أخطاء في نقل وتلخيص الآراء
إن أول الواجبات التي تترتَّب على كل من يروم البحث في أحد المؤلفات القديمة، هو ملاحظة الآراء المدوَّنة فيه ملاحظةً دقيقة، والحذر من تغيير حقيقة تلك الآراء وحدودها الأصلية، خلال نقلها وتلخيصها.
ولكن البعض ممن كتبوا عن مقدمة ابن خلدون لم يراعوا — مع الأسف — «واجب الدقة والضبط» فيما نقلوه منها؛ ولذلك عزوا إلى ابن خلدون من الآراء ما لم يقل بها هو أبدًا.
إني صادفت أمثلةً كثيرةً على ذلك في مختلِف الكتب والمجلات، ولعل أبرز هذه الأمثلة كان في فقرة قرأتها في مقالة للأستاذ الدكتور محمد صالح.
لقد نشر الأستاذ المشار إليه في «مجلة القانون والاقتصاد» — التي تصدر في القاهرة — ثلاث مقالات عن «التفكير الاقتصادي العربي في القرن الخامس عشر»، وخصَّص الثانية والثالثة منها إلى آراء «عبد الرحمن بن خلدون».
وكان ممَّا كتبه في المقالة الثانية ما نصه بالحرف الواحد:
إن ابن خلدون «أسقط الدين من عِدَاد عناصر الحضارة؛ لأنه عدو للحضارة، يرى فيها الشر كله، وينصح الناس بالعودة إلى البداوة» (مجلة القانون والاقتصاد، العدد الثالث من السنة الثالثة ١٩٣٣، ص٣٣٠).
- أولًا: إن ابن خلدون لم يُسْقِط الدين من عِداد عناصر
الحضارة.
في الواقع أنه انتقد رأي القائلين بأن الحياة الاجتماعية «لا تقوم إلا على الدين»، ولكنه لم ينكر دور الدين في الحياة الاجتماعية، بل بعكس ذلك، إنه تكلَّم عن دور الدين في تلك الحياة، بعدة مناسبات.
إنه قال في فصل من فصول الباب الثاني: «إن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية، من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة» (ص١٥١).
كما قال في أحد فصول الباب الثالث: «إن الدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها قوةً على قوة العصبية التي كانت لها من عددها» (ص١٥٨).
وفضلًا عن ذلك إنه قرَّر في فصل «لغات أهل الأمصار» أن الدين الإسلامي كان السبب الأصلي في انتشار اللغة العربية في الأمصار الإسلامية، كما أنه صرَّح بأن القرآن كان السبب في «بقاء اللغة العربية المضرية» (ص١٥٣).
والقول — على الرغم من كل ذلك — بأن ابن خلدون «أسقط الدين من عِداد عناصر الحضارة» لا يتفق مع «الحقائق الراهنة بوجه من الوجوه».
- ثانيًا: إن ابن خلدون لم يقل إن الحضارة «كلها
شر».
في الواقع قرَّر أن حياة الحضارة تؤدي إلى فساد الأخلاق، ولكنه قال في الوقت نفسه إن الحضارة تقوِّي الملكات العقلية، وتساعد على استجادة الصنائع واستبحار العلوم، وتُكْسِبُ الإنسان «مزيد عقل وذكاء».
وقد قال ابن خلدون في أحد فصول الباب السادس ما نصه:
«ألا ترى إلى أهل الحضر مع أهل البدو؟ كيف تجد الحضري متحليًا بالذكاء ممتلئًا من الكيس؟ حتى إن البدوي ليظنه أنه قد فاقَه في حقيقة إنسانيته وعقله، وليس كذلك, وما ذلك إلا لإجادته في مَلَكات الصنائع والآداب في العوائد والأحوال الحضرية ما لا يعرفه البدوي» (ص٤٣٣).
فإذا قلنا — مع كل ذلك — إن ابن خلدون «عدو للحضارة، يرى فيها الشر كله»؛ نكون قد خرجنا عن نطاق آرائه الحقيقية، وتباعدنا عنها بُعْدًا كبيرًا.
- ثالثًا: لم ينصح ابن خلدون الناس بالعودة إلى البداوة،
ولا يوجد في جميع صحائف المقدمة كلمة واحدة تدل
على مثل هذه النصيحة.
وذلك لأن ابن خلدون يرى — في حقيقة الأمر — أن الحضارة من الأمور الطبيعية مثل البداوة، ويقرِّر بصراحة تامة أن النزوع «إلى الدَّعَة والسكون من طبيعة البشر» (ص٣٤٣)، ويرى أن نزول المدن والأمصار من الأمور التي تقتضيها الطبيعة البشرية.
فالقول — والحالة هذه — إن ابن خلدون ينصح الناس بالعودة إلى البداوة، يخالف أهم وأعم المبادئ المقررة في المقدمة.
ويلوح لي أن الأستاذ محمد صالح كتب ما كتبه في هذا الصدد متأثِّرًا بما هو معلوم عن الرأي الذي كان أبداه جان جاك روسو في أواسط القرن الثامن عشر؛ إنه ادعى أن الحضارة تُفْسِد الأخلاق؛ ولذلك دعى الناس إلى تركها ومحو آثارها.
وأمَّا ابن خلدون فإنه رأى مفاسد الحضارة، ولكنه اكتفى بتسجيل ما لاحظه في هذا الصدد، دون أن يقرن ملاحظاته هذه بدعوة إلى ترك الحضارة؛ لأنه كان يدرك — من تأمُّلاته الاجتماعية العامة — بأن ذلك يكون مخالفًا لقوانين الطبيعة.
ومن الغريب أن الدكتور محمد صالح عاد إلى هذه القضية — بوسيلة أخرى — في مقالته الثالثة أيضًا، حيث قال: إن ابن خلدون ينصح أهل البادية بعدم سُكنى المدن، وإن كل من يتشوَّف منهم لسُكنى المدن «فسريعًا ما يظهر عجزه ويفتضح في استيطانه، إلا من تقدَّم منهم تأثل المال، وتحصَّل له منه فوق الحاجة» (المجلة المذكورة، ص٧٩٣).
إن العبارة التي ينقلها الدكتور عن ابن خلدون في آخر هذه الفقرة موجودة في فصل المقدمة المعنون بالعنوان التالي:
«في قصور أهل البادية عن سُكنى المصر الكثير العمران» (ص٣٦٥).
وكل من يقرأ الفصل المذكور بإمعان يرى أن ابن خلدون يقرِّر فيها الأمر الواقع من غير أن يُقَدِّمَ نصيحةً ما لأحد. وفضلًا عن ذلك إنه لا ينكر على البدوي إمكان سُكنى المصر «بعد تأثُّل المال»، كما جاء في العبارة التي نقلها الدكتور نفسه.
وممَّا هو جدير بالذكر والملاحظة في هذه القضية أن ابن خلدون يقول — عقب تلك العبارة مباشرة:
«ويجري إلى الغاية الطبيعية لأهل العمران من الدعة والترف، فحينئذٍ ينتقل إلى المصر، وينتظم حاله مع أحوال أهله في عوائدهم وترفهم» (ص٣٦٥).
فكيف يجوز أن يقال — والحالة هذه — إن ابن خلدون ينصح أهل البادية بعدم سُكنى المدن؟!