عصر ابن خلدون
إن العصر الذي عاش وعمل وفكَّر خلاله ابن خلدون — النصف الثاني من القرن الثامن للهجرة، والرابع عشر للميلاد — كان من عصور التحوُّل والانتقال في جميع أنحاء العالم المتمدين المعلوم إذ ذاك؛ تحوُّل وانتقال نحو التفكك والانحطاط في العالم العربي، وتحوُّل وانتقال نحو النهوض والانبعاث في العالم الغربي.
فيجدر بنا أن نستعرض أحوال ذلك العصر في كل واحد من هذين العالمين على حِدَة.
(١) العالم العربي
كان العالم العربي ينقسم في عهد ابن خلدون بين الناس وبين الكُتَّاب إلى قسمين أساسيين؛ المغرب والمشرق.
فإن البلاد التي تمتد بين مصر وبين البحر المحيط كانت تُعْتَبر «المغرب»، في حين أن مصر وما يليها من البلاد العربية كانت تُعْتَبر «المشرق».
إن سكان المغرب لا يزالون يتمسكون بهذه الأسماء، فيعتبرون أنفسهم «مغاربة»، ويسمون أهل مصر والشام والعراق والحجاز «مشارقة».
وأمَّا الأندلس فكانت مغربيةً بوضعها الجغرافي، وإن كانت منفصلةً عما يسمى «بلاد المغرب» بوجه عام.
(١-١) الأندلس
كانت معظم بلاد الأندلس قد خرجت من حوزة العرب ودخلت تحت حكم الإسبان، بما في ذلك أهم مراكز الحضارة الأندلسية، من طليطلة وقرطبة إلى إشبيلية، وكان جماعات كبيرة من سكانها العرب قد جَلَتْ عنها إلى المغرب وإلى إفريقية — أي إلى مراكش وتونس، ولم يبقَ تحت حكم العرب هناك سوى قطعة صغيرة في الجنوب الغربي تكاد تنحصر بين غرناطة وبين المرية وجبل الفتح.
وكان يحكم هذه البقية الباقية من الأندلس «بنو الأحمر»، ولكن أمراء هذه الأسرة نفسها كثيرًا ما كانوا يتنافسون على الحكم ويتخاصمون عليه، وكانوا يتخاصمون في بعض الأحيان مع سلاطين المغرب أيضًا.
وكثيرًا ما كان الأمراء والحُكَّام الذين يفشلون في ثوراتهم على سلاطينهم يلتجئون إلى المغرب إذا كانوا من الأندلسيين، وإلى الأندلس إذا كانوا من المغاربة، وإذا حدث خلاف بين سلطان المغرب وسلطان الأندلس — لسبب من الأسباب — راح كل واحد منهما يطلق زعماء الثورة اللاجئين إلى بلاده؛ بغية إحداث شغب واضطراب في بلاد خصمه.
«إن ابن خلدون رحل إلى الأندلس مرتين؛ في المرة الأولى مكث فيها ثلاث سنوات ثم غادرها باختياره، ولكنه في المرة الثانية لم يمكث فيها إلا بضعة أشهر وغادرها مُكْرَهًا.»
(١-٢) المغرب العربي
وأمَّا بلاد المغرب فكانت تجزَّأت — منذ انقراض دولة الموحدين — إلى ثلاث دول، يحكمها ثلاث أسر حاكمة؛ بنو مرين في المغرب الأقصى، بنو عبد الواد في المغرب الأوسط، وبنو حفص في المغرب الأدنى الذي كان يُسمى «إفريقية».
-
(١)
كانت دولة بني عبد الواد أضعف هذه الدول الثلاث، وأشدها تعرُّضًا إلى الفتن والتقلبات؛ لأنها كانت محصورةً بين الدولتين الأخرتين، فكانت مضطرةً إلى توزيع قواها على الجبهتين، وفضلًا عن ذلك فإن عاصمتها تلمسان لم تكن بعيدةً عن مدينة فاس، التي كانت عاصمة بني مرين الأقوياء.
ولذلك كانت حدود هذه الدولة في حالة جزر ومد؛ تتوسع تارة، وتتقلَّص طورًا، وتتلاشى في بعض الأحيان، فقد استولى بنو مرين على عاصمتها عدة مرات، فاضطُر أمراؤها إلى الانتباذ في الجبال والقفار، أو الالتجاء إلى الأقطار العربية الأخرى؛ انتظارًا لسنوح الفرص التي تساعدهم على استعادة ملكهم، واسترداد عاصمتهم من المستولين عليها.
