أصول فلسفة أفلوطين

مدرسة الإسكندرية

تتضارب الآراء بين الباحثين إلى حدٍّ بعيد عند بحث أصول فلسفة أفلوطين؛ فمنهم مَن يحاول أن يرُد كل فكرة له إلى أصول في الفلسفات أو العقائد السابقة، ويرى أنها كانت فلسفة تلفيقيَّة بحت. ومِنهم من يُنكِر ذلك، ويؤكد أن فلسفته كانت أصيلةً كلَّ الأصالة. كما يرى البعض في فلسفته اتجاهًا دينيًّا صوفيًّا غريبًا عن التيار العقلي الذي سار فيه التفكير اليوناني، بينما يجزم البعض الآخر بأن فلسفته كانت يونانية خالصة، وبأن نظراته العقليةَ كانت أمثلةً للعبقرية اليونانية، وأن المؤثِّرات الخارجيةَ لم تُؤثِّر إلا على بعض التفصيلات الجزئية لمذهبه، أمَّا الاتجاه العام لأفكاره فيونانيٌّ شأنه شأن أفلاطون وأرسطو.

ولكي نصل إلى حلٍّ لهذه المشكلة، ونُدرِكَ إلى أي مدًى تأثر أفلوطينُ بتياراتٍ فلسفية سابقة، وبالديانات والعقائد السائدة في عصره، ومن أين تبدأ أصالته (وتلك في الحق مشكلة لا غِنى عن التعرض لها بالنسبة إلى كل مَن يتناول بالبحث موضوعًا من موضوعات فلسفة أفلوطين)؛ ينبغي علينا أن نَدرُس الأصولَ التي يمكن أن يكون قد تأثر بها، ونتلمَّس أوجه الشبه والخلاف بين تفكيره وتعاليم كلٍّ من هذه الأصول؛ حتى يتسنَّى لنا في النهاية أن نضع الحدَّ الفاصل بين المؤثرات التي طرأَت على فلسفته، وبين النواحي الأصيلة في تلك الفلسفة.

أول فيلسوف يقفز اسمه إلى المخيلة عند البحث في أصول تفكير أفلوطين، مؤسس الأفلاطونية المحدَثة، هو أفلاطون. ولن يُمارِيَ أحدٌ في أن تعاليم أفلاطون كان لها أكبرُ الأثر على فيلسوفنا هذا، حتى أكَّد هو في كثير من الأحيان أنه إنما يفكر بوحي أفلاطون، وأن أفلاطون قد سبَقه في كل ما أتى به. والحق إن هذا التشابه بينهما لَيظهر جليًّا حين نُدرِك أن كثيرًا مما نُسِب إلى أفلاطون قد نُسِب أيضًا إلى أفلوطين؛ فمِما يُقال عن أفلوطين أنه قد تأثر بالروح الشرقية إلى حدٍّ بعيد، وأن فلسفته كانت نذيرًا بانتهاء عهد الفكر اليوناني وبدءِ تغلغل الدين في الفلسفة العامَّة وقضائه عليها. وهذا بعينه ما يقوله الكثيرون عن أفلاطون؛ فنيشته وروده Rhode يُؤكِّدان أن فلسفته كانت انحرافًا عن التيار العام للتفكير اليوناني، تتمثل فيها نزعة زاهدة بعيدة عن هذا العالم، لا نجدها في معظم فلاسفة اليونان الآخرين. وسواءٌ أصَحَّ هذا الاتهام أم لم يصِح، فالمهم أنه يُوجَّه إلى كِلا الفيلسوفَين معًا، مما يُؤكِّد قوة التشابه بينهما.
وإذا كان أفلوطين قد نظر إلى فلسفته على أنها تجديد لفلسفة أفلاطون، فقد ترتب على ذلك أن اختلَطَت نظريات أفلاطون الأصلية بآراء أفلوطين في نظر مُؤرِّخي الفلسفة حتى أوائل القرن التاسعَ عشر. ولم تبدأ محاولةُ فهم أفلاطون فَهمًا مستقلًّا لا تشوبه شائبةٌ إلا بعد أن قام «شليرماخر Schleiermacher» بتفسيرات مؤلفات أفلاطون وترجمتها، وقام «بتمان وهيندروف Buttmann and Heindorf» بنشرها نشرًا دقيقًا، فكان من نتيجة ذلك كلِّه أن نظَر إلى أفلاطون نظرةً مستمَدة من بيئته الأصلية، لا من خلال التطورات التالية لمذهبه — أو من خلال الأفلاطونية المُحدَثة على الأخص — كما كان يحدث من قبل.١
ولقد نقد أفلوطين المذهبَ الرواقي في كثير من المواضع، ولخص موقفَه منه في المقال السابع من التساعية الرابعة التي هي موضوع بحثنا، وسنَعرِض لهذا النقد فيما بعدُ بالتفصيل.٢ ولكن الواقع أنه قد تأثر بالفلسفة الرواقية تأثُّرًا محسوسًا، وإن يكن قد أظهر لها الخلاف على الدوام؛ فبينما ينقد النزعة المادية الرواقية نقدًا عنيفًا، نراه قد تأثر منها بفكرة وَحْدة الوجود الدينامية؛ أي القول إن القُوى الإلهية الحية تتغلغل في الطبيعة بأسرها،٣ كما نتبين من أبحاثه الطبيعية قوة سيطرة التفكير الرواقي على عقله.

وقد يكون من العجيب حقًّا أن يتأثر فيلسوف بتعاليمَ متعارضةٍ كتعاليم أفلاطون والرواقية. ولكن العجَب يزول إذا أدركنا أن أفلوطين لم يتَلقَّ التعاليم الأفلاطونية عن مُبتكِرها مباشرة، بل نُقِل إليه المذهب الأفلاطوني بعد أن مرَّ بأطوار عديدة خلال الخَمسمائة عام التي تَفصل بين الفيلسوفَين، بحيث مَهَّدت التعديلات التي طرأَت على ذلك المذهب خلال تطوره الطويل، مهدَت لاندماجه بمذهبٍ مغاير له كالرواقية؛ فالأفلاطونية كما حددت في القرن السابق على المسيح وفي القرنَين التالِيَين له، كانت تقترن بقدرٍ غير قليل من تعاليم أرسطو، وكان لكبير شُراح أرسطو، وهو الإسكندر الأفروديسي، الذي عاش حوالي سنة ٢٠٠ ميلادية، تأثيرٌ كبير على أفلوطين. ولا شك أن امتزاج التراث الأفلاطوني بتعاليم أرسطو كفيلٌ بتضييق شُقَّة الخلاف بين الأفلاطونية والرواقية؛ لأن مذهب أرسطو — وهو أكثر عينية — أقرب، على أي حال، إلى الرواقية من مذهب أفلاطون.

