلمة البخت هنا ما يقصد الناس منها عادة، فلا يعني بذلك حصول الظفر بلا سبب، بل يعني حصول ذلك لأسباب نجهلها نحن، إذ يقول بصراحة:
«وقوع الأشياء عن الأسباب الخفية هو معنى البخت» (ص٢٧٧).
«كل ما يحصل بسبب خفي، فهو الذي يعبَّر عنه بالبخت» (ص٢٧٩).
-
(٢)
بعد تقرير هذه القضية مبدئيًّا يوضِّح ابن خلدون رأيه في هذا الأمر باستعراض أسباب الظفر في الحروب:
«إن أسباب الغلب في الأكثر مجتمعة من أمور ظاهرة، ومن أمور خفية.»
والأمور الظاهرة: هي «الجيوش ووفورها، وكمال الأسلحة واستجادتها، وكثرة الشجعان، وترتيب المصاف، ومنه صدق القتال وما جرى مجرى ذلك.»
وأمَّا الأمور الخفية فهي أولًا: «خدع البشر وحيلهم في الإرجاف والتشانيع التي يقع بها التخذيل، وفي التقدُّم إلى الأماكن المرتفعة لتكون الحرب من أعلى فيتوهَّم المنخفض لذلك، وفي الكمون في الغياض ومطمئن الأرض، والتواري بالكدي حول العدو حتى يتداولهم العسكر دفعةً وقد تورَّطوا، فيتلمسون إلى النجاة وأمثال ذلك.»
وهناك أسباب خفية من نوع آخر؛ «فهي أمور سماوية لا قُدرة للبشر على اكتسابها»، وهذه الأمور السماوية «تُلْقَى في القلوب؛ فيستولي الرهَب عليهم لأجلها، فتختل مراكزهم فتقع الهزيمة» (ص٢٧٧).
«وأكثر ما تقع الهزائم عن هذه الأسباب الخفية؛ لكثرة ما يعتمل لكل واحد من الفريقين فيها حرصًا على الغلب، فلا بد من وقوع التأثير في ذلك على أحدهما ضرورة؛ ولذلك قال ﷺ: «الحرب خدعة»، ومن أمثال العرب: «رُبَّ حيلة أنفع من قبيلة»» (ص٢٧٧).
يتبيَّن من ذلك كله «أن وقوع الغلب في الحروب — غالبًا — عن أسباب خفية غير ظاهرة، ووقوع الأشياء عن الأسباب الخفية هو معنى البخت» (ص٢٧٧).
وأمَّا تأثير الأمور السماوية في الغلب، فهو قد تجلَّى في فتوحات صدر الإسلام:
«وتفهم من وقوع الغلب على أمور سماوية كما شرحناه معنى قوله ﷺ: نُصِرْتُ «بالرعب مسيرة شهر». وما وقع من غلبه للمشركين في حياته بالعدد القليل، وغلب المسلمون من بعده كذلك في الفتوحات. فإن الله سبحانه وتعالى تكفَّل لنبيه بإلقاء الرعب في قلوب الكافرين؛ حتى يستولي على قلوبهم، فينهزموا معجزةً لرسوله ﷺ. فكان الرعب في قلوبهم سببًا في ذلك للفتوحات الإسلامية كلها، إلا أنه خفي عن العيون» (ص٢٧٧).
-
(٣)
يذكر ابن خلدون رأي الطرطوشي في أسباب الغلبة في الحروب، وينتقد هذا الرأي انتقادًا شديدًا:
«وقد ذكر الطرطوشي أن من أسباب الغلب في الحروب أن تفضُلَ عدة الفرسان المشاهير من الشجعان في أحد الجانبين على عُدَّتهم في الجانب الآخر؛ مثل أن يكون أحد الجانبين فيه عشرة أو عشرون من الشجعان المشاهير، وفي الجانب الآخر ثمانية أو ستة عشر، فالجانب الزائد ولو بواحد يكون له الغلب.»
غير أن ابن خلدون يعتقد أن ذلك «ليس بصحيح، وإنما الصحيح المعتبر في الغالب حال العصبية؛ مثل أن يكون في أحد الجانبين عصبية واحدة جامعة لكلهم، وفي الجانب الآخر عصائب متعددة؛ لأن العصائب إذا كانت متعددةً يقع بينها من التخاذل ما يقع في الوحدان المتفرقين الفاقدين للعصبية؛ إذ تنزل كل عصابة منهم منزلة الواحد، ويكون الجانب الذي عصابته متعددة لا يقاوم الجانب الذي عصابته واحدة لأجل ذلك. فتفهَّمْه واعلم أنه أصح في الاعتبار مما ذهب إليه الطرطوشي.»
