ملحق (١): المبادئ البذرية١

أول شرح واضح لفكرة المبادئ البذرية عند اليونان، هو ذلك الذي أورده أرسطو في الفصل الرابع من الجزء الأول من كتاب الطبيعة، شارحًا فيه فلسفة أنكساجوراس الطبيعية؛ ففي رأي أنكساجوراس أن الأنواع المختلفة التي تتكون منها الموجودات، كالعظام واللحم والحديد والخشب، تُوجَد من قبل مُشكَّلة كما هي، ولكن في كُتَل صغيرة إلى أبعد حد. أمَّا العناصر الحالية التي نراها، كالهواء والماء، فليست عناصرَ أولية بالمعنى الصحيح، بل هي تجمُّعات عظيمة التعقيد، من هذه الجواهر الأولى، وإذن فتكون كل جسم من الأجسام الحاليَّة إنما يرجع إلى هذه الدقائق الصغيرة التي تتكون منها الأجسام الطبيعية بذورًا spermata.

وأَولى الرِّواقيون هذه الفكرةَ مزيدًا من العناية؛ فهم يُفسِّرون الخلق بأنه أشبهُ بظهور الخصائص الكامنة في البذور ونموها؛ إذ إن الفكرة التي لدى الله عن الأشياء، والتي يسعى إلى تحقيقها بخلق هذه الأشياء، هي أشبه ببَذْرة يتولد عنها ذلك الشيء بالضرورة في الوقت المحدد، ومن هنا أطلَقوا على هذه الأفكار الفاعلة التي تَنتج عنها الأشياء اسمَ «المبادئ البذرية». وهذه المبادئ الفاعلة تنتشر في الكون بحيث يكون لكلِّ كائنٍ مبدؤه البذريُّ الذي يُفسِّر توالد الأفراد وبقاء الجنس؛ فلكل إنسان مبدأٌ بذري مزدوج، تنطوي عليه أجسام الوالِدَين ونفوسهما. ويُولَد الطفل شبيهًا بأحد والِدَيه تبعًا لتغلُّب بذرة الأب أو الأم. وتَظهر هذه البذرة مرة أخرى في الأبناء، حاملة معها كل الصفات التي سيظهر عليها الموجود المقبِل، وهكذا …

وتعود الفكرة إلى الظهور مرة أخرى عند أفلوطين، على نحوٍ لا يدَع مجالًا للشك في أنه قد استمدها من الرواقية. ولهذه الفكرة عنده أهمية كبرى، فمن أهم الأغراض التي تؤدِّيها في مذهبه:
  • (١)
    أنها حلقة الاتصال بين العقل وبين العالم المحسوس، فلا شك أن العقل هو الذي يُدبِّر العالم المحسوس وينظمه، بما فيه من أفكار أو مُثُل. غير أن أفلوطين يودُّ دائمًا أن يُبقيَ لهذا العقل ترفُّعه وعلوَّه، فلا يقبل على الإطلاق أن تهبط أفكاره إلى هذا العالم؛ لهذا كان لا بد من وسائطَ تؤدِّي مهمة تطبيق أفكار العقل ومُثلِه على هذا العالم، تكون أشبه «بانعكاسات» له، تنتقل أوَّلًا إلى النفس الكلية، ومن هذه إلى العالم. وهذه المبادئ لا تظهر في النفس الكلية متدرجة، أو على التوالي، وإنما تكون حاضرة فيها في وقت واحد، ولكنها حين تُطبَّق على الموجودات المحسوسة، تظهر فيها بالتدريج؛ «ففيها (في النفس الكلية) تُوجَد كل المبادئ البذرية في وقت واحد … ونواتجها لا تظهر في نفس الوقت، ولا في نفس المكان، ولكن المبادئ تُوجَد معًا؛ فالأرجُل والأيدي التي تُوجَد معًا في المبدأ البذري للإنسان، تُوجَد منفصلة في الجسم الإنساني.»٢
  • (٢)
    وعلى ذلك فالنفس الكلية تنطوي على كل المبادئ التي هي أصل نشأة الموجودات الجديدة، والتي يسميها أفلوطين أحيانًا بالمبادئ المولدة gennetichoi.٣ وهذه المبادئ تُوجَد في النفس الكلية من جهة على هيئة أفكار عقلية noemata، بحيث تكون هي القدرة المصورة للموجودات، تُضْفي عليها أشكالها وصورها المستمدة من العقل. وفي هذا المعنى يقول أفلوطين: «وقِوام هذا القانون (الذي تخضع له كل الموجودات) هو المبادئ البذرية الصادرة عن العالم المعقول، والتي هي علل كل الكائنات، وعلل حركات النفوس وقوانينها.»٤ وعلى هذا الأساس يكون القول إن كل شيء قد تكوَّن من الصور البذرية مرادفًا — كما لاحظ تسلر — للقول إن المحسوس هو انعكاسٌ للنفس، وإن كان التعبير الأول ملموسًا بالقياس إلى الثاني؛٥ إذ إن انعكاس النفس على العالم المحسوس إنما يتم بهذه الصور البذرية.
  • (٣)

    غير أن هذه المبادئ ليست مجرد أفكار فحسب؛ إذ إنها لو كانت كذلك لما كانت لها فاعلية أو تأثير على المادة؛ لأن التأثير على المادة لا يتم بمجرد أفكار أو بمعرفتها فحسب، فلا بد أن تكون في هذه المبادئ قوةٌ قادرة على أن تُؤثِّر في المادة، أي أن تكون فيها قدرةٌ على الفعل بجانب كونها صورًا لأفكار، فتتم بذلك تشكيل المادة طبقًا لأفكار العقل. وعلى ذلك فالمبادئ البذرية الفاعلة هي أصلُ تكوُّن الموجودات، ووسيلة انتقال خصائص النوع من جيل إلى جيل.

