ملحق (٥): التساعية الرابعة وكتاب أثولوجيا أرسطو

للتساعية الرابعة التي نحن بصدد تقديمها في هذا البحث، أهمية كبرى في الفكر العربي؛ إذ إنها كوَّنت — مع التساعية السادسة — جزءًا هامًّا من كتاب الربوبية، أو «الأثولوجيا» التي نسبه العرب خطأً إلى أرسطو. ولما كان هذا الكتاب ذا تأثير كبير في التطور الأول للفلسفة الإسلامية، فليس لنا أن نُغفِل — في تقديمنا لهذه التساعية — الإشارة إلى تأثير مذهب أفلوطين على الفلسفة الإسلامية، وإلى العوامل التي ساعدت على تفهُّم الإسلاميين للفلسفة اليونانية كلها من خلال مذهبه. وسنتحدث أوَّلًا عن أسباب تأثر العرب بالأفلاطونية المحدثة، وهو التأثر الذي ظهر بوضوح في تلك الأهمية العظمى التي احتلها كتاب الربوبية في الفكر العربي. ثم ننتقل إلى الكلام عن كتاب الربوبية، وهل يرجع في النهاية إلى تعاليم أفلوطين أم إلى غيره، وأخيرًا نحدد المواضع التي تُرَد إلى التساعية الرابعة من ذلك الكتاب …

لم يكن انتقال الفلسفة اليونانية وإلى العرب — في أول الأمر — عن طريق الأفلاطونية المحدثة مجرد مصادفة عارضة. قد كانت هناك أسباب عميقة أدَّت إلى أن يكون هذا المعنى اليوناني المتأخر خير مَعْبَر ينتقل عليه الفكر اليوناني ليمتزج بالفكر العربي؛ فذلك المذهب كان بطبيعته جامعًا بين المذاهب اليونانية السابقة، لا عن طريق التلفيق، بل كوَّنَت هذه المذاهب فيه وحدةً تَسودها فكرة جديدة نابعة عن روح العصر الذي ظهر فيه، هي المزج بين الدقة العقلية والشعور الصوفي. وإذا كانت النزعة الأفلاطونية قد غلَبَت على هذا المذهب، فلا يجب أن ننسى أن أنصار الأفلاطونية في ذلك العهد كانوا هم ذاتهم من المتعمِّقين في دراسة أرسطو. ولدينا مثل واضح لذلك في شخص فورفوريوس، الذي كان أخلصَ تلاميذ أفلوطين، وفي نفس الوقت كان واحدًا من أكبر شراح أرسطو. فإذا كان العرب يرغبون في مذهب يجمع لهم خلاصة الفكر اليوناني كلِّه، ويُقدِّمه إليهم في صورة تشفُّ عن روح صوفية قريبة من أذهانهم، فتعاليم الأفلاطونية المحدَثة هي خير ما يفي بهذا الغرض. ولا شك في أن نسبة هذه التعاليم إلى أرسطو — كما حدث في كتاب الربوبية الذي نحن بصدده — أمر يسهل تعليله؛ لأن أنصار الأفلاطونية المحدثة كانوا في نفس الوقت، كما بَيَّنَّا، من شراح أرسطو ودارسيه، فلم يكن غريبًا أن يخلط بين المذهبَين، وأن تأتيَ تعاليم الأفلاطونية المحدثة إلى العرب منسوبة إلى أرسطو.

