قوى النفس

على الرغم من أن أفلوطين قد تحدث عن وحدة النفوس، وأكد أن النفس الفردية إنما تُستمَد من النفس الكلية الشاملة وتَرجع في النهاية إليها، فليس لنا أن نفهم من هذا أن لكل النفوس قُوًى واحدة، وأن الملكات لا تتغير بتغير الأنواع المختلفة من النفوس؛ ذلك لأن من النفوس ما تهبط إلى جسم، ومنها ما تظل مفارقة. ولا جدال في أن هبوط النفس إلى الجسم يُنمي فيها قُوًى لم تكن لتحتاجَ إليها لو ظلت بعيدة عن التعلق بأي جسم. وعلى هذا الأساس سنَعرض لقوى النفس المختلفة، موضحين إلى أي النفوس تنتمي هذه القوى، وإلى أي حد نجح في تفسير عمل كل قوى منها.

الذاكرة

يحرص أفلوطين على أن يجعل من الذاكرة ملكة تنتمي إلى النفس وحدها، لا إلى المركب من النفس والجسم؛ فليس للبدن شأن فيما تتذكره النفس، وخاصة إذا كان ذلك تذكرًا لعلم من العلوم. وهو لا يقبل على الإطلاق ذلك الرأي الرواقي الذي يجعل من التذكر انطباعًا لعلامات على الجسم، أو يُشبِّهه بضربة الخاتم على الشمع؛١ فكل هذه تشبيهات غير دقيقة، وإنما يكون الوصف الصحيح للأثر الذي يحدث في النفس هو أنه نوعٌ من التعقل، وليس انطباعًا ماديًّا.
ومن الأدلة التي يسوقها أفلوطين للدلالة على أن الذاكرة لا يمكن أن تكون انطباعًا ماديًّا، أنها لو كانت كذلك، لما احتاج المرء إلى جهد ليتذكر، ما دامت الانطباعات موجودة على الدوام. ولو صح أن الذاكرة انطباع مادي، لما أدى المران إلى تقويتها؛ لأن الانطباع الماديَّ لا يزيد بالمران، وإنما تقوى الملكة النفسية ذاتها. والمران فعل إيجابي تقوم به النفس، أمَّا الانطباع فسلبي، فلو كان التذكر انطباعًا لازداد قوة كلما ازدادت النفس سلبية، لا العكس.٢ ثم إن النفس تتذكر أفكارًا لم تُحقَّق، ورغباتٍ لم تتجاوز مرحلة التخيل وحده. وتلك كلها أمور لم تمر على الجسم بعد، فكيف يكون الجسم عاملًا من عوامل تذكرها؟ الحق أنه إذا كان للبدن دور يؤديه في التذكر، فهو بالأحرى إعاقة التذكر، كما يحدث للثَّمِل.
وعلى ذلك، في نقد أفلوطين للمادية الرواقية نراه يجعل من التذكر ملكة خاصة بالنفس وحدها. وقد نتوهَّم من ذلك أن الذاكرة قوة كامنة في كل النفوس، مهما اختلفت مراتبها وطريقة الحياة التي تحياها. ولكن الواقع أن الذاكرة لا ترتبط إلا بحياة معينة للنفس، هي تلك الحياة التي يتَحكم فيها الزمان، أو أي نوع من التغير بوجه عام؛ إذ إن الذاكرة تختص دائمًا بشيء كان ولم يعد له وجود. فحياة النفس في العالم المعقول لا تقترن بها ذكريات؛ ألسنا نجد النفس، حتى في عالمنا هذا، تنصرف عن العالم المحسوس، وتكاد تنساه نسيانًا تامًّا، كلما شاءت أن تتفرغ للتأمل والتفكير؟