وأمَّا سبب خطأ الطرطوشي في هذه القضية، فيعود إلى عدم تقديره لعمل العصبية: «ولم يحمله على ذلك إلا نسيان شأن العصبية في حلة وبلدة، وأنهم إنما يردون ذلك الدفاع والحماية والمطالبة إلى الوحدان والجماعة الناشئة عنهم، لا يعتبرون في ذلك عصبيةً ولا نسبًا» (ص٢٧٨).
يلاحظ أن ابن خلدون يضيف — بملاحظاته هذه — سببًا جديدًا إلى أسباب الغلب التي ذكرناها آنفًا؛ وهو «وحدة العصبية» — وبتعبير آخر «وحدة الجيش» — من وجهة اتفاق الآراء والأهواء (ص١٦٤)، وتآلف القلوب، وحسن التعاون والتعاضد (ص١٥٧).
-
(٤)
وإذا لخَّصنا آراء ابن خلدون في هذا الصدد؛ وجدنا أنه يقسِّم أسباب الغلب والظفر في الحروب إلى صنفين أساسيين؛ الأسباب الظاهرة والأسباب الخفية، كما أنه يقسِّم الأسباب الخفية إلى نوعين أساسيين؛ الأسباب الطبيعية والأسباب السماوية.
يحصر ابن خلدون تأثير الأسباب السماوية في عهد النبوات والمعجزات؛ ولذلك يرد أسباب الغلبة في الأوقات الاعتيادية إلى الأسباب الظاهرية، والخفية الطبيعية.
ولكن — مما يجب الانتباه إليه — أن ما يعنيه ابن خلدون من تعبيرَي الأسباب الظاهرة والأسباب الخفية، لم يكن الأسباب المادية والأسباب المعنوية كما قد يخطر على البال في الوهلة الأولى؛ وذلك لأنه يذكر بين الأسباب الظاهرة صدق القتال وكثرة الشجعان، كما يذكر بين الأسباب الخفية التقدُّم إلى الأماكن المرتفعة، والتوسُّل إلى الخدع الحربية.
وإذا تأمَّلنا في تفاصيل الأمثلة التي يذكرها ابن خلدون؛ وجدنا أن الأسباب التي يذكرها تحت اسم الخفية كلها تتعلَّق بمعنويات العدو، إنها الأسباب التي تولِّد في نفوس الأعداء الخوف والفزع والرعب؛ فتؤدي إلى انهزامهم من جرَّاء انكسار معنوياتهم حسب التعبير المألوف في الحالة الحاضرة.
يعزو ابن خلدون إلى هذا النوع من الأسباب دورًا هامًّا في تقرير الظفر والغلب، حتى إنه يميل إلى القول بأن تأثير هذه الأسباب يفوق تأثير الأسباب الظاهرة أيضًا.
ويقرِّر في الوقت نفسه أن الظفر والغلب إنما يكون من نوع البخت والاتفاق؛ لكثرة الأسباب الخفية التي تؤثِّر فيها.
كما أنه يقرِّر أن الفتوحات التي تمَّت في صدر الإسلام مما لا يمكن تفسيره إلا بالمعجزات، وبتعبير آخر إلا بالأسباب السماوية التي تُلْقِي الرعب والخوف في قلوب الأعداء.
٣
-
(١)
يدوِّن ابن خلدون — في فصل «مراتب الملك والسلطان» (ص٢٥٢–٢٥٦) — معلومات قيِّمةً جدًّا عن القوى البحرية والأساطيل، ويُبْدِي بعض الملاحظات والتعليلات خلال تلك المعلومات.
فيقول أولًا: إن قيادة الأساطيل «من مراتب الدولة وخططها في مُلْك المغرب وإفريقية، ومرءوسة لصاحب السيف وتحت حكمه في كثير من الأحوال».
ثم يبيِّن أسباب اختصاص هذه الرتبة بإفريقية والمغرب قائلًا:
«إنما اختصت هذه الرتبة بملك إفريقية والمغرب؛ لأنهما جميعًا على ضفة البحر الرومي.»
