أسلوب المقدمة ومفرداتها اللغوية
إن آراء أدباء وكُتَّاب العرب المعاصرين في أسلوب المقدمة يختلف بعضها عن بعض اختلافًا كبيرًا؛ فبعضهم ينتقده أشد الانتقاد، في حين أن بعضهم الآخر يطريه كل الإطراء.
مثلًا يقول الدكتور طه حسين في كتابه «فلسفة ابن خلدون الاجتماعية» ما يلي:
«أسلوبه كأسلوب معاصريه، أسلوب مضمحل جدًّا، تكثر فيه العبارات المسجعة، والاستعارات والمقارنات التي يكثر فيها التكلُّف، والأغلاط في استعمال الكلمات، والخلط بين صحيح الألفاظ وعاميها، بل توجد فيه أغلاط نحوية. فقد أفلح في التعبير عن مذهب فلسفي كامل، ولكنه لم يستطع أن يُسْبِغَ على فلسفته لغةً خاصةً به؛ إذ كثيرًا ما يعالج الفكرة بإسهاب ممل جدًّا، أو باختصار يدنو من الغموض» (ص٢٨-٢٩).
غير أن الأستاذ عبد الله عنان يرى في أسلوب ابن خلدون رأيًا يخالف ذلك كل المخالفة؛ إذ يقول في مقدمة كتابه «ابن خلدون، حياته وتراثه الفكري» ما يلي:
«يجب أن يقرأ الشباب مقدمة ابن خلدون ويستعيدوها مرارًا وتكرارًا؛ لا ليعجب فقط بما حَوَتْ من رائع الفكر والبحث، ولكن أيضًا ليستقي منها أساليب البيان والتعبير عن كثير من الآراء والخواطر الاجتماعية التي تجول بذهنه، وكثيرًا ما يتعثَّر في التعبير عنها؛ ذلك أن مقدمة ابن خلدون إذا كانت ثروةً لا تُقَدَّر في تراث التفكير العربي، فهي أيضًا ثروة لا تُقَدَّر في تراث البيان العربي» (ص٨).
كما أنه يقول في أحد فصول الكتاب المذكور ما يلي:
«لابن خلدون أسلوب خاص في العرض والتعبير، وكما أن مقدمته تمتاز بطرافة موضوعاتها، فهي أيضًا تمتاز بروعة أسلوبها الأدبي الذي يجمع بين البساطة وقوة التعبير، ودقة التدليل وحسن الأداء والتناسق. وإذا كانت المقدمة مثلًا أعلى للتفكير الناضج والابتكار الفائق، فهي في نظرنا أيضًا مَثَلٌ أعلى لحسن البيان، والفصاحة المرسلة، والعرض الشائق» (ص١٣٦).
في الواقع إن الأستاذ عنان لا ينكر أن لأسلوب المقدمة بعض النواقص؛ إذ إنه يعقِّب على العبارات الآنفة الذكر بالقيود التالية:
«وذلك رغم ما يطرأ أحيانًا على أسلوبها من ضعف في العبارة، وغرابة في التعبير، وشذوذ في اللفظ، ترجع إلى نشأة ابن خلدون البربرية، وتثقُّفه بآداب المغرب والأندلس، ولم تكن يومئذٍ في أوج قوتها.»
ومع هذا كله إنه لا يتردَّد في إنهاء بحثه في هذا الصدد بالعبارات التالية:
«ويكتب ابن خلدون تاريخه بنفس الأسلوب القوي المرسل، وفي أحيان كثيرة يرتفع إلى ذروة القوة في التعبير، ولكنه في أحيان كثيرة يبالغ في الإيجاز والاتباع؛ فتبدو عبارته قاصرةً عن بيان مقاصده، ويعتورها الغموض واللبس، أو يعتورها نوع من الركاكة والضعف، وتتخلَّلها الألفاظ الغريبة. غير أنه دائمًا أستاذ موضوعه، يمتاز دائمًا بالبيان القوي الشائق» (ص١٣٧).
إذن نحن هنا أمام رأيين مختلفين عن أسلوب ابن خلدون في الكتابين العربيين المخصصين له؛ رأي الدكتور طه حسين، ورأي الأستاذ عبد الله عنان، فالأول يَحْمِل على الأسلوب حملةً شديدةً لا هوادة فيها، والثاني يُعْجَب بالأسلوب ويُطْرِيه، ويدعو الشبان إلى استقاء أساليب التعبير والبيان منه، على الرغم من بعض النواقص التي تبدو فيه.
فما هو وجه الصواب في هذه المسألة بين هذين الرأيين؟
إني أعتقد أن آثار «التسرُّع في التعميم» بادية للعيان في حكم الدكتور طه حسين في هذه القضية.
لأنه عندما يدَّعي بأن «أسلوب ابن خلدون أسلوب مضمحل جدًّا» يبرهن على رأيه هذا — أولًا — بالعبارات التالية: «تكثر فيه العبارات المسجعة، والاستعارات والمقارنات التي يكثر فيها التكلُّف.»
في حين أن كل من يتصفَّح المقدمة يرى بكل وضوح أن ذلك لا ينطبق إلا على «الديباجة» وحدها؛ فإن هذه الديباجة مكتوبة فعلًا بأسلوب مسجع تمامًا، وهي حقيقة كثيرة الاستعارات وشديدة التكلُّف، يختلف عدد الأسجاع المتتالية فيها من الاثنين (كما في دول وأُوَل، أو سلطانه وشيطانه، أو مشاهير وجماهير …) إلى الاثني عشر (كما في زاهد، محامد، شواهد، قلائد، ولائد، ساعد، مساعد، تالد، قواعد، مصاعد، فوائد، شوارد).