ثم إن الرواقية بدورها قد خفَّفَت من غُلَوائها كثيرًا في الفترة الأخيرة، وأخذَت التعاليمُ الإنسانية تتغلغل فيها، واستبعدَت كثيرًا من الآراء المادية المتطرِّفة التي كان يقول بها الرواقيون الأوائل، فنجَم عن ذلك أن ازدادت تعاليمُها اقترابًا من الأفلاطونية، أو على الأقل لم يعُد بينهما ذلك التعارضُ الصارخ الذي كان موجودًا من قبل.٤ وليس أدلَّ على ذلك من أنَّا نجد رواقيًّا مثل «بوزيدونيوس Posidonius» الذي عاش ما بين القرنَين الثاني والأول ق.م، يقتبس نظرياتٍ أفلاطونيةً عديدة؛ كالتقسيم الثلاثي للنفس، ويقول بِفَيض الجزء العاقل من النفس، أي المبدأ المدبِّر لها، من الجوهر الإلهي، ثم بعودته إلى ذلك الجوهر مرة أخرى، وليس من شكٍّ في أن بوزيدونيوس كان مِن أهم الشخصيات التي ساعدَت على نقل التعاليم الرواقية إلى مدرسة أفلاطون، ومِن ثَمَّ إلى أفلوطين؛ فعنده نجد تلك النظرة إلى العالم على أنه كائن عضوي كامل يجمع بين أجزائه التعاطف،٥ كما أوضح بجلاء أن الإنسان حَلْقة اتصال بين عالَمَين؛ عالم أعلى، وعالم أدنى، وهي فكرة كانت لها أهمية كبرى عند أفلوطين.

على أن الأفلاطونية إن كانت قد اتجهت في جانب معين اتجاهًا جعل من الممكن التقريبَ بينها وبين الرواقية، فإنها في جانب آخر قد اتجهت اتجاهًا دينيًّا أدى إلى امتزاجها بفلسفات تتمثل فيها عناصرُ غريبة عن الاتجاه الأصلي للفكر اليوناني. ولقد كان في حياة أفلاطون ذاتِه ما يُنبِئ بهذا الاتجاه الذي ستتخذه الأكاديمية من بعده؛ ففي أواخر حياته بدأ مَيلُه إلى الدين يشتد، وازداد تعلقه بالتعاليم الأورفية والفيثاغورية، وكان الاتجاه العام في مذهبه يرمي إلى زيادة الاهتمام بمسائل الدين والأخلاق، والنزوع إلى حياة شبه صوفية، مما أدى إلى ظهور التيارات الفلسفية الأخيرة التي نرى فيها لمحات صوفية قوية، ونلمس تغليب ما فوق المحسوس على العالم الواقعي بشكل واضح.

وكانت التعاليم الفيثاغورية المحْدَثة تؤدي إلى نفس الاتجاه؛ فبينما اختفَت المدارس الفيثاغورية، من حيث هي فلسفة، منذ القرن الرابع ق.م، نراها قد ظلَّت طويلًا بعد ذلك على صورة هيئة دينية لها تعاليمها. وكان من أهم هذه التعاليم أن المسافة بين السماء والأرض تَحتشد بأرواحٍ خفية يُمكننا عند الإهابة بها أن ندَعَها تتنبَّأ بالمستقبل وتُسْدِيَ النصح، وهي فكرة سنرى لها فيما بعد صدًى عند أفلوطين. وكانت النزعة الغالبة على أنصار الفيثاغورية الجديدة هي النزعةَ التلفيقية، فجمَعوا كثيرًا من تعاليم أفلاطون وأرسطو والرواقية ونسَبوها إلى فيثاغورس، وقالوا إن الله عالٍ على العالم وكامنٌ فيه في نفس الوقت، وكانوا في ذلك موفِّقين بين رأي أفلاطون ورأي الرواقية، كما ظهرَت لديهم فكرة نفس العالم، وهي فكرةٌ قال بها أفلاطون وأرسطو والرواقية. وأهم من ذلك كلِّه طريقتهم في تصفية النفس وتطهيرها، وهي طريقة تشترك فيها الفيثاغورية مع كثير من المذاهب الصوفية. فعندهم أن حياة النفس في هذا العالم إنما هي تهيئة وإعدادٌ للخلود، ولن يكون خَلاصنا إلا بتحرير النفس من ارتباطها بكل ما في هذا العالم، وتمكينها من الصعود إلى العالم الروحيِّ الأعلى.

ومن الأصول الهامة التي يرِد ذِكرها دائمًا مع الفيثاغورية، الأورفية. ويَذهب بعض الباحثين إلى أن ترتيب تُساعيات أفلوطين الست يطابق الأسرار الأورفية، بحيث تُناظِر كلُّ تساعية مرحلةً معينة من مراحل السلوك الذي تَصعد به النفس تدريجيًّا حتى تتَّحِد بالله. ففي التساعية الأولى يتحدث أفلوطين عن تطهُّر النفس، وفي الأخيرة يتحدث عن اتحادها مع المبدأ الأول، وفي التساعيات الوُسطى يتحدث عن الصعود التدريجي.٦ ولكن إذا كان هذا الرأي صحيحًا، فأقصى ما يدل عليه هو تأثر فورفوريوس، لا أفلوطين ذاته، بتعاليم الأورفية؛ لأن الأول هو الذي رتب التساعيات على هذا النحو.