وبعد ذلك يشرح الدور الذي لعبه البحر المذكور — الذي يسمى البحر الشامي أيضًا — في تكوين الأساطيل وفي فتوحات الأمم:
«والساكنون بسيف هذا البحر وسواحله وعدوتيه يعانون من أحواله ما لا تعانيه أمة من أمم البحار.»
«إن الروم استولوا على إفريقية، والقوط على المغرب بفضل أساطيلهم، وكان صاحب قرطاجنة من قبلهم يحارب صاحب روما، ويبعث الأساطيل لحربه مشحونةً بالعساكر والعدد، فكانت هذه عادةً لأهل هذا البحر الساكنين حفافيه، معروفةً في القديم والحديث» (ص٢٥٢).
-
(٢)
بعد هذه المقدمات يتكلَّم ابن خلدون عن نشوء الأساطيل في الدول العربية الإسلامية:
إن العرب اتصلوا بالبحر الرومي (أي الشامي) عندما ملكوا مصر، ولكنهم لم يُقْدِموا على ركوبه في بادئ الأمر، بل أحجموا عن ذلك إحجامًا.
«والسبب في ذلك أن العرب — لبداوتهم — لم يكونوا مهرةً في ثقافته وركوبه»، في حين «أن الروم والإفرنجة — لممارستهم أحواله ومرباهم في التقلُّب على أعواده — مرنوا وأحكموا الدراية بثقافته» (ص٢٥٣).
ولكن إحجام العرب عن ركوب البحر لم يستمر طويلًا؛ لأن اتصالهم بالبحر الرومي زاد وتوسَّع توسُّعًا كبيرًا بعدما ملكوا الشام أيضًا؛ ولذلك أخذوا يهتمون بالسفن والأساطيل شيئًا فشيئًا.
إن هذا الاهتمام بدأ من عهد معاوية: «لمَّا استقر المُلْك للعرب وشمخ سلطانهم، وصارت أُمم العجم خولًا لهم وتحت أيديهم، وتقرَّب كل ذي صنعة إليهم بمبلغ صناعته، واستخدموا من النواتية في حاجاتهم البحرية أُممًا، وتكرَّرت ممارستهم للبحر وثقافته، واستحدثوا بصراء بها، فشرهوا إلى الجهاد فيه، وأنشئوا السفن فيه والشواني، وشحنوا الأساطيل بالرجال والسلاح، وأمطوها العساكر والمقاتلة لمن وراء البحر من أمم الكفر، واختصوا بذلك من ممالكهم وثغورهم ما كان أقرب لهذا البحر وعلى حافته، مثل الشام وإفريقية والمغرب والأندلس.»
«وأوعز الخليفة عبد الملك إلى حسان بن نعمان عامل إفريقية، بإنجاز دار صناعة بتونس؛ لإنشاء الآلات البحرية حرصًا على مراسم الجهاد، ومنها كان فتح صقلية، وقوصرة» (ص٢٥٣).
«وكانت من بعد ذلك أساطيل إفريقية والأندلس في دولة العُبيدين والأمويين تتعاقب إلى بلادهما، «وانتهى أسطول الأندلس أيام عبد الرحمن الناصر إلى مائتي مركب أو نحوها، وأسطول إفريقية كذلك مثله أو قريبًا منه»» (ص٢٥٣).
-
(٣)
ثم يشرح ابن خلدون كيفية إدارة الأساطيل في الأندلس، قائلًا:
«وكان قائد الأساطيل في الأندلس ابن رماحس، ومرفأها للحط والإقلاع بجاية والمرية، وكانت أساطيلها مجتمعةً من سائر الممالك، من كل بلد تتخذ فيه السفن أسطولًا، يرجع نظره إلى قائد من النواتية يدبِّر أمر حربه وسلاحه ومقاتلته، ورئيس يدبِّر أمر جريه بالريح أو بالمجاذيف، وأمر إرسائه في مرفئه. فإذا اجتمعت الأساطيل لغزو محتفل أو غرض سلطاني مهم، عسكرت بمرفئها المعلوم، وشحنها السلطان برجاله وأنجاد عساكره ومواليه، وجعلهم لنظر أمير واحد من أعلى طبقات أهل مملكته، يرجعون كلهم إليه، ثم يسرِّحهم لوجههم، وينتظرون إيابهم بالفتح والغنيمة» (ص٢٥٤).