إن أحوال الدولة المرينية والدولة الحفصية كانت أكثر استقرارًا من ذلك، إلا أن هذا الاستقرار كان نسبيًّا؛ كان الحكم قد استقر في الأسرة المرينية في فاس، والأسرة الحفصية في تونس، ولكن أفراد كل واحدة من هاتين الأسرتين قلما كانوا ينقطعون عن التنافس على المُلك والسلطان، وكثيرًا ما كان السلاطين أنفسهم يوزعون بلادهم على أولادهم، ويقطعون لكل واحد منهم إمارةً يستمتع بحكمها طول حياته، وقد يورثها إلى أولاده بعد مماته، وكثيرًا ما كان هؤلاء الأمراء يسعَون إلى توسيع حدود إماراتهم على الرغم من وشائج القرابة القائمة بينهم وبين جيرانهم، وكثيرًا ما كانت تنشب حروب ومخاصمات بين أبناء العم، أو بين الإخوة، وقد سجَّل التاريخ مخاصمات وحروبًا عديدةً قامت بين الآباء والأبناء أيضًا.
وطبيعي أن حكام الأقاليم كثيرًا ما كانوا يستفيدون من المنافسات التي تقوم بين أفراد الأسرة المالكة، ويستقلون في شئون البلاد التي يحكمونها، ويوجِدون بذلك دويلات شبه مستقلة لا ترتبط بالدولة المركزية إلا بروابط اسمية واهية.
وكثيرًا ما كان بعض الوزراء ينتفضون على سلاطينهم؛ يخلعونهم أو يقتلونهم، وينصِّبون محلهم أحد الأمراء القاصرين؛ لكي يبقوا هم أصحاب الأمر والنهي تحت ستار الكفالة — أي الوصاية — عن السلطان الجديد.
ولا حاجة إلى البيان أن هؤلاء قلما كانوا يستطيعون أن يستمتعوا بالحكم مدةً طويلةً بعدما يتوصلون إليه بمثل هذه الوسائل؛ لأن كل ثورة من هذا القبيل كانت تثير أطماح الآخرين، وتفتح بابًا لثورات معاكِسَة ومنافِسَة، فلا تترك مجالًا لاستقرار الأمور على حال من الأحوال.
وهكذا كانت القلاقل والاضطرابات والانقلابات تتوالى بدون انقطاع.
«إن ابن خلدون دخل الحياة العامة وخاض غمار الحياة السياسية مدة ربع قرن، في هذا العصر الذي كان يغلي بشتى أنواع الفتن والثورات، ومما تجدر الإشارة إليه أنه قضى معظم سني حياته السياسية في بلاد المغرب الأوسط التي كانت بمثابة البؤرة الأساسية في هذه التقلُّبات.»
-
(٢)
ولإعطاء فكرة واضحة عن التقلُّبات السياسية التي كانت تتوالى في بلاد المغرب، نرى أن نستعرض هنا طائفةً من الوقائع التي حدثت خلال حياة ابن خلدون نفسه:
- (أ)
إن السلطان المريني «أبو الحسن» عندما تولَّى المُلك أخذ يسعى إلى توسيع حدود مملكته؛ فاستولى أولًا على تلمسان، وقضى على دولة بني عبد الواد، ثم واصل الحروب والفتوح نحو الشرق، فاستولى على بجاية التي كانت تابعة إلى إفريقية، واعتقل الأمير الحفصي الذي كان يحكمها، ونقله مع سائر الأمراء إلى تلمسان، وفرض على جميعهم الإقامة هناك بعيدين عن بلادهم، وبعد ذلك استولى على قسنطينة أيضًا، وأبعد أميرها الحفصي إلى فاس.
وفي الأخير واصل الزحف نحو الشرق، إلى أن استولى على تونس، واستطاع بذلك أن يجمع تحت حكمه بلاد المغرب — الأدنى والأوسط والأقصى — من خليج قابس إلى البحر المحيط.
«كان ابن خلدون إذ ذاك في السادسة عشر من العمر.»
- (ب)
إلا أن حكم هذا السلطان المريني على تونس لم يَدُمْ أكثر من سنتين؛ لأن القبائل التي كانت ساعدته على فتح تونس انقلبت عليه بعد سنة وحاصرته في القيروان.