ومن الطبيعي أن كثرة هذه الأسجاع التي تتوالى من أول الديباجة إلى آخرها بدون انقطاع، لا تترك مجالًا لتبيان المقاصد بالوضوح اللازم، حتى إنها كثيرًا ما تجعلها غامضةً جدًّا، تكاد تجرِّدها من المعنى أيضًا في بعض الأحيان.
غير أن هذه الديباجة تختلف من حيث الأسلوب عن سائر أقسام المقدمة اختلافًا كليًّا، والحالة التي ذكرناها لا تشمل المقدمة نفسها أبدًا. ويستطيع المرء أن يقرأ في المقدمة عشرات الصفحات من غير أن يعثر فيها على شيء من العبارات المسجعة والمنمَّقة، ومن غير أن يجد بين سطورها أثرًا للسجع المقصود في العبارات، أو للتكلُّف والتصنُّع في الأسلوب، فالحكم على أسلوب الكتاب — والحالة هذه — من أسلوب الديباجة وحدها مما لا يتفق مع مقتضيات البحث العلمي بوجه من الوجوه؛ ولا سيما فإن عدد صفحات الديباجة لا يزيد إلا قليلًا على واحد في المائة من مجموع صفحات الكتاب.
ومن الواضح الجلي أن الديباجة المذكورة كُتِبت بعد الكتاب مع عناء لفظي ولغوي طويل، وتكلُّف شاق وصريح، وفقًا للنزعة السائدة بين الأدباء في العصر الذي عاش خلاله ابن خلدون. ومن المعلوم أن الديباجات كانت تُعْتَبَر وسيلةً لإظهار براعة بهلوانية في اللعب على حبال الألفاظ؛ ولذلك كان يُبْذَلُ فيها جهود شاقة للإكثار من الاستعارات، بقصد الإشارة إلى مواضيع الكتاب ومقاصده، بأساليب تكاد تكون جمبازية.
ولذلك أعتقد أن البحث في أسلوب المقدمة يتطلَّب التمييز بين الديباجة وبين سائر أقسام الكتاب تمييزًا قاطعًا.
وهذا ما يجعلني أن أميل إلى رأي الأستاذ عنان في هذا الشأن، مع علمي بأنه لا يخلو من المبالغة، وأعتقد أن أحسن وصف لأسلوب المقدمة هو القول بأنه «يتوسَّط بين الإجادة والقصور»، حسب ما قال ابن خلدون نفسه عن أشعاره في كتاب التعريف.
ولكني لا أشارك الأستاذ عنان في تعليله لما يطرأ أحيانًا على أسلوب المقدمة من ضعف، ولما يظهر فيه «من غرابة في التعبير وشذوذ في اللفظ.»
لأن الأستاذ عنان يُرْجِع أسباب ذلك في الدرجة الأولى إلى «نشأة ابن خلدون البربرية»، ولكن كل ما هو معلوم وثابت عن حياة ابن خلدون لا يبرِّر مطلقًا وصف نشأته بالبربرية؛ لأنه نشأ في بيت علم، هاجَرَ من الأندلس إلى تونس، وحافظ على مكانته العلمية جيلًا بعد جيل. ومن المعلوم أن تونس نفسها كانت ولا تزال بعيدةً عن البربرية.
وأمَّا السبب الحقيقي في ذلك فيعود — على ما أعتقد — إلى أمرين مهمين؛ أولًا: انحطاط الأدب في ذلك العصر بوجه عام، ثانيًا — وعلى الأخص: كثرة الآراء الطريفة التي كانت تتوارد على ذهن ابن خلدون خلال كتابة المقدمة؛ تلك الآراء الطريفة كانت تتدفَّق وتتزاحم وتتشابك بصورة لم يبقَ معها مجال — في كثير من الأحيان — لصقل العبارات وتهذيبها. والتفاوت الذي يلاحَظ في أسلوب بيان الفصول المختلفة إنما يرجع إلى التفاوت في ماهية المواضيع نفسها من ناحية، وفي مبلغ خضوع الكتابات إلى الصقل والتهذيب من ناحية أخرى.
•••
ولكني أعتقد أن مقدمة ابن خلدون جديرة بالبحث والاقتداء من حيث المفردات والمصطلحات، أكثر مما هي جديرة بالبحث والاقتداء من حيث أسلوب البيان.
لأن المقدمة غنية جدًّا بالمفردات والمصطلحات، فقد دوَّن ابن خلدون فيها كثيرًا من الكلمات والتعابير التي كانت دارجةً في مختلِف الصنائع والمهن، كما أنه استعمل فيها كثيرًا من المشتقات من غير أن يتقيَّد بحكم المعاجم فيها. إنه لم يتردَّد في استحداث الكلمات والمصطلحات عن طريق القياس، كلما شعر بحاجة إلى ذلك؛ للتعبير عمَّا يفكر فيه تعبيرًا واضحًا ودقيقًا.
•••
ولذلك أقول إن المفردات اللغوية والاصطلاحات العلمية الواردة في مقدمة ابن خلدون جديرة بالبحث والدرس بحثًا شاملًا ودراسةً مستفيضة.