ثم إن فلسفة تَظهر في مجتمع يحتلُّ الدين فيه مكانة كبرى، كالفلسفة الإسلامية، كان لا بد أن تتجه منذ بداية الأمر إلى الأفلاطونية المحدثة، بما عُرف عنها من تأثر بالنزعات الدينية الشرقية؛ فالروح التي بدأت بها الأفلاطونية المحدثة في الظهور كانت تنطوي على لمحات دينية لا سبيل إلى إنكارها. ويكفي أن كبار المفكرين الذين مهَّدوا لظهورها كان لهم أصل ديني معروف. فتأثير الديانة اليهودية واضح كلَّ الوضوح عند فيلون. ثم إن نومينيوس، على ما يُقال، قد قارن بين تعاليم أفلاطون وموسى فلم يجد بينهما فارقًا، ومن هنا قال إن أفلاطون لم يكن إلا موسى متحدثًا باليونانية.١ أمَّا أمونيوس، مؤسس المدرسة من الناحية التاريخية، فيكفي أنه وُلِد مسيحيًّا، وظل متأثرًا بالأصل الذي نشأ منه حتى بعد أن تخلى عن المسيحية من أجل التفرُّغ للفكر الخالص. وإذن فالأفلاطونية المحدثة قد امتزجت بعناصر دينية منذ بدايتها، وإذا كانت هذه العناصر لم تَظهر واضحة في تفكير أفلوطين، فلا شك أنها قد أثرت في البيئة العامة التي ظهر فيها تفكيره، ولم يكن ممكنًا أن يتفلسف مفكر مثله دون أن يتأثر بظاهرة سائدةٍ كهذه. وهكذا توافر سبب آخر جعل الأفلاطونية المحدثة خير رسول ينقل الفكر اليوناني إلى الفلاسفة الإسلاميين.

ولْنُضِف إلى ذلك سببًا أخيرًا هو تلك المرونة التي غلَبَت على هذا المذهب؛ فقد أمكنه أن يُوفِّق بين نزعات متعارضة، كالأفلاطونية والمشائية والرواقية، فضلًا عن بعض تعاليم المذاهب الدينية. ومثلُ هذه المرونة كفيلةٌ بأن تُمكِّنه من التمشي مع التفكير الإسلامي، ومن أن ينقل إليه خلاصة الفلسفة اليونانية دون أن يحدث بينهما تنافر أو تباعد.

وهكذا كان تأثر العرب بالأفلاطونية المحدَثة أمرًا لا بد منه؛ فكتاب الربوبية الذي كان من أهم وسائل هذا التأثر، قد لعب إذن دورًا هامًّا في مستهل عقد الثقافة العربية الفلسفية. ولكن علينا أوَّلًا أن نجيب عن هذا السؤال: ما هو أصل ذلك الكتاب؟ لا شك أن كل إجابة عن هذا السؤال ستكون تقريبية؛ لأن مؤلف الكتاب مجهول. ولقد تفاوتَت الآراء والتخمينات في هذا الموضوع تفاوتًا كبيرًا؛ فمن الباحثين من يرى أن الكتاب إنما هو مجموعة من الدروس الشفهية لأفلوطي، جمَعها تلميذه أميليوس Amelius وأضاف إليها بعض الملاحظات والتعليقات.٢ وغير هؤلاء من الكتاب من لا ينسبه إلى تعاليم أفلوطين مباشرةً، بل إلى فورفوريوس، بوصفه تلميذًا لأفلوطين وشارحًا لأرسطو في نفس الوقت. ومن مُمثِّلي هذه الفئة المستشرق الألماني «ديتريصي» في مقدمة نشرته لكتاب الربوبية، وهي النشرة التي سنَعرِض لها فيما بعد. ويكاد «برييه» يقترب من هذا الرأي؛ فقد لَمَّح إلى التشابه الملحوظ بين أسلوب كتاب الربوبية وبين الكتاب الذي جمع فيه فورفوريوس مقتطفات من التساعيات، مع بعض الإيضاحات في الأسلوب، وأسماه «مدخل إلى المعقولات».٣
وعلى العكس من ذلك نرى بعض الباحثين يؤكدون أن الكتاب بعيد عن أفلوطين، وأنه أقرب إلى تعاليم «برقلس Proclus» — وهو أظهر أقطاب الأفلاطونية المحدثة بعد أفلوطين — بل ويرون على وجه التحديد أن مؤلفه المجهول قد حاول التوفيق بين نظريات برقلس وتعاليم «دنيس الأيروباجي Dénys I’Aéropagite» وميتافيزيقا أرسطو، وإن كانت روح برقلس غالبة عليه. وهذا هو رأي «دوهيم»٤ الذي يتابع فيه «رافيسون». ويقترب من ذلك فاشرو Vacherot الذي يرى أن الكتاب راجع إلى عهد متأخر نسبيًّا من عهود الأفلاطونية المحدثة، تم فيه المزج بين الأفكار المشائية والتعاليم الأفلاطونية.٥

