نقد كتاب البروفسور غاستون بوتول
إنه نشر سنة ١٩٣٠ كتابًا عن «ابن خلدون، وفلسفته الاجتماعية»، وكتب سنة ١٩٣٤ مقدمةً قيِّمةً للطبعة الثانية من ترجمة مقدمة ابن خلدون للغة الفرنسية. وعندما نشر كتابه في «علم الاجتماع» سنة ١٩٤٦، خصَّص فيه لابن خلدون صحائف عديدةً من فصل «تاريخ علم الاجتماع»، ثم ذكره أكثر من عشر مرات في مختلِف فصول الكتاب بمختلِف المناسبات.
وعندما نشر كتابه في «اجتماعيات الحروب» سنة ١٩٥١، أشار إلى آراء ابن خلدون في الحروب خلال مختلِف الأبحاث.
وعندما نشر كتيِّبه في «تاريخ علم الاجتماع» سنة ١٩٥٠ — في كليات «ماذا أعلم» الفرنسية — خصَّص لابن خلدون صحائف عديدة.
وبهذه الصور المختلفة ساعد على إشاعة ذكر ابن خلدون بين علماء الاجتماع من ناحية، وبين هواة العلم والأدب من ناحية أخرى.
إني أعتقد — لذلك كله — أن البروفسور بوتول يستحق التقدير على اهتمامه المتواصل بابن خلدون وبمقدمة ابن خلدون.
ولكن تقديري هذا لا يمنعني من انتقاده على بعض الآراء الخاطئة التي أَبْدَاها في كتابه عن ابن خلدون.
(١) ابن خلدون والقدرية
إني أعتقد أن هذا الزعم يخالف حقائق الأمور مخالفةً كلية؛ فإن كل من يدرس «المقدمة» بنظرة منصفة ومحايِدَة — مجردة عن النزعات والآراء القَبلانية — يُضطر إلى التسليم بأن نظريات ابن خلدون بعيدة عن نزعة القدرية بُعْدًا كبيرًا؛ لأنه لم يَقُلْ في أبحاثه «إن هذه الأمور تحدث؛ لأن ذلك كان في لوحة القدر»، بل إنما يقول دائمًا «إن هذه الأمور تحدث على هذا المنوال من جرَّاء طبيعة الأشياء»، أو — بتعبير آخر — «بسبب الترتيب الطبيعي للأشياء.»
وإني أظن ظنًّا قويًّا أن غاستون بوتول إنما انجرف إلى هذا الزعم الخاطئ متأثِّرًا بآراء بعض المستشرقين الذين ذهبوا إلى أن «فكرة السببية التي تتجلَّى في مقدمة ابن خلدون، إنما هي مستمدة من فكرة القضاء والقدر والقسمة التي تكوِّن أساس اللاهوت الإسلامي». وأمَّا حجة هؤلاء في حكمهم هذا فهي الآيات القرآنية التي ينتهي بها كل فصل من فصول المقدمة.
ولكني أعتقد أن الدراسة المنشورة في هذا الكتاب تحت عنوان «التفكير والإيمان، العقل والنقل»، تبرهن على خطأ هؤلاء المستشرقين برهنةً قاطعة. إن ابن خلدون لم يستخرج آراءه ونظرياته من تلك الآيات القرآنية كما ذهب إليه هؤلاء المستشرقون، إنما استنبطها من استقراء الوقائع والحوادث التي اطلع عليها ولاحظها ملاحظةً دقيقة. فإننا إذا استثنينا الفصول التي تحوم مواضيعها حول المسائل الدينية والشرعية مباشرة؛ وجدنا أن ابن خلدون يستند في جميع أبحاثه وتعليلاته على الدلائل العقلية والمنطقية وحدها. وأمَّا الآيات القرآنية والأحاديث النبوية فإنه لا يذكرها عادةً إلا بعد الانتهاء من التفكير والتعليل [القسم الثالث: آراء ابن خلدون ونظرياته – التفكير والإيمان].