٣ فالأحرى إذن أن تستغنيَ النفس عن ذكرياتها إذا كانت في العالم المعقول. فكل شيء في العالم المعقول ثابت لا يتطرق إليه التغير، وكل الماهيات الحاضرة فيه أزلًا، وليس في تأمل النفس للماهيات المعقولة أيُّ تعاقب زمني؛ وبالتالي أية ذاكرة. فانقسام المعقولات وتدرجها إنما يكون في الرتبة فحسب، لا في الترتيب الزمني؛ إذ إن السابق واللاحق في التصورات لا صلة لهما بالزمان، ولا ينجم عنه أن يكون التفكير في السابق قبل التفكير في اللاحق.٤ فتأمل المعقولات إذن لا يتم في زمان؛ وبالتالي لم تكن النفس في ذلك العالم محتاجةً إلى ذاكرة، ما دامت الذاكرة هي استعادةَ الماضي، أي إنها مرتبطة أساسًا بالزمان والتغير. ففي العالم المعقول يظل كل شيء ثابتًا،٥ وتكون للنفس بموضوعاتها علاقة لا تتغير، بل لا تعود هي والمعقولات إلا شيئًا واحدًا، فلن تكون بها إلى الذاكرة حاجة.
وعلى هذا الأساس ينفي أفلوطين التذكر عن نفوس الكواكب، فتلك النفوس تتعقل على الدوام، وتدرك موضوعاتِ تعقلها مباشرة، دون حاجة إلى استدلال واستنباط.٦ وهي تحيا حياة دائمة، فلا حاجة بها إلى تذكر حياة ماضية. والزمان عندها لا وجود له، وإنما نحن الذين نُقسِّم الزمان إلى أيام وسنين تبعًا لوجهة نظرنا الخاصة، أمَّا النجوم ذاتها فتحيا حياة دائمة لا تغير فيها. وبالمثل ينفي أفلوطين الذاكرة عن النفس الكلية، أي المبدأ المنظِّم للعالم (زيوس كما يُسَمِّيه أحيانًا)؛ إذ إن المبدأ المنظم لا يتردد ولا يعرف الرِّيبة أو الشك، بل تظل إرادته ثابتة لا يتطرق إليها تغير.
ففي العالم المعقول، وفي عالم الأفلاك العليا، لا تكون النفس في حاجة إلى ذاكرة. وإذن فأين يبدأ التذكر، وفي أية مرحلة من المراحل التي تمر بها النفس تنمو لديها تلك الملَكة؟ إن التذكر مرتبط بالتغير والزمان والفردية. فطالما أن النفس متحدة اتحادًا ثابتًا لا فردية فيه مع النفس الكلية في العالم المعقول، فلن تكون في حاجة إلى الذاكرة، ولكنها ما إن تهبط من هذا العالم المعقول، حتى تبدأ لديها ملَكة التذكُّر؛ إذ إنها تستعيد ذكرياتٍ أقامَتْها مع العالم المعقول، وهي الذكريات التي كانت كامنةً فيها بالقوة خلال حياتها فيه، وتنتقل إلى الفعل حين تغادره.٧ وكذلك الحال حين تغادر النفس عالمنا هذا، وتبدأ في الصعود. ففي هذه الحالة أيضًا تَظل لها ذكريات حياتها الأرضية حتى خلال إقامتها في عالم السماء (الذي هو أدنى من عالم المعقولات).