وعندما وصلت أخبار واقعة القيروان إلى تونس تشجَّع أهل المدينة، وثاروا على الحكام المرينيين، وحاصروهم في القصبة، وأعلنوا ولاءهم للحفصيين، وبعد مدة وجيزة اقتدى بهؤلاء أهالي قسنطينة أيضًا، وثاروا على حكم بني مرين.
وأمَّا السلطان أبو الحسن، فبعد أن بقي محاصرًا في القيروان مدةً من الزمن، استطاع أن يتفق مع بعض القبائل ويخترق الحصار، ويخرج إلى مدينة سوسة، وينتقل منها إلى تونس عن طريق البحر، وهناك تغلَّب على الثوار، وفكَّ الحصار عن جماعته المحاصرين في القلعة، وأخضع بذلك البلاد إلى حكمه مرةً ثانية.
غير أنه لم يكد ينتهي من إخماد هذه الثورة إلا واستخبر أن ابنه «أبو عنان» الذي كان تركه في فاس نائبًا عنه قد انتقض عليه، وأعلن نفسه سلطانًا على المغرب.
ولذلك اضطُر السلطان أبو الحسن إلى مغادرة تونس بحرًا؛ بغية إخماد ثورة ابنه عليه، تاركًا ابنه الآخر «أبو الفضل» في تونس؛ لينوب عنه في حكم إفريقية.
- (جـ)
ولكن جماعة الحفصيين لم يتأخروا في الاستفادة من هذه الحوادث للتخلُّص من حكم المرينيين.
فإن الوزير «ابن تافراكين» — الذي كان تزعَّم ثورة التونسيين على السلطان «أبو الحسن» ثم فرَّ إلى الإسكندرية عند تغلُّب السلطان عليهم — أسرع في العودة إلى تونس وتغلَّب على نائب السلطان المريني وأقصاه عن إفريقية، ثم نصَّب على العرش السلطان «أبو إسحاق الحفصي»، على أن يكون تحت كفالته ووصايته.
«ابن خلدون دخل الحياة العامة في هذا العهد؛ إذ عيَّنه الوزير ابن تافراكين كاتبًا للعلامة لهذا السلطان.»
- (د)
ولكن منصب السلطان «أبو إسحاق» تحت كفالة ابن تافراكين لم يَرُقْ لصاحب قسنطينة؛ لأنه كان أميرًا حفصيًّا، فكان يرى نفسه أحق بالسلطنة؛ ولذلك ثار على الحكم الجديد، وزحف بجيوشه على تونس وحاصر المدينة.
ولكنه خلال هذا الحصار تلقَّى أخبارًا مقلقةً عن حوادث المغرب الأوسط والأقصى؛ علم أن السلطان المريني عاد إلى الزحف نحو الشرق، فاستولى من جديد على تلمسان وعلى بجاية، وصار قريبًا من قسنطينة، ولذلك رأى الأمير الحفصي أن يَعْدِلَ عن حصار تونس، فيعود إلى مقر إمارته الأصلية؛ ليدافع عنها ويحول دون استيلاء المرينيين عليها.
«ابن خلدون حضر أول الاصطدامات التي حدثت بين جماعة صاحب قسنطينة وبين جماعة سلطان تونس، وغادر إفريقية إلى المغرب عقب هذا الاصطدام.»
- (هـ)
وأمَّا السلطان أبو الحسن المريني الذي كان غادر تونس بحرًا بغية إخماد ثورة ابنه عليه — كما ذكرنا آنفًا — فإنه لم يستطع أن يستردَّ عرشه، مع أنه عانى في سبيل ذلك كثيرًا من المحن والمشاق؛ لأن الأسطول الذي كان يُقلُّه تعرَّض لعاصفة شديدة أدت إلى غرق السفن بأجمعها، ومع هذا استطاع السلطان أن يتغلَّب على الأمواج فيصل إلى الساحل، وانتقل من هناك إلى مدينة الجزائر، حيث أخذ يدعو لنفسه، ويجمع الناس حوله.
واستطاع السلطان بعد ذلك أن يصل إلى مراكش عن طريق الصحراء، إلا أنه نُكِب هناك بانهزام جيوشه في الموقعة التي دارت بينها وبين جيوش ابنه، ولم يعِش بعد ذلك إلا بضعة أيام.
وهكذا أصبح «أبو عنان» سلطانًا على المغرب دون منازع.