ولو حُذِفت تلك الآيات لما انقطعت سلسلة المحاكمات المسرودة في الفصل، ولما تغيَّر شيء من نتائجها المنطقية.
ولذلك كله أقول بلا تردُّد: إن اتهام ابن خلدون ونظرياته بالقدرية، يكون تهمة جائرةً لا تستند إلى أي دليل معقول.
إذا كان ابن خلدون قد قال عن كثير من الأمور الاجتماعية «إنها تقع حتمًا»، فقد قال مثل ذلك في كثير من الأمور، كثيرون من علماء الاجتماع الحديثين كما ذكرت ذلك آنفًا.
إن غاستون بوتول لم يقل عن هؤلاء إنهم قدريون، فبأي حق يقول عن ابن خلدون إنه كان قدريًّا؟!
(٢) ابن خلدون وخرافة العمالقة
ولكن البروفسور بوتول يوجِّه إلى مؤلف المقدمة تهمةً أخرى، أشد خطرًا من التهمة المذكورة آنفًا.
إني أسلِّم بأن ابن خلدون ما كان يعرف شيئًا كثيرًا عن التاريخ القديم بوجه عام، وعن تاريخ الرومان بوجه خاص، ولكني لا أسلِّم أبدًا بأنه كان يعتقد بأن الآثار الرومانية من مباني العمالقة، وأستغرب كل الاستغراب كيف يُقْدِم البروفسور بوتول على اتهام ابن خلدون بما هو براء منه كل البراءة، في هذه القضية؟
في الواقع إن ابن خلدون ذكر الروايات الشائعة بين الناس في هذا الشأن في أربعة فصول مختلفة من المقدمة، ولكنه لم يذكر تلك الروايات إلا ليفنِّدها، ويبرهن على بطلانها. إنه نعتها بالأوهام الباطلة، والأخبار العريقة في الكذب، وقال عنها: «هذا رأي لا وجه له إلا التحكُّم، وليس له علة طبيعية ولا سبب برهاني» (ص١٧٨)، كما قال: «هذا رأي ولع به القُصاص عن قوم عاد وثمود» (ص٣٤٥).
- (أ)
لأن البناة استعملوا الهندام والمخال التي تضاعف قوة الإنسان.
- (ب)
ولأن قوة الدولة التي أقدمت على تشييدها كانت ساعدت على حشد عدد كبير من الفَعَلة لإنجاز أعمال البناء.
- (جـ)
ولأن أعمال الإنشاء استغرقت سنين طويلة، شملت أحيانًا عهود عدة ملوك، توالَوا على العرش، وواصلوا العمل لإنجاز ما كان بدأ به أسلافهم.
إن رأي ابن خلدون في هذه الأمور صريح كل الصراحة.
ولإزالة الشكوك التي قد تثيرها كلمات البروفسور بوتول في بعض الأذهان، أنقل فيما يلي بعض الفقرات من مقدمة ابن خلدون، بنصوصها الأصلية:
في الفصل الذي يقرِّر «أن آثار الدولة كلها على نسبة قوتها في أصلها»، يقول ابن خلدون — بعد ذكر بعض المباني والهياكل العظيمة القديمة — ما يلي:
«واعلم أن تلك الأفعال للأقدمين إنما كانت بالهندام، واجتماع الفعلة وكثرة الأيدي عليها؛ فبذلك شُيِّدت تلك المصانع والهياكل. ولا تتوهَّم ما تتوهَّمه العامة أن ذلك لعظم أجسام الأقدمين عن أجسامنا في أطرافها وأقطارها، فليس بين البشر في ذلك كبير بون، كما نجد بين الهياكل والآثار.»