فالذاكرة إذن تنتمي إلى حياة النفس في عالمنا هذا، وفي كل حياة زمانية مرتبطة به وقريبة منه. أمَّا إذا بحثنا ملكة التذكر ذاتها، في النفس الإنسانية، فسنجد أفلوطين يأتي هنا بآراء نفسية قيمة، تجعلنا نعده باحثًا مدققًا في ميدان علم النفس، على صورته القديمة بالطبع.

فالذاكرة لا ترجع إلى الإحساس. وليست القوة الحاسة هي القوة المتذكرة؛ لأنه لو كانت الملَكتان واحدة، لوجب أن نُحِس الأفكار العلمية مثلما نتذكرها، وهو مُحال.٨ ولكن على الرغم من أن الذاكرة ليست هي والإحساس ملَكةً واحدة، فإن أفلوطين قد أكد أهمية الانتباه بوصفه عاملًا هامًّا من العوامل التي تعين على التذكر. فقد تمر على المرء أشياء عارضة لا ينتبه لها، فلا يتذكرها، وذلك مثلما يحدث حين يسير المرء نحو وجهة معلومة، أن ينسى ما مر به خلال الطريق لانتباهه إلى الهدف الذي يقصده.٩ فالذاكرة، مع كونها مختلفة عن ملكة الإحساس، تزداد قوةً بازدياد الانتباه.
أمَّا علاقة الذاكرة بالملَكة المخيِّلة، فتختلف تبعًا للموضوعات التي تُتخيَّل؛ فالأشياء المحسوسة يكون تذكرها بإدراك صورتها التي حَفِظَتها المخيلة، أي إن الشيء إذا غاب وظلت صورته في الملكة المخيِّلة، كان إدراك هذه الصورة تذكرًا لذلك الشيء، بحيث يتفاوت التذكُّر تبعًا لمدى ثبات الصورة وبقائها.١٠ وإلى هذا الحد يتفق أفلوطين مع أرسطو. أمَّا حين ينتقل إلى بحثِ تذكُّر المعاني العقلية، فإنه لا يعترف بوجود صورة في الخيال لهذه المعاني العقلية يتم التذكر بواسطتها، كما قال أرسطو. فليست لهذه المعاني صورة إلا إذا كانت هذه صور الصيغة اللفظية التي يُعبَّر بها عنها، أمَّا الفكر ذاته فلا صورة له.١١ وعلى ذلك فالمحسوسات يكون تذكرها بالمخيلة، وبما يتبقى فيها من صور، أمَّا المعقولات فلا صورة لها إلا من ناحية ألفاظها فحسب؛ وبالتالي تكون الذاكرة الخاصة بها ملكة مستقلة عن المخيلة.
والذاكرة قد تكون شعورية أو غير شعورية. وقد فرق أفلوطين بين هذَين النوعَين، فقال بوجود نوع من التذكر لا يدرك فيه المرء حاليًّا أنه يتذكر، فيتابع ميولًا سابقةً دون أن يشعر بذلك. ثم يقول: إن الذاكرة التي تتم عن وعي أقوى بكثير من الأخرى؛ لأن النفس حين تشعر بأنها تتذكر، تحتفظ باتجاهها الخاص نحو ذاتها، وتشعر بالفارق بينها وبين الموضوع الذي تتذكره، أمَّا إذا جهلت أنها تتذكر، فمعنى ذلك أنها تنصرف كليةً إلى موضوع تذكرها١٢ وتنسى نفسها في غمار هذا التذكر. ولا جدال في أن وصول أفلوطين إلى فكرة الوعي أو الشعور conscience يدل على تقدم كبير في ميدان البحث النفسي لديه، فاق به مَن سبقه من فلاسفة اليونان.