ومن المفكرين الذين يرد ذكرهم بصدد الكلام عن أصول فلسفة أفلوطين، فيلون اليهودي. والاتجاه العام لديه هو المزج بين عقيدة العهد القديم والفلسفة اليونانية، مع ميلٍ إلى الجانب الأخير. على أن تأثره بالعقيدة اليهودية يظهر جليًّا في تغليبه الوحيَ الإلهي على العقل، وتأكيده — مع الأديان — أن الموجود الأول يعلو على كل فَهم وتعقُّل. وهكذا كان المبدأ الأول عنده — كما كان عند أفلوطين — فوق العقل، ويَليه «اللوجوس» الذي يتوسط بين الإله الأعلى وبين العالم المادي. وينطوي اللوجوس على المثُل أو المبادئ التي يكون منها العالم المحسوس. وهكذا أتى فيلون بتفسير لأفلاطون لم يكن يرضى به الكثيرون من شُراحه، وإن كان أفلوطين قد اتفق معه فيما بعدُ على هذا التفسير، وأقرَّ وضع المثُل الأفلاطونية، في العقل الأول. على أن المثُل أو النماذج التي ينطوي عليها العقل الإلهي قد امتزجَت عند فيلون بالملائكة والجن، الذين هم وسائطُ إلهية تملأ المسافةَ بين الله وبين العالم المحسوس؛ فالله، في رأيه، لا يُؤثِّر في العالم المحسوس إلا عن طريق هذه الوسائط. وفي فكرة الوسائط هذه شَبهٌ قوي مع تعاليم أفلوطين، بل إنه لَيستخدم تشبيهًا يتردد كثيرًا لدى أفلوطين، وهو تشبيه النور؛ فهو يتحدث عن نور واحد ينبع من المقر الإلهي، ويمتدُّ امتدادًا لا متناهيًا حتى أطرافِ العالم، بحيث يكون الله بمثابة الشمس للعالم. وقد انتهى تفكير فيلون بدوره إلى نوع من الصوفية، فما يهدف إليه في آخر الأمر هو نوع من الاتحاد مع الله، وهوية صوفية مع الموجود الأول تصحبها سلبية تامة من جانب الإنسان.