«ولقد ولع القُصَّاص بذلك وتغالَوا فيه، وسطَّروا عن قوم عاد وثمود والعمالقة في ذلك أخبارًا عريقةً في الكذب، من أغربها ما يحكون عن عوج ابن عناق، رجل من العمالقة الذين قاتلهم بنو إسرائيل في الشام، زعموا أنه لطوله كان يتناول السمك من البحر ويشويه في الشمس» (ص١٧٧).
«وإنما مثار غلطهم في هذا أنهم استعظموا آثار الأمم، ولم يفهموا حال الدول في الاجتماع والتعاون، وما يحصل بذلك وبالهندام من الآثار العظيمة، فصرفوه إلى قوة الأجسام وشدتها» (ص١٧٨).
وفي الفصل الذي يقرِّر «أن المدن العظيمة والهياكل المرتفعة إنما يشيِّدها الملك الكثير» يقول ابن خلدون ما يلي:
«إن تشييد المدن إنما يحصل باجتماع الفعلة وكثرتهم وتعاونهم، فإذا كانت الدولة عظيمةً متسعة الممالك، حُشِر الفعلة من أقطارها، وجُمِعت أيديهم على عملها، وربما استُعين في ذلك في أكثر الأمر بالهندام الذي يضاعف القوى والقُدَر في حمل أثقال البناء؛ لعجز القوة البشرية وضعفها عن ذلك» (ص٣٤٤).
«وربما يتوهَّم كثير من الناس إذا نظر إلى آثار الأقدمين ومصانعهم العظيمة، فيتخيَّل لهم أجسامًا تناسب ذلك، ويغفل عن شأن الهندام والمخال وما اقتضته في ذلك الصناعة الهندسية» (ص٣٤٥).
«وأكثر آثار الأقدمين لهذا العهد تسميها العامة عادية بالنسبة إلى قوم عاد؛ لتوهُّمهم أن مباني عاد ومصانعهم إنما عظمت لعظم أجسامهم وتضاعف قُدَرهم. وليس كذلك؛ فقد نجد آثارًا كبيرةً من آثار الذين تُعْرَف مقادير أجسامهم من الأمم، وهي في مثل ذلك العظم أو أعظم.»
«وإنما هذا رأي ولع به القُصاص عن قوم عاد وثمود والعمالقة» (ص٣٤٥).
وفي الفصل الذي يقرِّر «أن الهياكل العظيمة جدًّا لا تستقل ببنائها الدولة الواحدة»، يكرِّر ابن خلدون رأيه في هذه الأمور، ويقول:
«وقد تكون للمباني في عظمها أكثر من القُدَر مفردة أو مضاعفة بالهندام كما قلناه، فيحتاج إلى معاودة قُدَر أخرى مثلها في أزمنة متعاقبة إلى أن تتم. فيبتدئ الأول منهم بالبناء، ويعقبه الثاني والثالث، وكل واحد منهم قد استكمل شأنه في حشر الفعلة وجمع الأيدي، حتى يتمَّ القصد من ذلك، ويكمل ويكون ماثلًا للعيان.»
«وانظر في ذلك ما نقله المؤرخون في بناء سد مأرب … ومثل هذا ما نُقِل في بناء قرطاجنة وقناتها الراكبة على الحنايا العادية، وأكثر المباني العظيمة في الغالب هذا شأنها» (ص٣٤٦).
وفي فصل صناعة البناء، يقول ابن خلدون ما يلي:
«فإن الأجرام العظيمة إذا شُيِّدت بالحجارة الكبيرة تعجز قُدَر الفعلة عن رفعها إلى مكانها من الحائط؛ فيتحيَّل لذلك بمضاعفة قوة الحبل بإدخاله المعالق من أثقابٍ مُقدَّرة على نسب هندسية، تُصيِّر الثقيل عند معاناة الرفع خفيفًا؛ فيتم المراد من ذلك بغير كلفة. وهذا إنما يتم بأصول هندسية معروفة متداوَلة بين البشر. وبمثلها كان بناء الهياكل الماثلة لهذا العهد التي يُحسب أنها من بناء الجاهلية، وأن أبدانهم كانت على نسبتها في العظم الجسماني، وليس كذلك، وإنما تمَّ لهم ذلك بالحيل الهندسية كما ذكرناه» (ص٤٠٩).