وهكذا تتفرع هذه الآراء المتباينة إلى فرعَين كبيرَين؛ فرع يردُّ الكتاب إلى تعاليم أفلوطين ذاته، ويرى أن محتوياته إمَّا دروس مباشرة ألقاها أفلوطين، وإمَّا مقتطفات من التساعيات أُضيفت إليها بعض التعليقات. والفرع الآخر يقول بابتعاد الكتاب عن تعاليم أفلوطين، وبأنه أقرب إلى العهود المتأخرة من الأفلاطونية المحدثة، وخاصة ذلك العهد الذي ظهر فيه برقلس، أو الذي تم فيه امتزاج التراث المشائي بالتعاليم الأفلاطونية المحدثة.

والرأي الذي نُؤْثره هو الرأي الأول؛ فكتاب الربوبية أو الأثولوجيا — على ما نعتقد — مجموعة من المقتطفات المستمَدَّة من التساعيات، وإن كانت قد أُضيفت إليها بعض التعليقات على يد جامعها، الذي جعل لها ترتيبًا خاصًّا، ربما كان مناظرًا لترتيب الدروس الشفهية التي كان يُلقيها أفلوطين.

ولكي نؤيد هذا الرأي؛ ينبغي علينا أوَّلًا أن نردَّ على الرأي المضاد بفرعيه؛ الفرع الذي ينسبه إلى الأفلاطونية المتأخرة التي تأثرت بالمشائية، والفرع الذي ينسبه إلى برقلس وبعض المذاهب التي ارتبطت به.

أمَّا الذين أرادوا أن ينسبوا الكتاب إلى عصر متأخر من عصور الأفلاطونية المحدثة، على أساس ظهور بعض الأفكار الأرسطية فيه، فيرد عليهم بأنه ليس ثَمَّة ما يدعو إلى أن نرجع إلى عصر متأخر من عصور الأفلاطونية حتى نَهتديَ إلى نزعات مشائية؛ إذ إن عصر أفلوطين ذاته كان يتصف بالتعمق في دراسة أرسطو بجانب أفلاطون، بل إن الأفلاطونية المتوسطة — التي سبقَت الأفلاطونية المحدثة — قد امتزجَت فيها النزعة المشائية مع الأفلاطونية، كما أوضحنا من قبل. ويكفي كلَّ الكفاية لتفسير ظهور هذه اللمحات المشائية أن يكون الكتاب من جمع أحد تلاميذ أفلوطين المباشرين، الذين عُرِفوا باطِّلاعهم على تعاليم أرسطو، مثل فورفوريوس.