ويَستبعد «ريفو Rivaud» أن يكون مصدر هذه الأفكار عند فيلون هو تفسير لنصوص الديانة اليهودية، ويُرجِّح أنه قد اهتدى إلى نصوص المفسرين القدماء لمحاورة «طيماوس»، ونصوص الرواقيين والمشائين، وصاغ منها كلها فلسفته،٧ وإن كنا لا نستطيع رغم ذلك أن نتلمس لديه مذهبًا واحدًا متماسكًا.
ولا شك أن المرء يلمس في كل ما سبق شبهًا واضحًا بين آراء فيلون وأفلوطين. ولكن هل تأثر أفلوطينُ تأثرًا مباشرًا بأفكار فيلسوف الإسكندرية اليهودي؟ الواقع أنه ليس هناك أيُّ دليل تاريخي على وجود مثل هذا التأثر المباشر، وإنما يرى «هويتكر Whittaker» أن أفلوطين إنما استمد آراءه من مَصادرَ هي بعينها تلك التي استَمدَّ منها فيلون آراءه، أي إن الاثنَين معًا قد تأثرا بمصادرَ واحدةٍ أو متشابهة.٨ وعلى أي حال، فما دامت الأفلاطونية المحْدَثة قد نشأت في الإسكندرية، وما دامت فلسفة فيلون قد ازدهرت في تلك المدينة، ففي وُسعِنا أن نقول إن الأقطاب الأوَّلين للأفلاطونية المحدَثة قد عرَفوا تلك الفلسفة اليهودية، وإن يكن الجزم بوجود تأثير مباشر لفيلون على أفلوطين مستحيلًا.
ولقد رأينا تفكير فيلون يتميز قبل كل شيء بأنه جعل للمبدأ الأول مكانة تعلو على العقل، ولا تَحُدها معرفةٌ ولا وصف. ومثل هذه الفكرة — التي أكدها أفلوطينُ فيما بعد — قد ترددت لدى فيلسوف آخر من الجيل الفلسفي السابق على أفلوطين، وهو نومينيوس Numenius الذي عاش في حوالي النصف الآخر من القرن الثاني الميلادي. فقد نزَّه الإلهَ الأعلى حتى عن الخلق، وجعل الخلقَ من شأن «الإله الثاني» أو الصانع (الديمورج)، الذي هو القوة الفعالة في هذا العالم، وحلقة الاتصال بين الإله الأعلى وبين عالم الظواهر. أي إن من طبيعة ذلك الإله الثاني أن يتصل بالعالم الروحيِّ بماهيته، وبالعالم الظاهريِّ بفاعليته؛ لأنه يستمد من الأول ماهيته ويُمارِس على الثاني فعله. وعلى ذلك فللوجود عنده درجاتٌ ثلاث، يحتل أوسطَها ذلك الإلهُ الثاني، الذي يصل بين الإله الأعلى وعالَم الظواهر.
وبينما لم يكن في وُسْع الباحث أن يجزِم بوجود أي تأثير مباشر لفيلون على أفلوطين، نجد تأثير نومينيوس عليه أمرًا مُسلَّمًا به؛ ففي مدرسة أفلوطين كانت تُقرَأ نصوص نومينيوس وتُشرَح. ولقد لاحظَ المعاصرون لأفلوطين أوجُهَ تشابهٍ عديدةً بينهما، فاتهَموه بانتحال آرائه، مما اضطَرَّ أميليوس Amelius تلميذ أفلوطين، إلى أن يُدافِع عن أستاذه بكتابة رسالة يُثبِت فيها أصالةَ أفكاره، ويَدفع عنه تهمة انتحال آراء نومينيوس. وعلى أية حال فتأثُّر أفلوطين به أمرٌ لا يُنكَر، وخاصة إذا أدرَكْنا أنه عاش وإياه في نفس البيئة العقلية وهي بيئة الإسكندرية، وأنه يرمي بتعاليمه إلى تحقيق نفس الهدف الذي أصبح مقصدَ فلاسفة ذلك الحين، وهو طُمأنينة الروح وسكينة القلب، قبل كل اقتناع عقلي.
والكلام عن نومينيوس يُؤدي بنا إلى الفيلسوف الذي تتلمذ عليه أفلوطين مباشرة وهو أمونيوس ساكاس Ammonius Saccas والواقع أن من أصعب الأمور أن يهتدي المرءُ إلى تعاليمَ محددة لهذا الفيلسوف السكندري؛ إذ إنه لم يُخلِّف لنا مؤلفاتٍ مكتوبة، ولم تَرِد إلينا شواهدُ عن مذهبه إلا مِن كُتاب تأخروا عنه إلى حدٍّ لا يسمح لنا بالقول إنهم قد عرَفوا أفكاره معرفة كافية، ومن هؤلاء نميزيوس Nemesius الذي كان مسيحيًّا وتحدث عن تعاليمه في كتاب أسماه «في الطبيعة البشرية De natura hominis»، فحاول أن يستغل تعاليم أمونيوس ليثبت بها فكرة مسيحية، هي فكرة وحدة الطبيعة الإلهية والإنسانية في شخص المسيح.٩ وتلك كما نرى آراء متأخرة يصعب أن نستخلص منها الأفكار الحقيقية لأمونيوس ساكاس.
وقد روى فرفوريوس أن أمونيوس وُلد مسيحيًّا، ولكنه ارتد إلى الوثنية عندما تفرغ للفلسفة. وإذا كنا لا ندري عن تعاليم أمونيوس شيئًا محددًا، فإننا نعلم على الأقل أن تعاليمه كانت روحية أكثر منها عقلية؛ فقد كان هدفه، قبل كل شيء، هو أن يُلقِّن تلاميذه طريقة روحية سامية في السلوك؛ وذلك يقتضي أن يكون له عدد محدود من التلاميذ، ومن هنا قيل إنه أخذ عهدًا على تلاميذه الثلاثة؛ أفلوطين وأوريجين Origen وهيرنيوس Herenius أن يكتموا أسرار تعاليمه خلال فترة معينة، وبالفعل لم يبدأ أفلوطين في الكتابة إلا بعد عشر سنوات، فإذا صحَّت هذه الرواية (وإن كان تسلر Zeller يشك في صدقها) لأمكننا أن نُعلِّل بها عدم إمكان اهتدائنا إلى تعاليم محددة لأمونيوس. كما أن في وسعنا أن نستدل منها على أن تعاليم أمونيوس لم تكن عقلية خالصة، كالمذاهب الفلسفية اليونانية الكبرى، وإنما كانت تهدف إلى تحويل الآراء المستمدة من بقية المدارس إلى طرق للسلوك الروحي، وهي صفة يشترك فيها — إلى حد ما — مع أفلوطين.١٠ ويمكننا أيضًا أن نعلل — على هذا الأساس — السبب الذي من أجله ظل أفلوطين يتلقى العلم على يدَيه أكثر من عشر سنوات؛ إذ إن التدريب على طريقة السلوك الروحي يقتضي المرور بمراحل طويلة بطيئة، أمَّا التعاليم العقلية فتُلَقَّن مباشرة، ولا تحتاج إلى وقت طويل.
ومن ناحية آراء أمونيوس الفلسفية، فالمعروف عنه أنه قد حاول التوفيق بين أفلاطون وأرسطو. فإذا علمنا أن صفة التوفيق بين هذَين الفيلسوفَين كانت تتكرر كثيرًا لدى أفلوطين، فقد يُداخِلنا شك في مدى أصالة هذا الأخير. غير أن هذا التوفيق كان في الواقع سمةَ العصر كله، وكانت الأفلاطونية المتوسطة بدورها تسير في هذا الطريق؛١١ لهذا فليس لنا أن نظل طويلًا على الشك في أن يكون أفلوطين قد اقتبس تعاليم أستاذه في التساعيات، وإنما الذي لا نعلمه هو مدى ما يدين به لأستاذه في مؤلفاته، غير أن أفلوطين كان بشهادة جميع تلاميذه مفكرًا أصيلًا … وعلى أية حال فلن يمنع هذا من أن نُقِر بفضل أمونيوس وعبقريته، التي تشهد بها قدرته على استبقاء ذهن قوي كذهن أفلوطين طوال هذه المدة.

وهكذا انتقلنا بالتدريج من الفلاسفة الذين يمكن أن يكون أفلوطين قد تأثر بهم، حتى انتهينا إلى أستاذه المباشر الذي عاش معه في عصره. ولا بد لنا من أجل إكمال الصورة التي نرسمها للمؤثرات المختلفة على تفكيره؛ أن نُلِم بالبيئة العقلية التي عاش فيها أفلوطين، وأن نحدد مدى تأثير انتمائه إلى مدينة الإسكندرية على تفكيره. وحين ندرك إلى أي حد يمكننا أن نَعُد أفلوطين واحدًا من فلاسفة الإسكندرية، نكون في الوقت ذاته قد أجبنا عن السؤال: هل كان تفكير أفلوطين يونانيًّا أم شرقيًّا؟

مدرسة الإسكندرية

يُطلَق اسم مدرسة الإسكندرية على ذلك التيار الفلسفي الذي ارتبطت نشأته بمدينة الإسكندرية، والذي كانت أهم الأسماء فيه هي أمونيوس وأفلوطين وبرقلس. ورغم أن المقصود من هذه التسمية في الأصل هو التحديد المكاني فحسب، فقد أصبحت تعني التحديد المذهبي أيضًا؛ بدليل أن كثيرًا من الفلاسفة الذين لم يعيشوا في الإسكندرية سوى فترة ضئيلة، يُنسَبون إليها.