- (و)
وكان أبو عنان — عندما أعلن نفسه سلطانًا على المغرب في حياة والده — اتخذ تدابير عديدةً للحيلولة دون عودة ذلك الوالد إلى مقر ملكه؛ وكان من جُملة هذه التدابير إعادة الأميرَين الحفصيين — المقيمين في فاس وتلمسان — إلى مركزَي إمارتيهما السابقتين؛ بجاية وقسنطينة، على شرط أن يدافعوا عنهما ضد السلطان «أبو الحسن»، فلا يتركوا مجالًا لاجتيازه تلك البلاد، بغية الوصول إلى المغرب الأقصى.
وبديهي أن هذا التدبير كان يعني التنازل عن الإمارتين اللتين كان فتحهما والده قبلًا.
وطبيعي أن بني عبد الواد الذين كانوا يتربصون الفرص لاستعادة ملكهم، لم يتأخروا في الاستفادة من هذه الحوادث التي قامت بين الابن وبين الوالد، وعادوا إلى عاصمتهم السابقة بدون عناء.
وبهذه الصورة عادت حدود دولة بني مرين إلى ما كانت عليه قبل فتوحات السلطان «أبو الحسن».
ولكن السلطان «أبو عنان» بعدما تخلص من مناوأة والده، واطمأن بذلك على توطُّد حكمه في المغرب الأقصى، أخذ يعدُّ العدة لاسترداد البلاد التي كانت خرجت عن حوزة الدولة المرينية خلال الحوادث الأخيرة.
وبعد إتمام استعداداته زحف على تلمسان واستولى عليها، ثم واصل الزحف شرقًا إلى أن وصل إلى بجاية وأخضعها إلى حكمه، وأبعد عنها أميرها الحفصي مرةً أخرى، ونقله إلى مدينة فاس.
«ابن خلدون اتصل بالسلطان «أبو عنان» خلال زحفه هذا، ثم دخل في خدمته، وكان عندئذٍ قد بلغ الثالثة والعشرين من العمر.»
- (ز)
السلطان أبو عنان لم يعِش مدةً طويلةً بعد الوقائع التي ذكرناها آنفًا، وبموته — وبتعبير أدق خلال مرض موته — بدأت سلسلة جديدة من الأزمات والانقلابات المعقدة، وعمَّت جميع أنحاء المغربَين الأوسط والأقصى.
خلال احتضار السلطان المشار إليه قام وزيره «الحسن بن عمر» بالأمر، ونصَّب على العرش ابنه الصغير «السلطان السعيد»، معلنًا نفسه وصيًّا عليه، ولكن سائر أمراء بني مرين لم يوافقوا على هذا الإجراء، ولم يعترفوا بسلطنة السعيد، بل التفُّوا حول الأمير منصور، وحاصروا الوزير مع سلطانه الصغير في البلد الجديد من مدينة فاس.
وبينما كان النزاع قائمًا بين هاتين الجماعتين حول العرش، ظهر إلى الميدان مُطَالِب ثالث زاد الأمور بلبلةً وتعقيدًا، هذا المطالب الجديد كان «أبو سالم» ابن السلطان «أبو الحسن».
عندما انتفض السلطان «أبو عنان» على والده، كان اعتقل إخوته ونَفَاهُم إلى الأندلس، وكان أبو سالم من جملة هؤلاء المُبْعَدِين، وحينما وصله خبر موت أخيه أسرع في العودة من الأندلس، وأخذ يبثُّ الدعوة لنفسه بوسائل شتى، حتى استطاع أن يجمع حوله جماعةً كبيرةً بين المناصرين، وأن يتغلَّب بواسطتهم على الجماعتين المتنافستين — أنصار السعيد وأنصار المنصور — في وقت واحد.
وهكذا أصبح أبو سالم سلطانًا على المغرب الأقصى.
«كان ابن خلدون مقيمًا في فاس عند جريان هذه الحوادث المعقَّدة، إنه ناصر السلطان الأخير، وبقي في خدمته مدةً من الزمن.»
- (أ)
-
(٣)
ومما تجب ملاحظته في هذا المضمار أن كل صفحة من صفحات الحوادث التي ذكرناها ولخصناها آنفًا، كانت مترافقةً بسلسلة طويلة ومعقَّدة من الاضطرابات والتقلُّبات المحلية والفرعية التي لم نرَ لزومًا إلى ذكرها وتفصيلها.