•••
يلاحَظ أن مضامين جميع هذه الفقرات تدل على عكس ما ذهب إليه بوتول. إن ابن خلدون لم يشارك العوام في الخرافات القائلة بأن الآثار الرومانية من مباني الجان، بل بعكس ذلك انتقد تلك الخرافات بكل صراحة، وبشدة متناهية.
لذلك يجدر بنا أن نتساءل: كيف ولماذا ذهب البروفسور بوتول إلى ما ذهب إليه في هذا الصدد، على الرغم من صراحة كتابات ابن خلدون حول هذه القضية؟
إني لا أستطيع أن أفسِّر ذلك إلا بما يلي؛ عندما وقع نظر البروفسور بوتول على خرافة العمالقة في أحد فصول المقدمة، لم يكلِّف نفسه عناء قراءة الفصل بكامله؛ ولذلك لم يطَّلع على ما كتبه ابن خلدون في نقد وتجريح تلك الخرافات، فتوهَّم أنه كان يعتقد بصحتها؛ ولهذا السبب سجَّل على ابن خلدون تلك التهمة الباطلة، على الرغم من هذه الصراحة الصارخة.
(إني شرحت هذا الخطأ العظيم في بلاغ قدمته إلى «المؤتمر الأممي الخامس عشر لعلم الاجتماع»، الذي انعقد صيف سنة ١٩٥٢، وذكرت فيه الصحائف التي تقع فيها نصوص ابن خلدون في مجلدات الترجمة الفرنسية للبارون دو سلان.)
(٣) ابن خلدون وأوروبا النصرانية
يوجد في كتاب البروفسور بوتول نقطة هامة أخرى تستوقف النظر، وتستلزم البحث والنقاش.
فإنه يزعم بأن ابن خلدون لم يهتم أبدًا بما يخرج عن نطاق العالم الإسلامي والديانة الإسلامية، مستحقرًا كل ما يعود إلى أوروبا وإلى النصرانية.
يقول بوتول: «إن ابن خلدون يلتزم السكوت عن أمور أوروبا والنصرانية سكوتًا يكاد يكون مطلقًا، وفي فقرة قصيرة من تاريخه العام يتطرَّق إلى تشكيلات البابوية، ولكنه يعتذر على الفور عن التكلُّم في أمر يخالف الدين الإسلامي. إنه لا يجعل هذه الأمور موضوع ملاحظة أو مقارنة. وعندما يقرأ الباحث مقدمة ابن خلدون يلوح له أن مؤلفها يجهل حتى وجود تلك الأمور.»
لا يرى بوتول إمكانًا لتعليل هذه الحالة بجهل ابن خلدون؛ لأنه يعرف أن مؤلف المقدمة كان اتصل بعالم النصرانية اتصالًا فعليًّا: «إنه مكث في مملكة نصرانية، في بلاط بطرس القاسي، حتى إنه استطاع أن يحمل القوم هناك على تقدير مزاياه؛ فإن الملك المشار إليه قدَّم له منصبًا، ووعده بإعادة ما كان لأجداده من أملاك في إشبيلية.» ولذلك يقول بوتول: «يتحتم علينا أن نسلِّم بأن ابن خلدون كان يشارك سائر علماء الشرق في النزعة التي سادت عليهم، والتي راحت تبرز أكثر فأكثر بمرور الأيام، هذه النزعة هي عدم الاهتمام المطلق بكل مظاهر الفكر والعلم التي لا تكون من نوع فكرهم وعلمهم. هذا استحقار ربما كان له ما يبرِّره في أوائل القرون الوسطى، ولكنه دام، حتى عندما أصبح خاليًا عن كل أنواع المبررات» (ص١٨ من كتاب بوتول).