ولقد أدَّت هذه التسمية إلى مظهرَين من مظاهر الخلط؛ الأول هو الخلط بين اسم «مدرسة الإسكندرية» واسم «الأفلاطونية المحدثة». فهل الأصح أن يرتبط اسم هذا المذهب الفلسفي باسم المدينة التي ظهرت بوادره منها، وهل لهذه التسمية مبرراتها العقلية والتاريخية، كما تَفترض تلك المؤلفاتُ التي تشير كلها إلى «مدرسة الإسكندرية» حين تتحدث عن الأفلاطونية المحدثة، مثل كتب Barthélémy Saint-Hilaire Vacherot, J. Simon, Matter الذين سنشير إلى دراساتهم خلال هذا البحث، أم أن الأصح أن نلجأ إلى الأصل الفلسفي اليوناني، فنُسمِّيها بالأفلاطونية المحدثة؟ الواقع أن الإجابة عن هذا السؤال لا تتيسر إلا بعد حل مشكلة التأثير الشرقي أو اليوناني على تلك المدرسة، وعلى أفلوطين بوجه خاص. ولما كانت تلك هي المشكلةَ التي يُعالجها هذا الفصل بأكمله، فسنُرجِئ الإجابة عن هذا السؤال إلى ما بعد.
والمظهر الآخر من مظاهر الخلط، وهو الذي يعنينا الآن، هو عدم التفرقة بين مدرسة الإسكندرية من حيث هي مدرسة فلسفية، وبين متحف الإسكندرية أو معهدها le musée؛ فبعض الباحثين، مثل Matter لم يُفرِّق بين الاثنَين، بحيث جعل من المدرسة الفلسفية في الإسكندرية فرعًا من فروع الدراسات التي ظهرت بالمتحف، بل أقل هذه الفروع أهمية.١٢ ففي كتابه الضخم الذي ألفه عن مدرسة الإسكندرية، يستعرض مختلِف مظاهر نشاط المتحف في إنتاجه العلمي؛ من رياضة وفلَك، وجغرافيا وتاريخ، ولغة وموسيقا، ثم يلحق بهذه العلوم الدراسة الفلسفية في المجلد الثالث من الكتاب، ويؤكد أن المدرسة قد توقفَت في بقية العلوم منذ وقت مبكر، «أمَّا الفلسفة فلم ترتفع مكانتها فيها إلا من القرن الثاني على يد أمونيوس ساكاس.»١٣
ولكي نُدرِك كيف كان هذا الرأي ينطوي على خلطٍ واضح، وكيف أن التفكير الفلسفي في الإسكندرية قد نشأ مُستقلًّا عن المتحف، فعلينا أن نُوضِّح الظروف التي أُسِّس فيها هذا المتحف، والغرض الذي أُنشِئ من أجله؛ فعندما أصبحَت مصر دولة منفصلة تحت حُكم البطالمة، بعد تفكك إمبراطورية الإسكندر، أراد بطليموس الأول أن يُحيط نفسه بجو يوناني في كل شيء، فاستقدم العلماء والفنانين والأدباء، وأنشأ مكتبة الإسكندرية ومتحفها. وكان المتحف مَجمعًا للعلماء، يُنفِق عليهم الحاكم بسخاء، مع تركه لهم كلَّ الحرية في أبحاثهم، ومن هنا تنوَّعَت هذه الأبحاث إلى أقصى حد، وانتظمت كل العلوم والفنون والآداب المعروفة في ذلك العصر. ولم تكن هناك روحٌ واحدة أو فكرة مركزية تَسود هذه الأبحاث، ولذا كان الأصحُّ أن يُعَد مجمعًا علميًّا لا مدرسة. والشيء الوحيد الذي كان يجمع بين كل اتجاهاته المتباينة، هو احتفاظه مخلصًا بالروح اليونانية في بلد شرقي، ومقاومته لكل المؤثرات المحيطة به، وانعزاله التام — في مبدأ الأمر على الأقل — عن كل التيارات الفكرية المحيطة به، كاليهودية أو جماعات الغنوص. فالمتحف كان إذن عبارة عن يونان صناعية استُنبتَت في أرض أخرى، وظلت محتفظة بعادات وروح أصلها الأول.١٤
ولا شك أن علماء المتحف لم يحاولوا أن يمتزجوا بسكان البلاد الأصليين — غافلين عن حضارتهم العريقة — كما أن هؤلاء من جانبهم قد انطوَوْا على أنفسهم، ولم يطرأ عليهم أيُّ نوع من التأثر بهذه الأفكار الجديدة، فظل الشعب محتفظًا بتقاليده وأفكاره الخاصة، التي كان يراها أعرقَ وأقدم من التعاليم الجديدة. وكان التياران يقفان جنبًا إلى جنب دون أن يمتزجا في كل أنحاء البلاد، وخاصة في الإسكندرية. وظل السكان الأصليون يشعرون بأنهم شعب محتل، أمَّا اليونانيون فقد ميَّزوا أنفسهم عن أهل مصر، واحتكروا لأنفسهم الثقافة الرفيعة والمناصب الكبرى. وحين حدَث الاختلاط فيما بعدُ كان بطيئًا إلى حد بعيد، ولم يُحاول المصريون أن يتَّصلوا بالثقافة اليونانية مباشرة، بل توسط في ذلك التفكير اليهودي، الذي كان من قبل قد اصطبَغ بصِبغة يونانية في مراكزه الأصلية، مثل جوديا. وهكذا كان يهود الإسكندرية — كما قال كراكوفسكي — يقومون بالوساطة العقلية بين شعبها الشرقي ومُحتلِّيها اليونانيين، مثلما كانوا يقومون دائمًا بالوساطة التجارية.١٥

وعلى الرغم من أن المكانة الكبرى التي اكتسبَتها الإسكندرية في ميدان العلم والثقافة كانت في مبدأ الأمر راجعةً إلى كونها عاصمةَ البطالمة، فإن هذه المكانة لم تتزعزَع بعد الفتح الروماني على الإطلاق. فقد كانت الإسكندرية عاملًا هامًّا من عوامل صَبْغ حضارة الرومان — في بعض نواحيها — بصِبغة شرقية. وطبيعي أن يتم تأثر إمبراطورية تسودها الحروب الدائمة مع الشرق، ولها معه علاقات تِجارية واسعة، وتجلب منه الرقيق؛ طبيعي أن يتم تأثر هذه الإمبراطورية بأفكار الشرق في ميناء متوسط الموقع، تلتقي فيه تياراتٌ عديدة من الشرق والغرب.