-
(٤)
بعد ذلك يقرِّر ابن خلدون أن المسلمين كانوا قد سيطروا على البحر الرومي من جميع جوانبه:
«كان المسلمون لعهدة الدولة الإسلامية قد غلبوا على هذا البحر من جميع جوانبه، وعظمت صولتهم وسلطانهم فيه، فلم يكن للأمم النصرانية قِبَلٌ بأساطيلهم بشيء من جوانبه، وامتطوا ظهره للفتح سائر أيامهم، فكانت لهم المقامات المعلومة من الفتح والغنائم، وملكوا سائر الجزائر المنقطعة عن السواحل فيه؛ مثل ميورقة، ومنورقة، ويابسة سردانية، وصقلية، وقوصرة، ومالطة، وأقريطش، وقبرص، وسائر ممالك الروم والإفرنج. وكان أبو قاسم الشيعي وأولاده يغزون أساطيلهم من المهدية جزيرة جنوة، فتنقلب بالظفر والغنيمة.»
«والمسلمون خلال ذلك كله قد تغلَّبوا على كثير من لُجَّة هذا البحر، وصارت أساطيلهم فيه جائيةً وذاهبة، والعساكر الإسلامية تجيز البحر في الأساطيل من صقلية إلى البر الكبير المقابل لها من العدوة الشمالية، فتوقِع بملوك الإفرنج، وتُثْخِن في ممالكهم» (ص٢٥٤).
«وانحازت أُمم النصرانية بأساطيلهم إلى الجانب الشمالي الشرقي منه من سواحل الإفرنجة والصقالبة وجزائر الرومانية لا يعدونها، وأساطيل المسلمين قد ضريت عليهم ضراء الأسد على فريسته، وقد ملأت الأكثر من بسيط هذا البحر عُدَّةً وعددًا، واختلفت في طرقه سلمًا وحربًا، فلم تسبح للنصرانية فيه ألواح» (ص٢٥٤).
-
(٥)
ولكن بعد ذلك انقلبت الأمور رأسًا على عقب؛ فالفرنجة أخذوا يسيطرون أولًا على القسم الشرقي من البحر الرومي، وأمَّا القسم الغربي منه فبقي مدةً أُخرى تحت سيطرة المسلمين، إلى أن أخذ الفرنجة يتغلَّبون عليهم في هذا القسم أيضًا.
«حتى إذا أدرك الدولة العُبيدية الفشل والوهن وطَرَقَهَا الاعتلال؛ مدَّ النصارى أيديهم إلى جزائر البحر الشرقية؛ مثل صقلية، وأقريطش، ومالطة، فملكوها، ثم ألحُّوا على سواحل الشام في تلك الفترة، وملكوا طرابلس وعسقلان وصور وعكاء، واستولَوا على جميع الثغور بسواحل الشام.»
«ثم غلبوا بني خزرون على طرابلس ثم على قابس وصفاقس، ووضعوا عليهم الجزية ثم ملكوا المهدية مقر ملوك العُبيديين» (ص٢٥٤).
«وضعف شأن الأساطيل في دولة مصر والشام إلى أن انقطع، ولم يعتنوا بشيء من أمره لهذا العهد بعد أن كان لهم به في الدولة العُبيدية عناية تجاوزت الحد، كما هو معروف في أخبارهم، فبَطَلَ رسم هذه الوظيفة (وظيفة قيادة الأساطيل)، وبقيت في إفريقية والمغرب، وصارت مختصةً بها» (ص٢٥٥).
يشرح ابن خلدون بعد ذلك كيف أن أساطيل المسلمين ظلَّت موفورةً وقويةً «في الجانب الغربي من البحر الرومي» في عهد الموحدين، وكيف أنها انتهت في عهد يوسف بن عبد المؤمن «في الكثرة والإجادة ما لم تبلغ به من قبلُ ولا بعدُ فيما عهدناه»، وكيف أنها أخذت تتراجع «لما اعتلَّت دولة الموحدين».
«ولمَّا هلك أبو يعقوب المنصور واعتلَّت دولة الموحدين، واستولت أمم الجلالقة على الأكثر من بلاد الأندلس، وألجئوا المسلمين إلى سيف البحر، وملكوا الجزائر التي بالجانب الغربي من البحر الرومي؛ قويت ريحهم في بسيط هذا البر واشتدَّت شوكتهم، وكثرت فيه أساطيلهم، وتراجعت قوة المسلمين فيه إلى المساواة معهم، كما وقع لعهد السلطان أبي الحسن ملك زناتة بالمغرب، فإن أساطيلهم كانت — عند مرامه الجهاد — مثل النصرانية وعديدهم.»