الانفعال

يَفترض الانفعال وجد الجسم، بخلاف الذاكرة. فلا يمكن أن ينتاب النفسَ انفعال لو كانت مفارقة لبدنها، وإنما يكون للجسم فيه دور أساسي، وكلما ازددنا تمسكًا بالجسم واهتمامًا به، ازداد تأثرنا بالانفعال. وليس معنى ذلك أن الجسم وحده يمكن أن ينفعل، إذ إن الجسم بغير النفس لا يكون حيًّا، فلا يستشعر شيئًا.١٣ فالانفعال إذن ينتمي إلى المركَّب من نفس وجسم، وإن كان بالطبيعة الجسمية ألصق. والدليل على ذلك أن الرغبات تتباين باختلاف الأعمار؛ فرغبات المرء في طفولته، غيرُها في شبابه، غيرها في كهولته، وذلك كله راجع إلى اختلاف البدن وأحواله في كلٍّ من هذه المراحل.١٤ وكذلك الحال في انفعالٍ كالغضب؛ فالغضب من جهة يرتبط بالنفس؛ لأن المرء لا يغضب إلا إذا أدرك أو عَلِم شيئًا هو موضوع غضبه. وكثيرًا ما يغضب المرء لشيء لم يمسَسْه هو، بل عرَفه من بعيد. ولكن الغضب من جهة أخرى مرتبط بالجسم؛ «فالاستعداد الطبيعي للغضب ناتج عن تركيب البدن، فمن كانت مرارته ودمه حارَّين، كان أكثرَ تعرضًا للغضب، ومن لم يكن حارَّ المرارة، أي كان باردًا كما يُقال، كان أقلَّ تعرُّضًا للغضب.» فالغضب إذن يرتبط أصلًا بالقوى البدنية، ويتحكم فيه الدم والمرارة، لا القوة الغاذية وحدها، ولكنه يقتضي نوعًا من الإدراك والتعقل؛ بدليل أن أفلوطين قد تكلم عن نوعَين من الغضب؛ أحدهما يبدأ بالجسم فيثير النفس فيما بعد، والآخر يبدأ بالنفس حين تُفكر في ظلم وقع، فتثير الجسم.١٥
ويُعلِّل أفلوطين الألمَ تعليلًا طريفًا؛ فحين تجتمع طبيعتان متباينتان كالنفس والجسم، ويَعوق اتحادَهما شيء، ينشأ عن ذلك الألم. فالجسم بوصفه طبيعة أدنى من النفس، يحاول أن يتلقَّى منها شيئًا، ولكنه لا يستطيع بطبيعة الحال أن يتشبَّه به تمامًا، وهكذا يظل يتأرجح، فلا هو بالطبيعة العليا كالنفس، ولا هو يرضى بأن يظل كما كان، ومن هذا الاضطراب والتأرجح ينشأ الألم.١٦ فالألم إذن ناشئ عن تلك الطبيعة الدنيا للجسم، الذي يبدو له على الدوام نقصه بالقياس إلى النفس، أي إنه هو «العلم بانحدار الجسم الذي هو بسبيل أن يُحرَم من سَوْرة النفس التي يملكها.»١٧ أمَّا اللذة فهي نقيضه، أي «علم الكائن الحي بعودة صورة النفس إلى جسمه»، ويعني بذلك عودةَ الانسجام إلى ذلك المركَّب من الجسم والنفس. وهكذا لا يمكننا أن نقول إن اللذة والألم إحساسات خالصة، ما دامت النفس تتدخل بينهما، كما أنهما من جهة أخرى ليسا مجرد تأثرات للنفس، وإنما يجمعان بين الطبيعتَين.
والألم يبدأ في الجسم؛ لأنه ينفعل، ولكن النفس هي التي تُحدِّد موضع الألم، أمَّا الجسم فليس في وُسعه هو وحده أن يُحدِّد ذلك. فلا بد إذن في حالة الألم، من أن يتأثَّر الجسم، ثم تُحِس النفس. وليس صحيحًا أن النفس هي ذاتها التي تتأثر، فلو صح ذلك لشَمِلها التأثر كلها، ولما استطاعت أن تحدد موضع الألم؛ فإحساس النفس ليس هو ذاته التألم، بل هو معرفةٌ به، وتحديد لمكانه؛ ولو كانت النفس هي ذاتها التي تتأثر بالألم، لأخفقَت في أداء وظيفة المعرفة هذه؛ لأن ما يتألم لا يُحسِن نقل المعرفة دون تحريف؛ إذ إن «الرسول الذي يسير وفق هواه، لا ينقل الأنباء على الإطلاق، أو على الأقل يحرفها.»١٨