وفي خلال الفتح الروماني بدأت التيارات الفلسفية تظهر واضحة في الإسكندرية، وكانت في ظهورها مستقلة عن المتحف تمام الاستقلال. ويعترف فاشرو Vacherot أن المتحف كان — وقت ظهور أمونيوس ساكاس — في فترة من أتعس فتراته؛١٦ فمن المحال إذن أن نعزوَ انتعاش الحركة الفكرية في الإسكندرية إليه، وإنما كان ذلك راجعًا إلى أسباب خارجة عنه. وكل ما كان قد بقي من تأثير المتحف هو نوع من التعلق بالتراث اليوناني، بحيث لم يكن من الممكن أن يظهر مفكر في الإسكندرية دون أن يتأثر بروح البحث اليوناني على نحو ما.

أمَّا القوة الخارجية التي دفعَت إلى هذا التفكير الفلسفي، فيراها البعض في تلك الروح الدينية التي علا صوتها في الشرق في ذلك الحين؛ فبجانب اليهودية التي ثبتت أقدامها وكانت لها مَدارسها الخاصة في الإسكندرية، حرَصَت المسيحية على أن تنشر تعاليمها في تلك المدينة التي كانت من قبل مركزًا كبيرًا من مراكز الديانات المضادة لها. ولم يكن من الممكن أن تقوم حركة فكرية تُغفِل المسيحية تمامًا. ووجد الناس في تلك التيارات الجديدة ما يستهويهم، بعد أن لم تَعُد لأبحاث المتحف العلمية جاذبيتُها للنفوس؛ فمهمة المدرسة الفلسفية في الإسكندرية — تبعًا لهذا الرأي — هي الجمع بين كل معتقدات وآراء العالم اليوناني والروماني والشرقي، وتوحيدها في مذهب واحد، يصلح لروح العصر الذي لم يعد يقْنَع بالبحث العلمي الخاص. ولكي يتسنى لنا أن نحكم على هذا الرأي بالصواب أو بالخطأ؛ علينا أن نواجه المشكلة الأصلية التي تُهِمنا في هذا المجال، وهي إلى أي حد تأثر أفلوطين بالروح الشرقية وإلى أي حد ظل يونانيًّا؟

من المعروف أن أفلوطين قد عاش فترة قصيرة من حياته في مدينة الإسكندرية، وتأثر بأساتذتها وبمدارسها السابقة. فهل أثر الطابع الشرقي على تفكيره، بحكم طبيعة الثقافة السائدة في تلك المدينة التي تحتل الموقع الوسط بين الشرق والغرب، أم أنه ظل فيلسوفًا يونانيًّا خالصًا؟

من الباحثين مَن يؤكد أهمية المؤثرات الشرقية في تفكير أفلوطين، حتى يرى أنها لا تقل أهمية عن الأصول اليونانية في مذهبه (إذ إن أحدًا لن يستطيع أن ينكر وجود هذا الأصل اليوناني على أية حال). ومن أمثال هؤلاء الباحثين «فاشرو» الذي رأى أن أفلاطون، وإن كان فيلسوفًا يتكلم اليونانية، فإن تفكيره لا يكشف عن أهم خصائص هذه الروح. فالعلاقة المميزة للتفكير اليوناني، وهي روح الاعتدال والتناسق  la mesure, la proportion لا تظهر عنده على الإطلاق. وعلى العكس من ذلك، كانت كتاباته تتصف بالحماسة، وتزخر بالصور والتشبيهات، وهي كلها علامات لروح جديدة كل الجِدَّة.١٧ وإن اعتراف أفلوطين بانتسابه إلى التراث الأفلاطوني إنما هو دليل قوي على تأثره بالروح الشرقية؛ لأن الفيثاغورية والأورفية كان لهما دور كبير في تكوين المذهب الأفلاطوني، والصلة بين هاتَين المدرستَين وبين التفكير الشرقي واضحة. ولنُضِف إلى ذلك أن الشرق كان يسهل عليه دائمًا استيعاب المثالية الأفلاطونية من دون بقية المذاهب الفلسفية. فإذا أدركنا أن أفلوطين قد أضاف إلى هذه المثالية، الروحَ الصوفية التي كانت دائمًا هي الصفةَ المميزة للحياة الروحية في الشرق، لأمكَننا أن ندرك مدى تأثره بالروح الشرقية.١٨

ومن أهم البراهين التي تُساق للدلالة على قوة المؤثرات الشرقية في تفكير أفلوطين، فكرة حضور الله، أو بالأحرى قوة الله، في العالم عن طريق وسائط تملأ الهُوَّة بينه وبين العالم، وفكرة الوصول إلى السعادة القصوى عن طريق الوحدة مع الله، التي تعلو المعرفة العقلية. ولما كان الله في نظر الديانات الشرقية — التي يفترض أن أفلوطين قد تأثر بها — يسمو على العالم المحسوس إلى حد يستحيل معه على الإنسان أن يصل إليه مباشرة، فقد كان لا بد لكل فلسفة أثرَت فيها هذه العقائد، من أن تُولِيَ اهتمامًا كبيرًا لفكرة الوسائط التي تتخذ عندها مظهرَين؛ مظهرًا خارجيًّا، هو سلسلة الموجودات التي تتوسط بين الألوهية والعالم المحسوس، كالعقول والنفوس والجن، ومظهرًا ذاتيًّا باطنًا، هو تلك المراتب المختلفة في التطهر، التي تسلكها النفس لتتهيأ لتلقي الحكمة العليا. ومن هنا قيل: إن فكرة الوسائط الإلهية هي في واقع الأمر توفيق بين النظرية اليونانية إلى الله على أنه مجرد عالٍ، والنظرة الشرقية إليه على أنه ماثل أمامنا في كل مكان. أمَّا روح التصوف التي تكمن من وراء فكرة تطهر النفس للوصول إلى الله، فلا تحتاج في إثبات أصلها الشرقي إلى دليل.