هذا ويجب أن يلاحظ في الوقت نفسه أن كل هذه الحوادث والتقلُّبات تعود إلى فترة قصيرة من الزمان، إن تاريخ استيلاء السلطان المريني على تونس كان سنة ١٣٤٧ / ٧٤٨، وأمَّا تاريخ وصول السلطان «أبو سالم» إلى كرسي السلطنة في فاس فكان سنة ١٣٥٨ / ٧٦٠، وذلك يعني أن الوقائع التي ذكرناها آنفًا حدثت خلال إحدى عشرة سنة!
ولا يُظن أن هذه السنوات كانت من الأزمنة الشاذة الزاخرة بالتقلُّبات الخارقة للعادة؛ لأن الشواهد التاريخية لا تترك مجالًا للشك في أن الأوضاع السياسية في المغرب العربي، ولا سيما في المغرب الأوسط والأقصى، كانت دائمة التقلُّب على المنوال الذي وصفناه آنفًا.
وأمَّا أهم القوى التي كانت تستند إليها وتستخدمها هذه الثورات والانقلابات، فكانت العشائر البدوية — العربية والبربرية — المنبثَّة في مختلِف الأقطار المغربية؛ لأنها كانت بمثابة قوات مسلحة مستعدة للغزو والحرب في خدمة هذا الأمير أو ذاك، وكان عملها يشبه إلى حدٍّ كبير عمل «الجيوش المرتزقة» التي تكوَّنت في أوروبا، ولا سيما في إيطاليا في أواخر القرون الوسطى.
هذا وكانت بعض العشائر الكبيرة بمثابة دويلات مستقلة، «تجبي الإتاوات تحت اسم الخفارة»، وكثيرًا ما تأبى أن تدفع إلى السلطان شيئًا من الضرائب، وتناصر هذا السلطان أو ذاك حسب سير الأحوال والظروف.
ولا حاجة إلى القول إن انضمام مثل هذه العشائر القوية إلى جيوش هذا الأمير أو ذاك، أو خروجها على هذا أو ذاك، كثيرًا ما كان يقرر مصير الحرب ويضمن النصر لهذا أو ذاك.
«إن ابن خلدون عاشر القبائل البدوية مدةً طويلة، واكتسب على البعض منها نفوذًا كبيرًا بفضل ذكائه وجرأته، ونفوذ نظره وطلاقة لسانه، وصار يؤثر في سياسة الدول المغربية تأثيرًا ملحوظًا بفضل علاقاته بالعشائر المذكورة، وسيطرته المعنوية عليها.»
«ولا شك في أن ما كتبه عن «تاريخ المغرب» بوجه عام، وعن «العمران البدوي» بوجه خاص، كان من نتائج المعلومات التي جمعها، والخبرات التي اكتسبها خلال معاشرته الطويلة لمختلِف القبائل العربية والبربرية.»
-
(٤)
ونرى من المفيد أن نستعرض صفحات حياة أحد الأمراء الذين عاصروا ابن خلدون واتصلوا به اتصالًا وثيقًا؛ وذلك لكي نعطي فكرةً أوضح مما سبق عن مبلغ تعقُّد هذه الأزمات، والتقلُّبات السياسية المتتالية:
- (أ)
إن الأمير الحفصي محمد بن عبد الله كان يتولَّى إمارة بجلية تابعًا لسلطان إفريقية في تونس.
- (ب)
فَقَدَ إمارته عندما أغار عليها السلطان أبو الحسن المريني كما ذكرنا ذلك آنفًا.
- (جـ)
ولكنه عاد إلى مقر إمارته، وصار يحكمها كالسابق عندما ثار السلطان أبو عنان على والده، ورأى أن يعيد الأمراء الحفصيين إلى إماراتهم؛ ليدافعوا عنها ويحولوا دون عودة والده إلى مملكته.
- (د)
فقد إمارته مرةً أخرى عندما عاد السلطان أبو عنان واستولى على بجاية بعد موت والده، وصار الأمير يعيش مرةً أخرى بعيدًا عن بلاده.
- (هـ)
عندما مرض السلطان أبو عنان فكَّر الأمير محمد بالفرار من فاس لاستعادة إمارته، إلا أن السلطان علم بالأمر وأفسد عليه خطته.
- (و)
ومع هذا استطاع الأمير أن يغادر فاس بعد موت السلطان المشار إليه، وأن يتوجَّه نحو مقر إمارته، إلا أنه وجد أن عمه «أبو إسحاق الحفصي» سبقه في الاستيلاء على بجاية، فاضطُر إلى محاصرتها، وبذل جهودًا جبارةً لتخليصها من حكم ذلك العم.