هذا ما يذهب إليه البروفسور بوتول، ولكني أعتقد أن نصوص المقدمة والتاريخ لا تؤيد هذه المزاعم بوجه من الوجوه.
- (أ)
في فصل الجغرافيا والأقاليم يذكر ابن خلدون مدينة القسطنطينية بقوله:
«المدينة العظيمة التي كانت كرسي القياصرة، وبها من آثار البناء والفخامة ما كثرت عنه الأحاديث» (ص٧٤).
- (ب)
وفي الفصل نفسه يقول عن روما ما يلي:
«مدينة روما العظمى، كرسي ملك الفرنجة ومسكن البابا، بطركهم الأعظم، وفيها من المباني الضخمة، والهياكل الهائلة، والكنائس العادية ما هو معروف الأخبار. ومن عجائبها النهر الجاري في وسطها من الشرق إلى الغرب، مفروش قعره ببلاط النحاس. وفيها كنيسة بطرس وبولس من الحواريين، وهما مدفونان بها» (ص٧٣).
- (جـ)
ويقول في فصل الفلسفة ما يلي:
«بلغنا لهذا العهد أن هذه العلوم الفلسفية ببلاد الإفرنجة من أرض روما وما إليها من العدوة الشمالية نافقة الأسواق، وأن رسومها هناك متجددة، ومجالس تعليمها متعدِّدة، ودواوينها جامعة متوفرة، وطلبتها متكثِّرة» (ص٤٨١).
- (د)
وفي الفصل الذي يقرِّر «أن الأقطار في اختلاف أحوالها بالرفه والفقر مثل الأمصار» يقول ما يلي:
«اعتبر ذلك بأقطار … وراء البحر الرومي، لمَّا كثر عمرانها، كيف كثر المال فيهم، وعظمت دولتهم، وتعدَّدت مدنهم وحواضرهم، وعظمت متاجرهم وأحوالهم. فالذي نشاهده لهذا العهد من تجار الأمم النصرانية الواردين على المسلمين بالمغرب في رفههم واتساع أحوالهم، أكثر من أن يحيط به الوصف» (ص٣٦٦).
- (هـ)
وفي الفصل الذي يحوم حول الدفائن والكنوز يقول ما يلي، بعد انتقاد بعض الآراء الشائعة بين الناس عن مصير ثروة القدماء:
«فإن نَقَصَ المال في المغرب وإفريقية، فلم ينقص في بلاد الصقالبة والإفرنج، وإن نقص في مصر والشام، فلم ينقص في الهند والصين» (ص٣٨٨).
- (و)
وفي فصل شارات الملك والسلطان، يقول ابن خلدون ما يلي:
«وأمَّا الجلالقة لهذا العهد من أمم النصرانية بالأندلس، فأكثر شأنهم اتخاذ الألوية القليلة، ذاهبةً في الجو صعدًا، ومعها قرع الأوتار من الطنابير ونفخ الغيطات، يذهبون فيها مذهب الغناء وطريقه في مواطن حروبهم، هكذا ييلغنا عنهم وعن ما ورائهم من ملوك العجم» (ص٢٦٠).
- (ز)
فصل في الحروب يقرِّر ابن خلدون أن قتال الفرنج يكون على طريق الزحف بوجه عام، وأن أمة الفرنج متعودة للثبات في الحرب، وأن ملوك المغرب صاروا يتخذون طائفة من الإفرنج في جندهم؛ للاستفادة من ثباتهم في الصفوف خلال القتال» (ص٢٧٤).
- (ﺣ)
وفي فصل الأساطيل يتكلَّم ابن خلدون طويلًا عن المنافسة التي قامت بين أساطيل المسلمين وبين أساطيل الأمم النصرانية، ويقرِّر أن أساطيل الأمم المذكورة تفوَّقت — في آخر الأمر — على أساطيل المسلمين، ويقول: «رجع النصارى إلى دينهم المعروف من الدربة» في البحر، «والمران عليه، والبصر بأحواله، وغلب الأمم في لجته على أعواده، وصار المسلمون فيه كالأجانب» (ص٢٥٣).