والرأي المضاد هو الذي يمثله «تسلر Zeller» خير تمثيل؛ ففي رأيه أن فلسفة أفلوطين إنما كانت استمرارًا للتيار الفلسفي اليوناني دون أي انحراف؛ فهو يرفض القول إن الشعور بحضور الله مباشرة في العالم هو صفة يتميز بها التفكير الشرقي؛ لأن هذه الفكرة قد تمثلت أقوى ما تكون في فلسفات يونانية أصيلة، مثل فلسفة أكسونوفان والرواقية. ولو بحثنا بدقة فيما تتميز به الديانات الشرقية في هذا الصدد، لوجدناها أقرب إلى القول بتعالي الله وتجرُّدِه عن كل ما في هذا العالم، منها إلى القول بحضوره الدائم فيه. وذلك واضح كل الوضوح في اليهودية، وفي الديانات الطبيعية الشرقية. كما أن هذه الفكرة ذاتَها، أي علو الله عن كل حد ووصف، كانت لها عند أفلاطون أهميةٌ كبرى، ومن الممكن أن يكون أفلوطين قد استمدها منه. أمَّا القول إن مراتب الوجود تقل كلما ازداد عن الماهية الأولى بُعدًا، فتلك في الواقع فكرة كان لها عند أرسطو دور كبير.١٩ وبالمثل يؤكد «رافيسون» أن المبادئ الثلاثة الأولى التي قال بها أفلوطين تُرَد كلها إلى مذاهبَ يونانية خالصة؛ فالواحد عنده هو الله عند أفلاطون، والعقل هو الله عند أرسطو، أمَّا النفس الكونية فهي العلة الأولى كما فهمه الرواقيون.٢٠ وهكذا ينتهي أنصار هذا الرأي إلى أن فلسفة أفلوطين، بل الأفلاطونية المحْدَثة، إنما هي تطور طبيعي للتفكير اليوناني الخالص، «فالأفلاطونية المحْدَثة هي — من الوجهة التاريخية — نقطة النهاية في الفلسفة اليونانية، وهي قد استوعبت كل المدارس التي وُجِدَت من قبل، وتمثلت في ذاتها كل ما كان يوجد في عصرها من علم يوناني.»٢١

هذان هما الرأيان المتطرفان اللذان يصادفهما الباحث بصدد أصول فلسفة أفلوطين، ولكل منهما — كما رأينا — أسبابه ومبرراته. غير أن أول ما نلاحظه عليهما هو أن أحدهما يقلل من أهمية التراث اليوناني الذي تَشبَّع به أفلوطين والذي كانت كل الطبقة المثقفة من اليونان في الإسكندرية تتمسك به، والآخر ينكر تمامًا حقيقة البيئة التي عاش فيها أفلوطين، وينظر إليه على أنه فيلسوف قد انعزل تمامًا عن الجو الذي يحيط به، وصمَّ أذنيه عن صوت الفكر الشرقي الذي كان لا بد بالغًا مسامعه.

والواقع أن ظروف العصر الذي عاش فيه أفلوطين قد تُفسِّر، إلى حد ما، اعتقاد هؤلاء الباحثين بأن أفلوطين قد تجاهل البيئة المحيطة به، ولم يكن سوى مفكر يكمل سلسلة كبار الفلاسفة اليونانيين؛ ففي الوقت الذي ظهر فيه أفلوطين، كانت الإمبراطورية الرومانية تُعاني انحلالًا شديدًا؛ فقد تحول الحكام بالتدريج إلى الاستبداد والحكم المطلق، واقترن بهذا الاستبداد اضطرابٌ سياسي شديد، فكان الأباطرة يتعاقبون على الحكم في فترات قصيرة، وغالبًا ما كانت حياتهم تنتهي بالموت قتلًا. وتأثر سكان الإمبراطورية بهذا الاضطراب السياسي، فضلًا عن تأثير الحروب والأوبئة العديدة، فقلَّ عددهم، وساءت حالتهم. وكان الشعور العام الذي يسود تلك الفترة هو شعور السأم من الحياة taedium vitae.٢٢ ومن هنا كان انصراف أفلوطين عن ذلك العصر المضطرب وتدوينه أفكارَه، وكأنه لا يعيش فيه على الإطلاق.
ولكن، على الرغم من تجاهل أفلوطين لعصره المضطرب، فهل يُسوِّغ لنا هذا أن نعتقد بأنه لم يتأثر بالبيئة المحيطة به على الإطلاق؟ ألم تكن نفس فكرة التخلي عن العالم المحسوس والانصراف عنه، تعبيرًا عن السأم الكامن في نفسه من الحياة السائدة، وبالتالي تعبيرًا عن تأثره بها؟ الحق أن البحث العلمي لا يجب أن يفصِل بين أي مفكر وبين عصره وظروف بيئته فصلًا تامًّا. وإذا كان الفيلسوف ذاتُه ينكر هذا الأثر، فيجب أن يدرك الباحث أنه لا بد قد تأثر دون وعي منه على الأقل. ومن المحال أن يعيش مفكرٌ في نقطة التقاء الثقافتَين اليونانية والشرقية، وفي موضع تجمع الشعوب عن طريق التجارة والحروب، دون أن تظهر في تفكيره خصائص التيَّارَين معًا. بل إن بعض الباحثين، مثل كراكوفسكي، يمُد هذا الحكم حتى يشمل الأفلاطونية بأسرها؛ فمن المحال أن يفهم المرء الأفلاطونية المحْدثة إن لم يتمثل في ذهنه نواحيَ النزعة العالمية التي كانت تسود الإسكندريةَ عندئذٍ.٢٣

ولو أمعنَّا النظر في ظروف حياة أفلوطين، فكيف نُفسِّر حادثًا هامًّا من حوادث حياته، وهو رحيله مع الجيوش الرومانية في حملة إلى الشرق، إن لم يكن على أساس القول إنه قد رَغِب في التزود من الحكمة الشرقية في مصادرها الأصلية؟ وكيف نُفسر ظهور المعتقدات الشائعة في عصره، كالسحر والتنجيم، في كتاباته إن لم يكن ذلك تأثرًا منه بالروح السائدة في البيئة الشرقية التي كانت هي أصلَ هذه المعتقدات؟

وهنا قد يُقال: إن إقامة أفلوطين في الإسكندرية لم تكن طويلة إلى الحد الذي يسمح له بأن يتشبع بروح الثقافة الشائعة، وإنه لم يبدأ في عرض مذهبه الخاص إلا بعد فترة طويلة، خلال إقامته في روما. والرد على ذلك هو أن عقليته الفلسفية واتجاهه الفكري العام، كان قد تحدد منذ الفترة الطويلة التي تتلمذ خلالها على أمونيوس ساكاس في الإسكندرية، وخاصة لأنه حين بدأَت فترة التتلمذ هذه، كان قد بلغ سنَّ النضوج العقلي.