«ثم تراجعت عن ذلك قوة المسلمين في الأساطيل؛ لضعف الدولة ونسيان عوائد البحر بكثرة العوائد البدوية بالمغرب، وانقطاع العوائد الأندلسية. ورجع النصارى فيه إلى دينهم المعروف من الدربة فيه والمران عليه والبصر بأحواله، وغلب الأمم في لجته على أعواده، وصار المسلمون فيه كالأجانب، إلا قليلًا من أهل البلاد الساحلية لهم المران عليه» (ص٢٥٦).
-
(٦)
يعتقد ابن خلدون أن كل ذلك من نتائج الإهمال وعدم العناية، ويقول بأن الأمور قد ترجع إلى ما كانت عليه لو أن الذين لهم المران على ركوب البحر «وجدوا كثرةً من الأنصار والأعوان، أو قوةً من الدولة تستجيش لهم أعوانًا، وتوضح لهم في هذا الغرض مسلكًا» (ص٢٥٦).
ويكرِّر ابن خلدون بعد ذلك ما كان قاله عن قيادة الأساطيل: «بقيت الرتبة لهذا العهد في الدولة المغربية محفوظة، والرسم في معاناة الأساطيل بالإنشاء والركوب معهودًا؛ لما عساه أن تدعو إليه الحاجة من الأغراض السلطانية في البلاد البحرية، والمسلمون يستهبون الريح على الكفر وأهله» (ص٢٥٦).
ويعلمنا في الأخير أن أهل المغرب كانوا يعتقدون أن الإسلام سيعود إلى ما كان عليه من القوة في تلك الربوع:
«فمن المشتهر بين أهل المغرب عن كتب الحدثان أنه لا بد للمسلمين من الكَرَّة على النصرانية وافتتاح ما وراء البحر من بلاد الإفرنجة، وأن ذلك يكون في الأساطيل» (ص٢٥٦).
٤
-
(١)
يتكلَّم ابن خلدون — في فصل من فصول الباب الثالث — عن «شارات الملك والسلطان الخاصة به» (٢٥٨–٢٧٠)، ويذكر من هذه الشارات أولًا ما يسميها باسم «الآلة» — ويقصد بها الرايات والآلات الموسيقية — ويشرح تأثيرها في الحروب:
«فمن شارات الملك اتخاذ الآلة من نشر الألوية والرايات، وقرع الطبول، والنفخ في الأبواق والقرون.»
«وقد ذكر أرسطو في الكتاب المنسوب إليه في السياسة أن السر في ذلك إرهاب العدو في الحرب، فإن الأصوات الهائلة لها تأثير في النفوس بالروعة، ولَعَمْرِي أنه أمر وجداني في مواطن الحرب، يجده كل واحد في نفسه، وهذا السبب الذي ذكره أرسطو — إن كان ذكره١ — فهو صحيح ببعض الاعتبارات.»«وأمَّا الحق في ذلك؛ فهو أن النفس عند سماع النغم والأصوات يدركها الفرح والطرب بلا شك، فيصيب مزاجَ الروح نشوةٌ يستسهل بها الصعب، ويستميت في ذلك الوجه الذي هو فيه، وهذا موجود حتى في الحيوانات العجم بانفعال الإبل بالحداء، والخيل بالصفير والصريخ كما علمت.»
«ويزيد ذلك تأثيرًا إذا كانت الأصوات متناسبةً كما في الغناء، وأنت تعلم ما يحدث لسامعه من مثل هذا المعنى؛ لأجل ذلك تتخذ العجم في مواطن حروبهم الآلات الموسيقية، لا طبلًا ولا بوقًا. فيحدِّق المغنون بالسلطان في موكبه بآلاتهم ويغنون فيحركون نفوس الشجعان بضربهم إلى الاستماتة» (ص٢٥٨).
«ولقد رأينا في حروب العرب من يتغنَّى أمام الموكب بالشعر ويطرب، فتجيش همم الأبطال بما فيها، ويسارعون إلى مجال الحرب، وينبعث كل قرن إلى قرنه.»
«وكذلك زناتة من أمم المغرب، يتقدَّم الشاعر عندهم أمام الصفوف ويتغنَّى، فيحرِّك بغنائه الجبال الرواسي ويبعث على الاستماتة.»
«وأمَّا أصل كل ذلك؛ فهو فرح يحدث في النفس؛ فتنبعث عنه الشجاعة، كما تنبعث عن نشوة الخمر بما حدث عنها من الفرح.»