الإحساس Aisthesis

الإحساس بدوره يستلزم وجود جسم، ودور الأعضاء البدنية فيه أساسي؛ إذ إن إدراك المحسوسات يقتضي استخدام وسائط من نوع هذه المحسوسات.١٩ فليس لنا من جهةٍ أن نجعل من الإحساس عملية جسمية بحت؛ إذ إن هذا يؤدي إلى الوقوع في تلك المادية التي تَنظر إلى الإحساس على أنه انطباع علامات على الجسم أو انفعال سلبي، وهي فكرة ينقدها أفلوطين بشدة؛ فالإحساس إيجابي energeia تشترك فيها النفس فعليًّا؛ بدليل أنها تقوم بالتمييز بين مختلِف الإحساسات. ثم إن كل إحساس على حدةٍ لا يمكن أن يُفسَّر بالانطباع الجسمي. ففي حالة البصر نُدرِك الأشياء عن بُعد، بينما الانطباع يستلزم التلاصق المادِّي. كما أننا نَعزو إلى ما نراه مسافة وبُعدًا، وحجمًا، قد يكون هائلًا، وهذا كله محال لو كان الإبصار انطباعًا ماديًّا؛ لأن الصورة المنطبعة صغيرة، ثابتة فينا. والواقع أننا لو قرَّبنا الشيءَ من العين إلى حد الالتصاق بها لاستحالت الرؤية، مما يقطع بأن التلاصق المادي ليس هو سببَ الإبصار؛ «ذلك لأنه لا بد في الإبصار من شيئَين: شيء يرى وشيء يُرى. فإذا كان ما يرى متميزًا عمَّا يُرى، فعندئذٍ ينبغي ألا يكون ما يُرى في نفس مكان ما يرى؛ وبالتالي ينبغي ألَّا يكون فيه. فنحن لا نرى ما يوجد في النفس التي ترى، بل ما لا يوجد فيها، وذلك هو شرط الإبصار.»٢٠ فالإحساس يقتضي إذن إيجابية النفس، وليس سلبيًّا على طول الخط؛ لهذا لم يكن في وُسعنا أن نَعزوه إلى الجسم وحده.
ولكن ليس لنا من جهة أخرى أن ننسب الإحساس إلى النفس وحدها؛ إذ إنه كما قلنا متعلِّق بالمحسوسات التي يجب أن تُدرِكَها النفس بما يُشبهها، وأن تستخدم الجسم من أجل ذلك. ولو تُرِكَت النفس وحدها لما أدركت أي شيء إدراكًا حسيًّا؛ إذ إنها حين تكون وحدها لا تدرك سوى أفكارها الخاصة وحدها. فلا بد في الإدراك الحسي من شروط ثلاثة؛ الموضوع الذي يُدرَك، والنفس، والعضو البدني الذي هو واسطة الإدراك. وهذا العضو البدني هو الذي يتلقى الصورة المحسوسة وينقلها إلى النفس،٢١ فهو الواسطة بين الموضوع الخارجي وبين النفس.
فإذا بحَثنا في الحواسِّ كل منها على حدة، وجدنا أفلوطين يُولي اهتمامًا كبيرًا لحاسة البصر، ويُخصِّص لها معظم المقال الخامس من هذه التساعية. ولقد كان همه الأكبر متجهًا إلى نقد فكرة الوسط الهوائي، الذي قيل إنه هو الشرط الأول للإبصار. ولا شك أنه في هذا كان يهدف إلى تفنيد آراء الرواقية، مثلما يفعل في كثير من بحوثه المتعلقة بالنفس؛ إذ إن مادية الرواقيين جعَلتهم يدينون بفكرة الوسط المادي الذي هو وسيلة الإحساس. والقول إن الإحساس هو انطباع علامة مادية، يقتضي وجود وسط مادي ينقل هذه العلاقة حتى تصل إلى الجسم، ومن هنا قالوا بالهواء أو الشعاع المضيء بوصفه وسطًا للإبصار. فالإبصار عند كريسيوس، يتم بأن يخرج من إنسان العين نفَس pneuma مركَّب من هواء ونار حية، وينتشر هذا النفَس في الهواء على صورة مخروط تَمسُّ قمتُه العين، وينقل إلى العين صورَ الأشياء التي يقابلها، بعد أن يتأثر هذا النفَس بالوسط الذي يخترقه. وهكذا علَّل ضعف الإبصار عن بُعد، وصِغَر صور الأشياء البعيدة، بأن لهذا النفَس بُعدًا محدودًا يضعف بالتدريج، حتى يتلاشى.٢٢ ولما كان هذا الرأيُ مرتبطًا بنظرتهم المادية إلى النفس، فقد عمل أفلوطين على أن يوجه إليه نقده، وساق لذلك النقد الأدلة الآتية:
  • (١)
    الدليل الأول على القول بالتعاطف. فالإحساس يُفسَّر عنده بالتعاطف بين جميع أجزاء الكون الواحد، وهذا التعاطف يتم سواءٌ أكان بين هذه الأجزاء وسطٌ أم لم يكن، بل إن وجود الوسط يُقلِّل من التعاطف ويعوقه.٢٣
  • (٢)

    والوسط الذي هو الهواء، لو كان هو واسطة الإبصار، لوجب أن ينفعل في حالة الإبصار، ولكن الذي يحدث أن الشعاع يُشتِّته فحسب، ولا يجعله ينفعل أو يتأثر. ولو كان الهواء هو الذي يتأثر، لاكتفينا في حالة الإبصار بإدراك الهواء القريب من العين، ولما كانت بنا حاجة إلى أن نُولِّيَ وجهنا شَطر الشيء المدرَك.

  • (٣)
    كما أنه ليس من الضروري أن يكون الوسط مضيئًا حتى تتم الرؤية؛ إذ إننا نرى الأجسام المنيرة البعيدة من خلال الظلمة، مما يؤكد أن الوسط ليس عاملًا من عوامل الإبصار؛ لأن ظلامه لا يمنع من الرؤية.٢٤
  • (٤)

    والقول بانطباع علامة الشيء في الهواء، أي في الوسط، يستتبع أن النفَس لا ترى إلا علامةً معادِلة لحجم إنسان معين، بينما الواقع أنها تُدرِك الأبعاد الكبرى، وكذلك تدركها كل النفوس الأخرى، مما يؤكِّد أن العلامة المنطبعة في الوسط ليست هي علةَ الإبصار.

