المقال الأول: في ماهية النفس (أ)
الوجود الحقيقي إنما هو وجود العالم المعقول، وأكمل ما في ذلك العالم هو العقل، غير أنه يشتمل أيضًا على النفوس؛ إذ إن كل النفوس في عالمنا هذا إنما ترد منه. والنفوس تُوجَد في ذلك العالم بلا أبدان، أمَّا في عالمنا هذا فهي تَحُل في أبدان وتنتشر فيها. وفي ذلك العالم يوجد العقل كله دفعة واحدة، فلا تقسيم فيه ولا تجزيء، كما تجتمع كل النفوس في عالم واحد، دون أن تفصل بينها أية مسافة مكانية. وكما يظل العقل أبدًا غيرَ منقسم ولا متجزِّئ، كذلك تظل النفس في ذلك العالم غير منقسمة ولا متجزئة. غير أن من طبيعة النفوس أن تَغدوَ منقسِمة، وانقسامها إلى أجزاء إنما يكون في ابتعادها عن العالم المعقول وورودها إلى البدن. ومن هنا قيل بحق إنها «تقبل الانقسام في الأبدان»؛ لأنها تتوزع وتتجزأ حين ترد إليها. فكيف إذن تظل النفس في الوقت ذاته غيرَ منقسمة؟ ذلك لأنها لا تغادر «العالم المعقول» بكليتها، بل فيها جزء لم يرد «إلى عالمنا هذا»، وليس من طبيعته أن يتجزأ. فعبارة «أفلاطون» «أن للنفس ماهيةً لا تتجزأ، وماهية يطرأ عليها الانقسام في الأبدان»، إنما تعني أن النفس مركَّبة من ماهية لا تُفارِق العالم الأعلى، ومن ماهية تَصدر عن ذلك العالم لتصل إلى عالمنا هذا، ولكنها تظل مع ذلك مُعتمِدة على العالم الأعلى، وكأنها شعاع صادر من مركزه. فإذا ما بلَغَت النفس عالمنا، فإنها تظل تمتلك تلك البصيرة الكامنة في ذلك الجزء ذاته الذي يحفظ لها طبيعتها الكلية. فحتى في عالمنا هذا لا تكون النفسُ منقسمةً تمامًا، بل تَظل أيضًا غيرَ منقسمة، فهي تتوزع دون أن تتجزأ إلى أجزاء منفصلة، أي إنها غيرُ منقسمة من حيث إنها حاضرة في مجموع البدن، ومن حيث إنها كلٌّ حالٌّ في البدن كله، غير أنها مقسمة من حيث هي حالَّة في كل جزء من أجزائه.