- (ز)
ولكنه بعدما استولى على بجاية، وأخذ يوطِّد حكمه فيها تعرَّض إلى خصومة جديدة وهجوم جديد؛ ابن عمه صاحب قسنطينة أراد توسيع حدود إمارته، وزحف على بجاية، والأمير محمد لقي حتفه خلال الاصطدام الذي وقع بين جيشه وبين جيوش ابن عمه.
«ابن خلدون اتصل بهذا الأمير الحفصي عندما كان مُبْعَدًا في فاس، وسُجِن من أجله عندما حاول الفرار إلى بجاية، ثم صار حاجبًا له عندما استطاع أن يستردَّ إمارته.»
- (أ)
(١-٣) المشرق العربي
مصر كانت تحت حكم المماليك مع الديار الحجازية والشامية.
وكانت الأوضاع السياسية في هذه البلاد أكثر استقرارًا بكثير من أوضاع البلاد المغربية.
في الواقع إن موت السلطان كثيرًا ما كان يُحدث أزمات سياسيةً خطيرة، غير أن هذه الأزمات كانت تبقى — بوجه عام — محصورةً بين المماليك، وقلَّما كان يشترك فيها جماعات السكان.
«إن ابن خلدون قد قضى أربعةً وعشرين عامًا من سني حياته الأخيرة في البلاد المذكورة، إلا أن انتقاله إليها كان تمَّ بعد تأليف المقدمة، كما أن اشتغاله هناك انحصر في التدريس والقضاء، ولم يشمل سائر الأمور السياسية.»
وأمَّا العراق فكان في عهد ابن خلدون تحت حكم الجلائريين حتى استيلاء تيمور، ولكن حكم الجلائريين لم ينحصر بالعراق العربي وحده، بل كان يشمل القسم الغربي من إيران، وعلى الأخص إقليم أذربيجان أيضًا.
والسلاطين الجلائريون كانوا اتخذوا بغداد «العاصمة الشتوية»، وتبريز «العاصمة الصيفية» لسلطنتهم المؤلَّفة من قسم عربي وآخر إيراني.
«إن ابن خلدون لم يذهب إلى العراق، ولم يتصل بأحد من حكام العراق ورجاله.»
(١-٤) الوحدة الأدبية والثقافية
مما تجدر ملاحظته أن العالم العربي في عصر ابن خلدون كان يتمتع بوحدة أدبية وثقافية واضحة المعالم، على الرغم من تفكُّكه السياسي الذي وصفناه آنفًا.
كانت وحدة اللغة تربط مختلِف أقطار العالم العربي بروابط معنوية قوية، وتعمل على الدوام على تقارب الأفكار وتجاوب النفوس، كما أن حركات التجارة من ناحية، وفروض الحج من ناحية أخرى كانت تولِّد تيارات مستمرةً تسهِّل التعارف بين سكان الأقطار المختلفة، وتساعد على انتقال الأفكار والأخبار بين هذه الأقطار.
كان الأدباء والفقهاء والعلماء يتصلون بعضهم ببعض بالمخابرة أو بالمشافهة، وكانت ثمرات قرائحهم تنتقل من قُطر إلى قُطر إلى آخر بسرعة وسهولة، وكانت شهرة الكبار منهم تنتشر على جميع الأقطار العربية.
وربما كانت حياة ابن خلدون نفسه من أبلغ الأمثلة وأوضح الأدلة على هذه الوحدة الأدبية والثقافية، التي كانت تبسط أجنحتها على جميع البلاد العربية، على الرغم من اختلاف أوضاعها السياسية، وعلى الرغم من منافسات حكامها ومخاصماتهم المتوالية.
وهذه الوحدة الأدبية هي التي تفسر لنا سهولة انتقال ابن خلدون من قُطر إلى آخر، وسرعة انتشار شهرته بين هذه الأقطار؛ فإننا نجده يخطب ويدرِّس في الجامع الكبير في غرناطة، وفي جامع القرويين في فاس، وفي جامع القصبة في بجاية، وفي جامع الزيتونة في تونس، كما نجده يعقد حلقات التدريس في جامع الأزهر غداة وصوله إلى القاهرة، ونجده في الأخير يجتمع بعلماء الشام في المدرسة العادلية بدمشق.
إن بعض المخابرات المدوَّنة في ترجمة حياة ابن خلدون تعطينا أمثلةً أوضح من ذلك على الوحدة الفكرية والأدبية التي أشرنا إليها آنفًا.