أمَّا القول بأن الكتاب لا يمكن أن يرجع إلى أفلوطين، وإنما إلى برقلس أو على الأقل إلى توفيق بينه وبين ميتافيزيقا أرسطو ومذهب دنيس الأيروباجي، وهو الرأي الذي نادى به رافيسون ومن بعده دوهم Duhem، فيحتاج إلى مناقشةٍ أكثرَ تفصيلًا؛ ما دمنا نَرمي إلى أن نُثبِت في النهاية أن ذلك الكتاب قد استُمِد من أفلوطين مباشرة.
أمَّا أوجُه الاختلاف بين آراء كتاب الأثولوجيا، وبين آراء أفلوطين — كما يرى القائلون بأن الكتاب لا يُمكِن أن يُرَد إلى أفلوطين مباشرة — فمن أهمها أن كتاب الأثولوجيا يُجاري برقلس حين يضع بين الواحد والعقل الأول وسطًا هو الوجود الذي تَستمد منه كلُّ الأشياء وجودَها، وإن كان كتاب الأثولوجيا لم يستخدم لفظ «الوجود»، بل تحدث عن الكلمة الإلهية.٦ وعلى أية حال فقد قال مؤلِّف ذلك الكتاب بمبدأ متوسِّط بين الواحد والعقل، بينما رأى أفلوطينُ أن العقل يلي الواحدَ مباشرة، ولم يجعل بينهما وسطًا. كما أن مؤلِّف الأثولوجيا قد أكد الصلة الوثيقة بين الكلمة الإلهية وبين الله، أو الواحد، وكان أن يجعلهما حقيقة واحدة، ومعنى ذلك أن الكلمة الإلهية فوق العقل الأول. ومع ذلك فإن «دوهم» يعترف بأن كاتب الأثولوجيا يورد أحيانًا ترتيب المبادئ على النحو الآتي: الله، ثم الكلمة، ثم العقل، وتليه النفس الكونية والطبيعة. وأحيانًا أخرى يُرتِّبها على النحو التالي: الله، العقل، النفس الكونية، الطبيعة. أي إنه أحيانًا يضع الكلمة الإلهية ضمن المبادئ، وأحيانًا أخرى يُغفِلها. ويستنتج «دوهم» من ذلك أن كاتب الأثولوجيا يجعل الكلمة أحيانًا في هوية مع الله، وأحيانًا يفصلها عنه.

هذا هو ملخص أهم الحجج التي يتذرع بها القائلون بأن كتاب الأثولوجيا لا يمكن أن يكون قد أُلِّف أو جُمِع نقلًا عن أفلوطين، إنما لا بد أن يكون قد ظهر على يد أحد الأفلاطونيِّين المحدثة في عصر متأخر نسبيًّا، يكون قد تأثر بالآراء المسيحية، وخاصة في فكرة الكلمة الإلهية، وخير مَن يصلح لذلك برقلس.