«وأمَّا تكثير الرايات وتلوينها وإطالتها، فالقصد به التهويل لا أكثر، وربما تحدث في النفوس من التهويل زيادة في الإقدام، وأحوال النفوس وتلويناتها غريبة» (ص٢٥٨).
-
(٢)
بعد ذلك يشرح ابن خلدون خطط الملوك والدول في أمر هذه الشارات، ويتتبع بوجه خاص تطوُّرها في الدول الإسلامية المختلفة، ويستعرض أنواعها — بهذه المناسبة — من حيث العدد واللون والشكل:
«إن الملوك والدول يختلفون في اتخاذ هذه الشارات؛ فمنهم مكثر ومنهم مقل، بحسب اتساع الدولة وعظمها.»
«فأمَّا الرايات فإنها شعار الحروب من عهد الخليقة، ولم تزل الأمم تعقدها في مواطن الحروب والغزوات لعهد النبي ﷺ ومن بعده من الخلفاء.»
«وأمَّا قرع الطبول، والنفخ في الأبواق، فكان المسلمون — لأول الملة — متجافين عنه؛ تنزُّهًا عن غلظة الملك، ورفضًا لأحواله، واحتقارًا لأبهته التي ليست من الحق في شيء. حتى إذا انقلبت الخلافة ملكًا، وتبحبحوا بزهرة الدنيا ونعيمها، ولابَسَهُم الموالي من الفرس والروم أهل الدول السالفة، وأروهم ما كان أولئك ينتحلونه من مذاهب البذخ والترف؛ فكان مما استحسنوه اتخاذ الآلة فأخذوها، وأذنوا لعمالهم في اتخاذها تنويهًا بالملك وأهله» (ص٢٥٩).
بعد هذه النظرة العامة يتوسَّع ابن خلدون في الكلام عن أنواع الرايات:
«إن رايات بني العباس كانت سودًا؛ حزنًا على شهدائهم من بني الهاشم، ونعيًا على بني أمية في قتلهم؛ ولذلك سُمُّوا المسودة.»
«ولمَّا افترق أمر الهاشميين، وخرج الطالبيون على العباسيين من كل جهة، ذهبوا إلى مخالفتهم في ذلك، فاتخذوا الرايات بيضًا، وسُمُّوا المبيضة لذلك سائر أيام العُبيديين ومن خرج من الطالبيين في ذلك العهد بالمشرق.»
«ولمَّا نزع المأمون عن لبس السواد وشعاره في دولته، عدل إلى لون الخضرة فجعل رايته خضراء.»
«وأمَّا ملوك البربر بالمغرب — من صنهاجة وغيرها — فلم يختصوا بلون واحد، بل وشَّوها بالذهب، واتخذوها من الحرير الخالص ملونة» (ص٢٥٩).
وأمَّا عدد الآلة — من رايات وبنود — فيتكلَّم ابن خلدون عنها كما يلي:
«وأمَّا الاستكثار منها فلا ينتهي إلى حد، وقد كانت آلة العُبيديين — لمَّا خرج العزيز إلى فتح الشام — خمسمائة من البنود وخمس مئة من الأبواق.»
«وأمَّا ملوك البربر بالمغرب من صنهاجة وغيرها، فهم فيه بين مكثر ومقل باختلاف مذاهب الدول في ذلك؛ فمنهم من يقتصر على سبعة من العدد تبرُّكًا بالسبعة — كما هو في دولة الموحدين وبني الأحمر بالأندلس — ومنهم من يبلغ العشرة والعشرين — كما هو عند زناتة (ص٢٥٩). وقد بلغت في أيام السلطان أبي الحسن فيما أدركناه مائةً من الطبول ومائة من البنود، ملونةً بالحرير، منسوجةً بالذهب، ما بين كبير وصغير» (ص٢٦٠).
وأمَّا رايات أصحاب الثغور وقُوَّاد الجيش، فيعطينا ابن خلدون عنها المعلومات التالية:
«حينما بدأ الخلفاء في اتخاذ الآلة أذِنُوا لعمالهم أيضًا في اتخاذها تنويهًا بالملك وأهله، فكثيرًا ما كان العامل — صاحب الثغر أو قائد الجيش — يعقد له الخليفة من العباسيين أو العُبيديين لواءه، ويخرج إلى بعثه أو عمله من دار الخليفة أو داره في موكب من أصحاب الرايات، فلا يميَّز بين موكب العامل والخليفة إلا بكثرة الألوية وقلتها، أو ما اختص به الخليفة من الألوان لرايته» (ص٢٥٩).
