خلود النفس
تحدث أفلوطين في المقال السابع من هذه التساعية عن خلود النفس. وقد اهتم في النصف
الأول من ذلك المقال بدحض الآراء القائلة بمادية النفس، أو بارتباطها الوثيق بالمادة،
وهي الآراء التي عرضناها عند الحديث عن ماهية النفس. وإذا كان لنا أن نستدل من هذا
الاهتمام الكبير على شيء، فهو أن أفلوطين قد ساير الرأي التقليدي، الذي بدأ منذ
أفلاطون، بل ربما قبله، والذي يعتمد في إثبات خلود النفس على القول بأنها لا مادية
بسيطة. ولما كانت المادة وحدها هي التي يسري عليها التحلل والكون والفساد، فإن النفس
خالدة بالضرورة. ولقد عبر أفلوطين عن برهان البساطة هذا تعبيرًا واضحًا بقوله: «إن كل
ما يتضمن من أجل وجوده تركيبًا، يتحلل إلى العناصر التي يتركب منها، غير أن النفس طبيعة
واحدة، بسيطة … فهي إذن لن تفنى.»١
ومن أهم البراهين التي استمدها أفلوطين من التراث الأفلاطوني، برهان الحياة؛ فالنفس
تهب الحياة للجسم، ولكن من أين تستمد هذه الحياة؟ إنها لا تَستمدها إلا من ذاتها؛
فالحياة كامنة فيها، والنفس مبدأ الحياة الدائمة، فلن تفقد هذه الحياة في وقت من
الأوقات، أي إنها لن تفنى؛ «إذ ليست حياة كل الأحياء مستفادة، وإلا لسِرْنا هكذا إلى
ما
لا نهاية، فلا بد من طبيعة حية منذ البداية، ينبغي أن تكون غير فانية وأزلية؛ لأنها
مبدأ الحياة لسائر الأحياء»،٢ فهنا تَكرار لذلك البرهان المشهور الذي قال به أفلاطون في «فيدون»؛ لأنه ما
دامت النفس هي مبدأ الحياة، لا تستمدها من الخارج، فمن المحال أن نفقد هذه الحياة،
وبهذا يثبت خلودها.
والنتيجة التي نستخلصها من ذلك هي أن أفلوطين قد اقتدى بأستاذه الأول أفلاطون، في
براهينه المشهورة على خلود النفس، وأن البحث العقلي ينتهي بي إلى القول بأن الحياة
والوجود صفة كامنة في النفس، وما يتصف دائمًا بالحياة يكون خالدًا بالضرورة؛ إذ إن «ما
يملك الوجود من ذاته، ومنذ بداية الأمر، إنما يكون موجودًا دائمًا.»٣ وطالما ظل الموجود وحده فإنه يحيا حياة خالصة، أمَّا إذا اتحد بغيره، فلن
يكف عن الحياة، بل سيكون هذا الاتحاد مجرد عقبة في طريقه، يحاول خلالها أن يستعيد حالته
الخالصة الأولى بأسرعِ ما في استطاعته.
وإذن ففي الميدان العقلي لا نستطيع أن نقول إن أفلوطين قد أتى في هذا المضمار بجديد.
ولكنه لا يكتفي بهذه البراهين العقلية على خلود النفس، بل يتحدث عن دليل آخر يتمشى مع
نزعته الصوفية. فأنت لا تؤمن بخلود نفسك؛ لأنك تراها مُثقَلة بالجسم ورغباته، ولكنك إذا
شئت أن تدرك طبيعة النفس على حقيقتها فلا تتأمَّلْها وهي مختلطة بالجسم، وإنما عليك أن
تحاول تجريدها من هذا العنصر الغريب عنها، وأن تنظر إليها في ذاتها. ولما كانت حياتُنا
في هذا العالم مرتبطة بالجسم ضرورة، فإن الوسيلة الوحيدة لإدراك طبيعة النفس الخالصة،
هي أن تُطهِّر نفسك من التعلق بالجسم، وتدربها على التأمل الخالص للحقائق العليا، التي
هي واحدة منها. وعندئذٍ، حين تصل النفس بعد هذه التنقية الصوفية إلى تأمل المعقولات،
وحين تُشاهد ذلك العالم الإلهي العلوي، وتعلم أنها تنتمي في أصلها إليه، ستوقن حقًّا
بأنها خالدة.٤ وهنا لن نكون بحاجة إلى براهينَ فعلية واستدلال تدريجي لنثبت خلود النفس،
بل يكفي أن تتأمل النفسُ ذاتَها بعينها الباطنة لِتُدرِك طبيعتها الحقة، التي هي من نوع
إلهي لا يتطرق إليه الفناء. فالاستغراق في التأمل الصوفي الباطنيِّ وسيلة تَتثبَّت بها
النفس من خلودها. وهنا نجد أفلوطين لا يكتفي بالبراهين العقلية الاستدلالية، بل يكملها
بهذا اليقين الصوفي الباطن، الذي يتمشى مع نزعته العامة في تكملة العقل، إذا قصر،
بالالتجاء إلى العيان الصوفي المباشر.٥
ومع ذلك، فإن أفلوطين لا يكتفي أيضًا بهذا النوع الثاني من البرهان، بل يأتي، من
بعد
البراهين العقلية والشواهد الصوفية، ببرهان ديني مُستمَد من المعتقدات الشائعة في عصره.
فلو كانت النفوس فانية، لما أمرَتْنا الآلهة بتهدئة نقمة النفوس التي أُسيء إليها خلال
حياتها، ولما دعَتنا إلى تكريم الموتى وتبجيلهم. وإن النفوس التي رحل أصحابها لَتَظل
تؤدي إلينا نفعًا جزيلًا؛ إذ تُعلِّمنا أشياء كثيرة، وتأتي لنا بنبوءات قيِّمة … تلك
هي
الشواهد التي يستمدها أفلوطين من المعتقدات الشائعة، والتي يحرص على أن يُورِدَها في
ختام مقاله عن خلود النفس، وكأنه لا يريد أن يترك ذلك الموضوع دون أن يستند فيه إلى تلك
المعتقَدات الذائعة في عصره، والتي كان يركن إلى تأييدها في كثير من الأحيان. وليس لنا
أن نُدافع عنه في هذا الصدد، بالقول إنه كان يجاري عصره فحسب، في الإتيان بهذه الشواهد؛
فالواقع أنه لم يكن مضطرًّا إلى ذلك؛ لأن في براهينه العقلية والصوفية الكفاية. ومما
له
دلالته أنه يُسَمِّي هذه الشواهد الحرفية «دليلًا ملموسًا»،٦ وكأن هذه المعتقدات الشائعة قد ثبَتَت وشُوهِدَت لدى الجميع، وأصبحت هي
وحدها التي تُقدِّم لنا الدليل المحسوس على خلود النفس … وعلى أية حال ففي هذه الإضافة
الأخيرة نرى أفلوطين مرة أخرى متمشيًّا مع خرافات عصره دون محاولة للنقد أو
التنوير.
١
IV, 7, 12.
٢
IV, 7, 9.
٣
Ibid.
٤
IV, 7, 10.
٥
IV, 7, 15.
٦
IV, 7, 15.