  • (٥)

    ثم إن الضوء الذي ينبعث من الأجسام ليس في حاجة إلى مطيَّةٍ تَنقله، أي إلى وسَط هوائي؛ فمن طبيعة الضوء أن ينتشر في خط مستقيم، وإذا كان يستخدم الهواء في انتقاله، فما ذلك إلا بالعرض؛ لوجود الهواء بين الأجسام فحسب، ولو كان محل الهواء خلاءً، لما منع من انتشار الضوء. والجسم الذي يصدر عنه الضوء له فاعلية خاصة، ومن طبيعة فاعليته أن تُصدِرَ هذا الضوء، سواءٌ وُجِد الوسط أم لم يُوجَد.

  • (٦)

    ولو نظرنا إلى الهواء على حقيقته لوجدناه في الواقع عائقًا للضوء بما يعلق به من غبار مُعتِم، ولا يمكن أن يكون ناقلًا له.

ومن هذا كله يتضح لنا أن الضوء مرتبط بمصدره، وأنه لا يحتاج إلى وسط ناقل له، وأن تفسير الإبصار بوجود وسط يتأثر فينقل الصورة من الشيء المرئيِّ إلى العين، هذا التفسير معقَّد بلا داعٍ؛ لأن الضوء ينتقل مباشرة من المرئي إلى العين، دون الحاجة إلى وسط. والواقع أن كلامنا عن «انتقال الضوء» هو من باب المجاز؛ لأن الضوء في حقيقة الأمر لا جسمي، وإن كان فعلًا لجسم،٢٥ وهو أشبه بالصورة في المرآة ناتجة عن فعل الشيء المادي الذي هو صورته، وإن كانت هي ذاتها غير مادية. فالضوء إذن فعل يمتد من الأجسام، ولا يمكن أن ينتقل على صورة مادية في الهواء.
وكما ينقد أفلوطين فكرة الوسط في الإبصار، كذلك ينقدها في السمع؛ إذ إن الرواقيين قالوا بوجود وسط في حالة السمع أيضًا، بحيث تُصدِر الأذن نفسًا سمعيًّا، ينتشر في موجات دائرية حول الرأس، مُشابِهة للموجات التي يبعثها حجر يُلقى به في الماء. ولكن لو كان الهواء هو الوسطَ الذي لا يتم بدونه انتقال الأصوات، لما أمكننا تمييزُ الأصوات المختلفة؛ لأن الهواء في هذه الحالة يتذبذب على نحو واحد،٢٦ وإن اختلف فسيكون اختلافه في الكم، بينما الأصوات التي نسمعها تختلف في الكَم والكيف معًا، لا في الكَم وحده (ويُلاحَظ هنا تناقضه مع فَهمنا الحاليِّ لطبيعة الذبذبات الصوتية). كما أن الصوت قد يُسمَع دون وجود هواء «كما يحدث مثلًا حين نَثْني مفصلًا، فتحتكُّ العظام بعضُها ببعض، وتُسمَع أصوات كسر، دون أن يكون هناك هواء على الإطلاق.»٢٧

فالسمع، كالإبصار، لا يستلزم وسطًا معترضًا يقوم بنقل الأصوات. وبهذا يُتِم أفلوطين الحديث عن الإحساس، وينقد الآراء الشائعة التي قامت في أغلب الأحيان على أساسٍ من المادية الساذَجة.

١  IV, 3, 26.
٢  IV, 6, 3.
٣  IV, 3, 32.
٤  IV, 4, 1.
٥  IV, 3, 25.
٦  IV, 4, 12.
٧  IV, 4, 4.
٨  IV, 3, 25.
٩  IV, 4, 8.
١٠  IV, 3, 29.
١١  IV, 3, 30.
١٢  IV, 4, 4.
١٣  IV, 4, 18.
١٤  IV, 4, 21.
١٥  IV, 4, 28.
١٦  IV, 4, 18.
١٧  IV, 4, 19.
١٨  Ibid.
١٩  IV, 5, 1.
٢٠  IV, 6, 1.
٢١  IV, 4, 23.
٢٢  Rivaud …, p. 378.
٢٣  IV, 5, 2.
٢٤  IV, 5, 3.
٢٥  IV, 5, 7.
٢٦  IV, 5, 5.
٢٧  Ibid.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