«وأمَّا ملوك البربر في المغرب — من صنهاجة وغيرها — فقد استمروا على الإذن فيها لعُمَّالهم، حتى إذا جاءت دولة الموحدين ومن بعدهم من زنانة، قصروا الآلة من الطبول والبنود على السلطان، وحظروها على من سواه من عماله، وجعلوا لها موكبًا خاصًّا يتبع أثر السلطان في سيره يسمى الساقة» (ص٢٥٩).
«ولكنهم كانوا يأذنون للولاة والعمال في اتخاذ راية واحدة صغيرة من الكَتان بيضاء، وطبل صغير أيام الحرب، لا يتجاوزون ذلك» (ص٢٦٠).
-
(٣)
يذكر ابن خلدون خطة الأتراك والجلالقة أيضًا في هذا الشأن:
«وأمَّا دولة الترك لهذا العهد بالمشرق، فيتخذون رايةً واحدةً عظيمة، وفي رأسها خصلة كبيرة من الشعر يسمونها الشالش والجتر، وهي شعار السلطان عندهم، ثم تتعدَّد الرايات ويسمونها السناجق، واحدها سَنجَق، وهي الراية بلسانهم. وأمَّا الطبول فيبالغون في الاستكثار منها، ويسمونها الكوسات، ويبيحون لكل أمير أو قائد عسكر أن يتخذ من ذلك ما يشاء إلا الجتر فإنه خاص بالسلطان.»
«وأمَّا الجلالقة لهذا العهد في أمم الإفرنجة بالأندلس فأكثر شأنهم اتخاذ الألوية القليلة ذاهبةً في الجو صعدًا، ومعها قرع الأوتار من الطنابير ونفخ الغيطات، فيذهبون فيها مذاهب الغناء وطريقه في مواطن حروبهم، هكذا يبلغنا عنهم وعمن وراءهم من ملوك العجم» (ص٢٦٠).
٥
-
(١)
يتكلَّم ابن خلدون في بحث الفساطيط والسياج من فصل شارات الملك أيضًا عن بعض الأمور المتعلقة بالحروب والعساكر (ص٢٦٧–٢٦٩):
«كان العرب لعهد الخلفاء الأولين من بني أمية، إنما يسكنون بيوتهم التي كانت لهم خيامًا من الوبر والصوف، ولم يزل العرب لذلك العهد بادين إلا الأقل منهم، فكانت أسفارهم لغزواتهم وحروبهم بظعونهم وسائر حللهم وأحيائهم من الأهل والولد، كما هو شأن العرب لهذا العهد. وكانت عساكرهم لذلك كثيرة الحلل بعيدة ما بين المنازل متفرقة الأحياء، يغيب كل واحدة منها عن نظر صاحبه من الأخرى كشأن العرب»؛ ولذلك «كان عبد الملك يحتاج إلى ساقة تحشد الناس على أثره أن يقيموا إذا ظعن. ونُقل أنه استعمل في ذلك الحجاج حين أشار به روح بن زنباع، وقصتهما في إحراق فساطيط روح وخيامه لأول ولايته حين وجدهم مقيمين في يوم رحيل عبد الملك قصة مشهورة» (ص٢٦٨).
«فلمَّا تفنَّنت الدولة العربية في مذاهب الحضارة والبذخ، ونزلوا المدن والأمصار، وانتقلوا من سُكنى الخيام إلى سُكنى القصور، ومن ظهر الخف إلى ظهر الحافر؛ اتخذوا للسكنى في أسفارهم ثياب الكَتان، يستعملون منها بيوتًا مختلفة الأشكال مقدَّرة الأمثال — من القوراء والمستطيلة والمربعة — ويحتفلون فيها بأبلغ مذاهب الاحتفال والزينة. ويدير الأمير والقائد للعساكر على فساطيطه وفاراته من بينهم سياجًا من الكَتان، يختص به السلطان بذلك القُطْر لا يكون لغيره. وأمَّا في المشرق فيتخذه كل أمير وإن كان دون السلطان.»
