ملحق (٢): الطبيعة١
كانت مشكلة الانتقال من العالم المعقول إلى
العالم المحسوس مشكلة رئيسية حاضرة في ذهن أفلوطين على الدوام؛ فالمبادئ البذرية، كما
رأينا، هي الأفكار الفاعلة للعقل، التي يشكل بها الموجودات وينتجها، وهذه المبادئ
موجودة في النفس الكلية. ولكن هل معنى ذلك أن النفس الكلية تتصل مباشرةً بالمحسوسات
لِتُشكِّلها عن طريق هذه المبادئ؟ لو صح ذلك لكان معناه أن أحد المبادئ العليا الثلاثة،
وهي الواحد والعقل والنفس، يهبط من مكانته العليا ليتصل بالعالم المحسوس. وهذا ما يأباه
تفكير أفلوطين، ومن هنا كان كلامه عن وجهَين للنفس الكلية؛ وجه أعلى، هو ماهية تعلو على
المحسوس، ولا تبدد ذاتها في عالم الأجسام، أو تؤثر تأثيرًا مباشرًا، ووجه أدنى، يرتبط
بجسم الكون مثلما ترتبط النفس الإنسانية بجسم الإنسان، وهذا الوجه الثاني هو الذي
يُسمِّيه بالطبيعة؛ فالنفس، بوصفها ماهية متوسِّطة بين العالَمَين، ينبغي أن تنقسم إلى
وجهَين يتصل كلٌّ منهما بعالم معين.
وهذه النفس الكلية السفلى، أو الطبيعة، تُضفي الصور التي تُنقَل إليها من النفس
الأعلى، عالم الأجسام. فهي القوة الفعالة في النفس الكلية، وهي أدنى درجات العالم
الروحي أو المعقول، وبعدها مباشرة يبدأ العالم المحسوس. وهو يقارنها بالوجه الآخر من
النفس الكلية، الذي يُسمِّيه أحيانًا بالحكمة
phronesis فيقول: «إن الحكمة هي الحد الأعلى والطبيعة الأدنى، فالطبيعة
صورة للحكمة. ولما كانت هي الجزءَ الأدنى من النفس، فإنها لا تشتمل إلا على آخر أشعة
العقل … وهكذا لم تكن الطبيعة عارفة، بل خالقة فحسب … والطبيعة هي انعكاس تلك النفس
(الكلية) على المادة، وعند الطبيعة — بل قبلها — تنتهي سلسلة الوجود الحقيقي، ونصل إلى
أدنى درجات الحقيقة العقلية. والطبيعة موجبة الفعل بالنسبة إلى المادة، سلبية بالنسبة
إلى النفس.»
٢
فالطبيعة إذن واسطةُ النفس الكلية إلى الموجودات المحسوسة، وقوتها المحركة الفعالة.
وهي الملَكة الفعالة في النفس الكلية، والوجه الخارجي من حياتها، والمظهر الذي يتبدَّى
عليه نشاطها، والذي بدونه تكون منطوية على ذاتها. ومع ذلك فالطريقة التي يوضِّح بها
أفلوطينُ كيفية إتمام الطبيعة لفاعليتها هي طريقة روحية خالصة. فالطبيعة تخلق بأن
تتأمَّل ما فوقها، أي إن التأمل هو مصدر الحياة، وهو يمتد في سلسلة الموجودات من أعلاها
إلى أدناها. وبقدر ما يضعف تأمل الموجود لما فوقه، يقل خلقه. ورغم أن في هذا التفسير
تمشِّيًا مع تفكير أفلوطين العام، فلا شك أنه لم يعرف كيف يوفِّق بين العالَمَين، وكيف
يجعل من الطبيعة مبدأً روحيًّا أدنى، يتصل بالمادة، وفي نفس الوقت يستمد فاعليته من
تأمله لما فوقه. فإذا سلَّمْنا بمبدأ التأمل فستظل مشكلة الاتصال بالمادة قائمة لم
تُحَل.
ولا شك أن استخدام أفلوطين لكلمة الطبيعة بهذا المعنى يبدو مخالفًا لكل المعاني التي
اعتدنا أن نفهم بها هذه الكلمة؛ فأولُ معنًى يتبادر إلى الأذهان، في استخدامنا الحاليِّ
للكلمة، هو أن الطبيعة مجموع الموجودات. ولم يكن ذلك المعنى ماثلًا في ذهن أفلوطين؛ فهو
يُطلِق على مجموع الموجودات اسم «الكون» أو «العالم»، أمَّا الطبيعة فهو يقصد بها مبدأً
للحركة والفعل، فهي موجود كالنفس، ولكن في رتبة أدنى. وعلى ذلك فليس في وُسعِنا أن
نُوافق على ذلك الشرح المفصَّل الذي سرده «إنج» لفكرة الطبيعة عند بقية فلاسفة اليونان
السابقين على أفلوطين، لِيُثبِت به أن أفلوطين قد أضاف معنًى جديدًا إلى معانيهم
السابقة، وأن حياة الطبيعة عنده هي ارتفاع إلى أعلى، وصعود نحو أنواعٍ أرقى من النشاط،
بينما الفلاسفة السابقون لم يهتدوا إلى هذا المعنى، أو بوصفها مادة حيَّة، كما قال
الطبيعيون الأولون.
٣ فهذه المقارنة في رأينا فاشلة؛ لأن أفلوطين لم يسِر في نفس الطريق الذي سار
فيه فلاسفة اليونان بالنسبة إلى تصوره لفكرة الطبيعة، ولا وجه للمقارنة بينه وبينهم؛
فهؤلاء ينظرون إلى الطبيعة بوصفها مجموع الموجودات، أمَّا هو فلم يفهم الطبيعة على أنها
جوهر، وإنما هي وجه من أوجه النفس الكلية، أو قوة من قواها.