بقيت كلمة عن الترجمة العربية لهذا المصطلح، وقد آثرنا أن نُرجِئها إلى ما بعد توضيح معناه؛ حتى يبعد عن الذهن المعنى الحرفيُّ له. فلو تُرجِمَت كلمة logoi بمعنى «عقول» أو «كلمات»، كما هو الشائع، لبَعُدَ المعنى المقصود عن ذهننا كثيرًا. وقد ترجَم العرب هذا المصطلح، في كتاب الربوبية الذي اقتبس كثيرًا من نصوص التساعيات الأفلاطونية؛٦ ترجموه بقولهم «كلمات» … ولنتأمل النص الآتي: «… بل إنما تُشبِه كلمات العالم، الكلمات المدنية التي تضم أمور المدنيَّة وتضع كل شيء منها في موضعه … والسنة هي التي تسوق إلى الخير، وكذلك الكلمات التي في العالم تسوق الأشياء إلى الخير؛ لأنها في العالم كالسنة في أهل المدينة»،٧ وهذه الفقرة منقولة — بالتصرف المأثور عن هذا الكتاب — من الفقرة الآتية: «وإن المبدأ الفاعل في الكون لَأشبهُ بعقل يُضفي النظام والقانون على مدينة؛ لأنه يعلم مقدَّمًا أفعال المواطنين ونواياهم …»٨ وهنا نجد أن ترجمة العرب للفظ logoi ﺑ «كلمات» قد شوهت المعنى إلى حد بعيد، وذلك باستخدام ألفاظ غامضة لا تدل على شيء، مثل «كلمات العالم» و«الكلمات المدنية»؛ فالترجمة الحرفية لا تُجدي في هذه الناحية.
وفي موضع آخر يزيد الكتاب اقترابًا من فكرة المبادئ البذرية فيقول: «فإن كانت النفس ليست بإنسان، فينبغي إذن أن يكون الإنسان كلمة غير كلمة النفس. فإن كان ذلك كذلك، فما الذي يمنعنا أن نقول إن الإنسان هو المركب من نفس وجسم؟ فإذن تكون النفس ذات كلمة ما من أنواع الكلم. وإنما أعني بالكلمة الفعل؛ وذلك أن للنفس فعلًا من أنواع الفعل، ولا يمكن أن يكون الفعل من غير فاعل. وكذلك يكون الكلمة التي في الحبوب، فإن الحبوب ليست بلا نفس. وأنفس الحب ليست بأنفس مرسلة؛ وذلك أن لكل حب من الحبوب نفسًا غير نفس صاحبه، وتحقيق ذلك اختلاف فواعلها. وإنما قلنا إن للحبوب أنفسًا لأن الكلمات الفواعل التي فيهن ليست بأنفس. وليس بعجب أن يكون لهذه كلها كلمات، أعني أن تكون فعالة؛ وذلك أن الكلمات الفواعل إنما هي أفاعيل النفس النامية … فإن كانت النفس على هذه الصفة، أي إن فيها كلمات فواعل، فلا محالة أن في النفس الإنسانية كلماتٍ فواعلَ تفعل الحياة والنطق.»٩
هنا نجد المعنى قد ازداد وضوحًا؛ إذ تصبح هذه «الكلمات» هي مبادئَ الفعل، في الحبوب، أي البذور، كما في النفس الإنسانية. والترجمة صالحة من حيث وجودُ كلمة «فواعل»؛ لأن هذه المبادئ البذرية هي حقًّا الأصل الفعال لتكوين الأنواع المختلفة، كما أوضحنا من قبل، غير أن وجود لفظ «كلمات» يُشوِّه المعنى كما قلنا. والأصح أن يترجم اللفظ logoi بقولنا «مبادئ»، من حيث إن المقصود هنا مبادئُ فعالة.
وإذا شئنا مزيدًا من التأييد لهذه الفكرة، فهناك نصوص خاصة عند أفلوطين لو تُرجِمَت فيها كلمة logos بمعنى «عقل» لشوَّهَت المعنى؛ من ذلك قوله: «والظل الذي تُلقيه النفس يمتد بقدر ما يمتد المبدأ الذي يصدر عنها.»١٠

فهنا لو تُرجِم اللفظ بقولنا «العقل»، لكان التناقض واضحًا؛ لأن العقل هو الذي تَصدر عنه النفس، وليس العكس.

١  Logoi spermatichoi
٢  IV, 4, 16.
٣  II, 3, 16.
٤  IV, 3, 15.
٥  Zeller: Ibid …, S. 610.
٦  انظر الملحق الأخير من هذه المقدمة.
٧  كتاب أثولوجيا لأرسطو؛ نشرة ديتريصي، برلين، ١٨٨٢م، ص٦٤ …
٨  IV, 4, 39.
٩  أثولوجيا أرسطو، ص١٤٧ و١٤٨.
١٠  IV, 3, 9.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