«ثم جنحت الدعة بالنساء والولدان إلى المقام بقصورهم ومنازلهم؛ فخفَّ لذلك ظهرهم، وتقاربت السياج بين منازل العسكر، واجتمع الجيش والسلطان في معسكر واحد، يحصره البصر في بسيطة زهوًا أنيقًا لاختلاف ألوانه. واستمر الحال على ذلك في مذاهب الدول في بذخها وترفها» (ص٢٦٨).
يقرِّر ابن خلدون أن مثل ذلك حدث في دولة الموحدين وزناتة أيضًا، ويختم ببيان المحاذير التي تنشأ عن ذلك:
«العساكر به تصير عُرضةً للبيات؛ لاجتماعهم في مكان واحد، تشملهم فيه الصيحة، وخفتهم من الأهل والولد الذين تكون الاستماتة دونهم، فيحتاج في ذلك إلى تحفُّظ آخر» (ص٢٦٨-٢٦٩).
-
(٢)
يخصِّص ابن خلدون فصلًا صغيرًا من فصول الباب الثالث لذكر «التفاوت بين أصحاب السيف والقلم في الدول» (ص٢٥٧).
يقرِّر في هذا الفصل أن مراتب السيف تكون أهم من مراتب القلم في عهد تأسُّس الدولة وفي أواخر حياتها. وبعكس ذلك؛ فإن مراتب القلم تكون أهم من مراتب السيف في أواسط الدولة. وأمَّا أسباب ذلك فهو ما يلي:
«إن السيف والقلم كلاهما آلة لصاحب الدولة يستعين بها على أمره، إلا أن الحاجة في أول الدولة إلى السيف — ما دام أهلها في تمهيد أمرهم — أشد من الحاجة إلى القلم؛ لأن القلم في تلك الحالة خادم فقط، ومنفذ للحكم السلطاني، والسيف شريك في المعونة. وكذلك في آخر الدولة، حيث تضعف عصبيتها كما ذكرناه، ويقل أهلها بما ينالهم من الهرم الذي قدَّمناه، فتحتاج الدولة إلى الاستظهار بأرباب السيوف، وتقْوَى الحاجة إليهم في حماية الدولة والمدافعة عنها، كما كان الشأن أول الأمر في تمهيدها. فيكون للسيف مزية على القلم في الحالتين، ويكون أرباب السيف حينئذٍ أوسع جاهًا، وأكثر نعمة، وأسنى إقطاعًا.»
«وأمَّا في وسط الدولة، فيستغني صاحب الدولة بعض الشيء عن السيف؛ لأنه قد تمهَّد أمره، ولم يبقَ همه إلا في تحصيل ثمرات الملك من الجباية والضبط، ومباهاة الدول، وتنفيذ الأحكام، والقلم هو المعين له في ذلك؛ فتعظم الحاجة إلى تصريفه، وتكون السيوف مُهملةً في مضاجع أغمادها، إلا إذا أنابت نائبة، أو دُعِيت إلى سد فرجة، وما سوى ذلك فلا حاجة إليها. فيكون أرباب الأقلام في هذه الحالة أوسع جاهًا، وأعلى رتبة، وأعظم نعمةً وثروة، وأقرب من السلطان مجلسًا، وأكثر إليه تردُّدًا، وفي خلواته نجيًّا؛ لأنه حينئذ آلته التي بها يستظهر على تحصيل ثمرات ملكه، والنظر إلى أعطافه، وتثقيف أطرافه، والمباهاة بأحواله. ويكون الوزراء حينئذ وأهل السيوف مستغنًى عنهم، ومُبْعَدِين عن باطن السلطان، حذرين على أنفسهم من بوادره» (ص٢٥٧).
٦
ومما يجب أن يلفت الأنظار، أن تقسيم الحروب إلى نوعَي الزحف والكر والفر، مما لا يخلو من الانطباق على أحوال الحروب الحديثة أيضًا؛ فإن الحروب في زماننا هذا تكون من نوع حروب الزحف من حيث الأساس، غير أن حركات الكر والفر أيضًا تقوم بأدوار هامة على هامش الحروب؛ فإن أعمال قطع الاستكشاف وحركات كتائب التدمير تدخل في نطاق حروب الكر والفر بطبيعة الحال.
وكذلك معظم أعمال الأساطيل، وجميع حركات الغواصات تشبه حروب الكر والفر تمامًا. وأمَّا الغارات الجوية فكلها مما ينطبق عليها جميع أوصاف حروب الكر والفر التي ذكرها ابن خلدون، ولا تختلف عنها إلا من جرَّاء جريانها في الجو عوضًا عن سطح الأرض.