وليس معنى هذا أننا نُغلِّب المؤثرات الشرقية على المؤثرات اليونانية في تفكير أفلوطين، أو أننا نرمي إلى القول بأن فلسفته قد غيرت اتجاه التفكير اليوناني فجأة، واتجهت به وِجهةً شرقية مباغتة؛ فليس أبعدَ عما نَهدف إليه من هذا الرأي. وكل ما نود أن نقوله في هذا الصدد هو أن انتماء أفلوطين في الأصل إلى الإسكندرية، التي كانت مدينة لها خصائصها الحضارية الخاصة، لا بد قد أثر على تكوينه العقلي، وجعل من المحال عليه أن يتجاهل أسس التفكير الشرقي المحيط به. ولم يكن ذلك انتقالًا مفاجئًا؛ لأن التفكير اليوناني بأسره كان في العصور المتأخرة يزداد تأثرًا بالروح الشرقية تدريجًا. بل إن خلفاء أفلوطين في المدرسة الأفلاطونية المحدثة كانوا أوغلَ منه بكثير في باب الانقياد للمعتقدات الشرقية. وعلى ذلك فنحن لا زلنا نرى الروح اليونانية واضحةَ الظهور في فلسفة أفلوطين، ولا زال أفلوطين في نظرنا هو الوريثَ الشرعي لتفكير أفلاطون، غير أن بين الفيلسوفَين مسافةً مكانية وبُعدًا زمانيًّا لا يمكن إغفالُه … بينهما تيار عام يسير بالتدريج نحو الاهتمام بالحياة الروحية الباطنة، ولا يحفل كثيرًا بالأبحاث الطبيعية أو السياسية … وبينهما بيئة اختلطت فيها فلسفةُ اليونان بعقائد الشرق، فكان لا بد أن يكون لها تأثيرها على الأذهان. أمَّا الإطار الذي وضَع فيه أفلوطين كلَّ هذه المؤثرات، فلا زال إطارًا هلينيًّا في الأغلب، ولا زالت طريقة التفكير اليونانية تغلب عليه حتى في أكثر نواحي تفكيره تأثرًا بالروح الشرقية، أي في التصوف، كما سنرى فيما بعد.

فاسم أفلوطين إذن لا زال من الأسماء الكبرى التي تحتل مكانتَها في تاريخ الفلسفة اليونانية، غير أن تفكيره، كما قلنا، قد اصطبَغ بصِبغة شرقية لا يمكن إنكارها، ما دام من الضروري أن نَربط بين الفيلسوف وبين البيئة العقلية التي نشأ فيها، والتي جمَعَت ثقافة الشرق والغرب، وأعني بها بيئة الإسكندرية، فليس هناك خطأٌ كبير في تسمية المدرسة التي تركَّزت حول أفلوطين باسم مدرسة الإسكندرية. وإذا كنا نُؤْثِر اسم «الأفلاطونية المحدَثة» فما ذلك إلا لأن التسمية الأولى تؤدي إلى إدخال مفكرين كثيرين عاشوا في الإسكندرية ممن سبقوا أمونيوس ولم تربطهم بالمدرسة التي تعنينا رابطةٌ خاصة. وهذا لا يمنع كما قلنا من أن نرى مذهب أفلوطين متأثرًا، إلى حد كبير، بخصائص البيئة العقلية التي سادت الإسكندرية.

١  E. Hoffmann: Platon. Zurich (Artemis-Verlag). 1950, S. 29.
٢  انظر ص٨٧–٩٢ من هذا البحث.
٣  W. R. Inge: “Neo-Platonism”. Article in: “Encycl. of Religion and Ethics”. J. Hastings.
٤  A. H. Armstrong: An Introduction to Ancient Phil., London, 2nd ed., 1949, p. 142.
٥  انظر هذا المصطلح، ص١٤٧.
٦  E. Krakowski: Plotin et le paganisme religieux, Paris, 1933. p. 72.
٧  A. Rivaud: Histoire de la philosophie, tome I, Paris, 1948, p. 482.
٨  T. Whittaker: The Neo-Platonists, 2nd ed., Cambridge, 1928, p. 36.
٩  Ravaisson: Essai sur la métaphysique d’Aristote, Paris, 1846, tome II, p. 374.
١٠  Bréhier: Introduction, Ière Ennéade, Paris, 1924, p. IV.
١١  Armstrong: Introduction, p. 177.
١٢  M. Matter: Histoire de l’école d’Alexandrie, 2ème dé, Paris, 1840. vol. III, p. 160.
١٣  Ibid., p. 153.
١٤  J. Simon: Histoire de l’école d’Alexandrie, Paris, 1845, tome I, p. 186.
١٥  Krakowski: Plotin …, p. 35.
١٦  E. Vacherot: Histoire critique de l’école d’Alexandrie, vol. I, Paris, 1846, p. 341.
١٧  Ibid., p. 105.
١٨  Ibid., p. 113.
١٩  E. Zeller: Die Philosophie der Griechen, IVe Auflage, Leipzig. 1903, IIIer Teil, 2e Abteilung, S. 87.
٢٠  Ravaisson: Essai … tome II, 4e partie, chap. 3.
٢١  Zeller: Ibid., S. 473.
٢٢  W. R. Inge: The Philosophy of Plotinus, 3rd ed., London, 1929. vol. I. p. 25.
٢٣  Krakowski: Plotin …, p. 17.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