ولكي نَردَّ على هذه الحجة؛ ينبغي علينا أوَّلًا أن نَعرِض للطريقة التي وصلَت بها أفكار ذلك الكتاب إلى الباحثين الغربيين؛ فالنص اليوناني الأصلي لذلك الكتاب مفقود، كما هو معروف، وأقدم نص له هو الترجمة العربية التي قام بها «عبد المسيح بن عبد الله ناعمة الحمصي»، وصحَّحها الكِنْدي، ونشَرها ويتريصي لأول مرة في برلين سنة ١٨٨٢م، كما نُشِر لها في العام التالي ترجمةٌ إلى الألمانية. وقد ظهرَت لهذا الكتاب ترجمة لاتينية في عام ١٥١٩م، عنوانها «أثولوجيا أرسطو أو الفلسفة الصوفية عند المصريين» Aristotalis Stagiritae Theologia sive mystica Philosophia secundum Aegyptios.
وإذا كان أنصار الرأي القائل بأن الكتاب يرجع إلى عهد متأخر عن أفلوطين يعتمدون على ظهور فكرة الكلمة في هذا الكتاب، وفي ترجمته اللاتينية التي رجع إليها وحدها معظمُ الباحثين الغربيين فيما عدا المستشرقين منهم؛ ففي وُسعِنا أن نرد على هذا الرأي بقولنا إن وجود هذا المصطلح، أي «الكلمة Verbum»، ليس إلا ترجمةً للَّفظ اليوناني logos، الذي يعني العقلَ والكلمة معًا، والذي كان يستخدمه أفلوطينُ كثيرًا، ولم يكن عند أفلوطين راجعًا إلى تأثره بتعاليمَ مسيحية على الإطلاق. ولدينا على ذلك دليلٌ واضح فيما حدث في الترجمة العربية لهذا المصطلح؛ ففي كتاب الأثولوجيا ذاتِه رأَينا مصطلحًا مثل «المبادئ البذرية logoi spermatichoi» يُترجَم بالكلمات الفواعل، أي إن لفظ «الكلمات» يُناظِر لفظ logoi في اليونانية. ومن المعروف أن هذا المصطلح رواقي بحت، لا صلة له بالمبادئ المسيحية أو بآراء برقلس في الأصل. ولو وجدنا في العربية مصطلحًا مثل «الكلمة»، كما في هذه الحالة، فلن يكون هذا مبررًا للقول بضرورة تأثر النص الذي ورَد فيه بأفكار مسيحية أو أفلاطونية متأخرة؛ لمجرد ارتباط لفظ «الكلمة» بأفكار مسيحية فيما بعد. فليس اللفظ هنا سوى ترجمةٍ لمصطلح يوناني معروف.
وإلى هذا الحد يُمكنَّا تعليل لفظ «الكلمة» وظهوره في هذا الكتاب. ولكن كيف نُعلِّل جعلها مبدأً مستقلًّا بجانب العقل؟ الواقع أن من أهم الصفات التي يتميز بها تفكير أفلوطين؛ ميلَه إلى أن يُقسِّم كل مبدأٍ تقسيمًا ثنائيًّا، فيجعل له وجهًا أعلى ووجهًا أدنى؛ فالنفس الكلية يقسمها إلى وجهَين؛ الأعلى هو النفس الكلية الفعالة، والأدنى هو الطبيعة. بل إنه يُقسِّم النفس الفردية ذاتها إلى هذَين الوجهَين في بعض الأحيان.٧ والمبادئ البذرية تنقسم بدورها، تبعًا لازدواج النفس، إلى مبادئَ أولى، ومبادئ مستمَدة منها.٨ فليس من المستغرَب أن يكون أفلوطين في دروسه الشفهية مثلًا قد جعل للعقل، وهو المبدأ الذي يلي الواحدَ مباشرة، وجهَين؛ أحدهما أقربُ إلى الواحد الأول، وهو الذي تُرجِم في اللاتينية بلفظ «الكلمة»، والآخر هو العقل الذي تنشأ عنه بقية المراتب في سلسلة الوجود، أي إن أفلوطين كان في تلك الدروس الشفهية يتحدث أحيانًا عن العقل باعتبار أن له وجهَين، وأحيانًا يتحدث عن العقل بوجه عام، تمامًا كما كان يفعل بالنسبة إلى النفس الكلية. وعلى هذا الإحساس وحده نستطيع أن نَهتديَ إلى تفسير مقنِع لتلك الظاهرة التي أوردها القائلون بالرأي المضاد لرأينا، ولم يستطيعوا أن يأتوا بتعليل لها، وهي ظاهرة ورود لفظ «الكلمة» في كتاب الأثولوجيا بوصفه واحدًا من المبادئ حينًا، وإغفال الكتاب له حينًا آخر، مكتفيًا بذِكر العقل وحده، ثم النفس الكونية الطبيعية.

والنتيجة التي ننتهي إليها من كل ذلك هي أنه ليس ثَمَّة ما يدعو إلى الاعتقاد بوجود آراء في كتاب الأثولوجيا تختلف اختلافًا أساسيًّا عن آراء أفلوطين. وليس معنى هذا أن الكتاب لم يتضمَّن إلا آراء أفلوطين وحدها؛ فالواقع أن تعاليم أرسطو كانت شائعة — كما قلنا — بين تلاميذ أفلوطين، ولكن الكتاب في مجموعه مأخوذٌ عن أفلوطين، مع بعض الشروح والتعليقات التي أضافها تلاميذه.

ويكفينا لتدعيم هذا الرأي أن نأتيَ بالتدليل الإيجابي على صحته، فنقارن بين محتويات الأثولوجيا وتساعيات أفلوطين. ولما كنا هنا بصدد تقديم التساعية الرابعة، فسنكتفي بذكر المواضع المشتركة بين ذلك الكتاب وبينها؛ لأن هذه التساعية — مع السادسة — هي التي استمدَّت منها أجزاء كثيرة في الكتاب. وسيتضح لنا بعد المقارنة أنه ليس من الدقة العلمية في شيء أن يُنسَب كتاب اقتُبِسَت فيه كل هذه الأجزاء من أفلوطين إلى مؤلف مستقل مثل برقلس.