عندما كان ابن خلدون مقيمًا في بيسكرة — في المغرب الأوسط — يتلقَّى كتابًا من الوزير لسان الدين ابن الخطيب في غرناطة، يتكلَّم فيه عن مؤلفاته، كما يصف له ما حدث من الوقائع السياسية في الأندلس، وابن خلدون يرد عليه بكتاب طويل يخبره به ما حدث في المغرب الأوسط، ثم ينقل إليه ما وصل إلى علمه من حوادث مصر أيضًا.
وعندما كان ابن خلدون في ينبع — خلال رحلته لأداء فريضة الحج — يتلقَّى كتابًا من ابن زمرك — كاتب سر السلطان ابن الأحمر في غرناطة — يعطيه بعض الأخبار، ويرسل له بعض القصائد، ويطلب منه بعض المعلومات وبعض الكتب.
وخلاصة القول: إننا نستطيع أن نجزم بأن العالم العربي كان لا يزال موحَّدًا من حيث الأدب والثقافة، وإن كان في غاية التفكك من حيث الحكم والسياسة.
إن حياة ابن خلدون لا يمكن أن تُفْهَمَ على وجهها الصحيح إلا بملاحظة هذه الحقيقة الهامة.
(٢) العالم الإسلامي
إن العالم العربي في عهد ابن خلدون كان كثير الصلات بالبلاد الإسلامية الأخرى أيضًا.
-
(١)
وتلك البلاد كلها كانت في دور انتقال هام:
انقراض الدولة السلجوقية من ناحية، والدولة المغولية من ناحية أخرى، كان أدى إلى انقسام البلاد إلى عدد كبير من الإمارات والدويلات الصغيرة، ولكن بعد ذلك بدأت حركتان قويتان تعملان على إزالة هذا التفكك وتوحيد تلك البلاد، إن إحدى هاتين الحركتين كانت فتوحات تيمورلنك، والثانية كانت قيام دولة آل عثمان.
تيمور قام بفتوحات عظيمة شملت جميع الأقطار الآسيوية التي تمتد من الصين إلى العراق، ثم استولى على العراق أيضًا، وأخذ يتغلغل في بلاد الشام من ناحية، وفي بلاد الأناضول من ناحية أخرى.
ولكن الدولة التي أنشأها تيمور بهذه الفتوحات السريعة لم تعِش مدةً طويلة؛ لأنها تجزَّأت عقب وفاته لتقسيم أقطارها بين أولادها، ثم بين أولاد أولاده.
وأمَّا الدولة التي أنشأها آل عثمان فقد سارت في طريق التوسُّع والفتوح ببطء كبير بالنسبة إلى سرعة فتوحات تيمور، ولكن فتوحاتها هذه صارت أرسخ وأمتن، وأوجدت أوضاعًا سياسيةً دامت قرونًا عديدة.
في الواقع إنها تعرَّضت إلى صدمة قوية وأزمة خطيرة، عندما حاربها تيمور في ضواحي أنقرة؛ لأن الحرب المذكورة انتهت بانهزام الجيوش العثمانية وأَسْر سلطانهم بايزيد الأول، وذلك أدى إلى انقسام المملكة بين أولاده الأربعة، ولكن السلطان محمد الأول استطاع — بعد بذل جهود شاقة — أن يتغلَّب على منافسيه، وأعاد إلى السلطنة العثمانية وحدتها السابقة.
ومن المعلوم أن السلطنة المذكورة أخذت تتوسَّع بعد هذه الأزمة بسرعة كبيرة، ولا سيما في القارة الأوروبية.
«ابن خلدون التقى بتيمور عندما حاصر دمشق، وكانت ملاقاته هذه خاتمة أعماله السياسية، وذلك قبل موته بست سنوات.»
«ولكنه لم يلتقِ بأحد من سلاطين آل عثمان.»
-
(٢)
ابن خلدون لم يرحل إلى بلد من البلاد الإسلامية الكائنة خارج العالم العربي، ولكن التاريخ الذي ألَّفه — مع مقدمته المشهورة — ذهب إلى تلك البلاد، وأثَّر فيها تأثيرًا معنويًّا كبيرًا.