- (ط)
في فصل المساجد والبيوت العظيمة في العالم تفاصيل غير قليلة عن كيفية بناء كنيسة القيامة وبيت لحم، منها قوله:
«ثم أخذ الروم بدين المسيح — عليه السلام — ودانوا بتعظيمه، ثم اختلف حال ملوك الروم في الأخذ بدين النصارى تارة، وتركه أخرى، إلى أن جاء قسطنطين وتنصَّرت أمه هيلانة، وارتحلت إلى القدس في طلب الخشبة التي صُلِب عليها المسيح بزعمهم» (ص٣٥٥).
- (ي)
وفي المقدمة فصل كامل في «شرح اسم البابا والبطرك في الملة النصرانية، واسم الكوهن عند اليهود» (ص٢٣٠–٢٣٥)، وفي هذا الفصل معلومات أساسية عن نشوء المذاهب المختلفة عند النصارى.
وممَّا تجب ملاحظته أن الفصل المذكور يأتي عقب فصول الخلافة وإمارة المؤمنين، ويتضمَّن مقارنةً بين الخلافة في الإسلام، وبين رئاسة الملة عند النصارى.
يبدأ الفصل بتقرير أمور تشمل جميع الأديان السماوية:
«اعلم أن الملة لا بد لها من قائم عند غيبة النبي، يحملهم على أحكامها وشرائعها، ويكون كالخليفة فيهم للنبي فيما جاء به من التكاليف. والنوع الإنساني — أيضًا — بما تقدَّم من ضرورة السياسة فيهم للاجتماع البشري، لا بد لهم من شخص يحملهم على مصالحهم، ويزعهم عن مفاسدهم بالقهر، وهو المسمى الملك» (ص٢٣٠).
ثم يعقب ذلك مقارنة بين الملة الإسلامية والملل الأخرى، من جهة الرياسة الدينية والرئاسة السياسية؛ إن دعوة الدين الإسلامي تشمل جميع بني البشر وتتطلَّب الجهاد؛ ولذلك ترتبط الرئاسة الدينية بالرئاسة السياسية ارتباطًا وثيقًا، ولكن الديانات الأخرى لم تفرض الجهاد؛ ولذلك لا يشتغل القائم بأمر الدين فيها بشيء من أمور السياسة.
وفيما يلي نص ما جاء في هذه المقارنة:
«والملة الإسلامية لمَّا كان الجهاد فيها مشروعًا لعموم الدعوة وحمل الكافة على دين الإسلام طوعًا أو كرهًا، اتحدت فيها الخلافة والملك؛ لتوجِّه الشوكة من القائمين بها إليهما معًا. وأمَّا ما سوى الملة الإسلامية فلم تكن دعوتهم عامة، ولا الجهاد عندهم مشروعًا، إلا في المدافعة فقط؛ فصار القائم بأمر الدين فيها لا يعنيه شيء من سياسة الملك. وإنما وقع الملك لمن وقع منهم بالعَرَض ولأمر غير ديني، وهو ما اقتضته لهم العصبية؛ لما فيها من الطلب للملك بالطبع كما قدَّمناه؛ لأنهم غير مكلَّفين بالتغلُّب على الأمم كما في الملة الإسلامية، وإنما هم مطلوبون بإقامة دينهم في خاصتهم» (ص٢٣١).
ويأتي في الفصل المذكور بعد ذلك تفاصيل كثيرة عن تطوُّر الكنيسة المسيحية وانقسامها إلى طوائف الملكية واليعقوبية والنسطورية، وتستغرق هذه التفاصيل ثلاث صحائف كاملة.