وستكون إشارتنا أوَّلًا إلى كتاب الربوبية تبعًا للتبويب الوارد في طبعة «ديتريصي» السالفة الذكر، ولأرقام الصفحات في هذه الطبعة أيضًا، ثم نطابق بين هذه وبين المقالات والفصول المتفرِّعة منها في تساعية أفلوطين:

الميمر الأول

  • (١)

    الموضوع الأول الذي يبحثه كتاب الأثولوجيا، بعنوان «في النفس» يطابق الفصول ١٣ و١٤ و١٥ من المقال السابع في هذه التساعية، وعنوان المقال الذي تنتمي إليه هذه الفصول عند أفلوطين هو «في خلود النفس».

  • (٢)

    والموضوع الثاني في الأثولوجيا، بعنوان «كلام له يشبه رمزًا في النفس الكلية» (ص٨ و٩ و١٠ و١١ من النص العربي) يطابق الفصل الأول وبداية الفصل الثاني من المقال الثامن من هذه التساعية، وعنوانه «في هبوط النفس إلى الجسم».

الميمر الثاني

  • (٣)

    بداية الميمر الثاني (ص١٤) مطابقة لبداية المقال الرابع من هذه التساعية، وعنوانه «الإشكالات المتعلقة بالنفس، ب»، فيما عدا الكلمات الثلاثة الأولى من هذا المقال، التي هي تكملةٌ لسؤال لم يتمَّ في نهاية المقال الثالث. ويستمر هذا التطابقِ عشرُ صفحات كاملة من النص العربي، حتى نهاية الفقرة الأولى من ص٢٤، وهي تُقابِل الفقرةَ الأولى من الفصل الرابع من المقال الرابع في النص اليوناني.

  • (٤)

    ابتداءً من الفقرة الثانية في ص٢٦ من النص العربي، نَجد ما يُطابق النصف الثانيَ من الفصل ١٩ من المقال الثالث في النص اليوناني. وتستمرُّ المطابَقة حتى نهاية الميمر الثاني ص٣٢، وهي تطابق الفقرة قبل الأخيرة من الفصل ٢٠ من المقال الثالث من التساعية.

الميمر الثالث

  • (٥)

    أول الميمر الثالث ص٣٣ من النص العربي يُطابِق الفقرة الثانية من الفصل ٨ من المقال الثامن في النص اليوناني. وتستمر المطابقة حتى ص٣٥ من النص العربي، وتقابل نهاية هذا الفصل.

  • (٦)

    ص٣٦ من النص العربي تطابق الفقرة الأخيرة من الفصل ٨ من المقال الثامن في النص اليوناني. ويستمر التطابق حتى الفقرة الأولى من فصل (٨-١)، ثم تقابل بقية الصفحة في النص العربي الفصل (٨-٢) من نفس المقال في النص اليوناني.

  • (٧)

    ابتداءً من ص٣٧ يطابق النص العربي الفصل (٨-٣) من المقال الثامن في النص اليوناني، ويَستمر التطابق حتى نهاية الميمر الثالث، ص٤٣، وهي تقابل الثلث الأول من الفصل (٨-٥) من المقال الثامن في النص اليوناني.

الميمر السادس

  • (٨)

    أول الميمر السادس، ص٦٠ في النص العربي، يطابق أول الفصل ٣٩ من المقال الرابع في النص اليوناني. ويستمر التطابق ١٥ صفحة كاملة من النص العربي، حتى نهاية الميمر السادس ص٢٧٥، وهي تقابل نهاية الفقرة الأولى من الفصل ٤٥ من المقال الرابع. والمطابقة هنا تامة، فيما عدا الجزء الثاني من الفصل ٤٣ من النص اليوناني، الذي لم يرِد ما يطابقه في النص العربي.

