ملحق (١): المبادئ البذرية١
وأَولى الرِّواقيون هذه الفكرةَ مزيدًا من العناية؛ فهم يُفسِّرون الخلق بأنه أشبهُ بظهور الخصائص الكامنة في البذور ونموها؛ إذ إن الفكرة التي لدى الله عن الأشياء، والتي يسعى إلى تحقيقها بخلق هذه الأشياء، هي أشبه ببَذْرة يتولد عنها ذلك الشيء بالضرورة في الوقت المحدد، ومن هنا أطلَقوا على هذه الأفكار الفاعلة التي تَنتج عنها الأشياء اسمَ «المبادئ البذرية». وهذه المبادئ الفاعلة تنتشر في الكون بحيث يكون لكلِّ كائنٍ مبدؤه البذريُّ الذي يُفسِّر توالد الأفراد وبقاء الجنس؛ فلكل إنسان مبدأٌ بذري مزدوج، تنطوي عليه أجسام الوالِدَين ونفوسهما. ويُولَد الطفل شبيهًا بأحد والِدَيه تبعًا لتغلُّب بذرة الأب أو الأم. وتَظهر هذه البذرة مرة أخرى في الأبناء، حاملة معها كل الصفات التي سيظهر عليها الموجود المقبِل، وهكذا …
- (١) أنها حلقة الاتصال بين العقل وبين العالم المحسوس، فلا شك أن العقل هو الذي يُدبِّر العالم المحسوس وينظمه، بما فيه من أفكار أو مُثُل. غير أن أفلوطين يودُّ دائمًا أن يُبقيَ لهذا العقل ترفُّعه وعلوَّه، فلا يقبل على الإطلاق أن تهبط أفكاره إلى هذا العالم؛ لهذا كان لا بد من وسائطَ تؤدِّي مهمة تطبيق أفكار العقل ومُثلِه على هذا العالم، تكون أشبه «بانعكاسات» له، تنتقل أوَّلًا إلى النفس الكلية، ومن هذه إلى العالم. وهذه المبادئ لا تظهر في النفس الكلية متدرجة، أو على التوالي، وإنما تكون حاضرة فيها في وقت واحد، ولكنها حين تُطبَّق على الموجودات المحسوسة، تظهر فيها بالتدريج؛ «ففيها (في النفس الكلية) تُوجَد كل المبادئ البذرية في وقت واحد … ونواتجها لا تظهر في نفس الوقت، ولا في نفس المكان، ولكن المبادئ تُوجَد معًا؛ فالأرجُل والأيدي التي تُوجَد معًا في المبدأ البذري للإنسان، تُوجَد منفصلة في الجسم الإنساني.»٢
- (٢) وعلى ذلك فالنفس الكلية تنطوي على كل المبادئ التي هي أصل نشأة الموجودات الجديدة، والتي يسميها أفلوطين أحيانًا بالمبادئ المولدة gennetichoi.٣ وهذه المبادئ تُوجَد في النفس الكلية من جهة على هيئة أفكار عقلية noemata، بحيث تكون هي القدرة المصورة للموجودات، تُضْفي عليها أشكالها وصورها المستمدة من العقل. وفي هذا المعنى يقول أفلوطين: «وقِوام هذا القانون (الذي تخضع له كل الموجودات) هو المبادئ البذرية الصادرة عن العالم المعقول، والتي هي علل كل الكائنات، وعلل حركات النفوس وقوانينها.»٤ وعلى هذا الأساس يكون القول إن كل شيء قد تكوَّن من الصور البذرية مرادفًا — كما لاحظ تسلر — للقول إن المحسوس هو انعكاسٌ للنفس، وإن كان التعبير الأول ملموسًا بالقياس إلى الثاني؛٥ إذ إن انعكاس النفس على العالم المحسوس إنما يتم بهذه الصور البذرية.
- (٣)
غير أن هذه المبادئ ليست مجرد أفكار فحسب؛ إذ إنها لو كانت كذلك لما كانت لها فاعلية أو تأثير على المادة؛ لأن التأثير على المادة لا يتم بمجرد أفكار أو بمعرفتها فحسب، فلا بد أن تكون في هذه المبادئ قوةٌ قادرة على أن تُؤثِّر في المادة، أي أن تكون فيها قدرةٌ على الفعل بجانب كونها صورًا لأفكار، فتتم بذلك تشكيل المادة طبقًا لأفكار العقل. وعلى ذلك فالمبادئ البذرية الفاعلة هي أصلُ تكوُّن الموجودات، ووسيلة انتقال خصائص النوع من جيل إلى جيل.
فهنا لو تُرجِم اللفظ بقولنا «العقل»، لكان التناقض واضحًا؛ لأن العقل هو الذي تَصدر عنه النفس، وليس العكس.