وهذا التأثير صار قويًّا بوجه خاص عند رجال الدولة العثمانية؛ لأن اللغة العربية كانت لا تزال لغة العلم في تلك البلاد، وكان العلماء العثمانيون يتلقون ثقافتهم من الكتب العربية بوجه عام؛ ولذلك كانوا يهتمون بتعلُّمها وإتقانها، حتى إن بعضهم كان يكتب مؤلفاته أيضًا باللغة العربية. فكان من الطبيعي — والحالة هذه — أن يطلع هؤلاء العلماء على تاريخ ابن خلدون ومقدمته، وأن يتأثروا منه تأثرًا عميقًا.
ومما يجب ملاحظته في هذا المضمار أن توالي الفتوحات في الدولة العثمانية — ولا سيما في القارة الأوروبية — أدى بطبيعة الحال إلى ظهور طائفة من المؤرخين الذين يتولَّون تسجيل وقائع هذه الفتوحات العظيمة.
وهؤلاء المؤرخون كانوا يعتبرون التاريخ العثماني بمثابة تتمة لتاريخ الإسلام العام، ولذلك كانوا يعنَون بمطالعة كتب التواريخ القديمة، فكان من الطبيعي أن يدرسوا تاريخ ابن خلدون دراسةً تفصيلية، وأن يقتبسوا منه ومن مقدمته شيئًا كثيرًا.
ولهذه الأسباب نجد أن المؤرخين العثمانيين كانوا أول من اهتم بمقدمة ابن خلدون — خارج العالم العربي — حتى إن اهتمام هؤلاء بالمقدمة هو الذي لفت أنظار المستشرقين إليها في أوائل القرن التاسع عشر.
(٣) العالم الأوروبي
إن العالم الأوروبي خلال العصر الذي عمل وفكَّر فيه ابن خلدون كان على وشك الوصول إلى أواخر القرون الوسطى وأوائل القرون الأخيرة.
كان ابن خلدون معاصرًا للمؤرخ «فرواسار» في فرنسا، وللشاعر «شوسر» في إنجلترا، إنه كان وُلِد قبل الأول بخمس سنوات، وقبل الثاني بثماني سنوات، ومات قبل الأول بأربع سنوات، وبعد الثاني بست سنوات.
كما أنه كان «نصف معاصر» لبترارك وبوكاتسيو في إيطاليا؛ لأنه كان وصل إلى أواسط العقد الخامس من عمره عند موت هذين الأديبين الكبيرين.
ولكن ابن خلدون لم يعرف شيئًا عن هؤلاء المعاصرين، كما أن هؤلاء أيضًا لم يسمعوا عنه شيئًا.
لأن العالم الأوروبي في ذلك الزمن كان قد قطع صلاته من العالم العربي الإسلامي قطعًا يكاد يكون كليًّا، بعدما اصطدم به اصطدامًا عنيفًا ودمويًّا خلال الحروب الصليبية الطويلة، وبعدما اقتبس منه ما اقتبس من العلوم والصناعات المختلفة.
كان قد تم قبل عصر ابن خلدون إنشاء جامعات عديدة في مختلِف العواصم الأوروبية على غرار الجامعات العربية، كما أنه كان تمَّ ترجمة عدد كبير من المؤلفات العربية إلى اللغة اللاتينية، فكان أن أصبح الأوروبيون في غنًى عن المصادر العربية.
ولتقدير هذه الأوضاع حق قدرها يجب أن نلاحظ أن المدة التي مضت بين موت «دانته» الشهير في إيطاليا، وبين ولادة ابن خلدون في تونس؛ كانت عبارةً عن إحدى عشرة سنة، كما أن المدة التي مضت بين موت ابن خلدون في مصر وبين اختراع الطباعة في أوروبا كانت نحو ربع قرن فقط.
في ذلك التاريخ كان فجر عصر الانبعاث أخذ يبثُّ أشعته الأولى في الآفاق، وصار يوجِّه الأنظار والأفكار إلى أشياء جديدة ونواحي جديدة.
وخلاصة القول: في ذلك التاريخ كان الأوروبيون انقطعوا عن الاهتمام بما يحدث في العالم العربي، ولا سيما بما يؤلَّف فيه.
إن هذا الوضع التاريخي لعب دورًا هامًّا في تقرير مقدرات مقدمة ابن خلدون بالنسبة إلى العالم الغربي، إن هذه المقدمة وما تضمنته من آراء طريفة وتوجيهات قويمة بقيت مجهولةً للأوروبيين حتى بَدْء عهد الدراسات الاستشراقية في القرن التاسع عشر، بسبب الوضع التاريخي الذي وصفناه آنفًا.