المقال الثاني: في ماهية النفس (ب)
-
(١)
بَيَّنَّا في أبحاثنا عن ماهية النفس أنها ليست جسمًا، وأنها ليست بين الموجودات اللاجسمية،١ بمثابة الانسجام، وأنها ليست كمالًا للبدن؛ فذلك الرأي الأخير كما يُعرَض باطل، وهو لا يكشف من ماهية النفس شيئًا؛ ولذا تركناه جانبًا. أمَّا القول بأن للنفس طبيعةً معقولة، وبأنها في مرتبة إلهية، فيُلقي ولا شك بعضَ الضوء على ماهيتها، ومع ذلك فعلينا أن نواصل البحث في هذا الموضوع.٢
لقد ذكرنا من قبل أن الأشياء تنقسم إلى محسوسة ومعقولة، وجعلنا النفس ضمن المعقولات، فلنُسلِّم الآن بأن موضعها بينها، ولنواصل البحث — بطريق آخر — في الأمور التي تتصل بطبيعتها.
فلنقل إذن: إن ثمة أشياءَ من طبيعتها الأصلية أن تكون منقسمة موزَّعة، وهي تلك التي لا تقوم فيها هوية بين أي جزء منها وأي جزء آخر، أو بين أي جزء ومجموع الأجزاء، ويكون كل جزء فيها أقلَّ من كل، والمجموع٣ بالضرورة. ومن قبيل ذلك الحجوم المحسوسة والكتل المادية، التي يشغل كلٌّ منها محلًّا خاصًّا، والتي من شأنها ألا يُوجَد شيء واحد منها في مواضعَ عديدة في نفس الآن. وفي مقابل ذلك هناك ماهية أخرى لا تقبل أية قسمة؛ فهي لا تَنقسم ولا تقبل انقسامًا، وليست لها أبعاد، حتى في نظر الفكر ذاته؛ ولذا لم تكن في حاجة إلى محل، ولم تكن متحققة جزئيًّا ولا كليًّا في أيِّ موجود بعينه. وهي تتخذ من كل الموجودات الأخرى مطية، لا لأنها في حاجة إلى الارتكان عليها، بل لأن الموجودات الأخرى لا تستطيع أن تظل بدونها ولا تريد ذلك. ولما كانت في هوية دائمة مع ذاتها، فإنها أشبهُ بنقطة تشترك فيها كلُّ الأشياء التي تأتي من بعدها. هي كالمركز في الدائرة؛ فبرغم أن كل أنصاف الأقطار التي تمد من المراكز إلى المحيط تنشأ عن المركز وتستمد منه وجودها، فإن المركز ذاته يظل ثابتًا، أي إن أكل أنصاف الأقطار تشارك في المركز، وهذه النقطة التي لا تنقسم هي مبدؤها، ولكن هذه الخطوط، مع ارتباطها بالمركز، تمتد خارجه.فهناك إذن لامنقسم أول بين المعقولات، يتحكم في كل الأشياء الحقيقة، وهناك ماهية أخرى في المحسوسات، منقسمة كل الانقسام. وهناك، غير هذه وتلك، طبيعةٌ أخرى سابقة على المحسوس، وإن كانت تقترب منه كل القرب، بل قد توجد فيه بالفعل؛ هذه الطبيعة ليست في الأصل متجزئة كالأجسام، ولكنها تتجزأ إذا ما وردَت إلى الأجسام؛ فما دامت الأجسام منقسمة، فإن هذه الصورة الكامنة فيها تنقسم بدورها. ومع ذلك، فهذه الصورة تُوجَد كلها في كل جزء من الأجزاء، بحيث إنها هي ذاتها تتكثَّر، وينفصل كلُّ جزء منها عن بقية الأجزاء؛ لأنه قد انقسم كلية بورودها إلى الأجسام. ومن قبيل هذه الطبيعة الألوان، والكيفيات، وكل صورة٤ يمكن أن تُوجَد كاملة، وفي آنٍ واحد، في عدة أجسام منفصلة، دون