الميمر الثامن

  • (٩)

    ابتداءً من منتصف ص٩٦، حتى الفقرة الثانية من ص١٠٠، يطابق النصُّ العربي الجزء الذي يبدأ عند الفقرة الأخيرة من الفصل ٤ من المقال الرابع، حتى أواسط الفصل الثامن من نفس المقال في النص اليوناني.

الميمر التاسع

  • (١٠)

    بداية هذا الميمر ص١٢٥ من النص العربي، تطابق أول المقال السابع من النص اليوناني، وتستمر المطابقة عشر صفحات حتى ص١٣٠ من النص العربي، وهي تُناظر نهاية الفصل الرابع من المقال السابع في النص اليوناني.

هذه هي المواضع التي تَبيَّن لنا وجود تطابق فيها بين نص كتاب الأثولوجيا وبين التساعية الرابعة. وينبغي أن يُلاحَظ أن هذا التطابق لا يعني أن النص العربي ترجمة دقيقة للأصل اليوناني، بل كانت الجمل العربية بطبيعتها أكثر إسهابًا وأميل إلى الشرح والإطناب، فلا يمكن أن يُعتمَد عليها بوصفها ترجمة علمية دقيقة. غير أن المطابقة في الأجزاء التي بيَّنَّاها تامة، وإن لم تكن حرفية؛ نظرًا لطبيعة الأسلوب العربي والترجمة في ذلك الحين.

ولا شك أن في وجود تطابق في مثل هذه المواضع العديدة بين كتاب الأثولوجيا وبين التساعية الرابعة — هذا فضلًا عن التساعية السادسة التي استمد الكتاب منها مقتطفاتٍ أخرى عديدة — في هذا الدليل المادي الملموس، على أن الكتاب لا يمكن أن يكون بعيدًا عن روح أفلوطين، وأن قصارى ما يمكننا قوله في هذا المجال هو أن الكتاب مقتطفات؛ إمَّا من التساعيات مباشرة، أو من الدروس الشفهية لأفلوطين، وهي بدورها مطابقة للتساعيات في معظم أجزائها، وإن كانت مرتَّبة على نحو آخر، فضلًا عما أضافه تلاميذ أفلوطين على هذه المقتطفات من شروح وتعليقات — وهذا هو الرأي الذي ننتهي إليه بعد هذا البحث المفصل لكتاب الأثولوجيا، وعلاقته بتساعية أفلوطين الرابعة. فكتاب الأثولوجيا يجب أن يرد في نهاية الأمر إلى أفلوطين. فإذا لاحظنا أن الثلث الأول من هذا الكتاب يكاد يكون كله مستمدًّا من التساعية الرابعة، وأن أجزاء أخرى هامة في الجزء الباقي من الكتاب قد استُمِدَّت بدورها من هذه التساعية، وإذا لاحظنا من جهة أخرى ذلك الدور الهام الذي لعبه كتاب الأثولوجيا في الفكر العربي، أمكننا أن نقول إن تعاليم التساعية الرابعة ساهمت بقسط غير قليل في تكوين العقلية العربية الفلسفية في نشأتها الأولى، وأنها ساهمت مساهمة فعالة في نشر مذهب الأفلاطونية المحدَثة بين العرب، وهو المذهب الذي كان له أكبرُ التأثير على الفلاسفة المسلمين الأوائل. وظل تأثير الأفلاطونية المحدثة مسيطرًا على التفكير الفلسفي الإسلامي — وإن كان قد نُسِب خطأً إلى أرسطو — حتى جاء الوقت الذي نُقِلت فيه فلسفة أرسطو الأصلية دقيقة خالية من الشوائب على يد ابن رشد.

١  Ravaisson: Essai …, tome II, p. 368.
٢  P. Henry: Les états du texte de Plotin, Paris, 1938, p. XIV.
٣  Bréhier: Ière Ennéade, Introduction, p. XXII.
٤  Duhem: Système du monde …, Ier vol., p. 365.
٥  Vacherot: Hist. crit …, tome. III, p. 87.
٦  Duhem: Ibid., p. 367.
٧  IV, 3, 10.
٨  IV, 4, 7.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