مدخل

يكاد الباحثون في الفلسفة اليونانية يُجمِعون على أن مذهب أفلوطين من أكثر مذاهب تلك الفلسفة غموضًا وافتقارًا إلى التحدد؛ فالمشكلة الكبرى التي تُواجِه كل باحث يتناول فلسفة أفلوطين، هي أنه فيلسوف يقع «على الحدود» إن جاز هذا التعبير. وكما تُثير الحدود الجغرافية بين الدول مشكلاتٍ دائمةً في ميدان السياسة، فكذلك تُثير الحدود الفكرية بين المذاهب والعصور مشكلاتٍ دائمةً في ميدان الفلسفة. فأفلوطين، ومعه المدرسةُ الأفلاطونية المحْدَثة التي كان أهمَّ شخصياتها، يُمثِّل نهاية التفكير الفلسفي القديم، ويُؤذِن ببداية فترة أخرى من فترات تاريخ الفلسفة، يندمج فيها الدين بالتفكير العقلي إلى أقصى حد. واسمُ أفلوطين يرتبط باسم «مدينة الإسكندرية»، وكانت بدَورها نقطةَ الْتِقاء بين حضارتَين كبيرتَين: اليونانية والشرقية. والروح التي سادت تفكيرَ أفلوطين كانت في نظر البعض فلسفية خالصة، وعند البعض الآخر صوفيةً تأثرَت بالعقائد الشرقية إلى حد كبير. ففي كل هذه النواحي، يرى المرء في فلسفة أفلوطين وظروف حياته «نقطةَ الْتِقاء»، أو «مَفرِق طرق». وفي كل وجه تنظر منه إلى شخصيته، تلمس أمامك اتجاهَين يتَنازعانِه، تستطيع أن تنسبه إلى أي منهما وتجد لوجهةِ نظرك في كل حالة مبرِّراتٍ مقنِعة.

وليست تلك هي المشكلةَ الوحيدة التي يُواجِهها الباحث في فلسفة أفلوطين، بل تُواجِهه أيضًا مشكلة الأسلوب والكتابة؛ فأسلوب أفلوطين غامضٌ إلى أبعد حد، والأفكار في نظره أهم بكثير من الكلمات التي تُصاغ بها، ولم يكن أفلوطين حريصًا على مراجعة ما يكتب أو ما يُملي، وعلى وضعه في الصيغة الملائمة، ثم إنه لم يكن هو الذي رتَّب مؤلَّفاته، وهي التُّساعيات السِّت، على هذا النحو، بل تولى ذلك الترتيبَ تلميذُه فرفوريوس؛ تبعًا لوجهة نظره الخاصة، وليس من المستبعَد أن تكون لأفلوطين وجهةُ نظر مخالفة تمامًا، لو كان هو الذي تولى ترتيب مقالاته ومؤلفاته.

ومن خلال هذه الصعاب، قمنا بهذه الترجمة وهذه الدراسة للتساعية الرابعة من تساعيات أفلوطين. فأما الترجمة فقد حرَصْنا فيها على أن تكون قريبةً من النص الأصلي بقدر الإمكان، مع عدم الإخلال بمقتضيات الأسلوب والعبارة العربية. وكان اعتمادنا الأكبر على نشرة «برييه E. Bréhier»، وترجمته في سلسلة Guillaume Budé وقد ظهرَت في باريس سنة ١٩٢٧م. ويمتاز نشره لهذه التساعية — وغيرها من تساعيات أفلوطين — بأنه خلاصة لأهم النشرات التي ظهرَت من قبل، مثل نشرة «كرويتسر وموزر Creuzer and Moser» في باريس (١٨٣٥م)، ونشرة «كيرشهوف Kirchhoff» في ليبتسج (١٨٥٦م)، ونشرة مولر Müller في برلين (١٨٧٨م)، ونشرة فولكمان Volkmann في ليبتسج (١٨٨٣م). كما أن ترجمة «برييه» تمتاز بتقيُّدِها بالنص إلى حد بعيد، حتى كان ذلك يتم — في بعض الأحيان — على حساب جمال العبارة وسلاستها، بعكس الترجمات الأخرى التي آثرَت جانب الترابط في الأسلوب على التقييد الدقيق بالنص، مثل ترجمة «بوييه Bouillet» (باريس ١٨٥٧–١٨٦٠م)، والترجمة الإنجليزية التي قام بها «ستيفن ماكينا S. Mackenna» (١٩٢٦م). ففي هذه الترجمة الأخيرة بوجه خاص، نجد المترجمَ يحرص على أن يأتيَ بعبارات متماسكة، ويهتم بوَحْدة الاستدلال وترابطه. ورغم أن هذا الأسلوب يُرضي القارئ ويريحه دائمًا، فإن هذه الراحة كثيرًا ما كانت على حساب دقة التمسُّك بالأصل، لإفراطه في التأويل.