•••
أعتقد أن النصوص التي نقلتها، والأبحاث التي أشرت إليها آنفًا تكفي للبرهنة على أن ما ذهب إليه البروفسور بوتول في هذا الصدد لا يستند إلى أي أساس صحيح.
- (أ)
المجلد الثاني من تاريخ ابن خلدون يضم فصلًا طويلًا في «الخبر عن شأن عيسى ابن مريم — صلوات الله عليه — في ولادته وبعثته ورفعه من الأرض، والإلمام بشأن الحواريين بعده، وكتبهم الأناجيل الأربعة، وديانة النصارى بملته، واجتماع الأقسَّة على تدوين شريعته» (ص١٤٣–١٥٣).
يتتبَّع ابن خلدون في هذا الفصل نشوء الطائفة النصرانية، ويشرح الفروق التي تميِّز الطوائف المذكورة بعضها عن بعض، ولا يعتذر عن التكلُّم في أمور تخالف الديانة الإسلامية خلال هذه الأبحاث التي تشغل إحدى عشرة صحيفة.
- (ب)
وفي المجلِّد الثاني أيضًا سلسلة فصول في دولة اليونان والروم واللطين والقوط، تشغل هذه الفصول ثلاثًا وخمسين صفحة (ص١٨٤–٢٣٦).
وأرى من المفيد أن أنقل — فيما يلي — ما يقوله ابن خلدون عن «الملوك القياصرة المتنصرين» في أحد هذه الفصول:
«هؤلاء الملوك القياصرة المتنصرة من أعظم ملوك العالم وأشهرهم، وكان لهم الاستيلاء على جانب البحر الرومي من الأندلس إلى روما، إلى قسطنطينية، إلى الشام، إلى مصر والإسكندرية، إلى إفريقية والمغرب» (ص٢١٠).
- (جـ)
في المجلد الرابع فصل عنوانه «الخبر عن ملوك بني أدفونش من الجلالقة، ملوك الأندلس بعد القوط ولعهد المسلمين، وأخبار من جاورهم من الفرنجة والبشكنس والبرتغال والإلمام ببعض أخبارهم»، يقع هذا الفصل في ست صحائف (ص١٧٩–١٨٥).
يقول ابن خلدون في بداية الفصل ما يلي:
«والملوك لهذا العهد من النصرانية أربعة في العمالات المحيطة بعمالة المسلمين، قد ظهر إعجاز الملة في مقامهم معهم وراء البحر، بعدما استرجعوا من أيديهم ما نظمه الفتح الإسلامي أول الأمر. وأعظم هؤلاء الملوك الأربعة قشتالة، وعمالاته عظيمة متسعة.»
وبعد الانتهاء من استعراض أحوال الملوك الأربعة، يلاحظ التشابه في سير الأمور عندهم وعند ملوك المسلمين فيقول:
«ثم ركبهم من الخلاف والمنافسة في أوقات ضعفهم واختلاف ملوكهم كالذي ركبه المسلمون» (ص١٨٤).
- (د)
ويوجد في مختلِف مجلدات التاريخ كثير من المعلومات والأخبار المتعلقة بالإفرنج والنصارى، مسطورة بمناسبة الحروب التي قامت بينهم وبين المسلمين في مختلِف الأدوار والعهود.
•••
ويظهر من كل ما تقدَّم — بكل وضوح — أن البروفسور غاستون بوتول أخطأ كثيرًا عندما زعم أن سكوت ابن خلدون عن أخبار أوروبا والنصرانية كان سكوتًا يكاد يكون مطلقًا.
وأخطأ عندما قال إن ابن خلدون لم يجعل شئون البلاد النصرانية موضوع ملاحظة أو مقارنة أبدًا.
كما أخطأ عندما زعم أن ابن خلدون كان ممن لا يهتمون بكل ما هو خارج عن العالم الإسلامي، وممن يستخفُّون ويستحقرون العالم الأوروبي النصراني.