ملحق (٣): التعاطف
من أهم الأفكار التي استعان بها أفلوطين في أبحاثه الطبيعية، فكرة التعاطف. وهذه الفكرة رواقية الأصل، كما أن استخدامها عنده إنما كان لأغراض تشبه إلى حد كبير تلك التي استخدمها الرواقيون من أجلها، مما يدل على أن أفلوطين — رغم نقده الدائم للمذهب الرواقي — قد استفاد منه كثيرًا، وخاصة في أبحاثه الطبيعية.
وأصل فكرة التعاطف، عند أفلوطين كما عند الرواقية، هو الاعتقاد بأن الكون كائن حي واحد. فإذا طبقنا على الكون نفس الصفات التي نراها في الكائنات العضوية، فسنجد أن كلًّا من أجزاء الكون «يتعاطف» مع الآخر، أي يتقارب منه في الشعور، ويُكوِّن معه وحدة واحدة. ولو بحثنا عن الصفة المميزة للكائن العضوي الحي، لوجدناها صفة الوحدة التي تجمع بين كل أجزائه وإن بَعُدَت. فكل جزء في البدن الحي مستقل يؤدي وظيفته الخاصة، ولكنه في نفس الوقت يتضافر مع المجموع من أجل تحقيق غاية واحدة، ويُحِس بتقاربه مع بقية الأجزاء.
ولهذه الفكرة، إذا طُبِّقَت على الكون، استعمالات عديدة. والواقع أنَّا نجدها عند أفلوطين تُؤدِّي عدة أغراض متباينة، فهي المفتاح الذي كان يعالج به كثيرًا مما استعصى عليه من المشاكل. فالفكرة تستخدم عنده لتبرير السحر؛ إذ إن السحر يمكن أن يُفسَّر عقليًّا — في رأيه — إذا تصورنا أن القوى المتعاطفة في الكون تتقارب وتخضع للقوى الشبيهة بها، التي يحاول أن يستدعيَها الساحر. وكذلك التنجيم؛ لأن الكون كلٌّ متعاطف، بحيث يمكن أن تنبئ أشكالُ أجزاء معينة منه بما يحدث في أجزاء أخرى. كذلك يبرر تأثير الدعاء والصلاة بتعاطف الكائنات العليا معنا، بحيث يُمكِنها أن تجيب رغباتنا. والإدراك الحسي أيضًا يفسر بالتعاطف؛ لأن إدراك ما هو بعيد يستحيل، في نظر أفلوطين، لو لم تكن تجمع بين الإنسان وبين ما يُدرِكه تلك الوحدةُ الناشئة عن مشاركتهما في كون عضوي واحد.
ورغم أن فكرة التعاطف قد استُغِلَّت عند أفلوطين لأغراض شتَّى، معظمها مبنيٌّ على معتقدات خرافية شائعة، فقد كانت لها قيمتها في مذهبه؛ إذ إنه استطاع بها أن يُفسِّر فكرة التأثير عن بُعد، في شتى مظاهرها، بأن يكتفيَ بالقول إنه تأثير للشبيه على شبيهه الذي يشترك معه في كونٍ حي واحد، دون أن يُضطَرَّ إلى الالتجاء إلى فكرة الاتصال المادي المباشر، فكأنه استخدم فكرة رواقية (هي التعاطف)؛ لِيُحارب بها فكرة رواقية أخرى (هي الصلة المادية التي يتم بها تأثير أي جزء من الكون على الجزء الآخر).