وأمَّا عن الدراسة الطويلة التي مهَّدْنا بها لهذه الترجمة، فلها مُبرِّراتها العديدة؛ فمن المحال أن يكتب الباحث مقدمةً للتُّساعية الرابعة وحدها، دون أن يتعرض لباقي نواحي مذهب أفلوطين، خاصة لأن التقسيم إلى تساعيات — كما هو معروف — لم يكن من عمل أفلوطين ذاتِه. ثم إن هذه التساعية تبحث — خلال معظم أجزائها — في موضوع النفس. والنفس عند أفلوطين تحتلُّ موقعًا وسطًا بين العالم المعقول والعالم المحسوس، أو هي آخِر المعقولات ومِن بعدها تبدأ المحسوسات. وإذن فطبيعتها لا تُفهَم إلا إذا ألمَمْنا بالعالم المعقول والمحسوس معًا، وهذا يقتضي دراسة لكل نواحي فلسفة أفلوطين.

وإذن فقد كان من الضروريِّ أن نتحدث في الدراسة عن فلسفة أفلوطين العامة من ناحية، وعن التساعية الرابعة بوجه خاص من ناحية أخرى؛ لهذا قسَّمْنا الدراسة إلى جزأَيْن: الأول عام يتناول أفلوطين وفلسفته، والثاني — وهو القسم الأكبر — خاصٌّ بالتساعية الرابعة.

أمَّا الدراسة العامة، فقد بحثنا فيها موضوعاتٍ تمهيديةً؛ مثل حياة أفلوطين، والأصول التي تفرعَت منها فلسفته، ولخَّصْنا مذهبه الفلسفي العام، مع إشارةٍ خاصة إلى نزعته الصوفية. كما حرَصْنا على أن نُوضِّح في هذه الدراسة نقطةً لها أهميتها الخاصة؛ وأعني بها مدى انتساب أفلوطين إلى الإسكندرية بوصفها وطنًا روحيًّا له، وتأثير بيئة الإسكندرية الثقافية على اتجاهه الفلسفي العام، وألحَقْنا هذه الدراسةَ بالفصل الذي بحثنا فيه «أصول فلسفة أفلوطين.»

وأمَّا الدراسة الخاصة، فتبدأ بالكلام عن التساعية الرابعة من حيث ترتيبُها وتبويبُها، ثم تُصنِّف المشكلاتِ الخاصةَ التي تعرَّضَت لها هذه التساعية، وتتناول كلًّا منها على حِدَة؛ فتبدأ بالعالم الطبيعي والكونيات، ثم مشكلة ماهيَّة النفس بوجه عام، وتَليها النفس الكلية، ثم النفس الفردية من حيث هبوطُها إلى البدن وعلاقتها به، ثم قُوى النفس، وخلود النفس، ويَلي ذلك تعليقٌ على بعض المصطلحات التي استخدمها أفلوطين في هذه التساعية على نحوٍ يُخالِف به مألوفَ ما عُرِف في تاريخ الفلسفة، مع إشارة إلى الدور الذي تَحتلُّه الأساطير في فلسفته. وآخر الموضوعات التي تُعالجها هذه الدراسة المقارنة بين التساعية الرابعة وبين كتاب الربوبية، أو الأثولوجيا، الذي كانت له في الفكر العربي أهميةٌ كبرى، والذي استُخلِصَت فيه من هذه التساعية أجزاءٌ عديدة أوضحناها في نهاية البحث.

وبهذه الدراسة الطويلة، نُمهِّد لترجمة التساعية الرابعة لأفلوطين إلى العربية، آمِلين أن نكون في المقدمة والترجمة والتعليقات قد أوضحنا هذا الجانب الهام من جوانب فلسفة أفلوطين، وأعني به البحث في النفس، وأن يحتلَّ هذا المجهودُ المتواضع مكانَه بين الأبحاث التي تَنقُل إلى قراء العربية روائعَ ذلك التراث العقلي الضخم الذي خلَّفه للإنسانية فلاسفةُ اليونان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