أن يكون تأثرنا بأي جزء من الأجسام التي تَشغلها مماثلًا لتأثرنا بأي جزء آخرَ منها؛٥ فعلينا إذن أن نُسلِّم بأن تلك الماهية بدورها قابلة للانقسام على وجهٍ مطلَق. ولكن هناك ماهية أخرى تأتي من بعد الماهية اللامنقسمة تمامًا، وتنشأ عنها. تلك الماهية الأخيرة تَستمد من الماهية اللامنقسمة عدمَ انقسامها، ولكنها لما كانت في سَيرها تتجه نحو الماهية القابلة للانقسام، كانت وسطًا بين الماهية اللامنقسمة الأولى، والماهية التي تنقسم في الأجسام وتَكمُن فيها. ولكنها تختلف يقينًا عن اللون أو الكيفية؛ فهذه حقًّا توجد كما هي في عدة كتل جسمية، غير أن كل جزء منها يبعد عن بقية أجزائها بمثل ما تبعد الكتلة التي تشتمل عليها عن الكتل التي تشتمل على بقية الأجزاء. فصفة الامتداد مثلًا صفة (أو كيفية) واحدة، ومع ذلك فتلك الكيفية التي تكون هي هي في كل جزء ممتد، لا تُضفي على هذه الأجزاء أية رابطة مشتركة من التعاطف؛٦ إذ إن الامتداد رغم هويته يختلف في كل جزء (عنه في الآخر). فتلك الكيفية وإن كانت في هُوية مع ذاتها إلا أنها صفةٌ للأشياء وليست ماهية.ومن جهة أخرى، يتبيَّن لنا أن تلك الطبيعة التي قلنا عنها إنها تأتي من بعد الماهية اللامنقسمة وترتبط بها، هي في ذاتها ماهية ترد إلى الأجسام، ويَطرأ عليها الانقسام عرَضًا في الأجسام، وإن لم يكن الانقسام صفةً كانت كلها قبل أن ترد إليها. ومن هنا، فمهما كان كِبَر حجم الجسم الذي ترد إليه، وعظم امتداده، فإنها تتخلله بأكمله، وتظل على وحدتها. وهي لا تظل بالطبع واحدة بالمعنى الذي يكون فيه الجسم واحدًا؛ إذ إن وحدة الجسم تأتي من اتصال أجزائه، وإن يكن كلُّ جزء مختلفًا وفي موضع مختلف. أمَّا الطبيعة اللامنقسمة والمنقسمة معًا، التي نطلق عليها اسم النفس، فليست وحدتها كوحدة شيء متصل، وإلا اختلفت أجزاؤها، بل هي منقسمة لأنها في كل جزء من الجسم الذي تحل فيه، وهي من جهة أخرى لامنقسمة؛ لأنها توجد بأكملها في مجموع الأجزاء، وتوجد بأكملها في كل جزء معين من ذلك الجسم.
فمَن أدرك هذا تبين له عِظَم النفس وقدرتها، وعلم أنها حقًّا من الأمور الإلهية العجيبة، وأيقن أنها من الطبائع التي تعلو على الأشياء. فهي وإن تكن في ذاتها بلا حجم، فإنها ترتبط بكل حجم. هي هنا، ولكنها أيضًا هناك، لا على نحو مختلف، بل في هوية دائمة. وهكذا تكون منقسمة، وتظل مع ذلك غير منقسمة، أو بالأحرى هي في ذاتها، ولكنها تنقسم في الأبدان لأن الأبدان لا تستطيع، بما فُطِرَت عليه من انقسام، أن تقبلها غير منقسمة، فانقسامها إذن صفةٌ تأتي من الجسم، لا من النفس ذاتها.
-
(٢)
سنرى مما سنقوله الآن أن طبيعة النفس تَقتضي ألا تُوجَد نفس تامةُ الانقسام، أو نفسٌ تامة الوحدة، بل ينبغي على النفس أن تجمع بين هاتَين الصفتَين.
فلو كان للنفس، كالأبدان، أجزاءٌ متميزة في مواضع مختلفة، لما تأثر جزء واحد من النفس، هو ذلك الذي يوجد في الإصبع مثلًا، والذي يوجد في ذاته ويختلف عن بقية الأجزاء. ولو صح ذلك لكانت هناك نفوس عديدة تتحكم في كل جزء مِنَّا، ولَمَا كانت للعالم بالأحرى نفس واحدة، وإنما عدد لا متناهٍ من النفوس، تنفصل كل منها عن الأخرى. ولا يُجدي في هذا الصدد القولُ إن هذه الأجزاء المتميزة تتصل فيما بينها؛ فإن ذلك الاتصال إن لم يبلغ حدَّ الوحدة الكاملة، لكان عقيمًا تمامًا. وليس لنا أن نُسلِّم بالرأي الباطل الذي يقوله «الرواقيون» من أن الإحساسات تصل إلى الجزء المدبِّر للنفس عن طريق انتقالٍ تدريجي؛ فأول ما نلاحظه على هذا الرأي أن أصحابه يتكلمون، دون تمحيص دقيق عن جزء مدبر للنفس. فكيف يتسنَّى لها تقسيم النفس؟ وكيف يستطيعون أن يُحددوا الموضع الذي يبدأ فيه أحد أجزائها ويَنتهي فيه الآخر؟ وأي امتداد يعزونه إلى كل جزء منها؟ وما الفارق بين هذه الأجزاء التي يقولون عنها إنها لا تكون إلا كتلة متصلة؟ وفضلًا عن ذلك، فهل الجزء المدبر هو وحده الذي يُحس، أم أن بقية الأجزاء بدورها تُحس؟ ولو كان الإحساس يتم في الجزء المدبر وحده، ففي أي موضع من الكائن يُحدَّد ذلك الجزء المدبر مكان الإحساس؟ أمَّا لو كان يتم في جزء آخر من النفس ليس من شأنه أن يُحِس، فإن هذا الجزء لن يُنقَل تأثره إلى الجزء المدبر، وبهذا لا يكون ثَمَّة إحساس على الإطلاق. أمَّا عن الجزء المدبر، فلو كان الإحساس يتم فيه، فإنه إمَّا أن يحدث في جزء منه فحسب، بحيث يُدرِك هذا الجزءُ الإحساس، ولا تدركه بقية الأجزاء؛ لأنه لا جدوى من ذلك، أو أن تَحدث كثرةٌ من الإحساسات، بل عدد لا متناهٍ منها، يختلف كلٌّ منها عن الآخر؛ فيقول جزء: لقد كنتُ أولَ من أحس، ويقول آخر: لقد أحسست بالإحساس الذي تلقاه غيري. وبهذا، فإما أن تجهل كل الجزاء مصدر التأثر ما خلا الأول، أو يخطئ كل جزء ظانًّا أن التأثر قد نشأ في مجاله الخاص. ومن جهة أخرى، فإن لم يكن الجزء المدبر هو وحده الذي يحس، بل يستطيع أي جزء آخر من النفس أن يُحِس، فلم تخصص الأول دون الباقين بأنه الجزء المدبر؟ ولِمَ كان على الإحساس أن يرقى حتى يصل إليه هو؟ وكيف يتسنى له أن يستخلص من الإحساسات الكثيرة، كإحساسات العينَين والأذنَين مثلًا، معرفة بشيء واحد؟٧أمَّا لو كانت النفس تامةَ الوحدة، وكانت غيرَ منقسمة على الإطلاق، وواحدةً في ذاتها، ولو كانت بريئة تمامًا من كل كثرة وانقسام، لما أمكَنها أن تبعث الحياة في كل البدن الذي تَحُل فيه، بل لشغَلَت من البدن مركزه، ولتركت بقية بدن الكائن الحي بلا نفس.
فلا بد إذن أن تكون النفس واحدة وكثيرة، منقسِمة ولا منقسمة. وليس وجود الشيء الواحد في مواضع عدة بالأمر الممتنع؛ فنحن إن لم نُسلِّم بذلك لكُنا ننكر وجود مبدأ يحفظ كل الأشياء ويدبرها؛ يحفظها بأن يجمعها كلها، ويدبرها بحكمته، أعني موجودًا يتصف بالكثرة؛ لأن الأشياء كثيرة، ولكنه واحد؛ لأن الموجود الذي يحتوي كل شيء لا بد أن يكون واحدًا. وهو بوحدته المتكثِّرة يبعث الحياة في كل الأجزاء، وبوحدته اللامنقسمة يدبرها بحكمته. فللأشياء التي تفتقر إلى العقل مبدأٌ مدبر؛ هو ترديد وتقليد لوحدة النفس العاقلة هذه. وذلك ما عبر عنه أفلاطون تعبيرًا عميقًا حين قال بصورة مبهمة: «لقد مزَج الصانعُ الماهيَّةَ اللامنقسمة التي تظل في هوية دائمة مع ذاتها، والماهية التي غدَت منقسمة في الأجزاء، فصنع منهما نوعًا ثالثًا من الماهية.»٨ وعلى ذلك فالنفس واحدة وكثيرة، أمَّا الصور التي في الأجسام فهي كثيرة وواحدة، والأجسام لا تعرف إلا الكثرة، أمَّا المبدأ الأعلى فلا يعرف إلا الوحدة.